الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

تجربة أبي حامد الغزالي الصوفية من خلال كتابه المنقذ من الضلال

تجربة أبي حامد الغزالي الصوفية من خلال كتابه المنقذ من الضلال


اسم الكتاب: تجربة أبي حامد الغزالي الصوفية من خلال كتابه المنقذ من الضلال
المؤلف: -
الموضوع: التصوف وحياة الغزالي

محتويات

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم
و الصلاة و السلام على أشرف المخلوقين سيدنا
محمد صلوات الله وسلامه عليه و على آله وصحبه و من تبعهم
بإحسان إلى يوم الدين

وبعد: ... يعتبر التصوف بمثابة التجربة التـــي توقف المؤمن على حقيقة ما يؤمـــن به و الإحساس به، فهي رتبة من رتب اليقين، أو سلم لمن أراد أن يرقى بإيمانه إلى مقام الشهود، وهو ماعناه الشارع بمقام الإحسان، وهو مقام"أن تعبد الله كأنك تراه". فاختياري لهذا الموضوع -تجربة أبي حامد الغزالي الصوفية من خلال كتابه المنقذ من الضلال- راجع لأهميته التي تتجلى في كشفه عن حقيقة التصوف أنذاك و الذي عرف انحرافات و ضلالات ما أنزل الله بها من سلطان.
وكان من الأسباب التي دفعتني لإختيار هذا الموضوع أن الغزالي انتدب نفسه للدفاع عن أهل السنة في عصر اشتد فيه الصراع بين المذاهب الأصولية.

وحيث أن "الصوفية" صفوة مختارة، تقدم بسلوكها نمـــاذج عليـــــا للسلوك، مثلا لإستلهــام و التأسي قدر الطاقة. وليس المطلوب أن يكون عامة الناس صوفيين، و إلا اختل نظام الحياة الإنسانية، كما أنه ليس من المطلوب أن يكون عامة الناس علماء مبتكرين عاكفين على البحث العلمي الخالص.
و لما كان للتصوف مكان ملحوظ في تاريخ الإسلام، وكان التصوف هو الهدف البارز لبحوث الغزالي، وكانت شهرة هذا الأخير بالتصوف أكثر من شهرته بغيره، حسن أن يكون للتصوف نصيب ملحوظ من الرعاية و العناية في هذا البحث.

إن تاريخ حياة الغزالي و شخصيته و سيرته الذاتية و العلمية مازال لغزا غامضا عند المؤرخين و الباحثين. وذلك ليس بسبب عدم المصادر أو المراجع التاريخية، بل لقصور بعض المؤرخين المعاصرين سواء كانوا من الإسلاميين أو المستشرقين، حيث أنهم أعطوا صورة مغلوطة عن الغزالي وما يحمله من أفكار، مما أدى إلى تضييق الخناق عليه ومحاصرة مؤلفاته، وعدم إطلاعهم على المصادر الأساسية التي كتبها القدماء عنه، وهذا كله من أسباب فشلهم في إعطاء دراسة ميدانية عن الغزالي و مؤلفاته.
و إن الباحثين المحدثين سواء كانوا من الإسلاميين أو المستشرقين الذين شاركوا في الدراسة و البحث عن الغزالي كثيرون، ومن المستشرقين الذين كتبوا عن حياة الغزالي أمثال: " كرادي فو، وبروكلمن، وبول كراوس، وهمري كروبان، وغيرهم1 .."

و لكن بحوث هؤلاء و أولئك لم تستطع أن تكشف عن غموض تاريخ شخصية و سيرة الغزالي الزمنية و الفكرية و العلمية، خصوصا الإجتماعية و السياسية و الإقتصادية-على سبيل المثال- لم نجد من المؤرخين من يكشف عن هوية وشخصية الشيخ الذي ربى الغزالي بعد وفاة أبيه، وإسمه ونسبه، مع أن هذا الشخص –على ما نرى- هو أول من أثر في شخصية الغزالي، ثم ما نعرفه لا يزيد عن قولهم: إنه رجل صالح ومن كبار الصوفية، وهكذا عن نسب أبويه، و أخواته، وزوجته، و أبنائه، و أصول نسبه عربية أم فارسية وما إلى ذلك.

و في الحقيقة إن تاريخ الغزالي في كل لحظة من لحظات حياته، و في كل محطة من محطاته العلمية منذ نيسا بور إلى بغداد ثم إلى طوس مرة ثانية لا يخلو عن حركته ونضاله في إصلاح وتكوين قضايا عصره.
ومن هنا نقصد بهذا البحث الكشف وتحقيق أفكاره ومواقفه ونضاله، من خلال تجربته الصوفية التي يجهلها بعض الباحثين و القراء.

وحتى يكون هذا البحث أكثر دقة وموضوعية وتفصيلا، ومحيطا بكل الجوانب، سلكت في منهج كتابته هذا التقسيم التالي:

وهكذا قسمت بحثي إلى ثلاثة مباحث، وكل مبحث يضم أربع مطالب، خصصت المبحث الاول: لترجمة الغزالي، و التي تم من خلالها تنــــــاول جوانــب من حيـاة الغزالي وصفـــاته و أخلاقه ورحلته العلمية وتأثره بعصره، و المبحث الثاني: خصصته للتصوف الإسلامي، وضرورة معرفة معنى الصوفية و التصوف، ونشأته، وحقيقته، و النظريات التي قيلت في أصله.

أما المبحث الثالث والأخير- وهو بيت القصيد- و الذي عنونته بـ"تجربة الغزالي الصوفية"، وهو يمثل البحث الذي نحن بصدده، ويحدد لنا تجربة الغزالي الصوفية من خلال المراحل التي مر بها في حياته، و التي تحدث عنها في كتابه"المنقذ من الضلال".

المبحث الأول: ترجـمة الغزالي

جمع الإمام الغزالي بين الريادة الفلسفية و الموسوعية الفقهية و النزعة الصوفية الروحية، واتسم بالذكاء وسعة الأفق وقوة الحجة و إعمال العقل وشدة التبصر مع شجاعة الرأي وحضور الذهن، كل ذلك أهله ليكون رائدا في تلك العلوم المختلفة و الفنون المتباينة، فكان الغزالي فيلسوفا وفقيها وصوفيـــــــا و أصوليــــا، يحكمه العلم الوافر و العقل النـــاضج و البصيرة الواعية و الفكر الراشد.

المطلب الأول: نسب و ميلاد الغزالي

هو أبو حامد زين العابدين محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي المشهور بالغزالي، ولم نجد من ذكر له أكثر من ثلاثة آباء و أسماؤهم عربية، وقد ثار خلاف حول أصل الرجل: أهو عربي أم فارسي، ولم ينته هذا الخلاف إلى تحقيق أو يقين، فقد كان الغزالي من سلالة العرب الذين تغلغلوا في بلاد فارس منذ بداية الفتح الإسلامي، وقد يكون من الفرس الذين غلبت عليهم الأسماء العربية. لعراقتهم في الإسلام2.

وقد ولد الغزالي بمدينة طوس، وقيل في قرية غزالة، التابعة لطوس، وقيل في الطبران وهو حي من أحياء مدينة طوس في منتصف القرن الخامس الهجري أعني سنة خمسين و أربعمائة هجرية3 وقيل سنة واحد وخمسين و أربعمائة، من أسرة فارسية لم تحظ باهتمام التاريخ.

أما والده فقد كان فقيرا صالحا لا يأكل إلا من كسب يده في عمل غزل الصوف وبيعه في دكانه بطوس. ويجالس العلماء وقت فراغه، ويطوف عليهم ويسعى لخدمتهم ويجد في الإحسان إليهم و النفقة بما يمكنه عليهم، و أنه كان إذا سمع كلامهم بكى و تضرع، يسأل الله تعالى أن يرزقه إبنا يجعله فقيها وواعظا فاستجاب الله لدعوته4 فـــرزقه الله بولديـــن همـــــا
أبو حامد و أخوه احمد5.

توفي أبوه ولم ير رجاءه قد تحقق ودعوته قد استجيبت لأن أبا حامد و أخاه لم يبلغا سن الرشد. أما أمه فلم يذكر التاريخ شيئا عنها و لكنها شهدت بزوغ شمس ابنيها وسماء المجد حيث صار أبو حامد أفقه أقرانه، و إمام أهل زمانه وفارس ميدانه. و أما أحمد فكان واعظا تلين الصخور الصم عند سماع قوله، وترعد فرائص الحاضرين في مجالس تذكيره.

توفي رحمه الله يوم الإثنين الرابع عشر من جمادى الأخيرة عام 505 هـ/ الموافق الثامن عشر من ديسمبر سنة 1111 م، ودفن بظاهر الطابران وهي قصبة طوس. وقال آخوه أحمد: " لما كان يوم الإثنين وقت الصبح توضأ أخوه وصلى و قال: علي بالكفن. فأخذه وقبله ووضعه بين عينيه وقال: سمعا وطاعة للدخول على الملك، ثم مد رجليه واستقبل، فانتقل إلى رضوان الله تعالى قبل الأسفار".
ولقد رثاه الأديب أبو المظفر محمد الأبيوري الشاعر المشهور بقوله:

6 مضـى، و أعـظـم مفقـود فجعـت بـه *** مـن لا نظيـر لـه في النــاس يخلفـــه.

وهكذا أمضى الغزالي حياته كلها حتى مماته، كما قال السبكي: : طيب الثناء، أعلى منزلة من نجم السماء، لا يكرهه إلا حاسد أو زنديق، و لا يسومه بسوء إلا جائر عن سوء الطريق7".

المطلب الثاني: صفات الغزالي و أخلاقه

عندما نتحدث عن حياة الغزالي و أسرته، ورحلته العلمية، نجد انه قد رزق الذكـــاء، و الجهد و المجاهدة، و القناعة بالقليل، و حسن الخلق، وشدة العطش للعلم و المعرفة، وكان زاهدا، وموحدا، مخلصا لله تعالى في كل عمل يعمله.

وقال أبو إبراهيم الفتح بن علي البغدادي: " هو من لم تر العيون مثله لسانا، ونطقا، وبيانا، وخاطرا،و ذكاء، وطبعا8".

فالتاريخ يحدثنا بأن العيون في عصره لم تر مثله..،كما يقول إبن كثير:"كان من أذكياء العالم في كل ما يتكلم به". وكان صاحب ذهن متوقد مبدع، وصاحب روح متألقة متوهجة، وصاحب نفس صافية مشرقة، يحب الفضيلة لذاتها، ويريدها أن تســــود الحيــــــاة و الأحيـــاء، و يحرص على السمو بالإنسان روحيا و نفسيا وحسيا9.

ومن صفاته أيضا أنه كان شديد التواضع، قال ابن السمعاني:"قرأت في كتاب كتبه الغزالي إلى أبي حامد بن احمد ابن السلامة بالموصيل، فقال من خلال فصوله: أما الوعظ فلست أرى نفسي أهلا له، لأن الوعظ زكاة نصابه الإتعاظ، فمن لا نصاب له فكيف يخرج الزكاة؟ وفاقد الثوب كيف يستر به غيره؟ ومتى يستقيم الظل و العود أعوج؟10.

ومن تواضعه، أنه صادف دخوله يوما مدرسة الأمنية،فوجد المدرس يقول:" قــال الغـــزالي: و هو يدرس من كلامه. فخشي الغزالي على نفسه العجب، ففارق دمشق11."
ومن صفاته أيضا كان شديد الجهد و المجاهدة، وذلك كما يعرف منذ شبابه حينما ترك بغداد وما فيها من زخارف الدنيا و الجاه و السمع. و كان يتتبع كل ما يمكن أن يعرفه و لو كان شرا، و ذلك كما نعرفه من خلال ما أنشده الغزالي:

عرفـت الشـــر لا للشر لكـن لتوقيه *** و مــن لا يعــرف الشر وقـــع فيــــه12

المطلب الثالث: رحلة الغزالي العلمية

تعتبر حياة الغزالي في نيسابور من أخصب مراحل حياته العلمية، وبرع في أثنائها بالتأليف و الكتبة.

خرج الغزالي من نيسابور عام 478 هــ، بعد وفاة أساتذة إمام الحرمين متجها نحو مدينة المعسكر 13 وكان سنه إذ ذاك ثمانية وعشرين عاما. وكان متزوجا لأنه تزوج قبل بلوغه العشرين وعاش له ثلاث بنات وقد كان له ولد مات في طفولته اسمه "حامد" وهو سبب تكنيته "أبا حامد14 ".

ولقد قصد الغزالي في المعسكر مجلس الوزير نظام الملك 15، الذي كان مجمع أهل العلم ومحط رجال السلاطين السلحوقيين. وكانت المجالس لا تخلو من المنــــاظرات الفقهيــــــــة و المطارحات الكلامية، فناظر الغزالي العلماء وقهر الخصـــوم، وظهر كلامـــــــه عليــهم و اعترفوا بفضله حتى فوض الوزير إليه التدريس في مدرسته النظامية ببغداد16 و بذا قال الدكتور سليمان دنيا: " و بخروجه (من نيسابور) ودع حياة التلمذة نهائيا ليدخل معترك الحياة العلمية الحقيقية كعالم بارع ومناضل ومتبحر".

و خلال التدريس بالنظامية تمكن من جذب الانظار إليه لحسن كلامه وكمال فضله و فصاحة لسانه ونكته الدقيقة و إشارته اللطيفة حتى علت حشمته الأكابر و الامراء ودار الخلافة 17 ، وكان يقرأ على يده جمع غفير من الطلبة. وحول حاله بالنظامية قال الغزالي في " المنقذ من الضلال": و "أنا ممنون بالتدريس و الإفادة لثلاثمائة نفس من الطلبة ببغداد".

لقد بلغت شهرة الغزالي ومكانته العلمية في العالم الإسلامي أوجها، ووصل إلى أقصى ما يصل إليه عالم في ذلك العصر من المجد الرئاسة. ولكن الشهرة و الجاه و المجد لم تفض إلى راحة البال و استبد به القلق، مما أدى به إلى أزمة نفسية عنيفة فكر خلالها في الإعتزال عن الناس و التدريس.
ووصف لنا الغزالي هذه الحالة في كتابه " المنقذ من الضلال" حيث يقول: "ثم لاحظت أحوالي فإذا أنا منغمس في العلائق وقد أحدقت بي الجوانب... و لاحظت أعمالي و أحسنها التدريس و التعليم فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة و لا نافعة، في طريق الأخرة ثم فكرت في نية التدريس فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها و محركها طلـــب الجــــاه و انتشار الصيت فتيقنت أني على شفا جرف هار، و اني قد أشفيت على النار18".

و في هذه الحالة استحقر نفسه وطلب الخلاص من حيرتهه، ولكنه تردد بين الإنصياع لنداء الإيمان الذي دعاه إلى الرحيل إذ يقول: " لم يبق من العمر إلا القليل و بين يديك السفر الطويل وجميع ما انت فيه من العلم و العمل رياء و تخيل، فإن لم تستعد الآن للآخرة فمتى تستعد؟ و إن لم تقطع هذه العلائق فمتى تقطع"؟19.

ولقد قوي عزم الغزالي على الإنصراف عن التدريس و العزلة عن الناس ولكن الشيطان يعود إليه و يقول:

" هذه حال عارضة إياك أن تطاوعها فإنها سريعة الزوال فإن أذعنت لها وتركت هذا الجاه العريض والشأن المنظوم الخالي عن التكدير و التنغيص و الامن المسلم الصافي عن منازعة الخصوم ربما إلتفت إليك نفسك، و لا يتيسر لك المعاودة، فلم أزل اتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة تقريبا من ستة أشهر، أولها رجب ثمان وثمانين و أربعمائة، وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الإختيار إلى الإضطرار، إذ أقفل الله على لساني حتى أعتقل عن التدريس فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوما واحدا تطييبا لقلوب المختلفين إلي فكان لا ينطق لساني بكلمة واحدة ولا أستطيعها البتة حتى اورثت هذه العقلة في لساني وحزنا في القلب، بطلت معه قوة الهضم ومراءة الطعام و الشراب، فكان لا ينساغ لي شربة و لا تنهضم لي لقمة، وتعدى إلى ضعف القوى حتى قطع الأطباء طمعهم من العلاج، وقالوا هذا امر نزل بالقلب ومنه سرى إلى المزاج فلا سبيل إليه من العلاج إلا بأن يتروح السر عن الهم الملم،

ثم لما أحسست بعجزي وسقط بالكلية اختياري إلتجأت إلى الله تعالى إلتجاء المضطر الذي لا حيلة له، فاجابني الذي يجيـــب المضطر إذا دعاه وسهل على قلبــــي الإعراض عن الجــاه و المال و الأولاد والأصحاب20".

وبعد أن دام مرضه شهرين شفاه الله وعبر عن شفائه قائلا:"فأعضل هذا الداء ودام تقريبا من شهرين أنا فيها على مذهب السفسطة بحكم الحال، لا بحكم النطق و المقال، حتى شفى الله تعالى ذلك المرض وعادت النفس إلى الصحة و الا عتدال، ورجعت الضرورات العقلية مقبولة موثوقا بها على امن ويقين، و لم يكن ذلك بنظم دليل و ترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر وذلك النور هو مفتاح أكثر العارفين، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المجردة فقد ضيق رحمة الله الواسعة21".

في عام 488 هــ خرج الغزالي من بغداد وترك التدريس بالمدرسة النظامية و استناب أخاه أحمد بالتدريس فيها. وحول خروجه من بغداد يحدثنا ويقول:" و أظهرت عزم الخروج إلى مكة و انا ادبر نفسي سفر الشام حذرا ان يطلع الخليفة وجملة الأصحاب على عزمي في المقام بالشام فتلطفت بلطائف الحيل في الخروج من بغداد على عزم ألا أعاودها أبدا... ففارقت بغداد، ما كان معي من المال ولم أذخر إلا قدر الكفاف وقوت الأطفال، ترخصا بان مال العراق مرصد للمصالح، لكونه وقفا على المسلمين، فلم أر في العالم مالا يأخذه العالم لعياله أصلح منه"22. ويقول الغزالي أيضا:"ثم دخلت الشام و أقمت بها قريبا من سنتين لا شغل لي إلا العزلة و الخلوة و الرياضة و المجاهدة... وكنت أعتكف مدة في مسجد دمشق أصعد منارة المسجد طول النهار و أغلق بابها على نفسي23".

و في دمشق ألف الغزالي كتابه المشهور وهو كتاب"إحياء علوم الدين". و من دمشق ذهب الغزالي إلى بيت المقدس ثم إلى الحجاز24. قال الغزالي:" ثم رحلت منها إلى بيت المقدس أدخل كل يوم الصخرة و أغلق بـــــابها على نفســــي، ثم تحركت في داعيــــة فريضــة الحج و الإستمداد من بركات مكة و المدينة وزيارة رسول الله (ص)، بعد الفراغ من زيارة الخليل صلوات الله عليه فسرت إلى الحجاز".

و بعد أداء فريضة الحج قصد مصر و أقام بالإسكندرية مدة، ويقال إنه قصد منها الركوب في البحر إلى بلاد المغرب على عزم الإجتماع بالأمير يوسف بن تاشفين صاحب مراكش، فبينما هو كذلك بلغه نعي يوسف بن تاشفين فصرف عزمه من تلك الناحية ثم عاد إلى وطنه بطوس، وقال عن عودته إلى طوس:"ثم جذبتني الهمم ودعوات الأطفال إلى الوطن فعاودته بعد أن كنت أبعد الخلق عن الرجوع إليه. فآثارت العزلة به أيضا حرصا على الخلوة وتصفية القلب للذكر25".

و في عام 499 هــ ألزمه فخر الملك بن الوزير نظام الملك بالعودة إلى نيسابور للقيام بالتدريس بالمدرسة النظامية مرة أخرى، فأجاب الدعوة بعد تكرار المعاودات لمدة سنة واحدة. و بعدها عاد إلى مسقط رأسه وكانت طوس محطة أسفاره الأخيرة.

قال ابن خلكان:"عاد إلى بيته وطنه واتخذ خانقاه للصوفية ومدرسته للمشتغلين بالعلم في جواره ووزع أوقاته على وظائف الخير من ختم القرآن ومجالسة أهل القلوب و القعود للتدريس إلى أن انتقل على رحمة ربه26."

المطلب الرابع: الغزالي وتأثره بعصره

من الطبيعي أن نتعرف بإيجاز على عصر الإمـــــام الغزالـــي، لأن أحــــــداث الزمن و أحواله تلقي-دون شك- أضواء على الجوانب الفكرية و الروحية التي تعنينا في هذا المجال قبل غيرها من الجوانب.

و أدى اختلاط الرأي و تداخل الثقافات لا سيما في العصر الذي ظهر فيه الغزالي، إلى ظهور عدة عوامل ونجد من بينها الفلسفة اليونانية التي يستدل بها في العقائد و يحتج بها في الدين، و الخلافات الفقهية، و أساطيـــر اليهود و النصــــــارى، وتزاحم أخبار الأوليــــاء و كرامات الصوفيين، و كذا التفسيرات الصوفية و التدوينات الفارسية التي شغلت الألسنة.

و تتـــألف من هذه النفايات و الأخلاط، عقليـــــة ســــائدة متحللة تقــوم على العجــز و الإنحراف، لها مظهر الدين و حقيقة الوثنية، يمكن تسميتها –"بالعقلية الشرفية"- تمييزا لها من العقلية الإسلامية التي تقوم على الوضوح و الإستقامة و الكفاح27.

ولقد كان الغزالي يحمل آثار هذه الثقافات المتباينة، وكان لذلك أثره الملحوظ في توجيه أفكاره ومجهوداته. فمثلا نراه يبحث عن الحق خارج محيطه، فيما راج من الفلسفات و النزاعات و الضلالات، فيقرر في كتابه "المنقذ من الضلال"،"أن الحق لا يعدو واحدا من أربع فرق وهي الباطنية و الصوفية و الفلاسفة و المتكلمين28".

و على الرغم من معارضته للفلاسفة، وقيامه بالرد عليهم و القول بكفرهم، فإنه ينقل مصطلحاتهم و أفكارهم، ويستعين بأساليبهم وعلومهم. فهو مثلا يتكلم كما يتكلمون في النفس الكلية، و النفس الجزئية و الجوهرة و العرض، و إن أدعى اختلاف المراد من كل لفظ عند كل قوم.

ونجد أنه يظهر الشك في المحسوسات كما يصنع " السوفطائيون" من الفلاسفة مع مؤاخذتهم عليه، ونراه كذلك يعشق نظرية الإشراقيين في الفيض والتلقي، وهو بذلك يؤيد بها فكرة الكشف و الذوق و العلم اللدني في التصوف.ومع مهاجمته لرجال الكلام يقرر أن علم الكلام أفضل العلوم و أجلها و أكملها.
و الغزالي لا يمانع في النقل عن اليهود و النصــارى و غيرهم، بدعوى أن الحكمة ضالة المؤمن29.
__________________

المصادر

[1] عارف تامر، الغزالي بين الفلسفة والدين، رياض ريس للكتب، بيروت لبنان، ص:1

[2] أحمد الشرباصي الغزالي و التصوف الإسلامي- ص 23 طبع بمطابع مؤسسة دار الهلال.
[3] عارف تامر، الغزالي بين الدين و الفلسفة- رياضة الريس للكتب و النش، ص" 41. يراجع: الغزالي، أبو حامد،-ميزا العمل- دار الكتب العلمية، بيروت ،لبنان، ط1،ج1 ص:4
[4] الغزالي، أبو حامد –إحياء علوم الدين- دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1 ج1، ص:4.
[5] هو أحمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الغزالي الملقب بمجد الدين، الفقيه الشافعي، كان واعظا مليح الوعظ، حسن النظر، صاحب كرامات و إنتشارات من الفقهاء ير أنه مال إلى الوعظ فغلب عليه ودرس بالمدرسة النظامية نيابة عن أخيه أبي حامد، و اختصر كتاب الإحياء في مجلد واحد سماه (لباب الإحياء)، وله تصنيف آخر (الذخيرة في علم البصيرة)، طاف البلاد وخدم الصوفية بنفسه وكان مائلا إلى الإنقطاع و العزلة، توفي بقزوين سنة 520 هــ.
[6] أحمد الشرباصي، المصدر السابق، ص:54
[7] السبكي، طبقات الشافعية، المصدر السابق، ج4،ص105.
[8] الزبيدي، محمد بن محمد الحسيني، إتحاف السادة المتقين، شرح إحياء علوم الدين، دار إحياء التراث العربي، بيروت لبنان، بدون تاريخ. ج 1، ص:6، وهذا القول نقله من كلام عبد الغافر الفارسي، لأنه أول من أرخ للغزالي.- يراجع السبكي، الطبقات الشافعية الكبرى، نفس المصدر، ج6، ص:20.
[9] أحمد الشرباصي، الغزالي و التصوف، دار الجيل، بيروت، سنة 1975م.
[10] السبكي، الطبقات الشافعية الكبرى، المصدر السابق ،ج1ص:216.
[11] أحمد الشرباص، المرجع السابق-ص:199.
[12] الإمام أبو حامد الغزالي، فضائح الباطنية، تحقيق محمد علي قطب المكتبة العصرية، بيروت ، لبنان، ،ط1 سنة 1421هـ/2000م
[13] السبكي طبقات الشافعية المصدر السابق، ج4 ص: 102.
[14] نفس المصدر و الصفحة.
[15] وهو الحسن بن إسحاق بن العباس الطوسي، الوزير الكبير العالم العادل أبو علي الملقب بنظام الملك. ولدعام 408 هـ، حفظه أبوه القرىن وشغله التفقه مذهب الشافعي، و أخذ في بناء المساجد و المدارس و الرباطات وفعل أصناف المعروف. يراجع: السبكي طبقات الشافعية، المصدر السابق ج 3، ص:125 و126.
[16] السبكي، نفس المصدر و الصفحة.
[17] السبكي، المصدر السابق، ج4، ص:107.
[18] الغزالي: المنقد من الضلال دار الكتب العلمية، ص59.
[19] الغزالي نفس المصدر و الصفحة.
[20] الغزالي-نفس المصدر ص:60-61.
[21] الغزالي-نفس المصدر-ص :29.
[22] الغزالي-نفس المصدر-،ص:61.
[23] الغزالي-نفس المصدر-ص61.
[24] نفس المصدر و الصفحة.
[25] نفس المصدر، ص: 61-62
[26] الزبيدي، إتحاف السادة المتقين، المصدر اليابق،ج1، ص8
[27] عاطف الزين، الصوفية في نظر الإسلام، ص:123
[28] الغمام أبي حامد الغزالي، المنقذ من الضلال، ومعه كمياء السعادة و القواعد العشرة و الأدب في الدين، تعليق وتصحيح: محمد جابر، المكتبة الثقافية، بيروت بنان، بدون تاريخ، ص:13.
[29] عاطف الزين-الصوفية في نظر الإسلام –ص:124.

عن الكاتب

A. Fatih Syuhud

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية