الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

مناهج البحث في التفسير الموضوعي

مناهج البحث في التفسير الموضوعي

 الكتاب مباحث في التفسير الموضوعي
المؤلف مصطفى مسلم
الناشر دار القلم
الطبعة الرابعة 1426هـ - 2005م
عدد الأجزاء 1
الموضوع: علوم القرأن، علوم التفسير  

 

 فهرس الموضوعات

  1. مناهج البحث في التفسير الموضوعي
    1. أولا: منهج البحث في موضوع من خلال القرآن الكريم
    2. ثانيا: منهج البحث في التفسير الموضوعي لسورة واحدة
    3. ثالثا: التفسير الموضوعي لسورة قرآنية
      1. تحديد محور السورة
      2. الهدف في السورة القصيرة والسورة الطويلة
      3. الإطناب والإيجاز في قضايا عرضتها السورة
      4. صلة التفسير الموضوعي بالأنواع الأخرى من التفسير
  2. علم المناسبات والتفسير الموضوعي
    1. مدخل
    2. أولا: تعريف علم المناسبات
    3. ثانيا: أهمية علم المناسبات وأقوال العلماء فيه
    4. مدخل
    5. القسم الأول: المناسبات في السورة الواحدة
      1. مدخل
      2. أنواع المناسبات في السورة الواحدة
    6. القسم الثاني: المناسبات بين السور
      1. مدخل
      2. أنواع المناسبات بين كل سورتين متجاورتين
  3. مثال تطبيقي على موضوع من خلال القرآن الكريم" الألوهية من خلال آيات القرآن الكريم"
    1. مقدمات بين يدي الموضوع
      1. أولا: الألوهية والفطرة
      2. ثانيا: اهتمام القرآن الكريم بالتوحيد أكثر من الاهتمام بإثبات وجود الخالق
      3. ثالثا: منهج القرآن في إثبات التوحيد منهج فطري
      4. رابعا: ربط قضايا العقيدة بمصالح العباد في حياتهم المعاشية
      5. خامسا: مجالات الاستدلال على قضية الألوهية
    2. أبرز أنواع الأدلة على توحيد الله جل جلاله في القرآن الكريم
      1. مدخل
      2. أولا: أدلة الخلق والإبداع
      3. ثانيا: أدلة العناية
      4. ثالثا: أدلة الفطرة
      5. رابعا: البراهين العقلية
      6. خامسا: أدلة التوحيد من خلال إثبات صفات الكمال لله سبحانه وتعالى وتنزيهه عن صفات النقص
    3. الخاتمة
  4. مثال تطبيقي في تفسير سورة تفسيرا موضوعيا: "القيم في ضوء سورة الكهف"
    1. تمهيد
    2. بين يدي سورة الكهف
      1. اسمها وعدد آياتها
      2. خصائص سورة الكهف
    3. وقت نزولها وسببه
    4. أهداف سورة الكهف
    5. المناسبات في سورة الكهف
      1. أولا: المناسبة بين اسم السورة وموضوعاتها
      2. ثانيا: المناسبة بين افتتاحية السورة وخاتمتها
      3. ثالثا: المناسبة بين مقاطع السورة وهدفها
    6. افتتاحية سورة الكهف
      1. الموضوعات الأساسية في الافتتاحية
  5. العودة إلي كتاب مباحث في التفسير الموضوعي

 مناهج البحث في التفسير الموضوعي

أولًا: منهج البحث في موضوع من خلال القرآن الكريم:

إذا أراد الباحث أن يطرق موضوعًا من موضوعات القرآن الكريم، لا بد أن يكون تصورًا لأبعاد الموضع، وأن يتدرج في جميع المادة العلمية حوله حسب الخطوات التالية:

١- اختيار عنوان للموضوع القرآني مجال البحث، بعد تحديد معالم حدوده ومعرفة أبعاده في الآيات القرآنية.

٢- جمع الآيات القرآنية التي تبحث هذا الموضوع، أو تشير إلى جانب من جوانبه.

٣- ترتيب هذه الآيات حسب زمن النزول، وذلك لأن ما أُنزل بمكة كان في الأعم الأغلب يتعلق بأسس عامة غير محددة الجوانب كالأمر بالإنفاق أو الزكاة أو الإحسان بينما حددت معالم هذه التشريعات في المرحلة المدنية.

٤- دراسة تفسير هذه الآيات دراسة وافية بالرجوع إلى كتب التفسير التحليلي والتعرف على أسباب نزولها إن وجدت، وإلى دلالات الألفاظ واستعمالاتها، والروابط بين الألفاظ في الجملة وبين الجمل في الآية وبين الآيات في المجموعة التي تتحدث عن الموضوع.

٥- بعد الإحاطة بمعاني الآيات مجتمعة يحاول الباحث أن يستنبط العناصر
الأساسية للموضوع من خلال التوجيهات القرآنية التي أحاط بها أو استنبطها من الآيات المتعلقة بالموضوع، وللباحث أن يقدم بعض العناصر الرئيسية على غيرها، إن وجد أن طبيعة البحث تقتضي ذلك أو أن تسلسل الأفكار المنطقي يلزم هذا التقديم أو التأخير.

٦- ثم يلجأ الباحث إلى طريقة التفسير الإجمالي في عرض الأفكار في بحثه ويحاول أن لا يقتصر على دلالة الألفاظ اللغوية وإنما يستشف الهدايات القرآنية من خلال النصوص، كما يستدل على ما أشارت إليه الآيات الكريمة بالأحاديث النبوية الشريفة ويدعم كل ذلك بفهم الصحابة رضوان الله عليهم لنصوص آي الذكر الحكيم.

ويوجه ويعلل ويشرح ويناقش في ضوء التوجيهات القرآنية، وإن وجد ما يوهم التناقض بين بعض الآيات التي تناولت الموضوع فلا بد من إزالة هذا الوهم، وإبراز الحكمة الإلهية في وجود مثل هذه النصوص.

٧- لا بد للباحث من الالتزام بمنهج البحث العلمي عندما يضع مخطط البحث للموضوع، وقد يفرض الموضوع طبيعة المنهج والخطة التي سيجري البحث من خلالها. فإن كان الموضوع متشعب المباحث والمجالات لا بد عندئذ من وضع تمهيد بين الباحث فيه منهجه في تناول الموضوع.

ثم يقسم الموضوع إلى أبواب ويضع تحت كل باب فصولًا وتحت كل فصل مباحث فيجعل العنصر الأساسي الجامع عنوانًا للباب ثم يجعل العنصر الفرعي عنوانًا للفصل، ثم يجعل الجزئيات الصغيرة عناوين للمباحث.

أما إذا كان الموضوع محدد المعالم والآفاق واضح المجالات قليل العناصر، فلا بأس من بحثه عندئذ على شكل مقاله علمية تتكون من مقدمة وصلب الموضوع وخاتمة، يتناول في كل ذلك القضية المطروحة بأسلوب علمي رصين موثق بالأدلة والشواهد، وبدون خلاصة ما توصل إليه في الخاتمة بشكل موجز.

٨- وليكن هدف الباحث في كل ذلك:

- إبراز حقائق القرآن الكريم، وعرضها بشكل لافت للنظر مع ذكر حكمة

التشريع وجماله ووفائه بحاجات البشر وملاءمته للفطرة السليمة وإطلاقه للطاقات الإيجابية في الإنسان.

- عرض تلك الحقائق بأسلوب مشرق عذب بذكر الأفكار متسلسلة آخذة برقاب بعضها ملبية لاستشراف نفس القارئ، مجيبة عن استفساراته المتوقعة، وذلك باتباع الأسلوب البياني الصحيح الذي يفهمه أهل عصره، متجنبًا الألفاظ الغريبة المهجورة وأساليب السجع المتكلفة.

ملحوظات:

١- على الباحث في التفسير الموضوعي أن يجعل عناوين الأبواب والفصول من المادة القرآنية والعناصر البارزة فيه.

أما السنة المشرفة فدورها في التفسير الموضوعي التوضيح والبيان والاستدلال وذلك حفاظًا على قرآنية الموضوع.

وكذلك أقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة اللغة، فكلها مادة للشرح والتوضيح والترجيح، ولا تشكل عناصر الموضوع الأساسية.

٢- على الباحث أن يلتزم بالمنهج الصحيح في التفسير، وذلك بإبعاد الروايات الضعيفة والإسرائيليات والقصص التاريخي عند عرض الموضوع القرآني وتركيز الجهد لاستنطاق النصوص الكريمة على قواعد اللغة والأساليب البيانية، ودقة الاستنباط منها.

٣- عند الحاجة إلى شرح كلمة غريبة أو توجيه، قراءة، أو إبراز نكتة بلاغية أثناء عرض أحد عناصر الموضوع، يجعل ذلك تعليقًا في الحاشية من غير استطراد يخل بتسلسل الأفكار وتعانق الفقرات وسلاسة الأسلوب وإشراقة البيان.

ثانيًا: منهج البحث في التفسير الموضوعي لسورة واحدة

لقد ألفت مؤلفات قديمًا وحديثًا في تفسير سورة واحدة، وربما خص بعض العلماء تأليفًا مستقلًا حول سورة واحدة، نظرًا لمكانة هذه السورة الخاصة أو لاهتمامه بغرض تعرضت له السورة.

ولتفسير السورة الواحدة تفسيرًا موضوعيًا لا بد من اتباع خطوات منهجية علمية ليؤتي العمل ثماره، وتكون الثمار المتوقعة مكافئة للجهد المبذول.

ونذكر فيما يلي هذه الخطوات بشكل موجز ثم نعود إلى تفصيل بعضها:

أولًا: التقديم للسورة بتمهيد يعرف فيه بأمور تتعلق بالسورة من ذكر سبب النزول أو المرحلة التي نزلت فيها السورة: مكية متقدمة أو متوسطة أو متأخرة، مدنية متقدمة أو متأخرة. وما ورد فيها من أحاديث صحيحة تحدد أسماءها، أو بعض خصائصها أو فضائلها.

ثانيًا: محاولة التعرف على الهدف الأساسي في السورة والمحور الذي تدور حوله ويكون ذلك من خلال دلالة الاسم، أو الموضوعات المطروحة في السورة أو أخذًا من المرحلة التي نزلت فيها.

ثالثًا: تقسيم السورة -وبخاصة الطويلة- إلى مقاطع أو فقرات تتحدث آياتها عن عنصر من عناصر الهدف أو مجال من مجالات المحور، واستنباط الهدايات القرآنية منها وذكر المناسبات بينها.

رابعًا: ربط هذه المقاطع وما يستنبط من هدايات من كل منها بالهدف الأساسي للسورة بقصد إظهار هذا الهدف وكأنها جداول صغيرة تمد المجرى الأساسي للنهر، أو الشطآن الملتفة حول جذع الدوحة، تقوي أصلها وتدعم ساقها وتآزر متنها لتستوي على سوقها وتعجب الناظرين فيها.

ثالثا: التفسير الموضوعي لسورة قرآنية

تحديد محور السورة

التفسير الموضوعي لسورة قرآنية:

تحديد محور السورة

قبل البدء في تفسير السورة لا بد من دراسة أولية حول السورة تحت عنوان: بين يدي السورة أو على هامش السورة تتناول:

أ- معرفة سبب نزولها أو أسباب نزول مقاطعها. فربما نزلت السورة جملة واحدة ويكون لها سبب نزول واحد، وربما نزلت السورة متفرقة لمناسبات متعددة، وعند التمعن تجد أن عمومات السورة أو المحور الذي تدور حول السورة يربط هذه المقاطع أو الآيات بنظام معين، فمعرفة أسباب النزول تعين على التعرف على هذا النظام الذي يجمع عقد السورة أو المحور الذي تدور السورة حوله.

ب- التعرف على الهدف الأساسي للسورة أو المحور الذي تدور السورة حوله:

١- يمكن معرفة ذلك من خلال التعرف على دلالة اسم السورة أو أسمائها التي ثبتت عن طريق الوحي، أي بالتوقيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

يقول البقاعي في نظم الدرر:

"قال شيخنا الإمام المحقق أو الفضل محمد البجائي المالكي ..."

الأمر الكلي المقيد لعرفان مناسبات الآيات في جميع القرآن هو أنك تنظر الغرض الذي سيقت له السورة، وتنظر ما يحتاج إليه ذلك الغرض من المقدمات، وتنظر إلى مراتب تلك المقدمات في القرب والبعد من المطلوب، وتنظر عند انجرار الكلام في المقدمات إلى ما يستتبعه من استشراق نفس السامع إلى الأحكام واللوازم التابعة له، التي تقتضي البلاغة شفاء العليل بدفع عناء الاستشراف إلى الوقوف عليها، فهذا هو الأمر الكلي المهيمن على حكم الربط بين جميع أجزاء

القرآن، وإذا فعلته تبين لك إن شاء الله وجه النظم مفصلًا بين كل آية وآية في كل سورة. والله الهادي.

وقد ظهر لي باستعمالي لهذه القاعدة بعد وصولي إلى سورة سبأ في السنة العاشرة من ابتدائي في عمل هذا الكتاب أن اسم كل سورة مترجم عن مقصودها لأن اسم كل شيء تُظهر المناسبة بينه وبين مسماه عنوانه الدال إجمالًا على تفصيل ما فيه١. وذلك هو الذي أنبأ به آدم عليه الصلاة والسلام عند العرض على الملائكة عليهم الصلاة والسلام ومقصود على سورة هادٍ إلى تناسبها، فأذكر المقصود من كل سورة، وأطبق بينه وبين اسمها "٢."

٢- ويمكن التعرف على هدف السورة أو محورها من خلال استعراض الأحداث البارة أو القضايا الأساسية التي تناولتها السورة.

فلو أمعنا النظر في القضايا البارزة في السورة لوجدنا أن بينها رابطًا يربطها، وقد يدق هذا الرابط فلا يدرك إلا بعد دراسة السورة دراسة عميقة ومعايشة أجوائها وتفيؤ ظلالها.

٣- كما يمكن التعرف على هدف السورة أو أهدافها من خلال المرحلة الزمينة التي نزلت فيه السورة، فمن المعلوم أن السور المكية أكدت على تقدير أربعة أمور: الإيمان بالله وحده، الإيمان بالبعث بعد الموت، الإيمان بالرسالات السماوية، الدعوة إلى أمهات الأخلاق. فإذا كانت السورة مكية فلا يخلو الأمر من

١ اختار الشيخ عبد الحميد طهماز عنوان "العواصم من الفتن ... في سورة الكهف" .

وذكر في مقدمة كتابه أن الدافع لا لاختيار هذا العنوان شيئان: اسم السورة فالقضايا التي عرضت في السورة إذا اعتنقها الإنسان كان كالملاذ له والملجأ من الفتن والضلال فقد أوى إلى كهف يقيه من شرورها.

والأمر الثاني حول اختيار هذا العنوان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرأ عشر آيات من أول سورة الكهف كانت له عصمة من الدجال. فكأنه آوى إلى كهف أو ملاذ أو ملجأ بقية فتنة الدجال. وهذا استنباط لطيف من الشيخ جزاه الله خيرًا.

٢ نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي: ١/ ١٧-١٩.

أن يكون من أهدافها الأساسية هذه الأسس الأربعة مجتمعة أو متفرقة. والسور المدنية بالإضافة إلى تقرير ما سبق استهدفت بناء المجتمع الإسلامي على أسس من الإيمان والطاعة والتشريعات التفضيلية في شئون الحياة كما استهدفت حماية المجتمع الإسلامي من الأخطار الداخلية والخارجية، بكشف خطط المتآمرين الحاقدين الساعين في الأرض بالفساد من اليهود والمنافقين، فلا تخلو سورة مدنية من قضية البناء، أو الصيانة والحماية، فيمكن التعرف على الهدف الأساسي أيضًا من خلال التعرف على القضايا المعروضة في السورة، ومن خلال المرحلة الزمنية لتطور المجتمع الإسلامي أيضًا.

ولا يفوتنا هنا أن نذكر أن بعض السور يمكن أن نجد لها عدة محاور تدور حولها من غير تناقض ولا تعارض ولا تصادم. ويمكن تحديد كل محور والتعرف على دائرته من خلال زاوية الرصد التي نرصدها.

تمامًا كما نتعرف على مسارات وأفلاك لبعض الكواكب وقد تتداخل أحيانًا من غير وقوع تصادم بينها، ويمكن تحديد مساراتها حسب زاوية الرصد وحسب نقطة الارتكاز التي نحددها لمعرفة مسارات هذه الكواكب.

فسورة الكهف مثلًا يمكن تحديد عدة محاور أو أهداف لها. فمثلًا:

عندما ندرك أنها سورة مكية نزرت في مرحلة متقدمة من مراحل الدعوة إلى الله. فقد ورد في صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: في بني إسرائيل -أي الإسراء- والكهف ومريم: "إنهن من العتاق الأول وهن من تلادي" ١.

وكما قلنا: إن السورة المكية جاءت لترسيخ أسس أربعة فيمكن رصد آيات السورة ومقاطعها من زاوية أي أساس من هذه الأسس.

فلو أخذنا قضية الدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، ونظرنا إلى افتتاحية السورة وإلى قصصها الأربع وإلى خاتمتها لوجدنا أن قضية التوحيد لافتة للنظر فيها

١ صحيح البخاري، كتاب التفسير: ٥/ ٢٢٣.

ولا يخلو مقطع من هذه المقاطع من الدعوة الصريحة إلى توجيه العبادة لله سبحانه وتعالى والإخلاص له في القول والعمل وترك عبادة الطواغيت والآلهة المزعومة والشركاء.

ولو حددنا وجهة نظرنا في البحث عن الدعوة إلى الإيمان باليوم الآخر من خلال افتتاحية سورة الكهف وقصصها الأربع وخاتمتها، لوجدناها من أبرز القضايا في كل المقاطع بحيث لا نحتاج إلا لاستعراض سريع لآيات، والأدلة أكثر من أن تساق للاستشهاد بها.

ولو أمعنا النظر في الآيات باحثين عن قضية إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم من خلال آيات السورة لوجدناها محورًا أساسًا في ذلك يعيننا في تحديد معالم ذلك سبب النزول والافتتاحية والخاتمة بشكل قوي لافت للنظر، ولوجدنا أن هناك روابط قوية تشد القصص الأربع إلى هذا المحور شدًا لا يمكن الفكاك منه.

ولو أردنا أن نلقي أضواءً على أمهات الأخلاق التي استهدفت الكهف ترسيخها والقيم الثابتة التي دعت إليها بالدعوة الصريحة لها أحيانًا والتمثيل الرائع بضرب الأمثال للقيم الحقيقية وضرب الأمثال للقيم الزائفة الخادعة التي تموه الباطل على الناس وتظهره على غير حقيقته أحيانًا أخرى وبالترغيب في التمسك بالحقائق والقيم الخلقية الرفيعة، والترهيب من القيم الزائفة الداجلة أحيانًا، لأدركنا أن هذا الهدف الذي ترمي إليه السورة لا يقل أهمية عن الأهداف الثلاثة الأولى.

وهكذا فحينما تحدد زاوية الرصد للآيات الكريمة ومقاطع السورة -بشرط أن تكون رؤيتنا صحيحة، وإحاطتنا بقضايا السورة العامة وأسباب نزولها دقيقة- نجد أن لكل سورة شخصيتها المستقلة وهدفها أو أهدافها المحددة التي ترمي إليها، وأسلوبها الخاص بها، واختيار طريقة العرض للقضايا، وسوق القصص اختصارًا أو إسهابًا أو إشارات مقتضبة، كل ذلك لتكمل شخصية السورة وأجواؤها لإبراز الهدف الأساسي أو القضايا الرئيسية التي تناولتها السورة.

٤- المناسبات بين مقاطع السورة ودورها في التعرف على هدف السورة أو محورها:

عند تقسيم السورة إلى مقاطع أو فقرات حسب ارتباط الآيات بعنصر من عناصر الموضوع لا بد من الرجوع إلى كتب التفسير الموثوقة للاطلاع على الروايات الصحيحة من السنة النبوية وأقوال الصحابة والتابعين في تفسير الآيات، والرجوع إلى الكتب التي تناولت المناسبات بين الآيات في السورة الواحدة مثل تفسير مفاتيح الغيب للفخر الرازي، ونظم الدرر في تناسب الآيات والسور لبرهان الدين البقاعي، وفي ظلال القرآن لسيد قطب.

وذلك للإحاطة بمعاني الآيات ومحاولة التعرف على المناسبات بين هذه المقاطع فقد تكون المناسبة جلية واضحة بينها، وقد تدق فلا تظهر، وقد تكون المناسبات بينها وبين محور السورة ظاهرة جلية وقد تكون دقيقة خافية وكثيرًا ما يكون التعرف على المناسبات بين المقاطع طريقًا لمعرفة الهدف الأساسي من السورة أو المحور الذي تدور حوله السورة. وقد يكون النظر في فاتحة السورة وخاتمتها وإبراز القضايا المشتركة بينهما دليلًا على الهدف الأساسي في السورة فكثير من السور القرآنية يرد فيها العجز على المصدر لترسيخ مفاهيم معينة أو التذكير بقضية جاءت السورة لبيانها١.

وبعد التعرف على هدف السور الأساسي وتحديد المحور الذي تدور حوله تتبلور المناسبات بين المقاطع جميعها وبين المقاطع والمحور وبين الفاتحة والخاتمة، ويدرك الباحث وجه الاستطرادات التي وردت في السورة وتظهر له من الحكم والأسرار القرآنية على حسب ما أوتي من ملكة في الاستيعاب والغوص في المعاني.

١ يقول الدكتور محمد عبد الله دراز:

ولقد وضح لنا بما أثار دهشتنا أن هناك تخطيطًا حقيقيًا واضحًا ومحددًا، يتكون من ديباجة وموضوع وخاتمة فتوضح الآيات الافتتاحية الأولى من السورة الموضوع الذي ستعاجله في خطوطها الرئيسية ثم يتبع ذلك التدرج في عرض الموضوع، بنظام لا يتداخل فيه جزء مع جزء آخر، وإنما يحتل كل جزء المكان المناسب له في جملة السورة، وأخيرًا تأتي الخاتمة التي تقابل الديباجة.

انظر: كتاب مدخل إلى القرآن الكريم: ١١٩.

إن آثار إدراك المناسبات بين المقاطع والأجزاء في السورة على التعرف على هدف السورة كبيرة. وبالمقابل فإن ظهور الهدف في السورة يعين كثيرًا على التعرف على المناسبات بين مقاطعها وفقراتها فالأضواء منعكسة على بعضها من الجهتين تنير السبيل أمام الباحث للسير بخطى ثابتة راسخة في بحثه، فلا يهمل هذا الجانب في التفسير الموضوعي للسورة.

الهدف في السورة القصيرة والسورة الطويلة

تتناول السورة القصيرة في الغالب قضية واحدة فيكون لها هدف واحد أو محور واحد تدور عليه. فمثلًا سورة "الإخلاص" تدور حول هدف واحد هو تقدير الوحدانية لله سبحانه وتعالى، وسورة "الكافرون" تدور حول المفاصلة عن الكافرين، وسورة "الزلزلة" و "القارعة" تدوران حول أحداث يوم القيامة والحساب فيه.

وهناك من السور القصيرة ما تتعدد أهدافها أو أغراضها ولكنها لا تخرج في الغلب عن هدفين أو ثلاثة.

فمثلًا: سورة "الطارق" تذكر هدفين هما التذكير بقدرة الخالق على الخلق والإبداع، وتقرير أن الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة حق من الخالق.

وسورة "الغاشية" تتناول أحوال الكافرين والمؤمنين يوم القيامة، وتذكر الاستدلال على القدرة والحكمة من خلال تدبر هيئات المخلوقات.

وسورة "النازعات" تتناول ذكر جنود الله من الملائكة المكلفين بالكون والمخلوقات، لتدفعها جميعًا إلى يوم الحساب. ومن باب إبراز فضل الشيء وقوته بذكر ضده تعرض السورة بإشارات سريعة أحوال فرعون وطغيانه وحشره لجنوده ليبين ضعفهم بالمقارنة بجند الله وسهولة أخذهم {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} ، ثم التعليق والتعقيب على ذلك ببيان ضعف الإنسان قياسًا إلى خلق السماوات والأرض وبيان مصير المكذبين والمصدقين.

فنستطيع أن نقول: إن السورة تتناول ثلاثة جوانب أساسية:

- قوة الله وقوة جنده.

- ضعف البشر وجنودهم من خلال النموذج الفرعوني.

- التعقيب والتقرير لمبدأ المعاد والحساب.

وسورة "ن" محورها الأساسي الدفاع عن شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحذر الكافرين المغترين من التقول عليه وإلصاق التهم الباطلة به.

وهكذا سائر سور القرآن الكريم مهما طالت فإنها تدور حول أهداف معينة، فسورة البقرة على طول آياتها وكثرة فقراتها. ذكر بعضهم أنها تتكون من مقدمة وغرضين أساسيين وخاتمة.

فالمقدمة في الحديث عن موقف الناس تجاه القرآن الكريم: فمؤمن، وكافر، ومنافق.

ثم الموضوع الأول: هو بيان قدرة الخالق ووحدانيته وحكمته من خلال أصل الخلق والتكوين وأن الناس تنكروا لهذا الأمر المرة تلو المرة وقدم النموذج الإنساني الذي كلف بالأمانة والقوامة على دعوة الله وتوحيده وتطبيق شرائعه، فلم يستقم على ذلك وهم بنو إسرائيل. وبعد الحديث عن نعم الله على بني إسرائيل وإرسال الرسل إليهم وبيان مواقفهم ومراوغتهم للتخلص من أحكام الله وإيثار الشهوات والشبهات على الاستقامة على منهج الله.

ثم يأتي ذكر الموضوع الثاني: وهو أنه لا بد لدين الله من أمة تقوم عليه وتطبقه ولا بد أن تكون هذه الأمة قادرة على التغلب على أهوائها، وأن تكون على جانب كبير من العلم والمعرفة الربانية وأن تكون لها شخصيتها وأصالتها. فكانت الأمة التي أُسندت إليها المسئولية بعد بني إسرائيل هذه الأمة الإسلامية أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وزودت هذه الأمة بكل مقومات القيادة والسيادة من العلوم والتشريعات لتقوم بدور القوامة التي عجزت عنه بنو إسرائيل.

ثم تأتي الخاتمة بالشهادة لهذه الأمة أنها آمنت وصدقت ولجأت إلى ربها وتضرعت إليه واستعانت به للقيام بالمهام العظام التي أنيطت بها من خلال الالتجاء.

إلى ربها وبارئها والمنعم عليها {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} .

{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: ٢٨٥، ٢٨٦] .

بعد الحديث عن هدف السورة أو محورها إجمالًا وقبل الدخول في تقسيم السورة إلى مقاطع أو فقرات والحديث التفصيلي عنها، لا بد من العودة إلى الحديث عن هدف السورة أو محورها مرة أخرى بعد الانتهاء من الحديث التفصيلي عن المقاطع أو الفقرات، وذلك لربط هذه المقاطع والفقرات بالهدف الأساسي أو المحور الذي تدور حوله السورة.

والبحث الأول في الهدف أو المحور بحث استدلالي لإثبات هذا الهدف أو المحور من خلال مقدمات السورة ووقت نزولها وسبب النزول واستعراض أبرز القضايا فيها، أما البحث الأخير في الهدف أو المحور فهو تقرير نتائج، واستنباط وجوه للمناسبات بين هذه المقاطع وبين المحور الأساسي، فلا بد من أن يكون الهدف أو المحور واضحًا محددًا مسلمًا به ليأتي بعد ذلك دور الربط والتعليق وذكر دقائق النظم المعجز والحكم والأسرار المودعة حسب طاقة الباحث وشفافية نظرته التي يقول عنها علي بن أبي طالب عن ابن عباس كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق١ وذلك لدقة استنباطات ابن عباس من آي الذكر الحكيم.

إن الباحث في هذا اللون من التفسير لا بد له من ملكة تجعله يرى في الآيات القرآنية ومن خلال نظمها والروابط بينها جوانب خلف الدلالات اللغوية للألفاظ والكلمات القرآنية، فإذا استعملت هذه الملكة وفق منهج محدد في البحث والاستقراء والاستنباط كان الاطلاع على جوانب من عجائب القرآن وغرائبه التي لا تنقضي على مر العصور.

١ التفسير والمفسرون: ١/ ٦٧.

الإطناب والإيجاز في قضايا عرضتها السورة

قد يجد الباحث عند تفسيره لسورة ما تفسيرًا موضوعيًا تناول السورة لقضية من القضايا القرآنية بإيجاز أو بإسهاب، وقد تتكرر هذه القضية في سورة أخرى أكثر إطنابًا أو أكثر إيجازًا، فما موقف الباحث من هذه القضية؟

هل يجعلها مدخلًا للتوسع في هذه القضية فيَلُم شتاتها من خلال السورة الأخرى ويجمعها في هذا الموضوع، أو يشير إشارة سريعة إلى القضية ولا يتناولها بالبحث لأنه يفسر سورة معينة ولا يفسر موضوعًا من خلال القرآن؟

أرى في مثل هذه المواطن أن محور البحث في السورة أو الهدف الأساسي في السورة هو الذي يحدد طبيعة البحث في مثل هذه القضايا.

إن تكرار الموضوعات والقصص في القرآن الكريم وفي سور متعددة لحكم وأسرار قد لا نحيط بها، ولكن من الواضح من هذه الحكم وعلى رأسها أن أسلوب العرض في كل مكان يتناسب مع أجواء السورة وأهدافها فإن كان محور السورة يدور حول قضية لإثباتها فلا بأس أن نتعرض عند ذكر القضية لتفصيلاتها التي ذكرت في سور أخرى، ولكن إذا كانت القضية ذكرت بشكل عرضي وجزئي للاستدلال بها على هدف السورة الأساسي وهو غير هذه القضية فلا يناسب المقام أن نتعرض لجزئياتها في سور أخرى.

فمثلًا سورة "نوح" عليه السلام هدفها الأساسي إبراز جانب دعوة نوح عليه السلام وموقف قومه من الدعوة.

فليس من المناسب عند عرضنا لهذا الموضوع من خلال سورة نوح أن

نتعرض بشكل مفصل للحوار الذي جرى بين نوح وابنه، وماذا حدث من أمور كونية في إهلاك القوم كما عرضتها سورة "هود" وسورة "المؤمنون" وغيرهما، ولكن من المناسب جدًا أن نذكر ما يتعلق بالحوار والأساليب الجدلية التي اتبعها القوم كما ذكرتها السور نفسها.

إن لكل سورة هدفها وشخصيتها وأسلوبها في عرض القضايا فينبغي عدم طمس هذه المعالم للسورة بحشر تفصيلات تاريخية أو قصصية أو بلاغية فيها على حساب الهدف الأساسي.

ومثل آخر من سورة "البروج" فالمحور الذي تدور عليه السورة: الصراع بين أهل الإيمان وأصحاب السلطة الطواغيت، وبيان أن النهاية لأهل الإيمان.

وقد جاء ذكر فرعون وثمود في السياق للاستدلال بمصيرهم على أن الغلبة لجند الله سبحانه وتعالى مهما تجبر الطغاة العتاة فإنهم لن يعجزوا الله عز وجل، وأن المؤمنين هم المنصورون وأن دعوتهم هي الفائزة ولو ذهبت أنفس الدعاة قرابين لنصرتها.

فينبغي أن يدور التفسير في هذا الإطار، فلا يتناسب مع هذا الهدف أن نسرد التفصيلات في أمر فرعون وما جرى بينه وبين موسى عليه السلام وكيف تبع بني إسرائيل ثم كان مصيره الغرق.

ولا يستدعي الأمر بيان ديار ثمود وأصل انحرافهم وما جرى بينهم وبين نبيهم صالح عليه السلام ولا الآية التي طلبوها ثم انقلبوا على أعقابهم فأخذتهم الصيحة.

إن أجواء السورة لا تحتمل هذه التفصيلات، فينبغي الدوران مع المحور حوف الهدف الأساسي للسورة وعدم الخروج عن خاصيات السورة وملامحها وشخصيتها.

صلة التفسير الموضوعي بالأنواع الأخرى من التفسير

لا يمكن الفصل بين أنواع التفسير فصلًا رياضيًا بحيث تنقطع وشائج القربى بينها ويكون لكل نوع مجاله وأسلوبه ونتائجه.

وذلك لأن مجال البحث واحد وهو كلام الله سبحانه وتعالى، والغاية التي يهدف إليها المفسر واحدة أيضًا وهي الكشف عن مراد الله سبحانه وتعالى من الآيات على قدر الطاقة البشرية، إلا أن مناهج المفسرين للوصول إلى الغاية هي التي تختلف بعض الشيء.

وحتى هذا الاختلاف في المنهح ليس اختلاف تباين وانفصال وتضاد بل هو اختلاف تنوع وتعاضد وترادف.

وبعض أنواع التفسير تعتبر أساسًا للانطلاق منه إلى غيره فلا يستغني عنه المفسر الباحث في أي نوع من أنواع التفسير.

فالتفسير التحليلي لا يستغني عنه الباحث في التفسير الإجمالي أو الموضوعي أو المقارن، وذلك لأن التفسير التحليلي ينصب على معرفة دلالة الكلمة اللغوية ودلالتها الشرعية، والتعرف على الرابط بين الكلمات في الجملة وبين الجمل في الآية وبين الآيات في السورة. وكذلك التعرف على القراءات وأثرها على دلالة الآية، ووجوه الإعراب ودورها في الأساليب البيانية وإعجاز القرآن الكريم. وغيرها من الوجوه التي تساعد على إخلاء المعنى وتوضيح المراد.

فالذي يريد تفسير الآيات تفسيرًا إجماليًا لا يستطيع أن يعبر عن موضوع الآيات التي يريد التعبير عنها بأسلوبه الخاص لتقريب المعاني وإبراز جوانب الهداية منها ما لم يلم بتفصيلات ما تقدم من أمور التفسير التحليلي لاستجلاء المعنى المراد ثم صياغته بأسلوب يتناسب مع المدارك الثقافية للمخاطبين.

وكذلك بالنسبة لمن يتناول الآيات وتفسيرها بأسلوب التفسير المقارن فالحكم على الشيء فرع عن تصوره، لا بد أن يحيط بأقوال المفسرين الذين كتبوا في تفسير الآيات ليدرك المفسر الذي لم يخرج عن روح النص والغرض الأساسي من الآيات الكريمة، عن المفسر الذي تعسف في تأويل هذه الآيات وحملها ما لم تحتمل، أو لم يدرك المرمى اللغوي للكلمة القرآنية فانحرف بها عن دلالتها وأولها غير تأويلها الصحيح، فأبعد في التأويل ووقع في محاذير. ولكي يحكم على صواب منهج المفسر أو خطئه، وإجادته في تفسيره أو تخبطه فيه لا بد أن يكون على دراية وافية بمعاني الآيات الكريمة فلا بد له من الرجوع إلى التفسير التحليلي، وقد يستخدم للتعبير عن حكمه على التفاسير التي يقارن بينها أسلوب التفسير الإجمالي للآيات.

أما الباحث في التفسير الموضوعي فاعتماده على جمع الأنواع المتقدمة من التفسير أمر أساسي في كتابته ومنهجه ولا غنى له عن أحد الأنواع.

إذ يعتبر هذا اللون من التفسير ثمرة الأنواع كلها، ويعتبر التفسير الموضوعي مرحلة تخصصية متأخرة عن مراحل الأنواع السابقة ولذلك:

أ- عندما يجمع المفسر الآيات المتعلقة بموضوع من الموضوعات، لا بد من الرجوع إلى دلالات الكلمات التي تعبر عن هذا الموضوع بشكل صريح أو تشير إليه إشارة أو يكون الموضوع من لوازم هذه اللفظة أو العبارة، أو نتيجة من نتائج استخدام هذه العبارة.

وكثيرًا ما تستخدم الجملة أو الآية الواحدة في موضوعين مختلفين ويكون لها دلالة مختلفة حسب الموضوع وحسب السياق والسياق عن دلالة الموضع الآخر.

فلكي يدرك الباحث في هذا اللون من التفسير -أعني التفسير الموضوعي- لا بد أن يكون مدركًا إدراكًا تامًا لأقوال المفسرين الذين كتبوا في تحليل هذه الآيات.

ب- وكثيرًا ما تتباين أقوال المفسرين الذين كتبوا في تحليل النص القرآني بحيث لا يمكن الجمع بينها، والآيات القرآنية حمالة للوجوه المتعددة فلا بد للمفسر الذي يكتب في موضوع ما، ووجد هذه الأقوال في تفسير آية تتعلق بموضوعه، لا بد من وقفة متأنية دقيقة، ونظرات ثاقبة للترجيح بين هذه الأقوال ومعرفة

المصيب منها وغير المصيب، وليختار القول المناسب لموضوعه من هذه الأقوال بغية توضيح عناصر الموضوع والربط بين الأساليب القرآنية في أداء المعنى، وبالتالي للوصول إلى الهدايات القرآنية المتعلقة بالموضوع مجال البحث.

وهذا هو التفسير المقارن.

جـ- ولما كان الموضوع الذي يتناوله الباحث في التفسير الموضوعي حسب أحد منهجين لا ثالث لهما:

- تناول موضوع من خلال القرآن الكريم كله.

فعندئذ لا بد له من تقسيم الموضوع إلى عناصر حسب تناول الآيات الكريمة لها، وللتعبير عن العنصر الذي استنبطه من خلال الآيات، ولا مناص من اللجوء إلى التفسير الإجمالي ليقرر هذا العنصر ويوضحه ويشرحه ويسوق له الأدلة.

- أو تناول الموضوع من خلال سورة قرآنية معينة.

وعندئذ لا بد له من تقسيم السورة إلى مقاطع حسب ترتيب الآيات في السورة أو حسب تسلسل عناصر الموضوع أو الهدف الأساسي في السورة أو المحور الذي تدور عليه السورة.

وللتعبير عن مضامين هذه المقاطع وتوضيح الهدايات القرآنية منها ثم ربطها بالهدف الأساسي للسورة وضمن الإطار الذي تعرض السورة فيه هذا الهدف أو الأهداف.

لا بد للباحث من اللجوء أيضًا إلى التفسير الإجمالي في طريقة عرضه لهذه الأهداف وربط المقاطع كلها بمحور السورة لإبراز الهدف الأساسي فيها.

إذن نستنتج من كل ما تقدم أن أنواع التفسير متداخلة متساندة، لا يستغني المفسر لنوع منها عن الأنواع الأخرى.

وبخاصة الباحث في التفسير الموضوعي لا بد أن يكون على مستوى رفيع من الإحاطة بأنواع التفسير الأخرى؛ لأن الأنواع الأخرى من التفسير هي اللبنات الأولى والمادة الأولية التي يريد إقامة بنيان تفسيره الموضوعي عليها.

علم المناسبات والتفسير الموضوعي

مدخل

علم المناسبات والتفسير الموضوعي

علم المناسبات وثيق الصلة بالتفسير الموضوعي -وبخاصة التفسير الموضوعي للسورة- وذلك لأننا نلحظ أن الآية أو مجموعة الآيات تنزل في أسباب مختلفة وحوادث متفرقة ثم توضع في سورة واحدة وقد تكون بين الآيات التي وضعت في موضع ما من السورة والآيات التي وضعت عقبها فترة زمنية قصيرة لا تتعدى الأيام وقد تكون فترة طويلة تتجاوز عدة سنوات -كما في سورة النساء في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} والآيات التي قبلها من ٥١ إلى ٥٨- ولكننا عندما نقرءوها نجد أن وحدة الموضوع يجمعها ومرمى الهدف والغاية من سياقها جميعها شيء واحد.

لذا كان من المهم أن نلم أولًا بأطراف ما قيل في علم المناسبات بين الآيات في السورة الواحدة، وبين السور بعضها مع بعض، لنكون على بينة من هذا الأمر ولكي نضعه في الحسبان عندما نحاول تفسير السورة تفسيرًا موضوعيًا لندرك أن الفاصل الزمني لا دخل له في الحكم بمرامي السورة وأهدافها، فكما أن الزمن لم يكن له اعتبار قبل نزول القرآن إلى اللوح المحفوظ ثم إلى بيت العزة في السماء الدنيا، أُلغي هذا الاعتبار أيضًا بعد جمع القرآن بين دفتي المصحف، ولم يبق له إلا دلالات مساعدة في إلقاء الأضواء على مضمون الآية أو الحكم الذي تشتمل عليه الآية الكريمة، وتبقى القاعدة المطردة التي استنتجها جهابذة علماء هذه الأمة نصب عين كل باحث وهي: "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" .

وما أجمل قول الشيخ محمد عبد الله دراز بهذا الصدد: "... إن كانت بعد تنزيلها جمعت عن تفريق فلقد كانت في تنزيلها مفرقة عن جمع، كمثل بنيان كان قائمًا على قواعده فلما أريد نقله بصورته إلى غير مكانه قدرت أبعاده ورقمت لبناته، ثم فرق أنقاضًا فلم تلبث كل لبنة من أن عرفت مكانها المرقوم، وإذا البنيان قد عاد مرصوصًا بشد بعضه بعضًا كهيئته أول مرة" ١.

١ النبأ العظيم: ١٥٤-١٥٥، ط. دار القلم.

أولًا- تعريف علم المناسبات:

المناسبة في اللغة: المقاربة والمشاكلة.

وفي الاصطلاح: هي الرابطة بين شيئين بأي وجه من الوجوه. وفي كتاب الله تعني ارتباط السورة بما قبلها وما بعدها. وفي الآيات تعني وجه الارتباط في كل آية بما قبلها وما بعدها.

ثانيا: أهمية علم المناسبات وأقوال العلماء فيه

مدخل

ثانيًا- أهمية علم المناسبات وأقوال العلماء فيه:

علم المناسبات بين سور القرآن الكريم أو بين الآيات في السورة الواحدة من العلوم الدقيقة التي تحتاج إلى فهم دقيق لمقاصد القرآن الكريم، وتذوق لنظم القرآن الكريم وبيانه المعجز، وإلى معايشه جو التنزيل، وكثيرًا ما تأتي إلى ذهن المفسر على شاكلة إشراقات فكرية أو روحية.

وقد اعتبر بعض المفسرين أن نسبة هذا العلم من علم التفسير مثل نسبة علم البيان من علم النحو١.

وهو علم يجعل أجزاء الكلام بعضهًا آخذًا بأعناق بعض، فيقوي بذلك الارتباط ويصير التأليف حاله حال البناء المحكم المتلائم الأجزاء٢.

وهو علم تعرف منه علل ترتيب أجزاء القرآن، وهو سر البلاغة لأدائه إلى تحقيق مطابقة المقال لما اقتضاه من الحال.

قال القاضي أبو بكر بن العربي المتوفى سنة ٥٤٣هـ في "سراج المريدين" : "ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى يكون كالكلمة الواحدة متسعة المعاني منتظمة"

١ نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي: ١/ ٦.

٢ البرهان في علوم القرآن للزركشي: ١/ ٣٥، ٣٦.

المباني، علم عظيم لم يتعرض له إلا عالم واحد عمل فيه سورة البقرة. ثم فتح الله عز وجل لنا فيه، فلما لم نجد له حملة ورأينا الخلق بأوصاف البطلة ختمنا عليه وجعلناه بيننا وبين الله ورددناه إليه "١."

قال الزركشي: "وقال بعض مشايخنا المحققين -وسماه السيوطي في الإتقان: الشيخ ولي الدين الملوي، قد وهم من قال: لا يطلب للآي الكريمة مناسبة، لأنها على حسب الوقائع المتفرقة، وفصل الخطاب أنها على سحب الوقائع تنزيلًا وعلى حسب الحكمة ترتيبًا وتأصيلًا، مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف كما أنزله جملة إلى بيت العزة، ومن المعجز البين أسلوبه ونظمه الباهر والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شيء عن كونها تكملة لما قبلها أو مستقلة، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها، ففي ذلك علم جم. وهكذا في السور يطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سيقت له" ٢. ا. هـ.

قال البقاعي في نظم الدرر: "وبهذا العلم يرسخ الإيمان في القلب ويتمكن من اللب، وذلك أنه يكشف أن للإعجاز طريقين: أحدهما: نظم كل جملة على حيالها بحسب التركيب، والثاني: نظمها مع أختها بالنظر إلى الترتيب."

والأول أقرب تناولًا وأسهل ذوقًا، فإن كل من سمع القرآن بما تلته وما تلاها خفي عليه وجه ذلك، ورأى أن الجمل متباعدة الأغراض متنائية المقاصد فظن أنها متنافرة، فحصل له من القبض والكرب أضعاف ما كان حصل له بالسماع من الهز والبسط، ربما شككه ذلك وزلزل إيمانه وزحزح إيقانه ... إلى أن يقول: فإذا استعان بالله وأدام الطرق لباب الفرج بإنعام التأمل وإظهار العجز والوقوف بأنه في الذروة من إحكام الربط كما كان من الأوج من حسن المعنى. فانفتح له ذلك

١ نظم الدرر: ١/ ٧، والبرهان: ١/ ٣٦.

٢ نظم الدرر: ١/ ٨، والبرهان: ١/ ٣٧، والإتقان: ٢/ ١٠٨.

الباب ولاحت له من ورائه بوارق أنوار تلك الأسرار. رقص الفكر منه طربًا وشكر الله استغرابًا وعجبًا وشاط لعظمة ذلك جنانه فرسخ من غير مرية إيمانه ... "إلخ١."

ويقول الرازي: "علم المناسبات علم عظيم أودعت فيه أكثر لطائف القرآن وروائعه، وهو أمر معقول إذا عرض على العقول تلقته بالقبول" ٢.

وعدم مراعاة علم المناسبات بين الآيات يوقع في بعد عن المعنى حتى في الآية الواحدة. وهذا ما حدث لكثير من المفسرين في تفسير آية الأهلة: جاء في سبب نزول صدر الآية عن ابن عباس: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة فنزلت هذه الآية: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: ١٨٩] . وقال أبو العالية: بلغنا أنهم قالوا: يا رسول الله لِمَ خلقت الأهلة؟ فأنزل الله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} ٣.

وفي تفسير الطبري: ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن زيادة الأهلة ونقصانها واختلاف أحوالها فأنزل الله تعالى ذكره هذه الآية جوابًا لهم فيما سألوا عنه.

وبعد أن ساق الروايات في ذلك قال الطبري: فتأويل الآية إذا كان الأمر على ما ذكرنا عمن ذكرنا عنه قوله في ذلك: يسألونك يا محمد عن الأهلة ومحاقها وسرارها وتمامها واستوائها وتغير أحوالها بزيادة ونقصان ومحاق واستسرار، وما المعنى الذي خالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة أبدًا على حال واحدة لا تتغير بزيادة ولا نقصان، فقل يا محمد خالف بين ذلك ربكم لتصييره الأهلة التي سألتم عن أمرها ومخالفة ما بينها وبين غيرها فيما خالف بينها وبينه مواقيت لكم ولغيركم من بني آدم في معاشهم ترقبون بزيادتها ونقصانها ومحاقها وسرارها وإهلالكم إياها أوقات حل ديونكم وانقضاء مدة إجارة من استأجرتموه وتصرم عدة نسائكم ووقت صومكم وإفطاركم فجعلها مواقيت للناس.

١ نظم الدرر: ١/ ١١-١٢.

٢ البرهان: ١/ ٣٥.

٣ تفسير ابن كثير: ١/ ٢٢٥.

ثم ذكر تأويل قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة: ١٨٩] ، قيل: نزلت هذه الآية في قوم كانوا لا يدخلون إذا أحرموا بيوتهم من قبل أبوابها. وذكر الروايات في ذلك.

وعادة دخول البيوت من ظهورها في حال الإحرام أو عند العودة من سفر كانت عادة متبعة في الجاهلية، وعلى الرغم من ورود الشطر الثاني للآية لإبطال تلك العادة فإن وضعه في المكان المحدد له من قبل الحكيم الخبير لا بد من وجود رابط بين صدر الآية وشطرها الثاني، ولم يشر أحد من المفسرين الذين لا يلتفتون إلى المناسبة بين الآيات إلى ذلك.

ونجد الإمام الرازي -ولأنه يهتم بالمناسبة بين الآيات- أول من التفت إلى ذلك. يقول الرازي -بعد أن ذكر أقوال المتقدمين والروايات التي ذكرها جل المفسرين: "المسألة الثانية: ذكروا في تفسير الآية ثلاثة أوجه:"

الأول: وهو قول أكثر المفسرين حمل الآية على هذه الأحوال التي رويناها في سبب النزول، إلا أنه على هذا التقدير صعب الكلام في نظم الآية، فإن القوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحكمة في تغيير نور القمر فذكر الله تعالى الحكمة في ذلك وهي قوله: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} ، فأي تعلق بين بيان الحكمة في اختلاف نور القمر وبين هذه القصة؟

ثم ساق وجوهًا من أقوال المفسرين لتوجيه هذا القول والملاءمة بين أول الآية وآخرها.

ثم ذكر في ثنايا القول الثاني وجهًا في غاية الانسجام حيث قال: "فجعل إتيان البيوت من ظهورها كناية عن العدول عن الطريق الصحيح وإتيانها من أبوابها كناية عن التمسك بالطريق المستقيم" ١.

أي إن سؤالهم عن حادثة فلكية دقيقة قبل تمكنهم من علم الفلك وتعاطي أسباب معرفته كمن يأتي البيت من ظهره وذلك مناقض للحكمة والبر.

١ مفاتيح الغيب للرازي: ٥/ ١٢٦.

هذه أقوال المؤيدين للبحث عن وجه المناسبة بين الآيات في السورة الواحدة وبين السور المتعددة، إلا أن هذا الاتجاه لم يكن مسلمًا به عند جميع العلماء ووجد من يقول إن هذا البحث تكلف محض تأباه طبيعة نزول القرآن، منجمًا، ولم ينقل شيء من ذلك عن سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين.

ولعل أقدم من رفع صوته مستنكرًا لهذا الأمر سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام المتوفى سنة ٦٦٠هـ.

ونقل السيوطي في الإتقان قوله: "إن ربط آيات القرآن على ترتيب نزوله تكلف لا يليق، إذ إنه يشترط في حسن الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره، فإن وقع على أسباب مختلفة لم يقع فيه ارتباط، ومن ربط ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا بربط ركيك، يصان عن مثله حسن الحديث فضلًا عن أحسنه، فإن القرآن نزل في نيف وعشرين سنة في أحكام مختلفة شرعت لأسباب مختلفة، وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض" ١.

كما نقل عن الإمام أبي حيان صاحب البحر المحيط كلامًا شبيهًا بكلام العز بن عبد السلام وقد ذكر الإمام الشوكاني في تفسيره فتح القدير٢، حجج المنكرين لهذا اللون من الربط بين الآيات وأيدهم بحجج وضرب أمثلة، ولعل أوسع مقال في ذلك ما كتبه الشيخ محمد بن عبد الله الغزنوي٣، وهو يرد على القائلين بوجود المناسبات. وننقل فيما يلي كلامه بتمامه لأنه يمثل وجهه نظر الرافضين:

يقول الشيخ: اعلم أن كثيرًا من المفسرين جاءوا بعلم متكلف وخاضوا في بحر لم يكلفوا سباحته، استغرقوا أوقاتهم في فن لا يعود عليهم بفائدة. بل

١ الإتقان: ٢/ ١٣٨.

٢ انظر: فتح القدير: ١/ ٧٢ وما بعدها.

٣ الشيخ محمد بن عبد الله الغزنوي المتوفى سنة ١٢٩٦هـ، له تعليقات على تفسير "جامع البيان في تفسير القرآن" للشيخ معين الدين محمد بن عبد الرحمن الحسني الحسيني الإيجي الشافعي المتوفى سنة ٨٩٤هـ.

أوقعوا أنفسهم في التكلم بمحض الرأي المنهي عنه في الأمور المتعلقة بكتاب الله سبحانه وذلك أنهم أرادوا أن يذكروا المناسبة بين الآيات القرآنية المسرودة على هذا الترتيب الموجود في المصاحف، فجاءوا بتكلفات، وتعسفات يتبرأ منها الإنصاف، ويتنزه عنها كلام البلغاء فضلًا عن كلام الرب سبحانه، حتى أفردوا ذلك بالتصنيف وجعلوه المقصد الأهم من التأليف، كما فعله البقاعي في تفسيره ومن تقدمه ومن تأخره. وإن هذا لمن أعجب ما يسمعه من يعرف أن هذا القرآن ما زال ينزل مفرقًا على حسب الحوادث المقتضية لنزوله منذ نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قبضه الله عز وجل إليه.

وكل عاقل فضلًا عن عالم لا يشك أن هذه الحوادث المقتضية لنزول القرآن متخالفة باعتبار نفسها بل قد تكون متناقضة كتحريم أمر كان حلالًا، وتحليل أمر كان حرامًا، وإثبات أمر لشخص أو أشخاص تناقض ما كان قد ثبت لهم قبله، وتارة يكون الكلام مع المسلمين وتارة مع الكافرين، وتارة مع من مضى وتارة مع من حضر، وحينًا في عبادة، وحينًا في معاملة، ووقتًا في ترغيب ووقتًا في ترهيب، وآونة في بشارة وآونة في نذارة، وطورًا في أمر دنيا وتارة في أمر آخرة، ومرة في تكاليف آتية ومرة في أقاصيص ماضية.

وإذا كانت أسباب النزول مختلفة هذا الاختلاف ومتباينة هذا التباين الذي لا يتيسر معه الائتلاف، فالقرآن النازل فيها باعتبار نفسه مختلف كاختلافها، فكيف يطلب العاقل المناسبة بين العنب والتوت، والماء والنار، والملاح والحادي؟ وهل هذا إلا من فتح أبواب الشك وتوسيع دائرة الريب على من في قلبه مرض، أو كان مرضه مجرد الجهل والقصور؟

فإنه إذا وجد أهل العلم يتكلمون في التناسب بين جميع آي القرآن ويفردون ذلك بالتصنيف تقرر عنده أن هذا الأمر لا بد منه، وأنه لا يكون القرآن بليغًا معجزًا إلا إذا ظهر الوجه المقتضي للمناسبة، وتبين الأمر الموجب للارتباط، فإن وجد الاختلاف بين الآيات رجع إلى ما قاله المتكلمون في ذلك، فوجده تكلفًا محضًا وتعسفًا بينًا، انقدح في قلبه ما كان عليه في عافية وسلامة، هذا على فرض أن نزول

القرآن كان مرتبًا على هذا الترتيب الكائن في المصحف، فكيف وكل من له أدنى علم بالكتاب وأيسر حظ من معرفته يعلم علمًا يقينًا أنه لم يكن كذلك، ومن شك في هذا -وإن لم يكن مما يشك فيه أهل العلم- رجع إلى كلام أهل العلم العارفين بأسباب النزول، المطلعين على حوادث النبوة، فإنه يثلج صدره وينزل عنه الريب بالنظر في سورة من السور المتوسطة، فضلًا عن المطولة، فإنه لا محالة يجدها مشتملة على آيات نزلت في حوادث مختلفة وأوقات متباينة، لا مطابقة بين أسبابها، وما نزل فيها في الترتيب، بل يكفي المقصر أن يعلم أن أول ما نزل {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وبعده {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر} ، {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} ، وينظر أي موضع هذه الآيات والسور في ترتيب المصحف. وإذا كان الأمر هكذا، فأي معنى لطلب المناسبة بين آيات نعلم قطعًا أنه قد تقدم في ترتيب المصحف ما أنزل الله متأخرًا، أو تأخر ما أنزل الله متقدمًا؟! فإن هذا عمل لا يرجع إلى ترتيب نزول القرآن بل إلى ما وقع من الترتيب عند جمعه ممن تصدى لذلك من الصحابة، وما أقل نفع مثل هذا وأنزر ثمرته وأحقر فائدته، بل هو عند من يفهم ما يقول، وما يقال له من تضييع الأوقات وإنفاق الساعات في أمر لا يعود بنفع على فاعله، ولا على من يقف عليه من الناس.

وأنت تعلم أنه لو تصدى رجل من أهل العلم للمناسبة بين ما قاله رجل من البلغاء من خطبه ورسائله وإنشاءاته، وإلى ما قاله شاعر من الشعراء من القصائد التي تكون تارة مدحًا وأخرى هجاء، وحينًا تشببًا وحينًا رثاء وغير ذلك من الأنواع المتخالفة. فعمد هذا المتصدي إلى ذلك المجموع فناسب بين فقره ومقاطعه ثم تكلف تكلفًا آخر فناسب بين الخطبة التي خطبها في الحج والخطبة التي خطبها في النكاح ونحو ذلك، وناسب بين الإنشاء الكائن في العزى والإنشاء الكائن في الهنا وما يشابه ذلك، لعد هذا المتصدي لمثل هذا مصابًا في عقله متلاعبًا بأوقاته عابثًا بعمره الذي هو رأس ماله.

وإذا كان مثل هذه بهذه المنزلة وهو ركوب الأحموقة في كلام البشر فكيف تراه يكون في كلام الله سبحانه الذي أعجزت بلاغته بلغاء العرب وأبكمت فصاحته فصحاء عدنان وقحطان.

وقد علم كل مقصر وكامل أن الله سبحانه وصف هذا القرآن بأنه عربي فأنزله بلغة العرب وسلك فيه مسالكهم في الكلام وجرى فيه مجاريهم في الخطاب. وقد علمنا أن خطيبهم كان يقوم المقام الواحد فيأتي بفنون مختلفة وطرائف متباينة فضلًا عن المقامين فضلًا عن المقامات فضلًا عن جميع ما قاله ما دام حيًا وكذلك شاعرهم.

ولنكتف بهذا التنبيه على هذه المفسدة التي يعثر في ساحاتها كثير من المحققين١. ا. هـ.

هذه وجهة النافين لهذا اللون من البحث، وهذه حججهم وردودهم على القائلين بوجود المناسبات بين الآيات والسور.

ولا شك أن هذا العلم دقيق المسالك خفي المدارك، وهو من العلوم التي تحتاج إلى بذل الجهد في التتبع والاستقصاء اللغوي لدلالات الألفاظ القرآنية، والإحاطة بأسباب النزول، والتوسع في أفانين علم البلاغة والأساليب البيانية، وفوق كل ذلك ينبغي أن يكون الباحث ذا حس مرهف ونفس شفافة وذكاء لماح ليدرك سر هذا الترتيب للآيات التي وضعت بجوار بعضها، وقد أكدت الأخبار الصحيحة عن المعصوم أن الفاصل الزمني بينها يتجاوز السنوات العديدة أحيانًا.

ونحن نسلم أن بعض العلماء الباحثين في وجوه المناسبات قد تكلفوا أحيانًا في استخراج وجه المناسبة، ولكن تكلفهم هذا لا ينبغي أن يكون ذريعة لرد الوجوه المعقولة المقبولة التي ذكرها الآخرون.

ونؤمن إيمانًا جازمًا أن ترتيب الآيات في السور كان بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكتبه الوحي، ولم يكن لأحد رأي واجتهاد في ذلك.

١ انظر: التعليقات على تفسير جامع البيان: ١٣ و١٤، ط. دار نشر الكتب الإسلامية، الباكستان، الطبعة الثانية ١٣٩٧هـ/ ١٩٧٧م. وهو منقول بنصه عن فتح القدير للشوكاني، ج١، ص٧٢، ٧٣.

ونقول إن هذا الترتيب الموحي به لم يكن جزافًا ولا اعتباطًا أو عبثًا وننزه كلام الباري سبحانه وتعالى عن كل ذلك.

كما نقول إن القول بوجود المناسبات أمر يحتمه الاعتقاد بتنزيه كلام الله سبحانه وتعالى عن الفوضى والتناقض:

{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: ٨٢] .

وعلى الباحث أن يبذل قصارى جهده للتعرف على وجه المناسبة بين الآيات، فإن ظهر له شيء من ذلك فذلك نعمة من الله تعالى وفضل عليه، وله أن يقول به ويظهره خدمة لكتاب الله تعالى، وإن خفي عليه وجه المناسبة فعليه أن يمسك ولا يتكلف، وينسب علم ما خفي عليه إلى منزل الكتاب الذي أمر بترتيبه على هذا الشكل، ولا يدرك أسرار كتاب الله كلها أحد من البشر {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: ٦] .

وسنضرب أمثلة ونماذج على وجه المناسبات بين الآيات في السورة الواحدة وبين السور المتعددة، لعلنا نُكَوِّن بعد ذلك فكرة عن الموضوع وبعدها نتخذ موقفًا من التأييد أو الرفض.

ثالثا- ظهوره وأهم المؤلفات فيه:

أو من أظهر علم المناسبات: يعتبر الإمام أبو بكر النيسابوري المتوفى سنة ٣٢٤هـ أول من أظهر علم المناسبات في بغداد، وكان يزري على علماء بغداد لجهلهم وجوه المناسبة بين الآيات، وكان لا يني يقول إذا قرئت عليه الآية أو السورة: لم جعلت هذهالآية إلى جنب هذه؟ وما الحكمة في جعل هذه إلى جنب هذه السورة؟

وكذلك أبو بكر ابن العربي المالكي المتوفى سنة ٥٤٣هـ وتقدمت الإشارة إلى كلامه ضمن كلام البقاعي. كما تجد ذكر المناسبات من خلال تفسيره "أحكام القرآن" .

ومن المكثرين في إيراد المناسبات بين الآيات الإمام فخر الدين الرازي المتوفى سنة ٦٠٦هـ في تفسيره الكبير المسمى بمفاتيح الغيب.

وقد أفرده بالتصنيف الأستاذ أبو جعفر بن الزبير الأندلسي المتوفى سنة ٨٠٧هـ في كتابه "البرهان في مناسبة ترتيب سور القرآن" .

وقد خص الزركشي المتوفى سنة ٧٩٤هـ في كتابه "البرهان في علوم القرآن" فصلًا خاصًا تحت عنوان "النوع الثاني" معرفة المناسبات بين الآيات، تحدث فيه عن أهمية هذا العلم وضرب أمثلة على المناسبات بين السور، وبين الآيات في السورة الواحدة.

ومن أوسع المراجع في هذا العلم كتاب "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور" لبرهان الدين البقاعي المتوفى سنة ٨٨٥هـ، حيث ذكر المناسبات بين آيات القرآن الكريم سورة سورة. ويقع كتابه في اثنين وعشرين جزءًا وقد طبع في الهند.

وألف الإمام السيوطي المتوفى سنة ٩١١هـ كتابًا خاصًا سماه "تناسق الدرر في تناسب السور" تحدث فيه عن أهمية علم المناسبات وذكر وجوهًا للمناسبات بين سور القرآن الكريم.

كما خصص النوع الثاني والستين من كتابه الإتقان في علوم القرآن للحديث عن "مناسبات الآيات والسور" ذكر فيه أغلب ما ذكره الزركشي في البرهان، وزاد عليه في الأمثلة.

ومن العلماء المعاصرين الذين كتبوا في علم المناسبات الشيخ عبد الله محمد الصديق الغماري، كتب كتابًا سماه "جواهر البيان في تناسب سور القرآن" ذكر فيه وجه المناسبة بين سور القرآن سورة سورة.

كما تحدث الشيخ محمد عبد الله دراز في كتابه "النبأ العظيم" عن المناسبات بين آيات سورة البقرة.

القسم الأول: المناسبات في السورة الواحدة

مدخل

القسم الأول: المناسبات في السورة الواحدة

وقبل البدء بعرض أنواع المناسبات لا بد لنا من ذكر أمر مجمع عليه بين العلماء وهو أن ترتيب الآيات في السورة الواحدة أمر توقيفي لا مجال فيه للاجتهاد، ولم يأت هذا الإجماع من فراغ بل هناك الأدلة الكثيرة التي تفيد على أن ترتيب الآيات في السورة كان توقيفيًا فمن ذلك:

أ- ما أخرجه الحاكم في المستدرك بسند على شرط الشيخين عن زيد بن ثابت أنه قال: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع" ١ ومعنى تأليف القرآن من الرقاع ترتيب السور والآيات وفق إشارة النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيفه.

ب- أخرج البخاري عن ابن الزبير قال: قلت لعثمان: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} قد نسختها الآية الأخرى، فلم تكتبها أو تدعها؟

"المعنى: لماذا تثبتها بالكتابة أو تتركها مكتوبة وأنت تعلم بأنها منسوخة" .

قال: "يابن أخي لا أغير شيئًا من مكانه" ٢.

جـ- أخرج أحمد بإسناد حسن عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت جالسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ شخص ببصره ثم صوبه ثم قال: "أتاني جبريل، فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَان"

١ المستدرك: ٢/ ٦١١، ومسند الإمام أحمد: ٥/ ١٨٥.

٢ صحيح البخاري، كتاب التفسير: ٦/ ١٦٠.

وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى [النحل: ٩٠] "١. فهذا يدل على أن تعيين أماكن الآيات في السورة يكون بأمر من جبريل من رب العزة سبحانه وتعالى."

د- روى مسلم عن عمر قال: ما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر ما سألته عن الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري وقال: "تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء" ٢، فلو لم تكن الآيات مرتبة في السورة لم يعرف أولها من آخرها.

وكذلك ما رواه مسلم عن أبي الدرداء مرفوعًا: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال" ٣.

وفي لفظ عنده: "من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف ..." .

هـ- وكذلك ما ثبت في الصحاح أنه كان يقرأ في أوقات معينة بسورة معينة.

كل ذلك يدل على أن ترتيب الآيات في السور كان معلومًا للصحابة رضوان الله عليهم وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرئهم بهذا الترتيب، وإلا لما استطاع أن يشير لهم إلى مضمون سورة باسمها ولا تحدد آيات بعينها بالإشارة إلى أرقامها أو مكانها.

والأصل في الآيات ضمن السورة أن تكون بينها وجه مناسبة؛ لأنها في الغالب "وبخاصة في السور القصيرة" تعرض موضوعًا معينًا، فالأصل أن يكون السياق موحدًا. ولا ينتقل من موضع إلى آخر، أو لا يبحث موضوع جديد بعد الموضوع الأول إلا وهناك وجه مناسب ورابط بين الموضوعين. ومعرفة فترات زمنية متباعدة، أو تكون الموضوعات متباينة في نظر القارئ أو في حال ظهور جملة وكأنها مستقلة عما قبلها وما بعدها، عند ذلك يأتي دور الغواصين على المعاني لمعرفة الرابط والمناسبة بين الآيات.

١ المسند: ٤/ ٢١٨.

٢ صحيح مسلم، كتاب الفرائض: ٥/ ٦١.

٣ صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين: ٢/ ١٩٩.

أنواع المناسبات في السورة الواحدة

ذكر للمناسبات بين الآيات في السورة أنواعًا:

النوع الأول: المناسبة بين الآيات في السورة الواحدة

ومن أمثلة ذلك:

١- في سورة النساء: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [الآيات: ٥١-٥٧] .

هذه الآيات نزلت في كعب بن الأشرف عندما ذهب إلى مكة بعد انتصار المسلمين في بدر يحرض المشركين على الأخذ بثأرهم. فسألوه: من أهدى سبيلًا: المؤمنون أم المشركون؟ فقال: بل أنتم، أنتم أهدى من المؤمنين سبيلًا. أخرج عبد الرزاق وابن جرير عن عكرمة أن كعب بن الأشرف انطلق إلى المشركين من كفار قريش فاستجاشهم على النبي صلى الله عليه وسلم، وأمرهم أن يغزوه وقال: إنا معكم نقاتله، فقالوا: إنكم أهل كتاب وهو صاحب كتاب، ولا نأمن أن يكون هذا مكرًا منكم، فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين، وآمن بهما ففعل، ثم قالوا: نحن أهدى أم محمد، فنحن ننحر الكوماء، ونسقي اللبن على الماء، ونصل الرحم، ونقري الضيف، ونطوف بهذا البيت، ومحمد قطع رحمه وخرج من بلده، قال: بل أنتم خير وأهدى، فنزلت فيه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} ١ الآية.

وجاء بعد هذه الآيات قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: ٥٨] .

وهذه الآية نزلت في شأن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة العبدري صاحب

١ انظر: الدر المنثور للسيوطي: ٢/ ٥٦٣.

سدانة الكعبة لما أخذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة يوم الفتح ثم رده عليه١.

وبين الآيتين ست سنوات ومع ذلك فالمناسبة بين الآيات الأولى والآية الأخيرة في غاية الوضوح، حيث ذكر المفسرون: أن أحبار اليهود كانوا على اطلاع بما في كتبهم من وصف محمد صلى الله عليه وسلم وأخذت عليهم المواثيق للإيمان به ونصرته: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: ٨١] . ثم خان هؤلاء الأحبار هذه الأمانة، ونقضوا الميثاق، ولم يؤدوا هذه المسئولية، فالسياق سياق تحمل مسئولية وأمانة وأدائها على الوجه المطلوب المبرئ للذمة.

فالموضوع واحد والسياق منسجم تمامًا على الرغم من وجود الفاصل الزمني.

٢- المناسبات بين الآيات الكريمة في سورة البقرة:

{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} ...

{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} ...

{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} ....

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} ...

{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} ....

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} ... {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيم} [البقرة: ٢٥٥-٢٦٠] ٢.

فمن الممكن أن يقال: إن آية الكرسي قد بينت صفات الجلال والكمال لله سبحانه وتعالى وحده وإذا كان الأمر بهذا الشكل من الوضوح فالعقول السليمة تؤمن به من غير حاجة إلى إكراه، لوضوح البراهين إلا أن بعض العقول قد يؤثر عليها ولاءاتها وارتباطها فتحرفها عن سلوك الطريق القويم في التفكير والاستدلال فتخرجها هذه الولاءات من نور الفطرة إلى ظلمات الشرك. أما الذين آمنوا فوليهم

١ انظر: تفسير ابن كثير: ١/ ٥١٥.

٢ الدرر المنثور للسيوطي: ٢/ ٥٧٠.

الله الذي يزيد هذه الفطرة نورًا وضياءًا وإذا التبس بها شيء أنقذها الله سبحانه وتعالى من تلك الظلمات إلى النور.

ومن الأمثلة على انحراف التفكير نمروذ الذي زعم في نفسه الألوهية علمًا أنه أدرى الناس بحقيقة عجزه. ثم تفسيره للإحياء والإماتة، ولكنه بهت عندما جوبه بأن من شأن الإله التصرف المطلق في الكون.

ثم عقب على ذلك بأن حقيقية الإماتة والإحياء ما حدث لعبد الله الصالح عزير وحماره وما أجراه الله سبحانه وتعالى على يد خليله إبراهيم عليه السلام في إحياء الطيور الأربعة. ثم انتقل إلى إحياء من لون آخر: وهو إحياء النفوس بالصدقة والإنفاق في سبيل الله وموت النفوس وخنق الأجر وإماتته بالمن والأذى.

٣- ومثال آخر قوله تعالى في سورة الزمر:

فالسورة مكية كلها إلا قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ، وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [٥٣-٥٥] .

فقد نزلت في المدينة وذكروا سببًا لنزولها:

أخرج الشيخان عن ابن عباس أن ناسًا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، فأتوا محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزل {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} ونزل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} ١.

وفي رواية محمد بن إسحاق قال نافع عن عبد الله بن عمر عن عمر رضي الله عنهما في حديثه قال: كنا نقول ما الله بقابل ممن افتتن صرفًا ولا عدلًا ولا توبة، عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم. قال: وكانوا يقولون ذلك

١ صحيح البخاري، كتاب التفسير: ٦/ ٣٣، وصحيح مسلم، كتاب الإيمان: ١/ ٧٩.

لأنفسهم قال: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله تعالى فيهم في قولنا وقولهم: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} إلى قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُون} . قال عمر رضي الله عنه: فكتبتها بيدي في صحيفة وبعثت بها إلى هشام بن العاص رضي الله عنه. فقال هشام: لما أتتني جعلت أقرءوها بذي طوى أصعد بها فيه وأصوات ولا أفهمها حتى قلت اللهم أفهمنيها، قال: فألقي الله عز وجل في قلبي أنها إنما أنزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا، ويقال فينا، فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسوله الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة١.

فالآيات مدينة كما تفيد روايات أسباب النزول، إلا أن وضعها في السورة المكية منسجم تمام الانسجام مع ما قبلها وما بعدها. وأقرأ الآيات: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ، وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ، أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر: ٥٢-٥٦] .

فنجد أن الآيات متلاحمة تمام التلاحم فلما كان بسط الرزق والتضييق فيه مظنة الإسراف على النفس فمع البسط الترف وارتكاب المحرمات والموبقات وصرفه على الشهوات.

وفي حال التضييق السعي للحصول عليه ولو بالعدوان. وفي كلا الأمرين ظلم للنفس، فاقتضت الحكمة الإلهية عدم التيئيس من رحمة الله تعالى، وفتح باب التوبة لهم للالتجاء إليه سبحانه وتعالى، وحذرهم من التسويف خشية حلول العذاب المفاجئ، فبعض أصابع الندم على تفريطه في جنب الله، وكما يكون الانحراف

١ تفسير ابن كثير: ٤/ ٦٠.

في المال والرزق يكون الانحراف عن السلوك القويم والصراط المستقيم في الأعمال الأخرى كما دلت رواية سبب النزول.

والجادة المستقيمة في كل ذلك اتباع شرع الله سبحانه وتعالى في سائر الأحوال والالتزام بمنهجه القويم، وهذا الاتباع هو الذي يجنب الإنسان الحسرة والندامة في الآخرة.

فهل تشعر بأي فجوة في السياق أو أي قفزة في النظم المحكم؟

النوع الثاني: مناسبة فواتح السور لخواتمها

حيث نجد أن السورة تبدأ بأمر ثم تختم بنفس الموضوع.

ومن الأمثلة على ذلك:

١- افتتحت سورة الكهف بقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا، قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} الآيات، وختمت السورة بقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا، قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} . فالحديث في أول السورة وخاتمتها عن كلام الله المنزل الموحى به على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

٢- وافتتحت سورة المؤمنون بقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} حيث تحدثت عن فلاح المؤمنين الذين يتصفون بهذه الصفات النبيلة. وختمت السورة بقوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ، وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} حيث ذكرت عاقبة الكفر وعدم فلاح الكافرين فالفلاح لمن اتصف بصفات معينة، والهلاك وعدم الفلاح لمن لم يتصف بها.

٣- وافتتحت سورة الفرقان بقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} وختمت بقوله تعالى: قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا

دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا فالإنذار وبيان مهمة الرسول وأحواله هو محور السورة عمومًا ومدار الكلام في طرفيها خصوصًا.

٤- وفي سورة يوسف كان الابتداء {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} .

وختمت السورة بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} والعلاقة أوضح من أن تحتاج إلى بيان.

٥- وتبتدئ سورة الحجر بقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ، رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ، ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ، مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ، وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} .

فالحديث عن القرآن وموقف المشركين المعاندين منه ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد كذبوا بالقرآن وسخروا من رسول الله واتهموه بالجنون.

وتختم السورة بقوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ، الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} . نعم كان يضيق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كانوا يقولونه ويفترونه عليه من اتهامه بالجنون، ولكن الله سيكفيه أمر المفترين المستهزئين، فما عليه إلا الصبر والالتجاء إلى الله بالعبادة والتوكل.

٦- وتبدأ سورة النحل بقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ، يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} وتختم بقوله تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} فلا بد بعد الإنذار من الصبر بعض الوقت لمعرفة مدى تجاوب القوم فإن

تمادوا في غيهم ومكرهم أخذهم العذاب فلا ينبغي الحزن عليهم.

٧- ونلحظ ذلك حتى في السور المدنية الطويلة:

ففي سورة البقرة كان البدء بقوله تعالى: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: ١-٤] .

وتختم السورة بقوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: ٢٨٥-٢٨٦] .

فالبدء بالغيب بشكل عام وإقامة فرائض الإسلام، والإيمان بما أنزل إلى الرسول وما أنزل من قبل واليقين بالآخرة.

وفي الختام الحديث عن إيمان الرسول والمؤمنين بما أنزل إليه وبالله وملائكته، وهن من الغيب وبالكتب والرسالات السابقة وسؤال الله المغفرة فإليه المصير يوم القيامة.

٨- وفي سورة آل عمران المدينة:

تبتدئ السورة بقوله تعالى: {الم، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ، مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} .

فالحديث عن الحي القيوم منزل الكتب والرسالات، ذي العذاب الشديد المنتقم لمن كفر بها وأعرض عنها -أي موقف الناس منها.

وتختم السورة بقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: ١٩٩-٢٠٠] .

فالحديث عن طائفة من أهل الكتاب الذين آمنوا بالله وما أنزل إليهم وما أنزل على رسول الله والحديث عن الرسالات وموقف الناس منها. ثم الأمر بالصبر والمصابرة والمرابطة. ففيه تهديد ووعيد لأولئك ووعد بالفلاح للمؤمنين.

٩- وفي سورة النساء كانت الافتتاحية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [١-٣] ، فالحديث عن الأصل الإنساني وصلات الرحم والحقوق المالية للمستضعفين منهم. وختمت السورة بقوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} وهي الآية الثالثة في قسمة أموال التركة، وبيان حقوق الورثة فيها.

إن من أمعن النظر في هذه الأمثلة المختلفة لا يستطيع أن ينكر وجود المناسبات بينها على الرغم من اختلاف زمن النزول وأسبابه وموضوعاته، وهذا غيض من فيض، ومن تتبع التفاسير التي أولت هذا الجانب اهتمامها يظفر بالأمثلة الكثيرة التي لا تحصى.

القسم الثاني: المناسبات بين السور


مدخل

القسم الثاني: المناسبات بين السور

إن القول بوجود المناسبات بين السور يعتمد على القول بأن ترتيب السور في المصحف توفيفي لا اجتهادي.

لذا كان لا بد من عرض أقوال القائلين بذلك مع أدلتهم، ومناقشة أدلة القائلين بأن ترتيب السور كان باجتهاد من الصحابة رضوان الله عليهم.

ذهب جمهور العلماء إلى أن ترتيب السور في المصحف توقيفي أيضًا للأدلة الكثيرة في ذلك، وسنورد جملة منها فيما بعد.

أما من ذهب إلى أن اجتهادي أو بعضه توقيفي وبعضه اجتهادي فلا مستند لهم في قولهم سوى أمرين أو بالأحرى شبهتين:

الشبهة الأولى:

قالوا إن مصاحف بعض الصحابة لم تكن مرتبة ترتيب مصحف عثمان رضي الله عنه فمصحف علي رضي الله عنه كان أوله: اقرأ ثم المدثر ثم "ن" ثم المزمل ثم تبت ثم التكوير وهكذا إلى آخر المكي والمدني، أي كان مرتبًا حسب زمن النزول.

ومصحف ابن مسعود كان أوله البقرة ثم النساء ثم آل عمران.

وهذا لا حجة فيه لهم لأن مصاحف الصحابة كانت مصاحف شخصية لم يحاولوا أن يلزموا بها أحدًا، ولم يدعوا أن مخالفتها محرمة. والمرء قد يكتب لنفسه مصحفًا أو سورًا معينة يخشى من التباس الأمر فيها نسيانًا أو غير ذلك. فيكتب بالطريقة التي يشأ وهذا ما يفسر لنا القول بأن بعض الصحابة لم يكتب في مصحفه

المعوذتين وأن بعضهم كان قد كتب في مصحفه سورة الخلع والحفد المنسوخة كأبي بن كعب. ولهذا لما اجتمعت الأمة على ترتيب عثمان رضي الله عنه أخذوا به وتركوا مصاحفهم الشخصية، ولو كانوا يرون أن ترتيب المصحف اجتهادي لدعوا إلى التمسك بترتيبهم الخاص ولم يتنازلوا عنه.

وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الخلاف لفظي فقط في الادعاء أن ترتيب السور اجتهادي حيث نقلوا عن الإمام مالك قوله: إنما ألفوا القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبي صلى الله عليه وسلم مع قوله بأن ترتيب السور اجتهاد منهم فآل الخلاف إلى أنه: هل ذاك بتوقيف قولي أو بمجرد استناد فعلي١؟

الشبهة الثانية:

اعتمدوا على حديث ضعيف جدًا -بل يمكن أن يقال إنه لا أصل له- لأن إسناده يدور على "يزيد الفارسي" الذي رواه عن ابن عباس. ويزيد الفارسي هذا يذكره البخاري في الضعفاء -انظر تعليق أحمد شاكر على الحديث رقم ٣٩٩ في مسند الإمام أحمد، ج١ ص٣٢٩.

فقد ورد هذا الحديث على الشكل التالي:

حدثنا يحيى بن سعيد ثنا سعيد ثنا عوف ثنا يزيد -يعني الفارسي- قال أبي أحمد بن حنبل وثنا محمد بن جعفر ثنا عوف عن يزيد قال: قال لنا ابن عباس رضي الله عنهما: قلت لعثمان بن عفان: "ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا -قال ابن جعفر- بينهما سطرًا بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال؟ ما حملكم على ذلك؟" قال عثمان رضي الله عنه: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مما يأتي عليه الزمان ينزل عليه من السور ذوات العدد وكان إذا أُنزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده يقول:" ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا "وينزل عليه الآيات فيقول:" ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا "وينزل عليه الآية"

١ البرهان للزركشي: ١/ ٢٥٧.

فيقول: "ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا" وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة وبراءة من آخر القرآن. فكانت قصتها شبيهة بقصتها فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها وظننت أنها منها فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطرًا "بسم الله الرحمن الرحيم" قال ابن جعفر ووضعتها في السبع الطوال١.

وهذه الرواية الضعيفة لا تقوم بها حجة، ولا تقف أمام الروايات الكثيرة الصحيحة عن الصحابة رضوان الله عليهم الذين كانوا يحزبون القرآن على الترتيب المدون في المصحف. وإجماع الأمة على هذا المصحف بترتيبه الحالي، ولو كان الأمر محل الخلاف لنقلت إلينا الاجتهادات الكثيرة وبخاصة ما يتعلق بأمر كهذا الأمر "ترتيب المصحف" .

وذهب الجمهور إلى أن ترتيب السور في المصحف توقيفي، واستدلوا على ذلك بأدلة منها:

- ما رواه أحمد وأبو داود عن أوس بن أبي أوس عن حذيفة الثقفي قال: "طرأ علي حزبي من القرآن فأردت أن لا أخرج حتى أقضيه" فسألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: كيف تخزبون القرآن؟ قالوا: نحزبه ثلاث سور وخمس سور وسبع سور وتسع سور وإحدى عشرة وثلاث عشرة، وحزب المفصل من "ق" حتى نختم٢.

فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

- أخرج ابن أشتة في كتاب المصاحف عن طريق ابن وهب عن سليمان بن بلال قال: سمعت ربيعة يسأل: لم قُدِّمت البقرة وآل عمران، وقد نزل قبلهما بضع

١ انظر: مسند الإمام أحمد: ١/ ٣٢٩، وتعليق أحمد شاكر عليه.

٢ انظر: المسند: ٤/ ٩، ومختصر سنن أبي داود، كتاب رمضان: ٢/ ١١٤.

وثمانون سورة بمكة وإنما أنزلنا بالمدينة؟ فقال: قدمنا وألف القرآن على علم ممن ألفه به ومن كان معه فيه واجتماعهم على علمهم بذلك فهذا مما ينتهي إليه ولا يسأل عنه١.

ومما استدل به الجمهور على أن ترتيب السور في المصحف توقيفي قول عبد الله بن مسعود، في بني إسرائيل والكهف ومريم: "إنهن من العتاق الأول وهن من تلادي" ٢ أي من قديم ما أنزل، وقد ذكرها بالترتيب الوارد في المصحف.

كما أن الجمع بين السور المتشابهة في فواتحها مرة، والتفريق بينها مرة أخرى يدل على أن ذلك لم يكن عن اجتهاد، فقد وردت السور المبدوءة بـ "حم" وتسمى آل حاميم أو الحواميم مجتمعة في مكان واحد، بينما فرقت المسبحات، وهي السور التي تبدأ بـ "سبح، يسبح، سبح، سبحان" والمنطق البشري يقتضي التوحيد في الجميع أو التفريق في الجميع.

لقد عرف عن الصحابة رضوان الله عليهم حرصهم الشديد على حفظ القرآن الكريم، وكل ما يتعلق بشئونه؛ وقد وقف أبو بكر مترددًا في قضية جمعه في مكان واحد عندما اقترح عمر بن الخطاب ذلك بعد حروب الردة خشية استشهاد القراء وضياع شيء مما كتب عليه، وكذلك كان تردد زيد بن ثابت عندما أسندت إليه المهمة، وكل منهما يقول: كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم٣؟

فكيف يتم ترتيب المصحف باجتهاد عثمان بن عفان ومن معه، ولا يسمع صوت واحد يعترض عليهم في ذلك؟ اللهم إلا أن يكون عن علم منهم جميعًا أن ترتيب السور في المصحف بهذا الشكل كان معلومًا للجميع أنه بتوقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإذا سُلِّم هذا فلننظر إلى أنواع الروابط بين سور القرآن الكريم، ولنضرب لذلك أمثله موضحة.

١ الإتقان للسيوطي: ١/ ٨٤.

٢ رواه البخاري، كتاب التفسير: ٥/ ٢٢٣.

٣ انظر الحديث في: صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن: ٦/ ٩٨.

أنواع المناسبات بين كل سورتين متجاورتين

النوع الأول: المناسبة بين أول السورة وخاتمة وما قبلها

من أنواع الربط بين السور: الرابط بين السور إما أن يكون لفظيًا وظاهرًا بين أول السورة وختام ما قبلها. والظاهر يكون بتكرار اللفظ أو مرادفه ويكون أحيانًا بالمعنى المستفاد أو بعلاقة الإسناد والتعلق بالعامل إلخ. فمثلًا:

١- في ختام سورة الأحقاف١ {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} وفي مطلع سورة محمد٢ صلى الله عليه وسلم وتسمى سورة القتال أيضًا {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} فالقوم الفاسقون هم الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله.

٢- وفي نهاية سورة القتال: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} وفي مطلع سورة الفتح: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} ، فكأن هؤلاء القوم الموعود بهم سيتحقق الفتح على أيديهم.

٣- وفي ختام سورة الطور: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} ، وفي مطلع سورة النجم {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} .

٤- وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} في ختام سورة القمر، وفي أول سورة الرحمن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْأِنْسَانَ} فالملك المقتدر هو الرحمن جل جلاله.

٥- وفي ختام الواقعة: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} وفي بداية الحديد {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فكأنه أمر بتسبيح الله سبحانه وتعالى الذي سبحت له كل الكائنات، السماوات والأرض.

٦- وفي نهاية الحديد {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} وفي بداية المجادلة

١ وهي سورة مكية.

٢ وهي سورة مدنية.

{قَد سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} فكان من عظيم فضله سبحانه وتعالى أن لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا شمله الفضل ومنه سماع شكوى المرأة الضعيفة.

٧- وفي ختام سورة المرسلات {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} وبداية سورة النبأ {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} فكأنه عين الحديث الذي ينبغي أن يؤمنوا به فهو النبأ العظيم.

٨- وكذلك نهاية سورة الضحى {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} مع بداية سورة الشرح {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَك} ، فانشراح الصدر، ووضع الوزر ورفع الذكر من أعظم النعم.

٩- ونهاية سورة العاديات {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} مع بداية القارعة {الْقَارِعَةُ، مَا الْقَارِعَةُ} فكأنه عين اليوم الذي يكشف ما في الصدور وهو يوم القارعة.

١٠- وآخر سورة الفيل {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُول} مع بداية سورة قريش {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ} حتى قال الأخفش عن هذا الاتصال: اتصالها بها من باب قوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} ١ [القصص: ٨] أي فعل بأصحاب الفيل ما فعل ليتألف قلب قريش غلى الإيمان.

١١- ومن لطائف سورة الكوثر كالمقابلة للتي قبلها، لأن السابقة قد وصف الله فيها المنافق بأمور أربعة: البخل، وترك الصلاة، والرياء فيها، ومنع الزكاة. فذكر هنا في مقابلة البخل {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} أي الكثير، وفي مقابلة ترك الصلاة {فَصَلِّ} أي دُمْ عليها، وفي مقابلة الرياء {لِرَبِّكَ} أي لرضاه لا للناس، وفي مقابله منع الماعون: {وَانْحَر} وأراد به التصدق بلحم الأضاحي، فاعتبر هذه المناسبة العجيبة٢.

وليس هذا الترابط بين السورتين المكيتين أو المدنيتين بل نحو ذلك بين السور المكية والمدنية أيضًا.

١ انظر: البرهان للزركشي: ١/ ٣٨.

٢ المرجع السابق: ١/ ٣٩.

١٢- ففي نهاية سورة التوبة وهي سورة مدنية {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} .

وبعدها سورة يونس وهي سورة مكية بدئت بقوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ، أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} . فالحديث عن الرسول في الموضوعين.

النوع الثاني: مناسبة مضمون كل سورة لما قبلها

ومن وجوه المناسبات بين السور: أن ينظر إلى مضمون كل سورة ومضمون ما قبلها وما بعدها:

وقد ذهب الإمام السيوطي إلى أن كل سورة ورد فيها إجمال في شيء ما فإن السورة اللاحقة لها تأتي بتفصيل هذا الإجمال فمن ذلك:

- أن سورة الفاتحة قد جمعت مقاصد القرآن الكريم "فهي كالعنوان للقرآن الكريم وبراعة الاستهلال له" .

أخرج البيهقي في "شعب الإيمان" عن الحسن البصري قوله: "إن الله أودع علوم الكتب السابقة في القرآن ثم أودع علوم القرآن في المفصل ثم أودع علوم المفصل في الفاتحة. فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع الكتب المنزلة" ١.

ففي سورة الفاتحة:

١- دعاء الذين خصوا الله بالعبادة والاستقامة في قولهم {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم} وصراطه هو كتابه المبين كما قاله ابن مسعود وغيره. فقال الله سبحانه وتعالى في أول سورة البقرة {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيه} فاتبعوه فإنه الصراط المستقيم.

١ انظر: تناسق الدرر في تناسب السور للسيوطي: ٧٤.

٢- ذكر الله سبحانه وتعالى في سورة الفاتحة الطوائف الثلاث: الذين أنعم الله عليهم، المغضوب عليهم، الضالين، وأشار في سورة البقرة إلى شئون هذه الطوائف الثلاث.

فذكر الذين على هدى من ربهم.

وذكر الذين اشتروا الضلالة بالهدى.

وذكر الذين باءوا بغضب من الله.

وذكر السيوطي وجوهًا أخرى ظهرت له في الربط بين الفاتحة والبقرة وردت في تناسق الدرر، ص٧٨-٨٣، وهي بالاختصار:

١- الوجه الأول: أن البقرة تفصيل مجمل الفاتحة {الْحَمْدُ لِلَّه} فصلت في مواضع ١٥٢، ١٨٦، ٢٨٦ {رَبِّ الْعَالَمِين} فصلت في {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} ٢١، ٢٢ وكذلك ٢٩، وكذلك قصة خلق آدم.

{الرَّحْمَنُ الرَّحِيم} فصلت في {فَتَابَ عَلَيْكُم} ٥٤، ١٢٦، ٥٢، ١٦٣، ٢٨٦ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّين} {إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُم} ٢٨٤.

{إِيَّاكَ نَعْبُد} جميع فروع الشريعة، وردت في البقرة: الطهارة، الحيض، الصلاة، الجماعة، صلاة الخوف، الزكاة، الصوم، الحج.

{إِيَّاكَ نَسْتَعِين} ورد تفصيلها في البقرة شاملًا جميع علم الأخلاق، التوبة، الصبر، الشكر، الرضا، التفويض، المراقبة.

{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} مفصل عن طريق ذكر طريق الأنبياء وقد حاد عنه اليهود والنصارى ١٤٢، ١٤٥، ٢١٣.

{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فصلت في ذكر النبيين ١٣٦، ١٣٧.

٢- الوجه الثاني: الحديث والإجماع على أن تفسير المغضوب عليهم باليهود، والضالين بالنصارى، وذكروا في الفاتحة على حسب ترتيبهم في الزمان فعقب بسورة البقرة وجميع ما ذكر فيها من خطاب أهل الكتاب لليهود خاصة وما وقع فيها من ذكر النصارى لم يقع بذكر الخطاب. ثم عقبت البقرة بسورة

آل عمران، وأكثر ما فيها من خطاب أهل الكتاب النصارى. فإن ثمانين آية من أولها نازلة في وفد نصارى نجران وختمت بقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} وهي في النجاشي وأصحابه من مؤمني النصارى. وهذا وجه بديع في ترتيب السورتين، كأنه لما ذكر في الفاتحة الفريقين قص في كل سورة مما بعدها حال كل فريق على الترتيب الواقع فيها.

ولهذا كان صدر سورة النساء في ذكر اليهود وآخرها في ذكر النصارى.

٣- الوجه الثالث: أن سورة البقرة أجمع سور القرآن للأحكام والمثال، ولهذا سميت في أثر رواه الدارمي عن خالد بن معدان: "فسطاط القرآن" . والفسطاط هو المدينة الجامعة فناسب تقديمها على جميع سوره.

٤- الوجه الرابع: أنها أطول سورة في القرآن، وقد افتتح بالسبع الطوال، فناسب البداءة بها.

٥- الوجه الخامس: أنها أول سورة نزلت بالمدينة فناسب البداءة بها فإن للأولية نوعًا من الأولوية.

٦- الوجه السادس: ختمت سورة الفاتحة بالدعاء للمؤمنين بأن لا يسلك بهم طريق المغضوب عليهم ولا الضالين إجمالًا. ختمت سورة البقرة بالدعاء بأن لا يسلك بهم طريقهم في المؤاخذة بالخطأ والنسيان وحمل الإصر وما لا طاقة لهم به تفصيلًا. وتضمن آخرها أيضًا الإشارة إلى طريق المغضوب عليهم والضالين بقوله تعالى: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} فتآخت السورتان وتشابهتا في المقطع١.

ومن وجوه المناسبة بين البقرة وآل عمران:

قال السيوطي في "تناسق الدرر" :

- "فالبقرة بمنزلة إقامة الدليل على الحكم، وآل عمران بمنزلة الجواب عن شبهاب الخصوم، ولهذا ورد فيها كثير من المتشابه لما تمسك به النصارى."

١ تناسق الدرر: ٧٨-٨٣ باختصار.

- فأوجب الحج في آل عمران، وأما في البقرة فذكر أنه مشروع، وأمر بإتمامه بعد الشروع فيه.

- وكان خطاب النصارى في آل عمران أكثر، كما أن خطاب اليهود في البقرة أكثر، لأن التوراة أصل والإنجيل فرع لها. والنبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة دعا اليهود وجاهدهم وكان جهاده للنصارى في آخر الأمر.

كما كان دعاؤه لأهل الشرك قبل أهل الكتاب. ولهذا كانت السور المكية فيها الدين الذي اتفق عليه الأنبياء. فخوطب به جميع الناس. والسور المدنية فيها خطاب من أقر بالأنبياء من أهل الكتاب والمؤمنين فخوطبوا يا أهل الكتاب ... يا بني إسرائيل ... يا أيها الذين آمنوا ... ١. ا. هـ. وقال في موضع آخر: قد ظهر لي بحمد الله وجوه من المناسبات:

أحدها: مراعاة القاعدة التي قررتها من شرح كل سورة لإجمال ما في السورة قبلها. وذلك هنا في عدة موضاع، منها:

١- افتتحت البقرة بوصف الكتاب بأنه لا ريب فيه، وفي آل عمران: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} وذلك بسط وإطناب لنفي الريب.

٢- أنه ذكر في البقرة إنزال الكتاب مجملًا، وقسمه هنا إلى آيات محكمات ومتشابهات.

٣- أنه ذكر في البقرة {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِك} وفي آل عمران {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ، مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ} وصرح بذكر الإنجيل هنا لأن السورة خطاب للنصارى، ولم يقع التصريح به في سورة البقرة بطولها، وإنما صرح في البقرة بذكر التوراة خاصة لأنها خطاب لليهود.

٤- ذكر القتال في البقرة مجملًا بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّه} [١٩٠-١٩٤] وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَال} [٢١٦] وفصلت في آل عمران قصة أحد بكمالها.

١ تناسق الدرر: ٧٦.

٥- أنه أوجز في البقرة ذكر المقتولين في سبيل الله بقوله: {أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُون} [١٥٤] وزاد هنا {عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} [آل عمران: ١٧٠] .

٦- وفي البقرة {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاء} [٢٤٧] وفي آل عمران {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} [٢٦] .

٧- في البقرة في أهل الكتاب {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ} [٨٣] فأجمل القليل وفصله في آل عمران {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [١١٣] .

٨- في البقرة ذكر تفضيل هذه الأمة على سائر الأمم إبهامًا {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [١٤٣] وأتى في آل عمران بتفضيل هذه الأمة صراحة {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} فكنتم أصرح في قوله من {جَعَلْنَاكُم} ثم زاد وجه الخيرية بقوله: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوف} [١١٠] .

الوجه الثاني: أن بين سورة البقرة وسورة آل عمران اتحادًا وتلاحمًا متأكدًا:

فذكر في سورة البقرة خلق الناس وذكر هنا تصويرهم في الأرحام.

وذكر في البقرة مبدأ خلق آدم وذكر في آل عمران مبدأ خلق أولاده.

وفي البقرة افتتح بقصة آدم حيث خلقه من غير أب ولا أم، وذكر في آل عمران نظيره من غير أب وهو عيسى عليه السلام.

وفي البقرة لما كان الخطاب لليهود، وقد قالوا في مريم عليها السلام ما قالوا وأنكروا وجود وليد بدون أب، فوتحوا بقصة آدم لتشبه في أذهانهم فلا تأتي قصة عيسى إلا وقد ذكر عندهم ما يشبهها من جنسها.

ولأن قصة عيسى قيست على قصة آدم في قوله {كَمَثَلِ آدَم} [٥٩] والمقيس عليه لا بد وأن يكون معلومًا لتتم الحجة بالقياس. فكانت القصة والسورة جديرة بالتقدم.

النوع الثالث:

- ويقول أمر آخر استقرأته وهو: أنه إذا وردت سورتان بينهما تلازم واتحاد فإن السورة الثانية تكون خاتمتها مناسبة لفاتحة الأولى للدلالة على الاتحاد.

وفي السورة المستقلة عما بعدها يكون آخر السورة نفسها مناسبًا لأولها.

وآخر آل عمران مناسب لأول البقرة، فإنها افتتحت -أي البقرة- بذكر المتقين وأنهم المفلحون، وختمت آل عمران بقوله {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [٢٠٠] .

- وقد ورد أنه لما نزلت {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: ٢٤٥] قال اليهود: يا محمد افتقر ربك. فسأل القرض عباده. فنزل قوله تعالى في آل عمران {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} ١ [١٨١] .

فذاك أيضًا من تلازم السورتين.

- وفي البقرة ورد دعاء إبراهيم عليه السلام {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} [١٢٩] .

ووردت الإجابة في آل عمران {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: ١٦٤] ، وذاك أيضًا من تلازم السورتين٢.

هذه جملة مما ذكره السيوطي في المناسبات والتلازم بين سورتي البقرة وآل عمران.

وهذه الاستقراءات جاءت من غير نسق معين، ولم ترصد باستقراء من زاوية معينة فجاءت منثورة من غير أن ينتظمها منهج معين.

١ أخرجه ابن أبي حاتم. انظر: الدرر المنثور للسيوطي: ٢/ ٣٩٧.

٢ تناسق الدرر: ٨٣-٨٨ باختصار.

ومع كل ذلك فإننا نلحظ وجود مناسبات عدة بين السورتين الكريمتين، ولم يكن اقتران رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما في تسميتهما بـ "الزهراوين أو الغمامتين١ إلا عن حكمة ووجود علائق تشد إحداهما إلى الأخرى ولو أن بعض الباحثين وضع منهجًا محددًا لدراسة السورتين دراسة موضوعية لأماط اللثام عن كثير من أسرار كتاب الله سبحانه وتعالى."

وهكذا نجد أن علم المناسبات بين الآيات بعضها مع بعض وبين السور يبرز لنا جانبًا من إعجاز القرآن الكريم، وأنه كلام الله المنزل وليس من عند البشر.

فمن المعلوم أن القرآن الكريم نزل مفرقًا منجمًا لبضعة وعشرين عامًا حسب الوقائع المختلفة وفي ظروف متباينة، وإجابة لاستفسارات متنوعة، ثم كان الترتيب المحكم الذي لا نجد فيه آية ينبو بها مكانها من السياق القرآني العتيد.

ولا نجد كلمة يتململ بها موضعها في النظم المحكم. ولقد نجد الآية المدنية في السورة المكية أو الآية تتلو الآية والفاصل في نزولهما يبلغ عدة سنوات فأي عقل بشري يستطيع أن يراعي هذه الدقة وهذا الإحكام في النسق والترتيب والملاءمة بحيث يكون ذلك في الذروة من الفصاحة والبلاغة والانسجام.

{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: ٨٢] .

"إن عقلًا بشريًا مهما أوتي من القوة والحفظ والإحكام لا يستطيع أن يذكر موضع فقرة من كلام سابق مضى عليه سنوات طويلة. فيضعها في مكانها بحيث تلتحم مع سابقاتها ولاحقاتها في اللفظ والمعنى والسياق. ولو أن عقلًا أتقن ذلك في حال واحدة فلن يستطيع أن يحكمه في حالات كثيرة وفي سور كثيرة بحيث لا تشذ حالة واحدة عن قاعدة الإحكام المشاهدة في كتاب الله الحكيم" ٢.

إن إدراك المناسبات بين مقاطع السورة وافتتاحيتها وخاتمتها وسائر آياتها أمر

١ انظر في تسميتهما: صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين: ٢/ ١٩٧.

٢ من مقدمة المحقق لكتاب "تناسق الدرر" .

على جانب كبيرة من الأهمية لمن أراد تفسير السورة تفسيرًا موضوعيًا، فوجوه المناسبات هذه تلقي أضواء كاشفة على محور السورة وهدفها، وبالتالي يحدد الزاوية التي ينطلق منها المفسر في بيان معاني الآيات الكريمة.

لذا كان لزامًا على المفسر الإحاطة بما قاله العلماء في وجوه الربط بين الآيات والمقاطع في السورة. فربما وردت إشارة سريعة في قول بعضهم تفتح آفاقًا واسعة في ذهن الباحث وتحدد له مسار البحث.

هذا وبعد أن أفضنا القول في الدراسة المنهجية للتفسير الموضوعي وحددنا خطوات البحث فيه فلا بد من سوق نماذج لهذا اللون من التفسير.

وقد اخترنا مثالين: أحدهما يتعلق بتناول موضع من خلال القرآن الكريم كله. وثانيهما تناول موضع من خلال سورة واحدة: أو تفسير سورة تفسيرًا موضوعيًا.

فإلى المثالين.

مثال تطبيقي على موضوع من خلال القرآن الكريم "الألوهية من خلال آيات القرآن الكريم"

مقدمات بين يدي الموضوع

أولا: الألوهية والفطرة

مثال تطبيقي على موضوع من خلال القرآن الكريم

مقدمات بين يدي الموضوع

أولًا: الألوهية والفطرة

إن قضية الإيمان بخالق للإنسان والكون والحياة، قضية راسخة في الفطرة الإنسانية عميقة الجذور، عمق الشعور بالذات البشرية واحتياجاتها وعجزها وافتقارها إلى الملجأ والملاذ.

فكما يشعر الإنسان بعمق غرائز الأبوة وحب البقاء وحب التملك. في كيانه ويشعر بالقلق والاضطراب في حياته إن لم يشبعها بالطريقة السليمة.

فكذلك شعوره بالاضطراب والقلق إن لم تشبع غريزة التدين فيه بإشباع الأشواق الروحية وتوجيهها الوجهة السليمة للمعبود الحق.

وقبل حلول الروح الإنسانية في هذا الجسد المادي، في عالم الذر، كان هذا الغرس وكان هذا الميثاق {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ، وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: ١٧٢-١٧٤] .

وفي الصحيحين من حديث شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديًا به؟ قال: فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئًا فأبيت إلا أن تشرك بي" ١.

١ صحيح البخاري في كتاب الرقاق: ٧/ ١٩٨؛ وصحيح مسلم في صفات المنافقين: ٨/ ١٣٤.

إن الأصل في النفس الإنسانية الفطرة التي فطر الله الناس عليها فالميل إلى الحق والأخذ به، والتوجه إلى الخالق بالخضوع والطاعة هي الأصل وهي الفطرة، إلا أن البيئة والمجتمع ابتداء بالمجتمع الضيق الأسرة، وانتهاء بالتيارات الاجتماعية في المجتمع الواسع هي التي تحدد مسار هذه الفطرة في السنوات الأولى من حياة الطفل.

وإلى هذا يشير الرسول صلى الله عليه وسلم: "وكل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه، هل تنتج البهيمة إلا بهيمة جمعاء هل تحس منها من جدعاء" ١ رواه الشيخان من حديث أبي هريرة

والمنهج القرآني في تقرير عقيدة الألوهية يعتمد الفطرة الإنسانية السليمة نقطة انطلاق في البحث والتقرير وأسلوب العرض وإقرار النتائج.

وفي الصفحات التالية نتعرف على أبرز السمات في المنهج القرآني في تقرير عقيدة الألوهية.

البشرية خلقت مهتدية مؤمنة:

يبين القرآن الكريم أن الإنسان الذي كرمه من بين مخلوقاته "خَلْقًا وخُلُقًا واستعدادًا وطاقات" وحملة الأمانة التي عجزت عنها السماوات والأرض والجبال، لم يكن خلقه عبثًا ولم يكن ليتركه سدى، بل خلقه لاستخلافه في الأرض وعبادته فهيا. {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: ٣٠] .

{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذرايات: ٥٦-٥٨] .

ولم ينزل أبو البشر إلى الأرض إلا والهدايات مرافقة له، قد حددت له المهمة

١ صحيح البخاري، كتاب الجنائز: ٢/ ٩٧؛ وصحيح مسلم في كتاب القدر: ٨/ ٥٢.

التي يسعى إليها وأسلوب التعامل الذي يتعامل به مع الكائنات الأخرى من بينه وغيرهم.

{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: ٣٨] .

إن الأسرة الأولى في الاجتماع البشري تكونت في ظل الوحي الرباني، ومن يتلو قصة ابني آدم وهما عضوا الأسرة الأولى يجد في الحوار الذي دار بينهما أن القضايا الأساسية في العقيدة والسلوك البشري كانت واضحة المعالم في ذهنيهما يقول تعالى:

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ، فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ، فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: ٢٧-٣١] .

عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان علي ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل" ١ رواه الإمام أحمد والجماعة سوى أبي داود. فالإيمان بالله سبحانه وتعالى، والتقرب إليه بصالح الأعمال ابتغاء مرضاته، وتقوى الله تعالى والالتزام بها مدعاة لقبول الأعمال، وخشية الله تعالى من سوء عاقبة الأعمال السيئة والآثام التي تؤدي بصاحبها إلى النار، والجزاء الأخروي للمحسنين وللمسيئين على ما اقترفوه في الحياة الدنيا. كل هذه أسس العقيدة الموحى بها في الشرائع السماوية جميعها، كانت واضحة المعالم في أذهان ابني آدم الأولين.

١ مسند الإمام أحمد: ١/ ٣٨٣؛ صحيح البخاري، كتاب الجنائز: ٢/ ٧٩؛ وصحيح مسلم، كتاب القسامة: ٥/ ١٠٦.

والمجتمعات التي تكاثرت بالتناسل وانتشرت في أطراف المعمورة، كلما أصاب الغبش تصورها في العقيدة، واختلطت أمامها السبل بالانحراف عن سبيل الله أرسل الله سبحانه وتعالى إليها رسلًا لإعادتها إلى الصراط المستقيم ولإزالة الغبش عن عقائدها وتصوراتها.

{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: ٢٤] .

{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: ٢١٣] .

من هنا ندرك انحراف المناهج التي سلكها علماء الاجتماع ومقارنة الأديان، عندما قصدوا الغابات ورءوس الجبال والمناطق المعزولة عن العالم المتحضر لدراسة عقائد سكان هذه المناطق ليصلوا من خلال دراساتهم هذه إلى أصل نشوء فكرة الأديان ومن ثم تطورها. وخطأ هذا المنهج يبدأ من اقتراضهم الخاطئ أن الإنسان هو الذي يكون عقيدته ويطورها حسب تطور ظروفه المعيشية وحياته الاجتماعية ومستواه الثقافي١.

والمنهج القرآني يلغي الافتراض من أساسه لأن عقيدة الإنسان الأول، وعقيدة الأسرة الأولى كانت عقيدة التوحيد والإيمان بالهدايات الربانية المنزلة -الوحي- والإيمان باليوم الآخر. وكان الناس أمة واحدة على هذه العقيدة، فلما ابتعدوا عن المنهج الرباني وبعد عهدهم بهذه الهدايات ووجدت الاختلافات بين الناس أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ويعيدوهم إلى حظيرة التوحيد وإلى الالتزام بالمنهج الرباني مرة أخرى.

- والرسالات لم تنشأ في تلك المجتمعات المتخلفة أو البدائية، بل كان

١ نقلت بعض الصحف أن باحثه أميركية ذهبت إلى أدغال أستراليا وتزوجت زعيم إحدى القبائل المتخلفة حضاريًا، وذلك لتتعرف عن كثب على عقائد القبيلة وأعرافها الاجتماعية.

الرسل يرسلون لتبليغ دعوة الحق إلى من بأيديهم زمام الحكم والسلطة، وكان الصراع بين أتباع الحق -من الأنبياء وأتباعهم- وبين الطواغيت أهل الأهواء والمترفين من أهل الشهوات {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: ٣٦] .

ومن يقرأ قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في القرآن الكريم يجد أن الرسالات السماوية برزت بين المجتمعات الراقية المتحضرة، وقصدت من بيدهم دفة القيادة والسيادة.

ففي قصة نوح عليه السلام نجد التبليغ والصراع بينه وبين الملأ من قومه وكلمة الملأ في اللغة تدل على القوم الذين يملئون العين بوفرة عددهم وقوتهم وغناهم. وأحداث قصة إبراهيم عليه السلام جرت مع نمروذ الذي قيل إنه أحد الكافرين اللذين حكما العالم القديم تارة ومع ملك مصر تارة أخرى.

- ومثل ذلك في قصة موسى عليه السلام مع فرعون ومثله.

- وقصة عيسى وزكريا ويحيى عليهم السلام مع السلطة الرومانية من جهة، ومع أهل النفوذ والمكر والحيلة من اليهود من جهة أخرى.

ويحدد القرآن الكريم عاقبة المكذبين في أحد الأمور التالية:

١- إنزال العذاب المستأصل عندما يكذبون بالآيات التي يطلبونها تحديًا أو معاجزة {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ، فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ، فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر: ٩-١٢] .

{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ، فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ، أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ، سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ، إِنَّا مُرْسِلُو الْنَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ، وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ، فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ، فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ، إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} [القمر: ٢٣-٣١] .

٢- أو الخذلان والتشرد في الأرض على يد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو أتباعهم:

{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: ٥١] .

٣- وإن بقي المكذبون برسالة الرسول فترة فهي فترة محدودة ريثما يستكمل أهل الإيمان مقومات استحقاق النصر في نفوسهم، والعاقبة للمتقين فمآل هذه الحالة إلى إحدى الحالتين السابقتين أو الدخول في دعوة الخير والفلاح.

وتهمنا الحالة الثانية حالة التشرد والتمزق بعد انتصار دعوة الحق، فكثيرًا ما يفر المعاندون الصادون عن دعوة الحق فيلحقون شعاف الجبال وبطون الأودية والغابات النائية هربًا من سيف الحق، وعلى مر الأيام والسنين يطرد الضياع وتتباين الأهواء ويشتد التمزق في نفوسهم بين إلحاح الفطرة التي تعرض إبراز الخضوع والتدين في حياتهم، وبين النزوات الضالة المنحرفة فتوجد هذه المظاهر التعبدية المنحرفة من عبادة الآباء والأشجار والظواهر الطبيعية.

فليست الفطرة بحال من الأحوال هي الداعية إلى هذه الأشكال المنحرفة، بل البيئة والظروف والتأثر بالمنحرفين هي التي توجد الاتجاهات الضالة، وخير مثل في ذلك قصة عمرو بن لحي الذي أدخل عبادة الأصنام في جزيرة العرب حيث لم يكن الناس قبله يفكرون بمثل هذه الضلالة.

فإذن حالة الشرك والوثنية والانحراف حالة طارئة وهي الحالة الناشئة عن التخلف والعزلة ونتيجة لفرار من نور الحق.

هذا هو منهج القرآن في بيان هذه الحقيقة التي انحرف عنها الماديون المعاصرون، الذين ظنوا أن الإنسان هو الذي يوجد معتقده ويطوره حسب مراحل حياته الاجتماعية وحسب وسائله المدنية التي يستخدمها في حياته المعاشية.

إن هناك تباينًا تامًا بين الإدراك العقلي المستهدي بنور الوحي الإلهي، وبين المدركات العقلية المستمدة من الأهواء البشرية.

ولا علاقة لنوعي المدركات هذا بوسائل المعيشة أو الوسائل المدنية والمستوى المعاشي للإنسان فإن الإدراك العقلي الصحيح المبني على نور الوحي الإلهي يكون في أرقى المجتمعات المتمدنة. ويمكن أن يكون في نفس الوقت في مجتمع آخر لا يملك من وسائل المدنية إلا أقلها.

كما أن الجاهلية المنحرفة عن هدى الله سبحانه وتعالى -ونقصد بالجاهلية الحالة النفسية التي ينحرف فيها الإنسان عن المنهج الرباني، كما عرفها محمد قطب في جاهلية القرن العشرين- تكون لدى سكان الغابات وبطون الأودية وشواهق الجبال وتظهر في صور شتى من صور الشعائر التعبدية عندهم في عبادة الطواطم والحجر والشجر وظواهر الطبيعة من رعد وبرق وشمس وقمر. تكون موجودة في نفس الوقت عند سكان ناطحات السحاب ورواد الفضاء، ومكتشفي الذرة والعقول الإلكترونية، وتظهر أيضًا في صور شتى من مظاهر العبودية، من تقديس للمال والإنتاج والعلم والطبيعة والحزب والحرية والعقول المتحررة التي تشرع فتحل وتحرم، وكلها مظاهر جاهلية مبنية على الهوى.

فلا علاقة بين الهداية والحالة المادية للإنسان، كما لا علاقة بين الجاهلية والمستوى المعاشي للفرد والجماعة.

ثانيًا: اهتمام القرآن الكريم بالتوحيد أكثر من الاهتمام بإثبات وجود الخالق

وهذه قضية بارزة جدًا يلمسها المتتبع لهدايات القرآن الكريم عند عرض قضايا الألوهية وهذا المنهج متسق تمامًا مع المنهج القرآني في تقرير الحقائق وتشريع الشرائع والأحكام، فكل قضية تعتمد على رصيد الفطرة عند الإنسان يأتي التذكير بها عامًا وإجمالًا، أما القضايا التكليفية التي تثار ليتوصل إليها الإنسان بعقله أو يأتي الوحي ليقرر الالتزام بها ولا تشكل الفطرة أحد مقوماتها ودوافعها، فإن القرآن يكثر من الاستدلال عليها وتوجه الأنظار للحكم الربانية في تقريرها، وكثيرًا ما تذكر دوافع تشريعاتها ونتائج الالتزام بها. وفي القرآن الكريم قضايا كثيرة من هذا القبيل، فمثلًا من الأمور المقررة في الشريعة أن السعي في الأرض وكسب الرزق واتباع الأسباب التي جعلها الله سبحانه وتعالى بين الخلائق للحصول على لقمة العيش، هذا السعي أمر مطلوب شرعًا ومن كان صاحب عيال ولديه القدرة على السعي والكسب يؤاخذ إن ترك السعي وضيع العيال. ولكننا لا نجد أن القرآن الكريم قد تعرض لهذا الجانب -طلب السعي لتحصيل الرزق والمعاش- إلا لمامًا، وفي أحاديث عرضية فمثلًا نجد قوله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: ١٥] جاء في سياق الحديث عن نعم الله على العباد الذي خلق لهم وسائل المعيشة وجعل الأرض ذلولة لهم لا تستعصي عليهم عند السعي عليها أو إقامة المصالح في جنباتها. فكل ذلك يقتضي شكر المنعم المتفضل عليهم بذلك وجاء قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: ١٠] ، جاء بعد النهي عن البيع والكسب عند النداء لصلاة الجمعة بعد قوله تعالى

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: ٩] ويقرر علماء الأصول أن الأمر بعد الحظر يفيد الإباحة.

بل نجد أن بعض الآيات تصرف الهمم عن التفكير بالرزق والكسب لأن الله تكفل بهذا الرزق {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين} [الذاريات: ٥٦-٥٨] .

{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: ١٣٢] .

{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: ٣] .

{وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: ٦٠] .

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا" ١.

والحكمة في عدم الدفع للسعي على الرزق واتباع الأسباب في ذلك علمًا أنه شيء مطلوب كما قدمنا لأن غريزة الإنسان في حب التملك وحب البقاء، وحب تطوير وسائل الرفاه والمتعة كل ذلك كفيل بأن يدفع الإنسان إلى السعي في ذلك.

بينما أمور العبادات والتوجه إلى الطاعات والقربات لا تدفعها إليها الغريزة فكانت الآيات الكثيرة تقررها وتأمر بها.

ومثل ذلك الحقوق المتبادلة بين الوالدين والأولاد.

١ سنن ابن ماجه، كتاب الزهد: ٢/ ١٣٩٤، ومسند الإمام أحمد: ١/ ٣٠.

فالقرآن يقرر في آيات كثيرة وجوب الإحسان إلى الوالدين وخفض الجناح لهما، مثل قوله تعالى:

{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: ٢٣-٢٤] .

{وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ، وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: ١٤، ١٥] .

بينما الحديث عن حقوق الأولاد لا يأتي إلا لمامًا وعرضًا إما عند الحديث عن نعم الله سبحانه وتعالى على الإنسان {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل: ٧٢] وعند نهي الآباء عن ارتكاب الجرائم والفواحش {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: ١٥١] .

الحكمة في هذا التركيز على جانب والاقتصاد في جانب آخر -والله أعلم- هو أن رصيد الفطرة وغريزة الأبوة كافية لحمل الوالدين على العناية بالأولاد وإيفاء حقوقهم كاملة.

أما الإحسان إلى الوالدين فهو من الأمور التكليفية، حيث لا رصيد فطري دافع فكان التأكيد والاهتمام.

وهذا هو الشأن فيما نحن بصدده من قضية إثبات وجود الخالق، وقضية توحيد الخالق، فإن الإقرار بوجود خالق للكون، والاعتراف بوجود خالق للإنسان، وتوجيه العبادة إلى خالق الحياة، هذا أمر فطري في الإنسان وأمر جبلي لا يستطيع الفكاك منه، إن قضية الألوهية -الإقرار بوجود إله- مركوزة في الفطرة الإنسانية بحيث يستحيل اجتثاثها مهما بذلت من جهود لإزالتها، وإنما كل الذي يجري عليها.

هو تحريفها عن مسارها وظهورها في صورة مشوهة من الانحرافات العقدية مما سبب انحطاطًا في المستوى الخلقي للبشر ومسخًا للملكات والعواطف النبيلة التي ترقيها وتسمو بها عقيدة الألوهية الحقة. فليست القضية إذن بين إنسان يعبد أو لا يعبد -أو يقر بإله أو لا يقر- فالجميع يعبدون بأسلوب أو بآخر.

وإنما الفارق في المعبود: هل الإنسان يعبد الله سبحانه وتعالى المستحق للعبادة فيوحده ولا يتخذ معه ندًا ولا شريكًا، أو أن الإنسان يعبد غير الله من الآلهة التي لا واقع لها في الحقيقة، إن هي إلا أسماء سموها هم وآباؤهم.

فهنا حالتان:

حالة الهدى: فيعبد الناس الله وحده بلا شريك في مراحل البشرية جميعها.

{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: ٣٦] .

وحالة الضلالة: وتختلف فيها المعبودات من دون الله وتختلف باختلاف الزمان والمكان. لم تعد قضية الأولهية -من حيث إثبات الخالق- من النظريات التي يقام عليها برهان فإن الفطرة الإنسانية السليمة قد شهدت -بضرورة فطرتها، وبديهة فكرتها- بصانع قادر حكيم عليم {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: ٩] وإن هم غفلوا عن هذه الفطرة في السراء فلا شك أنهم يلوذون إليها في حالة الضراء {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان: ٣٢] .

يقول الشهرستاني في كتابه "نهاية الإقدام في علم الكلام" ١ تعقيبًا على إقرار الفطرة بوجود الخالق: "ولهذا لم يرد التكليف بمعرفة وجود الصانع وإنما ورد بمعرفة التوحيد ونفي الشرك" .

١ في ص ١٢٤.

ثالثًا: منهج القرآن في إثبات التوحيد منهج فطري


يعرض القرآن الكريم قضية التوحيد ويدعو الناس لتوحيد الله ونبذ الشركاء والأنداد ويقيم الحجج والبراهين على وحدانية الله تعالى، يسلك في كل ذلك المنهج الفطري من خلال المشاهدات المحسوسة البسيطة التي يتعامل معها الناس جميعًا على مختلف مستوياتهم العقلية وتباين مشاربهم الفكرية.

إن الكون المادي مكون من عناصر مادية بسيطة ومن هذه العناصر البسيطة تتولد أعقد الأشكال وأضخمها ابتداء من الذرة إلى مسارات الكواكب والأفلاك والمجرات.

وكذلك أمر العقيدة فمن المشاهدات الأولية البسيطة في حياة الناس يكون التوصل إلى الإيمان بخالق الكون ومدبره قيوم السماوات والأرض.

إن مخاطبة الناس بما يدركون، والاستدلال على القضايا بما يحسون وضرب الأمثال بما يفقهون، والاستدلال من خلالها على ما يعقلون، هو الأسلوب الفطري المؤثر الفعال في إيجاد القناعات لديهم وهي الطريقة المثلى لتحريك كوامن الفطرة السليمة واستجاشتها عندهم. إن الأعرابي عندما استدل على قضية عقلية "لا بد لكل حادث من محدث" توصل إلى هذه النتيجة من خلال مشاهداته المحسوسة: البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير أفسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج ألا تدل على السمع البصير؟؟ بلى. إنها الطريقة الفطرية في المحاجة والاستدلال فعندما يفتح العاقل عينيه يستفسر عن مشاهداته لما حوله من أوجد هذا؟ ولماذا كان على هذه الهيئة دون غيرها؟ وكيف يعمل هذا؟ وما مصير هذا؟ إن الأسئلة بسيطة، وفي نفس الوقت هي صعبة؟!

بسيطة في إثارتها، صعبة في الحصول على الإجابة المقنعة التي يطمئن لها القلب ويستسلم لها العقل.

والقرآن بدأ هذه البدايات المبسطة وتوصل إلى تلك النتائج الباهرة المقنعة من خلال إقامة البراهين. ولو ذهبنا نسوق الأمثلة على أسلوب القرآن الكريم الفطري في المحاجة والاستدلال لامتد بنا المجال، ولكن نستدل على ذلك من خلال آيات سورة الواقعة، فنتدبر قول الله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} هذه هي القضية التي يراد إثباتها والاستدلال عليها، وهي قضية: تفرد الله سبحانه وتعالى بالخلق والإيجاد وعدم وجود الشركاء له في ذلك فما هي الأدلة؟

{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ، نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ، أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ، لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ، لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ، نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: ٥٧-٧٤] .

يقول سيد قطب في تفسيره لهذه الآيات:

"وفيه تنجلي طريقة القرآن في مخاطبة الفطرة البشرية، وفي تناول الدلائل الإيمانية، وفي التلطف إلى النفوس في بساطة ويسر، وهو يتناول أكبر الحقائق في صورها القريبة الميسورة. إن هذا القرآن يجعل من مألوفات البشر وحوادثهم المكرورة قضايا كونية كبرى، يكشف فيها عن النواميس الإلهية في الوجود، وينشئ بها عقيدة ضخمة شاملة وتصورًا كاملًا لهذا الوجود. إن طريقة القرآن في مخاطبة الفطرة البشرية تدل بذاتها على مصدره، إنه المصدر الذي صدر منه الكون، فطريقة بنائه هي طريقة بناء الكون."

المشاهدات التي تدخل في تجارب كل إنسان: النسل، والزرع، والماء، والنار أي إنسان على ظهر هذه الأرض لم تدخل هذه المشاهدات في تجاربه؟ أي ساكن كهف لم يشهد نشأة حياة جنينية، ونشأة نبتة، ومسقط ماء، وموقد نار.

ومن هذه المشاهدات التي رآها كان إنسان ينشئ القرآن العقيدة، لأنه يخاطب كل إنسان في كل بيئة. وهذه المشاهدات البسيطة الساذجة هي بذاتها أضخم الحقائق الكونية وأعظم الأسرار الربانية. فهي في بساطتها تخاطب فطرة كل إنسان. وهي في حقيقتها موضوع دراسة أعلم العلماء إلى آخر الزمان "١."

١ في ظلال القرآن: ٦/ ٣٤٦٦ باختصار.

رابعًا: ربط قضايا العقيدة بمصالح العباد في حياتهم المعاشية

إن العقيدة النظرية المجردة مهما كانت مثالية النظرة إلى الأمور، ومهما كانت سليمة البراهين، قوية الحجج، تبقى عقيدة باهتة باردة في زاوية من زوايا العقل البشري غير فاعلة في النفس الإنسانية، لا تحرك المشاعر ولا تطلق الطاقات.

أما إذا كانت العقيدة متوغلة في النفس الإنسانية محركة للنوازع الفطرية فيها من الرغبة والرهبة تستجيش المشاعر وتثير العواطف، وتتدخل في حياة الإنسان اليومية وتربط مصالحه المباشرة بشئونها فلا شك أن عقيدة هذا شأنها تكون عقيدة فعالة محركة مسيطرة على تطلعات النفوس وعلى خلجات القلوب. وإذا تتبعنا أسس العقيدة الإسلامية من خلال عرض القرآن الكريم نجدها كلها لها أثر فعال في حياة الناس ومصالحهم في الحياة الدنيا، وعقيدة الألوهية بشكل خاص.

فأسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته العلى تنجلي فيها هذه المعاني فإن إلهًا من صفاته:

الخالق، الرزاق، المهيمن، العزيز، الجبار، المنتقم، الضار، النافع، ذو الجلال والإكرام، الغفور، الودود، الرحمن، الرحيم.

إنه إله يرهب جانبه، ويُتقى غضبه ونقمته، ويرغب إليه، ويسعى للحصول على رضاه.

وإله لا يملك ضرًا ولا نفعًا ليس إلهًا حقًا ولا جديرًا بالعبودية {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة: ٧٦] .

ولو تتبعنا آيات القرآن الكريم في شأن الألوهية، لوجدنا الدعوة الصريحة إلى

توحيد الإله الذي في قبضته مصائر الأمور، تحت سطوته مقادير الأرزاق فالكون الذي يحيط بالإنسان قد سخره الله سبحانه وتعالى لمصالح البشر.

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: ٣٢-٣٤] .

{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ، فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ، كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس: ٣١-٣٥] .

- والأرض وما فيها من مخزونات الطاقات والأقوات وما فيها من تناسق وانسجام وتوازن، كلها من صنع الواحد اللطيف الخبير مهيأة لمصالح عباده:

{الْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ، وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: ١٩-٢١] .

- والأنعام والبهائم التي تفوق الإنسان قوة وجلدًا، سلب الخالق سبحانه وتعالى منها الرغبة في المقاومة والتمرد وجعلها ذلولة فمنها يركب ومنها يأكل: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ

مَا لا تَعْلَمُونَ، وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [النحل: ٥-٩] .

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ، وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ، وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ، وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} [يس: ٧١-٧٤] .

وحيثما قلبنا النظر في أرجاء الكون الفسيح، وفي جنبات الأرض المترامية الأطراف، وتمعنا في عوالم الكائنات الحية من الدواب والطير والحشرات لوجدنا قضية التسخير لمصالح العباد تصادفنا في كل وجهة وفي كل مجال:

{وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ، وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ، وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: ٦٥-٦٩] .

ولو تتبعنا مادة "سخر" وكلمة "لكم" في القرآن الكريم لوجدنا العجائب من مجالات اهتمام القدرة الإلهية بمصالح عباده في هذا الكون.

خامسًا: مجالات الاستدلال على قضية الألوهية

لما كان تصور قضية الألوهية يعطي مدلولًا معينًا من حيث الخلق والتدبير والتسخير ودقة صنع العليم اللطيف الخبير.

فإن آيات القرآن الكريم تناولت في سياق الاستدلال على الوحدانية وما يستلزمها من صفات الجلال والجمال والكمال.

أ- تناولت الكون الفسيح لبيان عظمة الخالق جل جلاله، وسعة ملكه، ودقة علمه المحيط بكل شيء ولطفه ورحمته بمخلوقاته.

{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ، يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الحديد: ٤-٦] .

ب- وتناولت آيات الذكر الحكيم، في سياق الاستدلال على تفرد الخالق سبحانه وتعالى بالخلق والتكوين، تناولت الإنسان في خَلْقه، خُلُقه، فكره، غرائزه، وفطرته، استعدادته، وأحواله النفسية والسلوكية في ارتقائه وهبوطه وتعاليه واستفاله.

ولو ذهبنا نستعرض حديث القرآن الحكيم عن الإنسان لوقفنا مشدوهين من هذا العرض الجذاب المثير ولوقفنا على جلية الأمر في تفرد الإنسان بنوع من الاهتمام لا تحظى به المخلوقات الأخرى.

ففي خلقه وتكوينه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: ١٢-١٤] .

وفي خواصه واستعداده: {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْأِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: ١-٤] .

{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: ١-٥] .

{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: ٧٢-٧٣] .

يقول الشيخ جمال الدين القاسمي في كتابه "دلائل التوحيد" ١:

"ولما كانت معرفة العالم كله تصعب على الإنسان الواحد لقصور أفهام بعضهم عنها واشتغال بعضهم بالضرورات التي يعرفها منهم جعل تعالى لكل إنسان من نفسه وبدنه عالمًا صغيرًا أوجد فيه مثال ما هو موجود في العالم الكبير ليجري ذلك من العالم مجرى مختصر من كتاب بسيط يكون مع كل أحد نسخة يتأملها في الحضر والسفر والليل والنهار فإن نشط وتفرغ للتوسط في العلم نظر في الكتاب الكبير الذي هو العالم، فيطلع منه على الملكوت ليغزر علمه ويتسع فهمه وإلا فله مقنع بالمختصر الذي معه، ولذا قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُون} [الذاريات: ٢١] ."

جـ- كما تناولت الآيات القرآنية الحيوان، خلقه، غرائزه، وظيفته، تجمعه، وعمله.

١ انظر: ص٢٩.

إن حديث القرآن الكريم عن الحيوان هو حديث الخالق الذي خلق ما في الكون لغاية، وأسند إليه دورًا، وهداه إلى سبيل معيشته وتحصيل رزقه، وأسلوب التفاهم والمعايشة بين أفراده وجماعته.

إنها مخلوقات الله سبحانه وتعالى الذي لم يجعل في هذا الكون شيئًا مجردًا عن المنفعة أو مجردًا عن مهمة أو خلق عبثًا.

إن تجريد أي شيء من وظائف ومهمات يتنافى مع الحكمة العليا في الخلق.

ونكتفي بإشارات مقتضبة في عالم الحيوان، وقد مرت جملة من الآيات تتحدث عنها عند الحديث عن ربط أمور العقيدة بمصالح العباد في الحياة الدنيا.

ونشير هنا إلى جوانب لم تذكر هناك تتعلق بالحيوان:

{وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ، وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: ٣٧-٣٩] .

ولقد جاءت هذه الآيات الكريمة في سياق موقف المشركين من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم لا يكذبونه لأنهم لم يجربوا عليه كذبًا قط، ولكن الظالمين كانوا بآيات الله يجحدون فلا يؤمنون بالآيات الكريمة ولا بالدعوة التي أتى بها محمد صلى الله عليه وسلم ومع ما في ضمن هذا الكلام الذي قالوه من تناقض فكيف لا يجرب عليه كذب طيلة حياته، ثم يكذب أعظم كذبة على خالق السماوات والأرض إلا أنهم قالوها وارتضوها، والعقل المشترك يقبل مثل هذا التناقض ويستسيغه، طلبوه معجزات وخوارق على صحة ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فجاءت اللفتة إلى هذه الأمم التي تعيش بينهم من غير البشر إنهم لو تدبروا ما حولهم لاكتفوا بما يرون عن طلب الآيات، فإنهم ليسوا وحدهم في هذا الكون، بل حولهم أحياء أخرى كلها ذات أمر منتظم يوحي بالقصد والتدبر والحكمة، يوحي كذلك بوجود الخالق، ووحدة التدبير الذي يأخذ به خلقه كله.

إنه من دابة تدب على الأرض -وهذا يشمل كل الأحياء من حشرات وهوام وزواحف وفطريات وما من طائر يطير بجناحيه في الهواء- وهذا يشمل كل طائر من طير أو حشرة وغير ذلك من الكائنات الطائرات، ما من خلق حي في هذه الأرض كلها إلا وهو ينتظم في أمة، ذات خصائص واحدة، وذات طريقة في الحياة واحدة كذلك. شأنها في هذا شأن أمة الناس ما ترك الله شيئًا من خلق بدون تدبير يشمله، وعلم يحصيه، وفي النهاية تحشر الخلائق إلى ربها فيقضي في أمرها بما يشاء١.

إن هذه الكائنات الحية المبثوثة في جنبات الأرض آية بل آيات في الدلالة على خالقها ورازقها وهاديها إلى سبيل معايشها وإلى وظائفها.

ولكن العقول والقلوب الغافلة لا تنظر نظرة التدبر فيما حولها لتهتدي إلى مبدع هذه المخلوقات ومبدع أنظمة حياتها، بل تريد خارقة مادية كما أرسل الأولون يريدون إنزال كنز من السماء، أو إتيان الله والملائكة قبيلًا، أو تفجير الأنهار خلال ديارهم أو زحزحة الجبال عنهم، أو رقي النبي صلى الله عليه وسلم في السماء لإحضار كتاب من السماء يقرءونه وفيه أسماؤهم آمن يا فلان وآمن يا فلان.

أما القلوب المهتدية بنور الحق الباقية على فطرتها السليمة فإن مجرد لفت نظرها إلى ما حولها من الإبداع والانتظام كفيل لإشراق نور الإيمان فيها وتحريكها إلى الخير والصلاح والفلاح.

"د" ولا يقل اهتمام الآيات الكريمة في مجال الاستلال بالنبات وعالمه وشئونه عن عالم الإنسان والحيوان.

فهناك أيضًا الإبداع، وهناك النظام وأداء الدور الوظيفي في خضم هذه الحياة.

وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ

١ في ظلال القرآن لسيد قطب: ٢/ ١٠٨٠.

وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأنعام: ٩٩] .

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ، يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: ١٠، ١١] .

هذه أبرز المجالات التي تعرض القرآن الكريم من خلالها للاستدلال على الخالق سبحانه وتعالى، وهي المجالات الرئيسية في هذه الحياة الدنيا. 

أبرز أنواع الأدلة على توحيد الله جل جلاله في القرآن الكريم

مدخل

أبرز أنواع الأدلة على توحيد الله جل جلاله في القرآن الكريم

الحكمة في تنوع الأدلة وتعدد الأساليب القرآنية في عرضها:

تنوع الأساليب القرآنية في عرض الأدلة على أن هذا الكون مخلوق لخالق وإبراز الأدلة من خلال مختلف مجالاته، لحكمة عليا وهي مرعاة استعداد الإنسان وتنوع ثقافاته.

- فمن كان يهتم بعلم الفلك سيجد من الأدلة الكافية ما يقنعه أن لهذا الجانب الكوني خالقًا ولم يكن ليوجد صدفة.

- ومن كان يهتم بالطبيعة وعلوم طبقات الأرض فسيجد بغيته من الأدلة في آيات القرآن.

- ومن كان يهتم بعلم النبات فسيجد من الآيات ما يلفت النظر إلى دقة صنع الله سبحانه وتعالى في خلق النبات.

- أما الإنسان والمهتمون بتركيبه الجسماني وطاقاته المادية والمعنوية فهو عالم قائم بذاته.

ولعل هذا الأمر -والله أعلم- هي الحكمة الكامنة في الاستدلال على قضية الخلق في هذه المجالات وبهذه الوفرة من التنوع في الأدلة.

إلا أن أدلة الخلق والأبداع تصب بجملتها على إبطال قضية أزلية الكون والمخلوقات وتثبت تفرد الله سبحانه وتعالى في خلقها وإيجادها،وكذلك سائر أنواع الأدلة، وأدلة العناية تبرز جانبًا آخر وهو إبطال قضية الصدفة في السنن الكونية وطريقة عمل المخلوقات وأدائها ووظائفها.

إن هداية الإنسان إلى طريق الحق لا تكون دائمًا بجدوى الأدلة الصحيحة، وقوتها ووجاهتها. فكم من شخص قد أبدى وجاهة الأدلة التي يناقش بها، وإنه لا يجد وسيلة لدفعها أو ردها، ومع ذلك لا تستسلم نفسه ولا يخضع عقله وقلبه لما أفحم به، بل يبقى على كفره وإلحاده.

وربما صادفته حادثة معينة في حياته كانت سببًا لإيمانه والتزامه بدعوة الحق.

- لقد آمن بعض المشركين في صدر الإسلام لأسباب لا تحصى.

فمنهم من آمن لأنه اطلع من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم على جوانب مشرقة -وكل سيرته تشرق ضياء وحقًا عليه الصلاة والسلام- ما حمله على إعلان كلمة التوحيد وأن يشهد شهادة الحق، فقد قال أحدهم: لقد رأيت محمدًا لا يدعو إلى شيء إلا ويكون أول العاملين به، ولا ينهى عن شيء إلا ويكون أول المجتنبين له.

- وآمن بعضهم لما حدثه به رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشرق للإسلام وانتشار الأمن والطمأنينة في المجتمع الإسلامي، ووفرة المال بين الأيدي، وفتح البلاد المزدهرة "كمدائن فارس" على أيدي المسلمين -حادثة سراقة بن مالك١، وعدي بن حاتم٢.

أو بإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم له بأمر غيبي كما حدث لعمير بن وهب، عندما جاء لاغتيال رسول الله في المدينة بعد "بدر" وتحمل صفوان بن أمية ديونه وتكفل عياله، وقد جاء متظاهرًا بفداء ابنه "وهب" ٣.

- وآمن بعضهم لأن رسول صلى الله عليه وسلم يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.

- وآمن بعضهم لأنه عندما قتل أحد الصحابة، وفي لحظة لا يمكن أن يكون فيها المرء إلا صادقًا مع نفسه قال ذاك الصحابي: "فزت بها ورب الكعبة" ٤.

١ انظر: السيرة النبوية لابن هشام: ٢/ ٢٣٣.

٢ انظر تفصيل ذلك في: السيرة النبوية لابن هشام: ٤/ ٢١٢.

٣ السيرة النبوية لابن هشام: ٣/ ٧١.

٤ انظر ذلك في: ترجمة "جبار بن سلمى" في أسد الغابة لابن الأثير: ١/ ٣١٥.

- يذكر وحيد الدين خان في كتابه القيم "الإسلام يتحدى" حادثة مع أحد علماء الفلك البريطانيين فيقول: حادثة الدكتور عناية الله المشرقي "١٩٠٩م" مع الفلكي المشهور السير جيمس جينز الأستاذ بجامعة كمبردج عندما رآه يذهب إلى الكنيسة، والإنجيل تحت إبطه، ثم تواعدا على لقاء. وعندما اجتمعا تحدث عن تكوين الإجرام السماوية ونظامها المدهش، وأبعادها وفواصلها اللامتناهية، وطرقها، ومداراتها وجاذبيتها، وطوفان أنوارها المذهلة. حتى إنني شعرت -أي الدكتور عناية الله- بقلبي يهتز بهيبة الله وجلاله، وأما السير جيمس فوجدت شعر رأسه قائمًا والدموع تنهمر من عينيه، ويداه ترتعدان من خشية الله، وتوقف فجأة، ثم بدأ يقول: "يا عناية الله، عندما ألقي نظرة على روائع خلق الله يبدأ وجودي يرتعش من الجلال الإلهي وعندما أركع أمام الله وأقول له:" إنك لعظيم "أجد أن كل جزء من كياني يؤيدني في هذا الدعاء، وأشعر بسكون وسعادة عظيمين، وأحس بسعادة تفوق سعادة الآخرين ألف مرة. أفهمت، يا عناية الله لماذا أذهب إلى الكنيسة؟!"

يقول عناية الله: لقد أحدثت هذه المحاضرة طوفانًا في عقلي، وقلت له: "لقد تأثرت جدًا بالتفاصيل العلمية التي رويتموها لي، تذكرت بهذه المناسبة آية من آي كتابي المقدس فلو سمحتم لي بقراءتها عليكم، فهز رأسه قائلًا: بكل سرور. فقرأ عليه الآية التالية:"

{وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} ١.

فصرخ السير جيمس قائلًا:

ماذا قلت؟ إنما يخشى الله من عباده العلماء؟ مدهش! وغريب! وعجيب جدًا!!

إن الأمر الذي كشفت عنه دراسة ومشاهدة استمرت خمسين سنة، من أنبأ محمدًا به؟ هل هذه الآية موجودة في القرآن حقيقة؟ لو كان الأمر كذلك، فاكتب شهادة مني أن القرآن كتاب موحىً به من عند الله "٢."

١ فاطر: ٢٧-٢٨.

٢ الإسلام يتحدى: ٢١٠، ٢١١.

ورسوله الله صلى الله عليه وسلم الطبيب المداوي لأمراض القلوب وعلل النفوس كان يصنع لكل حالة مرضية علاجها بعد أن يشخص بنور النبوة الداء التي يعاني منه المريض.

وهذا التنوع هو المنهج القرآني الذي نلحظه في عرض أدلة التوحيد فقد شملت هذه الجولات جميع مجالات الآفاق، من فلك وطبيعة ومن جبال وبحار، وأنهار، وسحب وأعاصير ... كما شمل خلق الإنسان وأسرار تطوره ونشأته وأغوار نفسه واستعداداتها وأشواقها وأهواءها وشهواتها.

أولًا: أدلة الخلق والإبداع

جاءت أدلة الخلق والإبداع من خلال آيات القرآن الكريم على أوجه مختلفة للدلالة على توحيد الله سبحانه وتعالى وتفرده بالإيجاد، وتناولت مجالات الخلق المختلفة من أمور في الكون وفي الحياة والإنسان والنبات والظوارهر الجوية، تارة بالإجمال وتارة بالتفصيل، وبأساليب متنوعة من استفهام إلى حصر عن طريق النفي والإثبات وإلى إثارة تساؤلات وإلى لفت نظر في الكون المحيط لمعرفة البدء والنهاية والمصير.

ولعل الحكمة في تنوع هذه الأساليب في العرض أن يجد المرء في جميع أحواله النفسية والفكرية ما يلفت النظر للتدبر في آيات الخالق ووحدانيته.

ففي حالات يكون الإنسان مستغرقًا في التأمل في الكون الواسع الهائل بأجرامه وكواكبه ومساراتها وأفلاكها من غير أن يركز تفكيره على زاوية محددة معينة في هذا الكون فيجد من الآيات الكريمة ما تناولت هذا التعميم والشمول.

وفي بعض الحالات يكون شديد التأمل في زاوية من زوايا الكون أو في ظاهرة فلكية محددة فيجد القرآن الكريم قد أشار في مواطنه إلى مثل هذا التأمل.

وكثيرًا ما يلفت نظر الإنسان إلى أحد مخلوقات الله سبحانه وتعالى من الدواب والحشرات أو الطيور فيستغرق في التفكير بشأنها ونجد أن القرآن الكريم قد عرض مثل هذه الجوانب في المخلوقات ولفت النظر إلى دقة الخلق والصنع والإبداع فيها.

وهكذا في سائر مجالات الحياة والكون من البحار والأشجار والأنهار ... بل

قد يخطر على فكر الإنسان أمور مجردة كفكرة الخلق والإبداع نفسها أو التناسق والجمال في قضية الإبداع، وكل هذه الأمور قد عرضها القرآن بأساليب شتى.

وفيما يلي سنحاول أن نتعرف على جملة من الآيات القرآنية التي تناولت قضية الخلق والإبداع من جوانب مختلفة:

١- يثير القرآن الكريم أحيانًا قضية الخلق والإبداع بشكلها العام المجرد عن مخلوق محدد يثير ذهن الإنسان ويثير المحاكمة العقلية لديه فلنتأمل قول الله تعالى:

{أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: ١٦] .

إن العموم المأخوذ من {كُلِّ شَيْءٍ} يشمل أي مخلوق يمكن أن يخطر للإنسان، وللعقل البشري أن يتجول بين مخلوقات الله سبحانه وتعالى التي يمكنه أن يتصورها لتصلح مثالًا لوقوع فعل الخلق عليه وليكون نموذجًا لصنعة الله وإبداعه.

ويدخل في هذا العموم هؤلاء المعاندون وآلهتهم المزعومة فإنهم أشياء أيضًا قد خلقهم الله سبحانه وتعالى من العدم، فهل يستطيعون إقامة البرهان على أنهم أوجدوا أنفسهم أو أن غير الله سبحانه وتعالى خلقهم، بل الواحد القهار هو المتفرد بالخلق والإيجاد ومثل هذا الشمول نجده في قوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: ٢] ، وقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ، وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: ٤٩-٥٠] . وفي الآيتين الأخيرتين يضاف إلى الشمول أو العموم في الخلق قضية التقدير، فليس الخلق العشوائي بل الخلق القدر بمقادير معينة وأوصاف محددة قد أوجدها الله سبحانه تعالى وأبدعها لتؤدي دورًا معينًا ووظيفة معينة بين المخلوقات.

٢- ومن الآيات التي تتحدث عن الخلق والإبداع آيات تتحدث عن مجالات متعددة للخلق من غير أن تخصص جانبًا منها بالتفصيل والتركيز.

فآيات تتناول الكون والسماوات والأرض بشكل عام، وآيات أخرى تتناول عرض مخلوقات في الكون وظواهر كونية وإشارات إلى مخلوقات مختلفة، وكأن القصد من ذلك إثارة التساؤلات في الذهن حولها من الذي خلقها، ومن الذي صورها على هذا الشكل. فلنتدبر قول الله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ، هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [لقمان: ١٠-١١] .

إنها جولة تأملية في السماوات التي لا ترون لها عمدًا، والأرض المستقرة بسكانها من غير اضطراب. وهذه الدواب المبثوثة في جنباتها، تعيش حسب طرائقها الخاصة في معايشها وأسلوب تعاملها ودفاعها عن نفسها ثم هذا الماء الذي جعل منه كل شيء حي، كلها مخلوقات تسبح خالقها وتوحده، فأروني مخلوقات للشركاء المزعومين؟!

- وفي آية فاطر ألوان وأصباغ أخرى من هذه المخلوقات البديعة تثير الدهشة للمتأمل فيها! {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: ٢٧-٢٨] .

إن في كل نوع من هذه الأنواع ألوانًا مختلفة المذاق فالثمرات التي تسقى أشجارها بماء واحد، وتتغذى بتربة واحدة تخرج مختلفة الألوان والحجوم والطعوم.

والجبال هذه المخلوقات الضخمة على الرغم من أنها من مادة الأرض ومعادنها، ودورها واحد في ترسية الأرض وحفظ توازنها، مختلفة السلاسل والطرق والأصباغ فمن بيضاء ناصعة البياض ومن حمراء قانية الاحمرار، ومن سوداء حالكة السواد، ومنها الهشة والصلبة والمشتملة على زبر الحديد والنحاس وعروق الذهب والفضة.

أما الاختلاف الأشد والتنوع الأكثر ففي عالم الأحياء فالناس مختلفو الأطوال

ضخامتها في علم الأحياء عن الحقيقة الأولى.

وقد أصبح من بدهيات العلم الحديث البحث عن الحياة يوجد الماء، ليس على الأرض وحدها بل في الكواكب الأخرى.

- والحقيقة الثالثة في هذه الآيات هي خلق الجبال وإسناد دور الإرسال وحفظ التوازن للأرض بواسطتها، وقد أصبح هذا الدور للجبال من مسلمات العلم الحديث وتشبيه الجبال في آيات أخرى بالأوتاد من أدق التشبيهات واقعًا ووظيفة.

إننا نكتفي بالإشارات هنا، لأننا لسنا بصدد ذكر الحقائق التفصيلية التي توصل إليها العلم الحديث، وهي تلقي أمثلة تطبيقية تفصيلية على هذه الحقائق العامة الضخمة.

- ومما يلقي أضواء على هذه الحقائق ما ورد في سورة فصلت في قوله تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ، فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت: ٩-١٢] .

- وفي مجال الإنسان.

إن الآيات القرآنية التي تتحدث عن الإنسان من الوفرة بحيث لم تدع شأنًا من شئونه ولا حالة من حالاته إلا وتطرقت إليه فمن خلقه وتكوينه في أطواره المختلفة إلى كونه جنينًا. وعناية الله سبحانه وتعالى به، ثم بيان شأن طفولته، ورضاعه وفطامه ومشاعره وعواطفه، وهدايته وأحواله الفطرية وتطلعاته وآماله، اهتداء وانحرافًا ومصيرًا ومآلًا ثم حال الموت والبرزج والبعث إلى أن يستقر في المقر النهائي.

وفي أسلوب عرض الأدلة المتعلقة بالإنسان نلحظ ذات الأسلوب الذي عرضت به الآيات في الكون من إشارات عامة إلى خلق الإنسان إلى تفصيل في خلقه وأطواره إلى ذكر جزئيات في بعض أوصافه وأحواله:

١- فمن الآيات العامة التي أشارت إلى خلق الإنسان وتفرد الله سبحانه وتعالى بهذا الخلق قوله تعالى: {خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن: ١٤] .

- وفي آيات أخرى أشار إلى طور آخر من خلقه: مثل قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: ١-٢] .

- وقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: ٥-٧] .

- وقوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ، أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة: ٥٧-٥٩] .

- وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس: ٧٧] .

- وقوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: ١-٢] .

٢- وإلى جانب الإشارة إلى خلق الإنسان العام، وإلى بعض المراحل في خلقه، نجد الآيات الأخرى قد ربطت بين هذه المراحل وفصلت خلقه تفصيلًا، مما يبرز جانب الإبداع ويثير التأمل في الحكمة الإلهية في خلق الإنسان وتكوينه، ليصل الإنسان من خلال تدبره في خلقه وتكوينه وأطوار حياته إلى وحدانية الخالق سبحانه وتعالى وتفرده في خلق هذا الكائن الغريب في خلقته واستعداداته. فلنتدبر قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ، وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ، وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: ٢٦-٢٩] .

وقوله تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ

السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [السجدة: ٧-٩] .

وكل هذه الآيات التي تشير إلى مرحلة أو أكثر من مراحل تكوين الإنسان، ترد في سياق الحديث عن إثبات أمر الألوهية والتوحيد وكثيرًا ما يربط بين هذا الخلق في هذا الطور وبين قضية الإعادة بعد الموت المشابهة للخلق من النطفة -البذرة- بقضية الإنبات من عجب الذنب يوم القيامة كما صحت بذلك الأحاديث١.

تعقيب على أدلة الخلق والإبداع:

لقد تحطمت شبهات الملاحدة القديمة والحديثة فأصبحت خاوية على عروشها بعد أن ألقي عليها قذائف الحق الإلهي.

وكلما حاول أهل الباطل أن ينفخوا الروح في بقايا الأشلاء المتناثرة من نظرية الصدفة، أو قدم العالم المادي، برزت جوانب من الحقائق القرآنية -وربما على أيدي غير المسلمين وبخاصة على أيدي العلماء التجريبيين- لتزهق الباطل مرة أخرى.

ولنسمع من أقوال بعضهم ما يلقي أضواء على ما توصولوا إليه من حقائق علمية تثبت حدوث العالم المادي وتبرهن على وجود نهاية له.

اكتشف علماء القرن التاسع عشر الميلادي ما يسمى بقانون الطاقة الحرارية والطاقة المتاحة.

وملخص هذا القانون يفيد أن: الحرارة تنتقل دائمًا من "وجود حراري" إلى "عدم حراري" ، والعكس غير ممكن، وهو أن تنتقل دائمًا هذه الحرارة من "وجود حراري قليل" أو "وجود حراري عدم" إلى "وجود حراري أكثر" فإن ضابط التغير هو التناسب بين "الطاقة المتاحة" و "الطاقة غير المتاحة" .

وبناء على هذا الكشف العلمي فإن الطاقة الحرارية للكون في تناقص مستمر

١ في الصحيحين من حديث أبي هريرة: "ويبلى كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه فيه يركب الخلق" .

انظر: صحيح البخاري، كتاب التفسير: ٦/ ٣٤، وصحيح مسلم، كتاب الفتن: ٨/ ٢١٠.

وكفاءة عمل الكون في تناقص مضطرد، ولا بد من وقت تتساوى فيه حرارة جميع الموجودات، وحينذاك لا تبقى أية طاقة مفيدة للحياة والعمل، وسيترتب على ذلك أن تنتهي العمليات الكيميائية والطبيعية وتنتهي -تلقائيًا- مع هذه النتيجة "الحياة" .

هذا إذا استمر النظام في الكون من غير تدخل ووضع نهاية لسيره في الدنيا وانطلاقًا من هذا الحقيقية المتقدمة، يثبت قطعًا أن الكون ليس بأزلي.

يقول "إدوارد لوثركسيو" وهو متخصص في علم الحيوان: وهكذا أثبتت البحوث العلمية "دون قصد" أن لهذا الكون بداية، فأثبتت تلقائيًا وجود الإله لأن كل شيء ذي بداية لا يمكن أن يبتدئ بذاته، ولا بد أن يحتاج إلى الخالق.

- والاكتشاف العلمي حول سعة الكون -أو توسعه المستمر- يدل من جانب آخر على أن هذا الكون يتوسع بشكل مذهل وبسرعة لا تتصور، ولا بد أن هذا التوسع كان ابتداء من بداية حركتها قوة معينة وحسب نظام معين، وأن هذا التوسع لا بد أن يصل إلى مداه النهائي، ثم يعود الكون مرة أخرى للتقلص بعد انعدام القوة الدافعة لهذا التوسع، وعندئذ سيؤدي إلى ارتباط الأجرام السماوية وتجمعها في نقطة المركز.

إن كونًا هذا شأنه في التمدد والتوسع، ثم مآله إلى الانكماش والتقلص لا بد أن تكون قدرة الخالق هي التي كانت وراء البداء وإلى الله المنتهى، فلا يمكن للعدم أن يوجد بداية ونهاية لشيء.

ولو ذهبنا نستعرض الآيات التي تحدثت عن الحيوان والنبات، وذكرنا الحقائق العلمية التي توصل إليها العلم الحديث لاستغرق منا وقتًا طويلًا، ولخرج بنا عن الشرح الإجمالي لبيان أدلة الخلق والإبداع التي ذكرها القرآن الكريم عن تفرد الله سبحانه وتعالى في هذا الخلق والإبداع لا شريك له {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف: ٥١] .

نيًاثا: أدلة العناية

من الأدلة التي يسوقها القرآن الكريم على وجدانية الله سبحانه وتعالى ما يطلق عليه العلماء أدلة العناية، ويقصدون بالعناية: وجود النظام الدقيقي في شئون الكون, والسنن الموضوعة فيه لتحقيق أمرين أساسين فيه:

- استمراره وفق الحالة التي خلقها الله سبحانه وتعالى.

- أداؤه الدور المنوط به والوظائف التي يؤديها على الوجه الذي سخره الله سبحانه وتعالى له.

فإن المعارف البشرية كلما ازدادت تقدمًا وإحاطة ودقة تتعرف على أسرار هذا الكون ونواميسه، وتتكشف أمامها دقة التقدير والصنع والنظام المحكم الذي تجري شئون الكون بموجبه.

والإنسان يدرك أن النظام دليل على وجود منظم، ولا يمكن أن يقع صدفة أو اتفاقًا.

كما يعلم في قرارة نفسه أن هذا النظام ليس من صنع أحد من البشر فالبشر أنفسهم يخضعون لهذه الأنظمة ولا يمكنهم الخروج عليها.

كما أن الآلهة المزعومة أعجز من أن ترعى شئون نفسها وتضع لحياتها نظامًا مستقلًا عن نظام الكون العام. وبالتالي فهي أعجز عن تدبير شئون عبادها.

إن الملايين من الأمثلة يمكن أن تساق على وجود هذه الرعاية والعناية بالمخلوقات فلو انعدمت هذه الرعاية لحظة واحدة لكان مصير الكون الفناء والعدم، ولاختلت التوازنات في كل المجالات.

إن العناية الربانية تحوطه وترعاه {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة: ٢٥٥] .

عرض أدلة العناية:

وأسلوب القرآن الكريم في عرض أدلة العناية يتشابه مع أسلوبه في عرض أدلة الخلق والإبداع وكثيرًا ما تقترن أدلة العناية بأدلة الخلق والإبداع١.

فآيات كثيرة تشير إلى العناية الربانية بمخلوقاته بشكل عام من غير تفصيل لأوجه العناية ومن غير تعيين للمجالات التي تشملها العناية الإلهية.

ويرد هذا التعميم مرفقًا ببعض الألفاظ مثل "قدر، جعل، سخر، صنع" .

إن التقدير والإتقان والنظام في هذا الكون شامل لجميع مخلوقات الله والقدرة المنظمة لشئونه هي قدرة الله الواحد الأحد، فنظام الكون كله يدل على الإله الواحد {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل: ٨٨] .

وتحدد آيات كثيرة مجالات عامة في الكون، والإنسان، والحيوان والنبات للفت النظر إلى المجالات التي تشملها العناية الإلهية. فخذ مثلًا قوله تعالى في سورة إبراهيم:

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: ٣٢-٣٤] .

ومن المجالات الأساسية التي لها تعلق بالحياة اليومية للبشر ما ورد في آيات سورة النحل:

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا

١ وتعتبر سورة النحل من أجمع السور لذكر النعم التي تصلح أن تكون أدلة على العناية الربانية بمخلوقاته.

تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [النحل: ٨٠-٨١] .

وتفصل كثير من الآيات أمورًا دقيقية تبرز فيها عناية الخالق سبحانه وتعالى ولطفه ورحمته وحكمته في هذه الجزئيات الدقيقة.

ففي مجال الكون الفسيح:

{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء: ١٢] .

{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ، وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: ٣٧-٤٠] .

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا، إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: ٤٠ -٤١] .

النجوم:

قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام: ٩٧] .

ووضع النجوم ومساراتها وأنظمة عملها في الكون بهذا الشكل الدقيق المدهش، كل ذلك دليل على وجود الخالق ووحدانيته وحكمته وقدرته.

ولقد أقسم الباري سبحانه وتعالى بمواقعها فقال: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: ٧٥-٧٦] .

ونعلم أن بعضها يهتدي بمكانها على الجهة أو بطلوعها على دخول موسم معين من فصول السنة، فإن الأمر أعقد من ذلك بكثير بالنسبة لأهل الاختصاص يقول بعضهم: "فإذا رفعنا أعينا إلى السماء فلا بد وأن يستولي عليها العجب من كثرة ما تشاهده فيها من النجوم والكواكب السابحة فيها، والتي تتبع نظامًا دقيقًا، لا تحيد عنه قيد أنملة مهما مرت بها الليالي وتعاقبت عليها الفصول والأعوام والقرون، إنها تدور في أفلاكها بنظام يمكننا من التنبوء بما يحدث من الكسوف والخسوف قبل وقوعه بقرون، فهل يظن أحد بعد ذلك أن هذه الكواكب والنجوم قد لا تكون أكثر من تجمعات عشواية من المادة تتخبط على غير هدى في الفضاء وإذا لم يكن لها نظام ثابت ولم تكن تتبع قوانين معينة فهل كان من الممكن أن يثق الإنسان بها ويهتدي بهديها في خضم البحار الواسعة وفي متاهات الطرق الجوية التي تتبعها الطائرات، قد لا يسلم بعض الناس بوجود الله سبحانه وبقدرته ومع ذلك فإنهم يسلمون بأن هذه الأجرام السماوية تخضع لقوانين خاصة وتتبع نظامًا معينًا، وأنها ليست حرة تتخبط في السماء كيف تشاء."

الحق أنه من قطرة الماء التي رأيناها تحت المجهر إلى تلك النجوم التي شاهدناها خلال المنظار المكبر، لا يسع الإنسان إلا أن يمجد ذلك النظام الرائع، وتلك الدقة البالغة، والقوانين التي تعبر عن تماثل السلوك وتجانسه "١."

الخلق والتقدير:

{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: ٢] .

قدر حجمه وشكله، وقد وظيفته وعمله، وقدر زمانه ومكانه، وقدر تناسقه مع غيره من أفراد هذا الوجود الكبير.

إن تركيب هذا الكون وتركيب كل شيء فيه لمما يدعو إلى الدهشة حقًا، وينفي فكرة المصادفة نفيًا باتًا، ويظهر التقدير الدقيق الذي يعجز البشر عن تتبع مظاهره وفي جانب واحد من جوانب هذا الكون الكبير. وكلما تقدم العلم البشري

١ الله يتجلى في عصر العلم: ١٤١، ١٤٢.

فكشف عن بعض جوانب التناسق العجيب في قوانين الكون ونسبه ومفرداته اتسع تصور البشر لمعنى ذلك النص القرآني الهائل: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} يقول أ. كريس موريسون رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك في كتابه بعنوان "الإنسان لا يقوم وحده" : "ومما يدعو إلى الدهشة أن يكون تنظيم الطبيعة على هذا الشكل، بالغًا هذه الدقة الفائقة، لأنه لو كانت قشرة الأرض أسمك مما هي بمقدار بضعة أقدام، لامتص ثاني أكسيد الكربون الأكسجين، ولما أمكن وجود حياة البنات."

ولو كان الهواء أرفع كثيرًا مما هو فإن بعض الشهب التي تحترق الآن بالملايين في الهواء الخارجي كانت تضرب جميع أجزاء الكرة الأرضية، وهي تسير بسرعة تتراوح بين ستة أميال وأربعين ميلًا في الثانية، وكان في إمكانها أن تشعل كل شيء قابل للاحتراق، ولو كانت تسير ببطء رصاصة البندقية لارتطمت كلها بالأرض، ولكانت العاقبة مورعة، وأما الإنسان فإن اصطدامه بشهاب ضئيل يسير بسرعة تفوق سرعة الرصاصة تسعين مرة كان يمزقه إربًا من مجرد حرارة مروره.

إن الهواء سميك بالقدر اللازم بالضبط لمرور الأشعة ذات التأثير الكيمائي التي يحتاج إليها الزرع والتي تقتل الجراثيم وتنتج الفيتامينات، دون أن تضر بالإنسان إلا إذا عرض نفسه لها مدة أطول من اللازم، وعلى الرغم من الانبعاثات الغازية من الأرض طول الدهر -ومعظمها سام- فإن الهواء باق دون تلويث في الواقع، ودون تغيير في نسبته المتوازنة اللازمة لوجود الإنسان. وعجلة الموازنة العظيمة هي تلك الكتلة الفسيحة من الماء -أي المحيط- الذي استمدت منه الحياة والغذاء والمطر والمناخ المعتدل والنباتات وأخيرًا الإنسان نفسه "١."

وهكذا ينكشف للعلم البشري يومًا بعد يوم، شيء من تقدير الله العجيب في الخلق، وتدبيره الدقيق في الكون، ويدرك البشر شيئًا من مدلولات قوله في الفرقان الذي نزله على عبده: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} ومع هذا فإن أولئك المشركين لم يدركوا شيئًا من هذا كله. وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا

١ الإنسان لا يقوم وحده، وقد ترجم بعنوان "العلم يدعو إلى الإيمان" : ٦٦.

وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا [الفرقان: ٣] .

وهكذا فإن آلهتهم مجردة من كل حقائق الألوهية، وهي مخلوقة يصنعها عبادها إن كانت أصنامًا أو أوثانًا ويخلقهم الله بمعنى يوجدهم -إن كانوا ملائكة أو جنًا أو بشرًا أو شجرًا أو حجرًا ولا يملكون لأنفسهم فضلًا عن أن يملكوا لعبادهم "ضرًا ولا نفعًا" والذي لا يملك لنفسه النفع قد يسهل عليه الضر، ولكن حتى هذا لا يملكونه- ومن ثم يقدم في التعبير بوصفه أيسر شيء كان يملكه أحد لنفسه، ثم يرتقي إلى الخصائص التي لا يقدر عليها إلا الله {وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} فلا إماتة حي، ولا إنشاء حياة ولا إعادتها داخل في مقدورهم، فماذا بعد ذلك من خصائص الألوهية، وما شبهة أولئك المشركين في اتخاذهم آلهة؟ ألا إنه الانحراف المطلق.

ومن الآيات الجامعة ذات الدلالة على العناية الربانية بخلقه وتدبير أمرهم.

قوله تعالى:

{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ، وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: ١٩-٢١] .

يقول سيد قطب: "والآية الكونية هنا تتجاوز الآفاق إلى الأنفس، فهذه الأرض المحدودة للنظر والخطو وهذه الرواسي الملقاة على الأرض، تصاحبها الإشارة إلى النبت الموزون، ومنه إلى المعاش التي جعلها الله للناس في هذه الأرض، وهي الأرزاق المؤهلة للعيش والحياة فيها وهي كثيرة شتى يجملها السياق هنا ويبهمها لتلقي ظل الفخامة."

هذه الأرزاق -ككل شيء- مقدرة في علم الله تابعة لأمره ومشيئته، يصرفها حيث يشاء وكما يريد في الوقت الذي يريده حسب سنته التي ارتضاها، وأجراها في الناس والأرزاق.

فما من مخلوق يقدر على شيء أو يملك شيئًا إنما خزائن كل شيء -مصادره

وموارده- عند الله في علاه ينزله على الخلق في عوالمهم بقدر معلوم فليس من شيء ينزل جزافًا وليس من شيء يتم اعتباطًا ومدلول هذا النص المحكم يتجلى بوضوح أكثر كلما تقدم الإنسان في المعرفة، وكلما اهتدى إلى أسرار تركيب هذا الكون وتكوينه، ومدلول خزائنه يتجلى في صورة أقرب بعدما كشف الإنسان طبيعة العناصر التي يتألف منها الكون المادي وطبيعة تركيبها وتحليلها -إلى حد ما- وعرف مثلًا أن خزائن الماء الأساسية هي ذرات الأيدروجين والأكسجين، وأن من خزائن الرزق المتمثل في النبات الأخضر كله ذلك الآزوت الذي في الهواء، وذلك الكربون وذلك الأكسجين المركب من ثاني أكسيد الكربون، وتلك الأشعة التي ترسل بها الشمس أيضًا، ومثل هذا كثير يوضح دلالة خزائن الله التي توصل الإنسان إلى معرفة شيء منها. وهو شيء على كثرته قليل قليل "١."

ولعل من أعظم الأشياء التي أنزلها الله سبحانه وتعالى من خزائنه في عصرنا الحاضر، وتلعب دورًا أساسيًا في حياتنا اليوم أمور الطاقة المختلفة: الكهرباء، الأشعة السينية، الطاقة النووية، أشعة الليزر.

وخزائن الله سبحانه وتعالى ملأى بالأسرر لا ينقصها عطاء الليل والنهار {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} . فهل يوجد عاقل يحترم عقله ويقول إن الكون وجد صدفة بهذا النظام وتشكلت نواميسه وسننه اتفاقًا؟ قال بعضهم عن القول إن نظام الكون وجد صدفة: "إن القول بأن الحياة وجدت نتيجة" حادث اتفاقي "شبيه في مغزاه بأن نتوقع إعداد معجم ضخم نتيجة انفجار صدفي يقع في مطبعة٢."

يقول كريسي موريسون:

لو تناولت عشرة دراهم، وكتبت عليها الأعداد من ١ إلى ١٠ ثم رميتها في جيبك وخلطتها جيدًا ثم حاولت أن تخرجها من الواحد إلى العاشر بالترتيب العددي، بحيث تلقي كل درهم في جيبك بعد تناوله مرة أخرى، فإمكان أن تتناول

١ في ظلال القرآن: ٤/ ٢١٣٤.

٢ الإسلام يتحدى لوحيد الدين خان: ٩٩.

الدرهم المكتوب عليه "٢" في المحاولة الولى هو واحد على عشرة، وإمكان أن تتناول الدرهمين "ا، ٢" بالترتيب واحد في المائة، وإمكان أن تخرج "١، ٢، ٣، ٤" بالترتيب هو واحد في العشرة آلاف. حتى إن الإمكان في أن تنجح في تناول الدراهم من ١ إلى ١٠ بالترتيب واحد في العشرة بلايين من المحاولات.

إن الهدف من إثارة مسألة بسيطة كهذه، ليس إلا أن نوضح كيف تنعقد "الوقائع" بنسبة كبيرة جدًا في مقابل الصدفة.

نقل الشيخ جمال الدين القاسمي عن الحكيم بن رشد في مناهج الأدلة قوله:

"الذي قصده الشرع في معرفة العالم هو أنه مصنوع لله تبارك وتعالى ومخترع له، وأنه لم يوجد عن الاتفاق وعن نفسه، فالطريق التي سلك الشرع بالناس في تقرير هذا الأصل هي من الطرق البسيطة المعترف بها عند الجميع، وذلك أنه إذا تؤملت الآيات التي تضمنت هذا المعنى وجدت أن أقرب تلك الطرق طريق العناية، وهي إحدى الطرق الدالة على وجود الخالق تعالى. وذلك أنه كما أن الإنسان إذا نظر إلى شيء محسوس، فرآه قد وضع بشكل ما وقدر ما، ووضع ما موافق في جميع ذلك للمنفعة الموجودة في ذلك الشيء المحسوس والغاية المطلوبة، حتى يعترف أنه لو وجد بغير ذلك الشكل، أو بغير ذلك الوضع، أو بغير ذلك القدر، لم توجد فيه تلك المنفعة، علم على القطع، أن لذلك الشيء صانعًا صنعه ولذلك وافقه شكله ووضعه وقدره تلك المنفعة، وأنه ليس يمكن أن تكون موافقة اجتماع تلك الأشياء لوجود المنفعة بالاتفاق" . كذلك الأمر في العالم كله فإنه إذا نظر الإنسان إلى ما فيه من الشمس والقمر، وسائر الكواكب التي هي سبب الأزمنة الأربعة وسبب الليل والنهار، وسبب الأمطار والمياه والرياح وسبب عمارة أجزاء الأرض؛ ووجود الناس وسائر الكائنات من الحيوانات والنبات وكون الأرض موافقة لمسكن الناس فيها وسائر الحيوانات البرية١، وكذلك الماء موافقًا للحيوانات

١ نقلت الصحف أن لباس رائد الفضاء الواحد يكلف مائة ألف دولار.

المائية والهواء للحيوانات الطائرة١، وأنه لو اختل شيء من هذه الخلقة أو البنية لاختل وجود المخلوقات التي ههنا، علم على القطع أنه ليس يمكن أن تكون هذه الموافقة التي في جميع أجزاء العالم للإنسان والحيوان والبنات بالاتفاق، بل ذلك من قاصد قصده ومريد أراده، وهو الله عز وجل. وعلم الله على القطع أن العالم مصنوع.

في مجال الإنسان والنفس الإنسانية:

- والعناية الإلهية في مجال الإنسان لا يحيط بها عد ولا تدخل تحت الحصر، فإن الشكل الظاهري والجمال والتناسق في أعضائه لا يضاهيه جمال. {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: ٤] .

- وملكة البيان التي يستطيع بواسطتها التعبير عما يريد وما يختلج في نفسه من معان وعواطف ومشاعر، ميزة فريدة للإنسان من بين سائر المخلوقات. {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْأِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: ١-٤] .

- وطاقاته وقدراته العقلية والنفسية والروحية لأخذ المواقف المتعددة تجاه الحادث الواحد وتساميه في عواطفه وأشواقه الروحية وخضوعه وتضرعه، أو طغيانه وجبروته، كل ذلك من مزايا هذا الإنسان وقدراته التي أودعها الله سبحانه وتعالى فيها: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: ٣] .

- وجعل له زوجًا يسكن إليها ملأ فراغ نفسه بالبنين والبنات والأحفاد الذين يرى في وجودهم استمرارًا لحياته وتجديدًا لشبابه.

١ لقد قام في العصر الحديث علم خاص للإفادة من تصميم المخلوقات وطريقة عملها، للقياس عليها في الصناعات. فالطائرات مستمدة من شكل الطيور وطريقة طيرانها {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} [الملك: ١٩] . والغواصة مستمدة من شكل الحيتان، والرادار من شكل الوطواط، والكاميرا من العين، وهيكل الماكنات من طريقة عمل جسم الإنسان الميكانيكية، والكمبيوتر من الدماغ إلا أن الصناعات الإنسانية بدائية جدًا.

{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ، وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ} [النحل: ٧٢، ٧٣] .

والعناية الربانية بالإنسان -وهو أكرم مخلوق على الله- أعظم من أن تدخل تحت الحصر، وقد عرضت الآيات القرآنية مجالات هذه العناية مرافقة لمسيرة الحياة الإنسانية، في حال النطفة إلى كونه جنينًا إلى طفل يحبو ثم شاب يكتمل، إلى كهل بلغ أشده إلى شيخ عاد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئًا أو قضى نحبه وقد حفظ له سمعه وبصره فصان كبره. لم يحظ مخلوق بالعناية الربانية كما حظي بها الإنسان ولا غرابة فالقرآن كتاب الهداية للإنسان والمحور الذي تدور عليه آيات القرآن هو الإنسان الذي جعله الله خليفة في الأرض وسخر له ما في السماوات والأرض لذا أفرد بعض المؤلفين كتابًا تحت عنوان: "الإنسان في القرآن" .

ونكتفي في هذه العجالة بما ذكرنا، وإن كان في العمر فسحة لعلنا نعود إلى موضوع "الإنسان والعناية الربانية" مرة أخرى.

في مجال الحيوان:

لقد ذكر الله سبحانه وتعالى أصنافًا من الحيوانات التي سخرها لخدمة الإنسان لحمل الأعباء عنه، ومصدرًا للغذاء، واللبس وسائر أنواع الانتفاع.

فمما جاء في بهيمة الأنعام قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ، وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل: ٦٦-٦٧] ١.

١ تذكير الضمير في {بُطُونِهِ} لمراعاة جانب اللفظ فإنه اسم جمع وتأنيث الضمير في سورة "المؤمنون" {بُطُونِهَا} لرعاية جانب المعنى ولكونها مجموعات.

{وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ، وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل: ٥-٩] ١.

- وجاء في لون آخر من الحيوان في قوله تعالى:

{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: ٦٨-٦٩] .

لقد خلق الله سبحانه وتعالى بهيمة الأنعام لمصالح عبادة وجعلها ذلولة مسخرة لقضاء شئونه الحياتية فعلى الرغم من أن هذه البهائم تملك من القوة الجسمية والعضلية أضعاف ما يملكه الإنسان إلا أن سنة التسخير قد سلبها المقاومة والتمرد على إرادة الإنسان وتدبيره وهذا ما يوجب أداء حق الشكر لله سبحانه وتعالى ولو ترك أمر تذليل هذه المخلوقات للإنسان لعجز عن تذليل ذبابة كما عجز من خلقها ولكنها المشيئة الإلهية وقدرته في الخلق والتذليل والتسخير

١ التعبير بـ {فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ} للإشعار بأن المنافع من دفء وحمل أثقال وجمال يحصل منها وهي باقية على حالها، لذلك جعلت محلًا لها وجاء التعبير بـ {فِيهَا} . أما الكل للإشارة أنها لا تبقى عند الأكل كما في السابق ولذلك جاء التعبير بـ {مِنْهَا تَأْكُلُونَ} وتقديم الجار والمجرور على متعلقه لبيان أن الأكل منها هو الأصل في الغذاء وهو المعتاد والمعتمد في المعاش، لأن الأكل مما عداها من الدجاج والبط وصيد البر والبحر من قبيل التفكه.

من أبي السعود بتصرف: ٣/ ٣٣٧.

وشبيه بهذا قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء: ٥] .

وقوله: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء: ٨] .

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ، وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ، وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ} [يس: ٧١-٧٣] .

يقول سيد قطب: "إنها هذه الأنعام التي خلقها الله لهم وملكهم إياها، وذللها لهم يركبونها ويأكلون منها ويشربون ألبانها وينتفعون بها منافع شتى وكل ذلك من قدرة الله وتدبيره، ومن إبداعه ما أودع من الخصائص في الناس والأنعام فجعلهم قادرين على تذليلها واستخدامها والانتفاع بها."

وحين ينظر الإنسان إلى الأمر بهذه العين وفي هذا الضوء الذي يشيعه القرآن الكريم فإنه يحس لتوه إنه مغمور بفيض من نعم الله، فيض يتمثل في كل شيء حوله وتصبح كل مرة يركب فيها دابة أو يأكل فيها قطعة لحم أو يشرب جرعة من لبن، أو يتناول قطعة من سمن أو جبن، أو يلبس ثوبًا من شعر أو صوف أو وبر.

لمسة وجدانية تشعر قلبه بوجود الخالق ورحمته ونعمته ويطرد هذا في كل ما تمس يده من أشياء حوله. وكل ما يستخدمونه في حي أو جامد في هذا الكون الكبير، وتعود حياته كلها تسبيحًا لله وحمدًا وعبادة آناء الليل وأطراف النهار "١."

وآية أخرى في الأنعام هي هذا النماء وهذه البركة فيها من بين سائر البهائم فمما لا شك فيه أن ملايين من هذه البهائم تذبح يوميًا ومع ذلك فإن العدد الباقي يبقى متوافرًا ملبيًا لحاجة الاستهلاك البشري، علمًا أن تكاثرها تم عن توالدها، مولود في كل بطن على الغالب، ومن القليل أن تأتي التوائم في الحمل الواحد.

ونظرة إلى غيرها من الحيوانات من الكلاب والقطط والذئاب وغيرها من السباع فعلى الرغم من أنها لا تتعرض لعلمية الذبح والإفناء المتعمد من قبل الإنسان.

كما إن ولادتها وتكاثرها في الغالب أن يأتي مجموعة من الصغار بين ٤-٧ في الحمل الواحد، مع ذلك نجد أنها ليست بالكثرة التي نرى فيها الأنعام من الغنم والبقر والإبل.

إنها حكمة الله سبحانه وتعالى في التقدير والتسخير وتوفير الأقوات.

١ في ظلال القرآن: ٥/ ٢٩٧٦.

أما وجوه الانتفاع الأخرى من حمل الأثقال، والانتفاع بالجلود والشعر وهذا المصنع الدقيق المنتج للألبان، فالحديث عنها يطول، ونكتفي بهذه الإشارات مما تقدم.

وفي النبات:

لقد أدهش أمر النبات العلماء ولا تزال العقول حائرة في فهم ألغاز النبات وطريقة نموه وغذائه وتكاثره، ولا تزال كثير من العمليات التي تقوم بها الوريقات الخضراء تعجز عنها كبريات المصانع والمعامل في العالم، إنه سر الحياة الذي خص الله سبحانه وتعالى به نفسه والذي يقف العلم أمامه مشدوهًا فاغرًا فاه.

يقول علماء النبات:

بالرغم من تقدم العلوم في شتى الميادين في الكيمياء والفيزياء والفضاء وعلوم الحيوان والنبات إلا أن هنالك بعض الأوليات التي يراها الإنسان في حياته ويلمسها من حوله لكنه عاجز عن فهمها حق الفهم، ومن هذه الأشياء قضية "التمثيل الضوئي" لم يستطع العلم بعد مئات السنين من التجارب والأبحاث، وبعد إنفاق الأموال الطائلة وبعد أن انقطع لهذه الأبحاث آلاف العلماء، لم يتمكنوا من الوصول إلى ما تقوم به ورقة خضراء في نبات حي.

فهذه الورقة تمتص أشعة الشمس وتخزنها وتبقي بها حياتها، وبالرغم من أن الإنسان يعتمد في حياته اعتمادًا كاملًا على الشمس التي تمده بالطاقة والتي تسبب كل مظاهر الحياة من حوله، والتي بدونها لا تقوم حياته، فهي أساس الحياة النامية في كل حقل وكل غابة وهي سبيل تكون الفحم والبترول وهي سبب المطر وأصل تساقط المياه. بالرغم من كل ذلك لم يستطع الإنسان أن يمتص أشعة الشمس ويخزنها لاستعماله في حاجته سواء كان هذا التخزين داخل جسمه كما تفعل الورقة الخضراء أو في مكان آخر، ويعترف العلم أن ذلك حلم صعب التحقيق إن لم يكن من المستحيل. يقول تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي

ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأنعام: ٩٩] .

ويقول جل جلاله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس: ٨٠] .

إن شأن عالم النبات كشأن عالم الإنسان والحيوان عالم قائم بذاته في طريقة نموه وتكاثره وازدهاره واضمحلاله، وكل ذلك حسب سنن قائمة خلقها الله سبحانه وتعالى فيه بعنايته وسخرها لمصالح الإنسان {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا، رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا، وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا، وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا، أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا، وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا، مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات: ٢٧-٣٣] .

وحيثما أجال الإنسان بصره رأى نعم الله تحيطه وعناية الله تكلؤه وآلاؤه تغمره {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ، أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا، فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا، وَعِنَبًا وَقَضْبًا، وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا، وَحَدَائِقَ غُلْبًا، وَفَاكِهَةً وَأَبًّا، مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: ٢٤-٣٢] .

إننا حيث أجلنا النظر في أنحاء الكون الفسيح، وفي أصناف المخلوقات نلمس العناية الربانية بهذه المخلوقات، وإبداع الصنعة فيها ودقة النظام والتناسق والانسجام مع وظيفتها التي وجدت من أجلها، ومع غيرها التي تشاركها في المهمة والمصير وكلها تمجد من شأن الخالق المهيمن المدبر وتسبحه.

{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: ٤٤] .

ثالثًا: أدلة الفطرة

ويقصد بأدلة الفطرة تلك الغرائز والإحساسات الأصلية في فطرة الإنسان التي تشده إلى تعظيم الخالق سبحانه وتعالى والالتجاء إليه.

ولو تركت الفطرة على سجيتها وأصالتها لاتجهت إلى خالقها ورازقها، إلا أن المؤتمرات التي تحيط بالإنسان في مراحل حياته الأولى تؤثر على مسار الفطرة وصفائها، وهذا ما يشير إليه الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما من مولد إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء" ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: ٣٠] ١.

وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى:" إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم "٢."

ولعل هذه الاستقامة والسلامة في الفطرة امتداد لذلك العهد الذي أخذ من الحشد من بني آدم: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: ١٧٢] .

وأبرز أدلة الفطرة ثلاثة:

١ رواه البخاري في كتاب الجنائز: ٢/ ٩٧؛ ومسلم في القدر: ٨/ ٥٢.

٢ صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة أهلها: ٨/ ١٥٩.

الدليل الأول: حالة الاضطرار

ومهما حاول الإنسان أن يطمس هذه الحقائق من فطرته، أو يحول بينها وبين الالتجاء إلى خالقها فإنه لن يجد إلى ذلك سبيلًا وبالأخص في أوقات الشدة والاضطرار:

{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ، مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم: ٣٠-٣٣] .

وقد أشار القرآن الكريم في جملة من الآيات الكريمة إلى هذه الحقيقة وجعلها دليلًا على توحيد الله سبحانه وتعالى نابعًا من أعماق النفس البشرية.

يقول الله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ، وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ، ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [النحل: ٥١-٥٤] ١.

إن من شأن الفطرة السليمة أن لا تغفل عن خالقها ورازقها في سائر أحوالها وأن تتوجه إليه بالدعاء والشكر رغبة ورهبة في عامة شئونها، إلا أن أهل الانحراف من شأنهم الإشراك بالله في السراء والالتجاء إليه وحده عند إصابتهم الضراء.

يقول تعالى في سورة يونس: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا

١ الواصب: الدايم. أي حق الإنسان أن يطيعه في جميع أحواله. مفردات الراغب: ٨٢٣. قال الفراء: "وله الدين واصبًا" : معناه دائمًا يقال: وصب يصيب: دام ويقال: خالصًا "معاني القرآن: ٢/ ١٠٤."

النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [يونس: ٢٢-٢٣] .

إن الشعور بالنقص في الإنسان، وعدم قدرته على توفير متطلباته العضوية، وإشباع ميولة الغريزية، تجعله يلتجئ بالضرورة إلى القوة القادرة التي تهيئ له هذه الحاجات وتشبع له هذه الغرائز.

يقول الإمام القزويني في سراج العقول:

"الدليل على أن معرفة الله واجبة كونها من الأمور التي تصل العقول إليها، فإن الإنسان إذا دهاه أمر وضاقت به المسالك، فلا بد أن يستند إلى إله يتأله له، ويتضرع نحوه ويلجأ إليه في كشف بلواه ويسمو قلبه صعودًا إلى السماء ويشخص ناظره إليها. فيستغيث خالقه وبارئه طبعًا وجبلة، لا تكلفًا وحيلة. وهي الفطرة المذكورة في القرآن والحديث ولكن أكثر الناس قد ذهلوا عن ذلك في حالة السراء، وإنما يردون إليه في الضراء. قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: ٦٧] ١."

إن في حالات الرخاء، أو حالات تلبية الحاجات من قبل المخلوقين قد تلقي ظلالًا من الغبش والرين على صفاء الفطرة، فينحرف بها صاحبها وتنكر وجود خالقها ورازقها والمتصرف في شئونها {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: ٦-٧] .

إلا أن هذا الغبش وهذا الران على الفطرة سرعان ما يزول وتعود الفطرة إلى صفائها وتلتجئ إلى خالقها عندما تنقطع عنها الأسباب، وتشعر بحالة من حالات الاضطرار التي لا يملك صاحبها معها التصرف، فعندئذ تظهر علامات الخشوع والخضوع والالتجاء إلى البارئ المصور فتخلص في هذا الالتجاء وفي هذا الدعاء. يقول تعالى:

قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ

١ نقلًا عن دلائل التوحيد للشيخ محمد جمال الدين القاسمي: ٢٤.

صَادِقِينَ، بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ [الأنعام: ٤٠-٤١] .

إن من سنة الله سبحانه وتعالى في حالات اللجوء إليه، وعند انقطاع الأمل من الأسباب ومن سائر المخلوقات أن يستجيب إن شاء الله لعباده الذين أخلصوا له الدين والتوجه بغض النظر عن سابق حالاتهم يقول تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: ٦٢] .

وما حدث لفرعون يمثل طغيان الإنسان وعنوه وجبروته في حالة الرخاء، وضعفه واستكانته وذلته عند الشدة وانعدام ما يتشبث به من أسباب النجاة ومقومات السلامة.

يقول تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: ٩٠] .

لقد أصبح من الموت قاب قوسين أو أدنى: وفقد أي أمل في النجاة من الغرق فاستسلم. ولكن سنة الله جرت في العالمين أن: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء: ١٨] .

لذا لم تنفعه توبته هذه وكان التعقيب القرآني على نهايته {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: ٩١] .

الدليل الثاني: تطلع الفطرة إلى الكمال

إن من الصفات الأساسية في الغريزة الإنسانية الميل إلى جانب الكمال والسعي إليه في جميع الصفات التي تتصف بها، وتهرب من النقص والاتصاف به.

ولكل صفة من هذه الصفات كمالها النسبي ويتمثل في الصفوة المختارة من البشر وهم أنبياء الله ورسله إلى البشرية. أما الكمال المطلق في كل الصفات فهو من شأن الخالق سبحانه وتعالى.

يقول الشيخ جمال الدين القاسمي:

"تبين في الحكمة المتعالية أن لكل موجود من الموجودات العقلية والنفسية والحسية والطبيعية كمالًا مقررًا. وعشقًا ركز في ذاته شوقًا غلى ذلك الكمال وحركة إلى تتميمه، فكل أحد عاشق للوجود طالب كمال الوجود، نافر عن العدم والنقص. وكل ناقص ينفر عن نقصه ويسعى إلى كماله ويتمسك به عند نيله فيكون كل شيء لا محالة عاشقًا لكماله لأنه مرجع الكل وغاية الكل. وحينئذ فجميع الموجودات متوجهة إلى الحق الأول توجهًا غريزيًا ونازعة إليه نزوع افتقار واحتياج."

يقول بعضهم في هذا المعنى: إن مما بنا من النقص الذاتي والضعف الجبلي يقودنا بحكم ناموس التضاد إلى القول بوجود مدبر كامل، فإنه كما أن لكل شيء ضدًا فالنور والظلام، والعدل والظلم، والموت والحياة، والعدم والحدوث، كل ذلك العلم المحدود يقابله العلم غير المحدود، والقدرة الناقصة تقابلها القدرة الكاملة، وبالجملة فنقص الآدمي وعجزه وشوقه لبلوغ أمانيه وسعيه وراء كمالات لا يدري غايتها ونقضه اليوم ما أبرمه بالأمس مما يبرهن على أن في الغيب قدرة قاهرة وكمالًا باهرًا تنتهي إليه الأماني، وتطمئن به القلوب "١."

الدليل الثالث: الأشواق الروحية

لقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان من مادة هذا الكون كما خلق منها الكائنات الحية الأخرى، إلا أن الإنسان امتاز عليها بنفخة الروح التي خص بها من بين سائر المخلوقات وإلى ذلك الإشارة في قوله تعالى:

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: ٢٨-٢٩] .

١ دلائل التوحيد للشيخ محمد جمال الدين القاسمي: ٥٥ باختصار.

ولكل من هذين الأصلين مظاهره، واحتياجاته، ونتائجه المترتبة عليه فمن مظاهر الأصل المادي الثقل إلى الأرض والأعراض الجسيمة من نمو واختلاف في البنية وتعرض للأسقام.

ومن احتياجات هذا الجانب المادي الحاجة إلى الطعام والشراب والهواء والتخلص من فضلات الجسم، والميل إلى قضاء الوطر.

وإذا لم تشبع هذه الحاجات العضوية من مطعم ومشرب فإنه يؤدي إلى اضمحلال هذا الجانب وبالتالي القضاء عليه بالموت.

وكذلك الجانب الروحي في الإنسان فله مظاهره واحتياجاته ونتائجه فمن مظاهر الجانب الروحي مشاعره وعواطفه من الحب والبغض، والإحساس بالجمال والميل إلى الكمال والرغبة في الحق والصدق ... إلى آخر ما هنالك من الأمور الفطرية التي يميل إليها الإنسان صاحب الطبع السليم والجبلة القويمة.

كما أن هذا الجانب الروحي في الإنسان يحتاج إلى إشباع، فإن لم يشبع أدى إلى اضطراب وقلق وشقاء وغذاؤه هو الوحي الإلهي والهدايات المستمدة منه، فهو الغذاء الضروري الذي لا غنى للروح عنه، وبالاتصال بالوحي الإلهي والتعامل معه عبادة وذكرًا وخوفًا وطمعًا ودعاءً وابتهالًا، وتوكلًا وإيمانًا وتسليمًا.

يحصل الإنسان على غذائه الروحي، ويكون معتدل الطبيعة منسجمًا مع فطرته عارفًا لغايته في الوجود ساعيًا إلى هدفه ثابت الخطى مطمئن البال رضي النفس. ولا يفوتنا هنا أن نذكر أن إشباع الجانب المادي يكون بالغذاء الحلال النافع كما يكون بالغذاء الحرام والضار، إلا أن النتائج تختلف نتيجة التغذي بالحلال النافع الصحة والهناء والقوة والنشاط. أما نتيجة التغذي بالحرام والضار المرض والإعياء والاضطراب والتعاسة.

وكذلك الغذاء الروحي فمنه الحلال الطيب المفيد وهو ما كان وحيًا إلهيًا "من الكتاب والسنة" وما استمد منه من أحكام وتشريعات. ومن الغذاء الروحي

ما كان محرمًا خبيثًا وهو ما كان من وضع البشر وفلسفاتهم وطقوسهم التعبدية وشرائعهم الوضعية. فمن الغذاء الروحي الفاسد ما عليه الملل والديانات المنحرفة عن أصل الوحي الإلهي من يهودية ونصرانية وما كان من وضع البشر من مجوسية وبوذية وهندوكية ووثنية.

إن إحساس الإنسان بهذه الأشواق الروحية وتطلعه إلى إشباعها بالغذاء الروحي الصافي لا يقل أهمية عن إحساسه بالنقص وتطلعه إلى الكمالات.

كما أن من نتائج هذا الإشباع الإحساس بالقرب من الملأ الأعلى والتطلع إلى الدار الآخرة والزهد والتجافي عن الدار الدنيا، وإلى مثل هذه النتيجة يشير رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "والذي نفسي بيده إنكم لو تدومون على ما تكونون عليه عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم" ١.

وهي الحالة التي بلغها حارثة رضي الله عنه وأقره عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي رجلًا يقال له حارثة في بعض سكك المدينة فقال: "كيف أصبحت يا حارثة؟" قال: أصبحت مؤمنًا حقًا، قال: "إن لكل إيمان حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟" قال: عزفت نفسي عن الدنيا فأظمأت نهاري وأسهرت ليلي، وكأني بعرش ربي بارزًا وكأني بأهل الجنة في الجنة يتنعمون فيها وكأني بأهل النار في النار يعذبون، قال النبي صلى صلى الله عليه وسلم: "أصبت فالزم، مؤمن نور الله قلبه" ٢.

١ رواه مسلم في صحيحه، وفي كتاب التوبة: ٨/ ٩٥.

٢ رواه البزار. انظر: مجمع الزوائد للهيثمي: ١/ ٥٧.

رابعًا: البراهين العقلية

ويقصد بها الأساليب القرآنية في إثبات توحيد الله سبحانه وتعالى والتي تثير المناقشة العقلية، وترتيب النتائج على المقدمات، وتوصل الفكر إلى النتيجة التي لا يملك العاقل إلا التسليم بها والإذعان لها.

فمما أبرزه العلماء في ذلك ما أطلقوا عليه:

أولًا- الأدلة البدهية:

ونجد مثال ذلك في قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} [الطور: ٣٥-٣٦] .

فالاحتمالات العقلية التي تشير إليها الآيتان الكريمتان في قضية الخلق ثلاثة احتمالات محددة لا رابع لها، إن الإنسان وما يحيط به من مظاهر الحياة والكون بما فيه السماوات والأرض مخلوقة، فمن الذي خلقها؟

الاحتمال الأول:

أن تكون هذه المخلوقات قد أوجدت نفسها، وهذا احتمال مناقض لبدهيات العقل الإنساني لأنها قبل وجودها لم تكن شيئًا -أي كانت عدمًا- فكيف يوجد العدم موجودًا. إن الموجود لابد له من موجد يوجده من العدم. أما العدم فلا يوجد شيئًا.

فهذا الاحتمال باطل لاصطدامه ببدهيات العقل: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ}

الاحتمال الثاني:

أن يكون بعض المخلوقات أوجد بعضها الآخر، وهذا أيضًا مناقض لبدهيات العقل، لأن الكلام السابق الذي بطل به الاحتمال الأول ينطبق على الجزء الذي أسند إليه الخلق، فقبل خلقه كان عدمًا، والعدم لا يوجد شيئًا، فيبطل هذا الاحتمال أيضًا. {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} .

الاحتمال الثالث:

وهو أن يكون غير المخلوقات، قد أوجد المخلوقات، وبالتالي يتصف هذا الخالق بصفات تضاد صفات المخلوقات. فالمخلوقات وجدت بعد أن لم تكن موجودة، أما الخالق فواجب الوجود لذاته. والمخلوقات لها بداية ونهاية، أما الخالق فهو الأول ليس قبله شيء وهو الآخر ليس بعده شيء. والمخلوقات تعتورها الحوادث والحركة والسكون والزيادة والنقص، وتستمد وجودها واستمرارها من غيرها.

أما الخالق فهو المنزه عن الحوادث {الْحَيُّ الْقَيُّوم} ويستمد الكون منه وجوده وحركته ونظامه، ويكون مسخرًا لأمره وتدبيره.

وهذا الاحتمال هو الذين يقبله العقل السليم، والنتيجة التي لا يجد المنطق السديد مناصًا من الرضوخ لها والتسليم بها.

{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: ٢٥٥] .

ثانيًا- دليل التمانع ١:

إن المتدبر لأحوال المخلوقات من الذرة إلى المجرة يجد ذاك النظام المطرد الذي يحفظ للكون بقاءه واستمراره وأداءه الدور الوظيفي الذي سخر من أجله.

١ وجه تسمية هذا النوع من الاستدلال بدليل التمانع: أن جانب الدلالة فيه على استحالة تعدد الآلهة، هو فرض أن يتمانع الآلهة، أي يمنع بعضهم بعضًا من تنفيذ مراده.

إن هذا النظام المطرد في الكون يدل على أن الإرادة المتحكمة فيه المتصرفة في شئونه إرادة واحدة لا تقبل التعدد ولو افترض وجود إرادة ثانية تتصرف في شئون الكون لأدى ذلك إلى الاحتمالات التالية:

الاحتمال الأول:

عند تعارض الإرادتين في شأن الخلق أو عدمه، أو وضع نظام محدد على حالة معينة فأي الإرادتين تنفذ؟!

فإما أن تنفذ الإرادتان وهو مستحيل لأنه يؤدي إلى الجمع بين النقيضين وهو محال عقلًا.

الاحتمال الثاني:

أن تتعطل الإرادتان جميعًا فلا تنفذان، وهذا عجز ينزه مقام الألوهية عنه لأن مقتضى كلمة "الإله" التصرف المطلق في شأن المخلوقات الذي لا راد لقضائه الذي يقول للشيء كن فيكون.

الاحتمال الثالث:

أن تنفذ إحدى الإرادتين وتهمل الأخرى، فالإرادة النافذة هي الحق والثانية المعطلة هي الباطل، ويكون صاحبها إلهًا مزيفًا فالنتيجة الفعلية أنه لا بد أن يكون الإله واحدًا فردًا صمدًا ليس له مثيل ولا شبيه ولا ند ولا شريك وإلى هذا النوع من الاستدلال أشارت الآية الكريمة:

{أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ، لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: ٢٠-٢٣] .

يقول الشيخ ابن عاشور في تفسيره "التحرير والتنوير" :

"والفساد: هو اختلال النظام وانتفاء النفع من الأشياء ففساد السماء والأرض هو أن تصيرا غير صالحتين ولا منتسقتي النظام بأن يبطل الانتفاع بما فيهما."

فمن صلاح السماء نظام كواكبها، وانضباط مواقيت طلوعها وغروبها، ونظام النور والظلمة، ومن صلاح الأرض مهدها للسير، وإنباتها الشجر والزرع، واشتمالها

على المرعى والحجارة والمعادن والأخشاب، وفساد كل من ذلك ببطلان نظامه الصالح.

ووجه انتظام هذا الاستدلال أنه لو تعددت الآلهة للزم أن يكون كل إله متصفًا بصفات الإلهية المعروفة آثارها، وهي الإرادة المطلقة والقدرة التامة على التصرف.

ثم إن التعدد يقتضي اختلاف متعلقات الإرادات والقدر، لأن الآلهة لو استوت في تعليقات إراداتها ذلك لكان تعدد الآلهة عبثًا للاستغناء بواحد منهم "١."

ولو كان مع الله آلهة أخرى لحاول بعضهم أن يتصرف في الكون حسب إراداته وعندئذ يشهد الكون حروبًا مروعة مدمرة، ويكون ميدانًا لصراع رهيب بين الآلهة المتنازعة.

فإذا كان مصير الكرة الأرضية بات في خطر من جراء تنازع القوى المدمرة من صنع البشر، فكيف الحال عندما تكون القوى المتنازعة بيدها أزمة الأمور في عالم الغيب والشهادة.

إن فكرة تعدد الآلهة لا يقرها عقل يحترم نفسه، ولا يؤيدها الواقع المنظم الذي يؤدي دوره المفيد حسب سنن مضطردة.

إن دوام السماوات والأرض على انتظامهما في مخلتف العصور والأحوال يدل على أن لها إلهًا واحدًا غير متعدد. {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: ١-٣] .

ثالثًا: دليل الفرض والتسليم:

وهذا النوع من الاستدلال يقوم على التسليم بدعوى الخصم تسليمًا جدليًا، -ولو كانت دعوه مستحيلة- ثم يستدل على إبطال الدعوى بالنتائج الخاطئة المتناقضة التي تترتب على هذه الدعوى، يقول تعالى:

١ التحرير والتنوير: ١٧-٣٩.

وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ، عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [المؤمنون: ٩١-٩٢] .

فالحقيقة أن لا إله مع الله، ولم يتخذ الله سبحانه وتعالى ولدًا، ولكننا لو سلمنا جدلًا بهذا الافتراض الخاطئ فما هي النتائج التي تترتب على ذلك: يترتب على ذلك استعلاء بعضهم على بعض، فلا ينتظم أمر الكون ولا ينفذ فيه حكم ولا تتحقق مصلحة، وبالتالي في ذلك اختلال نظام المخلوقات واستحالة استمراره.

والواقع المشاهد خلاف ذلك، فدل هذا الواقع على أن تعدد الآلهة محال لما يلزم عليه من المحال. كما أن افتراض وجود آلهة متعددة يؤدي إلى استعلاء بعضهم على بعض، ومنع كل منهم غيره من التدخل في شئونه وهو محال مصادم لما تستلزمه صفات الكمال المطلق للإله المعبود بحق.

{قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: ٤٢-٤٤] .

ملحوظة: الفرق بين دليل التمانع في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وبين دليل الفرض والتسليم في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} .

أن الأول: يستلزم اختلال أحوال المخلوقات السماوية والأرضية وهو ما تبطله المشاهدة.

أما الثاني: فيستلزم النقص في ذات الإله وهو محال لأن الإلهية تقتضي الكمال المطلق١.

١ انظر: "التحرير والتنوير" للظاهر بن عاشور: ١٨/ ١١٦ بتصرف.

خامسًا: أدلة التوحيد من خلال إثبات صفات الكمال لله سبحانه وتعالى وتنزيهه عن صفات النقص

إن الكمالات كلها ثابتة لله سبحانه وتعالى وبما أن أنواع الكمالات لا يمكن أن يدركها البشر، فقد بينها الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز من خلال ذكر الصفات الجليلة، لذا كانت هذه الصفات توقيفية لا يستطيع الإنسان أن يضع له صفة من عنده لأنها قد تكون صفة نقص من حيث يريد الإنسان تقديس الله سبحانه وتعالى، وذلك لأن الإنسان المحدود العقل المتأثر بما حوله من مفاهيم، وتصورات وخيالات، لا يستطيع أن يحيط علمًا بصفات الكمال للخالق غير المحدود سبحانه وتعالى: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" ١. ويقول ابن القيم في "مدارج السالكين" : حمد الله سبحانه وتعالى نفسه على عدم اتخاذ الولد المتضمن لكمال حمديته وغناه وملكه، وتعبيد كل شيء له، فاتخاذ الولد ينافي ذلك، كما قال تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: ٦٨] .

وحمد نفسه على عدم الشريك المتضمن تفرده بالربوبية والإلهية وتوحده بصفات الكمال التي لا يوصف بها غيره فيكون شريكًا له، لو عدمها لكان كل وجود أكمل منه لأن الموجود أكمل من المعدوم، ولهذا لا يحمد نفسه سبحانه بعدم إلا إذا كان متضمنًا ثبوت كمال.

١ جزء من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في سجوده حيث كان يقول: "اللهم أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" صحيح مسلم، كتاب الصلاة: ٢/ ٥١.

كما حمد نفسه بكونه لا يموت، لتضمنه كمال حياته، وحمد نفسه بكونه لا تأخذه سنة ولا نوم لتضمن ذلك كمال قيوميته وحمد نفسه بأنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، لكمال علمه وإحاطته. وحمد نفسه بأنه لا يظلم أحدًا لكمال عدله وإحسانه، وحمد نفسه بأنه لا تدركه الأبصار لكمال عظمته يُرى ولا يدرك، كما أنه يعلم ولا يحاط به علمًا، فمجرد نفي الرؤية ليس بكمال لأن العدم لا يُرى، فليس في كون الشيء لا يرى كمال البتة. وإنما الكمال في كونه لا يحاط به رؤية ولا إدراكًا لعظمته في نفسه وتعالى عن إدراك المخلوق له، وكذلك حمد نفسه بعدم الغفلة والنسيان لكمال علمه، فكل سلب في القرآن حمد الله به نفسه فلمضادة ثبوت ضده ولتضمنه ثبوت ضده "١."

ويما يلي ذكر لبعض الصفات التي وصف الله سبحانه وتعالى بها نفسه في كتابه، وبيان بعض الصفات التي تنزه العلي الكبير عنها:

فمن الأدلة التي ساقها القرآن الكريم للاستدلال على وحدانية الله سبحانه وتعالى:

إثبات صفات الكمال المطلق للمعبود بحق وتنزيهه عن صفات النقص:

ثمة صفات إذا اتصف بها شيء حكمنا عليه بصفات المخلوقين، فمثلًا: الافتقار:

الافتقار في وجوده إلى غيره والاستمرار في حياته إلى من يقوم عليه لرعاية شئونه.

إن هذا الافتقار والحاجة من صفات المخلوقين، يتنزه الخالق سبحانه وتعالى عنها فهو الذي لا يفتقر في وجوده إلى غيره بل هو واجب الوجود الغني عما سواه لذا وصف سبحانه وتعالى بأنه الإله الحي لأنه لا يفتقر في حياته إلى غيره وكل ما سواه مفتقر إليه، وإلى قيوميته عليها. {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} .

١ مدارج السالكين: ١/ ٢٧.

الحي: الواجب الوجود لا يحتاج في حياته إلى سواه.

القيوم: القائم برعاية مصالح مخلوقاته فهي مفتقرة إليه وهو غني عنها.

فنفي الألوهية عن غيرة وأثبتها لذاته وعلل ذلك بـ "الحي القيوم" .

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر: ١٥-١٦] .

الفقراء إلى الله في إيجادكم.

الفقراء إلى الله في حياتكم واستمرارها.

الفقراء إلى الله في رزقكم وطعامكم شرابًا وهواء.

وتنكشف جوانب الفقر وتتسع مجالاتها وأنواعها كلما ارتقى الإنسان فكرًا وتوسعت آفاق المعرفة لديه وتقدمت وسائل المدنية والتطور.

فالمتبادر إلى الذهن عند العامة عن كلمة الفقر "قلة المادة والممتلكات التي ينتفع بها" وقد يفهم بعض الناس أن الفقر يشمل أيضًا الحاجة إلى تعاون الناس في اختصاصاتهم لسد حاجات المجتمع المختلفة، إذ لا يستطيع الإنسان بمفرده أن يسد مختلف حاجاته، إلا أن هنالك أنواعًا من الفقر لا يدركها غير أهل الاختصاص، فهناك حاجات منظورة وحاجات غير منظورة يفتقر إليها الناس بل الكون كله:

فهناك الحاجة والافتقار إلى حفظ التوازن بين الأجرام السماوية.

{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: ٤١] .

وكذلك الحاجة والافتقار إلى التوازن بين الأقوات المخزونة في الأرض، المستهلكة والنامية والتوازن بين كمية المياه من الأمطار والمياه الموجودة على سطح الأرض.

والتوازن بين أنواع الغازات الموجودة في الهواء والحفاظ على نسبتها المحدودة، بحيث تبقى ثابتة على الرغم من أن استهلاك أنواع منها لدى الإنسان

أكثر، واستهلاك النبات لنوع آخر أقوى وهكذا. فإن دلالات الفقر ومجالاته تتسع بتقدم المجالات العلمية.

وحاجة الإنسان وافتقاره إلى النفحات الروحية والهدايات الربانية لرعاية الجانب المعنوي فيه وإشباع أشواقه الروحية، عن طريق الرسالات التي تنير السبيل أمامه وتوجد التوازن بين متطلبات الجانب المادي ومتطلبات الروح.

إن الافتقار إلى كل ذلك كان في المخلوق فهو الفقير والله هو الغني الحميد.

ومن لطف الإشارات القرآنية في الرد على النصارى الذين قالوا بألوهية عيسى بن مريم وأمه قال تبارك وتعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة: ٧٥] .

إن مخلوقًا يفتقر في حياته إلى الطعام ليستمر في البقاء.

ثم يفتقر بعد تناوله الطعام إلى التخلص من فضلانه.

إن مثل هذه الصفات لا تليق بالألوهية، والإله منزه عن مثل هذه الصفات إن مثل هذا الافتقار من شأن المخلوق ويتنزه عنه الخالق جل وعلا.

٢- ومن الصفات التي ينزه الخالق عنها: الشريك، الند، الولد، الصاحبة:

إن من الصفات الراسخة لدى المخلوقين، والتي لا يستغني عنها في حياته "الزوجية" .

فإن من الأمور المغروزة في ذات المخلوق الميل إلى القرين من جنسه، ويسعى إلى ذلك لأن هذا التزواج من الأمور الجبلية التي فطر عليها.

{وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [النجم: ٤٥] .

{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: ٤٩] .

وكذلك الميل إلى الجنس والشبيه والاستئناس به من خاصيات الكائن الحي.

ومن الأمور الجبلية لدى الإنسان الرغبة في الولد لأن في الولد إشباعًا لغرائز كامنة في النفس الإنسانية، إنها غريزة حب البقاء من ناحية، والتطلع إلى الكمال والفرار من النقص من ناحية أخرى، وسد الحاجة وتلافي النقص والدفاع عنه والافتخار به، كل هذا وراء الرغبة في الولد.

إلا أن مثل هذه الدوافع والرغبات والاحتياج يتنزه عنها الخالق سبحانه وتعالى لذا جاءت في آيات كثيرة اتصاف الله سبحانه وتعالى بغير ذلك.

يقول تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: ١١١] .

{مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .

إن زعم الولد والصاحبة لله سبحانه وتعالى ونسبة ما لا يليق بكمال الله وجلاله إليه تقدست أسماؤه، تغيير لمعالم الحق الذي قامت عليه السماوات والأرض وإحلال للباطل والزيف مكان الحكمة والعدل، إن نسبه هذه الأمور إليه تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا نسبة الحاجة والنقص والافتقار والعجز إلى الكمال المطلق وهو هدم لنظام الكون الذي يقوم على الحق والعدل والميزان.

{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا، تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا، وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا، لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: ٨٨-٩٥] .

٣- تنزيه الله سبحانه وتعالى عن العجز في التصرف في مخلوقاته وعن الجهل بأحوالهم والغفلة عن تدبير شئونهم ومصالحهم:

إن من صفات الكمال التي يجب اعتقادها في الخاق سبحانه وتعالى وتنزيهه عن ضدها: القدرة والعلم المحيط والقيومية على شئون العباد. حيث لا يليق

بشئون الإله وصفاته أن يعجز عن التصرف في مخلوقاته حسب إرادته وحكمته أو يمتنع عليه مخلوق من مخلوقاته، بل كل من في السماوات والأرض ملكه، خاضع لإرادته يقول للشيء كن فيكون.

{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: ٤٤] .

ومن صفات الكمال لله تعالى علمه المحيط بكل مخلوقاته، فإن الجهل نقص، والجهل بأحوال المخلوقات صغيرها وكبيرها قصور وإهمال. وكل ذلك محال على الله سبحانه وتعالى {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ، يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ: ١-٣] ١.

٤- ومن صفات الكمال للخالق جل جلاله "القيوم" :

القائم بتدبير ما خلق، الحافظ لكل شيء والمعطي له ما به قوامه، فالله سبحانه وتعالى منزه عن اللهو والعبث والغفلة يقول تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ، لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: ١٦، ١٧] .

وقد اشتملت آية الكرسي على جملة من صفات الكمال لله سبحانه وتعالى، كما اشتملت على تنزيه الخالق سبحانه عن بعض الصفات التي تكون من شأن المخلوقين ثم بعد البيان الشافي في بيان ما ينبغي للمعبود الحق وما يتنزه عنه جاء قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة: ٢٥٦] .

١ يقال: عَزب يعزُب ويعزِب إذا غاب، قاله القرطبي، وفي مفردات الراغب: العازب المتباعد في طلب الكلأ عن أهله.

فإن الذي يتدبر في صفات الكمال التي وردت في آية الكرسي، ويمعن النظر في صفات النقص التي تنزع الله سبحانه وتعالى عنها يملك الميزان الدقيق ليعلم به شأن الألوهية، فمن توفرت هذه الصفات فيه فهو الإله الحق، ومن لم يتصف بتلك الصفات، أو وجدت فيه صفات النقص ثم دعا الناس إلى عبادته واتخذه الناس إلهًا فإنما هو طاغوت.

فبعد وضوح السبيل، وإقامة البرهان وظهور الحق لا داعي لإكراه الناس على الدخول في الدين، لأن العقول الرشيدة تصل إلى الحق على ضوء هذه البراهين من نفسها، ولا تحتاج إلى إكراه للدخول في دين الحق {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} .

وإثبات الكمالات المطلقة لله سبحانه وتعالى وتنزيهه عن صفات النقص، متضمنة في أسمائه التسعة والتسعين لذا من قرأها متدبرًا لمضامينها مؤمنًا بما أثبت الله سبحانه وتعالى لنفسه فيها من صفات الكمال، منزهًا لله جل جلاله عن صفات النقص من خلالها كان ممن استحق الجنة، فقد جاء في الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لله تسعة وتسعون اسمًا من حفظها دخل الجنة، وإن الله وتر يحب الوتر" ، وفي رواية عند مسلم: "من أحصاها" .

وفي رواية عند البخاري: "لله تسعة وتسعون اسمًا مائة إلا واحدًا لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة" ١.

١ صحيح البخاري: ٧/ ٦٩؛ وصحيح مسلم: ٨/ ٦٣.

الخاتمة

إن القرآن الكريم كتاب التوحيد فقد تضمنت آياته الكريمة من أول سورة الفاتحة إلى خاتمة سورة الناس الدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى وتوجيه العباد إلى الإخلاص في عبادته وقد وجهت هذه الدعوة من خلال الاستدلال على التوحيد من الآفاق والأنفس، وبمختلف الأساليب والطرائق، والحجج والبراهين التي تدخل الطمأنينة إلى كل قلب ينبض بالحياة ويستهدف الحقيقة، وتقنع كل عقل استنار بنور الحق وتغلب على هوى النفس.

وقد رأينا نماذج من أبرز الأدلة القرآنية في المحاجة والاستدلال والشرح والبيان ولعل من أجمع الآيات التي سيقت للاستدلال على توحيد الله سبحانه وتعالى وتضمنت أنواع الأدلة آيات سورة النمل الخمس:

١- {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل: ٦٠] .

وهو دليل الخلق والإبداع من خلال الآفاق.

وجاءت فاصلة الآية الكريمة مقررة لمضمونها ومؤيدة لدليل الإبداع، لأن كل عاقل، مكلف يدرك أنه لم يخلق السماوات والأرض ولم ينزل المطر من السماء.

ورغم إقرارهم بهذه الحقيقة الواضحة يعدلون عن عبادة الله إلى عبادة آلهة مزيفة باطلة.

٢- {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النمل: ٦١] .

وفي هذه الآية تقرير لدليل العناية، فهو الذي جعل الأرض بهذه الكيفية وثبتها بالجبال وأجرى فيها الأنهار وجعل بين البحرين حاجزًا. ولولا هذه العناية الربانية وهذا التقرير المحكم لما هيئت الأرض للحياة والاستقرار.

وجاءت الفاصلة القرآنية ملائمة أيضًا لدليل العناية، فإن إدراك سنن الله الكونية في المخلوقات ومنها الأرض وإدراك أنظمة جريان الأنهار ومعرفة دور الجبال في إرساء الأرض وحفظ توازنها، والبحث عن سر الحاجز بين البحرين لا يدركه إلا العلماء أهل الاختصاص فجاءت الفاصلة "بل أكثرهم لا يعلمون" .

٣- {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: ٦٠] .

وهذا دليل الفطرة، فلا ملجأ ولا ملاذ للمخلوقات عند وقوع الضر بهم إلا التوجه إلى الواحد الأحد الفرد الصمد والفاصلة ملائمة ومؤكدة للدليل، فإن الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى عند الشدة أمر فطري راسخ في النفس البشرية، إلا أن الناس يغفلون عن ذلك في حالة السراء، فلا يحتاج الأمر إلا إلى تذكرهم، وإن لم تهيأ الظروف المذكرة لهم بذلك فإن الشدة تفرض عليهم الذكرى وتزيل الغشاوة عن الفطرة وصفائها فختمت الآية بـ {تَذَكَّرُونَ} .

٤- {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: ٦٣] .

وفي الآية إشارة إلى صفات الكمال التي اتصف بها المولى جل جلاله وتقدست أسماؤه، وعلى رأس هذه الصفات صفة الرحمة والهداية إلى المصالح المادية والمعنوية.

وجاءت الفاصلة مؤكدة لمضمون الدليل، فهو المتفرد بصفات الكمال والمنزه عن صفات النقص: {تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} .

٥- {أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: ٦٤] .

وهذا ما أطلقنا عليه البراهين العقلية الإقناعية، لأن الدليل هنا يتعلق بأمر عقلي تجريدي، ويستخدم القياس والبدهيات العقلية، فمن آمن بأن الله بدأ الخلق وأوجده من العدم، يلزمه عقلًا وتفرض عليه البديهة أن يؤمن أنه قادر على الإعادة بل الإعادة أهون عليه، لذا ختمت الآية بفاصلة في منتهى الوضوح والدلالة {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .

فإن أنكرتم النتيجة والبدهيات فهاتوا برهانكم على ما تزعمون.

إنها آيات الذكر الحكيم، أنزلها الذي يعلم السر في السماوات والأرض، على قلب رسوله ليكون للعالمين نذيرًا.

فيا عجبًا كيف يُعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحد

وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد 
 
مثال تطبيقي في تفسير سورة تفسيرًا موضوعيًّا: "القيم في ضوء سورة الكهف"

تمهيد

إن كنوز القرآن ضخمة ومتنوعة وموضوعاته كثيرة متشعبة واسعة المساحة، تبدأ من الكون المحيط بأجزائه الصغيرة بدءًا من الذرة وانتهاء بالمجرات والأفلاك التي تدور فيها، والأنظمة الدقيقة والتناسق المحكم الذي يسود ذلك كله.

وتبدأ من داخل النفس الإنسانية، من خلجات القلب وخطرات النفس ووساوس الفكر غلى أسرار علم الغيب الذي استأثر الله سبحانه وتعالى به.

إن من يبدأ تلاوة القرآن الكريم بتدبر تثيره أشياء كثيرة وتلفت نظره وتستجيش مشاعره، وهي آثار حسنة للتلاوة المتدبرة، ولكنها في الغالب فهوم آنية ومشاعره وقتية ربما تنتهي بالفراغ من التلاوة. أما إذا بدأ تالي القرآن -الباحث عن أسراره- تلاوته بعد تحديد هدف معين يسعى للوصول إليه من خلال تلاوة السورة١ التي يقبل على تلاوتها فإنه ينظر بعين فاحصة إلى أنواع الروابط بين الهدف المحدد وبين مقاطع السورة، وسياق الآيات التي تتحدث عنه، بل وسيلحظ تلك الروابط من خلال الكلمات المختارة بعناية فائقة لإبراز المعاني التي تحملها العبارات التي تنساب إلى العقل والقلب، وسيشعر أن روحًا معينة تسري في كيانه، وأن أنوار القرآن تشع في جنباته لتنقله من حالة إلى حالة: يستلهم فيها المعاني من المفردات والألفاظ التي ينطق بها إلى إدراك الروح التي تنساب من خلال الآيات الكريمة.

إن معايشة القرآن الكريم بنية خالصة وبمنهج معين تعطي ثمارًا يانعة ونتائج

١ انظر ما تقدم حول معرفة تحديد الهدف من السور المكية والمدنية: ٤١ وما بعدها.

حافلة، كثيرًا ما يعجز القلم عن تدوين المشاعر والخلجات التي تنتاب القارئ، ويتحقق فيه قول الباري جل جلاله:

{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: ٢٣] .

وبمقدار ما يكون الهدف الذي حدده الباحث للسورة أو الآيات التي يتدبرها هدفًا قرآنيًا جليًا، بمقدار ما يجد الترابط بين الأجزاء والآيات، وبمقدار ما يلاحظ أن كل المعاني تتوجه إلى إبراز هذا الهدف أو تعميقه في النفس والمشاعر، أو إلقاء الأضواء عليه بيانًا وكشفًا وتوضيحًا فمثلًا:

عندما نقول: إن الموضوع الأساسي في سورة فاطر: توحيد الألوهية من خلال الأدلة الكونية.

سيجد الباحث أن مقاطع السورة كلها تتجه لإبراز هذا المعنى من خلال الأسلوب البياني والكلمات المختارة في مجالات الكون، والإنسان والحيوان والنبات إبداعًا وعناية "أدلة الخلق والعناية" .

وقل مثل ذلك في سورة الكهف وغيرها من سور القرآن الكريم وهذا ما سنحاوله بإذن الله تعالى في المباحث اللاحقة بعد التعريف بسورة الكهف. 

بين يدي سورة الكهف

اسمها وعدد آياتها

تسمى سورة الكهف، وسورة أصحاب الكهف، وتأتي الروايات فيما بعد في ذلك.

وعدد آياتها مائة وعشر آيات عند الكوفيين.

ومائة وإحدى عشرة آية عند البصريين.

ومائة وست آيات عند الشاميين.

ومائة وخمس آيات عند الحجازيين١.

وذلك حسب ما ثبت لدى القراء في كل بلد عن طريق النقل في وقفات الرسول صلى الله عليه وسلم.

١ انظر هذا العدد في: تفسير روح المعاني للألوسي: ١٥/ ١٩٩.

خصائص سورة الكهف

١- قال الإمام البخاري: حدثنا آدم بن أبي إياس حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت عبد الرحمن بن يزيد قال: سمعت ابن مسعود رضي الله عنه، قال في بني إسرائيل -أي الإسراء- والكهف ومريم: "إنهن من العتاق الأول وهن من تلادي" ١.

١ صحيح البخاري، كتاب التفسير: ٥/ ٢٢٣.

قال ابن الأثير في النهاية: أراد بالعتاق الأول السور التي أُنزلت بمكة وأنها من أول ما تعلمه من القرآن. النهاية: ٣/ ١٧٩ والتالد: المال القديم الذي ولد عندك، وهو نقيض الطارف. وهن من تلادي: أي من أول ما تعلمته بمكة وأخذته فيها.

النهاية في غريب الحديث والأثر: ١/ ١٩٤.

قد غشيته، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم: "اقرأ فلان ١ فإنها السكينة تنزل عند القرآن، أو تنزلت للقرآن" ٢.

٣- روى مسلم في صحيحه من حديث قتادة عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال" .

وفي رواية أخرى لمسلم عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال" ٣.

٤- وفي مسند الإمام أحمد من حديث سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قرأ أول سورة الكهف وآخرها كانت له نورًا من قدمه إلى رأسه، ومن قرأها كلها كانت له نورًا ما بين السماء والأرض" ٤.

٥- وأخرج الحاكم في مستدركه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعتين" وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي: صحيح٥.

٦- روى الحاكم في مستدركه عن أبي سعدي الخدري رضي الله عنه قال:

١ ذكر في بعض الروايات أن الرجل كان أسيد بن الحضير رضي الله عنه.

٢ صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن: ٦/ ١٠٤؛ وصحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين: ٢/ ١٩٣.

٣ صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين: ٢/ ١٩٩.

٤ مسند الإمام أحمد: ٣/ ٤٣٩.

٥ المستدرك للحاكم، كتاب التفسير: ٢/ ٣٦٨.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الكهف كما أنزلت كانت له نورًا يوم القيامة من مقامه إلى مكة ومن قرأ عشر آيات من آخرها ثم خرج الدجال لم يسلط عليه" وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي١.

٧- وفي المختارة للحافظ الضياء المقدسي عن علي مرفوعًا: "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة وإن خرج الدجال عصم منه" ٢.

٨- انفردت سورة الكهف بأربع قصص لم تتكرر في سورة أخرى. وعلى الرغم من تكرار قصص موسى عليه السلام في سور القرآن إلا أننا يمكن أن نعتبرها فريدة من حيث تناولها للجانب التعليمي وتتلمذ موسى عليه السلام على الخضر عليه السلام، بينما القصص الأخرى تتناول جانب الرسالة والصراع مع فرعون وأتباعه، أو مواقف بني إسرائيل من دعوة موسى عليه السلام، ومثل هذا العدد من القصص الفريدة يمكن اعتبارها من خصائص سورة الكهف.

١ المستدرك للحاكم، كتاب فضائل القرآن: ١/ ٥٦٤.

٢ تفسير ابن كثير: ٣/ ٧١.

وقت نزولها وسببه

سورة الكهف مكية في قول جميع المفسرين.

قيل: إن أول السورة نزل بالمدينة إلى قوله: {جُرُزًا} وهو ضعيف. وقيل: إنها مكية غير آيتين منها وهما قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَك ... } [الآيتان ٢٨ و٢٩] .

قيل إنهما نزلتا في المؤلفة قلوبهم: عيينة بن حصن والأقرع بن حابس عندما طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخصم بمجلس يبتعدون فيه مع رسول الله صلى اله عليه وسلم عن فقراء المسلمين أمثال سلمان، وأبي ذر لئلا تؤذيهم روائح جباب الصوف التي يلبسونها.

وقد تكون الرواية صحيحة إلا أن جعلها سبب نزول آيتي الكهف فيه بعد، وكثيرًا ما يربط المفسرون بين روايات حدثت بالفعل وفيها معنى معين، فيربطونها بمعنى الآية المتضمنة للحكم ويجعلون الرواية سبب نزول الآية. وأمثلة ذلك كثيرة في كتب التفسير.

والراجح أن سورة الكهف مكية كلها، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبر نفسه مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي. وكذلك آيات سورة الأنعام:

{وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الآيات من ٥٢-٥٤] .

فإنها نزلت عندما سأل بعض زعماء قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعد عن مجلسه صهيبًا وبلالًا وعمارًا -من فقراء الصحابة؛ ليجلسوا إليه.

روى ابن حبان والحاكم عن سعد بن أبي وقاص قال: لقد نزلت هذه الآية في ستة: أنا وعبد الله بن مسعود وأربعة.

وجاء في رواية ابن مسعود تحديد الأربعة وهم: خباب بن الأرت وصهيب وبلال وعمار، قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم -أي كبار قريش-: اطردهم فإنا نستحيي أن نكون تبعًا لك كهؤلاء، فوقع في نفس النبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله، فأنزل الله {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} إلى قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} ١.

وأورد السيوطي في "لباب النقول" قال: اخرج ابن مردويه من طريق جرير عن الضحاك عن ابن عباس في قوله: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} قال: نزلت في أمية بن خلف الجمحي، وذلك أنه دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمر كرهه من طرد الفقراء عنه وتقريب صناديد أهل مكة فنزلت -أي قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} .

هذه الروايات وغيرها تفيد أن سورة الكهف سورة مكية بجملتها، من غير استثناء آيات منها. كما أن الرواية الصحيحة التي تقدم ذكرها، وقد ذكر فيها عبد الله بن مسعود سورة الكهف وِأنها من العتاق الأول ومن تلاده -أي قديم ما نزل.

وكذلك ما نورده من روايات سبب النزول يدل على مكية السورة:

أخرج ابن جرير من طريق ابن إسحاق عن شيخ من أهل مصر عن عكرمة عن ابن عباس قال: بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة فقالوا لهم: سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى أتيا المدينة فسألوا أحبار اليهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفوا لهم أمره وبعض قوله، فقالوا لهم: سلوه عن ثلاث، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم؟ فإنه كان لهم

١ انظر: المستدرك للحاكم، كتاب معرفة الصحابة: ٣/ ٣١٩ وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي؛ ولباب النقول للسيوطي: ١٠٦.

أمر عجيب، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟

فأقبلا حتى قدما على قريش فقالا: قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد؟ فجاءوا رسول الله فسألوه فقال: "أخبركم غدًا بما سألتم عنه" -ولم يستثن- فانصرفوا، ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة، لا يحدث الله في ذلك إليه وحيًا، ولا يأتيه جبريل، حتى أرجف أهل مكة، وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه، وشق ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل من الله بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية، والرجل الطواف، وقول الله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} الآية١.

وهذه الرواية وإن تكلم بعضهم في سندها وأن فيها رجلًا مجهولًا، فإن واقع السورة وما ورد فيها من صيغ الاستفسار منهم كقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} وقوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} وقوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} . كل ذلك يؤكد حادثة الاستفسار من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفتية وعن الرجل الطواف، وعن نسيان ذكر المشيئة.

وأورد السيوطي في لباب النقول: قال: أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: اجتمع عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو جهل بن هشام والنضر بن الحارث وأمة بن خلف والعاص بن وائل والأسود بن المطلب وأبو البختري في نفر من قريش، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كبر عليه ما يرى من خلال قومه إياه وإنكارهم ما جاء من النصيحة، فأحزنه حزنًا شديدًا فأنزل الله تعالى:

{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} ٢.

١ انظر: تفسير الطبري: ١٥/ ١٢٨. وانظر: السيرة النبوية لابن هشام: ٢/ ٣٩، ولباب النقول للسيوطي: ١٥٥.

٢ لباب النقول للسيوطي: ١٥٦.

أهداف سورة الكهف

تقدم في قسم الدراسة المنهجية للتفسير الموضوعي الحديث عن محور السورة وأهدافها، وقلنا هناك إن الدخول إلى تفسير السورة بعد تحديد محورها أو أهدافها يلقي أضواء كاشفة على الروابط بين مقاطع السورة وموضوعاتها كما ذكرنا هناك أن السورة قد يكون لها هدف واحد أو أكثر تدور السورة حوله لإبرازه وتقريره في الأذهان، وقلنا إن بعض السور المتوسطة أو الطويلة قد تتضمن عدة أهداف وتشكل محاور متداخلة لكنها متعاضدة متساندة لا متعارضة متناقضة.

وسورة الكهف التي نحن بصدد تفسيرها تفسيرًا موضوعيًا، نرى من اللزام قبل البدء بالتفاصيل أن نحدد أهدافها لتلقي أمامنا أنوارًا كاشفة ونحن نبحث في ثناياها ومقاطعها ومنعطفاتها.

لما كانت سورة الكهف سورة مكية فإننا نجد الأهداف الأساسية في السور المكية مقررة تقريرًا واضحًا قيها:

- فالدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى.

- وبيان صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته ووجوب الإيمان برسالته، وبيان أنه بشر يوحى إليه من ربه وأن مهمته البشارة والإنذار.

- وكذلك الدعوة إلى الإيمان باليوم الآخر، وذكر مشاهد القيامة، وعرض موقف الحساب والمناقشة والمخاصمة.

كل هذه الأسس والدعوة إليها تشغل جيزًا واضحًا من مقاطع السورة وتشكل محاور تدور أحداث السورة ومقاطعها حولها كما ذكرت بشكل مختصر وبإيجاز

شديد في افتتاحية السورة وخاتمتها وسنذكر بعض التفاصيل لكل ذلك عند الحديث عن كل مقطع بمفرده إلا أننا اخترنا هدفًا رابعًا غير الثلاثة المذكورة، وجعلناه عنوانًا للبحث في سورة الكهف للاعتبارات التالية:

١- أن سبب النزول كشف لنا، أن الدافع لقريش لإرسال وقد إلى يهود المدينة للتحقق من صدق محمد صلى الله عليه وسلم، هذا الدافع كان ضياع الميزان القيوم الذي يدركون به الحق من الباطل والصدق من الكذب والصحيح من الزيف.

وسبب فقدانهم لهذا الميزان انخداعهم بمظاهر كاذبة مخادعة من الحياة الدنيا وجعلها مقياس الحق والصدق والصحة.

لقد ظنوا -وساء ظنهم- أن الغنى ووفرة المال والرجال مقياس الأفضلية والسيادة والصلاح لاختيار الرسل وإنزال الوحي عليهم:

{وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ، وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ، أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: ٣٠-٣٢] .

وهذا الغبش في تصوراتهم دفعهم للمطالبة بطرد فقراء المسلمين من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما اقتضى أن ينزل القرآن الكريم لبيان حقائق الأشياء وإعطاء القيم الحقيقية لهذه المظاهر:

{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف: ٧، ٨] .

{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: ٢٨] .

{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: ٤٦] .

٢- وورد في صحيح مسلم: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال" . وفي رواية أخرى عنده "من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال" .

ورواية الإمام أحمد تنص على اكتساب المؤمن نورًا يضيء بين يديه عندما يقرأ سورة الكهف، ولو حاولنا البحث عن سر هذه العصمة وهذا النور الذي يكسبه المؤمن الحافظ أو القارئ لسورة الكهف، لوجدناه يكمن في هذه المبادئ وهذه الحقائق التي اختزلتها افتتاحية السورة وأكدتها الخاتمة وفصلتها المقاطع، فمن وعاها حق الوعي والتزم بها اعتقادًا ومنهج حياة فقد أمسك بالميزان الحق والنور المضيء الذي يفرق به بين الصحيح والسقيم وبالتالي يكون بمنأى عن زيف المخادعين المموهين ولا تؤثر فيه فتنة.

إن من يدرك حقيقة ما على الأرض، وأنه خلق ليكون وسيلة إلى غايات نبيلة، وهذه الغايات حددها الوحي المنزل بالكتاب على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الوحي المنزل قد بين مصير المكذبين وأنه العذاب الشديد، وبين مصير المؤمنين بما جاء به الوحي وعملوا بموجبه وأنه الأجر الحسن والخلود الدائم في النعيم وقرر الوحي المنزل أن منهج التلقي ينبغي أن يكون مصدره ربانيًا وأن المناهج الأخرى مبنية على الجهل والكذب ومصيرها إلى النار والشقاء:

{وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: ٤، ٥] .

إن من تكون هذه الحقائق ملء جوانحه ونصب عينيه وتكون بين يديه ويقيس بها حقائق المبادئ الواردة والأعمال المعروضة ومناهج الحياة المختلفة، لا شك أنه يكون على نور من ربه وعلى بصيرة من أمره، فيكون في عصمة من جميع الفتن وعلى رأسها فتنة المسيح الدجال.

يقول الإمام النووي: قيل سبب ذلك -أي العصمة من الدجال- ما في أولها من العجائب والآيات فمن تدبرها لم يفتتن بالدجال، وكذا في آخرها قوله تعالى: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا} الآيات١.

فسورة الكهف عرضت أهم الأمور التي تأتي الفتنة من قبلها ففي قصة أصحاب الكهف ذكرت فتنة السلطان، وفي قصة صاحب الجنتين عرضت فتنة المال والرجال، وفي قصة موسى والخضر عليهما السلام عرضت فتنة العلم -ولو بشكل خاص- وفي قضية ذي القرنين عرضت فتنة الأسباب -والعلم التجريبي التطبيقي- وفي كل ذلك عرضت السورة حقائق هذه الأمور في ضوء المبادئ التي ذكرتها الافتتاحية وقررتها الخاتمة.

وهذا ما دفعنا أن نختار هذا العنوان الدقيق للبحث في تفسير السورة الكريمة:

"القيم في ضوء سورة الكهف"

لقد ألقت السورة الكريمة أضواء كاشفة على كل أسباب الفتن، وأعطت المؤمن الميزان الحق لمعرفة الحقائق من الأباطيل، والصدق من الكذب والصحيح من الزيف.

ولا شك أن أول حقيقة عظمى يدركها المؤمن صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته وثبوت رسالته، وزيف الدعوات المناقضة لها مهما موهت واقعها بالشعارات وزخارف القول.

١ شرح النووي على صحيح مسلم: ٦/ ٩٣.

المناسبات في سورة الكهف

أولا: المناسبة بين اسم السورة وموضوعاتها

المناسبات في سورة الكهف

تقدم في قسم الدراسة المنهجية أن لمعرفة المناسبات بين اسم السورة وموضوعاتها وبين افتتاحية السورة وخاتمتها، وبين مقاطع السورة وهدفها، فوائد عظيمة لمعرفة الحكم والأسرار المكنوزة في ثنايا الآيات الكريمة.

وسنحاول أن نذكر وجوهًا من هذه المناسبات في كل نوع من الأنواع الثلاثة المتقدمة.

أولًا: المناسبة بين اسم السورة وموضوعاتها

لكي نستنبط وجه المناسبة بين اسم السورة وموضوعاتها، لا بد أن يكون اسم السورة توقيفيًا أي ثابتًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم: الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. وقد تقدم في الروايات أن السورة تسمى "سورة الكهف" وتسمى "سورة أصحاب الكهف" وفي التسمة الأولى النظر إلى المكان الذي تم اللجوء إليه لحمايتهم من الفتنة التي تعرض لها الفتية فلجئوا إلى مكان حصين عصمهم من الأعين وحفظ عليهم دينهم وعقائدهم.

فلو نظرنا إلى هذا الاسم وإلى موضوعات السورة، لوجدنا بين الاسم والموضوعات مناسبة لطيفة إن الموضوعات المعروضة في هذه السورة الكريمة من تدبرها ولجأ إليها كانت له كالكهف الحصين من الفتن جميعها، كما ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان الوضع الذي لجأ إليه الفتية كهفًا محسوسًا ملموسًا، فإن الكهف الذي يأوي إليه قارئ هذه السورة كهف معنوي من عناية الله سبحانه وتعالى وحفظه وستره فلا تؤثر فيه الفتن المعروضة ولو كانت مثل قطع الليل المظلم.

وإذا نظرنا إلى الاسم الآخر للسورة "سورة أصحاب الكهف" نلاحظ أن الأشخاص أصحاب العقيدة الحقة والموقف السديد هم الملاحظون في التسمية.

ولو نظرنا إلى هؤلاء الفتية:

{إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً، وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف: ١٣، ١٤] .

نجدهم يمثلون موقف المتمسكين بالقيم الصحيحة الذين يملكون الميزان الرباني لقياس الأمور بها، الإيمان، الجرأة في الحق، المنطق السليم، الحجة المقنعة، التضرع إلى الله سبحانه وتعالى، اتخاذ الأسباب الظاهرة في مقارعة الباطل.

يعقب كل ذلك العناية الربانية بهم وتسخير جزء من الكون لحمايتهم وحفظهم، ثم نصره دعوتهم -ولو بعد حين.

إن أصحاب الكهف أنموذج فريد للوقوف في وجه الباطل، وسيرتهم مثال لمن يبتلى ويفتتن في دينه، لذا كانت هذه التسمية أيضًا مناسبة للموضوعات في سورة الكهف حيث تمثل العنصر البشري المفتتن -والله أعلم بمراده وبأسرار كتابه.

ثانيًا: المناسبة بين افتتاحية السورة وخاتمتها

إن المناسبات بين افتتاحية سورة الكهف وخاتمتها كثيرة وواضحة، بل نكاد نقول إن الحقائق التي عرضت في افتتاحية السورة كررت ذاتها بأسلوب آخر في الخاتمة، وفيما يلي نذكر جملة من هذه المناسبات والروابط:

١- جاء في افتتاحية السورة توجيه الحمد المطلق لله، فهو المستحق لهذا الحمد المطلق وحده، وعلة ذلك أنه أنزل هذا الكتاب العظيم على محمد عبده ورسوله لإخراج الناس من الظلمات إلى النور. جاء ذكر هذا الحمد المطلق في أول آية في السورة في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} .

فهو ثناء على الله سبحانه وتعالى لأفعاله، وإرشاد للعباد للتوجه إليه بما يستحق من الذكر والشكر والعبادة.

وجاء في خاتمة السورة تخصيص الله سبحانه وتعالى بالعبادة والذكر والشكر وسائر الأعمال الصالحة، وذلك في قوله تعالى:

{يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: ١١٠] .

فتكون السورة قد افتتحت بذكر الألوهية واختتمت بذكر الربوبية.

٢- الوحي المنزل من الله سبحانه وتعالى: جاء التعبير عنه في افتتاحية السورة بصيغة "أنزل، الكتاب" .

وجاء التعبير عنه في خاتمة السورة بصيغة "كلمات ربي، يوحي إلي" والكتاب الذي أنزله الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم جزء من الكلمات التي لا تحصى:

{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: ١٠٩] .

٣- ذكر حقيقة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه من البشر ومن عباد الله لا يتميز عن سائر البشر بشيء في ظاهره وأسلوب معيشته وما يعتوره من الحوادث والأعراض، إلا أنه يمتاز عنهم بتلك الصلة بالملأ الأعلى عن طريق الوحي. جاء ذلك في افتتاحية السورة في قوله تعالى: {أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَاب} فالمنزل عليه عبد من عباد الله، إلا أن إنزال الكتاب عليه من ربه جعل له تلك الميزة، وقد جاءت لفتة التكريم والتشريف في إضافة العبد إلى الضمير العائد إلى لفظ الجلالة "عبده" ، وفي تقديم الجار والمجرور "على عبده" على الكتاب المنزل، ففي هذا التقديم نوع من التكريم والتشريف.

وجاء ذكر حقيقة الرسول صلى الله عليه وسلم وكونه من البشر لا يتميز عن غيره بشيء سوى

الوحي، جاء صريحًا في خاتمة السورة في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} .

٤- تحديد مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم: وهي ذات شقين: حمل البشارة للمؤمنين المتقين الملتزمين بالهدايات الربانية سلوكًا ومنهج حياة، وهذه البشارة هي الخلود في جنات النعيم.

- إنذار المكذبين بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، المتخذين لله أندادًا وشركاء، بالمصير السيئ وهو جهنم وساءت منزلًا ومقيلًا.

جاء ذكر المهملة بشقيها في افتتاحية السورة في قوله تعالى:

{وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا، مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف: ٢، ٣] .

وفي قوله تعالى: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [الكهف: ٤] .

كما جاء بيان المهمة بشقيها في خاتمة السورة في قوله تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا، خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف: ١٠٧، ١٠٨] ١.

وجار الإنذار في قوله تعالى:

{إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا} [الكهف: ١٠٢] .

وفي قوله تعالى:

{ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} [الكهف: ١٠٦] .

١ من لطائف التعبير القرآني أن البشارة جاءت في الافتتاحية بصيغة الاستقبال "يبشر، يعملون" لأن الدعوة قائمة والمجال مفتوح للعمل في الحال والاستقبال، أما في الخاتمة فقد جاءت بصيغة الماضي، وكأن المصائر قد تقررت واستقر أهل السعادة في النعيم {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} .

٥- مصدر التلقي للمعرفة: إن النتائج الصحيحة تترتيب على الأساليب الصحيحة والمنطلقات الصحيحة في التفكير والاستدلال والبرهان.

أما إذا كانت المنظلقات الفكرية خاطئة والأساليب ملتوية، فلا شك أن النتائج تكون باطلة.

لذا جاءت الإشارة إلى المنهج الصحيح في التلقي في افتتاحية السورة وأنه الوحي المنزل من الله سبحانه وتعالى على رسله:

{وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا، قَيِّمًا} [الكهف: ١، ٢] .

كما جاءت الإشارة إلى المنهج الخاطئ في التلقي في قوله:

{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: ٥] .

فالجهل، وتقليد الآباء على ضلالهم، ولجوءهم إلى الكذب كان منهج المعرفة عندهم فأدى أن يقولوا ما يستحيله العقل وترده الفطر السليمة وتكذبه الحقائق الملموسة وهو قولهم: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} حاشاه وسبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.

وجاء التنبيه على المنهجين في خاتمة السورة أيضًا.

فقد ورد ذكر المنهج الصحيح من خلال الإشارة إلى كلمات الله سبحانه وتعالى والوحي بها إلى عبده ورسوله، ومضمون هذا الوحي:

{أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: ١١٠] .

وجاء ذكر المنهج الخاطئ في تلقي المعرفة في خاتمة السورة في قوله تعالى:

الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا، أَفَحَسِبَ الَّذِينَ

كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا، قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صنْعًا ، [الكهف: ١٠١-١٠٤] .

إنهم عطلوا وسائل المعرفة، فأعينهم عليها غشاوة، وفي آذانهم وقر فلم يتدبروا آيات الله المبثوثة في الآفاق والأنفس ولم يقرءوا كتاب الله المفتوح لكل ذي بصر ألا وهو مخلوقات الله في هذا الكون الفسيح، وأدى بهم تفكيرهم القاصر إلى ربط الضر والنفع بما بين أيديهم من المخلوقات فاتخذوا العباد أولياء من دون الله، وهم بذلك يظنون -وخاب ظنهم- أنهم يحسنون صنعًا فزين لهم شركاؤهم تكذيب رسل الله والكفر بالبعث عبد الموت، فكانت جهنم لهم نزلًا.

٦- القيمة الحقيقية للحياة الدنيا وما يجري فيها: إن من المبادئ الراسخة في العقيدة الإسلامية أن الأرض وما عليها من الكائنات مصيرها الزوال، وأن هذه الحياة على هذا الكوكب حياة مؤقتة، وأن الحكمة من وجودها الابتلاء والاختيار، وأن هذه الحياة مزرعة الآخرة فما زرعه الإنسان في هذه الحياة سيحصد ثماره في الحياة الآخرة.

وأن المقصد من متع هذه الحياة جعلها وسيلة للحياة الباقية وأنها إن لم ترتبط بالقيم الصحيحة الباقية زلت واندثرت باندثار ما على الأرض وكانت وبالًا على أصحابها.

هذه الحقيقة عرضت عرضًا معجزًا في افتتاحية السورة وخاتمتها ففي الافتتاحية جاءت في قوله تعالى:

{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف: ٧، ٨] .

وجاء ذكر مصير ما تعلقت به نفوس أهل الدنيا، وآثروه على كل شيء وجعلوه مقياس التفاضل والتعظيم واحتكموا إلى مقاييسه المادية كل ذلك لم يكن له وزن في ميزان الله يوم القيامة بل انهارت وذهبت أدراج الرياح:

{أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: ١٠٥] ١.

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه" ٢. إن من قصر همه على دنياه وجعلها أكبر همه ومبلغ علمه فقد خسر الحياة الحقيقية:

{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: ٦٤] .

هذه جملة من الحقائق التي وردت في الافتتاحية وفي الخاتمة٣ فمن التزم بها عقيدة ومنهج حياة كانت له نورًا يكشف له الطريق وميزانًا يفرق به بين الحق والباطل، ولعل هذا يكشف لنا جانبًا من سر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال" وفي رواية: "من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال" والحكمة في ربط أول السورة بآخرها. أن من أدرك حقيقة الدنيا وزينتها، وأدرك المنهج الصحيح في تلقي المعرفة وعلم أن الباقيات الصالحات هي خير ثوابًا وخير أملًا من أدرك كل ذلك لم تفتنه الدنيا -بإذن الله- ولم يضره حطامها الزائل ويعلم أن ما عند الله خير وأبقى.

١ التعبير بكلمة "حبط" تعبير موح، فأصل الحبوط هو أن تكثر الدابة من العشب حتى ينتفخ بطنها فيقضي عليها، يقول عليه الصلاة والسلام: "إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطًا أو يلم" ، فقد أكثر هؤلاء الكفرة المنكرون ليوم البعث من الأعمال الدنيوية؛ مالًا ورجالًا وحطامًا حتى انتفخت نفوسهم بها عجبًا وزهوًا وكبرًا فكان حتفهم في ذلك فحبطت تلك الأعمال، فذهبت هباءً منثورًا، فلا تزن عند الله جناح بعوضة.

٢ رواه الترمذي في الزهد: ٣/ ٣٨٤، وقال: هذا حديث حسن غريب، وابن ماجه في الزهد: ٢/ ١٣٧٧.

٣ من الملاحظ أنه لم تذكر تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخاتمة بينما ذكرت في الافتتاحية في قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} . والحكمة في ذلك -والله أعلم- لأن القضية انتهت وعرفت المصائر واستقر كل في مآله ومصيره، فلا داعي للتسلية وإعطاء جرعات من الصبر، فلا مجال للانتظار والتربص وقد انتهى كل شيء.

ثالثًا: المناسبة بين مقاطع السورة وهدفها

ذكرنا في السابق أهداف سورة الكهف واخترنا أحدها لنجعله محور البحث في تفسير السورة موضوعيًا، وقلنا: إن مقاطع السورة تدور حول الهدف لإبرازه وتقريره فما وجه الصلة بين مقاطع سورة الكهف وبين "القيم" .

وذكرنا في تبرير اختيارنا لعنوان البحث "القيم في ضوء سورة الكهف" أن من أدرك الحقائق التي وردت في سورة الكهف ملك الميزان الذي يفرق به بين الصحيح والسقيم والحق والباطل، ولما كان موضوع إثبات صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته من الأهداف الأساسية ومن المحاور التي تدور حولها السورة، فإن الميزان الذي تدلنا عليه سورة الكهف هو الفيصل الذي نتعرف به على صدق هذه الدعوة وعلى صدق الرسول الذي جاء بها.

إذا أدركنا ذلك وحددنا هذا الهدف، سهل علينا الربط بين مقاطع السورة كلها وبين الهدف الذي تبرزه السورة وتقرره.

تمثل القصص الأربع التي وردت في سورة الكهف مقاطعها الرئيسية إلى جانب الافتتاحية والخاتمة.

وتضمن فاتحة السورة وخاتمتها للقيم الصحيحة التي توزن بها الأمور تقدم الحديث عنه في بحث المناسبات بين الافتتاحية والخاتمة.

أما المقاطع الأربعة الأخرى وبالأحرى القصص الأربع في السورة فإنها وثيقة الصلة أيضًا بهدف السورة.

- فقصة أصحاب الكهف وكذلك قصة ذي القرنين واضحة الاتصال بهدف السورة لأن القصتين جاءتا إجابة للسؤال الموجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ورد في سبب النزول.

- أما قصة صاحب الجنتين فاتصالها بالسؤال أيضًا من زاوية الاستنكار على

قريش في أصل التوجه بالسؤال. وفيما يلي تفصيل ذلك:

إن قريشًا لم تكن بحاجة إلى مثل هذا السؤال والاستفسار للتأكد من صدق محمد صلى الله عليه وسلم، فإن محمدًا قد عاش بينهم وليدًا وترعرع في ديارهم شابًا يافعًا ثم كهلًا، وهم أعرف الناس بشئونه كلها، وينبغي أن يكونوا المرجع العدل الذي يرجع إليه الناس في شأن محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه الحقيقة برزت على ألسنة بعض زعمائهم في لحظات وعي وتعقل:

قال ابن هشام: قال ابن إسحاق: قال النضر بن الحارث فقال: يا معشر قريش إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلامًا حدثًا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثًا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم به، قلتم: ساحر، لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم: كاهن، لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر، لا والله ما هو بشاعر، قد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها: هزجه ورجزه، وقلتم: مجنون، لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون، فما هو بخنقه، ولا وسوسته، ولا تخليطه، يا معشر قريش فانظروا في شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم١.

كان هذا حديث أحد زعمائهم عن شخص محمد صلى الله عليه وسلم، وكان حدث آخر منهم عن القرآن الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم:

"والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإنه لمغدق أسفله وإنه لمثمر أعلاه، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه وإنه ليحطم ما تحته وما هو بقول بشر" ٢.

كانت تلك شهادة حق من الوليد بن المغيرة في لحظة صدق مع نفسه.

فعلى الرغم من إدراك القوم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق دعوته كانوا يحاولون طمس نور الحق بأي وسيلة يتمكنون منها، وكانوا يصرون على موقفهم المعادي

١ سيرة ابن هشام مع حاشية الروض الأنف: ٢/ ٣٨.

٢ سيرة ابن هشام مع حاشية الروض الأنف: ٢/ ١٢ مع اختلاف في الألفاظ.

ويحاولون تبريره بأي حجة كانت، مهما كانت واهية متناقضة مع مداركهم وقناعاتهم الذاتية، والسبب الدافع لهم إلى كل ذلك هو اختلال موازين القيم عندهم، فقد أعماهم الجاه وحب المال أن ينظروا إلى القيم إلا من خلالها، وهذه القيم الزائفة هي التي حملتهم على طلب إبعاد فقراء المسلمين وضعفائهم من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لكيلا يراهم الناس يجالسون الأرقاء المستضعفين فيعيروهم بذلك.

إن مثل هؤلاء في طمس نور الفطرة في نفوسهم، واستيلاء سكرة المال والجاه على بصائرهم كمثل صاحب الجنتين الذي أعماه الغرور بالمال والجاه وكثرة النشب والأولاد فكفر بربه الذي خلقه من تراب ثم من نطفة ثم سواه رجلًا.

فالقصة وثيقة الصلة بموقف قريش الذين أرسلوا إلى اليهود في المدينة ليسألوهم عن شأن محمد ودعوته، ولو كانوا ذوي حكمة وتعقل وفطر سليمة لما تصرفوا مثل هذا التصرف الكاشف عن سفاهة وحقد، فعندهم من أمارات صدق محمد صلى الله عليه وسلم في سيرته وإطلاعهم على رجاحة عقله، وطهارة ذيله واستقامة سلوكه ونبل أخلاقه وعظيم أمانته ما يغنيهم عن الترحال والاستفسار.

بالإضافة إلى ملكتهم البيانية في إدراك فصاحة الكلم وبلاغته فهم أمراء البيان ومنهم خطباء المحافل وشعراء المواسم، فبإمكانهم أن يدركوا حقيقة القرآن وأنه ليس من قول البشر.

- أما قصة موسى والخضر عليهما السلام، فلها صلة وثيقة بالهدف أيضًا، فهو توبيخ وتأنيب لليهود الذين يشكلون الطرف الثاني في اختبار صدق محمد صلى الله عليه وسلم.

لقد لقنت اليهود وفد قريش أسئلة تاريخية وعلمية لاختبار صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء من دعوة الحق.

والأسئلة التعجيزية لا تكون الوسيلة المثلى دائمًا للتعرف على الحقيقة. كان الأليق باليهود -وهم أهل الكتاب الأول، ولديهم من الهدايات والوحي المنزل- أن يتدبروا حياة النبي صلى الله عليه وسلم، بعد سؤال الوفد عن دقائق حياته وشأنه -كما فعل

قيصر الروم عندما سأل أبا سفيان عنه-١، وكان عليهم أن يتدبروا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الهدايات ويقارنوها بما عندهم -كما فعل النجاشي رضي الله عنه-٢ ليحكموا بعد ذلك على الدعوة وصاحبها، هاتان الوسيلتان هما المنهج الصحيح الذي كان على اليهود أن يسلكوه. أما مثل هذه المعلومات الغيبية فإن الجهل بها ليس دليلًا على عدم صدق المسئول، فهذا موسى عليه السلام، وهو من أعظم أنبياء بني إسرائيل قاطبة ومن أولي العزم من الرسل، ومجال افتخار اليهود جميعًا قد جهل أمورًا ثلاثة في رحلته مع الخضر عليه السلام، ولم يؤثر ذلك في مكانته عند بني إسرائيل ولا من أذهان المسلمين، ولم يقل أحد إن جهله بها قد أثر على صدقه في نبوته، ومقامه عند ربه.

فلماذا تجعلون -معشر اليهود- مثل هذه الاستفسارات وسيلة تشكيك في دعوة الحق التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم.

ولئن لجأت قريش إلى مثل هذا الموقف لأن الموازين مختلة عندهم وليسوا أهل علم وكتاب سماوي، وقد انطمست أنوار الفطرة لديهم فإن لديكم مقاييس الوحي السماوي -مما لم تطاوله أيديكم بالتحريف والتشويه- وبواسطتها يمكنكم تقويم الدعوات والمواقف والأشخاص وإدراك الصادق من غيره.

ومن هذا الجانب أيضًا نجد أن قصة موسى والخضر عليهما السلام وثيقة الصلة بهدف سورة الكهف، وبالقيم الصحيحة التي اشتملت عليها، وبالموازين المختلفة والقيم الزائفة التي تبناها المنحرفون والمفسدون. فكل القصص الأربع -التي تشكل المقاطع الأساسية في السورة- توجه الأنظار إلى ما ينبغي أن يكون عليه الحال تجاه دعوة الحق، وتبرز القيم الصحيحة التي تتخذ موازين لتمييز الحق والصدق والصواب من غيرها.

لقد اشتملت القصص الأربع في سورة الكهف أسباب الفتن الأساسية في الحياة الدنيا؛ فتنة السلطان، والمال، والعلم، والأسباب.

١ انظر تفصيل ذلك في صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي: ١/٥.

٢ انظر تفصيل ذلك في: السيرة النبوية لابن هشام مع حاشية الروض الأنف: ٢/ ٨٨.

ولهذا كانت قراءة سورة الكهف نورًا كاشفًا وعلاجًا ناجحا للفتن جميعها، فإن قيم هذه الأشياء إذا أدركت في ضوء الإيمان بالله واليوم الآخر، علم المؤمن أنها قيم مموهة داجلة ما لم ترتبط بالإيمان بالله سبحانه وتعالى ورجاء مثوبته يوم القيامة.

فكانت تمثل القيم الحقيقية في سورة الكهف عقيدة وسلوكًا عصمة من أنواع الدجل كلها، وعلى رأسها فتنة المسيح الدجال.

افتتاحية سورة الكهف

الموضوعات الأساسية في الافتتاحية

افتتاحية سورة الكهف

بسم الله الرحمن الرحيم:

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا، قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا، مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا، وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا، فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا، إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف: ١-٨] .

الموضوعات الأساسية في الافتتاحية

يمكن القول إن افتتاحية سورة الكهف أجملت الأسس والموازين التي تقوم بها المفاهيم والتصرفات والسلوك الإنساني.

فقد جاءت الافتتاحية متضمنة للحقائق الأساسية التي ينبغي وضعها نصب الأعين عند البحث والمقارنة والتقويم، وقد جاءت هذه الحقائق مجملة في منتهى الوضوح والفصاحة والإعجاز:

فالحقيقة الأولى:

توجيه الثناء المطلق لله رب العالمين، لأنه المستحق على وجه الكمال هذا الحمد والثناء، ولأنه أنعم على البشرية بالنعمة التي لا تضاهيها نعمة، وهي الحياة الحقيقية المميزة لهم عن سائر المخلوقات، هذه النعمة هي نعمة الوحي، لإخراج

الناس من الظلمات إلى النور {الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} .

الحقيقة الثانية:

الوحي المنزل على عبد الله ورسوله، الذي احتواه "الكتاب" له مزايا ثلاث:

الميزة الأولى: في كونه منزلًا من عند الله سبحانه وتعالى، والمنزل يأخذ شرفه ومجده من الذي أنزله، فإذا كان المنزل هو خالق السماوات والأرض ومبدعهما، الذي بيده الملك والأمر وإليه المصير، فلا شك أن هذا المنزل، فيه من أوصاف العزة والتمجيد والتقديس ما يليق بجانب منزله.

وهذه المزية إضافية خارجة عن ذات الكتاب المنزل.

أما المزيتان الأخريان فهما ذاتيتان:

فالمزية الذاتية الأولى: كونه مستقيمًا في حد ذاته، فالاستقامة في هداياته الاستقامة في منهجه في تثقيف الفكر والسلوك، الاستقامة في موازينه وضوابطه التي يضبط بها السلوك والمشاعر والأفكار، فيبين الحق منها عن الزيف والتمويه والخداع وإلى كل ذلك الإشارة في قوله تعالى: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} ١.

والمزية الذاتية الثانية: كامنة في قوله تعالى: {قَيِّمًا} ، فهذا الكتاب المنزل له القوامة على ما سواه من الكتب السابقة، فيصدق ما فيها من الحق والصواب، وبين التحريف والتنوير الذي أدخل فيها أتباعها كما جاء في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: ٤٨] .

كما أن لهذا الكتاب القوامة على الحياة الإسلامية والمجتمع الإسلامي. ومن استقامة هذا الكتاب وقوامته استمدت هذه الأمة القوامة على غيرها، لأن القرآن الكريم أنشأها على الاستقامة في ذاتها فاستحقت القوامة على غيرها.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ

١ من أسرار التعبير المعجز ورود كلمة "له" بدل فيه، لأن "له" تفيد عدم قابليته العوج أصلًا، أما نفي أن يكون العوج فيه، فلا ينفي القابلية.

عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة: ٨] ، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: ١٤٣] .

{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: ١١٠] .

يقول الفخر الرازي: إن قوله تعالى: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا، قَيِّمًا} في وصف القرآن مثل قوله تعالى في سورة البقرة: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} ، فليس فيه عوج ولا شك، ولا ريب فيه، وهو مقوم لغيره، مهيمن عليه، يقيمه على الجادة الصحيحة بهداياته١.

الحقيقة الثالثة:

الرسول الذي أنزل عليه الكتاب:

فهو عبد من عباد الله المصطفين الأخيار المختصمين الذين أراد الله لهم الكرامة باختيارهم لحمل الرسالة، فهو عبد بشر كغيره٢.

إلا أن الله اصطفاه بالوحي وجعله يتميز بنوع من الخاصية على غيره فهو على صلة بالملأ الأعلى، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} .

١ مفاتيح الغيب للفخر الرازي: ٢١/ ٧٥ باختصار.

٢ جاءت الإشارة إلى تكريم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشريفه في الآية بأسلوبين: أولهما: تقديم الجار والمجرور على المفعول به، وفي ذلك تنبيه على أن أمر محمد صلى الله عليه وسلم واضح لقريش، فلا يستدعي سؤال اليهود عن بينات صدقه.

ثانيهما: إضافته إلى ذاته، وتكرر في القرآن الكريم تسمية رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من رسل الله بلقب العبودية، وإضافتها إلى ضمير لفظ الجلالة، جاء ذلك في سورة الإسراء في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: ١] . وفي سورة النجم: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: ١٠] . وكلا المقامين مقام تكريم وتشريف، وفي قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} [البقرة: ٢٣] . وهو مقام تأييد ونصرة وذلك لأن مقام العبودية الحقة لله تعالى أعلى منزلة يصل إليها الإنسان لأنه بها يحقق الغاية التي خلق من أجلها {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: ٥٦] .

ومن الجوانب المتعلقة بالرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الافتتاحية تحديد مهمته وحصرها في: الإنذار والبشارة.

الإنذار لمن تقول الكذب والافتراء على الله سبحانه وتعالى، تقليدًا لآبائهم، وهذه الفرية ناتجة عن جهل عقولهم، وغفلة قلوبهم وطمس بصائرهم.

أما البشارة فهي للمؤمنين١ بالغيب، بالمثل والقيم التي أنزلها بالوحي على رسوله.

الحقيقة الرابعة:

المسئولية والحساب والأجر:

إن من مستلزمات الإيمان الالتزام بالسلوكيات التي يفرضها الإيمان فإن من بدهيات العقل، أن لكل عقيدة يعتقدها الإنسان سلوكًا ينبثق عنها، وأخلاقًا تظهر على معتنقي هذه العقيدة، لذا كان من الطبيعي عند العقلاء أيضًا أن يربطوا بين المظاهر السلوكية والعقائد التي يتبناها الناس.

ولما لم يخلق الإنسان عبثًا، فلا بد من رجوعه إلى خالقه ليكافئ المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: ١١٥] فلا بد من المثوبة والأجر الحسن اللائق بصاحب الإيمان والعمل الصالح، والخلود الدائم غير المنقطع في جنات عرضها السماوات والأرض.

ومن الملاحظ هذا التأكيد في الخلود {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} وفي ذلك تطمين كبير، لأن من أهم منغصات الشهوات والملذات لأهل الدنيا هو تحققهم من زوالها عنهم، أو زوالهم عنها مهما امتد بهم العمر.

وبالمقابل فإن المسئولية والجزاء لهؤلاء المفترين الكاذبين الذين نسبوا إلى

١ لم يرد مع كلمة "المؤمنين" الجار والمجرور، والأصل أن يقال: المؤمنين بكذا، وفي ترك ذلك تعميم بحيث ينصرف الذهن إلى كل محتمل في هذا الصدد، وهو أسلوب مطرد في القرآن الكريم.

الله أعظم فرية، فعليهم أن يتوقعوا البأس الشديد في عقوبتهم بحيث تكافئ ضخامة الكلمة الكاذبة التي تفوهوا بها.

الحقيقة الخامسة:

العلم المبني على تعاليم الوحي يوصل إلى القيم الثابتة، وينهج المنهج الذي يوصله إلى النتائج الصحيحة المبينة على العقل.

والجهل يؤدي إلى التمسك بالمألوفات والعادات الموروثة والتشبث بالتقاليد ولو خالفت المنهج السليم في التفكير والاستدلال، بل يحمل الجهل صاحبه إلى قبول مفتريات لا أصل لها على الإطلاق.

كما قبل هؤلاء الجاهلون نسبة الولد إلى الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا١ {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} .

الذين اتخذوا مع الله شركاء وجعلوا له ولدًا فئة من اليهود والنصارى حيث قالوا ذلك كما أخبر عنهم القرآن الكريم: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ

١ من الأمور اللافتة للنظر التعظيم من شأن هذه الفرية -نسبة الولد إلى الله سبحانه وتعالى أو اتخاذ الشريك معه- في السور الثلاث المتتابعة: ففي الإسراء قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: ١١١] ، وفي سورة الكهف في أولها قوله تعالى: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} .

وفي آخر السورة: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} .

وفي سورة مريم قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا، تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا، وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: ٨٨-٩٣] .

قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التوبة: ٣٠] كما قال المشركون من العرب عن الملائكة، {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ، أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ، وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [الزخرف: ١٥- ١٧] .

الحقيقة السادسة:

إن الحياة الدنيا بمباهجها وزينتها وأموالها وطاقاتها {مَا عَلَى الْأَرْض} الهدف من خلقها وإيجادها هو ابتلاء البشر، ومآلها الزوال والفناء فمن أحسن التصرف فيها وربطها بالحقائق الباقية الخالدة وسخرها للعمل الصالح فقد فاز {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: ١٨٥] .

أما من جعل هذه الحياة الدنيا مبلغ علمه وغاية مقصده، فقد سقط في الفتنة وخسر خسرانًا مبينًا.

فلا يستحق من لم يرفع لدعوة الحق رأسه، الحسرة والتأسف عليه فمن ربط نفسه ومصيره بمصير الدنيا وجعلها دائرة اهتمامه، فقد أضاع نفسه، ومن لم يرحم نفسه فلا راحم له.

وفي ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يهمه أمر القوم وتكاد تذهب نفسه حسرات عليهم، كما قال تعالى في موضع آخر مسليًا رسوله: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: ٨] .

وهذا الشعور من كمال شفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس فهو الأخذ بحجزهم من النار١. إلا أن حكمة الله سبحانه وتعالى جرت بترك الخيار للمكلفين لتتحقق.

١ جاءت تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم في افتتاحية السورتين "الكهف والشعراء" بتعبير "لعل، باخع" وأصل لعل للترجي، وتفيد الإشفاق والحث على ترك التحزن والتأسف.

وأصل البخع، للأرض التي تتوالى زراعتها فتضعف بسبب متابعة الزراعة.

وقال الزمخشري: البخع أن يبلغ الذبح البخاع وهو عرق مستبطن القفا، وهي كناية عن الهلاك. واستشكله ابن الأثير.

انظر: أساس البلاغة للزمخشري: ١٦، والفائق في غريب الحديث للزمخشري: ١/ ٨٢، وانظر: النهاية لابن الأثير: ١/ ١٠٢.

الحكمة من الابتلاء {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: ٢] .

وما ورد في افتتاحية الكهف من التسلية شبيه بما جاء في افتتاحية سورة الشعراء في قوله تعالى: {طسم، تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: ١-٤] .

هذه جملة الحقائق الأساسية في افتتاحية الكهف، وقد وجدنا في مبحث المناسبات في سورة الكهف تكرر ذلك في الخاتمة أيضًا.

وسنرى أن المقاطع اللاحقة جاءت لتفصيل هذه الحقائق وتقريرها وضرب الأمثلة عليها مما يزيدها وضوحًا وتقريرًا وبيانًا.

عن الكاتب

Tanya Ustadz

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية