الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

التفسير الموضوعى تعريفه ونشأته وتطوره وألوانه وأهميته

التفسير الموضوعى تعريفه ونشأته وتطوره وألوانه وأهميته

الكتاب مباحث في التفسير الموضوعي
المؤلف مصطفى مسلم
الناشر دار القلم
الطبعة الرابعة 1426هـ - 2005م
عدد الأجزاء 1
الموضوع: علوم القرأن، علوم التفسير

 

 فهرس الموضوعات

  1. التفسير الموضوعى "تعريفه-نشأته-تطوره- ألوانه- أهميته
    1. تمهيد
    2. نبذة تاريخية عن نشوء علم التفسير وتطوره ومكانة التفسير الموضوعي
    3. تعريف التفسير الموضوعي
    4. نشأة التفسير الموضوعي
    5. ألوان التفسير الموضوعي
    6. اللون الأول
    7. اللون الثاني
    8. اللون الثالث
    9. أهمية التفسير الموضوعي
  2. مناهج البحث في التفسير الموضوعي
    1. أولا: منهج البحث في موضوع من خلال القرآن الكريم
    2. ثانيا: منهج البحث في التفسير الموضوعي لسورة واحدة
    3. ثالثا: التفسير الموضوعي لسورة قرآنية
      1. تحديد محور السورة
      2. الهدف في السورة القصيرة والسورة الطويلة
      3. الإطناب والإيجاز في قضايا عرضتها السورة
      4. صلة التفسير الموضوعي بالأنواع الأخرى من التفسير 
  3. العودة إلي كتاب مباحث في التفسير الموضوعي

التفسير الموضوعي: "تعريفه- نشأته- تطوره- ألوانه- أهميته"

تمهيد

الحمد لله الذي أنزل القرآن على عبده ليكون للعالمين بشيرًا ونذيرًا، والصلاة والسلام على من أرسله ربه داعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، ورضي الله عن الآل والأصحاب والأتباع حملة لواء الحق بين العالمين إلى يوم البعث والنشور.

أما بعد:

فلم يشهد التاريخ البشري كتابًا أهَّل أمة لقيادة البشرية، كما أهَّل القرآن الكريم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل أحد أن جيلًا ربانيًا تولى السيطرة على مقادير الأمم والشعوب فعدل فيها بالقسطاس المستقيم كجيل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل ذلك كان في فترة زمنية لا تتجاوز ثلث قرن من الزمان، وهي مدة قصيرة جدًا في عمر الأمم والشعوب.

لقد تخرج من مدرسة النبوة جيل فريد في صفاته وتطلعاته وعزيمته وبذله وتضحياته، وقد فجر الإسلام هذه الطاقات الكامنة في تلك النفوس وأزاح عنها الغبش والغشاوة وفتح أمامها مجالات العطاء والإنتاج فكان بعضهم قادة الجيوش، وساسة الأمم، وعباقرة العلماء، ونوابغ القضاة، وأفذاذ الزهاد والعباد.

وما ذاك إلا لتوافر أسباب النبوغ والعطاء.

فالمعادن الأصلية التي كانت في ذات القوم -والناس كالمعادن- فكانت معادنهم كالتبر والجوهر.

ووجد المربي الرباني الذي علمهم فأحسن تعليمهم وهذبهم أحسن تهذيب ووجد الغذاء الروحي الذي تحيا به القلوب ...

فلم يكن بمستغرب عند من يدرك سنن الله في خلقه، في رقي المجتمعات وتقدمها عندما يدرك الأسباب التي أوجدها الله سبحانه وتعالى لتكوين هذه الأمة وتقدمها وتفوقها.

وما أن رسخت الدولة الإسلامية قواعدها في أرجاء المعمورة، وما أن هدأت اندفاعة الفتوحات الإسلامية، حتى التفت العلماء إلى مدارسة القرآن الكريم الذي يشكل أساس النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة، لتدوين تفسيره والعلوم التي تخدم توضيح المراد من كلام رب العالمين، وتعين على فهمه وتطبيقه وكانت الأجيال السابقة إلى عهد بني العباس تعتمد بشكل أساسي على التلقي والرواية مشافهة إلا في حالات استثنائية قليلة.

وتنوعت المجالات التي توجهت الجهود إليها لخدمة آي الذكر الحكيم.

فمنهم من توجه إلى جميع ما أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمور الدين، وعن صحابته الكرام، ومنهم من توجه إلى حفظ وجوه الأداء للفظ القرآني، ومنهم من حافظ على لغته وبيان معاني غريبة، ومنهم من توجه إلى استنباط القواعد التي تكفل سلامة التحدث به وعدم اللحن فيه.

وقام صرح العلوم كلها لخدمة القرآن الكريم حفظًا وفهمًا وتطبيقًا، ولسنا بصدد تعداد العلوم المختلفة التي قامت وتاريخ تدوين هذه العلوم، وإنما نرمي إلى بيان نشوء علم التفسير بإيجاز، ومن ثم للتعرف على مولد هذا اللون من التفسير ما يطلق عليه اليوم "التفسير الموضوعي" .

نبذة تاريخية عن نشوء علم التفسير وتطوره ومكانة التفسير الموضوعي

بينت الآيات القرآنية الحكمة الإلهية من خلق الإنس والجن في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: ٥٦] .

كما بينت السنة الإلهية في بعثهم بعد موتهم لمحاسبتهم عن الأمانة التي حملوها: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: ١١٥] .

وبين الخلق والتكليف والإعادة بعد الموت.

لم يتركه لعقله واجتهاداته وأهوائه في التعرف على أسلوب العبادة، ومنهجه في الحياة الدنيا، بل أرسل إليه الرسل وأنزل الكتب لهدايته: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: ١٥] .

وكانت السنة الإلهية أن يكون الرسل من الأقوام المرسل إليهم وبلسانهم. وذلك أداء للرسالة على أحسن وجه، وليتحقق الغرض من إرسالهم ببيان الهدايات بأيسر الطرق إلى الأقوام {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: ٤] .

لذلك كان الرسول المكلف بالتبليغ هو أوعى الناس لمهمته وأكثرهم علمًا وإحاطة برسالته، وبالتالي أقدرهم على بيان مراد الله سبحانه وتعالى من كتابه وآياته.

وهذه السنن والحكم الإلهية تتجلى في خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ورسالته. وقد نزلت الآيات الكريمة تبين هذه الجوانب بيانًا كاملًا:

فتارة يتكفل له ربه سبحانه وتعالى بحفظ القرآن: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: ٩] .

وتارة أخرى يتعهد له ربه سبحانه وتعالى بجمع القرآن له وتوضيحه لاستيعابه: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: ١٧-١٩] .

وتارة يأمره ربه بتبليغ الآيات الكريمة للناس ومجاهدتهم بالقرآن: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: ٥٢] .

لذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم عباد الله بكتاب الله، إذ إن تبليغ الرسالة على الوجه الأكمل مترتب على فهمه لمحتوى الرسالة جملة وتفصيلًا، وهذا أمر تفرضه بدهيات الأمور {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: ٤٤] .

ويأتي بعد فهم الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن الكريم فهم الصحابة رضوان الله عليهم وإن كان فهمهم له جملة "لظاهره على الإجمال ولأحكامه على التفصيل" .

وليس من الضروري إحاطتهم التامة بمعاني القرآن الكريم بحيث لا تغيب عنهم شاردة ولا واردة، نقول ذلك لما نقل إلينا عن الصحابة رضي الله عنهم، فعلى الرغم من رجوعهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم المرة تلو الأخرى لبيان ما أشكل عليهم فهمه، أو لإزالة غموض اعتور فهمهم للآيات البينات، تنقل إلينا كتب التفسير والروايات الصحيحة من السنة النبوية أن بعض الصحابة كان يستفسر عن بعض الآيات والمعاني إلى مرحلة متأخرة من حياتهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمثلًا تنقل لنا الروايات أن عمر بن الخطاب سأل على المنبر في إحدى خطبه عن "الأب" في قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: ٣١] ، ثم عاد إلى القول: وما يضرك لو لم تعلم معناها١، فإن في بحث هذه الأمور التي لا ينبني عليها حكم عملي تكلفًا لا فائدة منه، لذا كان الصحابة رضوان الله عليهم يكتفون فيما يتعلق بالجوانب النظرية من فروع العقائد، أو ما يتعلق بسير الأمم، أو تخليق السماوات والأرض ... فكانوا يكتفون بموطن العظة والعبرة ومجمل الاعتقاد فيها. بل جاء النهي القرآني الصريح عن الخوض في مثل هذه الأمور التي لا تدخل في إطار الأحكام العملية، يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا

١ انظر: الإتقان في علوم القرآن للسيوطي: ٢/ ١١٣.

حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ، قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ [المائدة: ١٠١، ١٠٢] .

كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن الاستفسارات التي لا يكون لها واقع عملي في حياة المسلمين. يقول عليه الصلاة والسلام: "إن أعظم المسلمين جرمًا من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته" ١. وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم" ٢.

وفي الحديث الآخر الصحيح: "إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودًا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها" ٣.

والحكمة الإلهية في ذلك -والله أعلم- أن انصراف الأمة إلى الأمور النظرية والفرعيات التي لا ترتبط بالأحكام العملية يؤدي إلى الفرقة والنزاع وإلى الجدل العقيم والترف الثقافي، والأمة الإسلامية أمة جهاد ودعوة وعمل فلا يليق بها مثل هذه المشاغل، وبخاصة في الصدر الأول في مرحلة تأسيس الدولة الإسلامية.

بالإضافة إلى ما تقدم فإن إمكانات الصحابة رضوان الله عليهم الثقافية واللغوية لم تكن على مستوى واحد في الإدراك والفهم والاستنباط.

روى البخاري في صحيحه عن الشعبي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: أخذ عدي عقالًا أبيض وعقالًا أسود حتى كان بعض الليل نظر فلم يستبينا، فلما أصبح قال: يا رسول الله جعلت تحت وسادتي فقال: "إن وسادك إذًا لعريض أن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادتك" ٤.

وكان منهم من لازم الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يفارقه في سفر ولا حضر، فاطلع على

١ رواه البخاري في كتاب الاعتصام: ٨/ ١٤٢، ومسلم في كتاب الفضائل: ٧/ ٩٢.

٢ رواه مسلم في صحيحه في كتاب الفضائل: ٧/ ٩١.

٣ أخرجه ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه. انظر: الدر المنثور للسيوطي: ٣/ ٢٠٨.

٤ صحيح البخاري، كتاب التفسير: ٥/ ١٥٦.

أسباب النزول وما كان يرافق أحوال الوحي مما لم يدركه الآخرون، كل ذلك أوجد ملكة ذهنية وعلمية لم تتوافر لغيرهم.

يقول مسروق: "جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدتهم كالإخاذ -الغدير- فالإخاذ يروي الرجل، والإخاذ يروي الرجلين، والإخاذ يروي العشرة، والإخاذ يروي المائة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم" ١.

{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: ١٧] .

وفي الرواية التي أخرجها أبو الشيخ وابن مردويه والحاكم في صحيحه عن ابن عباس ما يدل أن بعض الصحابة كان يفهم بعض الآيات على غير وجهها الصحيح فيقع في محظور. يقول ابن عباس: إن الشراب كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأيدي والنعال والعصي، حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: لو فرضنا لهم حدًا فتوفي ما كانوا يضربون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أبو بكر يجلدهم أربعين حتى توفي ثم كان عمر من بعدهم فجلدهم كذلك أربعين، حتى أُتي برجل من المهاجرين الأولين قد شرب فأمر به أن يجلد، فقال: لم تجلدني؟ بيني وبينك كتاب الله، قال: وفي أي كتاب الله تجد أن لا أجلدك؟ قال: فإن الله تعالى يقول في كتابه: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وأحسنوا. شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرًا وأحدًا والخندق والمشاهد، فقال عمر: ألا تردون عليه؟ فقال ابن عباس: هؤلاء الآيات نزلت عذرًا للماضين وحجة على الباقين، عذرًا للماضين لأنهم لقوا الله قبل أن حرم عليهم الخمر، وحجة على الباقين لأن الله يقول: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ} حتى بلغ الآية الآخرى، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا، فإن الله نهى أن يشرب الخمر، فقال عمر: فماذا ترون؟ فقال علي بن أبي طالب: نرى أنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذي وإذا هذي افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة فأمر عمر فجلد ثمانين٢.

١ التفسير والمفسرون للذهبي: ١/ ٣٠.

٢ انظر الدر المنثور للسيوطي: ٣/ ١٦٢.

وفي عهد التابعين اتسعت دائرة الأقوال في التفسير نظرًا لحاجة الناس إلى تفسير القرآن الكريم، وذلك:

- لبعد العهد عن عصر النزول، ولانتشار الإسلام.

- ودخول أقوام فيه ممن لم تكن لديهم خلفية عن الثقافة الإسلامية، بل كان لبعضهم خلفيات ثقافية أخرى ممن اعتنقوا ديانات قبل الإسلام.

- كما ولد في الإسلام جيل لم يكن على علم تام بأساليب العربية وما رافق نزول القرآن إلا ما تلقوه عن الصحابة رضوان الله عليهم.

وكان إلى هذا العهد يتناقل التفسير بطريق الرواية، فالصحابة يروون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يروي بعضهم عن بعض، والتابعون يروون عن الصحابة كما يروي بعضهم عن بعض.

- وفي أواخر عهد بني أمية وأوائل العصر العباسي بدأ عصر التدوين، فجمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فطاف الآفاق رجال كان شغلهم الشاغل جمع ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان على رأس هؤلاء:

ابن شهاب الزهري، المتوفى سنة ١٢٤هـ.

وشعبة بن الحجاج، المتوفى سنة ١٦٠هـ.

ووكيع بن الجراح، المتوفى سنة ١٩٧هـ.

وسفيان بن عيينة، المتوفى سنة ١٩٨هـ.

وروح بن عبادة البصري، المتوفى سنة ٢٠٥هـ.

وعبد الرزاق بن همام الصنعاني، المتوفى سنة ٢١١هـ.

وآدم بن إياس، المتوفى سنة ٢٢٠هـ.

وأحمد بن حنبل، المتوفى سنة ٢٤١هـ.

وعبد بن حميد، المتوفى سنة ٢٤٩هـ.

وابن ماجه، المتوفى سنة ٢٧٣هـ.

وابن جرير الطبري، المتوفى سنة ٣١٠هـ.

وغيرهم كثير ...

ولكن لم يصلنا شيء عن تفاسيرهم سوى تفسير مجاهد، وتفسير عبد الرزاق الصنعاني، وتفسير ابن ماجه، وتفسير ابن جرير الطبري.

وكان إلى هذا العهد يجمع التفسير على أنه باب من أبواب الحديث، يدون فيه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كبار الصحابة مما يتعلق بتفسير آية أو آيات.

ولم يبحث عن تفسير كل آية من آيات القرآن الكريم، وإنما يذكر فيه ما ثبت بطريق السند نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحد الصحابة.

ولم نجد تفسيرًا مستقلًا للقرآن الكريم تتبع القرآن سورة سورة أو آية آية قبل بداية القرن الثالث الهجري، على الرغم من أن الروايات تذكر أن مجاهدًا المتوفى سنة ١٠٤هـ سأل ابن عباس ومعه ألواحه، فكتب تفسير القرآن كاملًا، إلا أن التفسير المطبوع لا يختلف عن التفاسير المأثورة لآيات متفرقة. كما قيل إن سعيد بن جرير المتوفى سنة ٩٤هـ كتب تفسيرًا كاملًا للقرآن الكريم. كما يقال إن عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة كتب تفسيرًا للقرآن عن الحسن البصري المتوفى سنة ١١٦هـ. إلا أننا لا نستطيع أن نجزم بصحة هذه الروايات لأن هذه التفاسير لم يصلنا منها إلا القليل، ووصلت أجزاء من بعضها.

ولعل أقدم تفسير كامل لآيات القرآن الكريم، وصلنا وتحت أيدينا، وهو تفسير شيخ المفسرين ابن جرير الطبري المتوفى سنة ٣١٠هـ.

ثم توالت المؤلفات في التفسير وتشعبت ألوانها حسب اتجاهات أصحابها والفنون التي أجادوا فيها، إلا أن الذي يهمنا هنا:

هل كان بين تلك المؤلفات ما نطلق عليه اليوم اسم التفسير الموضوعي؟

وقيل البدء باستعراض تلك المؤلفات لنتعرف على المراد من مصطلح "التفسير الموضوعي" .

تعريف التفسير الموضوعي

يتألف مصطلح "التفسير الموضوعي" من جزأين ركبا تركيبًا وصفيًا فلا بد من تعريف الجزأين أولًا ثم تعريف المصطلح المركب منها.

تعريف التفسير:

التفسير لغة: من الفسر، وهو الكشف والبيان، وفي مفردات الراغب١:

إظهار المعنى المعقول. والتفسير مبالغة من الفسر.

قال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: ٣٣] أي أحسن توضيحًا وبيانًا للمطلوب.

وفي الاصطلاح: علم يكشف به عن معاني آيات القرآن وبيان مراد الله تعالى منها حسب الطاقة البشرية.

تعريف الموضوع:

الموضوع لغة: من الوضع، وهو جعل الشيء في مكان ما، سواء كان ذلك بمعنى الحط والخفض، أو بمعنى الإلقاء والتثبيت في المكان، يقال ناقة واضعة: إن رعت الحمض حول الماء ولم تبرح، وقيل: وضعت تضع وضيعة فهي واضعة، وكذلك موضوعة يتعدى ولا يتعدى. وهذا المعنى ملحوظ في التفسير الموضوعي لأن المفسر يرتبط بمعنى معين لا يتجاوزه إلى غيره حتى يفرغ من تفسير الموضوع الذي التزم به٢.

١ المفردات في غريب القرآن: ٥٧١.

٢ المدخل إلى التفسير الموضوعي للدكتور عبد الستار سعيد: ٢٠، ٢٣.

وفي الاصطلاح: قضية، أو أمر متعلق بجانب من جوانب الحياة في العقيدة أو السلوك الاجتماعي أو مظاهر الكون تعرضت لها آيات القرآن الكريم.

أما تعريف مصطلح "التفسير الموضوعي" بعد أن أصبح علمًا على لون من ألوان التفسير فقد تعددت تعاريف الباحثين المعاصرين له. منها:

- هو بيان ما يتعلق بموضوع من موضوعات الحياة الفكرية أو الاجتماعية أو الكونية من زاوية قرآنية للخروج بنظرية قرآنية بصدده.

- وعرفه بعضهم بقوله: هو جمع الآيات المتفرقة في سورة القرآن المتعلقة بالموضوع الواحد لفظًا أو حكمًا وتفسيرها حسب المقاصد القرآنية.

- وقيل: هو بيان موضوع ما من خلال آيات القرآن، الكريم في سورة واحدة أو سورة متعددة.

- وقيل: هو علم يبحث في قضايا القرآن الكريم، المتحدة معنى أو غاية، عن طريق جمع آياتها المتفرقة، والنظر فيها، على هيئة مخصوصة، بشروط مخصوصة لبيان معناها، واستخراج عناصرها، وربطها برباط جامع١.

- وقيل: هو علم يتناول القضايا حسب المقاصد القرآنية من خلال سورة أو أكثر.

ولعل التعريف الأخير هو الأرجح، لخلوه عن التكرار ولإشارته إلى نوعيه الرئيسيين.

والتعاريف السابقة يغلب عليها طابع الشرح والتوضيح لمنهج البحث في التفسير الموضوعي.

١ المدخل إلى التفسير الموضوعي: ٢٠؛ ودراسات في التفسير الموضوعي للدكتور زاهر عواض: ٧.

نشأة التفسير الموضوعي

لم يظهر هذا المصطلح "التفسير الموضوعي" إلا في القرن الرابع عشر الهجري، عندما قررت هذه المادة ضمن مواد قسم التفسير بكلية أصول الدين بالجامع الأزهر. إلا أن لَبِنات هذا اللون من التفسير وعناصره الأولى كانت موجودة منذ عصر التنزيل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإن تتبع الآيات التي تناولت قضية ما والجمع بين دلالاتها وتفسير بعضها لبعض، مما أطلق عليه العلماء فيما بعد بتفسير القرآن بالقرآن، كان معروفًا في الصدر الأول، وقد لجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه عندما سئل عن تفسير بعض الآيات الكريمة:

- روى الشيخان وغيرهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: ٨٢] شق ذلك على الناس، فقالوا: يا رسول الله وأينا لا يظلم نفسه؟ قال: "إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم} [لقمان: ١٣] ، إنما هو الشرك" ١.

- روى البخاري٢ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر مفاتح الغيب في قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: ٥٩] فقال: "مفاتح الغيب خمس: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي"

١ صحيح البخاري، كتاب التفسير: ٦/ ٢٠، صحيح مسلم، كتاب الإيمان: ١/ ٨٠.

٢ صحيح البخاري، كتاب التفسير: ٥/ ١٩٣.

نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان: ٣٤] "."

- ومن هذا القبيل ما كان يلجأ إليه الصحابة رضوان الله عليهم من الجمع بين الآيات القرآنية التي يظن بها بعضهم التعارض، كما روى البخاري قال: وقال المنهال عن سعيد بن جبير قال: قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما إني لأجد في القرآن أشياء تختلف علي، قال: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} ، {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} ، {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} ، {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فقد كتموا في هذه الآية، وقال تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا، رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا، وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا، وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} فذكر خلق السماء قبل الأرض، ثم قال تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إلى قوله: {طَائِعِين} فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء. وخلق الأرض في يومين ثم خلق السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ثم دحى الأرض ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعى وخلق الجبال والرمال والجماد والآكام وما بينهما في يومين آخرين فذلك قوله تعالى: {دَحَاهَا} ١.

وقد وضع العلماء بعد ذلك قاعدة في أصول التفسير بضرورة العودة إلى القرآن الكريم نفسه لمعرفة تفسير آية ما، فما أجمل في مكان فصل في مكان آخر، وما أطلق في سورة مقيد في سورة أخرى. يقول ابن تيمية: "إن أصح الطرق في ذلك -أي في تفسير القرآن- أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان فإنه قد فسر في موضع آخر، وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر" ٢.

ومن أبرز تلك الأمثلة قوله تعالى في سورة النحل: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم: ١١٨] ، فقد أفادت الآية الكريمة أن ما حرم على اليهود قد قصه الله سبحانه وتعالى على نبيه، وبالرجوع إلى الآية التي ورد فيها ذكر

١ صحيح البخاري، كتاب التفسير: ٦/ ٣٦.

٢ مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية بتحقيق عدنان زرزور: ٩٣.

المحرمات عليهم، نجد أن آية الأنعام قد فصلت هذا الإجمال وأزالت ذاك الإبهام في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: ١٤٦] .

وكذلك ما يتعلق بالمحرمات من بهيمة الأنعام على هذه الأمة نجد في ذلك عدة آيات:

كقوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة: ١] .

وقد جاء تفصيل هذه المحرمات في عدة آيات كقوله تعالى:

{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: ١٤٥] .

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ، إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: ١٧٢، ١٧٣] .

وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة: ٣] .

وقد جمع الفقهاء هذه الآيات ذات الصلة بموضوع واحد في كتبهم الفقهية فجمعوا ما يتعلق بالوضوء والتيمم تحت كتاب الطهارة واستنبطوا منها الأحكام الخاصة بها، كما جمعوا ما ورد في الصلاة وقيامها وركوعها والقراءة فيها تحت كتاب الصلاة، وما يتعلق بالصدقات وجوبًا ومصارف وأنواع المال التي تخرج الصدقة منها تحت كتاب الزكاة، وهكذا في سائر أبواب الفقه من العبادات والمعاملات والفرائض والسير.

وكل ذلك لون من ألوان التفسير الموضوعي في خطواته الأولى.

وقد أخذت هذه الدراسات الموضوعية اتجاهًا آخر في نفس الوقت وهو الاتجاه اللغوي وذلك بتتبع اللفظة القرآنية ومحاولة معرفة دلالاتها المختلفة.

فقد ألف مقاتل بن سليمان البلخي المتوفى سنة ١٥٠هـ كتابًا سماه "الأشباه والنظائر في القرآن الكريم" ، وذكر فيه الكلمات التي اتحدت في اللفظ واختلفت دلالالتها حسب السياق في الآيات الكريمة.

وألف يحيى بن سلام المتوفى سنة ٢٠٠هـ كتابه "التصاريف" ١، تفسير القرآن مما اشتبهت أسماؤه وتصرفت معانيه على طريقة كتاب الأشباه والنظائر.

وألف الراغب الأصفهاني المتوفى سنة ٥٠٢هـ كتابه "المفردات في القرآن" حيث تتبع مادة الكلمة القرآنية وبين دلالاتها في مختلف الآيات.

ثم ألف ابن الجوزي المتوفى سنة ٥٩٧هـ كتابه "نزهة الأعين النواضر في علم الوجوه والنظائر" .

وعلى هذه الشاكلة كتاب الدامغاني المتوفى سنة ٤٧٨هـ بعنوان "إصلاح الوجوه والنظائر في القرآن الكريم" .

وكتاب الفيروزآبادي المتوفى سنة ٨١٧هـ بعنوان "بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز" .

وكتاب ابن العماد المتوفى سنة ٨٨٧هـ بعنوان "كشف السرائر في معنى الوجوه والأشباه والنظائر" .

وكان الغالب على هذه المؤلفات الجانب للكلمات الغريبة التي تتعدد دلالاتها حسب الاستعمال.

وإلى جانب هذا اللون من التفسير فقد برزت دراسات تفسيرية لم تقتصر على الجوانب اللغوية بل جمعت بين الآيات التي يربطها رابط واحد أو يمكن أن تدخل تحت عنوان معين:

١ حققت الكتاب هند شلبي، وطبعته الشركة التونسية للتوزيع.

فقد ألف الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام، المتوفى سنة ٢٢٤هـ كتابه في الناسخ والمنسوخ.

وألف الإمام علي بن المديني "شيخ البخاري" والمتوفى سنة ٢٣٤هـ كتابه في أسباب النزول.

وألف الإمام ابن قتيبة المتوفى سنة ٢٧٦هـ كتابه "تأويل مشكل القرآن" .

وألف أبو بكر الجصاص الحنفي المتوفى سنة ٣٧٠هـ كتابه "أحكام القرآن" .

وألف ابن العربي المالكي المتوفى سنة ٥٤٣هـ كتابه "أحكام القرآن" أيضًا.

وألف إلكيا الهراسي الشافعي المتوفي سنة ٥٠٤ هـ كتابه "أحكام القرآن" أيضًا.

وظهرت مؤلفات أخرى جميع أصحابها ما يشمله عنوان الكتاب:

مثل "أمثال القرآن" للماوردي المتوفى سنة ٤٥٠هـ.

وكتاب "مجاز القرآن" للعز بن عبد السلام المتوفى سنة ٦٦٠هـ.

وكتاب "أقسام القرآن" و "أمثال القرآن" لابن القيم المتوفى سنة ٧٥١هـ.

ولا زال هذا الخط من التأليف في التفسير الموضوعي مستمرًا إلى يومنا هذا، وقد توجهت أنظار الباحثين إلى هدايات القرآن الكريم حول معطيات الحضارات المعاصرة وظهور المذاهب والاتجاهات الاقتصادية والاجتماعية، والعلوم الكونية والطبيعية.

فنجد مؤلفات كثيرة تحت عناوين شتى مثل:

- الإنسان في القرآن.

- المرأة في القرآن.

- الأخلاق في القرآن.

- اليهود في القرآن.

- سيرة الرسول صور مقتبسة من القرآن.

- الصبر في القرآن.

- الرحمة في القرآن.

ومثل هذه الموضوعات لا تكاد تتناهى، فكلما جد جديد في العلوم المعاصرة، التفت علماء المسلمين إلى القرآن الكريم ليسترشدوا بهداياته وينظروا في توجيهات الآيات الكريمة في مثل هذه المجالات الجديدة.

ومن الجدير بالذكر في هذا المجال أن أحد المستشرقين الإفرنسيين هو "جول لابوم" وضع كتابًا بعنوان "تفصيل آيات القرآن الكريم" وضع لكتابه ثمانية عشر بابًا، ثم حاول توزيع آيات القرآن الكريم على هذه الأبواب، وجعل تحت كل باب فروعًا وقد بلغت عدة هذه الفروع حوالي/ ٣٥٠ فرعًا، وجمع تحت كل فرع الآيات التي تتعلق به.

أما الأبواب الرئيسية فهي:

١- التاريخ.

٢- محمد صلى الله عليه وسلم.

٣- التبليغ.

٤- بنو إسرائيل.

٥- التوراة.

٦- النصارى.

٧- ما بعد الطبيعة.

٨- التوحيد.

٩- القرآن.

١٠- الدين.

١١- العقائد.

١٢- العبادات.

١٣- الشريعة.

١٤- النظام الاجتماعي.

١٥- العلوم والفنون.

١٦- التجارة.

١٧- علم تهذيب الأخلاق.

١٨- النجاح.

قام بترجمة الكتاب إلى العربية محمد فؤاد عبد الباقي وترجم مستدركه لإدوار مونتيه، إلا أن المؤلف تعسف كثيرًا في حشر بعض الآيات وليس الغرض الأساسي من الآية متفقًا مع الآية الأخرى، كما فاته كثير من الآيات لم تدخل تحت الجمع، إلا أن الكتاب خطوة مفيدة للباحث في لم شتات موضوع من الموضوعات القرآنية.

ألوان التفسير الموضوعي

من خلال الاستعراض التاريخي لنشوء علم التفسير والمؤلفات فيه نستطيع أن نلحظ ثلاثة أنواع من ألوان التفسير الموضوعي.

اللون الأول

أن يتتبع الباحث لفظة من كلمات القرآن الكريم ثم يجمع الآيات التي ترد فيها اللفظة أو مشتقاتها من مادتها اللغوية، وبعد جمع الآيات والإحاطة بتفسيرها يحاول استنباط دلالات الكلمة من خلال استعمال القرآن الكريم لها. وكثير من الكلمات القرآنية المتكررة أصبحت مصطلحات قرآنية.

فكلمات: الأمة، الصدقة، الجهاد، الكتاب، الذين في قلوبهم مرض، المنافقون، الزكاة، أهل الكتاب، الربا، نجدها تأخذ وجوهًا في الاستعمال والدلالة.

فالمتتبع لمثل هذا يخرج بلون من التفسير لأساليب القرآن الكريم في استخدام مادة الكلمة ودلالاتها.

وقد سبقت الإشارة إلى أن كتب غريب القرآن، وكتب الأشباه والنظائر قد تضمنت هذا اللون من التفسير، وهي العمدة في مثل هذه الأبحاث.

إلا أن المؤلفات القديمة من هذا اللون بقيت في دائرة دلالة الكلمة في موضعها. ولم يحاول مؤلفوها أن يربطوا بينها في مختلف السور، فبقي تفسيرهم للكلمة في دائرة الدلالة اللفظية.

أما المعاصرون الذين كتبوا في هذا اللون فقد تتبعوا الكلمة وحاولوا الربط

بين دلالاتها في مختلف المواضع فكان أشبه ما يكون باللون الثاني من التفسير الموضوعي.

وفيما يلي ننقل نموذجًا على هذا اللون من التفسير الموضوعي من كتاب الدامغاني:

نموذج من كتاب: "إصلاح الوجوه والنظائر" ، للدامغاني:

قال الدامغاني تحت مادة "خ ي ر" ١:

"خ ي ر" على ثمانية أوجه:

المال، الإيمان، الإسلام، أفضل، العافية، الأجر، الطعام، الظفر والغنيمة.

فوجه منها١ الخير بمعنى المال، قوله سبحانه في سورة البقرة: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} يعني مالًا. كقوله تعالى فيها: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} وكقوله تعالى في سورة البقرة: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} أي لا تنفقوا مالًا وقوله تعالى فيها: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} يعني من مال، وقوله تعالى في سورة "ص" : {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} يعني حب المال، وكقوله تعالى في سورة النور: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} يعني مالًا.

الثاني: الخير يعني الإيمان. قوله تعالى في سورة الأنفال: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأسْمَعَهُمْ} يعني لو علم الله فيهم إيمانًا، كقوله تعالى فيها: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا} يعني إيمانًا، كقوله تعالى في سورة هود: {وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا} يعني إيمانًا.

الثالث: الخير يعني الإسلام. قوله تعالى في سورة البقرة: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} يعني الإسلام، نظيرها في سورة "ق" : {مَنَّاعٍ لِلْخَيْر} يعني الإسلام نزلت في الوليد بن المغيرة منع ابن أخيه أن يسلم، نظيرها في سورة "ن" .

١ إصلاح الوجوه والنظائر للدامغاني: ١٦٧-١٦٩، ط. دار العلم للملايين.

الرابع: خير يعني أفضل. قوله تعالى في سورة المؤمنون: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} يعني أفضل الراحمين، كقوله تعالى في سورة يونس: {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِين} أى أفضل الحاكمين، ونحوه قوله تعالى في سورة الزخرف: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} يقول أفضل من هذا.

الخامس: الخير يعني العافية. قوله تعالى في سورة الأنعام: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} يعني بعافية.

السادس: الخير يعني الطعام. قوله تعالى في سورة القصص: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} يعني الطعام.

الثامن: الخير يعني به الظفر والغنيمة والطعن في القتال قوله تعالى في سورة الأحزاب: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} يعني ظفرًا وغنيمة "."

ونلاحظ أن المؤلف لم يربط بين أصل الكلمة واستعمالاتها وسياق الآيات التي وردت فيها الكلمة: ليبني عليها هداية قرآنية أو ليستنبط من دلالات اللفظة وسياق استعمالاتها توجيهًا قرآنيًا معينًا. وإنما بقيت الكلمة حيث وردت في نطاق الدلالة اللفظية المفردة.

نموذج من كتاب "المفردات في غريب القرآن" ، للراغب الأصفهاني، المتوفى سنة ٥٠٢هـ في كلمة "أمة" :

والأمة: كل جماعة يجمعهم أمر ما: إما دين واحد، أو زمان واحد، أو مكان واحد، سواء كان ذلك الأمر الجامع تسخيرًا أو اختيارًا. وجمعها أمم.

وقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} أي كل نوع منها على طريقة قد سخرها الله عليها بالطبع. فهي بين

ناسخة كالعنكبوت، وبانية كالسرقة١، ومدخرة كالنمل، ومعتمدة على قوت وقته كالعصفور والحمام إلى غير ذلك من الطبائع التي تخصص بها كل نوع.

وقوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَة} أي صنفًا واحدًا وعلى طريقة واحدة في الضلال والكفر.

وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي في الإيمان.

وقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} أي جماعة يتخيرون العلم والعمل الصالح يكونون أسوة لغيرهم.

وقوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} أي على دين مجتمع.

قال الشاعر: وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع.

وقوله تعالى: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أي حين. وقرئ بعد أمه٢: أي نسيان. وحقيقة ذلك بعد انقضاء أهل عصر أو أهل دين.

وقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} أي قائمًا مقام جماعة في عبادة الله، نحو قولهم: فلان في نفسه قبيلة.

وروي أنه يُحشر زيد بن عمرو بن نفيل أمة وحدة٣.

وقوله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} أي جماعة.

وجعلها الزجاج ههنا للاستقامة، وقال تقديره ذو طريقة واحدة، فترك الإضمار٤.

ثم انتقل إلى لفظة "أمي" ودلالات الكلمة، ثم إلى كلمة "الإمام" ودلالاتها، ثم إلى كلمة "الأم" بمعنى القصد، وختم المادة بالحديث عن حرف "أما" .

وفي كل ذلك لم يتعرض لسياق الآيات التي استخدمت فيها كلمة "أمة" وإنما تعرض لها في مواطنها ولم يفصل القول في عناصر تكوين دلالات هذه اللفظة ولا مقومات استمرارها ودورها.

وقارن ذلك بما كتبه الدكتور أحمد حسن فرحات حول مصطلح الأمة ودلالتها اللغوية والفكرية والشرعية.

١ السُرْفَة: بضم السين وسكون الراء وفتح الفاء، دودة القز.

٢ هي قراءة الحسن، انظر: القراءات الشاذة لعبد الفتاح القاضي: ٥٧.

٣ أسد الغابة في معرفة الصحابة: ٢/ ١٤٣.

٤ انظر: المفردات للراغب: ٢٧-٢٨.

اللون الثاني

تحديد موضوع ما يلحظ الباحث تعرض القرآن الكريم له بأساليب متنوعة في العرض والتحليل والمناقشة والتعليق.

فيتتبع الموضوع من خلال سور القرآن الكريم، ويستخرج الآيات التي تناولت الموضوع، وبعد جمعها والإحاطة بتفسيرها يحاول الباحث استنباط عناصر الموضوع من خلال الآيات الكريمة، فينسق بين عناصره، ويقدم له بمقدمة حول أسلوب القرآن الكريم في عرض أفكار الموضوع، ويحاول أن يقسمه إلى أبواب وفصول ومباحث، ويستدل بالآيات القرآنية على كل ما يذهب إليه ويتحدث عنه مع ربط ذلك كله بواقع الناس ومشاكلهم ومحاولة حلها وإلقاء أضواء قرآنية عليها.

ويتجنب خلال بحثه التعرض للأموال الجزئية في تفسير الآيات فلا يذكر القراءات، ووجوه الإعراب والنكات البلاغية إلا بمقدار ما تُلقي أضواء على أفكار الموضوع الأساسية، ويعرض ما يتحدث عنه بأسلوب جذاب لتوضيح مرامي الآيات ومقاصدها والحكمة الإلهية في عرض أفكار الموضوع بأساليب معينة واختيار ألفاظ محددة لها.

وهذا اللون من التفسير الموضوعي هو المشهور في عرف أهل الاختصاص، وإذا أطلق اسم "التفسير الموضوعي" فلا يكاد ينصرف الذهن إلا إليه.

ولقد كثرت المؤلفات قديمًا وحديثًا في هذا اللون من التفسير الموضوعي فما كتب: إعجاز القرآن.

والناسخ والمنسوخ في القرآن.

وأحكام القرآن.

وأمثال القرآن.

ومجاز القرآن ... قديمًا إلا أمثلة ناطقة على أهمية هذا اللون من التفسير عند السلف الصالح من علماء هذه الأمة.

وكذلك الموضوعات المختلفة المعاصرة: المتعلقة بمجالات المعرفة المختلفة حيث ربطها الباحثون بالقرآن الكريم ونظروا بمنظاره إلى هذه المجالات وكيفية البحث عنها، سواء كانت هذه المجالات مما يتعلق بالكون المحيط بالإنسان من أرض وسماوات وكواكب ونجوم وبحار ومحيطات وجبال وأنهار ونبات وحيوان، أو كانت مما يتعلق بالإنسان خلقه وتكوينه وعواطفه وغرائزه ومشاعره ونفسه وعقله، وأخلاقه وسموه وتسقله، أو بالحياة الاجتماعية التي يحياها الإنسان في مجتمعه بدءًا بالعلاقات الأسرية والاجتماعية في القوم والعشيرة، والعلاقات الدولية والأمور الاقتصادية والسياسية، وأنظمة السلم والحرب والدعوة إلى الله، وأخذ العبر والعظات من سير الأقوام والأمم الماضية.

وما يتعلق كذلك بأمور الغيب من البعث بعد الموت والحشر والحساب والجنة والنار، وصنوف النعيم في دار السعادة للمتقين، وصنوف الشفاء للتعساء في دار الجحيم.

ولا تكاد تنتهي مثل هذه الموضوعات، بل كلما جدت علوم وصنوف من المعرفة لدى الإنسان يجد الباحث في القرآن الكريم ما يشبع فكرة اقتناعًا، وقلبه طمأنينة من عرض القرآن الكريم لأساسيات هذا اللون من المعرفة بوضع الأسس العامة والتوجيهات الأساسية في هذا الشأن.

اللون الثالث من التفسير الموضوعي:

وهذا اللون شبيه باللون الثاني إلا أن دائرة هذا اللون أضيق من دائرة سابقه.

حيث يبحث في هذا اللون عن الهدف الأساسي في السورة الواحدة، ويكون هنا الهدف هو محور التفسير الموضوعي في السورة.

وطريقة البحث في هذا اللون هو: أن يستوعب الباحث هدف السورة الأساسي، أو أهدافها الرئيسية، ثم يبحث عن سبب النزول للسورة أو الآيات التي عرضت الموضوع الأساسي للسورة، ثم ينظر إلى ترتيب نزول السورة من بين السور المكية أو المدينة، ثم يدرس الأساليب القرآنية في عرض الموضوع والمناسبات بين مقاطع الآيات في السورة. وسيجد الباحث أن لكل سورة شخصيتها المستقلة وأهدافها الأساسية. فمن المعلوم أن السور المكية قد عرضت أسس العقيدة الإسلامية الثلاثة بشكل مفصل: الألوهية، الرسالة، البعث بعد الموت، لذا يمكن أن يتناول الباحث في كل سورة مكية أحد الجوانب الثلاثة من العقيدة، كما اشتمل كثير منها على الحث على أمهات الأخلاق والتنفير من مرذولها.

ولم يظفر هذا اللون من التفسير الموضوعي بعناية المفسرين القدماء بل جاء في ثنايا تفاسيرهم الإشارة إلى بعض أهداف السور وخاصة القصيرة منها، وكذلك التوخي لوجه المناسبة بين مقاطع بعض السور، كما فعل الفخر الرازي في تفسيره الكبير، وكذا فعل البقاعي في نظم الدرر، وعبد الحميد الفارهي في كتابه نظام القرآن.

أما في العصر الحديث فقد كان سيد قطب مولعًا بعرض أهداف وأساسيات كل سورة، قبل البدء في تفسيرها، وبيان شخصية كل سورة وملامحها المتميزة عن بقية السور. والأساليب المتبعة في عرض أفكارها. فيعتبر كتابه "في ظلال القرآن" نموذجًا جيدًا وبخاصة مقدمة تفسيره لكل سورة.

كما كتب غيره ممن جاء بعده مستفيدًا من منهجه، كما فعل إبراهيم زيد الكيلاني في كتابه "تصور الألوهية كما تعرضه سورة الأنعام" ، وكتابه "معركة النبوة مع المشركين" أو: قضية الرسالة كما تعرضها سورة الأنعام وبينها القرآن الكريم.

أما ما كتبه د. محمد البهي في رسائله المسماة بالتفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم فلا أعتبره من التفسير الموضوعي وإنما هو تفسير إجمالي للآيات في السورة كما لم يحدد موضوع كل سورة فسرها، وإنما جاء بكلام إنشائي للمعنى الإجمالي للآيات.

أهمية التفسير الموضوعي

أولًا: إن تجدد حاجات المجتمعات وبروز أفكار جديدة على الساحة الإنسانية وانفتاح ميادين للنظريات العلمية الحديثة لا يمكن تغطيتها ورؤية الحلول الصحيحة لها إلا باللجوء إلى التفسير الموضوعي للقرآن الكريم.

وذلك أن الباحث المسلم عندما يجابه مشكلة في الحياة، أو تقدم له نظرية مستحدثة في علم النفس، أو علم الاجتماع، أو في علوم الحضارة الإنسانية، أو العلوم الفلكية، أو العلوم الطبيعية أو نظرية في الاقتصاد. فإنه لا يستطيع أن يجد لكل هذه النظريات المستجدة نصوصًا من آيات الذكر الحكيم تناقش مثل هذه القضية المطروحة وتبين حكم الله تعالى فيها، بل يلجأ الباحث عندئذ إلى معرفة الهدايات القرآنية وإرشادات السنة النبوية في هذا الاتجاه ويجمع الأفكار الرئيسية في هذا المجال، بحيث تتكون لديه ملكة لإدراك مقاصد القرآن الكريم في هذا الصدد، وبمنظار القرآن الكريم ينظر إلى حل هذه المشكلة أو يقوم هذه النظرية.

إن نصوص القرآن الكريم محددة والقضايا التي تناولها بالتوضيح والبيان والتفصيل محددة أيضًا: أما المشاكل الإنسانية وآفاق المعرفة فغير محددة ما دامت الحياة مستمرة على هذه الكرة الأرضية، ولا يمكن أن نجابه هذه المشكلات بظواهر النصوص المحددة. بل نجد المرونة والسعة في الخطوط الأساسية التي تعرض لها آيات التنزيل الحكيم.

ومن خلال علل النصوص وهداياتها العامة ودلالاتها وظلالها نستطيع أن

نصل إلى أنوار كاشفة ترسم لنا الطريق وتحدد لنا المعالم لتقويم كل مستحدث جديد.

لذا لا يمكن أن نجابه مشاكل العصر ومعطيات الحضارة إلا بأسلوب الدراسات الموضوعية للقرآن الكريم أو بأسلوب "التفسير الموضوعي" .

إن جمع أطراف موضوع ما من خلال نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة والإحاطة بدلالاتها يمكن الباحث من القيام بدور اجتهادي للتوصل إلى أفكار وقواعد عامة جديدة، وعلى ضوء هذه القواعد والهدايات المستمدة من مقاصد النصوص الشريفة يستطيع الباحث أن يدرك معالجة الإسلام لهذه المعضلات والمشكلات.

ثانيًا: إن تخصيص موضوع بالبحث والدراسة وجمع أطرافه والاطلاع على أسباب النزول للآيات المتعلقة به، وتحديد المرحلة التي نزلت الآيات الكريمة تعالج بعض جوانبه، وتوجيه ما ظاهره التعارض، كل ذلك يهيئ للموضوع جوًا علميًا لدراسة هذا الموضوع بعمق وشمولية تثري المعلومات حوله وتبلور قضاياه وتبرز معالمه.

ومثل هذا العمق ومثل هذا التوسع لإبراز معالم الموضوع لا يتيسر للباحث في أي نوع من أنواع التفاسير سواء التحليلي، أو الإجمالي، أو المقارن، بل التفسير الموضوعي هو الأسلوب الأمثل في بحث مثل هذه الأمور.

ثالثًا: عن طريق التفسير الموضوعي يستطيع الباحث أن يبرز جوانب جديدة من وجوه إعجاز القرآن الكريم الذي لا تنقضي عجائبه.

فكلما جدت على الساحة معطيات جديدة لتطور الفكر البشري، يعايشها المفسر، ويحط بدقائقها وحقائقها ثم يلجأ إلى القرآن الكريم وإلى السنة النبوية الشريفة ليستنطق النصوص الشريفة ويميط اللثام عن وجوه جديدة من الهدايات القرآنية.

ويجد أهل الاختصاص في كل فن أن المعجزة الخالدة الباقية تقيم الحجة على الأجيال وأن في القرآن من الكفاية والغناء عن كل شيء: وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ

عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت: ٥٠، ٥١] .

رابعًا: تأهيل الدراسات القرآنية وتصحيح مسارها: لقد نالت بعض العلوم القرآنية حظًا وافرًا من جهود العلماء وصنفت فيها المصنفات الكثيرة مثل العلوم المتعلقة بالجوانب اللغوية، والدراسات الفقهية لآيات الأحكام، إلا أن علومًا جديدة برزت تحتاج إلى تأهيل قواعدها على ضوء القرآن الكريم مثل "الإعجاز العلمي" ، فقد برز هذا العلم وكثرت الكتابات فيه إلا أنه يحتاج إلى ضبطه بقواعد علمية مستمدة من هدايات القرآن الكريم لتجنب الإفراط والتفريط في إدخال الآيات مجال البحث والمتعلقة بالعلوم التجريبية من علوم الفلك والطبيعة والإنسان.

وكذلك علم "أصول التربية القرآنية" فبعد بروز المدارس الاجتماعية ومدارس علم النفس في الغرب، وغزوها للأمم والشعوب، ومحاولة إقامة صرح التعليم والتربية حسب مناهجها، رأى المفكرون المسلمون أن من الضرورة بمكان استخلاص مبادئ هذا العلم من هدايات القرآن الكريم ولا زالت الكنايات في هذا الجانب قليلة جدًا، إذ تحتاج مثل هذه العلوم إلى علماء راسخين في علوم الشريعة، إلى جانب استيعابهم لثقافة العصر ومناهج المدارس الحديثة في الغرب والشرق، إلى جانب ملكة قوية في الإبداع والاستنباط، ليقوم هذا العلم على أسس راسخة.

ومثل هذا "أصول علم الاقتصاد الإسلامي" و "أصول الإعلام الإسلامي" .

إن كثيرًا من العلوم تلعب دورًا هامًا في حياتنا المعاصرة، ولا زالت معالم هذه العلوم غير واضحة الصلة بهدايات القرآن، ولا يمكن أن نجد نصوصًا محددة من القرآن الكريم أو السنة النبوية تناولتها, وإنما نستشف أصولها من خلال روح النصوص الكريمة وهدايات القرآن الكريم والسوابق القضائية والفقهية لسلف هذه الأمة، ولا وسيلة لوضع أسس هذه العلوم وبيان ضوابطها إلا من خلال التعامل مع الآيات الكريمة وفق منهج التفسير الموضوعي.

كما أن هنالك دراسات إسلامية ضخمة قامت ولكن لم تكن مناهج الباحثين فيها وثيقة الصلة بالهدايات القرآنية.

فعلم التاريخ البشري أخذ منهجًا في سرد الوقائع والأحداث من غير تعرض لسنن الله في المجتمعات الإنسانية من حيث الرقي والتقديم أو الانحطاط والتخلف علمًا أن هدايات القرآن الكريم قد أبرزت هذه السنن بشكل دقيق عند عرض قصص الأمم السابقة مع أنبيائها.

ولقد كانت محاولة ابن خلدون في مقدمة تاريخه محاولة جادة وجيدة، إلا أننا لم نجد من تابع هذا العلم، ومن الجدير أن تقام دراسات قرآنية حول هذا الموضع تحت عنوان: "علم الحضارة القرآنية" .

بل إن هناك جوانب من الدراسات قامت حول الأحكام التشريعية وتفسير آيات الأحكام إلا أننا لا نجد مؤلفًا خاصًا كتب حول إبراز مزايا التشريع الإسلامي وحكمه.

فعلى الرغم مما كتبه بعض العلماء في ثنايا كتبهم حول الإعجاز التشريعي للقرآن؛ كما فعل الشيخ عبد العظيم الزرقاني في "مناهل العرفان" والشيخ محمد أبو زهرة في كتابه "المعجزة الكبرى" ، إلا أن الحاجة ماسة للكتابة حول فلسفة التشريع الإسلامي في جميع مجالات الحياة وإبراز محاسنه على ضوء الآيات القرآنية.

إن المنهج الذي يغطي هذه المجالات ويوصل هذه العلوم ويضع الأسس والضوابط لها هو منهج التفسير الموضوعي للآيات القرآنية.

من هنا كانت أهمية هذا النوع من التفسير.

فما هي مناهج البحث في التفسير الموضوعي؟

هذا ما نتناوله بشيء من التفصيل في المباحث القادمة بإذن الله.

مناهج البحث في التفسير الموضوعي

أولًا: منهج البحث في موضوع من خلال القرآن الكريم:

إذا أراد الباحث أن يطرق موضوعًا من موضوعات القرآن الكريم، لا بد أن يكون تصورًا لأبعاد الموضع، وأن يتدرج في جميع المادة العلمية حوله حسب الخطوات التالية:

١- اختيار عنوان للموضوع القرآني مجال البحث، بعد تحديد معالم حدوده ومعرفة أبعاده في الآيات القرآنية.

٢- جمع الآيات القرآنية التي تبحث هذا الموضوع، أو تشير إلى جانب من جوانبه.

٣- ترتيب هذه الآيات حسب زمن النزول، وذلك لأن ما أُنزل بمكة كان في الأعم الأغلب يتعلق بأسس عامة غير محددة الجوانب كالأمر بالإنفاق أو الزكاة أو الإحسان بينما حددت معالم هذه التشريعات في المرحلة المدنية.

٤- دراسة تفسير هذه الآيات دراسة وافية بالرجوع إلى كتب التفسير التحليلي والتعرف على أسباب نزولها إن وجدت، وإلى دلالات الألفاظ واستعمالاتها، والروابط بين الألفاظ في الجملة وبين الجمل في الآية وبين الآيات في المجموعة التي تتحدث عن الموضوع.

٥- بعد الإحاطة بمعاني الآيات مجتمعة يحاول الباحث أن يستنبط العناصر

الأساسية للموضوع من خلال التوجيهات القرآنية التي أحاط بها أو استنبطها من الآيات المتعلقة بالموضوع، وللباحث أن يقدم بعض العناصر الرئيسية على غيرها، إن وجد أن طبيعة البحث تقتضي ذلك أو أن تسلسل الأفكار المنطقي يلزم هذا التقديم أو التأخير.

٦- ثم يلجأ الباحث إلى طريقة التفسير الإجمالي في عرض الأفكار في بحثه ويحاول أن لا يقتصر على دلالة الألفاظ اللغوية وإنما يستشف الهدايات القرآنية من خلال النصوص، كما يستدل على ما أشارت إليه الآيات الكريمة بالأحاديث النبوية الشريفة ويدعم كل ذلك بفهم الصحابة رضوان الله عليهم لنصوص آي الذكر الحكيم.

ويوجه ويعلل ويشرح ويناقش في ضوء التوجيهات القرآنية، وإن وجد ما يوهم التناقض بين بعض الآيات التي تناولت الموضوع فلا بد من إزالة هذا الوهم، وإبراز الحكمة الإلهية في وجود مثل هذه النصوص.

٧- لا بد للباحث من الالتزام بمنهج البحث العلمي عندما يضع مخطط البحث للموضوع، وقد يفرض الموضوع طبيعة المنهج والخطة التي سيجري البحث من خلالها. فإن كان الموضوع متشعب المباحث والمجالات لا بد عندئذ من وضع تمهيد بين الباحث فيه منهجه في تناول الموضوع.

ثم يقسم الموضوع إلى أبواب ويضع تحت كل باب فصولًا وتحت كل فصل مباحث فيجعل العنصر الأساسي الجامع عنوانًا للباب ثم يجعل العنصر الفرعي عنوانًا للفصل، ثم يجعل الجزئيات الصغيرة عناوين للمباحث.

أما إذا كان الموضوع محدد المعالم والآفاق واضح المجالات قليل العناصر، فلا بأس من بحثه عندئذ على شكل مقاله علمية تتكون من مقدمة وصلب الموضوع وخاتمة، يتناول في كل ذلك القضية المطروحة بأسلوب علمي رصين موثق بالأدلة والشواهد، وبدون خلاصة ما توصل إليه في الخاتمة بشكل موجز.

٨- وليكن هدف الباحث في كل ذلك:

- إبراز حقائق القرآن الكريم، وعرضها بشكل لافت للنظر مع ذكر حكمة

التشريع وجماله ووفائه بحاجات البشر وملاءمته للفطرة السليمة وإطلاقه للطاقات الإيجابية في الإنسان.

- عرض تلك الحقائق بأسلوب مشرق عذب بذكر الأفكار متسلسلة آخذة برقاب بعضها ملبية لاستشراف نفس القارئ، مجيبة عن استفساراته المتوقعة، وذلك باتباع الأسلوب البياني الصحيح الذي يفهمه أهل عصره، متجنبًا الألفاظ الغريبة المهجورة وأساليب السجع المتكلفة.

ملحوظات:

١- على الباحث في التفسير الموضوعي أن يجعل عناوين الأبواب والفصول من المادة القرآنية والعناصر البارزة فيه.

أما السنة المشرفة فدورها في التفسير الموضوعي التوضيح والبيان والاستدلال وذلك حفاظًا على قرآنية الموضوع.

وكذلك أقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة اللغة، فكلها مادة للشرح والتوضيح والترجيح، ولا تشكل عناصر الموضوع الأساسية.

٢- على الباحث أن يلتزم بالمنهج الصحيح في التفسير، وذلك بإبعاد الروايات الضعيفة والإسرائيليات والقصص التاريخي عند عرض الموضوع القرآني وتركيز الجهد لاستنطاق النصوص الكريمة على قواعد اللغة والأساليب البيانية، ودقة الاستنباط منها.

٣- عند الحاجة إلى شرح كلمة غريبة أو توجيه، قراءة، أو إبراز نكتة بلاغية أثناء عرض أحد عناصر الموضوع، يجعل ذلك تعليقًا في الحاشية من غير استطراد يخل بتسلسل الأفكار وتعانق الفقرات وسلاسة الأسلوب وإشراقة البيان.

ثانيًا: منهج البحث في التفسير الموضوعي لسورة واحدة

لقد ألفت مؤلفات قديمًا وحديثًا في تفسير سورة واحدة، وربما خص بعض العلماء تأليفًا مستقلًا حول سورة واحدة، نظرًا لمكانة هذه السورة الخاصة أو لاهتمامه بغرض تعرضت له السورة.

ولتفسير السورة الواحدة تفسيرًا موضوعيًا لا بد من اتباع خطوات منهجية علمية ليؤتي العمل ثماره، وتكون الثمار المتوقعة مكافئة للجهد المبذول.

ونذكر فيما يلي هذه الخطوات بشكل موجز ثم نعود إلى تفصيل بعضها:

أولًا: التقديم للسورة بتمهيد يعرف فيه بأمور تتعلق بالسورة من ذكر سبب النزول أو المرحلة التي نزلت فيها السورة: مكية متقدمة أو متوسطة أو متأخرة، مدنية متقدمة أو متأخرة. وما ورد فيها من أحاديث صحيحة تحدد أسماءها، أو بعض خصائصها أو فضائلها.

ثانيًا: محاولة التعرف على الهدف الأساسي في السورة والمحور الذي تدور حوله ويكون ذلك من خلال دلالة الاسم، أو الموضوعات المطروحة في السورة أو أخذًا من المرحلة التي نزلت فيها.

ثالثًا: تقسيم السورة -وبخاصة الطويلة- إلى مقاطع أو فقرات تتحدث آياتها عن عنصر من عناصر الهدف أو مجال من مجالات المحور، واستنباط الهدايات القرآنية منها وذكر المناسبات بينها.

رابعًا: ربط هذه المقاطع وما يستنبط من هدايات من كل منها بالهدف الأساسي للسورة بقصد إظهار هذا الهدف وكأنها جداول صغيرة تمد المجرى الأساسي للنهر، أو الشطآن الملتفة حول جذع الدوحة، تقوي أصلها وتدعم ساقها وتآزر متنها لتستوي على سوقها وتعجب الناظرين فيها.

ثالثا: التفسير الموضوعي لسورة قرآنية

تحديد محور السورة

التفسير الموضوعي لسورة قرآنية:

تحديد محور السورة

قبل البدء في تفسير السورة لا بد من دراسة أولية حول السورة تحت عنوان: بين يدي السورة أو على هامش السورة تتناول:

أ- معرفة سبب نزولها أو أسباب نزول مقاطعها. فربما نزلت السورة جملة واحدة ويكون لها سبب نزول واحد، وربما نزلت السورة متفرقة لمناسبات متعددة، وعند التمعن تجد أن عمومات السورة أو المحور الذي تدور حول السورة يربط هذه المقاطع أو الآيات بنظام معين، فمعرفة أسباب النزول تعين على التعرف على هذا النظام الذي يجمع عقد السورة أو المحور الذي تدور السورة حوله.

ب- التعرف على الهدف الأساسي للسورة أو المحور الذي تدور السورة حوله:

١- يمكن معرفة ذلك من خلال التعرف على دلالة اسم السورة أو أسمائها التي ثبتت عن طريق الوحي، أي بالتوقيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

يقول البقاعي في نظم الدرر:

"قال شيخنا الإمام المحقق أو الفضل محمد البجائي المالكي ..."

الأمر الكلي المقيد لعرفان مناسبات الآيات في جميع القرآن هو أنك تنظر الغرض الذي سيقت له السورة، وتنظر ما يحتاج إليه ذلك الغرض من المقدمات، وتنظر إلى مراتب تلك المقدمات في القرب والبعد من المطلوب، وتنظر عند انجرار الكلام في المقدمات إلى ما يستتبعه من استشراق نفس السامع إلى الأحكام واللوازم التابعة له، التي تقتضي البلاغة شفاء العليل بدفع عناء الاستشراف إلى الوقوف عليها، فهذا هو الأمر الكلي المهيمن على حكم الربط بين جميع أجزاء

القرآن، وإذا فعلته تبين لك إن شاء الله وجه النظم مفصلًا بين كل آية وآية في كل سورة. والله الهادي.

وقد ظهر لي باستعمالي لهذه القاعدة بعد وصولي إلى سورة سبأ في السنة العاشرة من ابتدائي في عمل هذا الكتاب أن اسم كل سورة مترجم عن مقصودها لأن اسم كل شيء تُظهر المناسبة بينه وبين مسماه عنوانه الدال إجمالًا على تفصيل ما فيه١. وذلك هو الذي أنبأ به آدم عليه الصلاة والسلام عند العرض على الملائكة عليهم الصلاة والسلام ومقصود على سورة هادٍ إلى تناسبها، فأذكر المقصود من كل سورة، وأطبق بينه وبين اسمها "٢."

٢- ويمكن التعرف على هدف السورة أو محورها من خلال استعراض الأحداث البارة أو القضايا الأساسية التي تناولتها السورة.

فلو أمعنا النظر في القضايا البارزة في السورة لوجدنا أن بينها رابطًا يربطها، وقد يدق هذا الرابط فلا يدرك إلا بعد دراسة السورة دراسة عميقة ومعايشة أجوائها وتفيؤ ظلالها.

٣- كما يمكن التعرف على هدف السورة أو أهدافها من خلال المرحلة الزمينة التي نزلت فيه السورة، فمن المعلوم أن السور المكية أكدت على تقدير أربعة أمور: الإيمان بالله وحده، الإيمان بالبعث بعد الموت، الإيمان بالرسالات السماوية، الدعوة إلى أمهات الأخلاق. فإذا كانت السورة مكية فلا يخلو الأمر من

١ اختار الشيخ عبد الحميد طهماز عنوان "العواصم من الفتن ... في سورة الكهف" .

وذكر في مقدمة كتابه أن الدافع لا لاختيار هذا العنوان شيئان: اسم السورة فالقضايا التي عرضت في السورة إذا اعتنقها الإنسان كان كالملاذ له والملجأ من الفتن والضلال فقد أوى إلى كهف يقيه من شرورها.

والأمر الثاني حول اختيار هذا العنوان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرأ عشر آيات من أول سورة الكهف كانت له عصمة من الدجال. فكأنه آوى إلى كهف أو ملاذ أو ملجأ بقية فتنة الدجال. وهذا استنباط لطيف من الشيخ جزاه الله خيرًا.

٢ نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي: ١/ ١٧-١٩.

أن يكون من أهدافها الأساسية هذه الأسس الأربعة مجتمعة أو متفرقة. والسور المدنية بالإضافة إلى تقرير ما سبق استهدفت بناء المجتمع الإسلامي على أسس من الإيمان والطاعة والتشريعات التفضيلية في شئون الحياة كما استهدفت حماية المجتمع الإسلامي من الأخطار الداخلية والخارجية، بكشف خطط المتآمرين الحاقدين الساعين في الأرض بالفساد من اليهود والمنافقين، فلا تخلو سورة مدنية من قضية البناء، أو الصيانة والحماية، فيمكن التعرف على الهدف الأساسي أيضًا من خلال التعرف على القضايا المعروضة في السورة، ومن خلال المرحلة الزمنية لتطور المجتمع الإسلامي أيضًا.

ولا يفوتنا هنا أن نذكر أن بعض السور يمكن أن نجد لها عدة محاور تدور حولها من غير تناقض ولا تعارض ولا تصادم. ويمكن تحديد كل محور والتعرف على دائرته من خلال زاوية الرصد التي نرصدها.

تمامًا كما نتعرف على مسارات وأفلاك لبعض الكواكب وقد تتداخل أحيانًا من غير وقوع تصادم بينها، ويمكن تحديد مساراتها حسب زاوية الرصد وحسب نقطة الارتكاز التي نحددها لمعرفة مسارات هذه الكواكب.

فسورة الكهف مثلًا يمكن تحديد عدة محاور أو أهداف لها. فمثلًا:

عندما ندرك أنها سورة مكية نزرت في مرحلة متقدمة من مراحل الدعوة إلى الله. فقد ورد في صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: في بني إسرائيل -أي الإسراء- والكهف ومريم: "إنهن من العتاق الأول وهن من تلادي" ١.

وكما قلنا: إن السورة المكية جاءت لترسيخ أسس أربعة فيمكن رصد آيات السورة ومقاطعها من زاوية أي أساس من هذه الأسس.

فلو أخذنا قضية الدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، ونظرنا إلى افتتاحية السورة وإلى قصصها الأربع وإلى خاتمتها لوجدنا أن قضية التوحيد لافتة للنظر فيها

١ صحيح البخاري، كتاب التفسير: ٥/ ٢٢٣.

ولا يخلو مقطع من هذه المقاطع من الدعوة الصريحة إلى توجيه العبادة لله سبحانه وتعالى والإخلاص له في القول والعمل وترك عبادة الطواغيت والآلهة المزعومة والشركاء.

ولو حددنا وجهة نظرنا في البحث عن الدعوة إلى الإيمان باليوم الآخر من خلال افتتاحية سورة الكهف وقصصها الأربع وخاتمتها، لوجدناها من أبرز القضايا في كل المقاطع بحيث لا نحتاج إلا لاستعراض سريع لآيات، والأدلة أكثر من أن تساق للاستشهاد بها.

ولو أمعنا النظر في الآيات باحثين عن قضية إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم من خلال آيات السورة لوجدناها محورًا أساسًا في ذلك يعيننا في تحديد معالم ذلك سبب النزول والافتتاحية والخاتمة بشكل قوي لافت للنظر، ولوجدنا أن هناك روابط قوية تشد القصص الأربع إلى هذا المحور شدًا لا يمكن الفكاك منه.

ولو أردنا أن نلقي أضواءً على أمهات الأخلاق التي استهدفت الكهف ترسيخها والقيم الثابتة التي دعت إليها بالدعوة الصريحة لها أحيانًا والتمثيل الرائع بضرب الأمثال للقيم الحقيقية وضرب الأمثال للقيم الزائفة الخادعة التي تموه الباطل على الناس وتظهره على غير حقيقته أحيانًا أخرى وبالترغيب في التمسك بالحقائق والقيم الخلقية الرفيعة، والترهيب من القيم الزائفة الداجلة أحيانًا، لأدركنا أن هذا الهدف الذي ترمي إليه السورة لا يقل أهمية عن الأهداف الثلاثة الأولى.

وهكذا فحينما تحدد زاوية الرصد للآيات الكريمة ومقاطع السورة -بشرط أن تكون رؤيتنا صحيحة، وإحاطتنا بقضايا السورة العامة وأسباب نزولها دقيقة- نجد أن لكل سورة شخصيتها المستقلة وهدفها أو أهدافها المحددة التي ترمي إليها، وأسلوبها الخاص بها، واختيار طريقة العرض للقضايا، وسوق القصص اختصارًا أو إسهابًا أو إشارات مقتضبة، كل ذلك لتكمل شخصية السورة وأجواؤها لإبراز الهدف الأساسي أو القضايا الرئيسية التي تناولتها السورة.

٤- المناسبات بين مقاطع السورة ودورها في التعرف على هدف السورة أو محورها:

عند تقسيم السورة إلى مقاطع أو فقرات حسب ارتباط الآيات بعنصر من عناصر الموضوع لا بد من الرجوع إلى كتب التفسير الموثوقة للاطلاع على الروايات الصحيحة من السنة النبوية وأقوال الصحابة والتابعين في تفسير الآيات، والرجوع إلى الكتب التي تناولت المناسبات بين الآيات في السورة الواحدة مثل تفسير مفاتيح الغيب للفخر الرازي، ونظم الدرر في تناسب الآيات والسور لبرهان الدين البقاعي، وفي ظلال القرآن لسيد قطب.

وذلك للإحاطة بمعاني الآيات ومحاولة التعرف على المناسبات بين هذه المقاطع فقد تكون المناسبة جلية واضحة بينها، وقد تدق فلا تظهر، وقد تكون المناسبات بينها وبين محور السورة ظاهرة جلية وقد تكون دقيقة خافية وكثيرًا ما يكون التعرف على المناسبات بين المقاطع طريقًا لمعرفة الهدف الأساسي من السورة أو المحور الذي تدور حوله السورة. وقد يكون النظر في فاتحة السورة وخاتمتها وإبراز القضايا المشتركة بينهما دليلًا على الهدف الأساسي في السورة فكثير من السور القرآنية يرد فيها العجز على المصدر لترسيخ مفاهيم معينة أو التذكير بقضية جاءت السورة لبيانها١.

وبعد التعرف على هدف السور الأساسي وتحديد المحور الذي تدور حوله تتبلور المناسبات بين المقاطع جميعها وبين المقاطع والمحور وبين الفاتحة والخاتمة، ويدرك الباحث وجه الاستطرادات التي وردت في السورة وتظهر له من الحكم والأسرار القرآنية على حسب ما أوتي من ملكة في الاستيعاب والغوص في المعاني.

١ يقول الدكتور محمد عبد الله دراز:

ولقد وضح لنا بما أثار دهشتنا أن هناك تخطيطًا حقيقيًا واضحًا ومحددًا، يتكون من ديباجة وموضوع وخاتمة فتوضح الآيات الافتتاحية الأولى من السورة الموضوع الذي ستعاجله في خطوطها الرئيسية ثم يتبع ذلك التدرج في عرض الموضوع، بنظام لا يتداخل فيه جزء مع جزء آخر، وإنما يحتل كل جزء المكان المناسب له في جملة السورة، وأخيرًا تأتي الخاتمة التي تقابل الديباجة.

انظر: كتاب مدخل إلى القرآن الكريم: ١١٩.

إن آثار إدراك المناسبات بين المقاطع والأجزاء في السورة على التعرف على هدف السورة كبيرة. وبالمقابل فإن ظهور الهدف في السورة يعين كثيرًا على التعرف على المناسبات بين مقاطعها وفقراتها فالأضواء منعكسة على بعضها من الجهتين تنير السبيل أمام الباحث للسير بخطى ثابتة راسخة في بحثه، فلا يهمل هذا الجانب في التفسير الموضوعي للسورة.

الهدف في السورة القصيرة والسورة الطويلة

تتناول السورة القصيرة في الغالب قضية واحدة فيكون لها هدف واحد أو محور واحد تدور عليه. فمثلًا سورة "الإخلاص" تدور حول هدف واحد هو تقدير الوحدانية لله سبحانه وتعالى، وسورة "الكافرون" تدور حول المفاصلة عن الكافرين، وسورة "الزلزلة" و "القارعة" تدوران حول أحداث يوم القيامة والحساب فيه.

وهناك من السور القصيرة ما تتعدد أهدافها أو أغراضها ولكنها لا تخرج في الغلب عن هدفين أو ثلاثة.

فمثلًا: سورة "الطارق" تذكر هدفين هما التذكير بقدرة الخالق على الخلق والإبداع، وتقرير أن الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة حق من الخالق.

وسورة "الغاشية" تتناول أحوال الكافرين والمؤمنين يوم القيامة، وتذكر الاستدلال على القدرة والحكمة من خلال تدبر هيئات المخلوقات.

وسورة "النازعات" تتناول ذكر جنود الله من الملائكة المكلفين بالكون والمخلوقات، لتدفعها جميعًا إلى يوم الحساب. ومن باب إبراز فضل الشيء وقوته بذكر ضده تعرض السورة بإشارات سريعة أحوال فرعون وطغيانه وحشره لجنوده ليبين ضعفهم بالمقارنة بجند الله وسهولة أخذهم {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} ، ثم التعليق والتعقيب على ذلك ببيان ضعف الإنسان قياسًا إلى خلق السماوات والأرض وبيان مصير المكذبين والمصدقين.

فنستطيع أن نقول: إن السورة تتناول ثلاثة جوانب أساسية:

- قوة الله وقوة جنده.

- ضعف البشر وجنودهم من خلال النموذج الفرعوني.

- التعقيب والتقرير لمبدأ المعاد والحساب.

وسورة "ن" محورها الأساسي الدفاع عن شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحذر الكافرين المغترين من التقول عليه وإلصاق التهم الباطلة به.

وهكذا سائر سور القرآن الكريم مهما طالت فإنها تدور حول أهداف معينة، فسورة البقرة على طول آياتها وكثرة فقراتها. ذكر بعضهم أنها تتكون من مقدمة وغرضين أساسيين وخاتمة.

فالمقدمة في الحديث عن موقف الناس تجاه القرآن الكريم: فمؤمن، وكافر، ومنافق.

ثم الموضوع الأول: هو بيان قدرة الخالق ووحدانيته وحكمته من خلال أصل الخلق والتكوين وأن الناس تنكروا لهذا الأمر المرة تلو المرة وقدم النموذج الإنساني الذي كلف بالأمانة والقوامة على دعوة الله وتوحيده وتطبيق شرائعه، فلم يستقم على ذلك وهم بنو إسرائيل. وبعد الحديث عن نعم الله على بني إسرائيل وإرسال الرسل إليهم وبيان مواقفهم ومراوغتهم للتخلص من أحكام الله وإيثار الشهوات والشبهات على الاستقامة على منهج الله.

ثم يأتي ذكر الموضوع الثاني: وهو أنه لا بد لدين الله من أمة تقوم عليه وتطبقه ولا بد أن تكون هذه الأمة قادرة على التغلب على أهوائها، وأن تكون على جانب كبير من العلم والمعرفة الربانية وأن تكون لها شخصيتها وأصالتها. فكانت الأمة التي أُسندت إليها المسئولية بعد بني إسرائيل هذه الأمة الإسلامية أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وزودت هذه الأمة بكل مقومات القيادة والسيادة من العلوم والتشريعات لتقوم بدور القوامة التي عجزت عنه بنو إسرائيل.

ثم تأتي الخاتمة بالشهادة لهذه الأمة أنها آمنت وصدقت ولجأت إلى ربها وتضرعت إليه واستعانت به للقيام بالمهام العظام التي أنيطت بها من خلال الالتجاء.

إلى ربها وبارئها والمنعم عليها {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} .

{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: ٢٨٥، ٢٨٦] .

بعد الحديث عن هدف السورة أو محورها إجمالًا وقبل الدخول في تقسيم السورة إلى مقاطع أو فقرات والحديث التفصيلي عنها، لا بد من العودة إلى الحديث عن هدف السورة أو محورها مرة أخرى بعد الانتهاء من الحديث التفصيلي عن المقاطع أو الفقرات، وذلك لربط هذه المقاطع والفقرات بالهدف الأساسي أو المحور الذي تدور حوله السورة.

والبحث الأول في الهدف أو المحور بحث استدلالي لإثبات هذا الهدف أو المحور من خلال مقدمات السورة ووقت نزولها وسبب النزول واستعراض أبرز القضايا فيها، أما البحث الأخير في الهدف أو المحور فهو تقرير نتائج، واستنباط وجوه للمناسبات بين هذه المقاطع وبين المحور الأساسي، فلا بد من أن يكون الهدف أو المحور واضحًا محددًا مسلمًا به ليأتي بعد ذلك دور الربط والتعليق وذكر دقائق النظم المعجز والحكم والأسرار المودعة حسب طاقة الباحث وشفافية نظرته التي يقول عنها علي بن أبي طالب عن ابن عباس كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق١ وذلك لدقة استنباطات ابن عباس من آي الذكر الحكيم.

إن الباحث في هذا اللون من التفسير لا بد له من ملكة تجعله يرى في الآيات القرآنية ومن خلال نظمها والروابط بينها جوانب خلف الدلالات اللغوية للألفاظ والكلمات القرآنية، فإذا استعملت هذه الملكة وفق منهج محدد في البحث والاستقراء والاستنباط كان الاطلاع على جوانب من عجائب القرآن وغرائبه التي لا تنقضي على مر العصور.

١ التفسير والمفسرون: ١/ ٦٧.

الإطناب والإيجاز في قضايا عرضتها السورة

قد يجد الباحث عند تفسيره لسورة ما تفسيرًا موضوعيًا تناول السورة لقضية من القضايا القرآنية بإيجاز أو بإسهاب، وقد تتكرر هذه القضية في سورة أخرى أكثر إطنابًا أو أكثر إيجازًا، فما موقف الباحث من هذه القضية؟

هل يجعلها مدخلًا للتوسع في هذه القضية فيَلُم شتاتها من خلال السورة الأخرى ويجمعها في هذا الموضوع، أو يشير إشارة سريعة إلى القضية ولا يتناولها بالبحث لأنه يفسر سورة معينة ولا يفسر موضوعًا من خلال القرآن؟

أرى في مثل هذه المواطن أن محور البحث في السورة أو الهدف الأساسي في السورة هو الذي يحدد طبيعة البحث في مثل هذه القضايا.

إن تكرار الموضوعات والقصص في القرآن الكريم وفي سور متعددة لحكم وأسرار قد لا نحيط بها، ولكن من الواضح من هذه الحكم وعلى رأسها أن أسلوب العرض في كل مكان يتناسب مع أجواء السورة وأهدافها فإن كان محور السورة يدور حول قضية لإثباتها فلا بأس أن نتعرض عند ذكر القضية لتفصيلاتها التي ذكرت في سور أخرى، ولكن إذا كانت القضية ذكرت بشكل عرضي وجزئي للاستدلال بها على هدف السورة الأساسي وهو غير هذه القضية فلا يناسب المقام أن نتعرض لجزئياتها في سور أخرى.

فمثلًا سورة "نوح" عليه السلام هدفها الأساسي إبراز جانب دعوة نوح عليه السلام وموقف قومه من الدعوة.

فليس من المناسب عند عرضنا لهذا الموضوع من خلال سورة نوح أن

نتعرض بشكل مفصل للحوار الذي جرى بين نوح وابنه، وماذا حدث من أمور كونية في إهلاك القوم كما عرضتها سورة "هود" وسورة "المؤمنون" وغيرهما، ولكن من المناسب جدًا أن نذكر ما يتعلق بالحوار والأساليب الجدلية التي اتبعها القوم كما ذكرتها السور نفسها.

إن لكل سورة هدفها وشخصيتها وأسلوبها في عرض القضايا فينبغي عدم طمس هذه المعالم للسورة بحشر تفصيلات تاريخية أو قصصية أو بلاغية فيها على حساب الهدف الأساسي.

ومثل آخر من سورة "البروج" فالمحور الذي تدور عليه السورة: الصراع بين أهل الإيمان وأصحاب السلطة الطواغيت، وبيان أن النهاية لأهل الإيمان.

وقد جاء ذكر فرعون وثمود في السياق للاستدلال بمصيرهم على أن الغلبة لجند الله سبحانه وتعالى مهما تجبر الطغاة العتاة فإنهم لن يعجزوا الله عز وجل، وأن المؤمنين هم المنصورون وأن دعوتهم هي الفائزة ولو ذهبت أنفس الدعاة قرابين لنصرتها.

فينبغي أن يدور التفسير في هذا الإطار، فلا يتناسب مع هذا الهدف أن نسرد التفصيلات في أمر فرعون وما جرى بينه وبين موسى عليه السلام وكيف تبع بني إسرائيل ثم كان مصيره الغرق.

ولا يستدعي الأمر بيان ديار ثمود وأصل انحرافهم وما جرى بينهم وبين نبيهم صالح عليه السلام ولا الآية التي طلبوها ثم انقلبوا على أعقابهم فأخذتهم الصيحة.

إن أجواء السورة لا تحتمل هذه التفصيلات، فينبغي الدوران مع المحور حوف الهدف الأساسي للسورة وعدم الخروج عن خاصيات السورة وملامحها وشخصيتها.

صلة التفسير الموضوعي بالأنواع الأخرى من التفسير

لا يمكن الفصل بين أنواع التفسير فصلًا رياضيًا بحيث تنقطع وشائج القربى بينها ويكون لكل نوع مجاله وأسلوبه ونتائجه.

وذلك لأن مجال البحث واحد وهو كلام الله سبحانه وتعالى، والغاية التي يهدف إليها المفسر واحدة أيضًا وهي الكشف عن مراد الله سبحانه وتعالى من الآيات على قدر الطاقة البشرية، إلا أن مناهج المفسرين للوصول إلى الغاية هي التي تختلف بعض الشيء.

وحتى هذا الاختلاف في المنهح ليس اختلاف تباين وانفصال وتضاد بل هو اختلاف تنوع وتعاضد وترادف.

وبعض أنواع التفسير تعتبر أساسًا للانطلاق منه إلى غيره فلا يستغني عنه المفسر الباحث في أي نوع من أنواع التفسير.

فالتفسير التحليلي لا يستغني عنه الباحث في التفسير الإجمالي أو الموضوعي أو المقارن، وذلك لأن التفسير التحليلي ينصب على معرفة دلالة الكلمة اللغوية ودلالتها الشرعية، والتعرف على الرابط بين الكلمات في الجملة وبين الجمل في الآية وبين الآيات في السورة. وكذلك التعرف على القراءات وأثرها على دلالة الآية، ووجوه الإعراب ودورها في الأساليب البيانية وإعجاز القرآن الكريم. وغيرها من الوجوه التي تساعد على إخلاء المعنى وتوضيح المراد.

فالذي يريد تفسير الآيات تفسيرًا إجماليًا لا يستطيع أن يعبر عن موضوع الآيات التي يريد التعبير عنها بأسلوبه الخاص لتقريب المعاني وإبراز جوانب الهداية منها ما لم يلم بتفصيلات ما تقدم من أمور التفسير التحليلي لاستجلاء المعنى المراد ثم صياغته بأسلوب يتناسب مع المدارك الثقافية للمخاطبين.

وكذلك بالنسبة لمن يتناول الآيات وتفسيرها بأسلوب التفسير المقارن فالحكم على الشيء فرع عن تصوره، لا بد أن يحيط بأقوال المفسرين الذين كتبوا في تفسير الآيات ليدرك المفسر الذي لم يخرج عن روح النص والغرض الأساسي من الآيات الكريمة، عن المفسر الذي تعسف في تأويل هذه الآيات وحملها ما لم تحتمل، أو لم يدرك المرمى اللغوي للكلمة القرآنية فانحرف بها عن دلالتها وأولها غير تأويلها الصحيح، فأبعد في التأويل ووقع في محاذير. ولكي يحكم على صواب منهج المفسر أو خطئه، وإجادته في تفسيره أو تخبطه فيه لا بد أن يكون على دراية وافية بمعاني الآيات الكريمة فلا بد له من الرجوع إلى التفسير التحليلي، وقد يستخدم للتعبير عن حكمه على التفاسير التي يقارن بينها أسلوب التفسير الإجمالي للآيات.

أما الباحث في التفسير الموضوعي فاعتماده على جمع الأنواع المتقدمة من التفسير أمر أساسي في كتابته ومنهجه ولا غنى له عن أحد الأنواع.

إذ يعتبر هذا اللون من التفسير ثمرة الأنواع كلها، ويعتبر التفسير الموضوعي مرحلة تخصصية متأخرة عن مراحل الأنواع السابقة ولذلك:

أ- عندما يجمع المفسر الآيات المتعلقة بموضوع من الموضوعات، لا بد من الرجوع إلى دلالات الكلمات التي تعبر عن هذا الموضوع بشكل صريح أو تشير إليه إشارة أو يكون الموضوع من لوازم هذه اللفظة أو العبارة، أو نتيجة من نتائج استخدام هذه العبارة.

وكثيرًا ما تستخدم الجملة أو الآية الواحدة في موضوعين مختلفين ويكون لها دلالة مختلفة حسب الموضوع وحسب السياق والسياق عن دلالة الموضع الآخر.

فلكي يدرك الباحث في هذا اللون من التفسير -أعني التفسير الموضوعي- لا بد أن يكون مدركًا إدراكًا تامًا لأقوال المفسرين الذين كتبوا في تحليل هذه الآيات.

ب- وكثيرًا ما تتباين أقوال المفسرين الذين كتبوا في تحليل النص القرآني بحيث لا يمكن الجمع بينها، والآيات القرآنية حمالة للوجوه المتعددة فلا بد للمفسر الذي يكتب في موضوع ما، ووجد هذه الأقوال في تفسير آية تتعلق بموضوعه، لا بد من وقفة متأنية دقيقة، ونظرات ثاقبة للترجيح بين هذه الأقوال ومعرفة

المصيب منها وغير المصيب، وليختار القول المناسب لموضوعه من هذه الأقوال بغية توضيح عناصر الموضوع والربط بين الأساليب القرآنية في أداء المعنى، وبالتالي للوصول إلى الهدايات القرآنية المتعلقة بالموضوع مجال البحث.

وهذا هو التفسير المقارن.

جـ- ولما كان الموضوع الذي يتناوله الباحث في التفسير الموضوعي حسب أحد منهجين لا ثالث لهما:

- تناول موضوع من خلال القرآن الكريم كله.

فعندئذ لا بد له من تقسيم الموضوع إلى عناصر حسب تناول الآيات الكريمة لها، وللتعبير عن العنصر الذي استنبطه من خلال الآيات، ولا مناص من اللجوء إلى التفسير الإجمالي ليقرر هذا العنصر ويوضحه ويشرحه ويسوق له الأدلة.

- أو تناول الموضوع من خلال سورة قرآنية معينة.

وعندئذ لا بد له من تقسيم السورة إلى مقاطع حسب ترتيب الآيات في السورة أو حسب تسلسل عناصر الموضوع أو الهدف الأساسي في السورة أو المحور الذي تدور عليه السورة.

وللتعبير عن مضامين هذه المقاطع وتوضيح الهدايات القرآنية منها ثم ربطها بالهدف الأساسي للسورة وضمن الإطار الذي تعرض السورة فيه هذا الهدف أو الأهداف.

لا بد للباحث من اللجوء أيضًا إلى التفسير الإجمالي في طريقة عرضه لهذه الأهداف وربط المقاطع كلها بمحور السورة لإبراز الهدف الأساسي فيها.

إذن نستنتج من كل ما تقدم أن أنواع التفسير متداخلة متساندة، لا يستغني المفسر لنوع منها عن الأنواع الأخرى.

وبخاصة الباحث في التفسير الموضوعي لا بد أن يكون على مستوى رفيع من الإحاطة بأنواع التفسير الأخرى؛ لأن الأنواع الأخرى من التفسير هي اللبنات الأولى والمادة الأولية التي يريد إقامة بنيان تفسيره الموضوعي عليها.
 

عن الكاتب

Tanya Ustadz

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية