الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

تمهيد قواعد التصوف وأصوله

 تمهيد قواعد التصوف وأصوله


اسم الكتاب: تمهيد قواعد التصوف وأصوله
المؤلف: الشيخ أحمد زروق الفاسي
الموضوع: علم التصوف

محتويات

ترجمة وتعريف المؤلف

اسمه أحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى البرنسي الفاسي، وكنيته أبو العباس، ولقبه زروق وبه اشتهر، وقد أشار في كنشه إلى سبب هذا اللقب فقال: "كان جدي أزرق العينين، فقالوا زروق فسرت في عقبه".

مولده:

اتفق المؤرخون على سنة ولادته، ودقق الحافظ السخاوي في كتابه: "الضوء اللامع" اليوم والشهر والسنة فقال:"ولد يوم الخميس الثامن عشر من محرم سنة 846 هـ، مات أبوه قبل تمام أسبوعه".

منشؤه:

نشأ الشيخ زروق بمدينة فاس يتيما، وحفظ القرآن الكريم في طفولته المبكرة، وكتب وأخذ عن الشيخ محمد بن القاسم القوري وتلقى العلم عن أئمة عصرخ في المغرب الإسلامي والمشرق منهم العلماء الأعلام: حلولو والمشذالي والرصاع والسنوسي والجزولي والمجاصي والنور السنهوري وابن زكري والولي التازي والتنسي والثعالبي وأحمد الحباك والمواسي والخروبي الكبير، وغيرهم...

رحلاته:

لم تشبع بلاد المغرب نهم مترجمنا إلى العلم، فشد الرحال إلى المشرق، ليؤدي فريضة الحج، ليزداد علما ويتصل بعلماء العواصم الإسلامية ويأخذ عنهم، فاتصل بعلماء الجزائر وتونس وليبيا ونزل بمصر فمكث فيها مدة وأخذ عن علمائها ثمّ واصل طريقه فحج وجاور بالمدينة المنورة.

ثمّ عاد إلى مصر وأقام بالقاهرة نحو عام، وأخذ عن كبار علمائها، فدرس عن الحافظ الإمام السخاوي كتاب: "بلوغ المرام من أدلة الأحكام" وأعجب بالإمام السخاوي فلازمه، وأخذ عنه مباحث في علوم متعددة. كما أعجب به الإمام السخاوي وترجم له في كتابه "الضوء اللامع".

جهاد العلماء:

لقد كانت رحلات شيخنا زروق تمثل ألوانا عديدة من الجهاد العلمي الذي يستهدف إقامة منار الحق عاليا في بلاد الإسلام، وقد تمثل جهاده أولا في النضال من أجل التحصيل على العلم وبلوغ معرفة الحق الموافق لأصول الشريعة الإسلامية، ثمّ نشر هذا العلم قياما بواجب التبليغ الذي هو أمانة في أعناق العلماء، وتصحيحا لمسار المسلمين على المنهج القويم، ومقاومة لكلّ البدع في المجتمع الإسلامي، وقد ظهرت في عصره كثير من البدع على يد أناس ينتسبون إلى العلم أو إلى الطرق الصوفية ونصّبوا أنفسهم لهداية الخلق، وهم مبتدعون مخالفون للقرآن والسنة، ليسوا من أخل العلم ولا من أهل التصوّف.

وقد ربط مترجمنا دروسه العلمية الرائدة في العقيدة والفقه وأصول التشريع بما يجري في حياة الناس مستهدفا مقاومة ما ظهر من بدع في المجتمع الإسلامي.
ولذلك نراه نوّع دروسه وعدّدها في المساجد والزوايا وأقبل عليها الجادون من طلبة العلم والمعرفة، وتخرّج على يديه نخبة من العلماء.

تلاميذه:

حياة العلماء أخذ وعطاء وخاصة المربين منهم مثل شيخنا زروق رحمه الله تعالى، فقد أخذ عنه العلم خلق كثير لا يكاد يحصى واشتهر من تلاميذه عدد من كبار العلماء والأولياء والصالحين منهم الحطاب الكبير، والإمام الولي الشعراني، والقطب أبو الحسن البكري والخروبي الصغير واللقانيان والشمس والناصر وسفين وطاهر بن زياد القسنطيني.

مؤلفاته:

تمتاز مؤلفات الشيخ زروق بكثرتها وتنوعها، وجودة تحريرها وسهولة تعبيرها مع الوضوح والفصاحة وتدقيق المعاني والابتكار ورفض التقليد، باختياره البحوث الهادفة، وسلوكه منهجية فريدة في البحث والتحرير تتميز بالدقة في التنظيم وحسن التقسيم والتركيز مع الإيجاز والشمول.

ثمّ هو إذا علّق على آراء غيره، أو ناقش أو خالف آراءهم تميزت تعلياقاته ومناقشاته بالوضوح وإقامة الدليل من الكتاب والسنّة أو رأي إمام مجتهد لا يرد قوله، ويلتزم في نقاشه الأدب الرفيع مع المخالفين والتماس الأعذار لهم حتى إنّه بعد تحرير المسألة على وجهها الصحيح يقول:"ولعلّ الشيخ أراد هذا بقوله".

وقد بلغت مؤلفاته في التصوّف تسعة وعشرين مؤلفا، وفي الحديث ستة مؤلفات وفي الذكر عشرة والرحلات اثنتان والسيمياء مؤلف واحد والطب اثنان والقرآن وتفسيره مؤلفان والفقه عشرة مؤلفات والنحو ثلاثة وعلم الكلام اثنان والسيرة الذاتية واحد وهو "الكنش" والتراجم واحد وهو "مناقب الحضرمي"، كما كتب الشعر ومجموعة من الرسائل.

وامتز الشيخ زروق بالصبر والإدمان على التأليف والشرح ومراجعة ما كتب ناهيك أنّه شرح الحكم العطائية تسعة وعشرين شرحا.

مقدمة الكتاب

الحمد لله كما يجب لعظيم مجده وجلاله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله.

وبعد، فالقصد بهذا المختصر وفصوله، تمهيد قواعد التصوف وأصوله، على وجه يجمع بين الشريعة والحقيقة، ويصل الأصول والفقه بالطريقة. وعلى الله أعتمد في تيسير ما أردت، وإليه أستند في تحقيق ما قصدت، وهو حسبنا ونعم الوكيل. ثم أقول:

قاعدة 1 ضرورة تعريف التصوف قبل الخوض فيه

الكلام في الشيء فرع تصور ماهيته، وفائدته ومادته بشعور ذهني مكتسب أو بديهي، ليرجع إليه في أفراد ما وقع عليه ردا وقبولا وتأصيلا وتفصيلا.
فلزم تقديم ذلك على الخوض فيه، إعلاما به وتحضيضا عليه، وإيماء لمعادنه، فافهم.

قاعدة 2 تعدد تعريفات التصوف

ماهية الشيء حقيقته، وحقيقته ما دلت عليه جملته. وتعريف ذلك
بحد: وهو أجمع،
أو رسم: وهو أوضح،
أو تفسير وهو أتم لبيانه وسرعة فهمه.
وقد حد التصوف ورسم وفسر بوجوه تبلغ نحو الألفين. مرجعها كله لصدق التوجه إلى الله تعالى، وإنما هي وجوه فيه، والله أعلم.

قاعدة 3 تصوف كل أحد صدق توجهه

الاختلاف في الحقيقة الواحدة، إن كثر، دل على بعد إدراك جملتها، ثم هو إن رجع لأصل واحد، يتضمن جملة ما قيل فيها كانت العبارة عنه بحسب ما فهم منه، وجملة الأقوال واقعة على تفاصيله. واعتبار كل واحد له على حسب مثاله منه علما، أو عملا، أو حالا، أو ذوقا، أو غير ذلك.
والاختلاف في التصوف من ذلك، فمن ثم ألحق الحافظ أبو نعيم رحمه الله بغالب أهل حليته عند تحليته كل شخص، قولا من أقوالهم يناسب حاله قائلا: وقيل إن التصوف كذا.
فأشعر أن من له نصيب من صدق التوجه، له نصيب من التصوف، وأن تصوف كل أحد صدق توجهه، فافهم.

قاعدة 4 صدق التوجه مشروط برضا الحق .. ولا تصوف إلا بفقه

صدق التوجه مشروط بكونه من حيث يرضاه الحق تعالى وبما يرضاه ولا يصح مشروط بدون شرطه {ولا يرضى لعباده الكفر}، فلزم تحقيق الإيمان. {وإن تشكروا يرضه لكم} فلزم العمل بالإسلام.

فلا تصوف إلا بفقه، إذ لا تعرف أحكام الله الظاهرة إلا منه، ولا فقه إلا بتصوف، إذ لا عمل إلا بصدق وتوجه، ولا هما إلا بإيمان، إذ لا يصح واحد منهما بدونه، فلزم الجميع لتلازمهما في الحكم، كتلازم الأرواح للأجساد، إذ لا وجود لها إلا فيها، كما لا كمال له إلا بها، فافهم.
ومنه قول مالك رحمه الله: (من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق، ومن تفقه ولم يتصوف فقد تفسق، ومن جمع بينهما فقد تحقق).
قلت: تزندق الأول: لأنه قال بالجبر الموجب لنفي الحكمة والأحكام. وتفسق الثاني: لخلو عمله عن صدق التوجه الحاجز عن معصية الله تعالى وعن الإخلاص المشترط في العمل لله، وتحقق الثالث: لقيامه بالحقيقة في عين التمسك بالحق، فاعرف ذلك.

قاعدة 5 التصوف هو الإحسان

إسناد الشيء لأصله، والقيام فيه بدليله الخاص به يدفع قول المنكر بحقيقته، لأن ظهور الحق في الحقيقة يمنع من ثبوت معارضتها. فأصل التصوف مقام الإحسان الذي فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك). لأن معاني صدق التوجه لهذا الأصل راجعة وعليه دائرة، إذ لفظه دال على طلب المراقبة الملزومة به. فكان الحض عليها حضا على عينه، كما دار الفقه على مقام الإسلام والأصول عل مقام الإيمان.
فالتصوف أحد أجزاء الدين الذي علمه عليه السلام جبريل ليعلمه الصحابة رضي الله عنهم أجمعين فافهم.

قاعدة 6 عربية مصطلح "التصوف"، وخلوه من الالتباس

الاصطلاح للشيء بما يدل على معناه ويشعر بحقيقته ويناسب موضوعه، ويعين مدلوله من غير لبس ولا إخلال بقاعدة شرعية ولا عرفية، ولا رفع موضوع أصلي ولا عرفي، ولا معارضة فرع حكمي ولا مناقضة وجه حكمي، مع إعراب لفظه وتحقيق ضبطه لا وجه لإنكاره.

واسم التصوف من ذلك، لأنه عربي مفهوم تام التركيب، غير موهم ولا ملتبس ولا مبهم، باشتقاقه مشعر بمعناه كالفقه لأحكام الإسلام والأعمال الظاهرة والأصول لأحكام الإيمان وتحقيق المعتقد، فاللازم فيهما، لازم فيه لاستوائهما في الأصل والنقل فافهم.

قاعدة 7 اشتقاق اسم التصوف

الاشتقاق قاض بملاحظة معنى المشتق والمشتق منه، فمدلول المشتق مستشعر من لفظه، فإن تعدد الشعور، ثم أمكن الجمع فمن الجميع وإلا فكل يلاحظ معنى فافهم إن سلم عن معارض في الأصل.
وقد كثرت الأقوال في اشتقاق التصوف، وأمسى ذلك بالحقيقة خمس:
أولها: قول من قال: (الصوفة) لأنه مع الله كالصوفة المطروحة لا تدبير له.
الثاني: أنه من (صوفة القفا) للينها، فالصوفي هين لين كهي.
الثالث: أنه من (الصفة) إذ جملته اتصاف بالمحامد وترك الأوصاف المذمومة.
الرابع: أنه من الصفاء وصحح هذا القول حتى قال أبو الفتح البستي رحمه الله:
تنازع الناس في الصوفي واختلفوا *** جهلا وظنوه مشتقا من الصوف
ولست أنحل هذا الاسم غير فتى *** صافى فصوفي حتى سمي الصوفي

الخامس: أنه منقول من الصفة لأن صاحبه تابع لأهلها فيما أثبت الله لهم من الوصف حيث قال تعالى: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا}. وهذا هو الأصل الذي يرجع إليه كل قول فيه، والله أعلم.

قاعدة 8 لا يختص التصوف بفقر ولا غنى إن تحققت إرادة وجه الله

كم التابع كحكم المتبوع فيما يتبعه فيه، وإن كان المتبوع أفضل. وقد كان أهل الصفة فقراء في أول أمرهم، حتى كانوا يعرفون بأضياف الله. ثم كان منهم الغني والأمير، والمتسبب والفقير، لكنهم شكروا عليها حين وجدت، كما صبروا عليها حين فقدت.

فلم يخرجهم الوجدان عما وصفهم مولاهم به من أن هم: {الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا}، كما أنهم لم يمدحوا بالفقدان، بل بإرادة وجه الملك الديان، وذلك غير مقيد بفقر ولا غنى، وبحسبه، فلا يختص التصوف بفقر ولا غنى، إذا كان صاحبه يريد وجه الله، فافهم.

قاعدة 9 الصوفي، والفقير، والملامتي

اختلاف النسب قد يكون لاختلاف الحقائق، وقد يكون لاختلاف المراتب في الحقيقة الواحدة.
فقيل إن التصوف والفقر والملامة والتقريب من الأول، وقيل من الثاني وهو الصحيح. على أن الصوفي هو العامل في تصفية وقته عما سوى الحق، فإذا سقط ما سوى الحق من يده فهو الفقير. والملامتي منهما هو الذي لا يظهر خيرا ولا يضمر شرا، كأصحاب الحرف والأسباب ونحوهم من أهل الطريق.
والمقرب من كملت أحواله، فكان بربه لربه، ليس له عن سوى الحق إخبار، ولا مع غير الله قرار، فافهم.

قاعدة 10 اختلاف المسالك لا يلزم منه اختلاف المقصد

لا يلزم من اختلاف المسالك اختلاف المقصد، بل قد يكون متحدا مع اختلاف مسالكه، كالعبادة والزهادة، والمعرفة مسالك لقرب الحق على سبيل الكرامة، وكلها متداخلة، فلا بد للعارف من عبادة، وإلا فلا عبرة بمعرفته إذ لم يعبد معروفه. ولا بد له من زهادة، وإلا فلا حقيقة عنده، إذ لم يعرض عمن سواه. ولا بد للعابد منهما، إذ لا عبادة إلا بمعرفة، ولا فراغ للعبادة إلا بزهد، والزاهد كذلك إذ لا زهد إلا بمعرفة، ولا زهد إلا بعبادة، وإلا عاد بطالة.
نعم من غلب عليه العمل فعابد، أو الترك فزاهد. أو النظر لتصريف الحق فعارف. والكل صوفية، والله أعلم.

قاعدة 11 من هو المؤهل للتصوف؟


لكل شيء أهل ووجه ومحل وحقيقة.

وأهلية التصوف لذي توجه صادق، أو عارف محقق، أو محب مصدق، أو طالب منصف، أو عالم تقيده الحقائق أو فقيه تقيده الاتساعات، لا متحامل بالجهل، أو مستظهر بالدعوى، أو مجازف في النظر، أو عامي غبي، أو طالب معرض، أو مصمم على تقليد أكابر من عرف في الجملة، والله أعلم.

قاعدة 12 علم بلا عمل، وسيلة بلا غاية

شرف الشيء إما أن يكون بذاته، فيتجرد طلبه لذاته، وإما أن يكون لمنفعته، فيطلب من حيث يتوصل منه إليها به، وإما أن يكون لمتعلقه، فيكون الفائدة في الوصلة بمتعلقه. فمن ثم قيل: (علم بلا عمل وسيلة بلا غاية، وعمل بلا علم جناية)، والعقل أفضل من علم به، والعلم به تعالى أفضل العلوم لأنه أجل العلوم. وعلم يراد لذاته أفضل، لكون خاصيته في ذاته، كعلم الهيبة والأنس ونحو ذلك. فمن لم يظهر له نتيجة علمه في عمله فعلمه عليه لا له. وربما شهد بخروجه منه إن كان علمه مشروطا بعمله، ولو في باب كماله، فافهم وتأمل ذلك.

قاعدة 13 فائدة الشيء ما قصد له وجوده

فائدة الشيء: ما قصد له وجوده. وإفادته: حقيقته في ابتدائه أو انتهائه أو فيهما.
كالتصوف: علم قصد لإصلاح القلوب، وإفرادها لله عما سواه.
وكالفقه: لإصلاح العمل، وحفظ النظام، وظهور الحكمة بالأحكام.
وكالأصول: لتحقيق المعتقدات بالبرهان، وتحلية الإيمان بالإيقان.
وكالطب: لحفظ الأبدان.
وكالنحو: لإصلاح اللسان.، إلى غير ذلك فافهم.

قاعدة 14 أفضلية علم التصوف على غيره

العلم بفائدة الشيء ونتيجته باعث على التهمم به، والأخذ في طلبه لتعلق النفس بما يفيدها وإن وافقها، وإلا فعلى العكس، وقد صح أن شرف الشيء بشرف متعلقه. ولا أشرف من متعلق علم التصوف، لأن مبدأه خشية الله التي هي نتيجة معرفته ومقدمة إتباع أمره.
وغايته إفراد القلب له تعالى، فلذلك قال الجنيد رضي الله عنه: (لو علمت أن تحت أديم السماء أشرف من هذا العلم الذي نتكلم فيه مع أصحابنا لسعيت إليه).انتهى، وهو واضح.

قاعدة 15 بذل العلم لغير أهله

أهلية الشيء تقضي بلزوم بذله لمن تأهل له، إذ يقدره حق قدره ويضعه في محله، ومن ليس بأهل فقد يضيعه، وهو الغالب أو يكون حاملا له على طلب نوعه وهو النادر.
ومن ثم اختلف الصوفية في بذل علمهم لغير أهله،
فمن قائل: لا يبذل إلا لأهله، وهو مذهب الثوري وغيره.
ومن قائل: يبذل لأهله ولغير أهله، والعلم أحمى جانبا من أن يصل إلى غير أهله، وهو مذهب الجنيد رحمه الله. إذ قيل له: كم تنادي على الله بين يدي العامة؟ فقال: (لكني أنادي على العامة بين يدي
الله) انتهى. يعني أنه يذكر لهم ما يردهم إليه، فتتضح الحجة لقوم وتقوم على آخرين. والحق اختلاف الحكم باختلاف النسب والأنواع، والله أعلم.

قاعدة 16 طلب الدنيا بالتصوف واستعماله لغير غايته

وجوه الاستحقاق مستفادة من شاهد الحال، وقد يشتبه الأمر، فيكون التمسك بالحذر أولى لعارض الحال، وقد يتجاذب الأمر من يستحقه ومن لا، فيكون المنع لأحد الطرفين دون الآخر.
وقد أشار سهل لهذا الأصل بقوله: (إذا كان بعد المائتين فمن كان عنده شيء من كلامنا فليدفنه فإنه يصير زهد الناس في كلامهم، ومعبودهم بطونهم). وعدد أشياء تقضي بفساد الأمر حتى يحرم بثه لحمله على غير ما قصد له، ويكون معلمه كبائع السيف من قاطع الطريق.
وهذا حال الكثير من الناس في هذا الوقت، اتخذوا علوم الرقائق والحقائق سلما لأمور كاستهواء قلوب العامة، وأخذ أموال الظلمة، واحتقار المساكين، والتمكن من محرمات بينة وبدع ظاهرة، حتى أن بعضهم خرج عن الملة وقبل منة الجهال ذلك، بادعاء الإرث والاختصاص في الفن، نسأل الله السلامة بمنه.

قاعدة 17 مخاطبة الناس على قدر عقولهم

في كل علم ما يخص ويعم، فليس التصوف بأولى من غيره في عمومه وخصوصه، بل يلزم بذل أحكام الله المتعلقة بالمعاملات من كل، عموما وما وراء ذلك على حسب قابله لا على قدر قائله، لحديث: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟). وقيل للجنيد رحمه الله: يسألك الرجلان عن المسألة الواحدة، فتجيب هذا بخلاف ما تجيب هذا؟ فقال: (الجواب على قدر السائل)، قال عليه السلام: (أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم).

قاعدة 18 تقديم الأهم على المهم شأن الصادقين في كل شيء

اعتبار المهم وتقديمه أبدا، شأن الصادقين في كل شيء، فكل من طلب من علوم القوم رقيقها قبل علمه بجملة أحكام العبودية منها، وعدل عن جلي الأحكام إلى غامضها، فهو مخدوع بهواه، لا سيما إن لم يحكم الظواهر الفقهية للعبادات، ويحقق الفارق بين البدعة والسنة في الأحوال، ويطالب نفسه بالتحلي قبل التخلي، أو يدعي لها ذلك، ولله در سري رضي الله عنه حيث قال:

من عرف الله عاش *** ومن مال إلى الدنيا طاش
والأحمق يغدو ويروح في لاش *** والعاقل عن محبوبه فتاش

وفي الحكم: (تشوفك إلى ما بطن فيك من العيوب، خير من تشوفك إلى ما حجب عنك من الغيوب). انتهى وهو عجيب.

قاعدة 19 الغيرة على علوم الصوفية وحماية العوام من التعلق بالخاص منها

اعتبار النسب في الواقع يقضي بتخصيص الحكم عن عمومه، ومن ذلك وجود الغيرة على علوم القوم من الإنكار، وحماية عقول العوام من التعلق بما يخص منها حامل على وجود القصد لتخصيصها. هذا مع كثرة ما يخص منها، ومداخل الغلط فيه علما وعملا، أو دعوى أو غير ذلك، فافهم. وأعط كل ذي حكم حقه. فالأعمال للعامة والأحوال للمريدين والفوائد للعابدين والحقائق للعارفين والعبارات قوت لعائلة المستمعين وليس لك إلا ما أنت له آكل، فافهم.

قاعدة 20 الفقه والتصوف شقيقان في الدلالة على أحكام الله

الاشتراك في الأصل يقضي بالاشتراك في الحكم.

والفقه والتصوف شقيقان في الدلالة على أحكام الله تعالى وحقوقه، فلهما حكم الأصل الواحد في الكمال والنقص، إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر في مدلوله. وقد صح أن العمل شرط كمال العلم، فيهما وفي غيرهما، لا شرط صحة فيه، إذا لا ينتفي بانتفائه، بل قد يكون دونه، لأن العلم إمام العمل فهو سابق وجوده حكما وحكمة، بل لو شرط الاتصال لبطل أخذه، كما أنه لو شرط في الأمر والنهي والعمل للزم ارتفاعهما بفساد الزمان، وذلك غير سائغ شرعا ولا محمود في الجملة، بل قد أثبت الله العلم لمن يخشاه وما نفاه عمن لم يخشاه، واستعاذ صلى الله عليه وسلم من علم لا ينفع، وقال: (أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه)، فسماه عالما مع عدم انتفاعه بعلمه. فلزم استفادة العلم من كل محق فيه، محقق له ليس ضرر علمه في وجه إلقائه كعدم اتصافه، فافهم.

قاعدة 21 التصوف لا يعرف إلا مع العمل به

الأغلب في الظهور لازم في الاستظهار بما يلازمه، وقد عرف أن التصوف لا يعرف إلا مع العمل به فالاستظهار به دون عمل تدليس، وإن كان العمل شرط كماله، وقد قيل: (العلم بالعمل فإن وجده وإلا ارتحل). أعاذنا الله من علم بلا عمل آمين.

عن الكاتب

A. Fatih Syuhud

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية