الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

باب في هواتف الجن



المحتويات



باب في هواتف الجن

وهو ما ألقته الجان على ألسنه الكهان ومسموعاً من الأوثان
روى البخاري عن عبد الله بن عمر قال:
ما سمعت عمر يقول لشيء قط: إني لأظنه [كذا]. إلا كان كما يظن.
بينما عمر جالس إذ مر به رجل جميل، فقال: لقد أخطأ ظني، أو أن هذا على دينه في الجاهلية، أو لقد كان كاهنهم، عليّ الرجل.
فدعي به، فقال له ذلك. فقال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم!
قال: فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني. قال: كنت كاهنهم في الجاهلية قال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتك؟

قال: بينما أنا في السوق يوماً؛ جاءتني أعرف فيها الفزع، فقالت:
ألم تر الجن وإبلاسها، وبأسها من بعد إنكاسها، ولحوقها بالقلاص وأحلاسها؟
قال عمر: صدق، بينا أنا عند آلهتهم جاء رجل بعجل فذبحه، فصرخ به صارخ لم أسمع صارخاً قط أشد صوتاً منه يقول: يا جليح! أمر نجيح، رجل فصيح يقول: لا إله إلا الله. فوثب القوم، قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا. ثم نادى: يا جليح! أمر نجيح، رجل فصيح يقول: لا إله إلا الله. فقمت، فما نشبنا أن قيل: هذا نبي.

وهذا الرجل هو سواد بن قارب الأزدي، ويقال: الدوسي من أهل السراة جبال (البلقاء)، له صحبة ووفادة.
وروى الحافظ أبو نعيم عن جابر بن عبد الله قال:
إن أول خبر كان بالمدينة بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امرأة بالمدينة كان لها تابع من الجن، فجاء في صورة طائر أبيض، وقع على حائط لهم، فقالت له: ألا تنزل إلينا فتحدثنا ونحدثك، وتخبرنا ونخبرك؟ فقال لها: إنه قد بعث نبي بمكة حرم الزنا، ومنع منا القرار.

باب كيفية بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر أول شيء أنزل عليه من القرآن العظيم
كان ذلك وله صلى الله عليه وسلم من العمر أربعون سنة.
روى البخارى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:
أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.

ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار (حراء) ، فيتحنث فيه – وهو التعبد – الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود ، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء.
فجاءه الملك فقال: اقرأ. قال: ((ما أنا بقارئ)). قال: ((فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجَهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: 1-5])).

فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: ((زملوني زملوني)). فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع.
فقال لخديجة – وأخبرها الخبر- : ((لقد خشيت على نفسي)).
فقالت خديجة : كلا؛ [أبشر]؛ فوالله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، [وتصدق الحديث]، وتقري الضيف، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق.
فانطلقت به خديجة حتى أتت على ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة [أخي أبيها]، وكان امرءاً قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن كتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي.

فقالت له خديجة: يا ابن عم! اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي! ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى، يا ليتني في جذعاًن ليتني أكون حيّاً إذ يخرجك قومك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((أو مخرجيّ هم ؟!)).

فقال: نعم؛ لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عُودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً.
ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي فترة؛ حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم – فيما بلغنا – حزنا غدا منه مراراً كي يتردى من رؤوسق شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه تبدى له جبريل، فقال: يا محمد! إنك رسول الله حقاً، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، قال: فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل، فقال له مثل ذلك.

هكذا وقع مطولاً في (باب التعبير) من ((البخاري)).
قال جابر بن عبد الله الأنصاري – وهو يحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه - :
((بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري؛ فإذا الملك الذي جاءني بـ(حراء) جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت، فقلت: زملوني زملوني. فأنزل الله : ﴿يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ. وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾[المدثر: 1-5] – فحمي الوحي وتتابع)).

رواه البخاري رحمه الله في كتابه في مواضع منه، وتكلمنا عليه مطولاً في أول ((شرح البخاري)) في (كتاب بدء الوحي) إسناداً ومتناً، ولله الحمد والمنة.
وأخرجه مسلم في ((صحيحه))، وانتهى سياقه إلى قول ورقة: ((أنصرك نصراً مؤزراً)).
فقول أم المؤمنين عائشة: ((أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح)) يقوي ما ذكره محمد بن إسحاق عن عبيد بن عمير الليثي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((فجاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج في كتاب، فقال: اقرأ. فقلت: ما أقرأ. فغتّني حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني)).

وذكر نحو حديث عائشة سواء.
فكان هذا كالتوطئة لما يأتي بعده من اليقظة، وقد جاء مصرحاً بهذا في ((مغازي موسى بن عقبة)) عن الزهري أنه رأى ذلك في المنام، ثم جاءه الملك في اليقظة.
وروى أبو نعيم في ((الدلائل)) بسنده عن علقمة بن قيس قال:
((إن أول ما يؤتى به الأنبياء في المنام حتى تهدأ قلوبهم، ثم ينزل الوحي بعد)).
قال أبو شامة: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى عجائب قبل بعثته.
فمن ذلك ما في ((صحيح مسلم)) عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(مسلم 7/58/59)
(( إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أُبعث، إني لأعرفه الآن)).
انتهى كلامه.

وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الخلاء والانفراد عن قومه؛ لما يراهم عليه من الضلال المبين من عبادة الأوثان والسجود للأصنام، وقويت محبته للخلوة عند مقاربة إيحاء الله إليه، صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله في الحديث: ((والتحنث: التعبد)) تفسير بالمعنى، وإلا فحقيقة التحنث: من حيث البنية – فيما قاله السهيلي- : الدخول في الحنث. ولكن سمعت ألافظ قليلة في اللغة معناها: الخروج من ذلك الشيء؛ كتحنث، أي: خرج من الحنث، وتحوب، وتحرج وتأثم. وتهجد: هو ترك الهجود وهو النوم للصلاة، وتنجس وتقذر. أوردها أبو شامة.

قال ابن هشام: والعرب تقول: التحنيث والتحنف. يبدلون الفاء من الثاء، كما قالوا: جدّف وجدث، كما قال رؤبة:
لو كان أحجاري من الاجداف.
يريد: الأجداث.
قال: وحدثني أبو عبيدة: أن العرب تقول: (فُمّ) في موضع (ثُمّ).
قلت: ومن ذلك قول بعض المفسرين : ﴿وفومها﴾ أن المراد: ثومها.

وقوله: ((حتى فجأه الحق وهو بغار حراء))؛ أي: جاء بغتة على غير موعد؛ كما قال تعالى : ﴿وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك﴾الآية[النمل:86].
وقد كان نزول هذه السورة الكريمة وهي: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: 1-5] – وهي أول ما نزل من القرآن؛ كما قررنا ذلك في ((التفسير))، وكما سيأتي أيضاً – في يوم الاثنين؛ كما ثبت في ((صحيح مسلم)) عن أبي قتادة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين؟ فقال:
((ذاك يوم ولدت فيه، ويوم أنزل عليّ فيه)).
وقال ابن عباس:
ولد نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، ونُبّي يوم الاثنين.

وهذا ما خلاف فيه.
والمشهور أنه بعث عليه الصلاة والسلام في شهر رمضان؛ كما نص على ذلك عبيد بن عمير ومحمد بن إسحاق وغيرهما، واستدل ابن إسحاق على ذلك بقوله تعالى : ﴿شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس﴾ [البقرة: 185].
وروى الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((أُنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان)).

وروى ابن مردويه في ((تفسيره)) عن جابر بن عبد الله مرفوعاً نحوه.
ولهذا ذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن ليلة القدر ليلة أربع وعشرين.
وأما قول جبريل: ((اقرأ))، فقال: ((ما أنا بقارئ))؛ فالصحيح أن قوله: ((ما أنا بقارئ)) نفي؛ أي : لست ممن يحسن القراءة، ووممن رجحه انووي، وقبله الشيخ أبو شامة.
ومن قال: إنها استفهامية. فقوله بعيد؛ لأن الباء لا تزاد في الإثبات.

وقوله: ((حتى بلغ مني الجهد)): يُروى بضم الجيم وفتحها وبالنصب وبالرفع، وفعل به ثلاثاً، قال الخطابي:
((وإنما فعل ذلك به ليبلوا صبره، ويحسن تأديبه، فيرتاض لاحتمال ما كلفه به من أعباء النبوة، ولذلك كان يعتريه مثل حال المحموم، وتأخذه (الرحضاء)؛ أي: البهر والعرق)).

وقال غيره: إنما فعل ذلك لأمور: منها أن يستيقظ لعظمة ما يلقى إليه بعد هذا الصنيع المشق على النفوس؛ كما قال تعالى : ﴿إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً﴾ [المزمل: 5]، ولهذا كان عليه الصلاة والسلام إذا جاءه الوحي يحمر وجهه، ويغط كما يغط البكر من الإبل، ويتفصد جبينه عرقاً في اليوم الشديد البرد.

وقوله: ((فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خديجة يردف فؤاده))، وفي رواية: ((بوادره)): جمع بادرة؛ قال أبو عبيدة: وهي لحمة بن المنكب والعنق. وقال غيره: هي عروق تضطرب عند الفزع .
وقوله: ((لقد خشيت على نفسي))، وذلك لأنه شاهد أمراً لم يعهده قبل ذلك، ولا كان في خلده، ولهذا قالت خديجة: كلا؛ أبشر والله؛ لا يخزيك الله أبداً. قيل: من الخزي، وقيل: من الحزن، وهذا لعلمها بما أجرى الله به جميل العوائد في خلقه؛ أن من كان متصفاً بصفات الخير لا يخزى في الدنيا ولا في الآخرة.
ثم ذكرت له من صفاته الجليلة ما كان من سجاياه الحسنة. فقالت: ((إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث)). وقد كان مشهوراً بذلك صلوات الله وسلامه عليه عند الموافق والمفارق.

((وتحمل الكل))؛ أي: عن غيرك، تعطي صاحب العيلة ما يريحه من ثقل مؤونة عياله.
((وتكسب المعدوم)) ؛ أي: تسبق إلى فعل الخير، فتبادر إلى إعطاء الفقير، فتكسب حسنته قبل غيرك، ويسمى الفقير معدوماً ؛ لأن حياته ناقصة، فوجوده وعدمه سواء؛ كما قال بعضهم:
ليس من مات فاستراح بميت إن الميت ميت الأحياء
واختار شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي أن المراد بـ(المعدوم) ههنا: المال المعطى؛ أي: يعطي المال لمن هو عادمه.
ومن قال: إن المراد أنك تكسب باتجارك المال المعدوم، أو النفيس القليل النظير؛ فقد أبعد النجعة، وأغرق في النزع، وتكلف ما ليس له علم، فإن مثل هذا لا يمدح به غالباً، وقد ضعف هذا القول عياض والنووي وغيرهما. والله أعلم.
((وتقري الضيف))؛ أي: تكرمه في تقديم قراه، وإحسان مأواه.

((وتعين على نوائب الحق))، ويروى ((الخير))؛ أي: إذا وقعت نائبة لأحد في خير أعنت فيها، وقمت مع صاحبها حتى يجد سداداً من عيش، أو قواماً من عيش.
وقول ورقة: ((يا ليتني فيها جذَعاً))؛ أي: يا ليتني أكون اليوم شاباً متمكناً من الإيمان والعلم النافع والعمل الصالح.
((يا ليتني أكون حياً حين يخرجك قومك))؛ يعني: حتى أخرج معك وأنصرك.

((نصراً مؤزراً)؛ أي: أنصرك نصراً عزيزاً أبداً.
وقوله: ((ثم لم ينشب ورقة أن توفي))؛ أي: توفي بعد هذه القصة بقليل، رحمه الله ورضي عنه، فإن مثل هذا الذي صدر عنه تصديق بما وُجد ، وإيمان بما حصل من الوحي، ونية صالحة للمستقبل.
وقد روى الإمام أحمد عن ابن لهيعة: حدثني أبو الاسود عن عروة عن عائشة: أن خديجة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ورقة بن نوفل؟ فقال:
((قد رأيته؛ فرأيت عليه ثياب بياض، فأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بياض)).
وهذا إسناد حسن؛ لكن رواه الزهري وهشام عن عروة مرسلاً. فالله أعلم.
وروى الحافظ أبو يعلى عن مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله:

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ورقة بن نوفل؟ فقال:
((قد رأيته؛ فرايت عليه ثياب بياض، أبصرته في بطنان الجنة وعليه السندس)).
وسئل عن زيد بن عمرو بن نفيل؟ فقال:
((يبعث يوم القيامة أمة وحده)).
وسئل عن أبي طالب؟ فقال:
((أخرجته من غمرة من جهنم إلى ضحضاح منها)).

وسئل عن خديجة؛ لأنها ماتت قبل الفرائض وأحكام القرآن؟ فقال:
((أبصرتها على نهر في الجنة في بيت من قصب؛ لا صخب فيه ولا نصب)).
إسناده حسن، ولبعضه شواهد في ((الصحيح)). والله أعلم.
وروى البزار وابن عساكر عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( لا تسبوا ورقة؛ فإني رأيت له جنة أو جنتين)).
وهذا إسناد جيد، وروي مرسلاً، وهو أشبه.

وروى البيهقي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:
كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فخرج في بعض نواحيها، فما استقبله شجر ولا جبل إلا قال : السلام عليك يا رسول الله!
وفي رواية:
لقد رأيتني أدخل معه الوادي، فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال : السلام عليكم يا رسول الله! وأنا أسمعه.
ومضى قريباً حديث مسلم:
((إني لأعرف بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن)).

فصل

وفي ((الصحيحين)) عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي قال:
((فبينما أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء ... فخشيت منه فرقاً حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي فقلت: زملوني زملوني. فأنزل الله: ﴿يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ. وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾[المدثر: 1-5].
قال: ثم حمي الوحي وتتابع)).
فهذا كان أول من القرآن بعد فترة الوحي لا مطلقاً، ذاك قوله: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾.
وقد ثبت عن جابر : أن أول ما نزل : ﴿يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾، واللائق حمل كلامه ما أمكن على ما قلناه؛ فإن في سياق كلامه ما يدل على تقدم مجيء الملك الذي عرفه ثانياً بما عرفه به أولاً إليه. ثم قوله: ((يحدث عن فترة الوحي)) دليل على تقدم الوحي على هذا الإيحاء. والله أعلم.
وقد ثبت في ((الصحيحين)) عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن: أي القرآن أنزل قبل؟ فقال: ﴿يا أيها المدثر﴾.

فقلت: و ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق﴾؟
فقال: سألت جابراً بن عبد الله: أي القرآن أنزل قبل؟ فقال: ﴿يا أيها المدثر﴾ فقلت: و﴿اقرأ باسم ربك﴾؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( إني جاورت بـ(حراء) شهراً، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي، فنوديت، فنظرت بين يدي وخلفي، وعن يميني وعن شمالي، فلم أرَ شيئاً، ثم نظرت إلى السماء؛ فإذا هو على العرش في الهواء، فأخذتني رعدة- أو قال: وحشة- فأتيت خديجة ، فأمرتهم فدثروني، فأنزل الله : ﴿يا أيها المدثر ﴾ حتى بلغك ﴿وثيابك فطهر﴾)).

وفي رواية:
((فإذا الملك الذي جاءني بـ(حراء) جالس على كرسي بين السماء والأرض، فجثيت منه)).
وهذا صريح في تقدم إتيانه إليه، وإنزاله الوحي من الله عليه؛ كما ذكرناه. والله أعلم.
ومنهم من زعم أن أول ما نزل بعد فترة الوحي سورة: ﴿والضحى. والليل إذا سجى. ما ودعك ربك وما قلى﴾ إلى آخرها. وهو قول بعيد يرده ما تقدم من رواية صاحبي ((الصحيح))؛ من أن أول القرآن نزولاً بعد فترة الوحي:

﴿يا أيها المدثر. قم فأنذر﴾، ولكن نزلت سورة (والضحى) بعد فترة أخرى كانت ليالي يسيرة؛ كما ثبت في ((الصحيحين)) وغيرهما عن جندب بن عبد الله البجلي قال:
اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلم يقم ليلة أو ليلتين أو ثلاثاً، فقالت امرأة: ما أرى شيطانك إلا تركك. فأنزل الله: ﴿وَالضُّحَى. وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى. مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾.
وبهذا الأمر حصل الإرسال إلى الناس، وبالأول حصلت النبوة.
ثم حمي الوحي بعد هذا وتتابع؛ أي: تدارك شيئاً بعد شيء.
وقام حينئذٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرسالة أتم القيام، وشمر عن ساق العزم ، ودعا إلى الله القريب والبعيد، والأحرار والعبيد، فآمن به حينئذ كل لبيب نجيب سعيد، واستمر على مخالفته وعصيانه كل جبار عنيد.

فكان أول من بادر إلى التصديق من الرجال الأحرار أبو بكر الصديق.
ومن الغلمان علي بن أبي طالب.
ومن النساء خديجة بنت خويلد زوجته عليه السلام.
ومن الموالي مولاه زيد بن حارثة الكلبي؛ رضي الله عنهم وأرضاهم.


فصل في منع الجان ومرَدَة الشياطين من استراق السمع حين أنزل القرآن

في منع الجان ومرَدَة الشياطين من استراق السمع حين أنزل القرآن لئلا يختطف أحدهم منه ولو حرفاً واحداً فيلقيه على لسان وليه فيلتبس الأمر ويختلط الحق
فكان من رحمة الله وفضله ولطفه بخلقه أن حجبهم عن السماء؛ كما قال الله تعالى إخباراً عنهم في قوله: ﴿وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا. وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا﴾ [الجن: 8- 10].
وقال تعالى :﴿وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون﴾[الشعراء: 210 – 212].

وروى الحافظ أبو نعيم عن ابن عباس قال:
كان الجن يصعدون إلى السماء يستمعون الوحي، فإذا حفظوا الكلمة زادوا فيها تسعاً، فأما الكلمة فتكون حقاً، وأما ما زادوا فتكون باطلاً.
فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم، فذكروا لإبليس – ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك – فقال لهم إبليس : هذا لأمر قد حدث في الأرض.
فبعث جنوده، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً يصلي بين جبلين، فأتوه فأخبروه ، فقال : هذا الأمر الذي حدث في الأرض.

وعنه قال:
انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلتْ عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، قالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا اشهب. فقالوا: ما ذاك إلا من شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، [فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء؟! فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها].
فمر النفق الذي أخذوا نحو (تهامة) - وهو بـ(نخل) – عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمع القرآن استمعوا له، فقالو: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء.
فرجعوا إلى قومهم، فقالوا: يا قومنا ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًا عَجَبًا. يَهْدِي إلى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا﴾، فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم : ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًا عَجَبًا﴾.

أخرجاه في ((الصحيحين)).
وروى أبو بكر بن أبي شيبة عنه قال:
إنه لم تكن قبيلة من الجن إلا ولهم مقاعد للسمع، فإذا نزل الوحي؛ سمعت الملائكة صوتاً كصوت الحديد ألقيتها على الصفا، قال: فإذا سمعت الملائكة خروا سجداً، فلم يرفعوا رؤوسهم حتى ينزل، فإذا نزل؛ قال بعضهم لبعض: ﴿ماذا قال ربكم﴾؟ فإن كان مما يكون في السماء ﴿قالوا الحق وهو العلي الكبير﴾، وإن كان مما يكون في الأرض من : أمر الغيب، أو موتٍ ، أو شيء مما يكون في الأرض تكلموا به، فقالوا: يكون كذا وكذا. فتسمعه الشياطين، فينزلونه على أوليائهم.
فلما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم دُحروا بالنجوم، فكان أول من علم بها ثقيف، فكان ذو الغنم منهم ينطلق إلى غنمه، فيذبح كل يوم شاة، وذو الإبل فينحر كل يوم بعيراً، فأسرع الناس في أموالهم، فقال بعضهم لبعض: لا تفعلوا؛ فإن كانت النجوم التي يهتدون بها وإلا فإنه لأمر حدث. فنظروا؛ فإذا النجوم التي يُهتدى بها كما هي لم يَزُل منها شيء، فكفوا.

وصرف الله الجن فسمعوا القرآن ﴿فلما حضروه قالوا أنصتوا﴾.
وانطلقت الشياطين إلى إبليس فأخبروه، فقال: هذا حدثٌ حدث في الأرض، فأتوني من كل أرض بتربة، فآتوه بتربة تهامة، فقال: ها هنا الحدث.
ورواه البيهقي والحاكم عن عطاء بن السائب.
وثبت في الحدث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في نفر من أصحابه [من الأنصار]، فرُمي بنجم عظيم فاستنار، قال:
((ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية؟)).

قال: كنا نقول: يولد عظيم، أو يموت عظيم – قال معمر: قلت للزهري: أكان يرمى بها في الجاهلية؟ قال: نعم؛ ولكن غلظت حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم – قال:
((فإنه لا يرمى بها لموت أحد، ولا لحياته، ولكن ربنا تبارك اسمه إذا قضى أمراً سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذي يلونهم، حتى يبلغ التسبيح هذه السماء الدنيا، ثم يستخبر أهل السماء الذي يلون حملة العرش، فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ﴿ماذا قال ربكم﴾؟ فيخبرونهم، ويخبر أهل كل سماء سماء؛ حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء، ويخطف الجن السمع فيرمون، فما جاؤوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يقرفون [فيه] ويزيدون)).

[المستدرك]
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال:
((إذا قضى الله الأمر في السماء؛ ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله؛ كأنه سلسلة على صفوان [ينفذهم ذلك]، فـ﴿إذا فزّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا﴾ للذي قال: ﴿الحق وهو العلي الكبير﴾ [سبأ: 23]. فيسمعها مسترقـ[وا] السمع، ومسترقـ[وا] السمع هكذا : بعضه فوق بعض- ووصف سفيان بكفه؛ فحرفها وبدّد (وفي لفظ : وفرج) بين أصابعه- يسمع الكلمة، فيلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدرك الشهاب [المستمعَ] قبل أن يلقيا [إلى صاحبه فيحرق]، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا، فيُصدّق بتلك الكلمة التي سمع من السماء)).

أخرجه البخاري.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت:
سأل أناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((ليسوا بشيء)).
قالوا: يا رسول الله! فإنهم يحدثون أحياناً الشيء يكون حقاً؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني، فيقرّها في أذن وليه قرّ الدجاجة، فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة)).
أخرجه الشيخان. [انتهى المستدرك].


فصل في كيفية إتيان الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

قد تقدم كيفية ما جاءه جبريل في أول مرة ، وثاني مرة أيضاً.
وعن عائشة رضي الله عنها:
أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
يا رسول الله! كيف يأتيك الوحي؟ فقال:
((أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليّ؛ فينفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً يكلمني؛ فأعي ما يقول)).
قالت عائشة رضي الله عنها:
ولقد رأيته صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد؛ فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً.
أخرجاه في ((الصحيحين))، وأحمد.
وفي حديث الإفك قالت عائشة:
فوالله؛ ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البُرحاء، حتى إنه كان يتحدر منه مثل الجمان من العرق – وهو في يوم شاتٍ- من ثقل الوحي الذي أنزل عليه.
وفي ((صحيح مسلم)) وغيره عن عبادة بن الصامت قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي كرب لذلك ، وتربّد وجهه. (وفي رواية: وغمض عينيه، وكنا نعرف ذلك منه).
وفي ((الصحيحين)) حديث زيد بن ثابت حين نزلت: ﴿لا يستوي القاعدون من المؤمنين﴾ [النساء:95]، فلما شكى ابن أم مكتوم ضرارته نزلت: ﴿غير أولي الضرر﴾.
قال: وكانت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، وأنا أكتب، فلما نزل الوحي كادت فخذه ترض فخذي.
وفي ((صحيح مسلم)) عن يعلى بن أمية قال: قال لي عمر:
أيسرك أن تنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوحى إليه؟ فرفع طرف الثوب عن وجهه وهو يوحى إليه بـ(الجعرانة)؛ فإذا هو محمر الوجه، وهو يغط كما يغط البكر.
وثبت في ((الصحيحين)) من حديث عائشة لما نزل الحجاب، وأن سودة خرجت بعد ذلك إلى (المناصع) ليلاً، فقال عمر: قد عرفناك يا سودة! فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألته وهو جالس يتعشى والعرق في يده، فأوحى الله إليه، [ثم يرفع عنه]، والعرق في يده [ما وضعه]، ثم رفع رأسه فقال:
((إنه قد أذن لكن أن تخرجتن لحاجتكن)).
فدل هذا على أنه لم يكن الوحي يغيب عنه إحساسه بالكلية ؛ بدليل أنه جالس، ولم يسقط العرق أيضاً من يده؛ صلوات الله وسلامه دائماً عليه.
وروى أبو يعلى عن الفلتان بن عاصم قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه، وكان إذا أُنزل عليه دام بصره وعيناه مفتوحة ، وفرغ سمعه وقلبه لما يأتيه من الله عز وجل، [فكنا نعرف ذلك منه].
وروى أحمد وأبو نعيم عن أسماء بنت يزيد قالت:
((إني لآخذة بزمام العضباء، ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نزلت عليه (المائدة) كلها، وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة.
وروى أحمد أيضا عن عبد الله بن عمرو قال:
أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة (المائدة) وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله، فنزل عنها.
وروى ابن مردويه عن أم عمرو عن عمها:
أنه كان في مسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت عليه سورة (المائدة)، فاندقّ عنق الراحلة من ثقلها.
وهذا غريب من هذا الوجه.
ثم قد ثقت في ((الصحيحين)) نزول سورة (الفتح) على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من الحديبية وهو على راحلته، فكان يكوت تارة وتارة، بحسب الحال، والله أعلم.

فصل

قال الله تعالى : ﴿لا تحرك به لسانه لتعجل به. إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرآناه فاتبع قرآنه. ثم إن علينا بيانه﴾ [القيامة: 16-19].
وقال تعالى : ﴿ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يُقضى إليك وحيه وقل رب زدني علماً﴾ [طه: 114]
وكان هذا في الابتداء؛ كان عليه الصلاة والسلام من شدة حرصه على أخذه من املك ما يوحى إليه عن الله عز وجل يسابقه في التلاوة، فأمره الله تعالى أن ينصت لذلك حتى يفرغ من الوحي، وتكلف له أن يجمعه في صدره، وأن ييسر عليه تلاوته وتبليهن وأن يبينه له ويفسره ويوضحه، ويوقفه على المراد منه.
ولهذا قال: ﴿ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علماً﴾.
وقوله: ﴿لا تحرك به لسانك لتعجل به. إن علينا جمعه﴾؛ أي: في صدرك، ﴿وقرآنه﴾؛ أي: وتقرأه، ﴿فإذا قراناه﴾؛ أي: تلاه عليك الملَك، ﴿فاتبع قرآنه﴾؛ أي: فاستمع له وتدبره، ﴿ثم إن علينا بيانه﴾؛ وهو نظير قوله: ﴿وقل رب زدني علماً﴾.
وفي ((الصحيحين)) عن ابن عباس قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، فكان يحرك شفتيه، فأنزل الله : ﴿لا تحرك به لسانك لتعجل به. إن علينا جمعه وقرآنه﴾؛ قال: جمعه في صدرك ثم تقرأه، ﴿فإذا قرأناه فاتبع قرآنه﴾: فاستمع له وأنصت، ﴿ثم إن علينا بيانه﴾؛ قال: فكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله عز وجل.

فصل

@قال ابن إسحاق: ثم تتامّ الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مصدق بما جاء منه، وقد قبله بقبوله، وتحمل منه ما حمله على رضا العباد وسخطهم.
وللنبوة أثقال ومؤونة لا يحملها ولا يستضلع بها إلا أهل القوة والعزم من الرسل- بعون الله وتوفيقه – لما يلقون من الناس، وما يُردّ عليهم مما جاؤوا به عن الله عز وجل.
فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما أمر الله به على ما يلقى من قومه من الخلاف والأذى.

قال ابن إسحاق: وآمنت خديجة بنت خويلد وصدقت بما جاءه من الله، ووازرته على أمره، وكانت أول من آمن بالله ورسوله، وصدقت بما جاء منه.
فخفف الله بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يسمع شيئاً يكرهه – من رد عليه، وتكذيب له، فيحزنه ذلك – إلا فرج الله عنه بها؛ إذا رجع إليها تثبته وتخفف عنه ، وتصدقه وتهون عليه أمر الناس، رضي الله عنها وأرضاها.
قال: وحدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((أمرت أن أبشر خديجة ببيت من قصب؛ لا صخب فيه ولا نصب)).
وهذا الحديث مخرج في ((الصحيحين)) من حديث هشام.

قال ابن هشام: (القصب) ها هنا: اللؤلؤ المجوف.


فصل في ذكر من أسلم ثم ذكر متقدمي الإسلام من الصحابة وغيرهم

روى ابن إسحاق عن إياس بن عُفيف عن أبيه عفيف – وكان عفيف أخا الأشعث بن قيس لأمه – أنه قال:
كنت امرءاُ تاجراً، فقدمت (منىً) أيام الحج، وكان العباس بن عبد المطلب امرءاً تاجراً، فأتيته أبتاع منه.
قال: فبينا نحن إذ خرج رجل من خباء، فقام يصلي تجاه الكعبة، ثم خرجت امرأة فقامت تصلي، وخرج غلام فقام يصلي معه.
فقلت: يا عباس! ما هذا الدين ؟! إن هذا الدين ما أدري ما هو؟!
فقال: هذا محمد بن عبد الله يزعم أن الله أرسله، وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه، وهذه امرأته خديجة بنت خويلد آمنت به، وهذا الغلام ابن عمه علي بن أبي طالب آمن به.
قال عفيف: فليتني كنت آمنت يومئذٍ فكنت أكون رابعاً.

وفي رواية عنه قال:
إذ خرج رجل من خباء قريب منه، فنظر إلى الشمس، فلما رآها قد مالت قام يصلي ... ثم ذكر قيام خديجة وراءه.
وروى ابن جرير بسنده عن يحيى بن عفيف [عن عفيف] قال:
جئت زمن الجاهلية إلى (مكة)، فنزلت على العباس بن عبد المطلب، فلما طلعت الشمس، وحلقت في السماء – وأنا أنظر إلى الكعبة – أقبل شاب، فرمى ببصره إلى السماء، ثم استقبل الكعبة، فقام مستقبلها، فلم يلبث حتى جاء غلام فقام عن يمينه، فلم يلبث حتى جاءت امرأة فقامت خلفهما، فركع الشاب، فركع الغلام والمرأة، فرفع الشاب، فرفع الغلام والمرأة، فخر الشاب ساجداً، فسجدا معه.
فقلت: يا عباس! أمر عظيم! فقال: أمر عظيم؟! أتدري من هذا؟ فقلت: لا. فقال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب؛ ابن أخي . أتدري من الغلام؟ قلت: لا. قال: هذا علي بن أبي طالب- رضي الله عنه – أتدري من هذه المرأة التي خلفهما؟ قلت: لا. قالت: لا. قال: هذه خديجة بنت خويلد زوجة ابن أخي. وهذا حدثني أن ربك رب السماء والأرض أمره بهذا الذي تراهم عليه، وايم الله؛ ما أعلم على ظهر الأرض كلها أحداً على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة.
وروى ابن جرير أيضاً عن ابن عباس قال:
أول من صلى عَلِيّ.
وعن جابر قال:
بُعث النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، وصلى عليٌُّ يوم الثلاثاء.
وعن زيد بن أرقم قال:
أول من أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب.
قال: [عمرو بن مرة]: فذكرته للنخعي، فأنكره، وقال: أبو بكر أول من أسلم.
وقال آخرون: أول من أسلم هذه الأمة أبو بكر الصديق.
والجمع بين الأقوال كلها: إن خديجة أول من أسلمت من النساء- وظاهر السياقات- وقبل الرجال أيضاً.
وأول من أسلم من الموالي زيد بن حارثة.
وأول من أسلم من الغلمان علي بن أبي طالب؛ فإنه كان صغيراً دون البلوغ على المشهور، وهؤلاء كانوا إذ ذاك أهل البيت.
وأول من أسلم من الأحرار أبو بكر الصديق، وإسلامه كان أنفع من إسلام من تقدم ذكرهم؛ إذ كان صدراً معظماً، ورئيساً في قريش مكرماً، وصاحب مال، وداعية إلى الإسلام، وكان محبباً متألفاً، يبذل المال في طاعة الله ورسوله.
وقد ثبت في ((صحيح البخاري)) عن أبي الدرداء في حديث ما كان بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من الخصومة، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((إن الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبتَ. وقال أبو بكر: صدق. وواساني بنفسه وماله. فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ (مرتين) )). فما أوذي بعدها.
وهذا كالنص على أنه أول من أسلم رضي الله عنه.
وقد روى الترمذي وابن حبان عن أبي سعيد قال:
قال ابو بكر الصديق رضي الله عنه: ألست أحق الناس بها؟ ألست أول من أسلم؟ ألست صاحب كذا؟
وقد تقدم رواية ابن جرير عن زيد بن أرقم قال:
أول من أسلم علي بن أبي طالب.
قال عمرو بن مرة: فذكرته لإبراهيم النخعي، فأنكره، وقال: أول من أسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
وهذا هو المشهور عن جمهور أهل السنة.
وثبت في ((صحيح البخاري)) عن عمار بن ياسر قال:
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسة أعبد، وامرأتان، وأبو بكر.
وروى الإمام أحمد وابن ماجه عن ابن مسعود قال:
أول من أظهر الإسلام سبع: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد.
فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم؛ فأخذهم المشركون، فألبسوهم أدرع الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما ارادوا؛ إلا بلالاً؛ فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأخذوه، فأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب (مكة) وهو يقول: أحد أحد.
وثبت في ((صحيح مسلم)) من حديث أبي أمامة عن عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه قال:
أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول ما بعث وهو بـ(مكة)، وهو حينئذ مستخف، فقلت: ما أنت؟ قال: ((أنا نبي)). فقلت: وما النبي؟ قال: ((رسول الله)). قلت: الله أرسلك؟ قال: ((نعم)). قلت: بم أرسلك؟ قال:
((أن تعبد الله وحده لا شريك له، وتكسر الأصنام، وتوصل الأرحام)).
قال: قلت: نِعْمَ ما أرسلت به، فمن تبعك على هذا؟
قال: ((حر وعبد)). يعني: أبا بكر وبلالاً.
قال: فكان عمرو يقول: لقد رأيتني وأنا ربع الإسلام.
قال: فأسلمت. قلت: فاتبعك يا رسول الله؟ قال: ((لا؛ ولكن الحقْ بقومك؛ فإذا أخبرت أني قد خرجت فاتبعني)).
ويقال: إن معنى قوله عليه السلام: ((حر وعبد)) اسم جنس، وتفسير ذلك بأبي بكر وبلال فقط فيه نظر؛ فإنه قد كان جماعة أسلموا قبل عمرو بن عبسة، وقد كان زيد بن حارثة أسلم قبل بلال أيضا، فلعله أخبر أنه ربع الإسلام بحسب علمه، فإن المؤمنين كانوا إذ ذاك يستسرون بإسلامهم، لا يطلع على أمرهم كثير أحد من قراباتهم، دع الأجانب، دع أهل البادية من الأعراب. والله أعلم.
وفي ((صحيح البخاري)) عن سعد بن أبي وقاص:
((ما أسلم أحد[إلا] في اليوم الذي أسلمت فيه، ولقد مكثت سبعة أيام، وإني لثلث الإسلام)).
أما قوله: ((ما أسلم أحدٌ في اليوم الذي أسلمت فيه)) فسهل، ويروى: ((إلا في اليوم الذي أسلمت فيه))، وهو مشكل؛ إذ يقتضي أنه لم يسبقه أحد بالإسلام، وقد علم أن الصديق وعلياً وخديجة وزيد بن حارثة أسلموا قبله؛ كما قد حكى الإجماع على تقدم إسلام هؤلاء غير واحد؛ منهم ابن الأثير.
ونص أبو حنيفة رضي الله عنه على أن كلاً من هؤلاء أسلم قبل أبناء جنسه. والله أعلم.
وأما قوله: ((ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام)) فمشكل، وما أدري على ماذا يوضع عليه؟! إلا أن يكون أخبر بحسب ما علمه. والله أعلم.
وروى الطيالسي وأحمد والحسن بن عرفة عن ابن مسعود قال:
كنت غلاماً يافعاً أرعى غنماً لعقبة بن أبي معيط بـ(مكة)، فأتى عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وقد فرا قمن المشركين، فقال – أو : فقالا - : عندك يا غلام! لبن تسقينا؟ قلت: إني مؤتمن، ولست بساقيكما. فقال: هل عندك من جذعة لم ينزُ عليها الفحل بعد؟ قلت: نعم. فأتيتهما بها، فاعتقلها أبو بكر، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الضرع ودعا، فحفل الضرع، وأتاه أبو بكر بصخرة متقعرة فحلب فيها، ثم شرب هو وأبو بكر، ثم سقياني، ثم قال للضرع: اقلص. فقلص.
فلما كان بعد أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: علمني من هذا القول الطيب. يعني القرآن، فقال:
((إنك غلام معلّم)).
فأخذت من فيه سبعين سورة؛ ما ينازعني فيها أحد.

ذكر إسلام أبي ذر رضي الله عنه
روى البيهقي عن الحاكم بسنده عن أبي ذر قال:
كنت ربع الإسلام، أسلم قبلي ثلاثة نفر، وأنا الرابع، أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: السلام عليك يا رسول الله! أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. فرأيت الاستبشار في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا سياق مختصر.
وقد رواه البخاري عن ابن عباس قال:
لما بلغ أبا ذر مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي؛ فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، فاسمع من قوله ثم ائتني.
فانطلق الأخ، حتى قدمه وسمع من كلامه، ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاماً ما هو بالشعر.
فقال: ما شفيتني ما أردت.

فتزود وحمل شنّة [له] فيها ماء، حتى قدم (مكة)، فأتى المسجد، فالتمس رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه، حتى أدركه بعض الليل، فرآه علي فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه، ولم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح، ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد، وظل ذلك اليوم ولا يراه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمر به عليّ فقال: أما آن للرجل أن يعلم منزله؟ فأقامه، فذهب به معه، لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء.
حتى إذا كان يوم الثالث فعاد عليّ على مثل ذلك، فأقام معه، فقال: ألا تحدثني بالذي أقدمك؟ قال: إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدني فعلت. ففعل، فأخبره. قال: فإنه حق، وإنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أصبحت فاتبعني، فإني إن رأيت شيئاً أخاف عليك؛ قمت كأني أريق الماء. وإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي. ففعل، فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ، ودخل معه، فسمع من قوله، وأسلم مكانه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :
((ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري)).
فقال: والذي نفسي بيده؛ لأصرخن ما بين ظهرانيهم. فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. ثم قام القوم، فضربوه حتى أضجعوه، فأتى العباس، فأكب عليه، فقال: ويلكم!
ألستم تعلمون أنه من غفار؛ وأن طريق تجارتكم إلى الشام؟! فأنقده منهم.
ثم عاد من الغد لمثلها، فضربوه وثاروا إليه، فأكب العباس عليه.
هذا لفظ البخاري.
وقد جاء إسلامه مبسوطاً في ((صحيح مسلم)) وغيره، فروى أحمد عن عبد الله بن الصامت [قال: ] قال أبو ذر:
خرجنا من قومنا غفار – وكانوا يحلون الشهر الحرام – أنا وأخي أنيس وأمّنا، فانطلقنا حتى نزلنا على خال لنا ذي مال وذي هيئة، فأكرمنا خالنا، وأحسن إلينا، فحسدنا قومه، فقالوا له: إنك إذا خرجت عن أهلك خلفك إليهم أنيس. فجاء خالنا فنثى عليه ما قيل له، فقلت له: أما ما مضى من معروفك؛ فقد كدرته، ولا جماع لنا فيما بعد.
قال: فقربنا صرمتنا فاحتملنا عليها، وتغطى خالنا ثوبه، وجعل يبكي.
قال: فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة (مكة)، قال: فنافر أنيس [رجلاً] عن صرمتنا وعن مثلها، فأتيا الكاهن، فخيّر أنيساً، فأتانا بصرمتنا ومثلها.
وقد صليت يا ابن أخي! قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين.
قال: قلت: لمن؟ قال: لله. قال: فأين توجه؟ قال: حيث وجهني الله. قال: وأصلي عشاء، حتى إذا كان من آخر الليل أُلقيت كأني خفاء حتى تعلوني الشمس.
قال: فقال أنيس: إن لي حاجة بمكة، فاكفني حتى آتيك.
قال: فانطلق فراث عليّ، ثم أتاني، فقلت: ما حبسك؟ قال: لقيت رجلاً يزعم أن الله عز وجل أرسله على دينك. قال: فقلت: ما يقول الناس له؟ قال: يقولون: إنه شاعر وساحر [وكاهن]. وكان أنيس شاعراً.
قال: فقال: قد سمعت قول الكاهن، فما يقول بقولهم، وقد وضعت قوله على أقراء الشعر، فوالله؛ ما يلتئم لسان أحد أنه شعر، والله ؛ إنه لصادق، وإنهم لكاذبون.
قال: فقلت له: هل أنت كافيّ حتى أنطلق فانظر؟ قال: نعم، وكن من أهل (مكة) على حذر؛ فإنهم قد شنفوا له، وتجهموا له.
قال: فانطلقت حتى قدمت (مكة)، فتضعفت رجلاً منهم، فقلت: أين هذا الرجل الذي تدعونه الصابئ؟ قال: فأشار إلي. [قال: الصابئ. قال: ] فمال أهل الوادي عليّ بكل مدَرَةٍ وعظم، حتى خررت مغشياً عليّ، فارتفعت حين ارتفعت كأني نُصُب أحمر.
فأتيت زمزم فشربت من مائها، وغسلت عني الدم، ودخلت بين الكعبة وأستارها، فلبثت به ابن أخي! ثلاثين من بين يوم وليلة، وما لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما وجدت على كبدي سُخفة جوع.
قال: فبينا أهل (مكة) في ليلة قمراء إضحيان، فضرب الله على أصمخة أهل (مكة)، فما يطوف بالبيت غير امرأتين، فأتتا عليّ وهما تدعوان (إساف) و(ونائلة)، فقلت: أنكحوا أحدهما الآخر! فما ثناهما ذلك، قال: فأتتا عليّ، فقلت: وهنّ مثل الخشبة. غير أني لم أُكن.
قال: فانطلقتا تولولان وتقولان: لو كان ههنا أحد من أنفارنا!
قال: فاستقبلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وهما هابطان من الجبل، فقال: ((ما لكما؟)). فقالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها. قالا: ((ما قال لكما؟)). قالتا: قال لنا كلمة تملأ الفم!
قال: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وصاحبه حتى استلم الحجر، فطاف بالبيت، ثم صلى.
قال: فاتيته، فكنت أول من حياه بتحية أهل الإسلام، فقال:
((عليك السلام ورحمة الله، ممن أنت؟)).
قال: قلت: من غفار. قال: فأهوى بيده فوضعها على جبهته. قال: فقلت في نفسي: كره أن انتميت إلى غفار. قال: فأردت أن آخذ بيده، فقدعني صاحب، وكان أعلم به مني، قال:
((متى كنت ههنا؟)).
قال: قلت: كنت ههنا منذ ثلاثين من بين ليلة ويوم. قال:
((فمن كان يطعمك؟)).
قلت: ما كان إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما وجدت على كبدي سخفة جوع. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((إنها مباركة، وإنها طعام طُعم)).
قال: فقال أبو بكر: ائذن لي يا رسول الله! في طعامه الليلة. قال: ففعل.
قال: فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم ، [وانطلق أبو بكر]، وانطلقت معهما، حتى فتح أبو بكر باباً، فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف. قال: فكان ذلك أول طعام أكلته بها، فلبثت ما لبثت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إني قد وجّهت إلى أرض ذات نخل، ولا أحسبها إلا (يثرب) فهل أنت مبلغ عني قومك؛ لعل الله عز وجل ينفعهم بك ويأجرك فيهم؟)).
قال: فانطلقت حتى أتيت أخي أنيساً، قال: فقال لي: ما صنعت؟ قال: قلت: إني صنعتُ أني أسلمتُ وصدّقت. قال: قال: فما لي رغبة عن دينك؛ فإني قد أسلمت وصدقت.
ثم أتينا أمنا، فقالت: ما بي رغبة عن دينكما؛ فإني قد أسلمت وصدّقت.
فتحملنا حتى أتينا قومنا (غفاراً) ، فأسلم بعضهم قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم (المدينة)، وكان يؤمهم خفاف بن إيماء بن رحضة، وكان سيدهم يومئذ، وقال بقيتهم: إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمنا. فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم (المدينة)، فأسلم بقيتهم.
قال: وجاءت (أسلم)، فقالوا: يا رسول الله! إخواننا؛ نسَلّم على الذي أسلموا عليه. فأسلموا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( (غفار) غفر الله لها، و(أسلم) سالمها الله)).
ورواه مسلم نحوه، وقد روى قصة إسلامه على وجه آخر، وفيه زيادات غريبة. فالله أعلم.
وتقدم ذكر إسلام سلمان الفارسي في (كتاب البشارات بمبعثه عليه الصلاة والسلام).

ذكر إسلام ضماد
روى مسلم والبيهقي من حديث ابن عباس قال:
قدم ضماد (مكة) – وهو رجل من أزد شنوءة، وكان يرقي من هذه الرياح – فسمع سفهاء من سفه (مكة) يقولون: إن محمداً مجنون. فقال: أين هذا الرجل؟ لعل الله أن يشفيه على يدي. فلقي محمداً صلى الله عليه وسلم فقال: إني أرقي من هذه الرياح، وإن الله يشفي على يدي من شاء، فهلم. فقال محمد:
((إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له (ثلاث مرات) )).
فقال: والله؛ لقد سمعت الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات، فهلم يدك أبايعك على الإسلام. فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له:
((وعلى قومك؟)).
فقال: وعلى قومي.
فبعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً، فمروا بقوم ضماد، فقال صاحب الجيش للسرية: هل أصبتم من هؤلاء القوم شيئاً؟ فقال رجل منهم: أصبت منهم مظهرة. فقال: ردها عليهم؛ فإنهم قوم ضماد.
وفي رواية: فقال له ضماد: أعد علي كلماتك هؤلاء؛ فلقد بلغن قاموس البحر.
ثم دخل الناس في الإسلام أرسالاً من الرجال والنساء، حتى فشا أمر الإسلام بـ(مكة)، وتُحدّث به.

عن الكاتب

A. Fatih Syuhud

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية