الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

باب أمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام بإبلاغ الرسالة إلى الخاص والعام

باب أمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام بإبلاغ الرسالة إلى الخاص والعام

المحتويات



باب أمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام بإبلاغ الرسالة إلى الخاص والعام

باب أمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام بإبلاغ الرسالة إلى الخاص والعام وأمره له بالصبر والاحتمال والإعراض عن الجاهلين المعاندين المكذبين بعد قيام الحجة عليهم وإرسال الرسول الأعظم إليهم وذكر ما لقي من الأذية منهم هو وأصحابه رضي الله عنهم

قال الله تعالى : ﴿وأنذر عشيرتك الأقربين. واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين. فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون. وتوكل على العزيز الرحيم. الذي يراك حين تقوم. وتقلّبك في الساجدين. إنه هو السميع العليم﴾ [الشعراء:214-220].
وقال تعالى : ﴿وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون﴾ [الزخرف: 44].
وقال تعالى : ﴿إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد﴾ [القصص: 85]، أي: إن الذي فرض عليك وأوجب عليك تبليغ القرآن لرادك إلى دار الآخرة، وهي المعاد، فيسألك عن ذلك؛ كما قال تعالى : ﴿ فوربك لنسالنهم أجمعين، عما كانوا يعملون﴾ [الحجر: 92 و93].
والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جداً، وقد تقصينا الكلام على ذلك في كتابنا ((التفسير))، وبسطنا من القول في ذلك عند قوله تعالى في سورة (الشعراء):
﴿وأنذر عشيرتك الأقربين﴾، وأوردنا أحاديث جمة في ذلك.

فمن ذلك ما أخرجه أحمد والشيخان عن ابن عباس قال:
لما أنزل الله: ﴿وأنذر عشيرتك الأقربين﴾ أتى النبي صلى الله عليه وسلم (الصفا)، فصعد عليه، ثم نادى: ((يا صباحاه!)). فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه؛ وبين رجل يبعث رسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((يا بني عبد المطلب! يا بني فهر! يا بني لؤي! أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً يسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟)). قالوا: نعم. قال:
((فإني ﴿نذير لكم بين يدي عذاب شديد﴾ [سبأ:46])).

فقال أبو لهب – لعنه الله - : تباً لك سائر اليوم! أما دعوتنا إلا لهذا؟! وأنزل الله عز وجل: ﴿تبت يدا أبي لهب وتب﴾.
وأخرج أحمد – والسياق له – والشيخان عن أبي هريرة قال:
لما نزلت هذه الآية: ﴿وأنذر عشيرتك الأقربين﴾ [الشعراء: 214] دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً، فعم وخص ، فقال:
((يا معشر قريش! أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني كعب [بن لؤي]! انقذوا أنفسكم من النار، [يا بني عبد مناف! أنقذوا أنفسكم من النار]، يا معشر بني هاشم ! أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني عبد المطلب! أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد ! أنقذي نفسك من النار، فإني – والله – لا أملك لكم من الله شيئاً؛ إلا أن لكم رحماً سأبلها ببلالها)).
وروى أحمد ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت:
لما نزلت: ﴿وأنذر عشيرتك الأقربين﴾ [الشعراء: 214] قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
((يا فاطمة بنت محمد! يا صفية بنت عبد المطلب! يا بني عبد المطلب! لا أملك لكم من الله شيئاً، سلوني من مالي إن شئتم)).

وروى الإمام أحمد في ((مسنده)) عن علي [قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم – أو: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم – بني عبد المطلب؛ فيهم رهط كلهم يأكل الجذعة، ويشرب الفرق، قال: فصنع لهم مدّاً من طعام، فأكلوا حتى شبعوا، قال: وبقي الطعام كما هو كأنه لم يمس، ثم دعا بغُمر، فشربوا حتى رووا، وبقي الشراب كأنه لم يمس أو لم يشرب، فقال:
(يا بني عبد المطلب! إني بعثت لكم خاصة؛ وإلى الناس بعامة، وقد رأتيم من هذه الآية ما رأيتم، فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي؟)).
قال: فلم يقم إليه أحد، قال: فقمت إليه، وكنت أصغر القوم، قال: فقال: ((اجلس))، قال ثلاث مرات، كل ذلك أقوم إليه، فيقول لي: ((اجلس))، حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي].
[المستدرك]

عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت:
لما نزلت: ﴿تبت يدا أبي لهب﴾؛ أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة، وفي يدها فهرٌ، وهي تقول:
مذمماً أبينا ودينه قلينا وأمره عصينا والنبي صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد ومعه أبو بكر، فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله! قد أقبلت وأنا أخاف أن تراك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إنها لن تراني)).
وقرأ قرآناً، فاعتصم به كما قال [تعالى ]، وقرأ: ﴿وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً﴾ [الإسراء:45]، فوقفت على أبي بكر، ولم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت: يا أبا بكر! إني أخبرت أن صاحبك هجاني. فقال: لا ورب هذا البيت؛ ما هجاك. فولت وهي تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها.

أخرجه الحاكم (2/361) وقال: ((صحيح الإسناد))، ووافقه الذهبي، وابن حبان (2103)، وأبو نعيم (ص61) من طريق أخرى عن ابن عباس نحوه. وصححه ابن أبي حاتم أيضاً؛ كما في ((الدر المنثور)) (4/186)، وله عنده شاهد من حديث أبي بكر.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو جالس حزيناً؛ قد خضب بالدماء؛ ضربه بعض أهل (مكة)، قال: فقال له: ما لك؟ قال: فقال له:
((فعل بي هؤلاء وفعلوا)).

قال: فقال له جبريل عليه السلام: أتحب أن أريك آية؟ قال: ((نعم)).
قال: فنظر إلى شجرة من وراء الوادي، فقال: ادع بتلك الشجرة. فدعاها، فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه، فقال: مرها فلترجع. فأمرها فرجعت إلى مكانها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((حسبي)).
أخرجه أحمد (3/113)، وابن ماجه (4028) بسند صحيح.
وعن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي:
أنه مر وصاحب له بـ(أيمن) وفئة من قريش قد حلوا أزرهم؛ فجعلوها مخاريق يجتلدون بها وهم عراة، فلما مررنا بهم قالوا: إن هؤلاء قسيسون؛ فدعوهم.

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم، فلما أبصروه تبددوا، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضباً حتى دخل، وكنت أنا وراء الحجرة، فسمعته يقول:
((سبحان الله! لا من الله استحيوا؛ ولا من رسوله استتروا!)).
وأم أيمن عنده تقول: استغفر لهم يا رسول الله!
قال عبد الله: فبلأيٍ ما استغفر لهم.

أخرجه أحمد(4/191)، وإسناده صحيح، ورواه إبراهيم الحربي، والطبراني؛ كما في ((الإصابة)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم !؟)). [قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: ]
((يشتمون مذمماً، [وأنا محمد]، ويلعنون مذمماً، وأنا محمد)).
أخرجه البخاري (3533)، والنسائي في ((الطلاق))، وأحمد (2/244و340و366) من طرق عنه. [انتهى المستدرك].

وعن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال:
جلسنا إلى المقداد بن الأسود يوماً، فمر به رجل، فقال : طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله؛ لوددنا أنا رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت.
فاستغضب، فجعلت أعجب! ما قال إلا خيراً! ثم أقبل إليه فقال:
ما يحمل الرجل على أن يتمنى محضراً غيّبه الله عنه؛ لا يدري لو شهده كيف كان يكون فيه؟! والله؛ لقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوام أكبهم الله على مناخرهم في جنهم؛ لم يجيبوه ولم يصدقوه.
أولا تحمدون الله إذ أخرجكم لا تعرفون إلا ربكم؛ مصدقين لما جاء به نبيكم، قد كفيتم البلاء بغيركم ؟!

والله؛ لقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم على أشد حال بعث عليها في نبيّ من الأنبياء؛ في فترة وجاهلية؛ ما يرون أن ديناً أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان فرق به بين الحق والباطل، وفرق بين الوالد وولده، حتى أن الرجل ليرى والده وولده أو أخاه كافراً – وقد فتح الله قفل قلبه للإيمان – يعلم أنه إن هلك دخل النار، فلا تقر عينه وهو يعلم أن حبيبه في النار، وأنها للتي قال الله عز وجل: ﴿الذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً﴾ [الفرقان:74].

أخرجه أحمد (6/2-3)، وابن حبان (1684) بسند صحيح رجاله كلهم ثقات.
والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استمر يدعو إلى الله تعالى ليلاً نهاراً، وسراً وجهراً، لا يصرفه عن ذلك صارف، ولا يرده عن ذلك راد، ولا يصده عن ذلك صاد، يتبع الناس في أنديتهم ومجامعهم ومحافلهم، وفي المواسم ومواقف الحج، يدعو من لقيه من حر وعبد، وضعيف وقوي، وغني وفقير، جميع الخلق في ذلك عنده شرع سواء.
وتسلط عليه وعلى من اتبعه من أحاد الناس من ضعفائهم الأشداء الأقوياء من مشركي قريش بالأذية القولية والفعلية.

وكان أشد الناس عليه عمه أبو لهب، واسمه عبد العزى بن عبد المطلب، وامرأته أم جميل أروى بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان.
وخالفه في ذلك عمه أبو طالب بن عبد المطلب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب خلق الله إليه طبعاً، وكان يحنو عليه، ويحسن إليه، ويدافع عنه ويحامي، ويخالف قومه في ذلك؛ مع أنه على دينهم وعلى خلتهم؛ إلا أن الله قد امتحن قلبه بحبه حباً طبعياً لا شرعياً.
وكان استمراره على دين قومه من حكمة الله تعالى ، ومما صنعه لرسوله من الحماية؛ إذ لو كان أسلم أبو طالب لما كان له عند مشركي قريش وجاهة ولا كلمة، ولا كانوا يهابونه ويحترمونه،ولاجترؤوا عليه، ولمدوا أيديهم وألسنتهم بالسوء إليه، ﴿وربك يخلق ما يشاء ويختار﴾ [القصص:28]، وقد قسم خلفه أنواعاً وأجناسا.

فهذان العمان كافران: أبو طالب وأبو لهب، ولكن هذا يكون في القيامة في ضحضاح من النار، وذلك في الدرك الأسفل من النار، وأنزل الله فيه سورة في كتابه تتلى على المنابر، وتقرأ في المواعظ والخطب، تتضمن أنه ﴿سيصلى ناراً ذات لهب. وامرأته حمالة الحطب﴾ [المسد:3و4].
روى الإمام أحمد، والبيهقي عن ربيعة بن عباد من بني الديل – وكان جاهليّاً فأسلم – قال:
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق (ذي المجاز) وهو يقول:
((يا أيها الناس! قولوا: (لا إله إلا الله) تفلحوا)).

والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيءُ الوجه أحول، ذو غديرتين يقول: إنه صابئ كاذب. يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه؟ فقالوا: هذا عمه أبو لهب.
ثم رواه البيهقي من طريق أخرى عن ربيعة الديلي قال:
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ(ذي المجاز) يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله، وراءه رجل أحول تقد وجنتاه وهو يقول: يا أيها الناس! لا يغرنكم هذا عن دينكم ودين آبائكم.
قلت: من هذا؟ قيل: هذا أبو لهب.

وأما أبو طالب؛ فكان في غاية الشفقة والحنو الطبيعي؛ كما سيظهر من صنائعه وسجاياه واعتماده فيما يحامي به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.
وروى البخاري في ((التاريخ))، والبيهقي عن الحاكم من حديث عقيل بن أبي طالب قال:
جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا، فانهه عنا. فقال: يا عقيل! انطلق فأتني بمحمد. فانطلقت فاستخرجته من كنس، أو خنس- يقول: بيت صغير – فجاء به في الظهيرة في شدة الحر، فلما أتاهم قال: إن بني عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانته عن أذاهم. فحلّق رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء، فقال:
((ترون هذه الشمس؟)). قالوا: نعم. قال:

((فما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم على أن تشتعلوا منها بشعلة)).
فقال أبو طالب: والله؛ ما كذب ابن أخي قط، فارجعوا.
وفي ذلك دلالة على أن الله تعالى عصمه بعمه؛ مع خلافه إياه في دينه، وقد كان يعصمه حيث لا يكون عمه بما يشاء، لا معقب لحكمه.
وروى الإمام أحمد، والبخاري عن ابن عباس قال:
قال: أبو جهل: لئن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لاطأن على عنقه. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
((لو فعل ذلك لأخذته الملائكة عياناً)).

وفي رواية عنه قال:
مر أبو جهل بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فقال: ألم أنهك أن تصلي يا محمد!.
[فانتهره النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو جهل: لم تنهرني يا محمد! فوالله؛] لقد علمت ما بها أحد أكثر نادياً مني.
[قال:] فقال جبريل: ﴿فليدع ناديه. سندع الزبانية﴾ [العلق: 17و18].
[قال: فقال ابن عباس:] والله؛ لو دعا ناديه لأخذته زبانية العذاب.
رواه أحمد، والترمذي وصححه، والنسائي.
وروى أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن أبي هريرة قال:
قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟! قالوا: نعم.

قال: فقال: واللات والعزى؛ لئن رأيته يصلي كذلك لاطأن على رقبته، ولأعفرن وجهه بالتراب. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ رقبته. قال: فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه.
قال: فقيل له: ما لك؟ قال: إن بيني وبينه خندقاً من نار، وهولاً وأجنحة. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً)).

قال: وأنزل الله تعالى – لا أدري في حديث أبي هريرة أم لا - : ﴿كلا إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى﴾ [العلق: 6و7] إلى آخر السورة.
وروى الإمام أحمد، والبخاري في مواضع من ((صحيحه))، ومسلم عن عبد الله (هو ابن مسعود) قال:
ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على قريش؛ غير يوم واحد، فإنه كان يصلي ورهط من قريش جلوس، وسلا جزور قريب منه، فقالوا: من يـأخذ هذا السلا فيلقيه على ظهره؟ فقال: عقبة بن أبي معيط: أنا. فأخذه فألقاه على ظهره، فلم يزل ساجداً حتى جاءت فاطمة فأخذته عن ظهره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

((اللهم! عليك بهذا الملأ من قريش، اللهم! عليك بعتبة بن ربيعة، اللهم! عليك بشيبة بن ربيعة، اللهم! عليك بأبيّ بن خلف. أو: أمية بن خلف)). شعبة الشاك.
قال عبد الله: فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر جميعاً، ثم سحبوا إلى القليب؛ غير أُبي أو أمية بن خلف؛ فإنه كان رجلاً ضخماً فتقطع.
والصواب: أمية بن خلف؛ فإنه الذي قتل يوم بدر، وأخوه أُبيّ إنما قتل يوم أُحد؛ كما سيأتي بيانه.
و(السلا): هو الذي يخرج مع ولد الناقة؛ كالمشيمة لولد المرأة.
وفي بعض ألفاظ ((الصحيح)): أنهم لما فعلوا ذلك استضحكوا؛ حتى جعل بعضهم يميل على بعض؛ أي: يميل هذا على هذا من شدة الضحك. لعنهم الله.

وفيه: أن فاطمة لما ألقته عنه أقبلت عليهم فسبتهم، وأنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من صلاته رفع يديه يدعو عليهم، فلما رأوا ذلك سكن عنهم الضحك، وخافوا أكثر الروايات تسمية ستة منهم؛ وهم: عتبة وأخوه شيبة؛ ابنا ربيعة، والوليد ابن عتبة، وأبو جهل بن هشام، وعقبة بن أبي معيط، وأمية بن خلف. قال أبو إسحاق: ونسيت السابع.
قلت: وهو عمارة بن الوليد، وقع تسميته في ((صحيح البخاري)).

@وروى عن عروة بن الزبير [قال: ]سألت ابن عمرو بن العاص فقلت: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة؛ إذ أقبل عليه عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه في عنقه، فخنقه خنقاً شديداً.
فأقبل أبو بكر رضي الله عنه حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ﴿أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم﴾ [غافر : 28].
انفرد به البخاري، وقد رواه في أماكن من ((صحيحه))، وصرح في بعضها بـ(عبد الله بن عمرو بن العاص) ، وهو أشبه لرواية عروة عنه، وفي رواية معلقة عن عروة قال: قيل لعمرو بن العاص. وهذا أشبه لتقدم هذه القصة.

وقد روى البيهقي عن الحاكم بسنده عن ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عروة عن أبيه عروة قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: ما أكثر ما رأيت قريشاً أصابت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانت تظهره من عداوته؟ فقال:
لقد رأيتهم وقد اجتمع أشرافهم يوماً في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط؛ سفّه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، وصرنا منه على أمر عظيم.

أو كما قالوا:
قال: فبينما هم في ذلك [إذ] طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفاً بالبيت، فغمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمضى، فلما مرّ بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفتها في وجهه، فمضى، فمر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فقال:
((أتسمعون يا معشر قريش؟ أما والذي نفسي بيده؛ لقد جئتكم بالذبح)).
فأخذت القومَ كلمته، حتى ما منهم من رجل إلا وكأنما على رأسه طائر وقع، حتى إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفؤه [بأحسن ما يجد من القول] ، حى إنه ليقول: انصرف أبا القاسم! راشداً، فـ[والله؛] ما كنت جهولاً فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حتى ِإذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم عنه، حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه.

فبيمنا هم في ذلك [إذ] طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، فأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول: كذا وكذا ؟! لما كان يبلغهم من عيب آلهتهم ودينهم، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((نعم؛ أنا الذي أقول ذلك)).
ولقد رأيت رجلاً منهم أخذ بمجامع ردائه، وقام أبو بكر يبكي دونه ويقول: ﴿أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله﴾ [غافر 28]؟! ثم انصرفوا عنه.
فإن ذلك لأكثرُ ما رأيت قريشاً بلغت منه قط.


فصل في تأليب الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه واجتماعهم بعمه

في تأليب الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه واجتماعهم بعمه أبي طالب القائم في منعه ونصرته وحرصهم عليه أن يسلمه إليهم
فابى عليهم ذلك بحول الله وقوته
عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، وأُخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت عليّ ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال ما يأكله ذو كبد؛ إلا ما يواري إبط بلال)).
أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه ، وقال الترمذي:
((حديث حسن صحيح)).


فصل فيما اعترض به المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم

وما تعنتوا له في أسئلتهم إياه أنواعاً من الآيات وخرق العادات
على وجه العناد لا على وجه طلب الهدى والرشاد
فلهذا لم يجابوا إلى كثير مما طلبوا، ولا ما إليه رغبوا؛ لعلم الحق سبحانه؛ أنهم لو عاينوا وشاهدوا ما أرادوا لاستمروا في طغيانهم يعمهون، ولظلوا في غيهم وضلالهم يتردّون.
قال الله تعالى : ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ ءَايَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ. وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ﴾[ الأنعام: 109-111].
وقال تعالى : ﴿الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ ءَايَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾[يونس: 96و97].

وقال تعالى : ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾ [الإسراء: 59].
وقال تعالى : ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا. أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: 90-93].

وقد تكلمناعلى هذه الآيات وما يشبهها في أماكنها من ((التفسير))، ولله الحمد.
عن ابن عباس قال:
سأل أهل (مكة) رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم لصفا ذهباً، وأن ينحّي عنهم الجبال فيزدرعوا. فقيل له: إن شئت أن تستأني بهم، وإن شئت أن تؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من قبلهم. قال:
((لا؛ بل أستأني بهم)).
فأنزل الله تعالى : ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾ [الإسراء:59].
رواه أحمد والنسائي.

وفي رواية لأحمد عنه قال:
قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم : ادعُ لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهباً ونؤمن بك. قال: ((وتفعلوا؟)). قالوا: نعم.
قال: فدعا ، فأتاه جبريل فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام، ويقول لك: إن شئت أصبح الصفا لهم ذهباً، فمن كفر منهم بعد ذلك أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب الرحمة والتوبة. قال:
((بل [باب] التوبة والرحمة)).
وإسناد كل منهما جيد.
وقد جاء مرسلاً عن جماعة من التابعين؛ منهم: سعيد بن جبير وقتادة وابن جريج وغير واحد.

فصل

@قال ابن إسحاق: ثم إنهم عدوا على من أسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم، ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش، وبرمضاء (مكة) إذا اشتد الحر، من استضعفوه منهم يفتنونهم عن دينهم.
فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي يصيبهم، ومنهم من يصلُب لهم، ويعصمه الله منهم.
وقد تقدم حديث ابن مسعود:
أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد.
فأما رسول الله فمنعه الله بعمه، وأبو بكر منعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون، فألبسوهم أدرع الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا؛ إلا بلالاً؛ فإنه هانت عليه نفسه في الله تعالى ، وهان على قومه، فأخذوه، فأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب (مكة) وهو يقول: أحد أحد.
وعن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بعمار وأهله وهم يعذبون، فقال:
((أبشروا آل عمار وآل ياسر! فإن موعدكم الجنة)).
رواه البيهقي عن الحاكم.
قلت: وفي مثل هذا أنزل الله تعالى : ﴿من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقبله مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم﴾ [النحل: 106].
فهؤلاء كانوا معذورين بما حصل لهم من الإهانة والعذاب البليغ، أجارنا الله من ذلك بحوله وقوته.
وعن خباب بن الأرت قال:
كنت رجلاً قيناً، وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه، فقال: لا والله؛ لا أقضيك حتى تكفر بمحمد! فقلت: لا والله؛ لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث. قال: فإني إذا مت ثم بعثت؛ جئتني ولي ثمّ مالٌ وولد فأعطيك، فأنزل الله: ﴿أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولداً﴾ إلى قوله: ﴿ويأتينا فرداً﴾ [مريم: 77-80].
أخرجه أحمد، والبخاري، ومسلم في ((الصحيحين))، وفي لفظ البخاري:
كنت قيناً بـ(مكة)، فعملت للعاص بن وائل سيفاً، فجئت أتقاضاه ... فذكر الحديث.

وفي طريق أخرى له عنه قال:
أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد ببردة وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: ألا تدعو الله؟ فقعد وهو محمر وجهه، فقال:
((لقد كان من كان قبلكم ليمشط بأمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب؛ ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه، فيشق باثنتين، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليُتمّنّ الله هذا الأمر؛ حتى يسير الراكب من (صنعاء) إلى (حضر موت) ما يخاف إلا الله عز وجل (زاد بيان: والذئب على غنمه) )).
وفي رواية : ((ولكنكم تستعجلون)).
[المستدرك]
وعن أبي ليلى الكندي قال: جاء خباب إلى عمر فقال: ادنُ؛ فما أحد أحق بهذا المجلس منك إلا عمار. فجعل خباب يريه آثاراً بظهره مما عذبه المشركون.
أخرجه ابن سعد (3/165)، وابن ماجه (153) بسند صحيح. [انتهى المستدرك].

باب مجادلة المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم
وإقامة الحجة الدامغة عليهم واعترافهم في أنفسهم باحلق وإن أظهروا المخالفة عناداً وحسداً وبغياً وجحوداً
روى إسحاق بن راهويه بسنده عن ابن عباس: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال : يا عم! إن قومك يريدون أن يجمعو لك مالاً. قال: لم؟ قال: ليعطوكه؛ فإنك أتيت محمداً لتعرّض ما قِبَلَه.
قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً.
قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له.
قال: وماذا أقول؟ فوالله؛ ما منكم رجل أعرف بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله؛ ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، ووالله؛ إن لقوله الذي يقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته.
قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه.

قال: فدعني حتى أفكر فيه.
فلما فكر قال: إن هذا إلا سحر يؤثر، يأثره عن غيره. فنزلت: ﴿ذرني ومن خلقت وحيداً. وجعلت له مالاً ممدوداً. وبنين شهوداً﴾ [المدثر: 11-13] الآيات.
هكذا رواه البيهقي عن الحاكم عن إسحاق.
قلت: وفي ذلك قال الله تعالى إخباراً عن جهلهم وقلة عقلهم: ﴿بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون﴾. [الأنبياء:5]، فحاروا ما ذا يقولون فيه؟ فكل شيء يقولونه باطل؛ لأن من خرج عن الحق مهما قاله أخطأ، قال الله تعالى : ﴿انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلاً﴾ [الإسراء:48].
@وروى الإمام عبد بن حميد في ((مسنده)) بسنده عن جابر بن عبد الله قال:
اجتمعت قريش يوماً فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر؛ فليأت هذا الرجل الذي فرّق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه، ولينظر ماذا يرد عليه؟
فقالوا: ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة. فقالوا: أنت يا أبا الوليد!
فأتاه عتبة فقال: يا محمد! أنت خير أم عبد الله؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ثم قال: إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك؛ فقد عبدوا الآلهة التي عِبتَ وإن كنت تزعم أنك خير منهم؛ فتكلم حتى نسمع قولك، إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، فرقت جماعتنا، وشتّتّ أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن قريش ساحراً، وأن في قريش كاهناً، والله ما ننتظر إلى مثل صيحة الحبلى؛ أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى. أيها الرجل! إن كان إنما بك الحاجة؛ جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً واحداً، وإن كان إنما بك الباءة؛ فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشراً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((فرغت؟)). قال: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

(( ﴿بسم الله الرحمن الرحيم. حم. تنزيل من الرحمن الرحيم. كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون﴾ إلى أن بلغ: ﴿ فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود﴾ [فصلت: 1-13])).
فقال عتبة: حسبك، ما عندك غير هذا؟ قال: ((لا)).

فرجع إلى قريش، فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئاً أرى أنكم تكلمونه إلا كلمته.
قالوا: فهل أجابك؟ فقال: نعم. ثم قال: لا والذي نصبها بيّنة؛ ما فهمت شيئاً مما قال؛ غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود.
قالوا: ويلك! يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال؟!ّ
قال: لا والله؛ ما فهمت شياً مما قال؛ غير ذكر الصاعقة.

@وقد رواه البيهقي وغيره عن الحاكم بسنده عن الأجلح به، وفيه كلام، وزاد:
وإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا ألويتنا لك؛ فكنت رأساً ما بقيت. وعنده أنه لما قال: ﴿فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود﴾؛ أمسك عتبة على فيه، وناشده الرحم أن يكف عنه، ولم يخرج إلى أهله، واحتبس عنهم.
فقال أبو جهل: والله يا معشر قريش! ما نرى عتبة إلا صبا إلى محمد، وأعجبه كلامه، وما ذاك إلا من حاجة أصابته، انطلقوا بنا إليه. فأتوه، فقال أبو جهل: والله يا عتبة! ما جئنا إلا أنك صبوت إلى محمد، وأعجبك أمره، فإن كان بك حاجة؛ جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن محمد.

فغضب، وأقسم بالله لا يكلم محمداً أبداً، وقال: لقد علمتم أني من أكثر قريش مالاً، ولكني أتيته – وقص عليهم القصة – فأجابني بشيء – والله؛ ما هو بسحر ولا بشعر ولا كهانة – قرأ : (( ﴿بسم الله الرحمن الرحيم. حم. تنزيل من الرحمن الرحيم﴾حتى بلغ: ﴿ فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود﴾ ))، فأمسكت بفيه، وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب، فخفت أن ينزل عليكم العذاب.

ثم روى البيهقي بسنده عن المغيرة بن شعبة قال:
إن أول يوم عرفت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أمشي أنا وأبو جهل بن هشام في بعض أزقة مكة؛ إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهل:
((يا أبا الحكم! هلم إلى الله وإلى رسوله، أدعوك إلى الله)).
فقال أبو جهل: يا محمد! هل أنت منتهٍ عن سب آلهتنا؟ هل تريد إلا أن نشهد أنك قد بلغت؟ فنحن نشهد أن قد بلغت، فوالله؛ لو أني أعلم أن ما تقول حق لاتبعتك.

فانصر ف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل علي فقال: والله؛ إني لأعلم أن ما يقول حق، ولكن يمنعني شيء؛ إن بني قصي قالوا: فينا الحجابة. فقلنا: نعم. ثم قالوا: فينا السقاية. فقلنا: نعم. ثم قالوا: فينا الندوة. فقلنا: نعم. ثم قالوا: فينا اللواء. فقلنا: نعم. ثم أطعموا وأطعمنا، حتى إذا تحاكّت الركب قالوا: منا نبي! والله لا أفعل.
وهذا القول منه – لعنه الله – كما قال تعالى مخبراً عنه وعن أضرابه:
﴿وإذا رأويك إن يتخذونك إلا هزواً أهذا الذي بعث الله رسولاً. إن كان ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلاً﴾ [الفرقان: 41و42].

وقال ابن عباس:
نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوارٍ بـ(مكة): ﴿ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها﴾[الإسراء:110]؛ قال:
كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فلما سمع ذلك المشركون سبوا القرآن، وسبوا من أنزله، ومن جاء به. قال: فقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ﴿ولا تجهر بصلاتك﴾؛ أي: بقراءتك؛ فيسمع المشركون فيسبوا القرآن، ﴿ولا تخافت بها﴾ عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك، ﴿وابتغ بين ذلك سبيلاً﴾.
رواه أحمد وصاحبا ((الصحيح)).

عن الكاتب

A. Fatih Syuhud

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية