الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

أنواع التفسير بالمأثور (بالرواية)، وأقسامه

أنواع التفسير بالمأثور (بالرواية)، وأقسامه

الكتاب الكفاية في التفسير بالمأثور والدراية
المؤلف د. عبد الله خضر حمد
الناشر دار القلم، بيروت - لبنان
الطبعة الأولى، 1438 هـ - 2017 م
عدد الأجزاء 8
عدد الصفحات: ٨٨٢
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
الموضوع: علوم القرأن
رقم الصفحة المقتبسة:  3 - 150
 

فهرس الموضوعات

  1.  الفصل الثاني
  2. أولا: - أنواع التفسير
  3. ١ - التفسير بالمأثور (بالرواية)، وأقسامه
  4. أقسام التفسير بالرواية
    1. أ- تفسير القرآن بالقرآن
    2. ب- تفسير القرآن بالسنة
    3. ت- تفسير القرآن بقول الصحابي
    4. ث- تفسير القرآن بقول التابعي
  5. أشهر تفاسير القرن الثالث والرابع
  6. ومن هذه التفاسير الموسوعية أيضا
  7. ٢ - التفسير بالدراية
  8. ٣ - التفسير الإشاري
  9. آراء العلماء التي نسترشد بها في تحديد شروط قبول التفسير الإشاري
    1. ١ - رأى ابن الصلاح
    2. ٢ - رأى الشاطبى
    3. ٣ - رأى تاج الدين بن عطاء الله
    4. ٤ - رأى حاجى خليفة
    5. ٥ - رأى سعد الدين التفتازانى
    6. ٦ - رأى محى الدين ابن عربي
    7. ٧ - رأي أبي حامد الغزالي
    8. ٨ - رأي الأستاذ محمد عبد العظيم الرزقانى
    9. ٩ - رأي الأستاذ محمد حسين الذهبي
    10. ١٠ - رأي الدكتور محمد كمال جعفر
    11. أمثلة على التفسير الإشاري
  10. ثانيا: - اتجاهات التفسير
    1. ١ - الاتجاه اللغوي
    2. ٢ - الاتجاه العلمي
    3. ٣ - الاتجاه الموضوعي
    4. ٤ - الاتجاه الفقهي
    5. ٥ - الاتجاه البلاغي
  11. أهمية التفسير البلاغي
    1. ١ - الوقوف على معجزة القرآن الكريم البلاغية التي تحدى بها الله تعالى العرب
    2. ٢ - توجيه التفسير للألفاظ والجمل القرآنية بما يرفع الإشكال ويوضح المعنى
    3. ٣ - فهم المعاني القرآنية من خلال معرفة القرائن وسياق النص ولهجات العرب
    4. ٤ - إثراء المعاني للألفاظ والجمل التي ظاهرها التماثل والتشابه
  12. خاتمة التمهيد
  13. أهم النتائج التي توصلنا إليها من هذا التمهيد
  14. العودة إلي  الكتاب الكفاية في التفسير بالمأثور والدراية

 الفصل الثاني


أولا: - أنواع التفسير

التفسير لغة واصطلاحا

تدور معاني التفسير في اللغة حول الكشف، والإيضاح، والبيان للشيء.

قال ابن فارس [١]: "(فَسَرَ) الفاء، والسين، والراء كلمة واحدة تدلُّ على بيانِ شيءٍ وإيضاحِه" [٢].

وقال ابن منظور [٣]: "(فسر) الفَسْرُ: البيان، فَسَر الشيءَ يفسِرُه بالكَسر وتَفْسُرُه بالضم فَسْراً وفَسَّرَهُ: أَبانه ... وقوله عز وجل: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: ٣٢] ، الفَسْرُ: كشف المُغَطّى والتَّفْسير كَشف المُراد عن اللفظ المُشْكِل، واسْتَفْسَرْتُه كذا، أَي سأَلته أَن يُفَسِّره لي" [٤].

وعُرِّف التفسير بأنه: "الاستبانة، والكشف، والعبارة عن الشيء بلفظ أسهل وأيسر من لفظ الأصل" [٥].

وخلاصة القول أن معنى التفسير في اللغة: هو البيان، والإيضاح، والكشف بلفظ أسهل وأيسر.

ويعرف الإمام الزركشي [٦]، التفسير اصطلاحا بقوله: "التفسير: هو علم يعرف به فهم كتاب الله المنزل على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه،"

(١) هو أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا بن حبيب الرازي، ولد في قرية كرسفة، منطقة رستاق الزهراء، كان أحد أئمة اللغة الأعلام نزيل همذان، كان من الرحالة في طلب العلم، توفى سنة خمس وتسعين وثلاثمائة للهجرة بالري ودفن بها، انظر: سير أعلام النبلاء، شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أحمد الذهبي ١٧/ ١٠٣، تحقيق: مجموعة بإشراف شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، (بدون) .

(٢) معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس ٤/ ٤٠٢، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، ١٣٩٩ هـ.

(٣) هو محمد بن مكرم بن علي بن أحمد الأنصاري الأفريقي ثم المصري أبو الفضل يعرف بابن منظور، ولد سنة ثلاثين وستمائة، بمصر وقيل في طرابلس، خدم في ديوان الآثار بالقاهرة ثم ولي القضاء في طرابلس ثم رجع إلى مصر ومات فيها سنة إحدى عشرة وسبعمائة وترك من مختصراته بخطه خمسمائة مجلد، انظر: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، لابن حجر، أبي الفضل أحمد بن علي العسقلاني الشافعي ٢/ ١٠٧، مجلس دائرة المعارف العثمانية, حيدر أباد- الهند، ١٣٩٢ هـ - ١٩٧٢ م، ط/الثانية، تحقيق: محمد عبد المعيد ضان.

(٤) لسان العرب، محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي ١١/ ١٢٨، دار صادر - بيروت، ط/الأولى.

(٥) لسان العرب لابن منظور ١١/ ١٢٨.

(٦) هو بدر الدين أبو عبد الله محمد بن بهادر بن عبد الله المصري الزركشي الشافعي الإمام المصنف، ولد سنة خمس وأربعين وسبعمائة، وأخذ عن الشيخين: جمال الدين الأسنوي، وسراج الدين البلقيني وكان رحالة في طلب العلم، وكثير التصانيف، توفي بمصر ودفن بالقرافة، سنة أربع وتسعين وسبعمائة، انظر: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة ١/ ٤٧٩، وشذرات الذهب في أخبار من ذهب، عبد الحي بن أحمد ابن العماد العكري الحنبلي ٦/ ٣٣٤، تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط، ومحمود الأرناؤوط، دار ابن كثير- دمشق، ط/١٤٠٦ هـ.

وحِكمه، واستمداد ذلك من علم اللغة، والنحو، والتصريف، وعلم البيان، وأصول الفقه، والقراءات، ويحتاج لمعرفة أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ "[١]."

ويرى الباحث أن الزركشي أطلق الفهم ولم يبين ضوابطه، ولم يصرح بأن السنة مفسرة لا في القول، ولا في الفعل، ولا في التقرير، وكرر بعض المعاني فالنحو والتصريف وعلم البيان كلها داخلة في علم اللغة.

ويقول الإمام السيوطي [٢]: التفسير: "علم نزول الآيات، وشؤونها، وأقاصيصها، والأسباب النازلة فيها، ثم ترتيب مكيها، ومدنيها، ومحكمها، ومتشابهها وناسخها، ومنسوخها، وخاصها، وعامها، ومطلقها، ومقيدها، ومجملها، ومفسرها، وحلالها، وحرامها، ووعدها، ووعيدها، وأمرها، ونهيها، وعِبرها، وأمثالها" [٣]، ويبدو أن الإمام السيوطي ركز على أسباب النزول، وترتيب فروع القرآن من مدني، ومكي، ومحكم، ومتشابه ... الخ، ولم يهتم بجانب التفسير المشتمل على الفهم والبيان.

وعُرَّف علم التفسير أيضاً بأنه: "علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، ومدلولاتها، وأحكامها، الإفرادية، ومعانيها التركيبية، وتفسير الشيء لاحق به ومتمم له وجار مجرى بعض أجزائه، قال أهل البيان: التفسير هو أن يكون في الكلام لبس، وخفاء فيؤتى بما يزيله ويفسره" [٤].

وهذا التعريف ركز على القراءات بشكل جوهري لكنه أشار إلى إيضاح تلك المدلولات بشكل إفرادي، وتركيبي، فهو قد تناول نوعين من التفسير: تفسير مفردات، وتفسير تراكيب، وعليه فإن هذا التعريف أقرب إلى الصواب من حيث استيعاب معنى التفسير عند أهله.

وقال أبو حيان [٥]: "التفسير: علم يُبحثُ فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، ومدلولاتها، وأحكامها الإفرادية، والتركيبية، ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب، وتتمات لذلك" [٦].

(١) البرهان في علوم القرآن، بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي ١/ ١٣، دار إحياء الكتب العربية

ط/ الأولى ١٣٧٦ هـ.

(٢) هو عبد الرحمن بن الكمال أبي بكر بن محمد بن سابق الدين بن الفخر عثمان الخضيري الأسيوطي ولد في رجب سنة تسع وأربعين وثمانمائة، ونشأ في القاهرة يتيما، اشتغل بالعلوم وكان علما، توفى ليلة الجمعة لتسعة عشر يوماً خلت من جمادى الأولى سنة إحدى عشرة وتسعمائة للهجرة، وكان عمره إحدى وستين سنة، انظر: حسن المحاضرة في تأريخ مصر والقاهرة ص ١١٠، (بدون) ، وطبقات المفسرين، أحمد بن محمد الأدنروي ص ٣٦٥ - تحقيق: سليمان بن صالح الخزي، مكتبة العلوم والحكم- المدينة المنورة، ط/الأولى ١٩٩٧ م.

(٣) الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين السيوطي ص ٤٣٥، تحقيق: سعيد المندوب، دار الفكر- لبنان ١٤١٦ هـ - ١٩٩٦ م.

(٤) كتاب الكليات لأبي البقاء أيوب بن موسى الكفومي ص ٢٦٠، تحقيق: عدنان درويش، ومحمد المصري، مؤسسة الرسالة - بيروت- ط/ ١٤١٩ هـ.

(٥) محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيّان، الإمام أثير الدين الأندلسي الغرناطي، النّفزي، نحويّ عصره ولغويّه ومفسّره، ولد بمطخشارس، مدينة من حاضرة غرناطة سنة أربع وخمسين، وستمائة للهجرة، من تصانيفه: البحر المحيط في التفسير، وغيره، توفى سنة خمس وأربعين وسبعمائة، انظر: معجم الشيوخ، تاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي ص ٤٧٢، تخريج: شمس الدين أبي عبد الله ابن سعد الصالحي الحنبلي، تحقيق: الدكتور بشار عواد- رائد يوسف العنبكي- مصطفى إسماعيل الأعظمي، دار الغرب الإسلامي، ط/ الأولى ٢٠٠٤ م.

(٦) البحر المحيط، محمد بن يوسف أبوحيان الأندلسي ١/ ١٢١، تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ علي معوض، دار الكتب العلمية، لبنان - بيروت، ط/الأولى ١٤٢٢ هـ-٢٠٠١ م.

والظاهر أن أبا حيان أورد نفس التعريف الذي سبقه، بدون زيادة، ثم قام بشرحه فقال: "فقولنا: علم هو جنس يشمل سائر العلوم، وقولنا: يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن هذا هو علم القراءات، وقولنا: ومدلولاتها أي مدلولات تلك الألفاظ، وهذا هو علم اللغة الذي يحتاج إليه في هذا العلم، وقولنا: وأحكامها الإفرادية، والتركيبية هذا يشمل علم التصريف، وعلم الإعراب، وعلم البيان، وعلم البديع، وقولنا: ومعانيها التي تحمل بها حالة التركيب: شمل بقوله التي تحمل عليها ما دلالته عليه بالحقيقة، وما دلالته عليه بالمجاز، فإن التركيب قد يقضي بظاهره شيئاً، ويصد عن الحمل على الظاهر صاد فيحتاج لأجل ذلك أن يحمل على الظاهر وهو المجاز، وقولنا: وتتمات لذلك، هو معرفة النسخ، وسبب النزول وقصة توضح بعض ما انبهم في القرآن ونحو ذلك" [١].

وخلاصة القول في تعريف التفسير اصطلاحاً: أنه علم يفهم به مراد الله في كتابه المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- من بيان لمعانيه، واستخراجٍ للحِكَم والأَحكَام عبر علوم وضوابط حددها العلماء سيأتي بيانها في أنواع التفسير.

وهذا التعريف تحاشى فيه الباحث من الفهم بدون ضوابط، وعن التكرار الذي انتقدناه في تعريف الزركشي، وذِكْرِ جانبِ الفهم والبيان للألفاظ والتراكيب الذي أغفله السيوطي، وذكر العلوم والضوابط التي حددها العلماء إيضاحاً للتعريفين الأخيرين، والله أعلم.

أنواع التفسير

روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: "التفسير أربعة: حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تقره العرب بألسنتها، وتفسير تفسّره العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى" [٢].

وقال آخرون: التفسير ثلاثة أقسام: تفسير بالرواية، ويسمى التفسير بالمأثور، وتفسير بالدراية، ويسمى التفسير بالرأي. وتفسير الإشارة، ويسمى التفسير الإشاري، ويضيف بعضهم قسما رابعا، وهو تفسير باطني، ويسمى التفسير الباطني.


١ - التفسير بالمأثور (بالرواية) ، وأقسامه

وهو تفسير القرآن بالمنقول سواء كان قرآناً أو مأثوراً عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو عن الصحابة، ومعتمد هذا التفسير هو النقل كتفسير ابن جرير الطبري [٣]، وغيره، وهذه هي إحدى طرق التفسير، قال ابن تيمية: "فإن قال قائل: فما أحسن طرقُ التفسير؟ فالجواب: أن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن؛ فما أُجمِل في مكان فإنه قد فُسِرَ في موضع آخر،"

(١) المصدر نفسه ١/ ١٢٢.

(٢) تفسير الطبري: (١: ٣٤) ، وإيضاح الوقف والابتداء (١: ١٠١) ، وقد اعتمد الطبري (ت: ٣١٠) على هذا الأثر في ذكر الوجوه التي من قِبَلها يوصل إلى معرفة تأويل القرآن.

(٣) هو الإمام أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري الإمام الجامع للعلوم المجتهد، ولد سنة أربع وعشرين ومائتين للهجرة في آمل طبرستان، ورحل إلى بغداد واستقربه المقام بها حتى توفى سنة عشر وثلاثمائة، انظر: طبقات الشافعية الكبرى، تاج الدين بن علي بن عبد الكافي السبكي ٣/ ١٢٠، تحقيق: د. محمود محمد الطناحي ود. عبد الفتاح محمد الحلو، هجر للطباعة والنشر والتوزيع، ط/الثانية ١٤١٣ هـ.

وما اختصر من مكان فقد بسط في موضع آخر فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له .. وإذا لم نجد التفسير في القرآن، ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرآن .. ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح والعمل الصالح ... ، وإذا لم تجد التفسير في القرآن، ولا في السنة، ولا وجدته عن الصحابة "[١]."

فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين "[٢]، وقال الإمام الزركشي:" للناظر في القرآن لطلب التفسير مآخذ كثيرة أمهاتها أربعة:

الأول: النقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا هو الطراز المعلم لكن يجب الحذر من الضعيف منه والموضوع فإنه كثير.

الثاني: الأخذ بقول الصحابي فإن تفسيره عندهم بمنزلة المرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي الرجوع إلى قول التابعي روايتان.

الثالث: الأخذ بمطلق اللغة؛ فإن القرآن نزل بلسان عربي مبين، وقد ذكره جماعة منهم: أنس بن مالك، وأحمد بن حنبل.

الرابع: التفسير بالمقتضى من معنى الكلام، والمقتضب من قوة الشرع، وهذا هو الذي دعا به النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس رضي الله عنهما في قوله: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" [٣] "[٤]."

ومن خلال كلام ابن تيمية يتضح أن التفسير لكتاب الله تعالى يكون بتفسير القرآن بالقرآن ثم بالسنة ثم بأقوال الصحابة ثم يرجع إلى أقوال كبار التابعين

كمجاهد بن جبر [٥]، وهذا هو الذي يسمى بتفسير الرواية.

ومن كلام الزركشي يتبين أن التفسير عنده هو ما جاء تفسيره عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو نُقل تفسيره عن أحد الصحابة، أو عن تابعي إذا رفعه إلى الصحابي آخذاً بمطلق

(١) هو أبو العَباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي، شيخ الإسلام في زمانه وأبرز علمائه، ولد بحرَّان سنة إحدى وستين وستمائة للهجرة، ورحل إلى دمشق مع أسرته هربًا من غزو التتار، تلقى العلم حتى آلت إليه الإمامة، وتوفى سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، انظر: معجم المحدثين للذهبي محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي أبو عبد الله ص ١١، تحقيق: د. محمد الحبيب الهيلة، مكتبة الصديق- الطائف، ط/ الأولى ١٤٠٨ هـ.

(٢) مجموع الفتاوى، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني ١٣/ ٣٦٣ - ٣٦٨، تحقيق: أنور الباز، وعامر الجزار، دار الوفاء، ط/ الثانية ١٤٢٦ هـ ٢٠٠٥ م بتصرف.

(٣) قوله - صلى الله عليه وسلم: (اللهم فقه في الدين) متفق عليه، في البخاري، باب: وضع الماء عند الخلاء ١/ ١٤٩، وفي مسلم باب: فضائل الصحابة ٧/ ١٥٨، وأما قوله: (وعلمه التأويل) فقد أخرجه أحمد في مسند ابن عباس ١/ ٢٣٥، أحمد بن حنبل أبو عبدالله الشيباني، مؤسسة قرطبة - القاهرة، (بدون) ، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده قوي على شرط مسلم، ومصنف ابن أبي شيبة، أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة العبسي الكوفي ٢/ ٥٢٠، تحقيق: محمد عوامة، دار القبلة (بدون) .

(٤) البرهان في علوم القرآن للزركشي ٢/ ١٥٦ - ١٦١، بتصرف يسير.

(٥) هو مجاهد بن جبر الإمام أبو الحجاج المخزومي مولاهم المكي المقري المفسر الحافظ سمع سعداً وعائشة، وأبا هريرة، وأم هانئ، وعبد الله بن عمر وابن عباس ولزمه مدة، وقرأ عليه القرآن وكان أحد أوعية العلم، روى عنه جمع غفير من التابعين وغيرهم، توفى سنة ثلاث ومائة وقد بلغ ثلاثاً وثمانين سنة، انظر: تذكرة الحفاظ، محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ١/ ٩٣، تحقيق: زكريا عميرات، دار الكتب العلمية- بيروت ط/ الأولى ١٤١٩ هـ- ١٩٩٨ م.

اللغة، وبمقتضى معنى الكلام، وهذا شامل للتفسير عموماً إلا أنه بَيَّنَ في الفقرتين الأولى والثانية سبيل التفسير بالرواية.

ويرى الباحث من كلام الزركشي أيضاً أن معتمد التفسير بالمأثور هو النقل، ويجب أن يكون هذا النقل صحيحاً؛ لأنه حذر من الضعيف، والموضوع إذ لا عبرة به عند جميع المفسرين.

وقد عَرَّف بعضُ المعاصرين التفسير بالرواية فقال: "هو ما جاء في القرآن، أو السنة، أو كلام الصحابة، بياناً لمراد الله تعالى" [١].

وقيل: "هو ما جاء في القرآن نفسه من البيان والتفصيل، وما نقل عن الرسول-صلى الله عليه وسلم-، وأصحابه، والتابعين مسنداً إلى من قبلهم على الصحيح" [٢].

وهذان التعريفان الأخيران هما خلاصة كلام الإمام ابن تيمية، وهو الراجح وهو ما سيقوم الباحث بشرحه في أقسام التفسير بالرواية.

أقسام التفسير بالرواية

مما سبق يمكننا أن نقسِّم التفسير بالرواية إلى الأقسام الآتية:

أ- تفسير القرآن بالقرآن

ومثال هذا القِسْم قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ] {المائدة: ١} ، جاء مفسراً في قوله تعالى: [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالمُنْخَنِقَةُ وَالمَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {المائدة: ٣}

وكذلك قوله تعالى: [إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ] {الدُخان: ٣} ، جاء مفسراً في قوله تعالى: [إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ] {القدر: ١}

ب- تفسير القرآن بالسنة

ومثال ذلك ما ورد عن ابن مسعود - (رضي الله تعالى عنه- قال: "لمَّا نزل قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَم يَلبِسُوا إِيمَنَهُم بِظُلمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمنُ وَهُم مُّهتَدُونَ {[الأنعام: ٨٢]، شق ذلك على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: يا رسول الله: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:" ليس ذاك إنما هو الشرك ألم تسمعوا قولَ لقمان لابنه: [وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] لقمان: ١٣} "[٣]."

وفسر النبي -صلى الله عليه وسلم- الصلاة الوسطى بصلاة العصر، فعن عبد اللَّه بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- قال: حَبَسَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ

(١) التبيان في علوم القرآن، محمد بن علي الصابوني ص ٧٥، دار الإرشاد- بيروت، ط/الأولى ١٣٩٠ هـ.

(٢) علوم القرآن الكريم ص ٧٥، د/ نور الدين عترة، دمشق- الصباح، ط/ السادسة ١٤١٦ هـ.

(٣) البخاري مع الفتح، باب: لا تشرك بالله ٨/ ٦٥١، مكتبة دار السلام، ط/الأولى ١٤١٨ هـ، ومسلم مع شرح النووي، باب: صدق الإيمان ١/ ٨٠، برقم (٣٢٣) ، دار المعرفة، ط/ الثانية ١٤١٥ هـ.

صَلاةِ الْعَصْرِ حَتَّى احْمَرَّتِ الشَّمْسُ أَوِ اصْفَرَّتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاةِ الْوُسْطَى صَلاةِ الْعَصْرِ مَلأَ اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا" [١].

ت- تفسير القرآن بقول الصحابي

إن الصحابة رضوان الله عليهم عايشوا التنزيل، وعرفوا بجملتهم في ماذا أنزلت الآيات، وأعانهم على ذلك أن القرآن نزل إليهم منجماً، ولم ينزل دفعة واحدة، ليكون أرسخ للفهم، وأسهل في الامتثال والتطبيق.

ومثال ذلك تفسير ابن عباس لسورة النصر، وأنها علامةُ أجلِ النبي -صلى الله عليه وسلم-، فعن ابن عباس قال: "كان عمر يُدْخِلني مع أشياخ بدر، فقال بعضهم: لِمَ تُدْخِل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال: إنه ممَّن قد علمتم، قال: فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم، قال: وما رأيته دعاني يومئذ إلا لِيُرِيَهم مني، فقال: ما تقولون في قوله تعالى: : [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ] {النَّصر: ١} ، حتى ختم السورة؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا جاء نصرنا وفُتِحَ علينا، وقال بعضهم: لا ندري، فقال لي: يا ابن عباس أكذلك تقول؟ قلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعلمه به: [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ] {النَّصر: ١} ، فتح مكة، فذلك علامة أجلك [فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا] {النَّصر: ٣} ، فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم" [٢].

ث- تفسير القرآن بقول التابعي

قد اختلف العلماء في تفسير التابعي هل هو من المأثور أم من التفسير بالرأي؟ بمعنى هل نحمله على أنه منقول عن الصحابة رضوان الله عليهم اللذين- عايشوا التنزيل- أم باجتهادٍ منهم.

قال ابن تيمية: "وقال شعبة بن الحجاج [٣]: أقوال التابعين في الفروع ليست حجة، فكيف تكون حجة في التفسير؟ ! يعني: أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم، وهذا صحيح، أما إذا أجمعوا على الشيء فلا يُرتَاب في كونه حجة، فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض، ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن، أو السنة، أو عموم لغة العرب، أو أقوال الصحابة في ذلك" [٤].

ولو رتب ابن تيمية الرجوع إلى لغة القرآن، والسنة، ثم إلى أقوال الصحابة، ثم إلى عموم لغة العرب لكان خيراً من التخيير في الرجوع عند اختلاف أقوال التابعين.

(١) البخاري مع الفتح، باب: الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة ٦/ ٨٩، برقم (٢٩٣١) ، ومسلم مع شرح النووي باب: الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هي صلاة العصر ٥/ ١٢٩، برقم (١٤٥٨) .

(٢) البخاري مع الفتح، باب قوله: [فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا] {النَّصر: ٣} : ٨/ ٩١٩.

(٣) هو شعبة بن الحجاج بن الورد الواسطي، أبو بسطام الأزدي العتكي، مولاهم، عالم أهل البصرة في زمانه، وأمير المؤمنين في الحديث، سكن البصرة، ورأى الحسن وسمع منه مسائل، وروى عن أنس وابن سيرين وغيرهم، ولد سنة اثنتين وثمانين، وتوفي سنة ستين ومائة للهجرة، وروى له الجماعة، انظر: الوافي بالوفيات، أبي الصفاء صلاح الدين خليل بن أيبك الألبكي الصفدي ٥/ ٢٠٦، تحقيق: أحمد الأرناؤوط، وتركي مصطفى، دار إحياء التراث- بيروت ١٤٢٠ هـ - ٢٠٠٠ م.

(٤) مقدمة التفسير، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني ص ٤٢، دار مكتبة الحياة-لبنان، ط/١٤٩٠ هـ.

قال محمد الزرقاني [١]: "أما ما ينقل عن التابعين ففيه خلاف بين العلماء: منهم من اعتبره من المأثور؛ لأنهم تلقوه من الصحابة غالباً، ومنهم من قال: إنه من التفسير بالرأي، وفي تفسير ابن جرير الطبري كثيرٌ من النقول عن الصحابة والتابعين في بيان القرآن الكريم" [٢].

وقيل: "وإنما أدرجنا في التفسير بالمأثور ما رُوِىَ عن التابعين- وإن كان فيه خلاف: هل هو من قبيل المأثور أو من قبيل الرأي- لأننا وجدنا كتب التفسير بالمأثور، كتفسير ابن جرير الطبري وغيره، لم تقتصر على ما رُوِىَ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وما رُوِىَ عن أصحابه، بل ضمت إلى ذلك ما نُقِل عن التابعين في التفسير" [٣].

ومن خلال صنيع ابن جرير الطبري وغيره من المفسرين، يتبين أن قول التابعين يعتبر من التفسير بالمأثور لقربهم من الذين شهدوا الوحي وتلقوا عنهم، خلافا لقول ابن تيمية، ومن أهم مؤلفات التفسير بالمأثور:

- جامع البيان في تأويل آي القرآن، للإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري.

- تفسير القرآن العظيم، للإمام الحافظ ابن كثير البصري [٤].

- الدر المنثور في التفسير بالمأثور للإمام السيوطي.

ومن أبرز جماعة التابعين ممن اشتهروا بمعرفة التفسير فبرعوا ونبغوا فيه:

١ - سعيد بن جبير (ت ٩٥ هـ)

٢ - عكرمة (ت ١٠٧ هـ)

٣ - مجاهد (ت ١٠١ أو ١٠٢ أو ١٠٣ أو ١٠٤ هـ)

٤ - أبو العالية (ت ٩٠ هـ)

٥ - قتادة (ت ١١٠ هـ)

٦ - عامر الشعبي (ت ١٠٥ هـ)

٧ - مسروق (ت ٦٣ هـ)

٨ - الحسن البصري (ت ١١٠ هـ)

٩ - الضحاك بن مزاحم (ت ١٠٥ أو ١٠٦ هـ) .

وقد استفادوا من تلك المنهجية العلمية الدقيقة التي بوأتهم مكانة مرموقة، فتصدروا مجالس العلم وبدأ بعضهم بتدوين التفسير فكانوا طليعة الفرسان في هذا الميدان، ففي عصرهم بدأ تدوين التفسير، وأول من قام بذلك سعيد ابن جبير الأسدي (ت ٩٥ هـ) عندما كتب الخليفة

(١) هو محمد عبد العظيم الزرقاني، من علماء الأزهر بمصر، تخرج بكلية أصول الدين، وعمل بها مدرساً لعلوم القرآن والحديث، وتوفي بالقاهرة عام سبع وستين وثلاثمائة وألف للهجرة- الموافق ثمان وأربعين وتسعمائة وألف ميلادية، انظر: الأعلام، خير الدين بن محمود بن محمد بن علي بن فارس، الزركلي الدمشقي ٦/ ٢١٠، دار العلم للملايين، ط/ الخامسة عشر ٢٠٠٢ م.

(٢) مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد الزرقاني ٢/ ١٢، دار الفكر- بيروت، ط/الأولى ١٩٩٦ م.

(٣) التفسير والمفسرون، محمد حسين الذهبي ١/ ١٣٩، مكتبة وهبة- مصر، ط/ الأولى ١٤٠٩ هـ.

(٤) هو الإمام الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوء البصري ثم الدمشقي، فقيه مفسر مؤرخ، ولد سنة سبعمائة للهجرة، وتوفى سنة أربع وسبعين وسبعمائة، انظر: معجم المحدثين للذهبي ص ٤١، والمنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي، جمال الدين يوسف بن عبدالله، الملقب ابن تغري بردي ١/ ١٧٧، (بدون) .

الأموي عبد الملك بن مروان يسأل سعيد ابن جبير أن يكتب إليه بتفسير القرآن وقد استجاب له فصنف التفسير وقد وجد عطاء بن دينار هذا التفسير في الديوان، فرواه عن سعيد وجادة [١].

وفي هذا العصر انتشرت كتابة التفسير، روى الدارمي عن عمرو بن عون، أنا فضيل، عن عبيد المكتب قال: "رأيتهم يكتبون التفسير عن مجاهد" [٢].

وأخرجه الخطيب البغدادي من طريق وكيع بن فضيل ابن عياض به [٣].

وأخرج الخطيب البغدادي بسنده عن أبي يحيى الكناسي قال: "كان مجاهد يصعد بي إلى غرفته فيخرج إليّ كتبه فأنسخ منها" [٤].

أشهر تفاسير أتباع التابعين وما بعدهم

وقد واكب هذا التدوينُ الفتحَ الإسلامي الذي امتدت أطرافه شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً مما أدى إلى اتساع انتشار هذا العلم إضافة إلى ذلك ازدياد الرحلات العلمية، وكان لتدوينه أيضاً أثر كبير في انتشاره وتداوله عند أهل العلم من صغار التابعين وأتباع التابعين مثل:

١ - الضحاك بن مزاحم الهلالي (ت ١٠٥ هـ أو ١٠٦ هـ)

٢ - ومقاتل بن سليمان البلخي (ت ١٠٥ هـ وقد طبع تفسيره [٥].

٣ - وطاوس بن كيسان اليماني (ت ١٠٦ هـ)

٤ - وقتادة بن دعامة السدوسي (ت ١١٠ هـ)

٥ - ومحمد بن كعب القرظي (ت ١١٨ هـ)

٦ - والسدي الكبير (ت ١٢٧ هـ)

٧ - وعبد الله بن يسار المعروف بابن أبي نجيح (ت ١٣١ هـ)

٨ - وعطاء الخراساني (ت ١٣٥ هـ وقد حققتُ قطعة من تفسيره [٦].

٩ - وزيد بن أسلم العدوي (ت ١٣٦ هـ)

١٠ - والربيع بن أنس البكري (ت ١٤٠ هـ)

١١ - وعلي بن أبي طلحة (ت ١٤٣ هـ استخرج السيوطي أغلب صحيفة علي بن أبي طلحة من تفسيري الطبري وابن أبي حاتم [٧].

١٢ - والأعمش سليمان بن مهران (ت ١٤٧ هـ أو ١٤٨ هـ) [٨].

وكل هذه التفاسير قد أفرد لكل تفسير مؤلف جمعت في مرويات كل مفسر، وأغلبها رسائل جامعية.

(١) رواه ابن أبي حاتم عن أبيه في الجرح والتعديل ٦/ ٣٣٢.

(٢) السنن - باب من رخص في كتابة العلم ١/ ١٢٨.

(٣) تقييد العلم ص ١٠٥.

(٤) تقييد العلم ص ١٠٥.

(٥) حققه د. عبد الله محمود شحاتة وطبعته الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة. .

(٦) نشرته مكتبة الدار بالمدينة المنورة.

(٧) انظر الإتقان ٢/ ٦ - ٤٦، والصحيح المسبور في التفسير بالمنثور: ١/ ١٧.

(٨) كل هؤلاء المفسرين لهم تفاسير ذكرت في كتب طبقات المفسرين للسيوطي والداوودي وعمر نزيه التركي -باللغة التركية- ومعجم المفسرين لعادل نوهيض، وكتب فهارس التراث مثل كشف الظنون وفهرست ابن النديم وتاريخ التراث لسزكين وكتب الإجازات مثل المعجم المفهرس لابن حجر.

وغيرهم من المفسرين المتقدمين فقام هؤلاء بجمع نسخ وروايات وصحف كبار التابعين وتدوينها فسطع قبس التفسير في أرجاء العالم الإسلامي آنذاك ثم أزداد تألقاً في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري حيث استنار العلماء الذين تلقوا هذا العلم من شيوخهم واعتنوا به فحفظوه أو كتبوه ثم رووه لتلاميذهم فتوسعت حركة تدوين التفسير وظهرت تفاسير مشابهة للتفاسير المتقدمة وقد تكون أوسع منها مثل: تفسير سفيان الثوري (ت ١٦١ هـ) [١].

١٣ - وتفسير معاوية بن صالح (ت ١٥٨ هـ أو ت ١٧٢ هـ) وهو الراوي لصحيفة علي بن أبي طلحة.

١٤ - وتفسير شيبان بن عبد الرحمن النحوي (ت ١٦٤ هـ) وهو راوي التفسير عن قتادة.

١٥ - وتفسير نافع بن أبي نعيم القارئ (ت ١٦٧ هـ أو ١٦٩ هـ) [٢].

١٦ - وتفسير أسباط بن نصر الهمداني (ت ١٧٠ هـ) وهو الراوي لتفسير السدي.

١٧ - وتفسير مالك بن أنس إمام دار الهجرة (ت ١٧٩ هـ) .

١٨ - وتفسير مسلم بن خالد الزنجي (ت ١٧٩ هـ) [٣].

١٩ - وتفسير عبد الله بن المبارك المروزي (ت ١٨١ هـ) .

٢٠ - وتفسير عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت ١٨٢ هـ) .

٢١ - وتفسير هشيم بن بشير السلمي (ت ١٨٣ هـ) .

٢٢ - وتفسير يحيى بن يمان العجلي (ت ١٨٩ هـ) ، وقد حققتُ قطعة من تفسيره [٤].

٢٣ - وتفسير إسماعيل بن علية (ت ١٩٣ هـ) .

٢٤ - وتفسير يحيى بن سلام البصري (ت ٢٠٠ هـ) [٥].

وفي هذا العصر ازدادت كتب التفسير وبقيت على هيئة أجزاء ونسخ كتفسير الإمام مالك بن أنس فقد وصفه ابن كثير [٦] والذهبي [٧] وابن حجر [٨] والروداني [٩] بأنه جزء وكذلك التفاسير التي تقدمت في القائمة السابقة حيث ذكرت الموجودة منها وكلها على هيئة أجزاء ونسخ.

أشهر تفاسير القرن الثالث والرابع

وفي القرن الثالث والرابع الهجري دخل التفسير في مرحلة جديدة وهي مرحلة الموسوعات الجامعة في التفسير، فظهرت تفاسير ضخمة مروية ومستوعبة لكثير من الأجزاء والنسخ المبثوثة في رحاب العالم الإسلامي آنذاك ذلك العالم الذي استطاعت حضارته أن تجمع وتؤلف بين العرب والعجم والبربر تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول

(١) مطبوع في جزء واحد.

(٢) نشرت مكتبة الدار بالمدينة المنورة.

(٣) نشرت مكتبة الدار بالمدينة المنورة.

(٤) نشرته مكتبة الدار بالمدينة المنورة.

(٥) توجد منه أجزاء مخطوطة في المغرب وقد حققتْ في تونس.

(٦) انظر التفسير ٢/ ١٩٢.

(٧) انظر سير أعلام النبلاء ٨/ ٨٠.

(٨) المعجم المفهرس ل ٤٤ ب.

(٩) صلة الخلف بموصول السلف ص ٤٣، ٤٤.

الله، ولهذا جاءت بعض تفاسير العلماء حافلة بتفاسير السابقين وشاملة للقرآن كله وذلك بسبب انتشار العجمى ومن هذه التفاسير:

١ - تفسير عبد بن حميد الكشي (ت ٢٤٠ هـ) [١].

٢ - تفسير ابن جرير الطبري (ت ٣١٠ هـ) .

٣ - تفسير ابن المنذر النيسابوري (ت ٣١٨ هـ) [٢]

٤ - تفسير ابن أبي حاتم الرازي (ت ٣٢٧ هـ) [٣].

وقد ذكر الحافظ ابن حجر هذه التفاسير عند كلامه عن الذين اعتنوا بجمع التفسير المسند من طبقة الأئمة الستة فساق أسماءهم -وذكر أولهم بأنه من طبقة شيوخهم- ثم قال: فهذه التفاسير الأربعة قل أن يشذ عنها شيء من التفسير المرفوع والموقوف على الصحابة والمقطوع عن التابعين، وقد أضاف الطبري إلى النقل المستوعب أشياء لم يشاركوه فيها ... [٤].

وكذلك ابن أبي حاتم فقد حاول أن يفسر كل آية بل كل كلمة وحرف وقد يسوق أكثر من عشرة أوجه في الكلمة الواحدة [٥].

ومن هذه التفاسير الموسوعية أيضاً:

١ - تفسير الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (ت ٢٤١ هـ) .

وتفسيره ضخم حافل بمائة وعشرين ألف رواية، صرح بهذا الرقم أبو الحسين بن المنادي في تأريخه فيما رواه عنه القاضي أبو الحسين أبو يعلى حيث ذكر عبد الله وصالح ابني الإمام أحمد فقال: كان صالح قليل الكتاب عن أبيه، فأما عبد الله فلم يكن في الدنيا أحد أروى عن أبيه أكثر منه لأنه سمع المسند وهو ثلاثون ألفاً، والتفسير وهو مئة ألف وعشرون ألفاً سمع منها ثمانين ألفاً والباقي وجادة ... [٦] ونقله أيضاً الخطيب البغدادي [٧] والذهبي [٨]، وأبو موسى المديني في خصائص المسند [٩]، وصرح بهذا الرقم ابن الجوزي [١٠].

وقد ذكر هذا التفسير ابن النديم [١١]، وشيخ الإسلام ابن تيمية [١٢]، والداوودي [١٣]، ومحمد السعدي الحنبلي (ت ٩٠٠ هـ) [١٤]، وحصل الروداني المغربي على إجازة روايته

(١) توجد منه قطعة في حواشي تفسير ابن أبي حاتم في المجلد الثاني.

(٢) توجد منه قطعة في ألمانيا الشرقية - مكتبة جوتا.

(٣) يوجد نصفه تقريباً وقد حقق في جامعة أم القرى.

(٤) العجاب في بيان الأسباب د-٣.

(٥) انظر تفسير سورة آل عمران رقم ١٨١ - ١٩٨ عند قوله تعالى (وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَة) .

(٦) طبقات الحنابلة ١/ ١٨٣.

(٧) تاريخ بغداد ٩/ ٣٧٥.

(٨) سير أعلام النبلاء ١٣/ ٣٢٨، ٣٢٩.

(٩) ص ٢٣ من مقدمة أحمد شاكر لمسند أحمد.

(١٠) مناقب الإمام أحمد ص ٢٤٨.

(١١) لفهرست ص ٢٨٥.

(١٢) الفتاوي ٦/ ٣٨٩، ١٣/ ٣٥٥ ودرء تعارض العقل والنقل ٤/ ٢٢٨.

(١٣) طبقات المفسرين ٢/ ٢٢.

(١٤) الجوهر المحصل في مناقب الإمام أحمد في بداية عرضه لمؤلفات الإمام أحمد.

فذكره في ثبته ثم ساق إسناده إلى الإمام أحمد بن جعفر القطيعي عن عبد الله بن الإمام أحمد عن أبيه [١].

ولكن الإمام الذهبي أنكر وجود هذا التفسير، فبعد أن ذكر قول ابن المنادي قال: لكن ما رأينا أحدا أخبرنا عن وجود هذا التفسير ولا بعضه ولا كراسة منه ولو كان له وجود أو لشيء منه لنسخوه ... [٢].

ويبدو أن الإمام الذهبي لم يحظ بجزء أو كراسة من تفسير الإمام أحمد علما بأن جزءا من تفسير أحمد كان موجودا في زمنه حيث نقله بنصه وفصه الإمام ابن قيم الجوزية -وهو معاصر للذهبي وتوفي ابن القيم سنة (٧٥١ هـ) أي بعد وفاة الذهبي بثلاث سنوات- فقال ابن القيم بدائع الفوائد: "ومن خط القاضي من جزء فيه تفسير آيات من القرآن عن الإمام أحمد. ثم ساقه بأكمله في تسع صفحات" [٣] إضافة إلى ذلك أن الحافظ ابن حجر أفاد من تفسير أحمد وصرح بنقله منه [٤].

والحق أن تفسير الإمام أحمد لم يشتهر كشهرة مسنده الذي ذاع صيته في الآفاق وكثر قصاده إلى العراق [٥].

٢ - التفسير الكبير لأمير المؤمنين محمد بن إسماعيل البخاري صاحب الصحيح (ت ٢٥٦ هـ) .

ذكر بروكلمان نسخة منه في باريس -المكتبة الوطنية- وقطعة منه في الجزائر في المكتبة الوطنية أيضاً [٦]. ولعلها من صحيح البخاري.

وقد سألت عن هاتين النسختين فلم أجد أحدا رآهما! ! ويبدو من عنوانه أنه تفسير كبير.

٣ - تفسير أبي مسعود أحمد بن الفرات الرازى (ت ٢٥٨ هـ) .

قال إبراهيم بن محمد الطيان: سمعت أبا مسعود يقول: كتبت عن ألف وسبعمائة وخمسين رجلا أدخلت في تصنيفي ثلاث مئة وعشرة وعطلت سائر ذلك وكتبت ألف ألف حديث وخمس مئة ألف حديث فأخذت من ذلك ثلاث مئة ألف في التفسير والأحكام والفوائد وغيره [٧].

٤ - تفسير القرآن الكريم لابن ماجة القزويني (ت ٢٧٣ هـ) .

وصفه ابن كثير بالحافل فقال: ولابن ماجة تفسير حافل [٨].والحافل الكثير الممتلئ [٩].

وذكره ابن خلكان والمزي والذهبي والداوودي [١٠].

(١) صلة الخلف ص ٣٩.

(٢) سير أعلام النبلاء ١٣/ ٥٢٢ وانظر ١١/ ٣٢٨، ٣٢٩.

(٣) بدائع الفوائد: ٣/ ١٠٨ - ١١٦.

(٤) انظر مثلا تغليق التعليق ٤/ ٢٢٨.

(٥) انظر: الصحيح المسبور في التفسير بالمأثور: ١/ ٢٠ - ٢١.

(٦) تاريخ الأدب العربي ٣/ ١٧٩.

(٧) انظر تهذيب الكمال ١/ ٤٢٥.

(٨) البداية والنهاية ١١/ ٥٢.

(٩) الصحاح ٤/ ١٦٧٠ والنهاية ١/ ٤٠٩.

(١٠) انظر وفيات الأعيان ٤/ ٢٧٩ وتهذيب الكمال ٤/ ٩٠، ٧/ ٤١٣ وسير أعلام النبلاء ١٣/ ٢٧٧ وطبقات المفسرين ٢/ ٢٧٤.

٥ - التفسير الكبير لإسحاق بن إبراهيم بن مخلد المروزي المشهور بابن راهويه (ت ٢٣٨ هـ) .

ويبدو أنه كبير من عنوانه. ذكره ابن النديم والخطيب البغدادي والسمعاني والداوودي [١].

٦ - التفسير لإبراهيم بن إسحاق الحربي (ت ٢٨٥ هـ) ، قال الذهبي في ترجمته: "مصنف التفسير الكبير" [٢]. وهو كسابقه وذكره ابن حجر والداوودي [٣].

٧ - التفسير لابن أبي داود عبد الله بن سليمان بن الأشعث السجستاني ت ٣١٦ هـ. روى المفسر أبو بكر النقاش أنه سمع أبا بكر بن أبي داود يقول: "إن في تفسيره مائة ألف وعشرين ألف حديث" [٤].

وذكر هذا التفسير الخطيب البغدادي والعليمي والداوودي [٥].

٨ - التفسير لسليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني (ت ٣٦٠ هـ) .

قال الداوودي في طبقات المفسرين: وله تفسير كبير. ا. هـ.

وقد جمعت روايات تفسيرية من معاجمه الثلاثة وكتاب الدعاء، ومكارم الأخلاق، وجزء من سمع من عطاء. كلها للطبراني المذكور.

٩ - تفسير القاضي أبي محمد إسحاق بن إبراهيم بن إسحاق البستي (ت ٣٠٧ هـ) .

ولهذا التفسير مزايا كبرى [٦]:

أولها: أن أغلب أسانيده على شرط الصحيحين.

ثانيها: أن مؤلفه طويل النفس في إيراد الأحاديث والآثار وعمله كصنيع ابن أبي حاتم في التفسير بالمأثور المجرد من أي قول آخر.

١٠ - تفسير عمر بن أحمد بن عثمان المشهور بابن شاهين ت ٣٨٥ هـ.

قال الخطيب البغدادي في ترجمته: له التفسير الكبير. ا. هـ.

وتفسيره كبير كما وصف حيث احتوى على تفاسير منها تفسير أبي الجارود [٧].

وقال الكتاني: وهو في ألف جزء ووجد بواسط في نحو من ثلاثين مجلدا "[٨]."

فهذه نماذج من كتب التفسير في ذلك العصر الذي برز فيه صرح التفسير بالمأثور شامخا مسندا كاملا للقرآن الكريم، فقد تكاملت أسسه التي أرسيت بثمار تلك الجهود المباركة السابقة، فاجتمعت مع جهود المتقدمين عنايةُ اللاحقين حيث جمعوا وأضافوا ونقدوا، وكان جميعهم عاكفين على هذا العلم، وعضوا عليه بالنواجذ لأنه جمع بين القرآن والسنة، وقد زاد

(١) انظر الفهرست ص ٢٦٨، وتاريخ بغداد ٨/ ٣٦٩، والتحبير في المعجم الكبير ٢/ ١٩٠، وطبقات المفسرين ١/ ١٠٣.

(٢) تذكرة الحفاظ ٢/ ٧٠١.

(٣) تهذيب التهذيب ١٠/ ٢٨١ وطبقات المفسرين ١/ ٧.

(٤) انظر سير أعلام النبلاء ١٣/ ٢٨١ ولسان الميزان ٣/ ٢٩٥.

(٥) انظر تاريخ بغداد ٩/ ٤٦٤ والمنهج الأحمد ٢/ ١٥ وطبقات المفسرين ١/ ٣٣٦، ٣٣٧.

(٦) انظر: الصحيح المسبور في التفسير بالمنثور: ١/ ٢٤.

(٧) انظر تاريخ بغداد ١١/ ٢٦٧.

(٨) الرسالة المستطرفة ص ٧٦، ٧٧.

اهتمامهم عندما تلوث هذا العلم بالدخيل بسبب تساهل بعض العلماء في إيرادهم الإسرائيليات بأنواعها، وبسبب صنيع الزنادقة والقصاص والكذابين وأهل الأهواء فوقع التحريف والتأويل والوضع.

أخرج ابن عساكر عن ابن علية قال: "أخذ هارون الرشيد زنديقا فأمر بضرب عنقه فقال له الزنديق: لم تضرب عنقي؟ قال له: أريح العباد منك قال: فأين أنت من ألف حديث وضعتها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلها ما فيها حرف نطق به؟ قال: فأين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري وعبد الله بن المبارك ينخلانها فيخرجانها حرفا حرفا؟" [١].

ولهذا انبرى جهابذة السلف إلى نقد الروايات والتفتيش عن الأسانيد، وقد بدأ هذا التحري بعد اندلاع الفتنة في خلافة عثمان - رضي الله عنه - أو في زمن ابن الزبير وقد رجح الرأي الأخير مؤرخ السيرة أ. د. أكرم ضياء العمري [٢].

أخرج مسلم في صحيحه بسنده عن محمد بن سيرين: قال: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد. فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم. فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم" [٣].

فكان أهل السنة بالمرصاد لكل من تسول له نفسه أن يأتي بدخيل ولهذا وضعوا ضوابط محكمة وقواعد دقيقة للرواية.

قال محمد بن حاتم بن المظفر: ... وهذه الأمة إنما تنص الحديث عن الثقة المعروف في زمانه المشهور بالصدق والأمانة عن مثله حتى تناهى أخبارهم ثم يبحثون أشد البحث حتى يعرفوا الأحفظ فالأحفظ والأضبط فالأضبط والأطول مجالسة لمن فوقه ممن كان أقل مجالسة ثم يكتبون الحديث من عشرين وجها أو أكثر حتى يهذبوه من الغلط والزلل ويضبطون حروفه ويعدوه عدا ... "[٤]."

هكذا كان منهجهم في الرواية والتصنيف واستمر الحال على ذلك إلى القرن الثالث والرابع الهجري وكان أكثر المفسرين المصنفين يروون بالإسناد، فبرأوا ذمتهم لأنهم سموا شيوخهم ورواتهم وكانوا يميزون بين الصحيح والسقيم، وبعضهم يرى وجوب هذا التمييز بل وجوب نقد الرواة لمعرفة الثقة من الضعيف مثل ابن أبي حاتم وهو الذي صنف موسوعته في الجرح والتعديل من أجل بيان الثابت من التفسير ومن سنن البشير النذير صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي تبين القرآن الكريم، فها هو يقول في تقدمة الجرح والتعديل: "فلما لم نجد سبيلا إلى معرفة شيء من معاني كتاب الله ولا من سنن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا من جهة النقل والرواية وجب أن نميز بين عدول الناقلة والرواة وثقاتهم وأهل الحفظ والثبت والإتقان منهم وبين أهل الغفلة والوهم وسوء الحفظ والكذب واختراع الأحاديث الكاذبة" [٥].

(١) انظر تاريخ الخلفاء ص ٢٩٣.

(٢) انظر بحوث في تاريخ السنة المشرفة ص ٤٨ - ٥٠.

(٣) المقدمة - باب بيان أن الإسناد من الدين ١/ ١٥.

(٤) رواه السخاوي من طريق أبي العباس الدغولي عنه (فتح المغيث ٣/ ٣) .

(٥) مقدمة الجرح والتعديل ص ٥ ..

إن هذا المنهج الدقيق وتلك الحلقات التفسيرية كانت متصلة من القرن الأول الهجري إلى القرن الرابع الهجري، وبدخول القرن الخامس الهجري بدأ تدريجيا إهمال الأسانيد بحذفها أو باختصارها مما ساعد على شيوع الإسرائيليات ورواج الأحاديث الواهية والموضوعة ونسب الأقوال الباطلة إلى الصحابة والتابعين، وهم برآء منها، وكانت فرصة سانحة للكذابين والوضاعين والزنادقة وأهل الأهواء، فاختلط الصحيح بالسقيم والحق بالباطل وانتشر ذلك في كتب لتفسير بالمأثور، ولم يسلم منها إلا القليل كتفسير البغوي [١] وابن كثير وعبد الرزاق بن رزق الرسعني (ت ٦٦١ هـ) [٢] الذي روى أغلب تفسيره بإسناده واستمر الحال على ذلك إلى يومنا هذا [٣].

٢ - التفسير بالدراية

إن هذا النوع من التفسير يقوم على الاجتهاد، وإعمال النظر اعتماداً على علوم اللغة، وأصول الدين، والفقه ما لم يعارض المأثور وإلا اعتبر فاسداً، قال أبو محمد البغوي [٤]: "هو صرف الآية إلى معنى محتملٍ موافق لما قبلها، وما بعدها، غير مخالف للكتاب والسنة من طريق الاستنباط" [٥].

وقال الزركشي بعد أن ساق كلام البغوي: "قالوا وهذا غير محظور على العلماء بالتفسير وقد رخص فيه أهل العلم؛ وذلك مثل قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: (١٩٥) ] ، قيل: هو الرجل يحمل في الحرب على مائة رجل، وقيل: هو الذي يقنط من رحمة الله، وقيل: الذي يمسك عن النفقة، وقيل: هو الذي ينفق الخبيث من ماله، وقيل: الذى يتصدق بماله كله ثم يتكفف الناس، ولكلٍ منه مخرج" [٦].

وأما المراد بالدراية في التفسير، فهو: "المراد بالرأي هنا الاجتهاد، فإن كان الاجتهاد مُوَفَّقاً- أي مستنداً إلى ما يجب الاستناد إليه- بعيداً عن الجهالة والضلالة فالتفسير به محمود، وإلا فمذموم" [٧]، وقيل: "هو القول في القرآن بالاجتهاد المبني على أصول صحيحة، وقواعد سليمة متبعة يجب أن يأخذ بها من أراد الخوض في تفسير الكتاب، أو التصدي لبيان معانيه" [٨].

وقيل: "هو تفسير القرآن بالاجتهاد اعتماداً على الأدوات التي يحتاج إليها المفسر، وهي علم اللغة العربية، وعلم النحو، والصرف، والاشتقاق، وعلوم البلاغة وعلم القراءات،"

(١) ساق أغلب أسانيده في مقدمة كتابه.

(٢) انظر الذيل على طبقات الحنابلة ٢/ ٢٧٤ - ٢٧٦ والأعلام ٣/ ٢٩٢.

(٣) انظر: الصحيح المسبور في التفسير بالمأثور: ١/ ٢٨.

(٤) أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء، البغوي الشافعي، ولد سنة ست وثلاثين وأربعمائة للهجرة صاحب التصانيف، محيي السنة، محدِّث فقيه مفسر، كان سيدًا إمامًا، زاهدًا، من مصنفاته: شرح السنّة، ومعالم التنزيل، والمصابيح، وغيرها، توفى سنة عشر وخمسمائة للهجرة، انظر: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان، تحقق: إحسان عباس، دار صادر - بيروت، ط/ الأولى ١٩٩٤ م.

(٥) معالم التنزيل، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي ١/ ٤٦، تحقيق: محمد النمر، وعثمان جمعة، وسليمان الحرش، دار طيبة، ط/ الرابعة، ١٤١٧ هـ- ١٩٩٧ م.

(٦) البرهان في علوم القرآن للزركشي ٢/ ١٥٠.

(٧) مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني ٢/ ٤٩.

(٨) التبيان في علوم القرآن للصابوني: ٧٨.

وعلم أصول الدين، وعلم أصول الفقه، وعلم القصص، وعلم الموهبة [١]، والأحاديث المبينة للتفسير، مثل أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ "[٢]."

نستنتج مما سبق بأن تفسير الدراية: هو تفسير القرآن وفقاً لقواعد صحيحة من اللغة، بحيث لا يخالف نصاً من الرواية الصحيحة، ولا أصلاً من الأصول الشرعية، وعليه فإن تفسير الدراية يشمل عدة اتجاهات، سأذكر بعضها في المطلب التالي مع التركيز على التفسير البلاغي، وأهميته؛ لأن موضوعنا في هذه الدراسة متعلق به، كونها ستتناول الجملة القرآنية من ناحية التأسيس والتأكيد، وأثر ذلك على معنى الآية القرآنية.

وقد اختلف العلماء في جواز التفسير بالدراية إلى قولين:

الأول: عدم جواز تعاطي تفسير شيء من القرآن، وإن كان عالماً أديباً متسعاً في معرفة الأدلة، والفقه، والنحو، والأخبار، والآثار، وليس له أن ينتهي إلا إلى ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو إلى صحابته الآخذين عنه، ومن أخذ عنهم من التابعين.

الثاني: جواز تفسير القرآن بالدراية، ولكن بشروط كما سيأتي.

فمن ذهب إلى عدم جواز التفسير بالرأي استدل بالآتي:

عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ" [٣].

وفي رواية أخرى: "ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار" [٤].

ما روي عن بعض الصحابة، وبعض التابعين من التحرج في تفسير القرآن، فمن ذلك ما ورد عن أبي بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه- أنه سُئِلَ عن تفسير حرف من القرآن فقال: "أي سماء تظلني؟ وأي أرض تقلني؟ وأين أذهب؟ وكيف أصنع إذا قلت في حرف من كتاب الله بغير ما أراد الله؟ ! وفي رواية:" إذا قلت في كتاب الله بما لا أعلم "[٥]."

ما ورد عن عدد من التابعين التمنع من التفسير بالرأي [٦].

(١) الموهبة: غديرُ ماءٍ صغيرٌ وقيل نُقْرة في الجبل يستَنقِع فيها الماءُ، وتطلق على العطيَّةُ والهبة، انظر: ... لسان العرب ١/ ٨٠٣. والمراد بالموهبة هنا من أعطاه الله ملكة يتذوق بها الألفاظ والمعاني فيفسرها.

(٢) علوم القرآن الكريم لنور الدين عترة ص ٧٥.

(٣) سنن الترمذي، محمد بن عيسى الترمذي السلمي ٥/ ٢٠٠، باب: الذي يفسر القرآن برأيه، تحقيق: أحمد محمد شاكر، دار إحياء التراث العربي- بيروت، وسنن أبي داود، سليمان بن الأشعث السجستاني ٣/ ٢٥٨، باب: الكلام في كتاب الله بغير علم، دار الكتاب العربي- بيروت، (بدون) .

(٤) رواه الترمذي ٥/ ١٩٩، وقال: حديث حسن، قال الألباني: وفيه نظر، ففي سنده عبد الأعلى أبو عامر الثعلبي فقد أورده الذهبي في "الضعفاء" ، وقال: "ضعفه أحمد وأبو زرعة" ، وقال الحافظ في التقريب: "صدوق، يهم" ، وفي سند الترمذي سفيان بن وكيع، لكنه قد توبع من جماعة، ولذلك قال المناوي: "رمز المصنف لحسنه، اغتراراً بالترمذي، قال ابن القطان: ينبغي أن يضعف، إذ فيه سفيان بن وكيع، وقال أبو زرعة: متهم بالكذب، انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، محمد ناصر الدين بن الحاج نوح الألباني ٤/ ٢٦٥، دار المعارف- الرياض، ط/الأولى ١٤١٢ هـ- ١٩٩٢ م، وأخرجه أحمد بن حنبل أبو عبدالله الشيباني في المسند ١/ ٢٦٩ و ٢٩٣، وأخرجه أبو يعلى في مسنده، أحمد بن علي بن المثنى أبو يعلى الموصلي التميمي ٢/ ١٢٦، تحقيق: حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث - دمشق، ط/ الأولى ١٤٠٤ هـ - ١٩٨٤ م."

(٥) المصنف في الأحاديث والآثار، أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي، باب: من كره أن يفسر القرآن ٦/ ١٢٦، تحقيق كمال يوسف الحوت، مكتبة الرشد- الرياض، ط/ الأولى ١٤٠٩ هـ.

(٦) منهم:

أ- سعيد بن المسيب وقد كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن قال: "أنا لا أقول في القرآن شيئا" ، وكان سعيد إذا سئل عن الحلال والحرام تكلم، وإذا سئل عن تفسير آية من القرآن سكت، وكأن لم يسمع شيئا. انظر: فضائل القرآن للقاسم بن سلام، أبو عُبيد القاسم بن سلاّم البغدادي ٢/ ٢٥٧، تحقيق: مروان العطية - محسن خرابة - وفاء تقي الدين، دار ابن كثير- دمشق، ط/ ١٤٢٠ هـ.

ب- الإمام الشعبي قال: (ثلاث لا أقول فيهن حتى أموت) : القرآن والروح والرؤى، انظر: جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جرير، أبو جعفر الطبري ١/ ٨٧، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، ط/ الأولى ١٤٢٠ هـ - ٢٠٠٠ م.

ج- محمد بن سيرين قال: سألت عبيدة: يعني السلماني عن آية من القرآن فقال: "ذهب الذين كانوا يعلمون فيما أنزل القرآن، فاتق الله وعليك بالسداد" ، انظر: مصنف ابن أبي شيبة ٧/ ١٧٩.

د- ما روي عن مسروق: أنه قال: "اتقوا التفسير فإنما هو الرواية عن الله" ، انظر: مجموع الفتاوى، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني ٢/ ٣٢٠، تحقيق: أنور الباز- عامر الجزار، دار الوفاء، ط/ الثالثة ١٤٢٦ هـ / ٢٠٠٥ م.

وقد ناقش المجيزون للتفسير بالرأي هذه الأدلة فقالوا:

أما الحديث: ففي صحته وثبوته نظر؛ فقد قال الترمذي [١] بعد أن رواه: هكذا رُوِي عن بعض أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وغيرهم أنهم شددوا في أن يُفَسرَ القرآنُ بغير علم، وأما الذي روي عن مجاهد وقتادة [٢] وغيرهما من أهل العلم أنهم فسروا القرآن فليس الظن بهم أنهم قالوا في القرآن أو فسروه بغير علم، أو من قبل أنفسهم، وقد رُوِي عنهم ما يدل على ما قلنا - أنهم لم يقولوا من قبل أنفسهم بغير علم - وقد تكلم بعض أهل الحديث في سهيل بن أبي حزم [٣] "[٤]."

وقد ذكر الإمام السيوطي التفسير بالرأي المحرم بقوله: "وجملة ما تحصل في معنى حديث التفسير بالرأي خمسة أقوال:"

أحدها: التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها التفسير.

الثاني: تفسير المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله.

الثالث: التفسير المقَرِر للمذهب الفاسد بأن يجعل المذهب أصلا والتفسير تابعاً.

الرابع: التفسير بأن مراد الله كذا على القطع من غير دليل.

الخامس: التفسير بالاستحسان والهوى "[٥]."

(١) هو محمد بن عيسى بن سورة بن موسى السلمي الحافظ أبو عيسى الترمذي الضرير مصنف الكتاب الجامع، ولد سنة بضع ومائتين، أخذ علم الحديث عن أبي عبد الله البخاري، وروى عنه حماد بن شاكر وآخرون، وكان ممن جمع وصنف وحفظ وذاكر، توفي ثالث عشر رجب بترمذ سنة تسع وسبعين ومائتين وقيل: خمس وسبعين، انظر: الوافي بالوفيات ٢/ ٥٤، وفيات الأعيان ٤/ ٢٧٨.

(٢) هو قتادة بن دعامة بن قتادة بن عزيز البصري، حافظ العصر، قدوة المفسرين والمحدثين أبو الخطاب السدوسي البصري الضرير الأكمه، مات بواسط في الطاعون، سنة ثماني عشرة ومائة للهجرة، انظر: سير أعلام النبلاء ٥/ ٢٦٩.

(٣) هو سهيل بن أبي حزم القطيعي ضعيف، و "قد ضعفه الجمهور، قال ابن حبان: يتفرد عن الثقات بما لا يشبه حديث الأثبات" ، انظر: المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين، محمد بن حبان ابن أحمد بن أبي حاتم التميمي البستي ١/ ٣٩٠، تحقيق: محمود إبراهيم زايد، دار الوعي- حلب، ط/الأولى ١٣٩٦ هـ.

(٤) سنن الترمذي ٥/ ٢٠، تحقيق: أحمد شاكر، ومذيل بحكم الألباني على الأحاديث، دار الكتاب العربي- بيروت، (بدون) .

(٥) الإتقان في علوم القرآن لجلال الدين السيوطي ص ٢٢٠، بتصرف.

وعليه فإن التفسير المذموم المردود هو التفسير بالرأي المحرم الذي ذكره الإمام السيوطي، وهذا النوع من التفسير كثيراً ما يشتمل على المرويات الواهية، والباطلة، و "أما التفسير المقبول فهو التفسير المبني على المعرفة بالعلوم اللغوية، والقواعد الشرعية، والأصولية، وعلم السنن، والأحاديث، ولا يعارض نقلا صحيحاً، ولا عقلا سليماً، ولا علماً يقيناً ثابتاً مستقراً، مع بذل غاية الوسع في البحث، والاجتهاد والمبالغة في تحري الحق والصواب، وتجريد النفس من الهوى" [١]، وهو الحق وعليه أكثر السلف [٢]؛ لأن ما كان مخالفاً لنص من الكتاب أو السنة فهو فاسد الاعتبار، كما أن ما كان متكلفاً غير مبنى على الاجتهاد المستكمل للشروط يُعد عبثاً.

واختلف العلماء في تسمية التفسير بالرأي، هل يسمى تفسيراً أم يسمى تأويلاً [٣]؟

والذي رجحه الزركشي أن هناك فرقاً بين التأويل والتفسير وأنهما ليسا بمعنى واحد، فقال: "ثم قيل التفسير والتأويل واحد بحسب عرف الاستعمال والصحيح تغايرهما" [٤].

وقال في موضع آخر: "وكأن السبب في اصطلاح بعضهم على التفرقة بين التفسير والتأويل التمييز بين المنقول والمستنبط ليحمل على الاعتماد في المنقول وعلى النظر في المستنبط تجويزاً له وازدياداً" [٥].

وقال محمد حسين الذهبي: "والذي تميل إليه النفس أن التفسير ما كان راجعاً إلى الرواية، والتأويل ما كان راجعاً إلى الدراية؛ وذلك لأن التفسير معناه الكشف والبيان عن مراد الله تعالى لا يجزم به إلا إذا ورد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو عن بعض أصحابه الذين شهدوا نزول الوحي، وعلموا ما أحاط به من حوادث ووقائع وخالطوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورجعوا إليه فيما أشكل عليهم من معاني القرآن الكريم."

(١) الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير، د/ محمد بن محمد أبو شهبة ص ٩٨، مكتبة السنة، ط/ الرابعة ١٤٠٨ هـ، بتصرف يسير.

(٢) منهم كثير من الصحابة رضي الله عنهم كالإمام علي، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي بن كعب وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأنس، وأبي هريرة، وغيرهم، فلولا أن تفسير القرآن جائز لمن تأهل له لما فعلوه، لأنهم كانوا أشد الناس ورعا، وتقوى، ووقوفا عند حدود الله، كما ورد تفسير القرآن عن كثير من خيار التابعين، كسعيد بن جبير، ومجاهد بن جبر، وعكرمة، وقتادة والحسن البصري، ومسروق، والشعبي، وغيرهم، مما يدل على أن من امتنع منهم من تفسير القرآن إنما كان زيادة احتياط، ومبالغة في التورع، انظر: أبجد العلوم الوشي المرقوم لصديق بن حسن القنوجي ٢/ ١٤١، تحقيق: عبد الجبار زكار، دار الكتب العلمية - بيروت، ١٩٧٨ م.

(٣) قال صديق حسن خان: واختلف في التفسير والتأويل فقال أبو عبيد وطائفة: هما بمعنى وقد أنكر ذلك قوم، وقال الراغب: التفسير أعم من التأويل، وأكثر استعماله في الألفاظ ومفرداتها، وأكثر استعمال التأويل في المعاني والجمل، وقيل: التفسير: بيان لفظ لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا، والتأويل: توجيهُ لفظ متوجهٍ إلى معانٍ مختلفة إلى واحد منها بما ظهر من الأدلة، وقال الماتريدي: التفسير: القطعُ على أن المرادَ من اللفظ هذا، والشهادةُ على الله سبحانه وتعالى أنه عنَى باللَّفظِ هذا، والتأويل: ترجيح أحد المحتملات بدون القطع، وقال أبو طالب الثعلبي: التأويلُ: إخبارٌ عن حقيقةِ المرادِ، والتفسيرُ إخبارٌ عن دليلِ المرادِ، وقال البغوي: التفسير بالرأي: هو صرف الآيةِ إلى معنى موافقٍ لما قبلها وبعدها، تحتملُه الآية، غيرِ مخالف للكتابِ والسنةِ، من طريقِ الاستنباطِ. انظر: أبجد العلوم ٢/ ١٤١، ١٤٢.

(٤) البرهان في علوم القرآن للزركشي ٢/ ١٤٩.

(٥) المصدر نفسه ٢/ ١٧٢.

وأما التأويل فملحوظ فيه ترجيح أحد محتملات اللفظ بالدليل، والترجيح يعتمد على الاجتهاد، ويتوصل إليه بمعرفة مفردات الألفاظ ومدلولاتها في لغة العرب واستنباط المعاني من كل ذلك "[١]."

والذي يراه الباحث هو ما رجحه الأكثر [٢] أن التفسير مغاير للتأويل، وأن تفسير الدراية "الرأي" هو التأويل؛ وذلك ليحصل التمييز في التفسير بالمأثور، والاجتهاد في التفسير بالرأي، ويكون الاعتماد على التفسير بالمأثور، والنظر في المستنبط، ثم إن التفسير بالمأثور مقدم على التفسير بالرأي عند التعارض، بل يعد التفسير بالرأي في مقابل النص فاسد الاعتبار، ولا مشاحة في الاصطلاح إذا عرف المعنى، ومن أهم كتب التفسير بالرأي:

أ- أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي [٣].

ب- مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي [٤].

ج- لباب التأويل في معاني التنزيل للعلامة علاء الدين البغدادي الملقب بالخازن [٥].

د- البحر المحيط لأبي حيان محمد بن يوسف الأندلسي.

- التفسير الإشاري

هو تفسير القرآن بغير ظاهره لإشارة تظهر لأرباب الصفاء، مع عدم إبطال الظاهر، قال الزرقاني: "التفسير الإشاري: هو تأويل القرآن بغيرظاهره لإشارة خفية تظهر لأرباب السلوك والتصوف ويمكن الجمع بينها وبين الظاهرالمراد أيضا" [٦].

وقال الصابوني: "التفسيرالإشاري: هو تأويل القرآن على خلاف ظاهره، لإشارات خفية تظهر لبعض أولي العلم، أوتظهر للعارفين بالله من أرباب السلوك والمجاهدة للنفس، ممن نور الله بصائرهمفأدركوا أسرار القرآن العظيم، أو انقدحت في أذهانهم بعض المعاني الدقيقة، بواسطةالإلهام الإلهي أو الفتح الرباني، مع إمكان الجمع بينهما وبين الظاهر المراد من الآيات الكريمة" [٧] ..

(١) التفسير والمفسرون ١/ ١٦.

(٢) منهم: الحسين بن مسعود البغوي في معالم التنزيل ١/ ٤٦، والزركشي ٢/ ١٤٩، والأصفهاني في مفردات القرآن ٢/ ١٩٢، ومحمد الذهبي في التفسير والمفسرون ١/ ١٦.

(٣) - هو قاضي القضاة أبو الخير عبد الله بن عمر بن محمد بن علي البيضاوي الشافعي، من بلاد فارس صاحب المصنفات وعالم أذربجان، ولي قضاء شيراز، وكان إماماً بارعاً مصنفاً، فريد عصره، ووحيد دهر، أثنى على علمه وفضله غير واحد، من مصنفاته: أنوار التنزيل وأسرار التأويل في التفسير، توفى سنة إحدى وتسعين وستمائة، وقيل: خمس وثمانين، انظر: طبقات المفسرين للسبكي ٨/ ١٥٥، والمنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي ٢/ ٨٣.

(٤) - هو أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي الحنفي أحد الزهاد والأئمة المعتبرين، وصاحب التصانيف المعتبرة في الفقه، والأصول، وغيرهما، منها: مدارك التنزيل في تفسير القرآن، وكنز الدقائق، توفى سنة إحدى وسبعمائة، انظر: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة ١/ ١٦٨.

(٥) - هو العلامة علاء الدين أبو الحسن علي بن محمد بن إبراهيم الشيحي البغدادي الشافعي عرف بالخازن، ولد في بغداد سنة ثمان وسبعين وستمائة، سمع من علمائها ثم انتقل إلى دمشق واستقر بها متعلماً ثم معلماً ومات بها سنة إحدى وأربعين وسبعمائة. انظر: الوافي بالوفيات ١/ ٣٤.

(٦) مناهل العرفان للزرقاني ٢/ ٥٦

(٧) التبيان في علوم القرآن للصابوني ص ١٩١

وقد عرف التفسير الصوفي بالتفسير الإشاري، ويتمثل على زعمهم في أن يرى المفسر معنى آخر غير المعنى الظاهر، ربما تحتمله الآية الكريمة ولكنه لا يظهر للعامة من الناس، وإنما يظهر لخاصتهم ومن فتح الله قلبه وأنار بصيرته وسلكه ضمن عباده الصالحين، الذين منحهم الله الفهم والإدراك، وهذا النوع من العلم ليس من العلم الكسبى الذي ينال بالبحث والمذاكرة وإنما هو من العلم الوهبى الذي هو أثر التقى والاستقامة والصلاح، كما قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: ٢٨٢] .

والتفسير الصوفي يعتمد أساسا على أن للقرآن ظاهرا وباطنا، ويقصد بالظاهر الشريعة وبالباطن الحقيقة، وعلم الشريعة علم المجاهدة، وعلم الحقيقة علم الهداية، وعلم الشريعة علم الآداب وعلم الحقيقة علم الأحوال، وعلم الشريعة يعلمه علماء الشريعة وعلم الحقيقة يعلمه العلماء بالله، يقول السلمى في مقدمة تفسيره عن الباعث لإقدامه على كتابة تفسير القرآن: "لما رأيت المتوسمين بعلوم الظاهر قد سبقوا في أنواع فرائد القرآن، من قراءات وتفاسير ومشكلات وأحكام وإعراب ولغة ومجمل ومفصل وناسخ ومنسوخ، ولم يشتغل أحد منهم بفهم الخطاب على لسان أهل الحقيقة إلا آيات متفرقة، أحببت أن أجمع حروفا أستحسنها من ذلك وأضم أقوال مشايخ أهل الحقيقة إلى ذلك وأرتبه على السور حسب وسعى وطاقتى [١]."

ويقول سهل بن عبد الله التسترى في تفسيره، وهو أول ما ظهر للصوفية من تفسير للقرآن: "ما من آية في القرآن إلا ولها أربعة معان، ظاهر وباطن وحد ومطلع، فالظاهر التلاوة، والباطن الفهم والحد حلالها وحرامها والمطلع إشراف القلب على المراد بها فقها من الله عز وجل، فالعلم الظاهر علم عام، والفهم لباطنه والمراد به خاص" [٢].

وقد ظهر أيضا تفسير ثالث لعبد الكريم القشيرى سلك فيه مسلك الصوفية في إدراك الإشارات التي يراها الصوفي خلف آيات القرآن، وسماه لطائف الإشارات، قال عن الباعث لتأليفه: "وكتابنا هذا يأتى على طرف من إشارات القرآن على لسان أهل المعرفة إما من معاني قولهم أو قضايا أصولهم، سلكنا فيه طريق الإقلال خشية الملال مستمدين من الله تعالى عوائد المنة، متبرئين من الحول والمنة مستعصمين من الخطأ والخلل، مستوثقين لأصوب القول والعمل [٣]."

ولم يظهر في تاريخ التفسير الإشاري حتى القرن الخامس، أهم من حقائق التفسير للسلمى، ولطائف الإشارات للقشيري وإن كان القشيري قد استفاد من السلمى فائدة كبرى واقتبس منه كثيرا من آرائه [٤].

وقد ظهر تفسير القرآن المنسوب لابن عربي، ولكنه في الحقيقة للكاشاني السمرقندي، ويعد هذا التفسير أهم تفسير إشارى بعد اللطائف، قال مؤلفه في مقدمته: "ما نزل من القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن، ولكل حرف حد ومطلع، فالظهر هو التفسير، والبطن هو التأويل، والحد"

(١) تفسير القران الكريم على الطريقة الصوفية، دراسة وتحقيق حقائق التفسير لأبي عبدالرحمن بن محمد بن الحسين الأزدي السلمي، رسالة ماجستير، سلمان نصيف جاسم التكريتي، مكتبة كلية دار العلوم، جامعة القاهرة، ١٩٧٥: ٢٢.

(٢) تفسير القران العظيم، سهل بن عبدالله، مطبعة السعادة، ١٩٠٨: ٦١.

(٣) لطائف الإشارات، القشيري، تحقيق: د. ابراهيم بسيوني، طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط ٣، القاهرة، ١٩٨١: ١/ ٤١.

(٤) تاريخ أدبيات در ايران، ذبيح الله صفا، ط ٣، ١٣٣٩ هـ: ٢/ ٢٥٧.

هو ما تتناهي إليه الفهوم من معنى الكلام، والمطلع ما يصعد إليه منه فيطلع على شهود الملك العلام "[١]."

ويمكن القول باستقراء التفسيرات الصوفية السابقة أن السمة الغالبة في التفسير الإشاري لدى الصوفية تتمثل فيما يأتي:

١ - أن للقرآن ظاهرا وباطنا، وأن الظاهر للعوام والباطن لا يدركه إلا الخواص وإدراك الخواص مستمد من فيض إلهي ينير بصائرهم، ويكشف لهم على زعمهم عن معارف لدنية مباشرة.

٢ - أن العلم بالقرآن على هذا النحو يفترق عن العلوم القرآنية الأخرى في بدايته وفى طرائقه وفي غاياته، فضلا عن أنه يفترق عن سائر العلوم بضرورة العمل، فالعالم لابد أن يكون عاملا وعمله هو جهاده ورياضاته التي تؤدى إلى صقل إرادته وشحذ همته وتنقية مرآته الباطنية من كل شائبة، فالتفسير عموما ليس تفسيرا مباشرا، بل يسلك تزكية النفوس وتطهير القلوب والحث على التحلى بالأخلاق الفاضلة.

٣ - أن التفسير الإشاري وإن كان يعتمد على ما وراء العبارة الظاهرية إلا أنه لم تخل من بعض ما نقل من الآثار على النحو المذكور في التفسير بالمأثور أو التفسير بالرأي بالطريقة الاستنباطية، أو تفسيرات تعتمد على معاني الألفاظ والتفسيرات البلاغية.

٤ - تتعرض هذه التفسيرات لكثير من المعاني والمصطلحات الصوفية التي تكشف عن طريقتهم وتجربتهم، لا سيما أنهم يوجهون الآيات كشواهد لهذه الرموز والمصطلحات.

٥ - ومع ما فيها من معاني تقبل بصعوبة، أو يلتمس لها وجها تحمل عليه بمشقة.

٦ - لم تسلم هذه التفسيرات من الإسرائيليات، والاستشهاد بغير القرآن والسنة، ولم تتبع الدقة في تحري ثبوت الحديث، أو مراعاة التعليق على الأسانيد، وكذلك لم تخل من فكر باطني [٢].

وقد استدل الصوفية بكثير من الآيات القرآنية العامة، التي تدعو إلى التدبر وفهم كتاب الله بالتأمل وحسن الاستماع، كقوله تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة: ١ - ٣] ، وكقوله: {فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: ٧٨] ، والمعنى لا يفهمون عن الله مراده من الخطاب، ولم يرد أنهم لا يفهمون نفس الكلام وكقوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: ٢٤] ، حيث دل على أن ظاهر المعنى شيء وهم عارفون به لأنهم عرب، والمراد هو شيء آخر وهو الذي لا شك فيه أنه من عند الله، والتدبر إنما يكون لمن التفت إلى المقاصد، وذلك ظاهر في أنهم أعرضوا عن مقاصد القرآن، فلم يحصل منهم تدبر، وكقوله تعالى: [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: ٣٧] ، وقال أبو سعيد الخراز: "أول الفهم لكتاب الله عز وجل العمل به، لأن فيه العلم والفهم والاستنباط، وأول الفهم إلقاء السمع والمشاهدة لقوله عز وجل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: ٣٧] " [٣].

(١) تفسير ابن عربي: ٤/ ١، وانظر تحقيق نسبته في: تفسير المنار: ١/ ١٨، ومحي الدين بن عربي مفسرا، حامد محمود الزفري، رسالة دكتوراه بمكتبة كلية أصول الدين جامعة الأزهر، القاهرة، سنة ١٩٧٢: ص ١٧٤.

(٢) انظر: الموافقات: ٣/ ٤٠٣.

(٣) اللمع في التصوغ، سراج الطوسي: ١١٣.

ويواصل السراج الطوسي استدلاله على التفسير الإشاري فيقول: "وقال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: ١٨] ، فالقرآن كله حسن ومعنى اتباع الأحسن، ما يكشف للقلوب من العجائب عند الاستماع وإلقاء السمع من طريق الفهم والاستنباط" [١].

ومن السنة يستدلون بقوله: "لكل آية ظهر وبطن ولكل حرف حد ومطلع" [٢]، فلفظ الظاهر والباطن على زعمهم قرآنيان، ولا يمكن الاعتراض على الفكرة القائلة بأن في القرآن ناحية واضحة تدرك في ضوء الاشتقاق، وأن به ناحية أخرى ربما كانت أخفق وأعمق بالنسبة للأولى، لأن هذه الفكرة يمكن أن تطبق في الواقع على أي نص فكل نص له ناحية قريبة مباشرة تدرك بلا عناء، وناحية أخرى تحتاج إلى عمل وجهد في استيعابها وفهمها، كما لا يمكننا أن ننكر أن الحقيقة الإنسانية الثابتة تشير إلى عدم تساوي الناس في الفهم والإدراك، وقد ظهرت تلك الحقيقة في حياة الرسول وصحابته رضي الله عنهم الذين تفاوتت أقدارهم في سرعة ومدى فهمهم للقرآن، وهذا يفسر ما أثر عنهم من تفسيرات مختلفة [٣].

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: "كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فقال بعضهم: لم تدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال: إنه ممن قد علمتم قال: فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم، قال: وما أريته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني، فقال: ما تقولون في: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر: ٢ - ١] ، حتى ختم السورة؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وقال بعضهم: لا ندري أو لم يقل بعضهم شيئا، فقال لي: يا ابن عباس أكذاك تقول؟ قلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله أعلمه الله له: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: ١] ، فتح مكة، فذاك علامة أجلك: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: ٤ - ٣] ، قال عمر رضي الله عنه: ما أعلم منها إلا ما تعلم" [٤].

والشاهد هنا أن ابن عباس رضي الله عنه فهم من خطاب الله معنى خفيا وراء ظاهر الألفاظ لم يدركه عامة الصحابة في مجلسهم، وهذا يشبه عمل الصوفية في التفسير الإشاري.

ومثله أيضا ما روى عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله جلس على المنبر فقال: "إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عنده، فبكى أبو بكر وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فعجبنا له وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده، وهو يقول فديناك بآبائنا وأمهاتنا فكان رسول الله هو المخير، وكان أبو بكر هو أعلمنا به."

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذا خليلا من أمتي لاتخذت أبا بكر إلا خلة الإسلام، لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر" [٥].

(١) اللمع في التصوف، سراج الطوسي: ١١٣.

(٢) لا أصل له ولم أجده في كتب السنة مرفوعا إلى النبي، ولكنه أثر موقوف على عبدالله بن مسعود، ولفظه: "إن القرآن ليس منه حرف إلا له حد، ولكل حد مطلع" . انظر: معجم الطبراني الكبير: رقم (٨٦٦٧) (٩/ ١٣٦.

(٣) انظر: التصوف طريقا وتجربة ومذهبا، محمد كمال جعفر: ١٥٧.

(٤) رواه البخاري (٤٢٩٤) .

(٥) رواه البخاري (٣٩٠٤) ، ومسلم (٢٣٨٢) .

فأبو بكر الصديق فهم بطريق الإشارة ما لم يفهمه عامة الصحابة وأسعد بذلك رسول الله وكان الأمر كما قال.

وعن عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَرِهَ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ نَسْخَ الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أُعْزَلُ عَنْ نَسْخِ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ وَيَتوَلاهَا رَجُلٌ وَاللَّهِ لَقَدْ أَسْلَمْتُ وَإِنَّهُ لَفِي صُلْبِ رَجُلٍ كَافِرٍ، يُرِيدُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: يَا أهل الْعِرَاقِ اكْتُمُوا الْمَصَاحِفَ الَّتِي عِنْدَكُمْ وَغُلُّوهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: ١٦١] ، فَالْقُوا اللهَ بِالْمَصَاحِفِ [١].

فالغلول، وهو إخفاء الغنائم طمعا قبل تقسيمها فعل المجرمين، وظاهر الآية ورد في عقابهم وفضحهم يوم القيامة، وقد استخدمها ابن مسعود رضي الله عنه بطريق الإشارة فيمن غل القرآن وأخفاه، ويرد عليهم بأن الصحابة انكروا عليه ذلك، فقَالَ الزُّهْرِيُّ: "فَبَلَغَنِي أَنَّ ذَلِكَ كَرِهَهُ مِنْ مَقالَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رِجَالٌ مِنْ أَفَاضِلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ" [٢].

وقداختلف العلماء في التفسير الإشاري، وتباينت فيه أراؤهم فمنهم من أجازه ومنهم من منعه، ومنهم من عده من كمال الإيمان ومحض العرفان، ومنهم من اعتبره زيغا وضلالا وانحرافا عن دين الله تبارك وتعالى، والواقع أن الموضوع دقيق يحتاج إلى بصيرة وروية ونظرة إلى أعماق الحقيقة ليظهر ما إذا كان الغرض من هذا النوع من التفسير هو اتباع الهوى والتلاعب في آيات الله كما فعل الباطنية والشيعة، فيكون ذلك من قبيل الزندقة والإلحاد، أو الغرض منه الإشارة إلى أن كلام الله تعالى يعز أن يحيط به بشر إحاطة تامة، وأن كلامه تعالى وضعت فيه مفاهيم وأسرار ودقائق وعجائب لا تنقضى على مدار الأزمان، ويتوالى إعجازه مرة بعد أخرى، فيكون ذلك من محض العرفان وكمال الإيمان، كما نسب السيوطي إلى ابن عباس رضى الله عنهما: "إن القرآن ذو شجون وفنون وظهور وبطون، لا تنقضى عجائبه ولا تبلغ غايته، فمن أوغل فيه برفق نجا ومن أوغل فيه بعنف هوى، أخبار وأمثال وحلال وحرام، وناسخ ومنسوخ، ومحكم ومتشابه، وظهر وبطن، فظهره التلاوة، وبطنه التأويل، فجالسوا به العلماء وجانبوا به السفهاء" [٣].

ويمكن أن نعرض أهم آراء العلماء التي نسترشد بها في تحديد شروط قبول التفسير الإشاري فمن ذلك:
 

١ - رأى ابن الصلاح

ينقل ابن الصلاح عن الإمام أبي الحسن الواحدى المفسر أنه قال: "صنف أبو عبد الرحمن السلمى حقائق التفسير، فإن كان قد اعتقد أن هذا تفسير فقد كفر) ثم يعقب على ذلك بقوله: (وأنا أقول: الظن بمن يوثق به منهم أنه إذا قال شيء من أمثال ذلك أنه لم يذكره تفسيرا ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة المذكورة من القرآن العظيم، فإنه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسلك الباطنية، وإنما ذلك ذكر منهم لنظير ما ورد به القرآن فإن النظير يذكر بالنظير ومن ذلك، قتال النفس في الآية المذكورة في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ"

(١) انظر: الفكر السياسي عند الباطنية وموقق الغزالي منه، احمد عرفات، رسالة ماجستير، كلية دار العلوم، جامعة القاهرة، ١٩٨٨: ٢١٧.

(٢) المعجم الصوفي، محمود عبدالرزاق: ١/ ١٢٠ - ١٢٣.

(٣) الاتقان في علوم القرآن: ٢/ ١٨٥.

الْكُفَّارِ [التوبة: ١٢٣] فكأنه قال: أمرنا بقتال النفس ومن يلينا من الكفار ومع ذلك فياليتهم لم يتساهلوا في مثل ذلك لما فيه من الإلهام والإلباس "[١]."


٢ - رأى الشاطبى

يقسم الشاطبى الاعتبارات القرآنية الواردة على القلوب الطاهرة وأصحاب البصائر إذا صحت على كمال شروطها على ضربين:

أ- ما يكون أصل انفجاره من القرآن ويتبعه سائر الموجودات، فإن الاعتبار الصحيح في الجملة هو الذي يخرق من البصيرة في حجب الأكوان من غير توقف، فإن توقف فهو غير صحيح حسبما بينه أهل التحقيق بالسلوك.

ب- ما يكون انفجاره من الموجودات كليا أو جزئيا ويتبعه الاعتبار في القرآن.

فإن كان الأول فهذا الاعتبار صحيح وهو معتمد على فهم باطن القرآن من غير إشكال، وإن كان الثاني فالتوقف على اعتباره في فهم باطن القرآن لازم وأخذه على إطلاقه ممتنع لأنه بخلاف الأول [٢].

٣ - رأى تاج الدين بن عطاء الله

ويعدّ ابن عطاء الله تفسير الصوفية لكلام الله ورسوله بالمعاني الغريبة، ليس إحالة للظاهر عن ظاهره، ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جلبت الآية له ودلت عليه في عرف اللسان، وثمة أفهام باطنة تفهم عند الآية والحديث لمن فتح الله قلبه، وقد جاء في الحديث لكل آية ظهر وبطن، فلا يصدنك عن تلقى هذه المعاني منهم أن يقول لك ذو جدل ومعارضة هذا إحالة لكلام الله ورسوله، فليس ذلك بإحالة وإنما يكون إحالة لو قالوا: لا معنى للآية إلا هذا وهم لم يقولوا ذلك بل يقرون بالظواهر على ظواهرها مرادا بها موضوعاتها ويفهمون عن الله ما أفهمهم [٣].

٤ - رأى حاجى خليفة

يرى حاجى خليفة أن التصوف علم كيفية رقي أهل الكمال من النوع الانساني في مدارج سعادتهم، والأمور العارضة لهم في درجاتهم، بقدر الطاقة البشرية، وأما التعبير عن هذه الدرجات والمقامات كما هو حقه، فغير ممكن لأن العبارات إنما وضعت للمعاني التي وصل إليها فهم أهل اللغات، وأما المعاني التي لا يصل إليها إلا غائب عن ذاته فضلا عن قوى بدنه، فليس يمكن أن يوضع لها ألفاظ، فضلا عن أن يعبر عنه بألفاظ، فكما أن المعقولات لا تدرك بالأوهام والموهومات، لا تدرك بالخياليات، والتخيلات لا تدرك بالحواس، كذلك ما من شأنه أن يعاين بعين اليقين لا يمكن أن يدرك بعلم اليقين، فالواجب على من يرد ذلك أن يجتهد في الوصول إليه، بالعين دون أن يطلبه بالبيان والعقل [٤].

٥ - رأى سعد الدين التفتازانى

في شرحه للعقائد النسفية وتحت قول النسفى: "النصوص على ظاهرها والعدول عنها إلى معان يدعها أهل الباطن إلحاد" علق سعد الدين التفتازانى بقوله: "سميت الملاحدة باطنية"

(١) الموافقات في أصول الشريعة، الشاطبي، المطبعة التجارية، بمصر: ٣/ ٢٧٢.

(٢) الموافقات: : ٣/ ٢٧٢.

(٣) الموافقات: ٣/ ٢٧٢.

(٤) كشف الظنون عن أسامي كتب الفنون، مصطفى بن عبدالله المشهور بحاجي خليفة، نشره المستشرق جوستاف فلويجل، طبعة مكتبة المثنى، بغداد: ١/ ٤١٣.

لادعائهم أن النصوص ليست على ظاهرها، بل لها معان باطنة لا يعرفها إلا المعلم وقصدهم في ذلك نفى الشريعة بالكلية، وأما ما يذهب إليه بعض المحققين بأن النصوص على ظاهرها، ومع ذلك فيها إشارات خفية إلى دقائق تكشف عن أرباب السلوك، يمكن التوفيق بينها وبين الظواهر المرادة، فهي من كمال الإيمان ومحض العرفان "[١]."

٦ - رأى محى الدين ابن عربي

يقول: "وكما كان أصل تنزيل الكتاب من الله على أنبيائه، كان تنزيلا للفهم على قلوب بعض المؤمنين، والأنبياء ما قالت على الله مالم يقل لها، ولا أخرجت ذلك من نفوسها ولا أفكارها، ولا تعملت فيها، بل جاءت من عند الله، قال تعالى: تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: ٤٢] وقال فيه: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت: ٤٢] ، وإذا كان الأصل المتكلم فيه من عند الله لا من فكر الإنسان ورؤيته، وعلماء الرسوم يعلمون ذلك، فينبغى أن يكون أهل الله العاملون به أحق بشرحه، وبيان ما أنزل الله فيه من علماء الرسوم فيكون شرحه أيضا تنزيلا من عند الله على قلوب أهل العلم كما كان الأصل" [٢].

٧ - رأي أبي حامد الغزالي

يقول الغزالي: "لا تظنن في ضرب الأمثال، فرصة منى في رفع الظواهر واعتقادا في إبطالها حتى أقول مثلا لم يكن مع موسى نعلان ولم يسمع الخطاب بقوله: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [طه: ١٢] ] حاشا لله فإن إبطال الظواهر رأي الباطنية الذين نظروا بعين عوراء إلى أحد العالمين، وجهلوا جهلا بالموازنة بينهما، فلم يفقهوا وجهه، كما أن إبطال الأسرار مذهب الحشوية، فالذى يجرد الظاهر حشوى، والذى يجرد الباطن باطنى، والذى يجمع بينهما كامل، بل أقول: موسى فهم من خلع النعلين اطرح الكونين، فامتثل الأمر ظاهرا بخلع النعلين وباطنا بخلع الكونين" [٣].

٨ - رأي الأستاذ محمد عبد العظيم الرزقانى

يرى الزرقانى "أن بعض الناس قد فتنوا بالإقبال على دراسة تلك الإشارات والخواطر، فدخل في روعهم أن الكتاب والسنة بل والإسلام كله ما هو إلا سوانح وواردات على هذا النحو من التأويلات والتوجيهات، وزعموا أن الأمر ما هو إلا تخييلات، وأن المطلوب منهم هو الشطح مع الخيال أينما شطح فلم يتقيدوا بتكاليف الشريعة، ولم يحترموا قوانين اللغة العربية في فهم أبلغ النصوص العربية، كتاب الله وسنة رسوله والأدهي من ذلك أنهم يتخيلون ويخيلون للناس أنهم هم أهل الحقيقة، الذين أدركوا الغاية واتصلوا بالله اتصالا أسقط عنهم التكليف، وسما بهم عن حضيض الأخذ بالأسباب ما دموا في زعمهم مع رب الأرباب، وهذا لعمر الله هو المصاب العظيم الذي عمل له الباطنية، كيما يهدموا التشريع من أصوله ويأتوا بنيانه من قواعده، فواجب النصح لإخواننا المسلمين يقتضينا أن نحذرهم الوقوع في هذه الشباك، ونشير عليهم أن ينفضوا من أمثال تلك التفاسير الإشارية الملتوية، لإنها كلها أذواق ومواجيد خارجة عن حدود الضبط والتقييد، وكثيرا ما يختلط فيها الخيال بالحقيقة والحق بالباطل فالأحرى بالفطن العاقل أن ينأى"

(١) العقائد النسفية وشرحها، سعدالدين التفتازاني: ١٤٣.

(٢) الفتوحات المكية: ١/ ٢٨٠.

(٣) مشكاة الأنوار، ابو حامد الغزالي، تحقيق: ابي العلاء عفيفي، الدار القومية، القاهرة، ١٩٦٤: ٣٣.

بنفسه عن هذه المزالق وأن يفر بدينه من هذه الشبهات، وأمامه في الكتاب والسنة وشروحهما على قوانين الشريعة واللغة رياض وجنات "[١]."


٩ - رأي الأستاذ محمد حسين الذهبي

يقرر الذهبي أن الأدلة مجتمعة تعطينا أن القرآن الكريم له ظهر وبطن، ظهر يفهمه كل من يعرف اللسان العربي، وبطن يفهمه أصحاب الموهبة وأرباب البصائر، غير أن المعاني الباطنية للقرآن، لا تقف عند الحد الذي تصل إليه مداركنا القاصرة بل هي أمر فوق ما نظن وأعظم مما نتصور [٢].

يقول: "أما المعنى الباطن فلا يقف على جريانه على اللسان وحده بل لا بد فيه مع ذلك إلى نور يقذفه الله تعالى في قلب الإنسان، يصير به نافذ البصيرة سليم التفكير، ومعنى هذا أن التفسير الباطن ليس أمرا خارجا عن مدلول اللفظ القرآنى" [٣]، ويقول أيضا: (أما الصوفية أهل الحقيقة وأصحاب الإشارة فقد اعترفوا بظاهر القرآن ولم يجحدوه كما اعترفوا بباطنه ولكنهم حين فسروا المعاني الباطنية خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، فبينما تجد لهم أفهاما مقبولة تجد لهم بجوارها أفهاما لا يمكن أن يقبلها العقل أو يرضى بها الشرع "[٤]."

والخلاصة في رأي الذهبي أن مثل هذه التفاسير الغريبة للقرآن مزلة قدم لمن يعرف مقاصد القوم، وليتهم احتفظوا بها عند أنفسهم ولم يذيعوها على الناس فيوقعهم في حيرة واختلاف، منهم من يأخذها على ظاهرها ويعتقد أن ذلك هو مراد الله من كلامه، وإذا عارضه ما ينقل في كتب التفسير على خلافها ربما كذب بها أو أشكل عليه ومنهم من يكذبها على الإطلاق ويرى أنها تقول على الله وبهتان، إذن ليتهم ما فعلوا ذلك، إذن لأراحونا من هذه الحيرة وأراحوا أنفسهم من كلام الناس فيهم وقذف البعض لهم بالكفر والإلحاد في آيات الله [٥].


١٠ - رأي الدكتور محمد كمال جعفر

ويرى الدكتور جعفر أنه يجب أن لا يغيب عن أذهاننا أنه من الطبيعي أن لا يقف الصوفي عند المعاني التقليدية في أي من القرآن أو السنة قولا وعملا، لأنه ليس كالفقيه أو العالم الذي يعتمد على النظر العقلى فحسب، لأن ذلك لا يشبع رغبته ولا يمد روحه بالزاد الضرورى، بل إنه يتعمق إلى معان وراء المعنى الظاهر المباشر، وإن لم يكن من الضرورى أن تكون هذه المعاني العميقة متناقضة مع تلك المعاني الظاهرية، ويشير الدكتور جعفر إلى نقطة هامة، وهي أن القرآن بالنسبة للصوفى يحمل حقيقتين متساويتين في الأهمية، فهو من جهة وحى تاريخى اتخذ وضعه في الزمان والمكان المحددين، وهو من جهة أخرى النبع الفياض الذي لا تنفد حقائقه الإلهية الصادرة عن الله جل جلاله، وهو لا متناه لأنه كلام الموجود الذي لا يتناهي، والمعاني الباطنية لكلماته غير متناهية كذلك أيضا [٦].

كما أن الصوفي المتأمل قد يصل إلى مرحلة يدرك فيها أعمق المعاني الروحية في القرآن، وهذه الفكرة في حد ذاتها بصرف النظر عن الاعتبارات الأخرى قد تثير صعوبات،

(١) مناهل العرفان في علوم القران، الزرقاني، طبعة عيسى البابي، ١٩٥٣: ١/ ٥٥٨.

(٢) التفسير والمفسرون، محمد حسين الذهبي، دارالكتب الحديثة: ٣/ ٢٢.

(٣) التفسير والمفسرون: ٣/ ٢٢.

(٤) التفسير والمفسرون: ٣/ ٢٢.

(٥) التفسير والمفسرون: ٣/ ٤٢.

(٦) التصوف طريقا وتجربة ومذهبا: ١٥٧.

بحيث أنها تؤدى إلى أن يكون تفسير القرآن مختلفا باختلاف الذوات المشتركة فيها أي أن يكون الموقف موقفا ذاتيا مما ينتج بدوره تفسيرات متعارضة ويؤدى إلى اضطرار كبير، ولكن الحقيقة أن الصوفية فعلا يرون أن تعدد التفسيرات أمر حتمى، لأن معاني القرآن لا نهائية وتتكشف لكل صوفى حسب طاقته الروحية وحسب فضل الله يؤتيه من يشاء، وليس في ذلك أي ضير ما دام هذا متصلا بالمعاني الكمالية التي لا تتجاوز حدود المعاني المباشرة المتفق عليها [١].

وقبل النظر والتعقيب على الآراء السابقة في التفسير الإشار لنستخلص منها ما يمكن أن نصل إليه في تقرير شروط التفسير الإشاري، تجدر الإشارة إلى رأي بعض المستشرقين الغربيين من قبيل المقارنة المؤثرة في توجيه الآراء إلى الأفضل، فنرى المستشرق نكلسون أستاذ مدرسة كمبردج الاستشراقية يصرح بأن التفسير الصوفي يشابه التفسير الشيعي وكلاهما عنده من التأويلات المغرضة التي تتلاعب بالنصوص، فيقول: "استطاع الصوفية متبعين في ذلك الشيعة، أن يبرهنوا بطريقة تأويل نصوص الكتاب والسنة تأويلا يلائم أغراضهم على أن كل آية بل كل كلمة من القرآن تخفى وراءها معنى باطنيا لا يكشفه الله إلا لخاصة العباد، الذين تشرق هذه المعاني في قلوبهم وفى أوقات وجدهم، واعتبروا أنفسهم خاصة أهل الله الذين منحهم الله أسرار علم الباطن المودعة في القرآن والحديث، وأنهم استعملوا في التعبير عن هذا العلم لغة الرمز والإشارة، التي لا يقوى على فهمها غيرهم من المسلمين" [٢]، وربما كان هذا الموقف للمستشرق نيكلسون بسبب ما أشارت إليه الباحثة صلى الله عليه وسلم أن المستشرقين في القرن التاسع عشر قد عرفوا المصادر الصوفية المتأخرة والتي لا تصور التصوف في مراحله الأولى.

فحكم نيكلسون على جميع الصوفية في تفسيرهم للقرآن بما رآه من الغلو في التفسير الإشاري عند المتأخرين، ولذا أدرك نيكلسون بعد ذلك استحالة وضع حكم منصف للتصوف قبل أن تعد مصادره الأولى إعدادا علميا دقيقا، وقد تولى هو زمام المبادرة في نشر المخطوطات وتحقيقها والتعليق عليها وترجمتها وتحليل مادتها [٣].

ويرى المستشرق جولد تسهير أن العمل بما روى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "من أراد علم الأولين والآخرين فليتثور القرآن" لا يحصل بمجرد تفسيره الظاهر، فالأمور كلها داخلة في أفعال الله عز وجل وصفاته، وهذه العلوم لا نهاية لها، وفى القرآن إشارة إلى مجامعها، وفيه رموز ودلالات لكل ما أشكل من ذلك على النظار، ومهمة التفسير هي استخراج كل ذلك العلم من الكتاب والتعمق في تفصيله، ووراء هذه المعاني الظاهرة يحتجب المعنى الباطن وتسكن أسرار القرآن التي ينبغى البحث عنها بتغلغل ونفاذ أعمق من ذلك، ولن يترتب على ذلك القضاء على ظاهر التفسير بل هو استكمال له ووصول إلى لبابه، وإذا كان التفسير الصوفي فيه تجاوز للتفسير المنقول المحدود في حرية لا توقفها قيود، ومع استخدام أمثلة بعيدة المدرك والمورد في الغالب في الكشف عن أفكار الورى إلا أن أثرت في

(١) من التراث الصوفي، سهل بن عبدالله التستري: ١٠٩.

(٢) التصوف الاسلامي وتاريخه: ٧٦.

(٣) الإتجاهات الحديثة في دراسة التصوف الاسلامي، محمد عبدالله الشرقاوي: ١٩ وما بعدها.

التغلغل إلى ما وراء المسموع والمنقول من المعاني المقصودة في كلام الله والمكنونة في حجبها والتي لا يعقلها إلا العالمون [١].

ويرى المستشرق هنرى كوربان أن المستمع للكلام الإلهي يحق له أن يفهم منه كل شيء، وفى أي حقل من المعرفة وفى أي درجة من العمق والخفاء شرط ألا يتجاوز فهم السامع، ولا يتعدى التفسير من محتوى الكلام ودلالاته الوصفية حقيقة ومجازا وكناية حيث أن علم الله عين ذاته ولا حد له وسع كل شيء علما [٢].

ويرى الدكتور محمد كمال جعفر أنه لا بد قبل تقرير شروط قبول التفسير الصوفي التنبه إلى أن التفسير الصوفي يرتبط بنوعية اعتقاد المفسر، ويمكن إجمال تفسيراتهم في نوعين [٣]:

أ- التفسير النظرى: وهو التفسير المبنى على نزعة فلسفية حيث تتوجه الآيات القرانية لديهم وفق نظرياتهم وتتفق مع تعاليمهم.

ب- التفسير الإشاري: هو تأويل آيات القرآن الكريم على خلاف ما يظهر منها بمقتضى إشارات خفية تظهر لأرباب السلوك ولا يمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة.

والفرق بين التفسير النظرى والتفسير الإشاري في أثرهما على تفسير القرآن أن التفسير النظرى يبنى على مقدمة علمية تنقدح في ذهن الصوفي أولا ثم ينزل القرآن عليها بعد ذلك، أما التفسير الإشاري فلا يرتكز على مقدمات علمية بل يرتكز على مجاهدات رياضية، يأخذ الصوفي نفسه بها حتى يصل إلى درجة إيمانية تنكشف له فيها من سبل العبارات هذه الإشارات، وتتوالى على قلبه تحليل الآيات من المعاني الربانية.

كما أن التفسير الصوفي النظرى يرى صاحبه أنه كل ما تحتمله الآية من معاني وليس وراءه معنى آخر يمكن أن تحمل عليه إلا هذا، على حسب طاقته أما التفسير الإشاري فلا يرى الصوفي أن كل ما يراد من الآية بل يرى أن هناك معنى آخر تحتمله الآية ويراد منها أولا وقبل كل شيء ذلك المعنى الظاهر الذي ينساق إليه الذهن قبل غيره.

ويرى الدكتور جعفر في شرطه لقبول التفسير الصوفي أن تأويل الصوفية للقرآن أو الفهم الخاص له إذا خلا من أي هدف سياسي أو اجتماعى، سواء كان لرد اعتبار أو كوثيقة أمن أو بسط سلطان أو كسب ثروة أو احتفاظ بمراكز نفوذ تتعلق بأشخاص أو بجماعات، إذا لم يكن له مثل هذا الهدف وإذا كان لا يعارض نصا قرآنيا آخر، ولا يعارض الاستعمال العربي، ولا يؤدى إلى تحريف أو انحراف، وإذا كان وجوده يضيف ثروة روحية أو عقلية، وإذا كان لا يدعى من السلطة ما يجعله أمرا ملزما، بفرض واحديته في الأحقية، إذ كان كذلك فهو تأويل مقبول، ليست له غاية إلا تعميق الفهم عن الله الذي ما زال كتابه منبعا لا يغيض ومعينا لا ينضب للحقائق والأسرار [٤].

(١) مذاهب التفسير الاسلامي، إجناز جولد تسهير، ترجمة: محمد يوسف موسى وآخرون، طبعة دار الكتاب العربي، ١٩٥٩: ٢٠٧.

(٢) تاريخ الفلسفة الاسلامية، هنري كوربان، ترجمة: قيسي وزميله، بيروت، ط ١، ١٩٦٦: ١٠.

(٣) انظر: التصوف، د. محمد كمال جعفر: ٢٦.

(٤) التصوف، د. محمد كمال جعفر: ٢٦.

ومن ثم وبناء على ما سبق من الآراء يمكن تقرير الشروط التي يقبل بها التفسير الصوفي في العناصر الآتية:

١ - ألا يكون التفسير الصوفي منافيا للظاهر من النظم القرآنى الكريم ..

٢ - أن يكون له شاهد شرعي يؤيده.

٣ - ألا يكون له معارض شرعي أو عقلي.

٤ - ألا يدعي أن التفسير الصوفي هو المراد وحده من الظاهر.

٥ - ألا يكون التأويل بعيدا لا يحتمله اللفظ فيه تلبيس على أفهام الناس.

فإذا توفرت هذه الشروط، وليس للتفسير ما ينافيه أو يعارضه من الأدلة الشرعية، جاز الأخذ به أو تركه، لأنه من قبيل الوجدانيات، والوجدانيات لا تقوم على دليل نظري، وإنما هو أمر يبعث على تنمية المشاعر وتحصيل مكارم الأخلاق، فيجده الصوفي من نفسه ويسره بينه وبين ربه، فله أن يأخذ به أو يعمل بمقتضاه دون أن يلزم به أحدا من الناس، والأحرى ألا يسمى هذا اللون من الفهم تفسيرا وإنما يسمى ذكر النظير بالنظير الذي يعتبر صحيح [١].

أمثلة على التفسير الإشاري

ما ذكره سهل بن عبد الله التسترى في قوله تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِين وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء ٨٠ - ٨١] ، قال: "يعنى إذ تحركت بغيره لغيره عصمنى، وإذا ملت إلى شهوة من الدنيا منعها عنى، وقوله والذى يميتنى ثم يحين أي الذي يميتنى بالغفلة ثم يحينى بالذكر" ، وفي قوله: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [النمل: ٥٢] ، قال: "الإشارة في البيوت إلى القلب فمنها ما هو عامر بالذكر، ومنها ما هو خرب بالغفلة ومن ألهمه الله عز وجل بالذكر فقد خلصه من الظلم" [٢].

وقال في قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: ٩] ، ظاهرهما ما عليه من أهل التفسير، وباطنها هو الروح والعقل والقلب والطبع والهوى والشهوة، فإن بغى الطبع والهوى والشهوة على القلب والعقل والروح، فليتقاتل العبد بسيوف المراقبة وسهام المطالعة وأنوار الموافقة ليكون الروح والعقل غالبا والهوى والشهوة مغلوبا [٣].

وأورد أبو نصر السراج الطوسي بعض الأمثلة التي ذكرها الصوفية من طريق الإشارة والاستنباط والفهم الصحيح، وبين أنهم لم يقدموا فيها ما أخر الله تعالى ولا أخروا ما قدم الله، ولا نازعوا الربوبية ولا خرجوا عن العبودية ولا يكون فيه تحريف الكلم، منها قوله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء: ٨٨ - ٨٩) ، سئل عنه أبو بكر الكتانى فقال: القلب السليم على ثلاثة أوجه من طريق الفهم:

أحدها: هو الذي يلقى الله تعالى عز وجل وليس في قلبه مع الله شريك.

والثاني: هو الذي يلقى الله تعالى وليس في قلبه شغل مع الله عز وجل ولا يريد غير الله تعالى.

والثالث: الذي يلقى الله عز وجل ولا يقوم به غير الله عز وجل، فنى عن الأشياء بالله، ثم فنى عن الله بالله [٤].

(١) التصوف، محمد كمال جعفر: ١٦٠.

(٢) تفسير القرآن العظيم، سهل التستري: ٧٠.

(٣) تفسير القرآن العظيم: ٩١.

(٤) تفسير القرآن العظي: ٩١.

ويعقب السراج الطوسي بقوله: "معنى قوله: فنى عن الله بالله، يعنى يذهب عن رؤية طاعة الله عز وجل ورؤية ذكر الله ورؤية محبة الله، بذكر الله له ومحبته قبل الخلق، لأن الخلق بذكره لهم ذكروه، وبمحبته لهم احبوه، وبقديم عنايته بهم أطاعوه [١]."

ومثل ما أشار الجنيد بن محمد سيد الصوفية في عصره بقوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: ٨٨] ، إلى سكونه وقلة اضطراب جوارحه عند السماع، وكذلك ما كان يشير به أبو علي الروذبارى إذا رأي أصحابه مجتمعين فيقرأ: {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ} [الشورى: ٢٩] [٢].

وقال أبو القاسم القشيرى في قول الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: ٣٣] ، لا يجوز قتل نفس الغير بغير الحق، ولا للمرء أن يقتل نفسه أيضا بغير الحق، وكما أن قتل النفس بالحديد وما يقوم مقامه من الآلات محرم، فكذلك القصد إلى هلاك المرأ محرم، ومن انهمك في مخالفة ربه فقد سعى في هلاك نفسه، وقوله: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: ٣٣] ، أى تسلطا على القاتل في الاقتصاص منه، وعلى معنى الإشارة إن النصرة من قبل الله ومنصور الحق لا تنكسر سنانه ولا تطيش سهامه [٣].

ثانيا: - اتجاهات التفسير

للتفسير اتجاهات وهي:


١ - الاتجاه اللغوي

وهو "التفسير الذي يبُنى على قواعد نحوية أو بلاغية، فإن ساعده السياق قُبِل، وإلا أعرضنا عنه، وأخذنا بما يصححه النظر، ويقويه الدليل" [٤].

ويمكن أن نعرِّفه بأنه: الرجوع في تفسير القرآن إلى المعنى العربي الذي استعملته العرب، ويكون ذلك عند عدم النص الشرعي الذي ينقل المعنى اللغوي إلى معنىً آخر.

والتفسير اللغوي على قسمين:

"الأول: أن لا يحتمل اللفظ إلا معنى واحداً، وهذا ما لا يقع فيه خلاف، وهو أشبه بأن يجعل من القسم الذي طريقه السماع لا الاجتهاد، لعدم الحاجة لإعمال الرأي فيه مطلقاً."

الثاني: ما يحتمل أكثر من معنى، والسياق محتمل لها جميعها، ففي مثل هذا يكون التّميّزُ وإعمال الرأي اعتماداً على المعنى اللغوي، ومثال ذلك: تفسير قوله تعالى: {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ} [المطَّففين: ٢٦] ، قال الطبري: "فقال بعضهم: ممزوج مخلوط، مزاجه وخِلطه مسك، وعن عبد الله {مَخْتُوم} قال: ممزوج، {خِتَامُهُ مِسْكٌ} قال: طعمه وريحه، وقيل: أن آخر شرابهم يختم بمسك يجعل فيه" [٥] "[٦]."

ولعله يقصد بالتميز أي: بالاجتهاد، وإعمال الرأي اعتماداً على المعنى اللغوي.

(١) اللمع في التصوف: ١٢٦.

(٢) اللمع في التصوف: ١٢٦.

(٣) لطائف الإشارات، القشيري: ٢/ ٣٤٦.

(٤) التفسير والمفسرون للذهبي ٢/ ٣٩٨.

(٥) جامع البيان للطبري ٢٤/ ٢٩٦.

(٦) مصادر التفسير، مساعد الطيار ص ٢.

ووجه الاستشهاد هنا إعمال الرأي، وفقاً للمعنى اللغوي لقوله تعالى: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} فكان في اللغة ثلاثة معانٍ هي:

١ - خِلطه مسك [١].

٢ - طعمه وريحه مسك [٢].

٣ - آخره يختم بمسك يجعل فيه [٣].

وفي هذا المثال، وكل ما هو على شاكلته يمكن إعمال الرأي في اختيار أحد المعاني، ويمكن حمل اللفظ أو الجملة على جميع المعاني إن كانت اللغة والسياق يحتمله، والله الموفق.


٢ - الاتجاه العلمي

وهو "التفسير الذي يُحَكِّم الاصطلاحات العلمية في عبارات القرآن، ويجتهد في استخراج مختلف العلوم والآراء الفلسفية منها" [٤]، ولعل الإمام الغزالي [٥] أكثر من تحدث عن هذا النوع من التفسير بمعلومات عصره، وما حصل عليه من كتب الفلسفة، وأحياناً بلفتاتٍ تأمليه وفقاً للآيات، وعندما عقد أول مؤتمر للإعجاز العلمي في إسلام أباد عام ١٩٨٧ م، عرف التفسير العلمي بأنه: "الكشف عن معاني الآية أو الحديث في ضوء ما ترجحت صحته من نظريات العلوم الكونية" [٦].

"والتفسير العلمي يختلف عن الإعجاز العلمي؛ لأن الإعجاز لا يكون إلا فيما تحقق ثبوته، ولذلك يعَرَّف الإعجاز بأنه: إخبار القرآن الكريم، أو السنة النبوية، بحقيقة أثبتها العلم التجريبي أخيراً، وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية في زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهكذا يظهر اشتمال القرآن، أو الحديث على الحقيقة الكونية، التي يؤول إليها معنى الآية أو الحديث، ويشاهد الناس مصداقها في الكون، فيستقر عندها التفسير، ويعلم بها التأويل، كما قال تعالى: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: ٦٧] ، وقد تتجلى مشاهد أخرى كونية عبر القرون، تزيد المعنى المستقر وضوحاً، وعمقاً، وشمولاً؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أوتى جوامع الكلم" [٧].

وتكمن أهمية التفسير العلمي المتثبت من الحقائق التي أثبتها العلم التجريبي بالآتي:

أ- تفسير القرآن للمسلمين تفسيراً يشبع حاجتهم من الثقافة الكونية، ويغرس اليقين في قلوبهم بصدق ما أخبرهم به القرآن الكريم.

ب- إدراك وجوه جديدة للإعجاز في القرآن من ناحية ما يحويه أو يرمز إليه من علوم الكون والاجتماع.

ج- دفع مزاعم القائلين بأن هناك عداوة بين العلم والدين.

(١) لسان العرب لابن منظور ١٢/ ١٦٣.

(٢) المصدر نفسه ١٢/ ١٦٣.

(٣) المحكم والمحيط الأعظم، أبو الحسن علي بن إسماعيل بن سيدة المرسي ٥/ ١٥٦، تحقيق: عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية- بيروت، ط/٢٠٠٠ م.

(٤) التفسير والمفسرون للذهبي ٣/ ٢٨، ٢٩.

(٥) هو أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي حجة الإسلام الفقيه الشافعي، لم يكن في آخر عصره مثله، اختلف إلى دروس العلم وجدَّ في الاشتغال حتى تخرج في مدة قريبة وصار من الأعيان واشتهر اسمه وسار بذكره الركبان، وكانت ولادته في سنة خمسين وأربع مائة بالطابران وتوفي رابع عشر جمادى الآخرة سنة خمس وخمسمائة انظر: سير أعلام النبلاء ١٩/ ٣٢٣، والوافي بالوفيات ١/ ١١٩، ١٢٠.

(٦) تأصيل الإعجاز العلمي، عبد المجيد بن عزيز الزنداني ص ١٤، مطبوعات هيئة الإعجاز العلمي- مكة المكرمة (بدون) .

(٧) تأصيل الإعجاز العلمي للزنداني ص ١٥.

د- استمالة غير المسلمين إلى الإسلام من هذا الطريق العلمي الذي يخضعون له دون سواه في هذه الأيام "[١]؛ ولكن شريطة أن يكون بدون تعسف للآيات والمعاني."


٣ - الاتجاه الموضوعي

إن هذا النوع من التفسير "يتناول موضوعاً واحداً في القرآن، يعمد المفسر فيه إلى ذكر الآيات المتعلقة بهذا الموضوع، ويشرحها ويفصل القول فيها" [٢].

ومثال ذلك أن يعمد المفسر إلى جمع آيات التقوى من جميع سور القرآن ثم يقوم بتفسيرها في منظومة واحدة.


٤ - الاتجاه الفقهي

وهو "التفسير الذي يولي موضوع الأحكام الفقهية عناية خاصة" [٣]، ومن الأمثلة على ذلك:

من الحنفية: ألَّف أبو بكر أحمد بن علىّ الرازي المعروف بالجصَّاص والمتوفى سنة سبعين وثلاثمائة من الهجرة كتاباً سماه أحكام القرآن تناول فيه الأحكام الفقهية مرجحاً مذهب الحنفية.

ومن المالكية: ألَّف أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله الملقب بابن العربي المتوفى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة من الهجرة كتابه أحكام القرآن، معتمداً على المذهب المالكي، وكان متحرراً قد بلغ رتبة الاجتهاد كما في ترجمته.

ومن الشافعية: ألَّف أبو الحسن عماد الدين، علىّ بن محمد بن علىّ الطبرى المعروف بالكيا الهراسي المتوفى سنة أربع وخمسمائة كتابه أحكام القرآن، وهو كسابقه يخرج عن المذهب إذا لاح له الدليل.

وهكذا بقية المذاهب حتى مذاهب الفرق المنحرفة التي تتعسف أحكام القرآن للتدليل على مذاهبها الباطلة، كالشيعة الاثناعشرية، والباطنية، وغيرها، فكل طائفة جعلت لها تفسيراً يتماشى مع مذهبها، وفكرها.


٥ - الاتجاه البلاغي

وهو "علم يعرف به أحوال الألفاظ، والجمل القرآنية التي بها يطابق مقتضى الحال، وفقاً للغرض الذي سيق له، مع إبراز سهولة المعنى، ومحاسن الألفاظ؛ ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ في فهم كلام الله، وهو:" القول في القرآن بالاجتهاد المبني على أصول صحيحة، وقواعد سليمة متبعة تعنى بأسرار التراكيب لنظم القرآن بما يبين المعنى بحسب مقتضى الحال، وتظهر من خلاله فصاحة القرآن التي تحدى الله بها العرب "[٤]."

ومن أعلام هذا الفن الإمام عبد القاهر الجرجاني [٥]، فقد ألف كتاباً سماه إعجاز القرآن الصغير، وكتاباً آخر سماه إعجاز القرآن الكبير، وغيرها من المؤلفات، والعلامة محمود

(١) مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني ٢/ ١٠٠.

(٢) لمحات في علوم القرآن واتجاهات التفسير، محمد بن لطف الصباغ ٢/ ١٥، رسالة دكتوراه.

(٣) لمحات في علوم القرآن واتجاهات التفسير، محمد بن لطف الصباغ ٢/ ١٥.

(٤) هذان التعريفان استنبطهما الباحث من خلال تعريف علم البلاغة، ومعنى الفصاحة، ومن خلال علوم البلاغة الثلاثة: علم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع، لأني لم أجد من عرفه على رغم طول فترة البحث، انظر: الإيضاح في علوم البلاغة، أبو عبدالله محمد بن سعدالدين بن عمر القزويني ص ٤٩، تحقيق الخفاجي، دار إحياء العلوم - بيروت، ط/ الرابعة، ١٩٩٨ م.

(٥) هو عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني، أبو بكر، واضع أصول البلاغة، كان من أئمة اللغة، من أهل جرجان (بين طبرستان وخراسان) له شعر رقيق، من كتبه: أسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز، والجمل في النحو، وغيرها، ولد عام أربعمائة للهجرة وتوفى سنة إحدى وسبعين وأربعمائة، انظر: طبقات الشافعية الكبرى للسبكي ٥/ ١٤٩، وشذرات الذهب ٣/ ٢٤٠.

الزمخشري في تفسيره المسمى بالكشاف، ولولا اعتزاله وانتصاره في كتابه للمعتزلة لكان كتاباً حافلاً، ومن المعاصرين الطاهر بن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير فقد جمع ما لم يجمعه غيره مستفيداً مِنْ مَنْ سبقه كثيراً، وهذا الاتجاه في التفسير تابع للتفسير بالدراية وسيسلط الباحث الأضواء عليه؛ كون هذه الدراسة التي نحن بصددها هي في التفسير البلاغي.

أهمية التفسير البلاغي

وللتفسير البلاغي أهمية كبيرة نذكر منها:


١ - الوقوف على معجزة القرآن الكريم البلاغية التي تحدى بها الله تعالى العرب.


قال ابن عاشور: "فإعجاز القرآن متوجه إلى العرب إذ هو معجز لفصحائهم، وخطبائهم، وشعرائهم، مباشرة، ومعجز لعامتهم بواسطة إدراكهم أن عجز مقارعيه عن معارضته مع توفر الدواعي عليه، فهذا برهان ساطع على أنه تجاوز طاقة جميعهم، ثم هو بذلك دليل على صدق المُنَزَّلِ عليه لدى بقية البشر الذين بلغ إليهم صدى عجز العرب بلوغا لا يستطاع إنكاره لمعاصريه بتواتر الأخبار، ولمن جاء بعدهم بشواهد التأريخ، كما أنه معجزة مستمرة على تعاقب السنين؛ لأنه قد يدرك إعجازه العقلاء من غير الأمة العربية بواسطة ترجمة معانيه التشريعية، والحكمية والعلمية، والأخلاقية، وهو دليل تفصيلي لأهل تلك المعاني، وإجمالي لمن تبلغه شهادتهم بذلك" [١].

٢ - توجيه التفسير للألفاظ والجمل القرآنية بما يرفع الإشكال ويوضح المعنى.

ومثال ذلك: "لما جلس أبو عبيدة معمر بن المثنى [٢] لدروس العلم في المسجد جاءه رجل يقول له: إن العرب حين تستعمل أسلوب التشبيه فإنها تشبه مجهولاً بمعلوم حتى يتضح المجهول فما بال القرآن يشبه مجهولاً بمجهول في قوله تعالى عن شجرة الزقوم: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصَّفات: ٦٥] ، فنحن لم نر طلع الشجرة فهي مجهولة لدينا، ورؤوس الشياطين أيضًا مجهولة لنا حيث لم نر شيطانًا، فكيف وقع هذا في القرآن؟"

فرد عليه معمر بأن العرب تكتفي بالصورة الذهنية عن الصورة المشاهدة، ورأس الشيطان صورته في الذهن العربي صورة كريهة مخيفة مرعبة، فشبه به شجرة الزقوم، ومن هنا نشأ علم البلاغة لخدمة أساليب القرآن الكريم "[٣]."

٣ - فهم المعاني القرآنية من خلال معرفة القرائن وسياق النص ولهجات العرب.

فالكلمة الواحدة والجملة الواحدة قد تحمل مدلولين متناقضين تماماً، دون أن تختلف الكلمة في بنائها الداخلي، وإنما الذي تغير هو (السياق) والقرائن المحيطة، فقد يقول الأب لابنه:

(١) التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن محمد بن عاشور التونسي ١/ ٥٩، مؤسسة التأريخ العربي، بيروت- لبنان، ط/ الأولى ١٤٢٠ هـ ٢٠٠٠ م.

(٢) معمر بن المثنى التيمي بالولاء، البصري، أبو عبيدة النحوي، من أئمة العلم باللغة والأدب، ولد بالبصرة سنة عشر ومائة، استقدمه هارون الرشيد إلى بغداد، وقرأ عليه أشياء من كتبه، وكان إباضيًّا، شعوبيًّا من =حفاظ الحديث، توفي سنة تسع ومأتين للهجرة، انظر: العبر في خبر من غبر، أبو عبدالله محمد بن أحمد بن قايماز الذهبي ١/ ٢٥٩، تحقيق: أبو هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية - بيروت، والبلغة في تراجم أئمة النحو واللغة، محمد بن يعقوب الفيروزأبادي ١/ ٧٦، تحقيق: محمد المصري، جمعية إحياء التراث الإسلامي- الكويت، ط/ الأولى ١٤٠٧ هـ.

(٣) أثر الدرس اللغوي في فهم النص الشرعي، محمد المختار محمد المهدي ص ٧.

(افعل كذا) وهو يقصد المعنى الظاهري لهذه الكلمة، وقد يستخدم نفس الكلمة ويقصد بها التهديد، الذي يستطيع اكتشافه من خلال القرائن، وهنا ينقلب معنى (افعل) إلى معنى مناقض تماماً هو (لا تفعل) ! ، وهذا هو بالضبط ما ينطبق على القرآن الكريم، فقد يستخدم القرآن صيغة الأمر ويقصد بها مدلولها الظاهري، عندما يقول: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: ٧٨] ، وقد يقصد بها الإباحة عندما يقول: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} {المائدة: ٢} ، عقيب الحظر في قوله: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ] {المائدة: ٩٥} ، وقد يقصد التهديد عندما يقول: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزُّمر: ١٥] ، وقد يقصد التعجيز والتحدي عندما يقول: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: ٢٣] ، أو عندما يقول على لسان نبي الله هود -صلى الله عليه وسلم- مخاطباً قومه الكافرين: {مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} [هود: ٥٥] ، وقد يقصد الاستهزاء عندما يقول الله تعالى في خطابة لبعض أهل جهنم: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الكَرِيمُ} [الدُخان: ٤٩] ، وهكذا وهلم جراً [١].

٤ - إثراء المعاني للألفاظ والجمل التي ظاهرها التماثل والتشابه.

وتعنى بهذا كتب البلاغة التي تعنى بمقتضيات الأحوال وأسرار التراكيب ومثال ذلك ورود اليأس في القرآن الكريم بمعنى: الإحباط، والقنوط، وعدم الرجاء، مثل قوله تعالى: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا القَوْمُ الكَافِرُونَ} [ {يوسف: ٨٧] ، أي: لا يقنط من رحمة الله ... وقوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللهِ وَلِقَاءِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [العنكبوت: ٢٣] ، وقوله: [لَا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ [فصِّلت: ٤٩] ، لكنه قد وردت آية فيها اليأس بمعنى العلم على لهجةٍ من لهجات العرب، دل عليها سياق النص، وذلك في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ المَوْتَى بَلْ للهِ الأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد: ٣١] ، ومعناها: أفلم يعلم [٢]، فدل ذلك على أهمية معرفة سياق النص، ولهجات العرب، لتفسير كتاب الله تعالى.

خاتمة التمهيد

إن النص القرآني ينأى عن النص البشري بكل أجناسه، فهو فمعجزة، ثابتة الألفاظ متحركة المعاني تصلح لكل متلقٍ في كل زمان ومكان، تحمل دلالات بعضها فوق طاقة العقل الإنساني واستيعابه، أقبل العلماء على هذا الكتاب المجيد مشغوفين بكل ما يتعلق به: حتى أحصوا عدد آياته وحروفه، وعدد ألفاظه المعجمة والمهملة، وأطول كلمة فيه وأقصرها، وأكثر

(١) الإيضاح في علوم البلاغة، جلال الدين أبو عبدالله محمد بن سعدالدين بن عمر القزويني ص ٤٩، دار إحياء العلوم - بيروت، ط/ الرابعة ١٩٩٨ م.

(٢) أثر الدرس اللغوي: ١٣، بتصرف.

ما اجتمع فيه من الحروف المتحركة، واشتغلوا منه بأبحاث دون تلك وزنا معتقدين أن لهم في هذا كله ثوابا عند الله وأجرا، إذ حققوا إرادته الأزلية في حفظ كلامه المبين من عبث السنين.

ويمكن تحديد أهم النتائج التي توصلنا إليها من هذا التمهيد كما يأتي:

١ - القرآن الكريم: هو كتاب الله تعالى الذي أنزله على خاتم المرسلين محمد -صلى الله عليه وسلم- لهداية البشر، وهو دستور الحق لإصلاح الخلق، وقانون السماء لهداية الأرض، أودعه ربنا تعالى كل تشريع، وضمنه كل موعظة من شأنها تحقيق السعادة للبشرية جمعاء، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨) } [يونس: ٥٧ - ٥٨]

٢ - لم تكن كتب علوم القرآن -في القرن الأول- قد انفردت واستقلّت بالتأليف؛ بل نرى بعض الموضوعات كُتِبَتْ على وجه الاستقلال في القرون الأولى؛ كعلمِ القراءاتِ، وعلمِ الرسمِ، والناسخِ والمنسوخِ، وإعجاز القرآن، وبعض الكتب جمعت أكثر من نوع من هذه الأنواع.

٣ - كان القرآن الكريم موضع اهتمام المسلمين من أول يوم تنزل فيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوعاه الصحابة وحفظوه، وكتبوه، وطبقوا ما فيه، وكان ما قام به أبوبكر الصديق بمشورة عمر رضي الله عنهما من جمع القرآن مما هو مكتوب أو محفوظ في عهده صلى الله عليه وسلم عملا عظيماً حُفظ به القرآن، وسار على نهجه عثمان بن عفان رضي الله عنه عندما جمع الناس على مصحف واحد ومنع الاختلاف بين المسلمين، وقد نال زيد بن ثابت رضي الله عنه شرف تحمل مسؤولية جمع القرآن في عهد أبي بكر، وكتابته في عهد عثمان.

٤ - الوحي عملية مرتبطة بحوار ثنائي: بين ذات أمرة، وذات متلقية، ورأينا ظاهرة الوحي مرئية ومسموعة، ولكنها خاصة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وحده، ولم يكن الوحي ظاهرة ذاتية عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم إطلاقاً، بل كانت منفصلة عنه انفصالاً تاماً، ربما صاحبه من خلالها إمارات خارجية في شحوب الوجه أو تصبب الجبين عرقا، ولكنها إمارات لم تكن لتمتلك عليه وعيه نهائياً، وكان الداعي لبحث ذلك هو الرد على هجمات طائفة من المستشرقين الذين يرون الوحي نوعا من الإغماء، أو مثلاً من التشنج، والأمر ليس كذلك، بل هو استقبال لظاهرة، أعقبه هذا الوقع، استعداد للنشر والتبليغ. بعد هذا أرسينا مصطلح الوحي على قاعدة من الفهم القرآني.

٥ - تناول البحث تحديد بداية نزول القرآن زمنياً، وتعيين ما نزل منه أول مرة، ثم أشرنا للنزول التدريجي، وضرورة تنجيم القرآن، وعالجنا هذه الظاهرة بما نمتلك من تقليل لأسرارها، وتقييم لأبعادها، وأوضحنا إيمان القرآن بمرحلية النزول، وتعقبنا ذلك بتأريخية ما انقسم منه إلى مكي ومدني، وسلطنا الضوء على ضوابط السور المكية والمدنية، وحمنا حول أسباب النزول وقيمتها الفنية، وما يستأنس منه بجذورها في تعيين النزول زمانياً ومكانياً، وتتبعنا ما نزل من القرآن بمكة أولاً بأول، وما نزل بالمدينة أولاً بأول، معتمدين على أصح الروايات وأشهرها، أو بما يساعد عليه نظم القرآن وسياقه، وختمنا الفصل بجدول إحصائي إستقرائي لسور القرآن كافة بترتيبها العددي والمصحفي والزماني والمكاني.

٦ - إن للآيات القرآنية قصة تعين على الفهم السديد وتلهم أرجح التأويل وأصح التفسير وهو ما يسمى بأسباب النزول، وحين وصفنا مقاييس المفسرين المحققين في ترجيح الروايات المنبئة عن تلك الأسباب بمصطلحها الدقيق وتخريجها الذكي ونقدها الحصيف، وجمعها بين السبب

التاريخي والسياق الأدبي في الآيات التي وضعت في السطور على حسب الحكمة ترتيبا وحفظت في الصدور على حسب الوقائع تنزيلا، وحين تحدثنا عن ألوان من التناسق الفني يعوض بها القرآن أسباب النزول إذا لم تعرف، أو يؤكد مدلولاتها "بالنماذج" الحية إذا عرفت ولم تحفظ، أو حفظت ولم تشتهر.

٧ - إن في اعتبار الشكل المصحفي، وطريق الرواية إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتعدد لهجات القبائل، مضافاً إلى المناخ الإقليمي القائم بين مدرستي الكوفة والبصرة، أسسا قابلة للاجتهاد والأثر في تعدد القراءات القرآنية، وانتهينا إلى أن الاختلاف كان في الأقل، والاتفاق في الأكثر، وحددنا وجهة النظر العلمية تجاه القراء السبعة والقراءات السبع، وأعطينا الفروق المميزة بين القراءة والاختيار، وأوردنا مقاييس القراءة المعتبرة

٨ - وقد تقصينا الخطوات التي مر بها التفسير حتى اتخذ الصورة التي نجده عليها في بطون المؤلفات، وأن نفرق بين التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي، وأن نتبين كيف يفسر القرآن بالقرآن لما في دلالته من الإحاطة والشمول، في منطوقه ومفهومه، وعامه وخاصه، ومطلقه ومقيده، ومجمله ومفصله، ونصه وظاهره.

٩ - إن القرآن كله محكم بمعنى أنه متقن غاية الإتقان، وهو أيضًا متشابه، بمعنى أنه يصدق بعضه بعضًا؛ أما من جهة الاصطلاح، فالمحكم ما عُرف المقصود منه، والمتشابه ما غَمُض المقصود منه. وظهر لنا أيضًا الموقف السليم من النصوص الواردة في باب الصفات، وأن القول الصواب فيها ما ذهب إليه السلف من إجراء تلك النصوص على ظاهرها، دون أن يقتضي ظاهر تلك النصوص تمثيل الخالق بالمخلوق.

١٠ - وتبين لنا بعد التجوال في ميدان علوم القرآن الكريم أن (الناسخ والمنسوخ) علم من آكد العلوم وأوجبها تعلما وحفظا وبحثا وفهما وخاصة لمن أراد أن يخوض غمار تفسير كتاب الله تعالى وأن يغوص في لجته لاستخراج الدرر الثمينة والجواهر النفيسة. بل إنه علم لا يسع كل من تعلق بأدنى علم من علوم الديانة جهله كما قال ذلك? مكي بن أبي طالب القيسي? ? رحمه الله تعالى، وإن مما يدل على عظم شأن هذا العلم وجليل خطره أن? الإمام أحمد? وإسحاق بن راهويه? عداه شرطا لكون الإنسان عالما. وأن? أبا يوسف? صاحب? أبي حنيفة? اعتبره شرطا للإفتاء بل قال: إنه لا يحل? لأحد أن يفتي حتى يعرفه.

١١ - إن الترجمة عامل آخر يسير موازيًا لتعلم لغة القرآن الكريم في نشر دعوته، وتبليغ هدايته للعالمين، وليس بالضرورة أن يتحول المسلمون جميعًا إلى عرب، فأكثر المسلمين في أرض الله اليوم من العجم، وها نحن نراهم أشد نصرة لدين الله، وأكثر حرصًا على طلب العلم، وأكثر الأئمة الأعلام كانوا من غير العرب، وقد سجل القرآن الكريم، أن من آيات الله العظمية، وآيات القدرة: اختلاف الألسنة واللهجات.

فلا مانع أن يُترجم القرآن الكريم لغير العرب، وأن يدخل غير العرب في دين الإسلام، ويتعلمون اللغة العربية.

١٢ - وننتهي إلى إعجاز القرآن, فإذا نحن نرد سحره إلى نسقه الذي يجمع بين مزايا النثر والشعر جميعا، بموسيقاه الداخلية, وفواصله المتقاربة في الوزن التي تغني عن التفاعيل، وتقفيته التي تغني عن القوافي، ورأينا كيف تم للقرآن من الإعجاز بالألفاظ الجامدة ما لا يتم للفنان من الإبداع بالريشة والألوان, وحاولنا في تصور التشبيه والاستعارة والكناية وأنواع المجاز أن نبث الحياة في اصطلاحات القدامى، فكان القرآن -في هذا كله- نسيجا واحدا في بلاغته وسحر بيانه،

إلا أنه متنوع تنوع موسيقى الوجود في أنغامه وألحانه

فذلك هو القرآن: إن نطق لم ينطق إلا بالحق، وإن علم لم يعلم إلا الهدى والرشاد، وإن صور لم يصور إلا أجمل لوحات الحياة، وإن رتل ترتيلا لم يسمع بعده لحن في الوجود ذلك كتاب الله المجيد (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) .

وأخيرا فالقرآن الكريم، هو مرجع الإسلام الأول، ودليله الأعظم، إليه المستند في العقائد، والعبادات، والحكم، والأحكام، والآداب، والأخلاق، وفيه القصص، والمواعظ، والعلوم، والمعارف، لذلك كله، كان القرآن الكريم، موضع العناية الكبرى من الرسول? ومن صحابته، والتابعين، ومن سلف الأمة، وخلفها جميعًا، منذ القرن الأول إلى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وسيبقى كتاب الله هذا محفوظًا بحفظ الله؛ مصداقًا لقوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩) } [الحجر: ٩] .

وقد تبيّن لنا من خلال البحث أن العناية بالقرآن اتخذت أشكالًا مختلفة؛ فتارةً تتوجّه إلى لفظه وأسلوبه، وأخرى إلى كتابته ورسمه، وثالثة إلى إعجازه وتفسيره.

ويمكننا أن نقول: إن كتاب الله تعالى -الذي حظي من عناية العلماء بالجهد الموفور، لشرحه وتفسيره، وبيان علومه، وهداياته- قد شمل عدة أنواع من المؤلفات، ككُتب التفسير، وكتب علوم القرآن، وكتب المناهج، وكتب الدخيل، فضلًا عن الموضوعات الخاصة في مؤلفاتها الموجزة في العقيدة، والأخلاق، والمعاملات ... ونحو ذلك، ولقد رأينا علماءنا سلفًا، وخلفًا قد ألَّفُوا الكُتُبَ، وتباروْا في هذا الميدان؛ حتى زخرت المكتبة الإسلامية، بثروةٍ لا نظيرَ لَهَا، وتراث عظيم، من المصنفات المتنوعة، والموسوعات القيمة.

وبعد كان هذا إيذانا بجملة من نتائج البحث، الذي وقفنا عنده، فتلك مباحث في علوم القرآن لا ننمي إليها السعة والشمول، ولا ندعي لها التفصيل والاستيعاب، إنما هي طائفة من المسائل المهمة التي نرجو ألا يجهلها أو يتجاهلها عربي ينطق بالضاد أو مسلم يهتف بهذا الدين الحنيف، وها نحن أولاء نتركها بين أيدي القراء سائلين الله أن يشوقهم بها إلى تلاوة كتابه، فتدبر أحكامه، فالعمل بتعاليمه، لعل التاريخ يعيد نفسه، ولعلنا نرجع بهذا الكتاب كما كنا خير أمة أخرجت للناس، ونسأل الله تعالى أن يتقبله منا بأحسن قبوله، وأن ينفع به الباحثين والدارسين، وأن يجعله ذخيرة لنا يوم الدين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

المؤلف

انتهى المقدمة والتمهيد، ويليه تفسير سورة الفاتحة.

عن الكاتب

Tanya Ustadz

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية