الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

أبرز أعلام علم المناسبة

أبرز أعلام علم المناسبة

 الكتاب مصابيح الدرر في تناسب آيات القرآن الكريم والسور
المؤلف عادل بن محمد أبو العلاء
الناشر الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
الطبعة العدد129 - السنة 37 - 1425هـ
نوع الكتاب علوم القرأن
الترقيم مرقم آليا غير موافق للمطبوع



فهرس الموضوعات 

  1.  المبحث الرابع: من أبرز أعلام علم المناسبة
    1. مدخل
    2. الإمام فخر الدين الرازي (543هـ - 606هـ)
    3. الإمام برهان الدين البقاعي (809 هـ - 885هـ)
    4. الشيخ عبد الحميد الفراهي (1280 - 1349هـ / 1864 - 1930م)
    5. الأستاذ سيد قطب (1324 - 1386هـ / 1906 - 1966هـ)
  2. المبحث الخامس: أنواع المناسبات
    1. أولا: المناسبات في الآيات
    2. ثانيا: المناسبة في السورة (السورة كوحدة مستقلة)
    3. ثالثا: المناسبة بين السور (القرآن كوحدة واحدة)
  3. المبحث السادس: نماذج تطبيقية على علم المناسبة 
    1. أولا: التناسب في الآيات
    2. ثانيا: التناسب في السورة الواحدة
    3. ثالثا: التناسب فيما بين السور  
  4. الخاتمة
  5. مصادر ومراجع
  6. العودة إلي  الكتاب مصابيح الدرر
 
  المبحث الرَّابِع: من أبرز أَعْلَام علم الْمُنَاسبَة

مدْخل

المبْحثُ الرَّابّع:

من أبرز أَعْلَام علم الْمُنَاسبَة

تتَابع اهتمام الْعلمَاء بإبراز قَضِيَّة التناسب والترابط بَين آيَات الْكتاب الْعَزِيز وسوره، وَكَانَت حظوظهم فِي التَّوْفِيق إِلَى ذَلِك مُتَفَاوِتَة، بِحَسب فتح الله - تَعَالَى - على كلٍّ مِنْهُم. وَلَكِن حَسْبُهم شرف المحاولة، ونيةُ خدمَة الْكتاب الْعَزِيز وَإِظْهَار إعجازه.

وتكمن قيمَة هَذِه المحاولات جَمِيعًا - قويِّها وضعيفها - فِي أَنَّهَا تمهِّد السَّبِيل للاحقين؛ لينسجوا على ذَات المنوال، أَو ليطوّروا من الْمنْهَج - تقويماً، وَإِضَافَة، وإبداعاً - فَيكون لَهُم منوالهم الْخَاص، الَّذِي يلائم أعصارهم، ويواكب تطور الْعُلُوم والمعارف المستمر. فكتاب الله - عز وَجل - لَا تفنى عجائبه، وَلَا يخْلَقُ على كَثْرَة الرَّد، وَلَا يُمكن أَن يُحِيط بِجَمِيعِ جوانبه إِنْسَان، أَو يستقلَّ بِجَمِيعِ معارفه أهل عصرٍ مَا ... فحسبنا أَن نقارب، وَأَن نسدِّد ... وَفضل الله وَاسع، وفتوحاته لاحدَّ لَهَا، وإلهامه لَا مُنْتَهى لَهُ.. سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

وَلِأَن بحثي هَذَا لَا يحْتَمل اسْتِيعَاب الْكَلَام عَن جَمِيع المهتمين بِهَذَا الْعلم الشريف؛ فقد رَأَيْت أَن أقتصر بِالْحَدِيثِ الموسع بعض الشَّيْء على أَرْبَعَة أَعْلَام برَّزوا فِيهِ.. اثْنَيْنِ من القدماء، هما فَخر الدّين الرَّازِيّ وبرهان الدّين البقاعي.. وَآخَرين من الْعَصْر الحَدِيث، هما عبد الحميد الفراهي وَسيد قطب.. رحم الله الْجَمِيع، وجزاهم عَن دينه وَكتابه خير الْجَزَاء، وأقامنا على طريقهم، وَفتح علينا كَمَا فتح عَلَيْهِم.. إِنَّه هُوَ البرُّ الرَّحِيم.

الإِمَام فَخر الدّين الرَّازِيّ (٥٤٣هـ - ٦٠٦هـ)

(١) الإِمَام فَخر الدّين الرَّازِيّ (٥٤٣ - ٦٠٦?)

تَرْجَمته:

هُوَ مُحَمَّد بن عمر بن الْحُسَيْن القرشيُّ التيميُّ البكْريُّ الطبرستاني، أَبُو الْمَعَالِي، الْمَعْرُوف بفخر الدّين الرَّازِيّ. شبَّ الرَّازِيّ على طلب الْعلم؛ فَتلقى على أَبِيه، ثمَّ على أكَابِر أهل بَلَده، قبل أَن يقوم بعدة رحلات علمية استغرقت من عمره سِنِين طَوِيلَة. وتنقل بَين كثير من بلدان مَا وَرَاء النَّهر.. طَالبا، ثمَّ معلما. وَبَقِي على هَذِه الْحَالة من الِاشْتِغَال الدَّائِم بِالْعلمِ - مِمَّا أكسبه قدرا كَبِيرا من الْمجد والاحترام وَالتَّقْدِير، وَإِن لم يخلُ بطبيعة الْحَال من بعض الأحقاد من حاسديه - حَتَّى توفّي بهراة يَوْم عيد الْفطر، الِاثْنَيْنِ من سنة ٦٠٦هـ. وَقيل: إِن الكرَّامية - أَشْرَس خصومه - سقوه السم، فَمَاتَ مِنْهُ بعد أَن كتب لأولاده وَصِيَّة مُؤثرَة، ضمَّنها خُلَاصَة تجربته، وابتهاله إِلَى الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فِي خشوعِ وسكينةِ الْمقبل عَلَيْهِ أَن يتَجَاوَز عَنهُ، ويتقبل مِنْهُ..

وَكَانَت ثقافة الرَّازِيّ موسوعية، كأتم مَا تكون الموسوعية! فقد برع فِي الْعُلُوم النقلية والعقلية والطبيعية جَمِيعًا. وصنف فِيهَا كلِّها تصانيف مفيدة، تجاوزت - على مَا ذكر ابْن السَّاعِي - مئتي مُصَنف. بَقِي مِنْهَا، مطبوعاً ومخطوطاً، قدر كَبِير يدلُّ على قامة الرَّازِيّ الباذخة فِي تَارِيخ الْمُسلمين العلمي.

وَفِي جملَة وَاحِدَة دَالَّة يصفه الدكتور محسن عبد الحميد بقوله:

(( لَا أبالغ إِذا قلت: إِن الرَّازِيّ هُوَ أكبر مفكر إسلامي ظهر بعد الإِمَام الْغَزالِيّ.. غزارةَ علمٍ، وعمقَ تفكير )) (١) .

(١) انْظُر: الرَّازِيّ مفسِّراً (وَهِي رِسَالَة للدكتوراه) ، د. محسن عبد الحميد، دَار الْحُرِّيَّة للطباعة. بَغْدَاد، ط١ /١٩٧٤ م، ص ١٣: ٣٣.. وَكَذَلِكَ: الرَّازِيّ من خلال تَفْسِيره (وَهِي رِسَالَة ماجستير) ، عبد الْعَزِيز المجذوب، الدَّار الْعَرَبيَّة للْكتاب - تونس، ط ٢/ ١٩٨٠م، ص ٣٠: ٤٢

تَفْسِيره، وعنايته بموضوع التناسب:

يعدُّ (مَفَاتِيح الْغَيْب) الْكتاب الْأَعْظَم للْإِمَام الرَّازِيّ، وَقد بَدَأَ كِتَابَته بعد إنجاز مُعظم كتبه، وانْتهى مِنْهُ قبل وَفَاته بسنوات قَليلَة، وَمن هُنَا يظْهر أَنه صنفه بعد أَن اكتملت أدواته، ونضج عقله، فحقَّ لَهُ أَن يَبْدُو فِي صُورَة الموسوعة الشاملة، الَّتِي جمعت - إِلَى جَانب التَّفْسِير - الْمسَائِل الْفِقْهِيَّة، والأسرار الْعَقْلِيَّة، والمباحث اللُّغَوِيَّة، والدقائق الكلامية، والإشارات الفلسفية.. مِمَّا يَجْعَل قارئه ينْتَقل فِيهِ من فنٍّ إِلَى فنٍّ، وَمن دَائِرَة إِلَى أُخْرَى.. فِي ترابطٍ عَجِيب، وترتيب منطقي لافت (١) .

وَمَا يهمنا الْآن من تَفْسِير الرَّازِيّ الْجَامِع، هُوَ بَيَان اهتمامه الشَّديد بترتيب الْآيَات وتحليلها، وَبَيَان أَسبَاب مجيئها على هَذَا النَّحْو، وَالِاسْتِدْلَال بذلك على إعجاز الْقُرْآن الْمجِيد.. وَفِي ذَلِك يَقُول: (( .. وَمن تَأمل فِي لطائف نظم هَذِه السُّورَة (سُورَة الْبَقَرَة) ، وَفِي بَدَائِع تركيبها، علم أَن الْقُرْآن كَمَا هُوَ معجز بِحَسب فصاحة أَلْفَاظه، وَشرف مَعَانِيه، فَهُوَ أَيْضا معجز بِحَسب ترتيبه ونظم آيَاته، وَلَعَلَّ الَّذين قَالُوا إِنَّه معجز بِحَسب أسلوبه أَرَادوا ذَلِك، إِلَّا أَنِّي رَأَيْت جُمْهُور المفسِّرين معرضين عَن هَذِه اللطائف، غير منتبهين لهَذِهِ الْأُمُور.. وَلَيْسَ الْأَمر فِي هَذَا الْبَاب إِلَّا كَمَا قيل:

(١) انْظُر: الرَّازِيّ مُفَسرًا، ص ٥١: ٨٦، فَفِيهِ عرض وافٍ وجيد للصورة الْعَامَّة لتفسير الرَّازِيّ، وللقضايا المتشابكة الَّتِي حواها، وللطريقة المميزة الَّتِي سلكها فِيهِ صَاحبه.

والنجمُ تستصغرُ الْأَبْصَار رُؤْيَته ... والذنبُ للطَّرف لَا للنجم فِي الصغرِ

)) (١)

وَفِي بَيَان بعض عجائب هَذَا التَّرْتِيب الْحَكِيم يَقُول: (( اعْلَم أَن سنة الله فِي تَرْتِيب هَذَا الْكتاب الْكَرِيم وَقع على أحسن الْوُجُوه، وَهُوَ أَنه يذكر شَيْئا من الْأَحْكَام، ثمَّ يذكر عَقِيبه آيَات كَثِيرَة فِي الْوَعْد والوعيد، وَالتَّرْغِيب والترهيب، ويقرن بهَا آيَات دَالَّة على كبرياء الله وجلال قدرته وعظمة إلهيته.. ثمَّ يعود مرّة أُخْرَى إِلَى بَيَان الْأَحْكَام. وَهَذَا أحسن أَنْوَاع التَّرْتِيب، وأقربها إِلَى التَّأْثِير فِي الْقُلُوب لِأَن التَّكْلِيف بِالْأَعْمَالِ الشاقة لَا يَقع فِي موقع الْقبُول إِلَّا إِذا كَانَ مَقْرُونا بالوعد والوعيد، وَلَا يُؤثر فِي الْقلب إِلَّا عِنْد الْقطع بغاية كَمَال من صدر عَنهُ الْوَعْد والوعيد. فَظهر أَن هَذِه الترتيبات أحسن الترتيبات اللائقة )) (٢) .

والرازي يحاول أَن يظْهر السُّورَة القرآنية من جِهَة، وَالْقُرْآن كُله - من جِهَة أُخْرَى - كوحدة متكاملة، وَفِي سَبِيل ذَلِك قد يرفض أَي شَيْء مِمَّا قد يُؤثر فِي نظرته الْكُلية إِلَى الْوحدَة القرآنية ... كَأَن يرفض سَبَب نزُول مثلا نَقله الْمُفَسِّرُونَ، وَيرى هُوَ أَنه يَقْتَضِي وُرُود آياتٍ لَا يتَعَلَّق بَعْضهَا بِبَعْض، وَيُوجب أعظم أَنْوَاع الطعْن فِي الإعجاز القرآني.. وَذَلِكَ مثل كَلَامه حول قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} (فصلت / ٤٤) (٣) .

كَمَا أَن الرَّازِيّ يهتم بِبَيَان حِكْمَة تَرْتِيب الْكَلِمَات فِي الْآيَة الْوَاحِدَة بِجَانِب تَرْتِيب الْآيَة فِي سياقها، لَا سِيمَا فِيمَا قد يدل ظَاهره على عدم مُرَاعَاة

(١) انْظُر: مَفَاتِيح الْغَيْب، فَخر الدّين الرَّازِيّ، تَصْوِير دَار الْكتب العلمية - طهران، ٢/٣٩٤

(٢) نفس الْمصدر، ١١/٦٢

(٣) انْظُر نفس الْمصدر: ٢٧/١٣٣، وَكَذَلِكَ: الرَّازِيّ مُفَسرًا، ٢٣٨، ٢٣٩

التَّرْتِيب، وَمن ذَلِك كَلَامه على

قَوْله تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} (الْأَنْعَام / ٨٤: ٨٦) حَيْثُ قَالَ: (( فَإِن قيل: رِعَايَة التَّرْتِيب وَاجِبَة، وَالتَّرْتِيب إِمَّا أَن يعْتَبر بِحَسب الْفضل والدرجة، وَإِمَّا أَن يعْتَبر بِحَسب الزَّمَان والمدة، وَالتَّرْتِيب بِحَسب هذَيْن النَّوْعَيْنِ غير مُعْتَبر فِي هَذِه الْآيَة.. فَمَا السَّبَب؟ !

قلتُ: عِنْدِي فِيهِ وَجه من وُجُوه التَّرْتِيب، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ - تَعَالَى - خصَّ كل طَائِفَة من طوائف الْأَنْبِيَاء بنوعٍ من الْإِكْرَام وَالْفضل، ثمَّ بيَّن أَن كل مَجْمُوعَة من مجموعات الْآيَة تتصف بِصفة مُعينَة. وَلأَجل ذَلِك كَانَ ذكر الْأَنْبِيَاء … )) (١) .. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يعْتَبر قَضِيَّة التَّرْتِيب - دَاخل الْآيَة، ثمَّ بَين آيَات السُّورَة مجتمعة - أعظم وَجه من وُجُوه الإعجاز القرآني، يَنْبَغِي تدقيق النّظر فِيهِ.

هَذَا مَا يتَعَلَّق بِهَذَا الْجَانِب فِي تَفْسِير الرَّازِيّ بإيجاز بَالغ.

وَجُمْلَة القَوْل فِي ذَلِك أَن الرَّازِيّ - كَمَا يَقُول د. محسن عبد الحميد - أكمل مَا بدأه الزَّمَخْشَرِيّ من تطبيق مَنْهَج الشَّيْخ الإِمَام عبد القاهر الْجِرْجَانِيّ الْبَيَانِي، فِي إِدْرَاك مَوَاطِن الإعجاز، وَالْوُقُوف على دلائله، بل وَزَاد على الزَّمَخْشَرِيّ فِيمَا تكلم بِهِ فِي بعض الْأُمُور الَّتِي لم يستوعب الزَّمَخْشَرِيّ القَوْل فِيهَا، أَو لم يتَطَرَّق إِلَيْهَا أصلا، أعانته على ذَلِك عقلية فذة، وقدرة استنباطية فريدة، وذوق بلاغي رفيع، مِمَّا هيأ لَهُ إِضَافَة جَوَانِب مهمة على مَا بحث عُلَمَاء البلاغة

(١) الْمصدر السَّابِق، ١٣ / ٦٥

وَالْقُرْآن وقرروا، وَلَا سِيمَا فِيمَا يتَعَلَّق بالنظم والتناسب بَين الْآيَات والكلمات والموضوعات.

وَبِذَلِك كُله يعْتَبر الرَّازِيّ - بِحَق - لبنة أساسية فِي بِنَاء دراسات الإعجاز القرآني، على أسس منهجية موضوعية رصينة، ومدافعاً صَادِقا وذكياً عَن التَّرْكِيب القرآني أَمَام مطاعن الْمَلَاحِدَة فِي عصره (١) ..

فرحمة الله عَلَيْهِ كِفاءَ مَا قدَّم وبذل فِي خدمَة كِتَابه الْأَعْظَم.

(١) انْظُر: الرَّازِيّ مُفَسرًا، ص ٢٥٤، وراجع كَذَلِك الْفَصْل الأول كُله من الْبَاب الثَّانِي (٢٣١: ٢٥٥) ، فقد وَفِي د. محسن عبد الحميد الْكَلَام عَن جَوَانِب إعجاز الْقُرْآن فِي تَفْسِير الرَّازِيّ تَوْفِيَة موفقة رائعة.

الإِمَام برهَان الدّين البقاعي (٨٠٩ هـ - ٨٨٥هـ)

(٢) الإِمَام برهَان الدّين البقاعي (٨٠٩ - ٨٨٥هـ)

تَرْجَمته:

هُوَ إِبْرَاهِيم بن عمر بن حسن الرُّبَاط الدِّمَشْقِي، أَبُو الْحسن، الْمَعْرُوف ببرهان الدّين البقاعي.

ولد بوادي الْبِقَاع (من أَرض لبنان الْآن) سنة ٨٠٩? فِي أسرة كَبِيرَة، لِأَبَوَيْنِ فقيرين، يعيشان عيشة الكفاف، وَبعد أَن حفظ الْقُرْآن، وَتعلم مبادئ الْعلم الأساسية، ثمَّ نزلت بأسرته كارثة قُتل فِيهَا والدُه وعمُّه، فَرَحل مَعَ أمه إِلَى دمشق، حَيْثُ وَاصل الطّلب. وتنقل بَينهَا وَبَين الْقُدس الشَّرِيفَة، قبل أَن يسْتَقرّ فِي الْقَاهِرَة، وفيهَا التقى بعلمائها، وبخاصة الْحَافِظ ابْن حجر الْعَسْقَلَانِي، الَّذِي لَازمه وانتفع بِهِ غَايَة الِانْتِفَاع، وَقد أعجب بِهِ ابْن حجر بدوره، فَأثْنى عَلَيْهِ كثيرا، وعدَّه من كبار أَصْحَابه، وَوَصفه بـ (الْعَلامَة) ، وَأثْنى على مؤلفاته.

وَلَكِن إِقَامَته بِالْقَاهِرَةِ لم تستمر حَتَّى النِّهَايَة، إِذْ عكَّرها حسدُ الحاسدين من أقرانه وعلماء زَمَانه - وَهُوَ الْأَمر الَّذِي شكا مِنْهُ مرَّ الشكوى فِي مُقَدّمَة كِتَابه (مصاعد النّظر) مِمَّا اضطره إِلَى الرُّجُوع إِلَى دمشق، حَيْثُ توفّي لَيْلَة السبت ١٨ من رَجَب سنة ٨٨٥هـ.

وَكَانَ البقاعي - إِلَى جَانب علمه وتبريزه فِيهِ - مُجَاهدًا فِي سَبِيل الله، حَيْثُ شَارك فِي حروب الفرنجة، الَّتِي دارت رحاها بَين المماليك والصليبيين، فشارك فِي غَزْوَة رودس وقبرص، ورابط فِي دمياط.

وَكَانَ رَقِيق الْحَال، يعْمل بِيَدِهِ - حَيْثُ كَانَ حسن الْخط - ليكفي نَفسه مُؤنَة الْعَيْش، كَمَا كَانَ يقوم بتعليم الصّبيان مبادئ الْعُلُوم بِجَانِب الْقُرْآن الْكَرِيم، وَكَانَ - رَحمَه الله - يُديم الْمكْث فِي الْمَسْجِد انْقِطَاعًا عَن أهل الدُّنْيَا، وليجد فِيهِ السكن والمأوى وَالْمَكَان اللَّائِق للكتابة والدرس، وليحاول كَذَلِك الابتعاد عَن حسد حاسديه وإيذاء شانئيه.

وَقد أحَاط البقاعي بمعارف عصره، ونبغ فِي كَافَّة الْعُلُوم الَّتِي كَانَت سائدة فِيهِ، والناظر فِي تراثه - الَّذِي يُجَاوز الْخمسين مصنفاً - يدْرك بسهولة أَنه أَمَام شخصية علمية موسوعية، فَهُوَ مفسِّر، ومحدث، ومؤرخ، وأديب، وشاعر (١) .

عَظِيم عنايته بقضية التناسب:

يُعدُّ البقاعي - غيرَ منازَع - أوسع من كتب فِي تطبيق هَذَا الْعلم، وأغزرهم مَادَّة فِيهِ.

(١) اعتمدت فِي تكوين هَذِه التَّرْجَمَة على مُقَدّمَة الدكتور عبد السَّمِيع مُحَمَّد أَحْمد حسنين لتحقيقه على كتاب البقاعي (مصاعد النّظر للإشراف على مَقَاصِد السُّور) ، مكتبة المعارف - الرياض، ط ١/١٤٠٨? - ١٩٨٧م.

كَمَا يُعدُّ كِتَابه (نظم الدُّرَر فِي تنَاول الْآيَات والسور) (١) أول كتاب مستوعب وشامل فِي هَذَا الْفَنّ، وَقد كَانَ البقاعي معتزاً بِهِ غَايَة الاعتزاز - وحُقَّ لَهُ ذَلِك - وَيدل على ذَلِك مثلُ قَوْله:

(( .. فَأَنا أَرْجُو (…) أَن الله تَعَالَى يجمع بكتابي هَذَا - الَّذِي خصني بإلهامه، وادخر لي المنحة بحلِّه وإبرامه، واعتناقه والتزامه - أهل هَذَا الدّين الْقيم جمعا عَظِيما، جَلِيلًا جسيماً، يظْهر لَهُ أثر بَالغ فِي اجْتِمَاعهم وحُسن تأسِّيهم برؤوس نقلته وَأَتْبَاعه )) (٢) .

وَوَصفه فِي ختامه بِأَنَّهُ (( ترجمان الْقُرْآن، مبدي مناسبات الْفرْقَان، التَّفْسِير الَّذِي لم تسمح الْأَعْصَار بِمثلِهِ، وَلَا فاض عَلَيْهَا من التفاسير - على كَثْرَة أعدادها - كصيِّب وبْله )) (٣) ..

وَهُوَ يُشِير إِلَى صعوبة إِدْرَاك الارتباط والتناسب، لِأَنَّهُ أَحْيَانًا يدقُّ وَيخْفى، وَرُبمَا تشكَّك ضَعِيف الْإِيمَان، أَو توقف كثير من الأذكياء عَن الدُّخُول فِي الدّين بِسَبَب هَذَا الغموض وَهَذِه الدقة فِي إِدْرَاك تناسب بعض الْآيَات، (( فَإِذا اسْتَعَانَ طَالب هَذَا الْعلم بِاللَّه، وأدام الطّرق لباب الْفرج، بإنعام التَّأَمُّل وَإِظْهَار الْعَجز، والوثوق بِأَنَّهُ فِي الذرْوَة من إحكام الرَّبْط، كَمَا كَانَ فِي الأوْج من حسن الْمَعْنى

(١) طبع لأوّل مرّة بِالْهِنْدِ بمطبعة مجْلِس دَائِرَة المعارف العثمانية بحيدر آباد، بإعانة من وزارة المعارف للحكومة الْهِنْدِيَّة فِي عَام ١٣٨٩? - ١٩٦٩م (واكتمل صدوره - بالجزء الثَّانِي وَالْعِشْرين - فِي عَام ١٣٩٦? - ١٩٧٦م) ، برعاية الدكتور مُحَمَّد عبد المعيد خَان كَانَ، أستاذ آدَاب اللُّغَة الْعَرَبيَّة بالجامعة العثمانية ومدير دَائِرَة المعارف العثمانية، وبتعليق الشَّيْخ مُحَمَّد عبد الحميد شيخ الجامعة النظامية بحيدر آباد.

(٢) نظم الدُّرَر، ١٧/٢٣٧

(٣) السَّابِق، ٢٢/٤٤٣

وَاللَّفْظ؛ لكَونه كَلَام من جلَّ عَن شوائب النَّقْص، وَحَازَ صِفَات الْكَمَال، إِيمَانًا بِالْغَيْبِ، وَتَصْدِيقًا بالرب، قَائِلا مَا قَالَ الراسخون فِي الْعلم: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} ، فانفتح لَهُ ذَلِك الْبَاب، ولاحت لَهُ من وَرَائه بوارق أنوار تِلْكَ

الْأَسْرَار، رقص الْفِكر مِنْهُ طَربا، وسكر وَالله استغراباً وعجباً، وطاش لِعَظَمَة ذَلِك جَنانه، فَرسَخ من غير مريةٍ إيمَانه )) (١) .

وَهُوَ يذكر عناءه فِي التفكر فِي مسَائِل الْمُنَاسبَة، وبذله وَسعه فِي الْوُصُول إِلَى غوامضها.. وَيَقُول:

(( .. وعَلى قدر غموض تِلْكَ المناسبات يكون وضوحها بعد انكشافها، وَلَقَد شفاني بعض فضلاء الْعَجم، وَقد سَأَلته عَن شيءٍ من ذَلِك، فَرَآهُ مُشكلا، ثمَّ قررت إِلَيْهِ وَجه مناسبته، وَسَأَلته: هَل وضح لَهُ؟ فَقَالَ: يَا سَيِّدي.. كلامك هَذَا يتسابق إِلَى الذِّهْن { )) .. ثمَّ يعقب على هَذِه الْوَاقِعَة بقوله: (( .. فَلَا تَظنن أَيهَا النَّاظر لكتابي هَذَا، أَن المناسبات كَانَت كَذَلِك قبل الْكَشْف لقناعها، وَالرَّفْع لستورها، فرُبَّ آيةٍ أَقمت فِي تأملها شهوراً (…) . وَمن أَرَادَ تَصْدِيق ذَلِك فَلْيتَأَمَّل شَيْئا من الْآيَات قبل أَن ينظر مَا قلته، ثمَّ لينظره، يظْهر لَهُ مِقْدَار مَا تعبت، وَمَا حصل لي من قِبَل الله من العون، سَوَاء كَانَ ظهر لَهُ وَجه كَذَلِك عِنْد تَأمله أَو لَا} )) .. ثمَّ يرجع بالثناء على كِتَابه بقوله: (( .. وَلَا تنكشف هَذِه الْأَغْرَاض إِلَّا لمن خَاضَ غمرة هَذَا الْكتاب، وَصَارَ من أَوله وَآخره وأثنائه على ثقةٍ وصواب.. وَمَا يذكَّر إِلَّا أولو الْأَلْبَاب! )) (٢) .

هَذَا جَوَاب قَوْله: (( فَإِذا اسْتَعَانَ بِاللَّه.. )) .

(١) نظم الدُّرَر، ١/١٢

(٢) السَّابِق، ١/١٤، ١٥.

وَقد تبدو مثلُ هَذِه اللهجة الواثقة المتباهية مستغربةً بعض الشَّيْء من عَالم بِالْقُرْآنِ مثل البقاعي.. وَلَكِن الْمنصف يتقبلها مِنْهُ؛ فقد أوذي كثيرا من بنى عصره، وصُوِّبت إِلَى كتبه - وَلَا سِيمَا (نظم الدُّرَر) - سِهَام النَّقْد غير الْمنصف - وَلَا البريء {-. حَتَّى اتُّهم بِأَنَّهُ سَرقه من شئ عثر عَلَيْهِ فنسبه إِلَى نَفسه} وَقد دَافع عَن نَفسه - إِذْ لم يجد من يدافع عَنهُ {- دفاعاً حاراً فِي مُقَدّمَة كِتَابه (مصاعد النّظر) ، وشكا بمرارةٍ بَالِغَة مَا لقِيه من حاسديه - كَمَا سبقت الْإِشَارَة إِلَى ذَلِك -.. ثمَّ قَالَ: (( .. فَلَا يعتب عليَّ أحد فِي هَذَا الْكَلَام، فَإِنَّهُ نفثة مصدور، ورميةُ مَعْذُور، شغله الذبابُ عَن كثير من مقاصده، ونفَّر عَنهُ كثيرا من مصايده} )) (١) .. ثمَّ ذكر مَا قَالَ بَعضهم فِي كِتَابه ذَاك نظم الدُّرَر: (( إِنَّه لَا حَاجَة إِلَيْهِ، وَلَا معوَّل عَلَيْهِ )) .. وَأجَاب عَن ذَلِك بقوله:

(( .. على أَنه (يَعْنِي نظم الدُّرَر) بِمَا لولاه لافتضح أَكْثَرهم لَو وَافقه فِي الْقُرْآن مناظر، وحاوره فِي كثير من الْجمل من أهل الْملَل محاور - فِي مَكَان يَأْمَن فِيهِ الحيف، وَلَا يخْشَى سطوة السَّيْف {-.. لَو قَالَ: أَنْتُم تَقولُونَ: إِن الْقُرْآن معجز، وَكَذَا آيَة مُسْتَقلَّة توازي الْكَوْثَر الَّتِي هِيَ أقصر سُورَة.. فَمَا قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ …} (الْأَنْعَام / ٨٤: ٨٦) .. فَهَذِهِ الْآيَات بِمِقْدَار الْكَوْثَر نَحْو أَربع مَرَّات. إِن قلت: إِن المعجز مطلقُ نظمها بِهَذِهِ الْأَلْفَاظ، فَأَنا أرتب من فِيهَا غير هَذَا التَّرْتِيب وَإِن قُلْتُمْ: إِنَّه أَمر يخص هَذَا النّظم على مَا هُوَ عَلَيْهِ من التَّرْتِيب؛ فبيِّنوه {- لحيَّرهم} )) .

ثمَّ قَالَ - بعد أَن ذكر أَمْثِلَة أُخْرَى من سور النِّسَاء و (ص) و (ق) :

(١) السَّابِق، ١/١٤٧: ١٤٩

هَذَا جَوَاب قَوْله عَن ذَلِك المحاور المتشكّك فِي نظم الْقُرْآن: (( لَو قَالَ: أَنْتُم تَقولُونَ… )) إِلَخ.

(( .. وَلَقَد أَخْبرنِي بعض الأفاضل أَن شخصا من الْيَهُود لقِيه خَالِيا، فَقَالَ لَهُ: مَاذَا قَالَ نَبِيكُم فِي الرّوح؟ فَقَالَ لَهُ: أنزل الله عَلَيْهِ فِيهَا قَوْله تَعَالَى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} (الْإِسْرَاء/ ٨٥) ، فَقَالَ لَهُ مستهزئاً: بيانٌ مليحٌ هَذَا

قَالَ: فأبهتني، ثمَّ تركني وَانْصَرف.. وَقد بلغ من نكايتي مَالا يُعلمهُ إِلَّا الله، وَمَا دريتُ مَا أُجِيبهُ وَلَو كَانَ يعرف مَا بِيَّنه فِيهَا كتابي هَذَا - الَّذين صوَّبوا إِلَيْهِ من الغضّ، مَا يكَاد الْجَبَل مِنْهُ يرفضُّ {- لأخزاه وأخجله، ونكَّس رَأسه وجهَّله} )) (١) .

وذكرُ مثل هَذِه التفاصيل مُهِمّ جدا لبَيَان أهمية الْكَلَام فِي التناسب عُمُوما، وَقِيمَة وأهمية مساهمة البقاعي - رَحمَه الله - فِي فتح أَبْوَاب التوسُّع فِيهِ، وَقد سبقت الْإِشَارَة إِلَى شَيْء من ذَلِك فِيمَا سبق.

وَرَغمَ أَن البقاعي ذهب - خلافًا لرأي الْجُمْهُور، وَخِلَافًا للصحيح من الْقَوْلَيْنِ كَذَلِك.. كَمَا سبق - إِلَى أَن تَرْتِيب السُّور كَانَ باجتهادٍ من الصَّحَابَة - رضوَان الله عَلَيْهِم - (٢) ؛ إِلَّا أَن ذَلِك لم يعكِّر على طَرِيقَته فِي إِظْهَار التناسب؛ لِأَنَّهُ عقَّب القَوْل بِكَوْن التَّرْتِيب اجتهادياً بتقرير أَن هَذَا هُوَ مَا رضيه الله تَعَالَى لكتابه الْحَكِيم، فوفق صحابة نبيه (إِلَيْهِ. وَهَذَا التعقيب لَا يمْنَع بحالٍ من نقد البقاعي فِيمَا ذهب إِلَيْهِ فِي ذَلِك، مُخَالفا جُمْهُور أهل الْعلم فِيهِ (٣) .

(١) السَّابِق، ١/١٤٧: ١٤٩

(٢) ذكر ذَلِك عِنْد ربطه سُورَة آل عمرَان بالبقرة، انْظُر نظم الدُّرَر: ٤ / ١٩٩

(٣) انْظُر فِي ذَلِك كتاب أستاذنا وَشَيخنَا الدكتور مُحَمَّد أَحْمد يُوسُف الْقَاسِم: الإعجاز الْبَيَانِي فِي تَرْتِيب آيَات الْقُرْآن الْكَرِيم وسوره، ص ١٠٦، وراجعه كَذَلِك فِي تَفْصِيل الْمَسْأَلَة كلهَا: ٢٥٧: ٢٨٦

وَقد اختصر البقاعي كِتَابه الْكَبِير هَذَا فِي كتاب أَصْغَر مِنْهُ، سَمَّاهُ (أَدِلَّة الْبُرْهَان القويم على تناسب آي الْقُرْآن الْعَظِيم) ، وَهُوَ مخطوط حَتَّى الْآن (١) .

وثمة كتاب آخر لَهُ على جانبٍ كَبِير من الأهمية فِي هَذَا الْبَاب، وَهُوَ الْكتاب الَّذِي أَشرت إِلَيْهِ أَكثر من مرّة (مصاعد النّظر للإشراف على مَقَاصِد السُّور) ، وَالَّذِي ذكر البقاعي فِي مقدمته أَنه يصلح أَن يُسمَّى (الْمَقْصد الأسمى فِي مُطَابقَة اسْم كل سُورَة للمسمى) (٢) ، وَهِي تَسْمِيَة دَالَّة على مَوْضُوعه، وَأَنه داخلٌ دُخُولا ظَاهرا فِي بَاب الاهتمام بإبراز التناسب؛ فَهُوَ يعْمل على إِثْبَات أَن لكل سُورَة من السُّور - وَإِن كَانَت فِي غَايَة الوجازة وَالْقصر - مقصداً وَاحِدًا يدار عَلَيْهِ أَولهَا وَآخِرهَا، ويُستدل عَلَيْهِ فِيهَا، فرتَّب الْمُقدمَات الدَّالَّة عَلَيْهِ، وَإِذا كَانَ فِيهَا شئ يحْتَاج إِلَى دَلِيل؛ اسْتدلَّ عَلَيْهِ.. وَهَكَذَا حَتَّى تبدو السُّورَة للنَّاظِر إِلَيْهَا (( كالشجرة النضيرة الْعَالِيَة، والدوحة البهيجة الأنيقة الحالية (…) ، وأفنانها منعطفة إِلَى تِلْكَ المقاطع كالدوائر، وكل دَائِرَة مِنْهَا لَهَا شُعبة مُتَّصِلَة بِمَا قبلهَا، وشُعبة ملتحمة بِمَا بعْدهَا (…) ؛ فَصَارَت كل سُورَة دَائِرَة كبرى، مُشْتَمِلَة على دوائر الْآيَات الغُرِّ، البديعة النّظم، العجيبة الضَّم، بلين تعاطُف أفنانها، وحُسن تواصل ثمارها وَأَغْصَانهَا )) (٣) .

وَهَذَا الْبَاب من التناسب أدق وأغمض من غَيره، وَقد حاول فِيهِ البقاعي بِقدر طاقته، وَلَكِن حَسبه فتحُ مجَال القَوْل فِي هَذِه الدقائق اللطيفة، الَّتِي مَا تزَال تنْتَظر من يشفي القَوْل فِيهَا

(١) انْظُر مُقَدّمَة د. عبد السَّمِيع حسنين لتحقيقه على مصاعد النّظر: ١/٥٧

(٢) مصاعد النّظر، ١/٩٨

(٣) السَّابِق، ١ / ١٤٩

الشَّيْخ عبد الحميد الفراهي (١٢٨٠ - ١٣٤٩هـ / ١٨٦٤ - ١٩٣٠م)

(٣) الشَّيْخ عبد الحميد الفراهي

(١٢٨٠ - ١٣٤٩?/ ١٨٦٤ - ١٩٣٠م)

تَرْجَمته:

هُوَ حميد الدّين أَبُو أَحْمد عبد المحسن الأنصاريُّ الفراهيُّ.

ولد سنة ١٢٨٠هـ (١٨٦٤م تَقْرِيبًا) فِي قَرْيَة (فَرِيها) ، من قرى مديرية (أعظم كره) بِالْهِنْدِ، وَبَدَأَ تَعْلِيمه مُنْذُ ترعرعه - كشأن أَبنَاء العائلات الشَّرِيفَة فِي الْهِنْد - فحفظ الْقُرْآن، وبرع فِي الفارسية حَتَّى نظم فِيهَا الشّعْر وَهُوَ ابْن سِتَّة عشر عَاما، ثمَّ اشْتغل بِطَلَب الْعَرَبيَّة وعلومها على يَد ابْن خَاله الْعَلامَة المؤرخ شبلي النعماني (١٢٧٤ - ١٣٣٢هـ/ ١٨٥٨ - ١٩١٤م) ، وَكَانَ أكبر مِنْهُ بست سِنِين، كَمَا تلقى الْعلم فِي حَلقَة الْفَقِيه الْحَنَفِيّ المحدّث الْعَلامَة الشَّيْخ أبي الْحَسَنَات مُحَمَّد عبد الْحَيّ اللكنوي (١٢٦٤ - ١٣٠٤هـ/ ١٨٤٨ - ١٨٨٧م) .. وَغَيره من عُلَمَاء الْعَصْر، ثمَّ عرَّج بعد ذَلِك على اللُّغَة الإنجليزية وَهُوَ ابْن عشْرين سنة، والتحق بكلية عليكرة الإسلامية، وَحصل على (الليسانس) فِي الفلسفة الحديثة من جَامِعَة (الله آباد) .

وَبعد مَا قضى وطره من طلب الْعلم، واستقى من حياضه، ورتع فِي رياضه - عُيِّن معلما للعلوم الْعَرَبيَّة بمدرسة الْإِسْلَام بكراشي (عَاصِمَة السَّنَد آنذاك) ، فدرَّس فِيهَا سِنِين، وَكتب وَألف، وقرض وَأنْشد، ثمَّ انْقَطع بعد ذَلِك إِلَى تدبُّر الْقُرْآن ودرسه، وَجمع علومه، فَقضى فِيهِ أَكثر عمره حَتَّى توفّي - رَحْمَة الله عَلَيْهِ - فِي التَّاسِع عشر من جُمَادَى الثَّانِيَة من سنة ١٣٤٩هـ (الْحَادِي عشر من نوفمبر ١٩٣٠م) ، فِي مَدِينَة متهورا، حَيْثُ كَانَ يتطبب من مرضٍ ألمَّ بِهِ (١) .

(١) اعتمدت فِي تكوين هَذِه التَّرْجَمَة الموجزة على تَرْجَمَة السَّيِّد سُلَيْمَان الندوي - رَحمَه الله - للشَّيْخ الفراهي، وَالَّتِي كتبهَا إِثْر وَفَاته، وألحقها بآخر الطبعة المصرية من كِتَابه (إمعان فِي أَقسَام الْقُرْآن) المطبعة السلفية، الْقَاهِرَة، ١٩٣٠ م، ثمَّ أَثْبَتَت فِي طبعة دَار الْقَلَم بِدِمَشْق من الْكتاب ذَاته (ط ١/١٩٩٤م) مَعَ بعض التنقيحات والزيادات.

وَقد كَانَ الفراهي أنموذجاً مشرفاً للْعَالم الْمُسلم الْجَامِع بَين التبحُّر فِي الْعُلُوم الْعَرَبيَّة والدينية، والاطلاع الْوَاسِع على الْعُلُوم العصرية والطبيعية، وَيظْهر أثر هَذِه الثقافة المتوازنة العميقة فِيمَا كتب من مصنفاتٍ قاربت الْخمسين عددا، أهمها وَأَعْظَمهَا مَا كتبه حول الْقُرْآن الْمجِيد، وتأويله، وَمَا سَمَّاهُ (النظام) - وَهُوَ مَا سأعرض لَهُ فِي الْفَقْرَة التالية - وَكَذَلِكَ مَا كتبه حول الحَدِيث الشريف وَالْأَدب الْعَرَبِيّ والفلسفة الأخلاقية والمنطق.. بِالْإِضَافَة إِلَى الْكثير من الشّعْر الراقي فِي كلٍّ من اللسانين: الْعَرَبِيّ والفارسي، وَفِي ذَلِك يقوم السَّيِّد الْجَلِيل أَبُو الْحسن الندوي (ت ١٤٢٠هـ - ١٩٩٩م) - رَحْمَة الله عَلَيْهِ: (( .. وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِك إِلَّا لمن جمع بَين التدبُّر فِي الْقُرْآن والاشتغال بِهِ، وَبَين التذوق الصَّحِيح لفن البلاغة والمعاني وَالْبَيَان فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة، والتشبُّع من دراسة بعض اللُّغَات الْأَجْنَبِيَّة والصحف السماوية الْقَدِيمَة، وَبَين سَلامَة الْفِكر ورجاحة الْعقل والتعمق.. وَذَلِكَ فضل الله يؤتيه من يَشَاء )) (١) .

وَبِالْجُمْلَةِ.. يَقُول عنهُ أحد تلامذته: (( كَانَ غَايَة - بل آيَة - فِي حِدة الذكاء، ووفور الْعقل، ونفاذ البصيرة، وَشدَّة الْوَرع، وَحسن الْعِبَادَة، وغنى النَّفس، وَلَئِن تَأَخّر بِهِ زَمَانه، لقد تقدم بِهِ علمه وفضلُه )) (٢) .

(١) مُقَدّمَة الشَّيْخ الندوي لطبعة دَار الْقَلَم بِدِمَشْق من: إمعان فِي أَقسَام الْقُرْآن، ص ١٣.

(٢) من مُقَدّمَة الْأُسْتَاذ مُحَمَّد أجمل أَيُّوب الإصلاحي لكتاب الفراهي: الرَّأْي الصَّحِيح فِيمَن هُوَ الذَّبِيح، دَار الْقَلَم - دمشق، ط ١/١٩٩٩م، ص ١١.

ولعلَّ من الأهمية بمَكَان أَن نشِير إِلَى أَن للفراهي - رَحمَه الله - نَحوا من خمسةٍ وَعشْرين كتابا لما تطبع بعد، وَكثير مِنْهَا فِي غَايَة الأهمية، كَمَا يظْهر من عناوينها، وكما عرفنَا من طَريقَة الفراهي العلمية فِي الْبَحْث والتصنيف، وَمِنْهَا - فِيمَا يتَعَلَّق بِالْقُرْآنِ الْمجِيد - بَقِيَّة تَفْسِيره (تَفْسِير نظام الْقُرْآن وَتَأْويل الْفرْقَان بالفرقان) ، وأساليب الْقُرْآن، وَأَسْبَاب النّزول، وتاريخ الْقُرْآن، وأوصاف الْقُرْآن، وَفقه الْقُرْآن، وحجج الْقُرْآن، والرسوخ فِي معرفَة النَّاسِخ والمنسوخ.. بِالْإِضَافَة إِلَى نفائس أُخْرَى فِي الْأَدَب الْعَرَبِيّ، والفلسفة، والمنطق، والاجتماع.. مِمَّا يُعدُّ ثروة جديرة بالاهتمام وَالرِّعَايَة، وَالْعَمَل على إخْرَاجهَا لينْتَفع بهَا أهل الْعلم فِي كل مَكَان (١) .

نظريته فِي (نظام الْقُرْآن) :

سبق مَعنا أَن الفراهي - رَحمَه الله - انْقَطع فَتْرَة طَوِيلَة من عمره الْمُبَارك إِلَى تدبُّر الْقُرْآن ودرسه، وَالنَّظَر فِيهِ من كل جِهَة، وَقد مَاتَ - رَحمَه الله - وَهُوَ مكبٌّ على أَخذ مَا فَاتَ الْعلمَاء، ولفِّ مَا نشروه، ولمِّ مَا شتَّتوه، وَتَحْقِيق مَا لم يحققوه، فَكَانَ لِسَانه يَنْبع علما بِالْقُرْآنِ، وصدره يتدفق بحثا عَن مشكلاته، وقلمه يجْرِي كشفاً عَن معضلاته؛ إذْ كَانَ يعْتَقد أَن الْقُرْآن مُرَتّب بيانُه، ومنسقة النظام آياتُه، وَأَن كل مَا تقدم وَتَأَخر من سوره بُنيَ على الْحِكْمَة والبلاغة ورعاية مُقْتَضى الْكَلَام، فَلَو قُدِّم مَا أُخِّر، وأُخِّر مَا قُدِّم، لبطل النظام، وفسدت

(١) وَمِمَّا يلْحق بآثاره المخطوطة تِلْكَ المطبوعة، فَإِن جَمِيعهَا - باستثناء اثْنَيْنِ أَو ثَلَاثَة مِنْهَا - لم يعد طبعه مُنْذُ نَحْو ثَلَاثِينَ عَاما.. وَقد عانيتُ معاناة كَبِيرَة حَتَّى عثرت - بعد طول بحث وتنقيب - على كِتَابه النفيس (دَلَائِل النظام) .

بلاغة الْكَلَام (١) .

وَقد أدَّاه تدبُّره هَذَا فِي كتاب الله تَعَالَى، وَحسن قِرَاءَته لَهُ، إِلَى استنباط (علم النظام) وتحديد أُصُوله، وَذَلِكَ بعد أَن نظر فِيمَا قَالَه عُلَمَاء الْقُرْآن فِي التناسب والترابط المحفوف بهما كتابُ الله تَعَالَى - آياتٍ وسوراً - فَوَجَدَهُ غير كافٍ وَلَا شافٍ - على مَا فِيهِ من أهمية (الكشوف الأولى) إِن صَحَّ التَّعْبِير -؛ لذَلِك عمل على تطويره وتعميقه، حَتَّى يَجْعَل مِنْهُ فَنًّا مُسْتقِلّا على أصُول راسخة، وقواعد وَاضِحَة، مستنبطة من أساليب الْقُرْآن وقواعد اللِّسَان، وَجَاء فِي تَقْرِيره بِمَا لم يهتد إِلَيْهِ أحد مِمَّن سبقه، مِمَّا فتح للمتدبرين فِي كتاب الله - تَعَالَى - بَابا عَظِيما لفهم أسراره وبلاغته، وسهَّل عَلَيْهِم الِانْتِفَاع بِهِ علما وَعَملا، فقد كَانَ اهتمام السَّابِقين منحصراً فِي الْكَشْف عَن الْمُنَاسبَة الَّتِي يَنْتَظِم بهَا الْكَلَام من أَوله إِلَى آخِره، حَتَّى يصير بهَا شَيْئا وَاحِدًا، وقنعوا فِي ذَلِك بِمُجَرَّد بَيَان الْمُنَاسبَة بَينهَا، من غير أَن ينْظرُوا - فِي غَالب أَعْمَالهم - إِلَى أمرٍ عامٍّ شاملٍ يَنْتَظِم بِهِ محتوى الْآيَة أَو السُّورَة، وَلَيْسَ هَذَا التَّقْصِير رَاجعا بِالضَّرُورَةِ إِلَى إهمالهم أَو ضعفهم، بل كَانَ - وَلَا يزَال - لدقة هَذَا الْأَمر وغموضه، وحسبُ السَّابِقين - كَمَا كررنا غير مرةٍ - أَنهم طرقوا الْبَاب، ومهدوا طَرِيق الْبَحْث.. حَتَّى جَاءَ الفراهي - رَحمَه الله - فَجعل من جدول كَلَامهم فِيهِ بحراً، وَأسسَ لهَذَا الْعلم بنياناً على أصُول راسخة، واستخرج لَهُ فروعاً جَامِعَة، ثمَّ صاغه فِي قالب الْفَنّ المستقل، وَلم يتْرك لمن بعده مجالاً للخبط فِي وَادي الشكوك والحيرة (٢) .

وَقد نظم الفراهي قَوَاعِد هَذَا الْعلم، وبيَّن أُصُوله، ودلَّل على أهميته الْبَالِغَة، فِي كِتَابه الْعَظِيم - على صغر حجمه، فَهُوَ فِي ١٢٧ صفحة فَقَط! -

(١) انْظُر: تَرْجَمَة السَّيِّد سُلَيْمَان الندوي، الْمشَار إِلَيْهَا آنِفا، ص ٢٣.

(٢) انْظُر: مُقَدّمَة بدر الدّين الإصلاحي لكتاب الفراهي (دَلَائِل النظام) ، ص ٣: ٥

(دَلَائِل النظام) (١) .. وَقد ركز فِيهِ على توضيح أمرٍ مُهِمّ، وَهُوَ التَّفْرِقَة بَين (التناسب) و (النظام) ، وَأَن مَا يعنيه من (النظام) لَيْسَ مُجَرّد تناسب، ... وَفِي ذَلِك يَقُول:

(( قد صنف بعض الْعلمَاء فِي تناسب الْآي والسور، وَأما الْكَلَام فِي نظام الْقُرْآن، فَلم أطَّلع عَلَيْهِ، وَالْفرق بَينهمَا: أَن التناسب إِنَّمَا هُوَ جزءٌ من النظام، فَإِن التناسب بَين الْآيَات بَعْضهَا مَعَ بعض لَا يكْشف عَن كَون الْكَلَام شَيْئا وَاحِدًا مُسْتقِلّا بِنَفسِهِ، وطالب التناسب رُبمَا يقنع بمناسبة مَا، فَرُبمَا يغفُل عَن الْمُنَاسبَة الَّتِي يَنْتَظِم بهَا الْكَلَام فَيصير شَيْئا وَاحِدًا، وَرُبمَا يطْلب الْمُنَاسبَة بَين الْآيَات المتجاورة مَعَ عدم اتصالها، فَإِن الْآيَة التالية رُبمَا تكون مُتَّصِلَة بِالَّتِي قبلهَا على بُعدٍ مِنْهَا، وَلَوْلَا ذَلِك لما عجز الأذكياء عَن إِدْرَاك التناسب، فأنكروا بِهِ، فَإِن

(١) طبع الْكتاب طبعته الأولى - والوحيدة حَتَّى الْآن {- بعد وَفَاة الفراهي، بعناية السَّيِّد بدر الدّين الإصلاحي مدير الدائرة الحميدية فِي عَام ١٣٨٨? - ١٩٦٨م، وَقد اجْتهد الإصلاحي فِي جمع أُصُوله من أوراق الشَّيْخ، فقد كَانَ أَوله فَقَط (من ١: ١٠) مُرَتبا، وَمَا عدا ذَلِك كَانَ موزَّعاً فِي صُورَة بطاقات وإشارات، فَقَامَ بجمعها وترتيبها حسب مَا رَآهُ مناسباً لموضوع الْكتاب، وَلذَلِك فَإِن فِي كثير من الْمَوَاضِع مِنْهُ نقطاً متجاورة تُشِير إِلَى وجود بَيَاض بِالْأَصْلِ، حَيْثُ انْتهى قلم الشَّيْخ، وَقطع الْكِتَابَة لسَبَب أَو لآخر.. وَلذَلِك يَقُول السَّيِّد الإصلاحي فِي مقدمته: (( .. فَلَا غرو إِن كَانَ فِيهِ شَيْء من الْإِجْمَال والإبهام.. فَلذَلِك يَنْبَغِي لمن درس هَذَا الْكتاب ألاَّ يمر عَلَيْهِ كَالرِّيحِ العاصف، أَو الْبَرْق الخاطف} .. بل يقف على كل سطر مِنْهُ، ويتفكر فِيهِ.. عَسى أَن يجده فصلا مُسْتقِلّا )) (ص ٦) .. وَهُوَ على حَالَته هَذِه عظيمُ النَّفْع، جليل الْقدر، حقيقٌ بِأَن يفتح آفاقاً جَدِيدَة من التَّأَمُّل والتدبر فِي كتاب الله الْعَزِيز، من شَأْنهَا - أعنى هَذِه الْآفَاق المشْرَعة - أَن تجدّد صلتنا بِهِ، وتعظم انتفاعنا مِنْهُ..

عدم الِاتِّصَال بَين آياتٍ متجاورةٍ يُوجد كثيرا، وَمِنْهَا مَا ترى فِيهِ اقتضاباً بيِّناً، وَذَلِكَ إِذا كَانَت الْآيَة - أَو جملةٌ من الْآيَات - مُتَّصِلَة بِالَّتِي على بُعدٍ مِنْهَا.

وَبِالْجُمْلَةِ: فمرادنا بالنظام أَن تكون السُّورَة كَامِلا وَاحِدًا، ثمَّ تكون ذَات مُنَاسبَة بالسورة السَّابِقَة واللاحقة، أَو بِالَّتِي قبلهَا أَو بعْدهَا على بُعدٍ مِنْهَا. (…) فَكَمَا أَن الْآيَات رُبمَا تكون مُعْتَرضَة؛ فَكَذَلِك رُبمَا تكون السُّورَة مُعْتَرضَة، وعَلى هَذَا الأَصْل نرى الْقُرْآن كلَّه كلَاما وَاحِدًا، ذَا مُنَاسبَة وترتيب فِي أَجْزَائِهِ، من الأول إِلَى الآخر، فَتبين مِمَّا قدمنَا أَن النظام شئٌ زائدٌ على الْمُنَاسبَة وترتيب الْأَجْزَاء )) (١) .

والفراهي فِي سَبِيل معرفَة النظام - على هَذِه الْكَيْفِيَّة الَّتِي بيَّن - يسْعَى إِلَى اسْتِخْرَاج مَا سَمَّاهُ (عَمُود) كل سُورَة، وَهُوَ يعْنى بِهِ العنوان الرئيس للسورة من الْقُرْآن، فمعرفته تُؤدِّي، من ثَمّ إِلَى معرفَة نظام الْقُرْآن كلِّه، وَهُوَ فِي استخراجه لَا يعْتَمد كثيرا على حشد الْأَقَاوِيل وَالرِّوَايَات الَّتِي تملأ كتب التَّفْسِير، بل يعمد - مُبَاشرَة - إِلَى تدبُّر الْقُرْآن، وَالنَّظَر فِي مَعَانِيه وأهدافه نظر المطلع الْخَبِير؛ ليهديه هَذَا التَّأَمُّل المجرَّد إِلَى معرفَة العمود، وَمن ثَمَّ النظام (٢) .

وَهُوَ يصرِّح بصعوبة هَذِه العملية المعرفية لاستخراج (عَمُود السُّورَة) ، وَذَلِكَ حَتَّى يبْعَث طَالبه إِلَى بذل غَايَة وَسعه فِي محاولة تحديده.. وَفِي ذَلِك

كَذَا بالمطبوعة، وَلَعَلَّ صِحَّتهَا: كلا، أَو: كلَاما.. وَالله أعلم.

(١) دَلَائِل النظام، ص ٧٤، ٧٥

(٢) انْظُر: الفراهي وجهوده فِي الدعْوَة الإسلامية، د. مُحَمَّد سيد سعيد أحسن العابدي (رِسَالَة دكتوراه لم تنشر بعد، تقدم بهَا صَاحبهَا الْهِنْدِيّ إِلَى قسم الدعْوَة والإرشاد بكلية أصُول الدّين بِالْقَاهِرَةِ عَام (١٩٧٦م) ، ص ١٤٠، ١٤١.

يَقُول: (( اعْلَم أَن تعْيين عَمُود السُّورَة هُوَ إقليدٌ لمعْرِفَة نظامها.. وَلكنه أصعب المعارف، وَيحْتَاج إِلَى شدَّة التَّأَمُّل والتمحيص، وترداد النّظر فِي مطَالب السُّورَة المتماثلة والمتجاورة، حَتَّى يلوح العمود كفلق الصُّبْح، فتضيء بِهِ السُّورَة كلُّها، ويتبين نظامُها، وَتَأْخُذ كل آيَة محلهَا الْخَاص، وَيتَعَيَّن من التأويلات المحتملة أرجحها )) (١) .

ثمَّ يعدِّد بعد ذَلِك أهم أَسبَاب صعوبة مثل هَذَا الْبَحْث، وَالَّتِي يُمكن تلخيصها فِي كَون الْقُرْآن نزل متشابهاً مثاني، وَأَن الْكتاب نزل بالحكمة الَّتِي لَا تتأتى بِمُجَرَّد إِلْقَاء المعارف.. بل بإعمال الْفِكر وَالْعقل، ثمَّ كَون مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآن من نِهَايَة الإيجاز هُوَ مدَار إعجازه (٢) ..

ثمَّ يتَكَلَّم الفراهي بعد ذَلِك عَن نظم السُّور بَعْضهَا مَعَ بعض، بعد أَن يذكر (عَمُود) كلٍّ مِنْهَا إِجْمَالا، فعلى سَبِيل الْمِثَال: يذكر أَن سُورَة الْفَاتِحَة كالديباحة لِلْقُرْآنِ، فَفِيهَا مَفَاتِيح لجَمِيع مَا فِيهِ، وَسورَة الْبَقَرَة هِيَ سُورَة الْإِيمَان الْمَطْلُوب؛ وَلذَلِك جمعت دلائله، وَسورَة آل عمرَان سُورَة الْإِسْلَام، وَهُوَ طَاعَة النَّبِي (، وَسورَة النِّسَاء كالرِّدْء لصورة الْإِسْلَام، بِمَا تبين من كَون الشَّرِيعَة رَحْمَة على النَّاس كَافَّة، وَسورَة الْمَائِدَة تركِّز على بِنَاء الْإِسْلَام على الْعَهْد الإلهي، بِذكر أواسط الْعَهْد ونهايته، وَأما سُورَة الْأَنْعَام، فعمودها بيانُ موقع الْأَحْكَام من عهد التَّوْحِيد، لسدِّ أَبْوَاب الشّرك.. وَهَكَذَا حَتَّى يَنْتَهِي من سور الْقُرْآن الْمِائَة والأربع عشر، فِي إيجاز دالٍّ، وعبارةٍ محكمَة (٣) .

(١) دَلَائِل النظام، ص ٧٧

(٢) انْظُر السَّابِق: ص ٧٧: ٧٩

(٣) السَّابِق، ٩٣: ١٠٥

وعَلى كلٍّ.. فمعرفة النظام والربط عِنْد الفراهي تعدل معرفَة نصف الْقُرْآن، فَمن فَاتَهُ النظام والربط فَاتَهُ شيءٌ كثيرٌ من فهم روح الْقُرْآن.. فبالنظام يتَبَيَّن سمتُ الْكَلَام - كَمَا يَقُول رَحمَه الله - وَالِانْتِفَاع بِالْقُرْآنِ والاستفادة مِنْهُ موقوفةٌ على فهمه، وَالْكَلَام لَا يُمكن فهمه إِلَّا بِالْوُقُوفِ على تركيب أَجْزَائِهِ، وَبَيَان تناسب بَعْضهَا بِبَعْض؛ لِأَن الِاطِّلَاع على المُرَاد من مَعَاني الْأَجْزَاء لَا يتأتَّى إِلَّا بعد الْوُقُوف على النَّاحِيَة التأليفية، فَلَا يَسْتَطِيع أحدٌ أَن يَسْتَفِيد من كتابٍ وَينْتَفع بِهِ دون أَن يفهمهُ، وَلنْ يفهمهُ حَتَّى يدْرك الروابط بَين أَجْزَائِهِ ومواقع كلٍّ مِنْهَا.. على أَن البقاعي كَانَ يقدم لكلِّ سُورَة من سور الْقُرْآن بمقدمةٍ مُجملةٍ، ثمَّ يَضَعهَا تَحت اسمٍ جامعٍ لكل عناصر السُّور وَتَحْت غرضٍ واحدٍ.

معرفَة النظام ووحدة الْمُسلمين:

سبق مَعنا فِي المبحث الثَّانِي (عِنْد الْكَلَام عَن موقع علم الْمُنَاسبَة من عُلُوم الْقُرْآن) أَن أشرتُ إِلَى ملمحٍ مهمٍ جدا يُمَيّز تنَاول الشَّيْخ الفراهي لقضية التناسب والنظام فِي الْقُرْآن الْكَرِيم، وَهُوَ اهتمامه الموفَّق بالربط بَين غَفلَة الْمُسلمين عَن قَضِيَّة النظام والترابط فِي الْقُرْآن وَبَين حَالهم المحزن الَّذِي هم عَلَيْهِ، من التشيُّع والتحزُّب، وَالْخلاف الْقَاتِل فِيمَا بَينهم، وَفِي ذَلِك يَقُول - رَحْمَة الله عَلَيْهِ:

(( .. إِن الخلافات الَّتِي جدَّت فِي الْأمة الإسلامية، وأثارت بَينهَا الْعَدَاوَة والبغضاء نتيجة عدم اعتناء الْعلمَاء بالنظم القرآني، وَعدم معرفتهم إِيَّاه، فَلَو فَهموا النظام، لفهموا روح الْقُرْآن، وحاولوا إِزَالَة هَذِه الخلافات لَا إشعال نيرانها كَمَا يَفْعَلُونَ، فَإِنِّي رَأَيْت جُلَّ اخْتِلَاف الآراء فِي التَّأْوِيل من عدم الْتِزَام رِبَاط الْآيَات، فَإِنَّهُ لَو ظهر النظام، واستبان لنا عَمُود الْكَلَام، لجُمعنا تَحت رايةٍ

واحدةٍ وكلمةٍ سَوَاء، كشجرةٍ طيبةٍ أَصْلهَا ثابتٌ وفرعها فِي السَّمَاء، وجُعلنا معتصمين بِحَبل كِتَابه، كَمَا قَالَ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} (آل عمرَان /١٠٣) وَكَيف الْخَلَاص من التفرُّق الْأَصْلِيّ وَقد جعلُوا هَذَا الْحَبل أشتاتاً فِي ظنونهم، وَهُوَ بِحَمْد الله متين.. {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت/٤٢) فيؤوله كلُّ فريقٍ حسب ظَنّه، ويحرف طَرِيق الْكَلَام عَن سمته -؟ ))

ثمَّ يَقُول الشَّيْخ: (( .. فبالنظام يتَبَيَّن سمْتُ الْكَلَام، فتنتفي عَن آيَاته أهواءُ المبتدعين، وانتحالُ المبطلين، وزيغُ المنحرِّفين.. )) (١)

ثمَّ يَقُول فِي نفس المجال أَيْضا: (( .. إِنَّه لَا يخفى أَن نظم الْكَلَام بعضٌ مِنْهُ، فَإِن تركته ذهب مَعْنَاهُ، فَإِن للتركيب معنى زَائِدا على أشتات الْأَجْزَاء، فَمن حُرِم فهم النظام، فقد حُرِم حظاً من الْكَلَام، ويوشك أَن يشبه حَاله بِمن قبله من أهل الْكتاب، كَمَا أخبر الله تَعَالَى عَنْهُم: {فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} .. وأخاف أَن تكون هَذِه الْعَدَاوَة والبغضاء الَّتِي نرَاهَا فِي الْمُسلمين من هَذَا النسْيَان، فَلَا تهدأ عداوتهم، وَلَا يرجعُونَ من اخْتلَافهمْ.

وَسبب ذَلِك مَا ذكرنَا فِي الْأَمر الأول؛ لأنَّا إِذا اخْتَلَفْنَا فِي مَعَاني كَلَامه، اخْتلفت أهواؤنا، وصرنا مثل أهل الْكتاب..غير أَن رجاءهم كَانَ بِهَذَا النَّبِي، وَهَذَا الْقُرْآن الَّذِي يرفع اخْتلَافهمْ.. وَأما نَحن فَلَيْسَ لنا إِلَّا هَذَا الْكتاب الْمَحْفُوظ )) (٢) .

وَفِي الْجُمْلَة.. فمعرفة نظام الْقُرْآن عِنْد الفراهي هُوَ الْوَسِيلَة الصَّحِيحَة

(١) انْظُر: مُقَدّمَة تَفْسِير نظام الْقُرْآن، ص ٣ (نقلا عَن الفراهي وجهوده فِي الدعْوَة الإسلامية، ص (١٣٠) .

(٢) نقلا عَن السَّابِق: ص. ١٣، ١٣١

لتدبُّر الْقُرْآن (١) . والتدبُّر هُوَ الَّذِي يفتح بَابا للهدى وَالتَّقوى، فَإِن النَّفس بِالْهدى تستبصر، وبالتقوى تتزكى، وَالْإِيمَان مَعَ شعبه العلمية يدْخل فِي الْهدى، والشرائع والأخلاق وَالْأَحْوَال تدخل فِي التَّقْوَى - كَمَا يَقُول (٢)

وَقد ذكر الفراهي ضمن الْحَاجَات الداعية إِلَى معرفَة النّظم: (( أننا وقعنا فِي اختلافات شَدِيدَة فِي تَأْوِيل الْقُرْآن، ثمَّ اخْتلفت عقائدنا وقلوبنا وأُلفتنا، والنَّظم يرد الْأُمُور إِلَى الوَحْدة، وينفي تشاكس الْمعَانِي. والاتفاق والائتلاف أعظم مَطْلُوب للنيل إِلَى أَعلَى مدارج الإنسانية )) (٣) .. وكلُّ ذَلِك مضمن فِي نظام الْقُرْآن الَّذِي يهدي إِلَيْهَا جَمِيعًا، فبمراعاة هَذَا النظام يُمكن أَن نستفيد بِالْقُرْآنِ الْعَظِيم، وَيرد إِلَيْنَا وحدتنا الَّتِي فقدناها باختلافنا فِي العقائد والأعمال، لتجتمع الْأمة كلُّها فِي صعيدٍ واحدٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الْأَنْبِيَاء /٩٢) .

وَهَكَذَا ندرك أهمية كَلَام الفراهي فِي هَذَا الشَّأْن ومدى ارتباطه بواقعنا المعيش.. مِمَّا يجدر بِنَا أَن نراجعه مرَارًا، لَعَلَّ الله - تَعَالَى - يَأْتِي بِالْفَتْح والوَحْدة من عِنْده، فتستعيد أمتُنا مكانتها الَّتِي تراجعت عَنْهَا بتفريطها فِي كتابها، وتسترد مجدها الَّذِي كَانَ.. وَمَا ذَلِك على الله بعزيز!

(١) دَلَائِل النظام، ص ١٧

(٢) السَّابِق، ص ٩

كَذَا بالمطبوعة، وَلَعَلَّ صوابها: للوصول.. أَو نَحْو ذَلِك، وَالله أعلم.

(٣) دَلَائِل النظام، ص ٣٩.

الْأُسْتَاذ سيد قطب (١٣٢٤ - ١٣٨٦هـ / ١٩٠٦ - ١٩٦٦هـ)

(٤) الْأُسْتَاذ سيد قطب

(١٣٢٤ - ١٣٨٦هـ / ١٩٠٦ - ١٩٦٦م)

تَرْجَمته:

ولد سيد قطب إِبْرَاهِيم فِي إِحْدَى قرى مُحَافظَة أسيوط بصعيد مصر فِي ٩/١٠/١٩٠٦م. وَنَشَأ نشأة دينية، حَيْثُ حفظ الْقُرْآن الْكَرِيم كَامِلا وَهُوَ فِي نِهَايَة الصَّفّ الرَّابِع الابتدائي (وَكَانَ فِي الْعَاشِرَة من عمره) . وَبعد إِتْمَامه دراسته الابتدائية الْتحق بمدرسة المعلمين الأولية، وَحصل مِنْهَا على إجَازَة الْكَفَاءَة بتفوق، مِمَّا أَهله للالتحاق بتجهيزية دَار الْعُلُوم، وَمن ثمَّ بدار الْعُلُوم ذَاتهَا، الَّتِي حصل مِنْهَا على الْإِجَازَة الْعَالِيَة (الليسانس) فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة وآدابها عَام ١٩٣٣م. وَفِي دَار الْعُلُوم درس سيد قطب الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة والعربية، والمنطق وَالْكَلَام والفلسفة، واللغتين العبرية والسريانية، والتاريخ، والاقتصاد السياسي.. وَغير ذَلِك. وَبعد تخرجه عيِّن مدرساً فِي وزارة المعارف، ثمَّ تنقل بَين إدارات الوزارة، حَتَّى استقال مِنْهَا نهائياً فِي١٨/١٠/١٩٥٢م

وَكَانَ سيد قطب مُنْذُ شبابه الأول شَاعِرًا موهوباً، وكاتباً متميزاً فِي فن الْمقَالة، حَيْثُ كتب فِي مُعظم الصُّحُف والمجلات الثقافية والأدبية والسياسية الَّتِي كَانَت تصدر فِي مصر فِي تِلْكَ الفترة، كَمَا أَنه حاول إصدار عددٍ من المجلات الثقافية، إِلَّا أَن أياً مِنْهَا لم يسْتَمر طَويلا. وَكَانَت لَهُ صلات قَوِيَّة بأدباء ومثقفي عصره، وَكَانَ لَهُ حُضُور بارز فِي الساحة الثقافية عُمُوما.

وَكَانَت بداية اتِّصَاله بحركة (الإخوان الْمُسلمُونَ) فِي أَوَاخِر سنة ١٩٥٠م، حَتَّى انْضَمَّ إِلَيْهَا بِصُورَة كَامِلَة فِي مطلع عَام ١٩٥٣م، لتأْخذ

توجهاته الإسلامية - الَّتِي تخللت مسيرته الثقافية والأدبية مُنْذُ ثلاثينيات الْقرن الْعشْرين - وجهة حركية، أدَّت إِلَى اعتقاله عشر سنوات (١٩٥٤ - ١٩٦٤) ، ثمَّ أفرج عَنهُ بِعَفْو صحي - لانهيار صِحَّته الحاد فِي السجْن -، لتمرَّ بضعَة أشهر قبل أَن يُعَاد إِلَى السجْن مرّة أُخْرَى فِي صيف ١٩٦٥، وَهُوَ الاعتقال الَّذِي انْتهى بإعدامه فِي صباح يَوْم الِاثْنَيْنِ ١٣ جُمَادَى الأول ١٣٨٦هـ، الْمُوَافق ٢٩ أغسطس ١٩٦٦م رَحمَه الله (١) .

وعَلى امتداد نَحْو أَرْبَعِينَ عَاما أصدر سيد قطب سِتَّة وَعشْرين كتابا مطبوعاً، بِالْإِضَافَة إِلَى عددٍ كَبِير من المقالات والدراسات الَّتِي لم تجمع من بطُون الصُّحُف والمجلات، وبالإضافة كَذَلِك إِلَى عددٍ من الْكتب أعلن عَنْهَا وَلم يكملها، أَو أكملها وفقدت مِنْهُ بِسَبَب محنته.

وأهم هَذِه الْكتب على الْإِطْلَاق تَفْسِيره الشهير (فِي ظلال الْقُرْآن) بِالْإِضَافَة إِلَى عدد من الْكتب الَّتِي أثارت - وَلَا تزَال - جدلاً وَاسِعًا حول أفكاره وفهمها، وأبرزها على الْإِطْلَاق كِتَابه الصَّغِير (معالم فِي الطَّرِيق) .

دراساته القرآنية:

صلَة سيد قطب بِالْقُرْآنِ الْكَرِيم قديمَة.. فقد بدأت مُنْذُ طفولته، حَيْثُ نَشأ مُنْذُ نعومة أَظْفَاره على الِاسْتِمَاع إِلَيْهِ من وَالِده وَمن المذياع، ثمَّ بَدَأَ حفظه، حَتَّى أتمه وَهُوَ فِي الْعَاشِرَة من عمره - كَمَا ذكرنَا -.. وَكَانَ مِفْتَاح تَأْثِير الْقُرْآن فِي نَفسه هُوَ (الْمِفْتَاح الجمالي) ، وروعة التَّصْوِير فِيهِ - كَمَا يذكر د. صَلَاح

(١) اعتمدت فِي تكوين هَذِه التَّرْجَمَة الموجزة جدا على كتاب الدكتور صَلَاح عبد الفتاح الخالدي: سيد قطب.. الأديب النَّاقِد، والداعية الْمُجَاهِد، والمفكر الْمُفَسّر الرائد (سلسلة أَعْلَام الْمُسلمين، رقم (٨١) ، دَار الْقَلَم - دمشق، ط١ / ١٤٢١هـ - ٢٠٠٠ م.

الخالدي وَغَيره من دارسي سيد قطب -.. حَيْثُ كَانَ أديباً ذواقة بالطبع، يحسن التذوق، ويبالغ فِي التخيُّل.. حَتَّى إِنَّه كَانَ يرسم صوراً فنية متكاملة لما يقْرَأ من آيَات الْقُرْآن أَو يستمع مِنْهَا.. كَمَا ذكر ذَلِك بِنَفسِهِ فِي كِتَابه الماتع (التَّصْوِير الفني فِي الْقُرْآن) .. وَكَانَ يحس - بذائقته الأدبية الْعَالِيَة تِلْكَ - أَن لِلْقُرْآنِ طَريقَة خَاصَّة فِي عرض مُخْتَلف مَوْضُوعَاته، وَأَنه يكَاد يجسِّم صوراً حَيَّة متحركة من خلال أساليبه الباهرة.

وَقد بقيت هَذِه العلاقة الْخَاصَّة مَعَ الصُّور الفنية فِي الْقُرْآن الْكَرِيم فِي نَفسه، حَتَّى عبر عَنْهَا فِي مقالين بعنوان (التَّصْوِير الفني فِي الْقُرْآن الْكَرِيم) (١) .. ثمَّ لم يلبث أَن عمل تطويرهما فِي كِتَابه البديع (التَّصْوِير الفني فِي الْقُرْآن) وَالَّذِي صدرت طبعته الأول فِي الْقَاهِرَة - عَن دَار المعارف - عَام ١٩٤٥م.

وَقد اهتم فِي هَذَا الْكتاب - ضمن مَا اهتم بِهِ - بموضوع التناسق الفني فِي الْقُرْآن. وأوضح أَن من أهم ألوان التناسق هُوَ ذَلِك التسلسل الْمَعْنَوِيّ بَين الْأَغْرَاض فِي سِيَاق الْآيَات، وَكَذَلِكَ التناسب فِي الِانْتِقَال من غَرَض إِلَى غَرَض. وَإِن كَانَ يعيب، فِي أثْنَاء ذَلِك، على بَعضهم التمحُّل لإبراز هَذَا التناسق تمحُّلاً لَا ضَرُورَة لَهُ، حَتَّى إِنَّه ليصل - على حدّ تَعْبِيره - إِلَى حدٍّ من التَّكَلُّف، لَيْسَ الْقُرْآن فِي حَاجَة إِلَى شَيْء مِنْهُ (٢) .

كَمَا أَشَارَ فِيهِ إِلَى استفادته مِمَّن حاولوا تبين هَذَا الملمح المهم فِي إعجاز الْقُرْآن، لَا سِيمَا جَار الله الزَّمَخْشَرِيّ، الَّذِي قَالَ عَن محاولته تلمُّس ذَلِك فِي

(١) انْظُر: سيد قطب.. الأديب النَّاقِد …، نشرهما فِي مجلة (المقتطف) ، فِي شهر فبراير من عَام (١٩٣٩م) ص ٣٦٤

(٢) انْظُر: التَّصْوِير الفني فِي الْقُرْآن، سيد قطب، دَار الشروق، ط ٦ / ١٩٨٠ م، ص ٧٣

آيَات سُورَة الْفَاتِحَة: (( .. فَهَذَا - أَي كَلَام الزَّمَخْشَرِيّ فِي آيَات الْفَاتِحَة - نوعٌ من التَّوْفِيق فِي تَصْوِير التناسق النَّفْسِيّ بَين الأحاسيس المتتابعة المنبعثة من تتَابع الْآيَات. وَهُوَ لون من ألوان التناسق الأولية فِي الْقُرْآن )) .. وَرَغمَ ذَلِك، يُؤَكد على ضَرُورَة اجْتِنَاب التَّكَلُّف فِي محاولة إبرازه.. وَيَقُول: (( .. وَلَقَد حاول بعض الْمُفَسّرين أَن يعثروا على مَوَاضِع من هَذَا التناسق؛ فَلم يصلوا إِلَّا للترابط الْمَعْنَوِيّ فِي بعض الْمَوَاضِع دون بَعْضهَا الآخر، وَدون الاهتداء إِلَى قَاعِدَة شَامِلَة. ثمَّ إِنَّهُم فِي أحيان كَثِيرَة، يتمحلون ذَلِك تمحُّلاً شَدِيدا! )) (١) .

وَلذَلِك؛ فقد حاول سيد قطب فِي كِتَابه هَذَا أَن يعرض لمسائل التناسق - بألوانه المتنوعة الَّتِي فصَّلها - بروحٍ متحررة عَن التَّقْلِيد والتكلف مَعًا، فوفق فِي كثير مِمَّا حاول تَوْفِيقًا ظَاهرا، مِمَّا جعل من كِتَابه هَذَا مصدرا من أهم المصادر الَّتِي تعرضت لهَذِهِ الْقَضِيَّة الدقيقة فِي مجَال بَيَان إعجاز الْقُرْآن.

وَقد عمل على تطبيق مَا قَرَّرَهُ فِي كِتَابه هَذَا فِي كِتَابه الَّذِي تلاه (مشَاهد الْقِيَامَة فِي الْقُرْآن) (صدرت طبعته الأولى فِي الْقَاهِرَة، فِي أبريل من عَام ١٩٤٧م) وَالَّذِي هدف فِيهِ إِلَى بَيَان التناسق الفني البديع فِي الْآيَات الَّتِي تناولت وصف يَوْم الْقِيَامَة ومشاهده فِي طول الْقُرْآن وَعرضه، بعد أَن رتَّب السُّور الَّتِي وَردت فِيهَا هَذِه الْمشَاهد بِحَسب تَرْتِيب النّزول.. وَأما إنجازه الأهم فِي هَذَا السِّيَاق، فقد كَانَ فِي عمله الْأَعْظَم (فِي ظلال الْقُرْآن) .

(فِي ظلال الْقُرْآن) .. والتناسب:

بَدَأَ سيد قطب فِي كِتَابَة تَفْسِيره هَذَا فِي نِهَايَة ١٩٥١م، عبر سبع حلقات نشرها مسلسلة فِي مجلة (الْمُسلمُونَ) الَّتِي كَانَ يصدرها الْأُسْتَاذ سعيد رَمَضَان

(١) السَّابِق، ص ٢٥

أحد قادة الإخوان الْمُسلمين (١) .. ثمَّ بدا لَهُ أَن يكمل تأملاته فِي الْقُرْآن فِي شكل عملٍ متكامل، ظهر جزؤه الأول فِي أكتوبر ١٩٥٢م، وأصدر مِنْهُ سِتَّة عشر جُزْءا قبل أَن يسجن سجنه الأول، ويكمل الْأَجْزَاء المتبقية فِي السجْن (فِي نِهَايَة الخمسينيات) ..

ثمَّ نظر سيد فِي عمله - بعد أَن تكاملت صورته، وصدرت طبعته الأولى - وَأعَاد تَنْقِيح ثَلَاثَة عشر جُزْءا مِنْهُ (حَتَّى آخر سُورَة إِبْرَاهِيم) ، وَأعَاد كتَابَتهَا فِي ضوء خبرته وتجربته فِي الْعَمَل الإسلامي، وَحَال اعتقالُه الثَّانِي ثمَّ إعدامه دون إِكْمَال تَنْقِيح بَقِيَّة الْأَجْزَاء (٢) .

وَقد تحدث فِي مُقَدّمَة الطبعة الأولى من (الظلال) عَن قصَّة تَأمله فِي كتاب الله، وقصة كِتَابَته هَذِه الظلال.. وَمِمَّا يهمنا فِي سياقنا الَّذِي نَحن فِيهِ قَوْله:

(( .. كل مَا حاولته ألاَّ أغرق نَفسِي فِي بحوث لغوية أَو كلامية أوفقهية تحجب الْقُرْآن عَن روحي، وتحجب روحي عَن الْقُرْآن. وَمَا استطردت إِلَى غير مَا يوحيه النصُّ القرآني ذَاته، من خاطرة روحية أَو اجتماعية أَو إنسانية.. وَمَا أحفل الْقُرْآن بِهَذِهِ الإيحاءات! كَذَلِك.. حاولت أَن أعبِّر عَمَّا خالج نَفسِي من إحساس بالجمال الفني العجيب فِي هَذَا الْكتاب المعجز، وَمن شعورٍ بالتناسق فِي التَّعْبِير والتصوير.. )) (٣) .

وَمن هَذَا النَّقْل يظْهر اهتمام سيد قطب الْأَصْلِيّ بموضوع التناسق، وعدُّه إِيَّاه باعثاً من أهم البواعث الَّتِي دَفعته إِلَى تسجيل أفكاره تِلْكَ..

(١) انْظُر: سيد قطب.. الأديب النَّاقِد …، ص ٤٣٨، ٤٣٩

(٢) انْظُر نفس الْمصدر: ص ٤٤٠، ٤٤٤

(٣) نقلا عَن نفس الْمصدر، ص ٤٤٧

وَقد اهتم بِالْفِعْلِ - ضمن مَا اهتم بِهِ - بِالْبَيَانِ التطبيقي للوحدة الموضوعية لِلْقُرْآنِ الْكَرِيم، بعد النّظر إِلَيْهِ نظرة كُلية شَامِلَة، انطلاقاً من مُرَاعَاة مقاصده الأساسية الَّتِي دارت عَلَيْهِ آياتُه وسوره.

وَهُوَ يتَوَصَّل إِلَى ذَلِك عَن طَرِيق قِرَاءَة السُّورَة الَّتِي يتَعَرَّض لتفسيرها عدَّة مَرَّات، حَتَّى يَهْتَدِي إِلَى موضوعها الأساس، وَحَتَّى يضع يَده على (شخصيتها) المستقلة - بِحَسب تَعْبِيره -، وَحَتَّى يحدِّد محورها الْعَام الَّذِي تَدور عَلَيْهِ سَائِر موضوعاتها الفرعية الْأُخْرَى (١) .

وَفِي ذَلِك يَقُول - رَحمَه الله: (( يلحظ من يعِيش فِي ظلال الْقُرْآن أَن لكل سُورَة من سوره شخصية مُمَيزَة {شخصية لَهَا روح، يعِيش مَعهَا الْقلب كَمَا لَو كَانَ يعِيش مَعَ روح حيّ مميّز الملامح والسمات والأنفاس} وَلها مَوْضُوع رَئِيس، أَو عدَّة مَوْضُوعَات رئيسة مشدودة إِلَى محور خَاص. وَلها جوٌّ خَاص، يظلِّل موضوعاتها كلَّها، وَيجْعَل سياقها يتَنَاوَل هَذِه الموضوعات من جَوَانِب مُعينَة، تحقِّق التناسق بَينهَا وفْق هَذَا الجو. وَلها إيقاعٌ موسيقي خَاص، إِذا تغير فِي ثنايا السِّيَاق؛ فَإِنَّهُ يتَغَيَّر لمناسبة موضوعية خَاصَّة. وَهَذَا طابعٌ عَام فِي سور الْقُرْآن جَمِيعًا.. )) (٢) .

وَقد طبق سيد قطب هَذِه الرُّؤْيَة الفنية المتكاملة على سور الْقُرْآن الْكَرِيم جَمِيعهَا: طوالها وقصارها، وَذَلِكَ فِيمَا قدَّم لكلٍّ مِنْهَا فِي مُقَدّمَة ممهِّدة لتفسير آياتها مُفْردَة.. وَقد جلَّى فِي هَذِه الْمُقدمَات البديعة ملامح كل سُورَة، وَوضع يَده على (مفتاحها) ، و (روحها الْخَاصَّة) و (شخصيتها المميزة) .

(١) السَّابِق، ص ٤٦٦

(٢) فِي ظلال الْقُرْآن، سيد قطب، دَار الشروق، ١٩٧٣ م، ١/٢٧، ٢٨

فعلى سَبِيل الْمِثَال: شخصية سُورَة الْبَقَرَة الرئيسة هِيَ قَضِيَّة بَيَان موقف بني إِسْرَائِيل من الدعْوَة الإسلامية، وموقف الْجَمَاعَة الْمسلمَة وإعدادها (١) . وشخصية آل عمرَان هِيَ إِيضَاح حَقِيقَة التَّوْحِيد ومقتضياتها (٢) . وشخصية سُورَة النِّسَاء هِيَ الْعَمَل على محو ملامح الْمُجْتَمع الجاهلي (٣) . وشخصية سُورَة الْمَائِدَة هِيَ بَيَان وحدة هَذَا الدّين، الْقَائِمَة على وحدانية الله تَعَالَى (٤) . وشخصية سُورَة الْأَنْعَام هِيَ مظَاهر الروعة الباهرة فِي عرض حَقِيقَة الألوهية (٥) . وشخصية سُورَة الْأَعْرَاف هِيَ حِكَايَة قصَّة موكب الْإِيمَان يحمل العقيدة (٦) .

. . وَهَكَذَا يفعل فِي كل سور الْقُرْآن سُورَة سُورَة، وَلَا يَتَّسِع الْمقَام لسرد مَا قَالَ - وَلَو موجزاً - فِي كُلٍّ مِنْهَا، غير أَنا سنرجع إِلَيْهِ مرّة ثَانِيَة فِي المبحث السَّادِس الَّذِي سنخصصه - بعون الله - لنماذج تطبيقية على مبادئ علم الْمُنَاسبَة.

وَجُمْلَة القَوْل فِي ذَلِك الْآن، أَن كِتَابَة سيد قطب - لَا سِيمَا فِي عمله

(١) نفس الْمصدر، ١/٢٨

(٢) نَفسه، ١/٣٥٧

(٣) نَفسه، ١/٥٥٥

(٤) نَفسه، ٢/٨٢٥

(٥) نَفسه، ٢/١٠١٥

(٦) نَفسه، ٣/١٢٤٤

لَعَلَّ من الْمُفِيد هُنَا أَن أُشير إِلَى فهرس الموضوعات الْجيد الَّذِي أعده الْأُسْتَاذ مُحَمَّد يُوسُف عَبَّاس فِي كِتَابه الْكَبِير: مِفْتَاح كنوز (فِي ظلال الْقُرْآن) ، دَار طيبَة - الرياض، ط١ ١٤٠٧? - ١٩٨٧، ص ٣٢٣: ٣٢٧، فقد استخرج فِيهِ رُؤُوس كَلَام سيد قطب فِي سورالقرآن سُورَة سُورَة، وفهرس لَهُ فهرسة جَيِّدَة.

الأهم (فِي ظلال الْقُرْآن) - إِضَافَة مهمة وأساسية فِي سِيَاق الاهتمام بإبراز تناسب وترابط الْقُرْآن الْكَرِيم وسوره.

إِنَّه، فِي كل مَا كتب حول الْقُرْآن الْمجِيد، يُؤَكد على ضَرُورَة الْوُقُوف على الْآيَات فِي سياقها القرآني، وعَلى وجوب تدبرها فِي ذَلِك السِّيَاق ويلحُّ على الْقَارئ أَن يفعل ذَلِك بِنَفسِهِ، وَبِدُون وساطة أحدٍ، حَتَّى يتأثر بإيقاعه، وينضج بحرارته وإشعاعه وإيحائه، ويتكيف بعد ذَلِك وفْق حقائقه وقيمه وتصوراته (١) .

وَقد كَانَ موفقاً - إِلَى حد كَبِير فِي تطبيقه أفكاره فِي ذَلِك.. ساعده على ذَلِك - بعد فتح الله عَلَيْهِ - إشراقُ بَيَانه، وصفاءُ عقله، وحرارةُ إيمَانه.. رَحمَه الله رَحْمَة وَاسِعَة، وجزاه عَن كِتَابه وَدينه خير الْجَزَاء.

(١) انْظُر كَلَامه المهم حول ذَلِك فِي مقدمته لتفسير سُورَة الرَّعْد.

المبحث الْخَامِس: أَنْوَاع المناسبات

أَولا: المناسبات فِي الْآيَات

المبْحثُ الْخَامِس: أَنْوَاع المناسبات

من الْمَعْلُوم أَن تقسيمات الْعُلُوم اصطلاحية، فَرُبمَا يختزل الْبَعْض أَقسَام علمٍ مَا - وَهِي متكاثرة - فِي قسمَيْنِ أَو أَكثر، وَرُبمَا يفصِّل الْبَعْض الآخر الْأَقْسَام - وَهِي محدودة - فتغدو مُتعَدِّدَة، وعَلى كلٍّ، فَنحْن فِي هَذَا الْفَصْل سنتكلم عَن ثَلَاثَة أَنْوَاع رئيسة من المناسبات،

وَهِي: المناسبات فِي الْآيَات، وَفِي السُّورَة الْوَاحِدَة، وَفِيمَا بَين السُّور.

أَولا: المناسبات فِي الْآيَات:

سبق مَعنا فِي المبحث الأول أَن الْآيَة (مِقْدَار من الْقُرْآن مركَّب، وَلَو تَقْديرا أَو إِلْحَاقًا) وَأَن اتساق الْآيَات - فضلا عَن الْكَلِمَات والحروف - بِوَحْي وتوقيف من النَّبِي (، كَمَا أَنه مرَّ مَعنا النَّقْل عَن الشَّيْخ الْجَلِيل مُحَمَّد الطَّاهِر بن عاشور قَوْله: (( .. وَلما كَانَ يَقِين الْآيَات الَّتِي أَمر النَّبِي (بوضعها فِي أماكنها فِي مَوضِع معِين غير مروى إِلَّا فِي عددٍ قَلِيل، كَانَ حَقًا على الْمُفَسّر أَن يتطلب مناسبات لمواقع الْآيَات، مَا وجد إِلَى ذَلِك سَبِيلا، وَإِلَّا.. فليُعرِضْ عَنهُ، وَلَا يكن من المتكلفين ) ) (١) .. وَقد رَأينَا إِجْمَاع أهل الْعلم بِالْقُرْآنِ على حُسن الْبَحْث فِي تِلْكَ المناسبات، بل وضرورته وأهميته، باستثناء مَا خَالف فِيهِ سُلْطَان الْعلمَاء وَشَيخ الْإِسْلَام الْعِزّ بن عبد السَّلَام - رَحمَه الله - وَمن قلَّده - وهم قَلِيل جدا على أَيَّة حَال! -..

والمناسبة قَائِمَة فِي الأسلوب القرآني، ومتمثلة فِي اتِّصَال كَلِمَاته

(١) التَّحْرِير والتنوير، ١/٨٠

وتماسكها، والكلمة القرآنية فِي تلاحمها وتماسكها هِيَ المقياس للفكر والمعرفة، وَلَا تقاس بهَا معارف النَّاس وأفكارهم، فَالنَّاس مُخْتَلفُونَ فِي المعارف، متفاوتون فِي الأفكار، وَمن هُنَا كَانَت الْكَلِمَة القرآنية فِي ثباتها ورسوخها، وحُسن موقعها، والمناسبة المعقودة بَينهَا، محوراً تَدور الأفكار حوله.. تلتمس الْحق، وتنشر الْيَقِين، حِين تصل إِلَى تِلْكَ الْمُنَاسبَة وتذكرها (١) .

وَقد جمع السُّيُوطِيّ فِي إتقانه أصولاً مهمة فِي طَرِيق إِدْرَاك مرجع الْمُنَاسبَة والارتباط فِي الْآيَات، وَقد أحسن الشَّيْخ عبد المتعال الصعيدي - رَحمَه الله - عرضهَا، بعد تهذيبها وَالزِّيَادَة فِي بَيَانهَا، فَقَالَ:

(( .. وَقد جَاءَ فِي كتاب الإتقان أَن مرجع الْمُنَاسبَة فِي الْآيَات إِلَى معنى رابطٍ بَينهَا: عَام أَو خَاص، عَقْلِي أَو حسي، أَو خيالي.. أَو غير ذَلِك من أَنْوَاع العلاقات. أَو التلازم الذهْنِي: كالسبب والمسبَّبب، وَالْعلَّة والمعلول، والنظيرين، والضدين.. وَنَحْو ذَلِك.

والارتباط بَين الْآيَتَيْنِ إِمَّا أَن يكون ظَاهرا؛ لتَعلق الْكَلَام بعضه بِبَعْض وَعدم تَمَامه بِالْأولَى، أَو لكَون الثَّانِيَة وَاقعَة من الأولى موقع التَّأْكِيد أَو التَّفْسِير، أَو الِاعْتِرَاض، أَو الْبَدَل. وَإِمَّا أَن يكون غير ظَاهر؛ لكَون كلِّ جملةٍ مُسْتَقلَّة عَن الْأُخْرَى. وَالْقسم الأول لَا كَلَام فِيهِ لظُهُوره. وَالثَّانِي.. إِمَّا أَن تكون الْجُمْلَة الثَّانِيَة فِيهِ معطوفة على الأولى بحرفٍ من حُرُوف الْعَطف المشركة فِي الحكم، أَو غير معطوفة.

فَإِن كَانَت معطوفة؛ فَلَا بُدَّ أَن تكون بَينهمَا جهةٌ جامعةٌ اقْتَضَت عطفهما،

(١) انْظُر: فِي الدراسات القرآنية: الْجَانِب التاريخي - الْجَانِب الأسلوبي - الْجَانِب البلاغي، د. السَّيِّد أَحْمد عبد الْغفار، دَار الْمعرفَة الجامعية بالإسكندرية (بِدُونِ تَارِيخ نشر) ، ص ٩٥.

كَقَوْلِه تَعَالَى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} (الْحَدِيد/٤) للتضاد بَين الْقَبْض والبسط، والولوج وَالْخُرُوج، والنّزول والعروج، وَشبه التضاد بَين السَّمَاء وَالْأَرْض. وَمِمَّا فِيهِ مُنَاسبَة التضاد: ذكرُ الرَّحْمَة بعد الْعَذَاب، وَالرَّغْبَة بعد الرهبة - أَو الْعَكْس - وَقد جرت عَادَة الْقُرْآن إِذا ذكر أحكاماً، ذكر بعْدهَا وَعدا ووعيداً؛ ليَكُون باعثاً على الْعَمَل بهَا، ثمَّ يذكر آيَات توحيده وتنْزيهه، ليُعلم عَظمَة الْآمِر والناهي.. وَهَذَا كَمَا فِي سُورَة الْبَقَرَة وَالنِّسَاء والمائدة.

. . وَإِن لم تكن معطوفة؛ فَلَا بُدَّ من رابطة تؤذن باتصال الْكَلَام، وَهِي قَرَائِن معنوية تؤذن بالربط، وَله أَسبَاب:

أَولهَا التنظير: لِأَن إِلْحَاق النظير بالنظير من شَأْن الْعُقَلَاء، وَذَلِكَ كَقَوْلِه تَعَالَى فِي الْآيَة الْخَامِسَة من سُورَة الْأَنْفَال: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} عقب قَوْله فِي الْآيَة الرَّابِعَة مِنْهَا: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} .. فَإِنَّهُ تَعَالَى أَمر رَسُوله (أَن يمضى فِي قسْمَة الْغَنَائِم على كُرهٍ من أَصْحَابه، كَمَا مضى فِي خُرُوجه من بَيته لطلب العير أَو الْقِتَال على كُرهٍ مِنْهُم، وَقد كَانَ فِي الْخُرُوج النصرُ وَالْغنيمَة، فَهَكَذَا يكون مَا فعله فِي الْقِسْمَة.. فليطيعوا مَا أمروا بِهِ، وليتركوا هوى أنفسهم.

وَثَانِيها المضادَّة: كَقَوْلِه تَعَالَى فِي سُورَة الْبَقَرَة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} (الْآيَة/٥) ، فَإِن أول السُّورَة كَانَ حَدِيثا عَن الْقُرْآن، وَأَن من شَأْنه الْهِدَايَة للْقَوْم الموصوفين بِالْإِيمَان، فَلَمَّا أكمل وَصفهم، عقَّب بِحَدِيث الْكَافرين، فبينهما جامعٌ وهمي يُسمى بالتضاد، فَإِن قيل: هَذَا جَامع بعيد؛ لِأَن الحَدِيث عَن الْمُؤمنِينَ أَتَى بِالْعرضِ لَا بِالذَّاتِ، وَالْمَقْصُود بِالذَّاتِ إِنَّمَا هُوَ الحَدِيث عَن الْقُرْآن، فَالْجَوَاب: أَنه

يَكْفِي التَّعَلُّق على أيِّ وَجه؛ لِأَن الْمَقْصُود تَأْكِيد أَمر الْقُرْآن والحث على الْإِيمَان؛ وَلِهَذَا لمَّا فرغ من ذَلِك قَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا …} (الْآيَة /٢٣) ، فَرجع ثَانِيًا إِلَى الحَدِيث عَن الْقُرْآن.

وَثَالِثهَا الاستطراد: وَهُوَ من مَقَاصِد البلغاء، وَذَلِكَ كَقَوْلِه تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} (الْأَعْرَاف/٢٦) .. فَهَذِهِ الْآيَة أَتَت على سَبِيل الاستطراد عقب ذكر بدوّ السوءات وخصف الْوَرق عَلَيْهَا، إِظْهَارًا للمنة فِيمَا خلق من اللبَاس، وَلما فِي العرى من المهانة والفضيحة، وإشعاراً بِأَن التستر بَاب عَظِيم من أَبْوَاب التَّقْوَى.

وَرَابِعهَا _ وَيقرب من الاستطراد_ حُسن التَّخَلُّص: وَهُوَ أَن ينْتَقل مِمَّا ابتدئ الْكَلَام بِهِ إِلَى الْمَقْصُود على وَجه سهل، يختلسه اختلاساً دَقِيق الْمَعْنى، بِحَيْثُ لَا يشْعر السَّامع بالانتقال إِلَّا وَقد وَقع عَلَيْهِ الثَّانِي؛ لشدَّة الالتئام بَينهمَا. وَفِي الْقُرْآن من التخلصات العجيبة مَا يحير الْعقل! وَمن ذَلِك مَا جَاءَ فِي سُورَة الْأَعْرَاف.. فقد ذكر فِيهَا الْأَنْبِيَاء والقرون الْمَاضِيَة والأمم السالفة، ثمَّ ذكر مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، إِلَى أَن قصّ حِكَايَة السّبْعين رجلا ودعاءه لَهُم ولسائر أمته بقوله: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً …} (الْآيَة ١٥٦) وَجَوَابه - تَعَالَى - عَنهُ.. ثمَّ تخلص بمناقب سيدنَا مُحَمَّد (، بعد تخلصه لأمته، بقوله: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ..} إِلَى أَن قَالَ: {.. الَّذين يتبعُون الرَّسُول النبيَّ الأميَّ …} (الْآيَتَانِ ١٥٦، ١٥٧) .. وَأخذ يذكر صِفَاته الْكَرِيمَة وفضائله (.

وَمن ذَلِك مَا جَاءَ فِي سُورَة الْكَهْف.. فقد حكى قَول ذى القرنين فِي السدِّ بعد دكِّه - الَّذِي هُوَ من أَشْرَاط السَّاعَة -.. ثمَّ ذكر النفخ فِي الصُّور، وَذكر

الْحَشْر، وَوصف مَا للْكفَّار وَالْمُؤمنِينَ.

وَقد فرَّق بَعضهم بَين التَّخَلُّص والاستطراد، بِأَن التَّخَلُّص تتْرك فِيهِ مَا انْتَقَلت عَنهُ من غير عودٍ إِلَيْهِ، أما الاستطراد فتمرُّ فِيهِ بِمَا استطردت إِلَيْهِ كالبرق الخاطف، ثمَّ تتركه وتعود إِلَى مَا كنت فِيهِ كَأَنَّك لم تقصده، وَإِنَّمَا عَرض عُروضاً، وعَلى هَذَا يكون مَا فِي سُورَة الْأَعْرَاف من الاستطراد لَا التَّخَلُّص؛ لِأَنَّهُ عَاد فِيهَا بعد ذَلِك إِلَى قصَّة مُوسَى بقوله: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ …} (الْآيَة ١٥٩) .

وَيقرب من حسن التَّخَلُّص الِانْتِقَال من حَدِيث إِلَى آخر تنشيطاً للسامع، مَفْصُولًا بَينهمَا بِلَفْظ (هَذَا) ، كَقَوْلِه تَعَالَى فِي سُورَة ص بعد ذكر الْأَنْبِيَاء: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} (الْآيَة ٥٥) ، فَإِن هَذَا الْقُرْآن نوع من الذّكر، فَلَمَّا انْتهى ذكر الْأَنْبِيَاء - وَهُوَ نوع من التنْزيل - أَرَادَ أَن يذكر نوعا آخر، وَهُوَ ذكر الْجنَّة وَأَصلهَا، فَلَمَّا فرغ من هَذَا قَالَ: {هَذَا وإنَّ للطاغين لشرَّ مآب} ، فَذكر النَّار وَأَهْلهَا.

وَيقرب من حسن التَّخَلُّص أَيْضا حسنُ الْمطلب، وَهُوَ أَن يخرج إِلَى الْغَرَض بعد تقدم الْوَسِيلَة، كَقَوْلِه تَعَالَى فِي سُورَة الْفَاتِحَة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} )) (١) .

ثمَّ نقل السُّيُوطِيّ عَن (( بعض الْمُتَأَخِّرين )) مَا يصلح أَن يكون قَاعِدَة عَامَّة مركَّزة فِيمَا يجب على طَالب الْمُنَاسبَة من أُمُور يجب أَن يُحكمها، ومعارف يلْزم أَن ينظر فِيهَا.. وَقد أحسن الشَّيْخ عبد المتعال الصعيدي - أَيْضا - فِي تهذيبها،

(١) انْظُر: النّظم الفني فِي الْقُرْآن، ص ٢٨: ٣١، وَانْظُر أصل الْكَلَام عِنْد السُّيُوطِيّ فِي الإتقان: ٢/٩٧٨: ٩٨١، وَقد استفاده بدوره من كَلَام الزَّرْكَشِيّ، برهانه: ١/ ٤٠: ٥٠.

وَذَلِكَ فِي قَوْله:

(( وَالْقَاعِدَة الَّتِي يُرجع إِلَيْهَا فِي معرفَة ارتباط الْآيَات فِي جَمِيع الْقُرْآن: هُوَ أَن تنظر - كَمَا سبق - فِي الْغَرَض الَّذِي سيقت لَهُ السُّورَة، ثمَّ تنظر مَا يحْتَاج إِلَيْهِ ذَلِك الْغَرَض من المقدِّمات، وَتنظر إِلَى مَرَاتِب تِلْكَ الْمُقدمَات فِي الْقرب والبعد من الْمَطْلُوب، وَتنظر عِنْد انجرار الْكَلَام فِي الْمُقدمَات إِلَى مَا يستتبعه من استشراف نفس السَّامع إِلَى الْأَحْكَام واللوازم الَّتِي تَقْتَضِي البلاغة شِفَاء الغليل بِدفع عناء الاستشراف إِلَى الْوُقُوف عَلَيْهَا، فَهَذِهِ هِيَ الْقَاعِدَة المهيمنة على حكم الرَّبْط بَين جَمِيع أَجزَاء الْقُرْآن، فَإِذا عقلتها، تبيَّن لَك وَجه النّظم مفصَّلاً بَين كلِّ آيةٍ وآيةٍ فِي كلِّ سُورَة )) (١) .

(١) النّظم الفني، ص ٣١، وانظره فِي الإتقان: ٢/٩٨٢. وَقد ذكر البقاعي فِي نظم الدُّرَر (١/١٨) ذَات الْقَاعِدَة بنصها، وصرَّح بنسبتها إِلَى الإِمَام الْمُحَقق أبي الْفضل مُحَمَّد بن مُحَمَّد المشدَّالي المغربي الْمَالِكِي.

ثَانِيًا: الْمُنَاسبَة فِي السُّورَة (السُّورَة كوحدة مُسْتَقلَّة) :

سبق مَعنا فِي تَعْرِيف السُّورَة أَنَّهَا (قطعةٌ من الْقُرْآن مُعَيَّنةٌ بمبدأ وَنِهَايَة لَا يتغيران، مُسَمَّاة باسم مَخْصُوص، تشْتَمل على ثَلَاث آيَات فَأكْثر، فِي غَرَض تَامّ ترتكز عَلَيْهِ مَعَانِيهَا) .

وَمَا من سُورَة إِلَّا وَلها من (المعالم) مَا يخْتَص بهَا، سَوَاء فِي ذَلِك السُّور الْقصار والطوال، وَكلما قصرت السُّور كَبرت هَذِه الْخَاصَّة، ويتضح ذَلِك من أَن الله تَعَالَى لم يَجْعَل السُّور الْقصار سُورَة وَاحِدَة مُسْتَقلَّة إِلَّا لحكمة عَظِيمَة، وَهِي اسْتِقْلَال كل وَاحِدَة مِنْهَا بِمَا يميزها عَن سواهَا عَن سواهَا (٢) . وَمن أحسن

(٢) انْظُر: دَلَائِل النظام، ص ٨٢

مَنْ عبَّر عَن ذَلِك الْأُسْتَاذ سيد قطب - رَحمَه الله - ببيانه الْمشرق، وأسلوبه الماتع.. وَذَلِكَ فِي مَوَاضِع كَثِيرَة من كِتَابه الْعَظِيم (فِي ظلال الْقُرْآن) .. وَمن ذَلِك قَوْله: (( إِن الشَّأْن فِي سور الْقُرْآن من هَذِه الوجهة - أَي وجهة اسْتِقْلَال كلٍّ مِنْهَا بشخصية (هَكَذَا ) مميِّزة - كالشأن فِي نماذج الْبشر الَّتِي جعلهَا الله متميزة.. كلهم إِنْسَان، وَكلهمْ لَهُ خَصَائِص الإنسانية، وَكلهمْ لَهُ التكوين العضوي والوظيفي الإنساني.. وَلَكنهُمْ - بعد ذَلِك - نماذجُ متنوعة أشدَّ التنوع، نماذج فِيهَا الْأَشْبَاه الْقَرِيبَة الملامح، وفيهَا الأغيار الَّتِي لَا تجمعها إِلَّا الخصائص الإنسانية الْعَامَّة.

هَكَذَا عدتُ أتصور سور الْقُرْآن، وَهَكَذَا عدتُ أحسُّها، وَهَكَذَا عدتُ أتعامل مَعهَا.. بعد طول الصُّحْبَة، وَطول الألفة، وَطول التَّعَامُل مَعَ كل مِنْهَا.. وفْق طباعه، واتجاهاته، وملامحه وسماته وَأَنا أجد فِي سور الْقُرْآن - تبعا لهَذَا - وفْرةً بِسَبَب تنوع النماذج، وأُنْساً بِسَبَب التَّعَامُل الشخصي الوثيق، ومتاعاً بِسَبَب اخْتِلَاف الملامح والطباع، والاتجاهات والمطالع! إِنَّهَا أصدقاء.. كلُّها صديق، وكلُّها أليف، وكلُّها حبيب، وكلُّها ممتع، وكلُّها يجد الْقلب عِنْده ألواناً من الاهتمامات طريفة، وألواناً من الْمَتَاع جَيِّدَة، وألواناً من الإيقاعات، وألواناً من المؤثرات.. تَجِد لَهَا مذاقاً خَاصّا، وجواً متفرداً.

ومصاحبة السُّورَة من أَولهَا إِلَى آخرهَا رحْلَة.. رحْلَة فِي عوالم ومشاهد، ورؤىً وحقائق، وتقديرات، وموحيات، وغوص فِي أعماق النُّفُوس، واستجلاء مشَاهد الْوُجُود.. وَلكنهَا مَعَ ذَلِك رحْلَة متميزة المعالم.. فِي كل سُورَة، وَمَعَ كل سُورَة )) (١) .

(١) فِي ظلال الْقُرْآن، ٣/١٢٤٣، وانظره كَذَلِك فِي هَذِه الْمَوَاضِع على سَبِيل الْمِثَال: ١/٢٧، ٢٨، و: ١/٥٥٥، و: ٢/٨٣٣.. ولسيد قطب كَلَام كثير رائع حول (جوِّ) كل سُورَة الْخَاص، وشخصيتها المميِّزة.. وَقد سبق أَن أَشَرنَا إِلَى شَيْء من ذَلِك فِيمَا سبق من كلامٍ خَاص عَنهُ وَعَن تَفْسِيره، ونلاحظ أَنه يسْتَعْمل الأسلوب الحَدِيث، وَقد لَا يتناسب مَعَ قدسية الْقُرْآن، وَلكنهَا الْأَمَانَة فِي النَّقْل.

وطرق إِدْرَاك هَذِه الْوحدَة فِي السُّور الْوَاحِدَة، وَوضع الْيَد على شخصيتها المميِّزة، لَيْسَ بِالْأَمر الْيَسِير - وَإِن بدا على غير ذَلِك! -.. فَإِنَّهُ يتطلب بصراً نَافِذا بمرامى الْكَلَام، وإدراكاً واعياً لاتجاهاته، وربطاً حكيماً لأطرافه.. وَذَلِكَ حَتَّى لَا يصير الْكَلَام فِي هَذَا إِلَى ضرب من تكْرَار القَوْل، وترداد قوالب لفظية لَا تكَاد تضيف شَيْئا ذَا بالٍ فِي إثراء هَذَا الْبَاب من النّظر فِي كتاب الله الْمجِيد.

وأغمض من هَذَا وأدقُّ، مَا أَشَارَ إِلَيْهِ البقاعي من كَون اسْم كل سُورَة مترجماً عَن مقصودها الأساس؛ لِأَن اسْم كل شَيْء يُظهر الْمُنَاسبَة بَينه وَبَين مسمَّاه، وعنوانه يدلُّ إِجْمَالا على تَفْصِيل مَا فِيهِ (١) .. وَلَا يعكِّر على هَذَا الْمَعْنى مَا يُروى من تعداد أَسمَاء بعض السُّور؛ فَإِن الْقُرْآن كُله مبنيٌّ على تعدد الْمعَانِي، فَلَا بَأْس من كَثْرَة وُجُوه التَّأْوِيل تبعا لتَعَدد الْأَسْمَاء - طالما أَنَّهَا لَا تُؤدِّي إِلَى تضَاد أَو تنَاقض - كَمَا أَنه لَا بَأْس من تَكْثِير وُجُوه الْحِكْمَة فِي أمرٍ وَاحِد.. وَذَلِكَ مِمَّا يدل على ثراء الْمَعْنى فِي الْقُرْآن الْعَزِيز (٢) .

وَلَكِن المهم فِي ذَلِك كلِّه هُوَ - كَمَا كررنا غير مرّة - الِاحْتِرَاز من التَّكَلُّف فِي التمَاس وُجُوه الِاتِّصَال والمناسبة، فَإِن التَّكَلُّف فِي ذَلِك، والاجتراء

(١) انْظُر: نظم الدُّرَر، ١/١٨، ١٩، و: مصاعد النّظر، ١/٢٠٩.

(٢) انْظُر فِي ذَلِك: دَلَائِل النظام، ص ٧٩

عَلَيْهِ من غير استكمال الأدوات وبذل غَايَة الوسع، هُوَ مَا يدْفع الْبَعْض إِلَى إِنْكَاره، أَو عدم الاهتمام بِمَا يُقَال فِيهِ على أقل تَقْدِير.. وَقد سبق أَن ذكرنَا شَيْئا من ذَلِك فِيمَا نقلنا عَن الإِمَام الفراهي عِنْد الحَدِيث عَن أهمية علم الْمُنَاسبَة، وَهُوَ مَا سنشير إِلَيْهِ لاحقاً أَيْضا فِي النَّوْع الثَّالِث من أَنْوَاع الْمُنَاسبَة.

ثَالِثا: الْمُنَاسبَة بَين السُّور (الْقُرْآن كوحدة وَاحِدَة) :

وَهَذَا النَّوْع أدقُّ وأغمض من سابقيه، وَهُوَ النّظر إِلَى الْقُرْآن الْكَرِيم كلِّه على أَنه (كلمة وَاحِدَة) - كَمَا قَالَ الزركشى فِي تَعْبِيره المكثَّف (١) - وَهُوَ مَا عبر عَنهُ أديب الْعَرَبيَّة الْكَبِير الْأُسْتَاذ مصطفى صَادِق الرَّافِعِيّ - رَحْمَة الله عَلَيْهِ - (١٨٨١ - ١٩٣٧م) بـ (روح التَّرْكِيب) فِي الْقُرْآن.. وَفِي ذَلِك يَقُول - ببيانه العالي، وديباجته الرائعة:

(( .. وَفِي الْقُرْآن مظهر غَرِيب لإعجازه المستمر، لَا يحْتَاج فِي تعرُّفه إِلَى رويَِّةٍ وَلَا إعنات، وَمَا هُوَ إِلَّا أَن يرَاهُ من اعْترض شَيْئا من أساليب النَّاس حَتَّى يَقع فِي نَفسه معنى إعجازه؛ لِأَنَّهُ أَمر يغلب على الطَّبْع، وينفرد بِهِ، فيُبين عَن نَفسه بِنَفسِهِ، كالصوت المطرب الْبَالِغ فِي التطريب.. لَا يحْتَاج امْرُؤ فِي مَعْرفَته وتمييزه إِلَى أَكثر من سَمَاعه ‍! ذَلِك.. هُوَ وَجه تركيبه، أَو هُوَ أسلوبه، فَإِنَّهُ مباينٌ بِنَفسِهِ لكلِّ مَا عرف من أساليب البلغاء فِي تَرْتِيب خطابهم، وتنْزيل كَلَامهم، وعَلى أَنه يواتى بعضُه بَعْضًا، وتناسب كل آيَة مِنْهُ كل آيَة أُخْرَى فِي النّظم والطريقة، (وتترابط كل سُورَة مِنْهُ مَعَ سابقتها ولاحقتها فِي الرّوح الْعَامَّة) .. على اخْتِلَاف الْمعَانِي، وتباين الْأَغْرَاض.. سَوَاء فِي ذَلِك مَا كَانَ مُبْتَدأ بِهِ من مَعَانِيه وأخباره، وَمَا

(١) الْبُرْهَان، ١/٣٩.

كَانَ متكرراً فِيهِ.. فَكَأَنَّهُ قِطْعَة وَاحِدَة ‍ )) (١) .

وَيَقُول فِي مَوضِع آخر:

(( .. فَأَنت مَا دمت فِي الْقُرْآن حَتَّى تفرغ مِنْهُ لَا ترى غير صُورَة وَاحِدَة من الْكَمَال، وَإِن اخْتلفت أجزاؤها فِي جِهَات التَّرْكِيب، وَمَوْضِع التَّأْلِيف، وألوان التَّصْوِير، وأغراض الْكَلَام.. كَأَنَّهَا تُفضي إِلَيْك جملَة وَاحِدَة، حَتَّى تُؤْخَذ بهَا، ويغلب عَلَيْك شَبيه فِي التَّمْثِيل مِمَّا يغلب أهل الحِسِّ بالجمال إِذا عَرضت لأَحَدهم صُورَة من صوره الْكَامِلَة، فَإِن لَهُم ضربا من النّظر يعتريهم فِي تِلْكَ الْحَالة الْوَاحِدَة، وَلَو سميته (حِسَّ النّظر الفكري) لم تبعد، فَهُوَ يَبْتَدِئ فِي الصُّورَة الجميلة، ويستتم فِي النَّفس، فَلَو أَنَّهَا أغمضت الْعين دونهَا؛ لبقيت الصُّورَة ماثلة بجملتها فِي الْفِكر، وَلَو وقفت الْعين على جهةٍ وَاحِدَة مِنْهَا، لوصلها الْفِكر بِسَائِر أَجْزَائِهَا، فتمثلت بِهِ سويةَ التَّرْكِيب، تَامَّة الْخلق.. فِي حِين لَا ترى الْعين إِلَّا هَذِه الْجِهَة وَحدهَا (…) .

وَهَذِه الرّوح (أَي روح التَّرْكِيب) لم تُعرف فِي كلامٍ عربيٍّ غير الْقُرْآن، وَبهَا انْفَرد نظامه، وَخرج مِمَّا يطيقه النَّاس، ولولاها لم يكن بِحَيْثُ هُوَ كَأَنَّهُ وُضع جملَة وَاحِدَة، لَيْسَ بَين أَجْزَائِهَا تفاوتٌ أَو تبَاين؛ إِذْ ترَاهُ ينظر فِي التَّرْكِيب إِلَى نظم الْكَلِمَة وتأليفها، ثمَّ إِلَى تأليف هَذَا النّظم، فَمن هَاهُنَا كَانَ تعلُّقه بعضه على بعض، وَخرج فِي معنى تِلْكَ الرّوح صفة وَاحِدَة، هِيَ صفة إعجازه فِي جملَة التَّرْكِيب كَمَا عرفنَا، وَإِن كَانَ فِيمَا وَرَاء ذَلِك مُتَعَدد الْوُجُود الَّتِي يتَصَرَّف فِيهَا

(١) إعجاز الْقُرْآن، مصطفى صَادِق الرَّافِعِيّ، دَار الْكتاب الْعَرَبِيّ - بيروت، ص ٢٠١، مَعَ التَّنْبِيه إِلَى أَن مَا بَين القوسين الكبيرين من زيادتنا، مِمَّا استفدنا من كَلَام الرَّافِعِيّ فِي السِّيَاق كُله.

- من أغراض الْكَلَام ومناحي الْعبارَات - على جملَة مَا حصل بِهِ من جِهَات الْخطاب، كالقصص والمواعظ، وَالْحكم والتعليم وَضرب الْأَمْثَال.. إِلَى نَحْوهَا مِمَّا يَدُور عَلَيْهِ. وَلَوْلَا تِلْكَ الرّوح، لخرج أَجزَاء مُتَفَاوِتَة، على مِقْدَار مَا بَين هَذِه الْمعَانِي ومواقعها فِي النُّفُوس، وعَلى مِقْدَار مابين الْأَلْفَاظ والأساليب الَّتِي تؤديها حَقِيقَة ومجازاً … )) (١) .

وَفِي تَلْخِيص دالٍّ يَقُول - رَحْمَة الله عَلَيْهِ:

(( وَبِالْجُمْلَةِ.. فَإِن هَذَا الإعجاز فِي مَعَاني الْقُرْآن وارتباطها أَمر لَا ريب فِيهِ، وَهُوَ أبلغ فِي مَعْنَاهُ الإلهي إِذا انْتَبَهت إِلَى أَن السُّور لم تنزل على هَذَا التَّرْتِيب، فَكَانَ من الأحرى ألاَّ تلتئم، وألاَّ يُنَاسب بَعْضهَا بَعْضًا، وَأَن تذْهب آياتها فِي الْخلاف كلَّ مَذْهَب.. وَلكنه روح من أَمر الله.. تفرق معجزاً، فَلَمَّا اجْتمع، اجْتمع لَهُ إعجاز آخر ليتذكر بِهِ أولو الْأَلْبَاب )) (٢) .

وعَلى رغم جمال هَذَا اللَّوْن من التناسب، وأهميته فِي إبراز وَجه من وُجُوه إعجاز الْقُرْآن الباهرة، فقد اعْترض عَلَيْهِ بعض الْعلمَاء المعاصرين، خوفًا مِمَّا شَاب الْكَلَام فِيهِ من تكلّف ممجوج..

ولعلَّ أوفى مَنْ عبّر عَن هَذَا الرَّأْي الْمعَارض هُوَ الشَّيْخ الدكتور صبحي الصَّالح - رَحمَه الله -.. وحرصاً على عرض رَأْيه وَاضحا، فسننقله كَامِلا كَمَا ذكره.. حَيْثُ قَالَ بعد أَن تكلم عَن أبي بكر النَّيْسَابُورِي وَسَبقه إِلَى إِظْهَار علم الْمُنَاسبَة فِي مجالسه ودروسه:

(( .. وَفِي صَنِيع أبي بكر النَّيْسَابُورِي هَذَا اتجاه جَدِيد إِلَى الْكَشْف عَن

(١) السَّابِق، ص ٢٤١، ٢٤٥

(٢) السَّابِق، حَاشِيَة ص ٢٤٤

الترابط بَين السُّور، إِلَى جَانب الْكَشْف عَن التناسب بَين الْآيَات، والحقُّ أَن الَّذِي يَنْبَغِي التنقيب عَنهُ، والاستيثاق من نتائجه، هُوَ - بالْمقَام الأول - وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْآيَات، إِذْ يُبحث أول كل شَيْء عَن الْآيَة: أمكملة لما قبلهَا أم مُسْتَقلَّة؟ ثمَّ: المستقلة.. مَا وَجه مناسبتها لما قبلهَا؟ ولِمَ سيقت هَذَا المساق؟

أما التمَاس أوجه الترابط بَين السُّور - على مَا فِيهِ من تعسُّفٍ وتكلُّف - فَهُوَ مبنيُّ على أَن تَرْتِيب السُّور توقيفي، وَلِهَذَا انتصرنا، وَعَلِيهِ عوّلنا. إِلَّا أَن تَرْتِيب السُّور التوقيفي لَا يسْتَلْزم حتما أَن يكون بَين كل سُورَة سَابِقَة وكل سُورَة لاحقة أواصرُ قُربى، كَمَا أَن تَرْتِيب الْآيَات التوقيفي لَا يقتضى عقلا ارتباط إِحْدَاهَا بِالْأُخْرَى إِذا وَقعت كلٌّ مِنْهَا على أَسبَاب مُخْتَلفَة. وَإِنَّمَا يغلب فِي السُّورَة الْوَاحِدَة أَن تكون ذَات مَوْضُوع بارز كليٍّ، تأتلف عَلَيْهِ جزئياتها كلهَا فِي مقاطعها المتلاحقة المترابطة، لَكِن الْوحدَة الموضوعية فِي كل سُورَة على حِدة لَا يَنْبَغِي أَن تكون هِيَ الْوحدَة الموضوعية عينهَا فِي السُّور كلهَا مجتمعة، وَلم يبلغ المفسِّرون هَذَا الْمبلغ من التَّكَلُّف، بل اكتفوا بِإِظْهَار العلاقة بَين ختام السُّور السَّابِقَة وفاتحة السُّور اللاحقة، كَأَن الترابط بَينهمَا - لَوْلَا فصلهما بالبسملة - وَقع عَن طَرِيق الْآيَات موقعاً جزئياً، لَا عَن طَرِيق السورتين موقعاً شَامِلًا كلياً.

ومعيار الطَّبْع أَو التَّكَلُّف فِيمَا لُمح من ضروب التناسب بَين الْآيَات والسور يرتدُّ فِي نَظَرِي إِلَى دَرَجَة التَّمَاثُل أَو التشابه بَين الموضوعات، فَإِن وَقع فِي أمورٍ متحدةٍ مرتبطةٍ أوائلها بأواخرها، فَهَذَا تناسب مَعْقُول مَقْبُول، وَإِن وَقع على أَسبَاب مُخْتَلفَة، وَأُمُور متنافرة، فَمَا هَذَا من التناسب فِي شَيْء، وَمَا أصدق قَول الْقَائِل: (( الْمُنَاسبَة أمرٌ مَعْقُول، إِذا عرض على الْعُقُول تَلَقَّتْهُ بِالْقبُولِ )) !

فصل ذَلِك فِي كِتَابه مبَاحث فِي عُلُوم الْقُرْآن، ص ٦٩: ٧٤

انْظُر: الْبُرْهَان، ١ / ٣٥

وَأَقل مَا يعنيه هَذَا المعيار الدَّقِيق أنَّ وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْآيَات أَو بَين السُّور يخفى تَارَة وَيظْهر أُخْرَى، وَأَن فرص خفائه تقل بَين الْآيَات، وفرص ظُهُوره تندر بَين السُّور، ذَلِك بِأَن الْكَلَام قلَّما يتم بِآيَة وَاحِدَة، فتتعاقب الْآيَات فِي الْمَوْضُوع الْوَاحِد تَأْكِيدًا وتفسيراً، أَو عطفا وبياناً، أَو اسْتثِْنَاء وحصراً، أَو اعتراضاً وتذييلاً.. حَتَّى تبدو الْآيَات المتعاقبات كالنظائر والأتراب )) (١) .

ثمَّ قَالَ الشَّيْخ رَحمَه الله: (( .. وَمَا على قَارِئ الْقُرْآن ليستبين وَجه التناسب بَين الْآيَات إِلَّا أَن يحتكم إِلَى ذوقه الأدبي تَارَة، ومنطقه الفطري تَارَة أُخْرَى. وَحِينَئِذٍ يَقع على ربط عَام أَو خَاص، ذهني أوخارجي، عَقْلِي أَو حسى أَو خيالي، من غير أَن تقوم لهَذِهِ الْأَلْفَاظ فِي نَفسه مدلولات اصطلاحية أَو فلسفية، فكثيراً مَا يَدُور التلازم بَين الْآيَات دوران الْعلَّة والمعلول، فَإِن لم تتلاق، ويستلزم بَعْضهَا بَعْضًا، تقابلت الأضداد.. كذكر الرَّحْمَة بعد ذكر الْعَذَاب، وَوصف الْجنَّة بعد وصف النَّار، وتوجيه الْقُلُوب بعد تَحْرِيك الْعُقُول، واستخلاص الموعظة بعد سرد الْأَحْكَام (…) واستناداً إِلَى هَذَا الْمنطق الفطري، الَّذِي يقتنص أوجه التناسب بَين الْآيَات برشاقة وخفة، نحسب أَن فرص الغموض فِي استجلاء هَذِه الْوُجُوه لَا تكْثر إِلَّا فِي الروابط بَين السُّور، وَلَو وَقع إِلَيْنَا كتاب أبي جَعْفَر بن الزبير (الْبُرْهَان فِي مُنَاسبَة تَرْتِيب سور الْقُرْآن) ؛ لرأينا أنماطاً من هَذَا الغموض،

(١) مبَاحث فِي عُلُوم الْقُرْآن، د. صبحي الصَّالح، دَار الْعلم للملايين - بيروت، ط ١٠/ ١٩٧٧م، ص ١٥١، ١٥٢.

انْظُر قَرِيبا من ذَلِك فِي الإتقان: ٢/٩٧٨

أَشَارَ إِلَيْهِ البقاعي وَالزَّرْكَشِيّ والسيوطي، وَغَيرهم مِمَّن ذكر الْكتب المصنفة فِي هَذَا الْعلم.. وَقد سبق مَعنا كَذَلِك.

وصوراً من هَذَا الخفاء، وَمَا نظنُّ احتفال الْمُفَسّرين قَلِيلا بِهَذَا النَّوْع لدقته وَحسب، بل لقلَّة جدواه، وَكَثْرَة التَّكَلُّف فِيهِ.. فَإِنَّهُم يقطعون أنفاسهم من شدَّة اللهاث وهم يَلْتَمِسُونَ بَين سورتين لفظين يتشابهان، أَو آيَتَيْنِ تتناظران، حَيْثُمَا كَانَ موضعهما من السُّورَة.. فِي الْبِدَايَة أَو الْوسط أَو الختام )) (١) .

وَبعد أَن يذكر الشَّيْخ صبحي الصَّالح نماذج لما يرَاهُ تعسُّفاً فِي الرَّبْط بَين السُّور يَقُول: (( .. وأياً مَا يكن تكلُّف المتكلفين فِي إبراز التناسب بَين الْآيَات والسور، فمما لَا ريب فِيهِ أَن الْمُفَسّرين الْمُحَقِّقين جنَوا أطيب الثَّمر لمَّا ضربوا صفحاً عَن كل تعسف، ووسعهم أَن يقتنعوا - ويقنعوا الدارسين - بِأَن هَذَا الْقُرْآن الَّذِي نزل فِي نيِّفٍ وَعشْرين سنة - فِي أَحْكَام مُخْتَلفَة، ولأسباب متباينة - قد تناسقت الْآيَات فِي كل سورةٍ من سوره أكمل تناسق وأوفاه، حَتَّى أغْنى تناسقها فِي مَوَاطِن كَثِيرَة عَن التمَاس أَسبَاب نُزُولهَا، وعوَّض انسجامها الفنيُّ وَاقعهَا التاريخيَّ.. ثمَّ بَدَت السُّور كلهَا - بآياتها المتناسقة - مئة وَأَرْبع عشرَة قلادة طوَّقت جيد الزَّمَان )) (٢) . انْتهى كَلَام الشَّيْخ صبحي الصَّالح - رَحمَه الله - فِيمَا يتَعَلَّق بِهَذَا الْمَوْضُوع، وَقد آثرتُ نَقله كَامِلا على طوله لما احتواه من نقاط جَيِّدَة لَا أختلف مَعَه عَلَيْهَا، وَلَعَلَّ أهمها هِيَ التخوف من الْآثَار السَّيئَة للتكلُّف فِي الْبَحْث عَن أَسبَاب التناسب بَين السُّور، وللتعسُّف فِي تجلية وجوهها.. من غير احتكام إِلَى الْقَوَاعِد الضابطة لهَذَا الشَّأْن، وَالَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا هُوَ نَفسه فِي سِيَاق حَدِيثه.

وَلَكِن الْأَمر الَّذِي أختلف مَعَه فِيهِ، هُوَ دعوتُه إِلَى إغلاق مجَال الْبَحْث فِي

(١) مبَاحث فِي عُلُوم الْقُرْآن، ص ١٥٥، ١٥٦

(٢) السَّابِق، ص ١٥٧

هَذَا بِالْكُلِّيَّةِ (( لقلَّة جدواه وَكَثْرَة التَّكَلُّف فِيهِ )) .. وأحسب أَن رهافة الشَّيْخ وحُسن تأدُّبه منعاه من أَن يسيء القَوْل، كَمَا فعل غَيره حِين استخدم عِبَارَات قاسية - وَلَا ضَرُورَة لَهَا بِوَجْه - فِي التنفير عَمَّا حاوله المحاولون فِي هَذَا { (١) .. وَمَعَ ذَلِك؛ فَإِن هَذَا لَا يعُفينا من التَّعَجُّب من افتيات الشَّيْخ - رَحمَه الله - على الْعلم والتاريخ حِين يجْزم بِأَن كتاب أبي جَعْفَر بن الزبير (الْبُرْهَان فِي مُنَاسبَة تَرْتِيب سور الْقُرْآن) ، وَالَّذِي قَرَأنَا عَنهُ وَلم نره، لَو وَقع إِلَيْنَا لرأينا - هَكَذَا} - أنماطاً من الغموض، وصوراً من الخفاء.. فهلاَّ انْتظر الشَّيْخ حَتَّى نقرأه أَولا

وعَلى كلٍّ.. فإنني لَا أَشك فِي حسن نِيَّة أَصْحَاب هَذَا الرَّأْي؛ إِذْ إِنَّهُم لَا يقصدون غير صون كتاب الله تَعَالَى من سمج الْكَلَام، ومتعسَّف القَوْل.. وَلَكِن هَذَا لَا يضطرني إِلَى إِنْكَار أمرٍ يعدُّ من أهم مجالى إعجاز الْقُرْآن.. بل يحثُّني على مزيدٍ من التأني قبل الْخَوْض فِيهِ، وَإِلَى استكمال عُدَّته، وإحكام أدواته؛ ليَكُون الْفِكر فِيهِ أثقب، والرأي فِيهِ أنفذ..

ولعلَّ أحسن وأتقن جوابٍ على شُبَه المعارضين هَؤُلَاءِ، هُوَ مَا فتح الله بِهِ على الشَّيْخ الْعَلامَة عبد الحميد الفراهي - رَحمَه الله - وَالَّذِي نقلتُ كَلَامه - الْبَالِغ الأهمية والإحكام - كَامِلا عِنْد ذكري من أنكر وجود التناسب عُمُوما بَين آيَات الْقُرْآن الْكَرِيم.. فَلَا نطيل بتكراره هُنَا.. وَلَكِن حسبي أَن أستعيد مِنْهُ قولته الحكيمة: (( إِن عدم الْقَصْد لشَيْء رُبمَا يكون صَحِيحا.. وَلَكِن سوءٍ التَّدْبِير لذَلِك الْغَرَض منقصة ظَاهِرَة )) (٢) .

(١) انْظُر ذَلِك فِيمَا سبق، فِي المبحث الثَّانِي (موقع علم الْمُنَاسبَة من عُلُوم الْقُرْآن) .

(٢) انْظُر كَلَام الفراهي بتمامة فِي: دَلَائِل النظام، ص ٢١: ٢٦، ص ٤٠.. وانظره فِي هَذَا الْبَحْث فِي المبحث الثَّانِي الْمشَار إِلَيْهِ آنِفا.

فلنمسك عَن الْكَلَام فِي مثل هَذِه المباحث الدقيقة - طالما لم نستكمل أَسبَاب الإجادة فِيهَا - حفظا لهيبة كتاب الله الْعَزِيز أَن تُمسَّ.. وَإِلَّا فلنحاول - مستعينين بِاللَّه تَعَالَى، وطالبين الْفَتْح مِنْهُ - بالتسديد والمقاربة، حَتَّى تبدو سور الْقُرْآن الْمجِيد كمئة وَأَرْبع عشرَة دُرةً فِي قلادةٍ واحدةٍ.. طوَّقت جِيدَ الزَّمَان!

المبحث السَّادِس: نماذج تطبيقية على علم الْمُنَاسبَة

أَولا: التناسب فِي الْآيَات

المبْحثُ السَّادس: نماذج تطبيقية على علم الْمُنَاسبَة

كَانَت هَذِه المباحث الْمُتَقَدّمَة أقرب إِلَى أَن تكون مدخلًا نظرياً لدراسة علم الْمُنَاسبَة، والآن جَاءَ أَوَان النّظر فِي التطبيقات العملية لمبادئ هَذَا الْعلم الشريف وأغراضه السامية، من خلال عرضٍ لبَعض نماذج مَا تعرض لَهُ الكاتبون فِيهِ، والمهتمون بِهِ.

وسوف نَخْتَار نماذج ثَلَاثَة فَقَط، حَتَّى لَا يخرج الْكَلَام بِنَا عَن حُدُود هَذِه الدراسة، آملين أَن تكون دَالَّة على أهمية هَذَا الْعلم، وضرورة مُتَابعَة النّظر فِيهِ (نظريا وتطبيقاً) ، حَتَّى يَسْتَوِي كلٌّ منا على سُوقه، ويتحقق المُرَاد الْأَعْظَم مِنْهُ، وَهُوَ الاهتداء بهداية الْقُرْآن الْعَظِيم، وَالنَّظَر إِلَيْهِ كوحدة وَاحِدَة، من شَأْن الاعتناء بهَا (علما وَعَملا) أَن يخرج الْأمة من أزمتها، وَيُعِيد إِلَيْهَا سالف مجدها وعزتها.

وَقد اخترتُ النماذج بِحَسب النّظر إِلَى أَنْوَاع علم الْمُنَاسبَة الرئيسة؛ وَلذَا جَاءَت تمثيلاً للتناسب بَين الْآيَات، ثمَّ فِي السُّورَة الْوَاحِدَة، ثمَّ فِيمَا بَين السُّور.

وَبِاللَّهِ الْهِدَايَة، وَمِنْه التَّوْفِيق، وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِهِ.

أَولا: التناسب فِي الْآيَات:

لعلَّ من أَكثر آيَات الْقُرْآن الْمجِيد إشْكَالًا من جِهَة بَيَان مناسبتها لسياق السُّورَة الَّتِي وَردت فِيهَا، هِيَ هَذِه الْآيَات الْأَرْبَع من سُورَة الْقِيَامَة: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (١٦:١٩) ، ولعلَّ أهمية حلِّ إِشْكَال تناسب هَذِه الْآيَات يرجع إِلَى أَنَّهَا كَانَت من قديمٍ محلَّ جدل وتشكك من قبل الطاعنين فِي هَذَا الْكتاب الْمجِيد، وَفِي هَذَا

يَقُول الإِمَام فَخر الدّين الرَّازِيّ: (( زعم قوم من قدماء الروافض أَن هَذَا الْقُرْآن قد غُيِّر وبُدِّل، وَزيد فِيهِ وَنقص عَنهُ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا مُنَاسبَة بَين هَذِه الْآيَات (من سُورَة الْقِيَامَة) وَبَين مَا قبلهَا، وَلَو كَانَ هَذَا التَّرْتِيب من عِنْد الله تَعَالَى لما كَانَ الْأَمر كَذَلِك … )) (١) .

وَلِهَذَا السَّبَب اخترنا هَذِه الْآيَات الْكَرِيمَة لتَكون مِثَالا للنَّظَر فِيمَا تكلم بِهِ عُلَمَاء الْقُرْآن المهتمون بِأَمْر التناسب فِي الْقُرْآن الْكَرِيم.

وَحَتَّى لَا نقع فِي مَحْذُور تكْرَار الْأَقْوَال، وتزاحم النقول، بِمَا قد لَا يُفِيد كثيرا، فقد اخترتُ عشرَة من أهمِّ من تكلمُوا فِي هَذَا الْموضع، وعرضتُ لأقوالهم بِحَسب تَرْتِيب وَفِياتهم، حَيْثُ إِن كَلَام بَعضهم أصبح عُمْدَة من بعدهمْ،

(١) مَفَاتِيح الْغَيْب، ٣٠/٢٢٢. وَانْظُر فِي ذَلِك كتاب شَيخنَا الدكتور مُحَمَّد أَحْمد يُوسُف الْقَاسِم - بَارك الله فِيهِ وأمتع بِهِ: الإعجاز الْبَيَانِي فِي تَرْتِيب آيَات الْقُرْآن الْكَرِيم وسوره، ص ٤٧٠: ٥٠٢، وَكَذَلِكَ: ص ٥٢٢: ٥٢٦، وَانْظُر كَذَلِك فِي الرَّد على هَذِه المطاعن الْبَاطِلَة مُقَدّمَة كتاب (المباني فِي نظم الْمعَانِي) لمؤلف مغربي - فِيمَا يظْهر - مَجْهُول (كتبهَا فِي حُدُود سنة ٤٢٥?) ، وَالَّتِي نشرها المستشرق الإنجليزي آرثر جفري ضمن كِتَابه (مقدمتان فِي عُلُوم الْقُرْآن) نشر مكتبة الخانجي، ط٢ /١٩٧٢م، وَلَا سِيمَا فِي الْفَصْل الرَّابِع مِنْهَا (ص ٧٨: ١١٧) . وعنوانه (فصل فِي بَيَان مَا ادعوا على الْمُصحف من الزِّيَادَة وَالْخَطَأ وَالنُّقْصَان، والكشف عَنْهَا بأوجز بَيَان) . وَلَعَلَّ من أقوى وأمتع مَا كتب فِي دحض هَذِه المفتريات الْوَاهِيَة، هُوَ مَا دبَّجه قلم الإِمَام الثبت الْحجَّة أبي بكر مُحَمَّد بن الطّيب الباقلاني (ت٤٠٣?) - طيب الله ثراه -، وَذَلِكَ فِي كِتَابه بَالغ الأهمية فِي هَذَا السِّيَاق (الِانْتِصَار لِلْقُرْآنِ) - وَقد سبقت الْإِشَارَة إِلَيْهِ من قبل -.. فَفِيهِ دفاع متين، وحجج ناهضة، وردود قَوِيَّة عَن كَافَّة الأسئلة والشكوك الَّتِي تعرضت لِلْقُرْآنِ الْمجِيد من شَتَّى الْجِهَات: التاريخية، والعقدية، واللغوية، والأسلوبية.. كل ذَلِك بطريقة الباقلاني الكلامية المحكمة، وعقليته المنهجية الراسخة.

فهم ينقلونه نقلا حرفياً، وَلَا يكادون يزِيدُونَ عَلَيْهِ، وَأَحْيَانا لَا يشيرون إِلَى مصدره الَّذِي أَخَذُوهُ مِنْهُ.

(١) جَار الله الزَّمَخْشَرِيّ (ت٥٣٨هـ) : قَالَ رَحمَه الله: (( فَإِن قلت: كَيفَ اتَّصل قَوْله {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ..} بِذكر الْقِيَامَة؟ قلتُ: اتصالُه من جِهَة هَذَا التَّخَلُّص مِنْهُ إِلَى التوبيخ بحب العاجلة وَترك الاهتمام بِالآخِرَة )) (١) .

وَهَذَا حسن لَوْلَا أَنه اقْتصر على بَيَان الْمُنَاسبَة للآيات اللاحقة، وَلم يتَعَرَّض لمناسبتها للآيات السَّابِقَة.

(٢) فَخر الدّين الرَّازِيّ (ت ٦٠٦هـ) : ذكر رَحمَه الله: فِي وَجه الْمُنَاسبَة سِتَّة وُجُوه، هاك ملخَّصها:

فأولها: أَنه مُرْتَبِط بِسَبَب النّزول (٢) ، حَيْثُ اتّفق الاستعجال الْمنْهِي عَنهُ للرسول (عِنْد إِنْزَال السُّورَة عَلَيْهِ، فتخلَّل النَّهْي عَن ذَلِك الاستعجال آياتها الَّتِي تَتَحَدَّث عَن الْقِيَامَة.. وَهَذَا كَمَا أَن الْمدرس قد يُخَاطب تِلْمِيذه إِذْ يتشاغل عَنهُ بقوله فِي أثْنَاء الدَّرْس: لَا تلْتَفت عني.. ثمَّ يعود إِلَى درسه، فَمن لم يعرف السَّبَب يَقُول: إِن وُقُوع هَذِه الْكَلِمَة فِي أثْنَاء الدَّرْس غير مُنَاسِب، لَكِن من عرف الْوَاقِعَة علم أَنَّهَا مُنَاسبَة.

وَثَانِيها: أَنه مُرْتَبِط بِذكر حُبِّ الْكفَّار السَّعَادَة والعاجلة فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا فِي قَوْله تَعَالَى: {بَلْ يُرِيدُ الْأِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} ، فَبين بِهَذِهِ الْآيَات الْأَرْبَع أَن

(١) الْكَشَّاف، ٤/١٩٢.

(٢) مَا أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم (وَاللَّفْظ للْبُخَارِيّ) عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ النَّبِي (إِذا نزل عَلَيْهِ الوحيُ حرَّك لِسَانه … يُرِيد أَن يحفظه فَأنْزل الله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ..} . صَحِيح البخارى. صَحِيح مُسلم (١/٣٣٠) .

التعجل مَذْمُوم مُطلقًا، حَتَّى وَلَو كَانَ فِي أُمُور الدّين، فَكيف إِذا كَانَ فِي أُمُور الدُّنْيَا؟!

وَثَالِثهَا: أَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُظهر التعجُّل فِي الْقِرَاءَة مَعَ جِبْرِيل، وَأَنه كَانَ يَجْعَل الْعذر فِيهِ خوف النسْيَان، فَقدم لَهُ الله تَعَالَى بقوله: {بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} ، حَيْثُ أَفَادَ أَن الْإِنْسَان وَإِن اعتذر عَن نَفسه، وجادل عَنْهَا، وأتى بِكُل عذرٍ وَحجَّة، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعهُ ذَلِك؛ لِأَنَّهُ شَاهد على نَفسه، وَهَاهُنَا قيل للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّك إِذا أتيت بِهَذَا الْعذر، فَإنَّك تعلم أَن الْحِفْظ لَا يحصل إِلَّا بِتَوْفِيق الله وإعانته، فاترك هَذَا التعجل، وَاعْتمد على هِدَايَة الله تَعَالَى.

وَرَابِعهَا: مُرْتَبِط أَيْضا بقوله: {بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} كَأَنَّهُ قَالَ: يَا مُحَمَّد: إِن غرضك من هَذَا التعجل أَن تحفظ الْوَحْي وتبلغه إِلَيْهِم، لَكِن لَا حَاجَة إِلَى هَذَا، فَإِن الْإِنْسَان على نَفسه بَصِيرَة، وهم بقلوبهم يعلمُونَ أَن الَّذِي هم عَلَيْهِ من الْكفْر وإنكار الْبَعْث بَاطِل، فَإِذا كَانَ غرضك من التعجل أَن تعرفهم قبح مَا هم عَلَيْهِ _ وَهَذِه معرفَة حَاصِلَة عِنْدهم فِي قرارة نُفُوسهم _ فَإِن فِعْلَك هَذَا من التعجُّل لَا فَائِدَة مِنْهُ.

وخامسها: أَنه - تَعَالَى - حكى عَن الْكَافِر أَنه يَقُول: {أَيْنَ الْمَفَرُّ} ثمَّ قَالَ تَعَالَى: {كَلَّا لَا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} .. فالكافر كَأَنَّهُ يفرُّ من الله إِلَى غَيره، فَقيل للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا مُحَمَّد، إِنَّك فِي طلب حفظ الْقُرْآن تستعين بالتكرار، وَهَذَا استعانةٌ مِنْك بِغَيْر الله، فاترك هَذِه الطَّرِيقَة، واستعِنْ فِي هَذَا الْأَمر بِاللَّه، وفرَّ إِلَيْهِ؛ لتَكون مضاداً لذَلِك الْكَافِر الفار مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

وسادسها: نَقله الرَّازِيّ عَن القفّال وَلم يُعقِّب عَلَيْهِ.. وَهُوَ أَن الْخطاب فِي: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} لَيْسَ للرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بل هُوَ خطاب للْإنْسَان الْمَذْكُور فِي قَوْله

تَعَالَى: {يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} ، حَيْثُ إِنَّه إِذا عُرض عَلَيْهِ كتابُه يَوْم الْقِيَامَة، ودُعي إِلَى قِرَاءَته، وَرَأى مَا فِيهِ من قبائح أَفعاله يتلجلج لِسَانه من شدَّة الْخَوْف وَسُرْعَة الْقِرَاءَة، فَيُقَال لَهُ حينئذٍ: لَا تُحرِّك بِالْقِرَاءَةِ لسَانك، فَإِن علينا - بِحكم الْوَعْد أَو الْحِكْمَة - أَن نجمع أعمالك، وَأَن نقرأها عَلَيْك.. فَإِذا قرأناه فَاتبع قِرَاءَته بِالْإِقْرَارِ بأنك فعلت تِلْكَ الْأَفْعَال.. ثمَّ إنَّ علينا بَيَان الْإِنْسَان وَمَا يتَعَلَّق بعقوبته..

ثمَّ قَالَ القفَّال: (( فَهَذَا وَجه حسن، لَيْسَ فِي الْعقل مَا يَدْفَعهُ، وَإِن كَانَت الْآثَار غير وَارِدَة بِهِ )) (١) .

والحقُّ أَن الْوَجْه الأول - من هَذِه السِّتَّة - لَا تعلق لَهُ بِبَيَان الْمُنَاسبَة، بل هُوَ - باعتماده على سَبَب النّزول وَحده - مِمَّا يؤكِّد إِشْكَال التناسب؛ فَهُوَ يصلح لعرض أساس المشكلة، وَلَا يصلح لِأَن يكون وَجها من وُجُوه الْمُنَاسبَة، وَقد قَالَ فِيهِ الألوسي: (( هَذَا عِنْدِي بعيد، لم يتَّفق مثله فِي النّظم الْجَلِيل، وَلَا دَلِيل لمن يرَاهُ على وُقُوع الْجُمْلَة فِي أثْنَاء هَذِه الْآيَات سوى خَفَاء الْمُنَاسبَة )) (٢) .

وَكَذَلِكَ الْوَجْه الْأَخير - الَّذِي نَقله الرَّازِيّ عَن الْقفال وَسكت عَنهُ - ففوق أَن الأسلوب الْعَرَبِيّ، ومعاني الْأَلْفَاظ تنبو عَنهُ - كَمَا قَالَ الطَّاهِر بن عاشور - فَإِنَّهُ يُهمل سَبَب النّزول إهمالاً كَامِلا، ويتكلف فِي الْآيَات مَا لَا سَبِيل إِلَى قبُوله، هَذَا على الرغم من قبُول بعض الدراسين لَهُ وتفضيلهم إِيَّاه، وَمن هَؤُلَاءِ الدكتور أَحْمد أَحْمد البدوي الذى نَقله وعقَّب عَلَيْهِ - بعد أَن ذكرأنه

(١) انْظُر هَذِه الْوُجُوه السِّتَّة فِي: مَفَاتِيح الْغَيْب، ٣٠/٢٢٢: ٢٢٤

(٢) روح الْمعَانِي فِي تَفْسِير الْقُرْآن الْعَظِيم والسبع المثاني، الآلوسي الْبَغْدَادِيّ، طبعة المنيرية، ٢٩/١٤٣.

أفضل تَوْجِيه رَآهُ - بقوله:

(( .. وَإِذا كنت أوافقه فِي أصل الفكرة، فَإِنِّي أخالفه فِي تفصيلاتها، فَالْمَعْنى - على مَا أرى: ينبأ الْإِنْسَان يَوْمئِذٍ بِمَا قدم وَأخر، وَذَلِكَ - كَمَا أخبر الْقُرْآن - فِي كتابٍ مسطور، وَفِي تِلْكَ الْآيَات يصف الْقُرْآن موقف الْمَرْء من هَذَا الْكتاب، فَهُوَ يتلوه فِي عجلٍ كي يعرف نتيجته، فَيُقَال لَهُ: لَا تُحرِّك بِالْقِرَاءَةِ لسَانك لتتعجل النتيجة، إِن علينا أَن نجمع مَا فِيهِ من أَعمال فِي قَلْبك، وَأَن نجعلك تقرؤه فِي تدبُّرٍ وإمعان، فَإِذا قرأته، فاتجه الاتجاه الَّذِي يهديك، وَإِن علينا بَيَان هَذَا الاتجاه وإرشادك إِلَيْهِ.. إِمَّا إِلَى الْجنَّة، وَإِمَّا إِلَى السعير، وَبِذَلِك يَتَّضِح ألاَّ خُرُوج فِي الْآيَات على نظم السُّورَة وهدفها )) (١) .

والحقُّ أَن هَذَا أوغلُ فِي التكلُّف من كَلَام القفَّال.

وعَلى كلٍّ، فكلاهما لَا ينسجم وسياقَ السُّورَة، وَلَا يتَّفق ومعانيَ الْآيَات الظَّاهِرَة ذَاتهَا.. فَوق أَنه مخالفٌ للصحيح الْمَأْثُور الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور، من أَن ذَلِك الْخطاب إِنَّمَا هُوَ للنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

(٣) أَبُو حَيَّان الأندلسي (ت ٧٥٤هـ) : قَالَ رَحمَه الله: (( .. وَيظْهر أَن الْمُنَاسبَة بَين هَذِه الْآيَة وَمَا قبلهَا أَنه تَعَالَى لما ذكر مُنكر الْقِيَامَة والبعث، معرضًا عَن آيَات الله تَعَالَى ومعجزاته، وَأَنه قاصرٌ شهواته على الْفُجُور، غير مكترثٍ بِمَا يصدر مِنْهُ ذكر حَال من يثابر على تعلم آيَات الله وحفظها وتلقفها وَالنَّظَر فِيهَا، وعرضها على من ينكرها رَجَاء قبُوله إِيَّاهَا، فَظهر بذلك تبَاين من يرغب فِي تَحْصِيل آيَات الله وَمن يرغب عَنْهَا، وبضدها تتَمَيَّز الْأَشْيَاء )) (٢) .

(١) من بلاغة الْقُرْآن، د. أَحْمد أَحْمد البدوي، مكتبة نهضة مصر، ط ٣/١٩٥٠م، ص ٢٣٧.

(٢) الْبَحْر الْمُحِيط، أَبُو حَيَّان الأندلسي، تَصْوِير دَار الْفِكر - بيروت، ٨/٣٨٨.

وَهَذَا قريبٌ من الْوَجْه الْخَامِس من وُجُوه الْفَخر الرَّازِيّ، وَهُوَ مقبولٌ إِلَى حدٍّ مَا، غير أَن فِيهِ أَنه يحسن بعد تَمام مَا يتَعَلَّق بذلك الْمُنكر، وَالظَّاهِر أَن {لَا تُحرِّك} وَقع فِي الْأَثْنَاء - كَمَا قَالَ الألوسي - فَلَا تزَال الْمُنَاسبَة غير ظَاهِرَة.

(٤) برهَان الدّين البقاعي (ت٨٨٥هـ) : وسوف نتجاوزه قَلِيلا حَتَّى ننتهي من عرض بَقِيَّة الْأَقْوَال، حَيْثُ إِنَّه من أحسن مَنْ تكلم عَن وَجه مناسبةٍ مَقْبُول، وسنرجع إِلَيْهِ ثَانِيَة بِإِذن الله.

(٥) إِسْمَاعِيل حَقي البروسوي (ت ١٣٧هـ) : قَالَ رَحمَه الله: (( .. لَاحَ لي فِي سرِّ الْمُنَاسبَة وجهٌ لطيف، وَهُوَ أَن الله تَعَالَى بيَّن قبل قَوْله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} جمع الْعِظَام ومتفرقات العناصر، الَّتِي هِيَ أَرْكَان ظَاهر الْوُجُود، ثمَّ انْتقل إِلَى جمع الْقُرْآن وأجزائه، الَّتِي هِيَ أساس خلق الْوُجُود، فَقَالَ بعد قَوْله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} : {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} فَاجْتمع الْجمع بِالْجمعِ، وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين )) (١) .

وَهُوَ وَجه لطيف حَقًا.. بَيْدَ أَنه يُشم وَلَا يُفْرك!

(٦) شهَاب الدّين الألوسي (ت ١٢٧٠هـ) : نقل الألوسي أَكثر من وجهٍ للمناسبة، غير أنني أقتصر على اثْنَيْنِ مِنْهَا، حَتَّى لَا أكرر مَا سبق.

أما الأول فَهُوَ أَن قَوْله - عز وَجل: {لَا تُحَرِّكْ} متوسطٌ بَين حبِّ العاجلة: حبِّها الَّذِي تضمنه: {بَلْ يُرِيدُ..} تَلْوِيحًا، وحبّها الَّذِي آذن بِهِ: {بَلْ تُحِبُّونَ..} تَصْرِيحًا، لحسن التَّخَلُّص مِنْهُ إِلَى المفاجأة وَالتَّصْرِيح، فَفِي ذَلِك تدرجٌ ومبالغةٌ فِي التقريع. والتدرج وَإِن كَانَ يحصل لَو لم يُؤْت بقوله - سُبْحَانَهُ

(١) روح الْبَيَان، إِسْمَاعِيل حَقي البروسوى، تَصْوِير دَار إحيار التراث الْعَرَبِيّ - بيروت ١٠/٢٤٩.

- : {لَا تُحَرِّكْ} فِي الْبَين (أَي الْوسط) أَيْضا، إِلَّا أَنه يلْزم حينئذٍ فَوَات الْمُبَالغَة فِي التقريع.. وَأَنه إِذا لم تُجزِ العجلةُ فِي الْقُرْآن - وَهُوَ شفاءٌ وَرَحْمَة - فَكيف فِيمَا هُوَ فجورٌ وثبورٌ؟ ! .. وَيَزُول مَا أُشير إِلَيْهِ من الْفَوَائِد، فَهُوَ استطرادٌ يُؤَدِّي مؤدى الِاعْتِرَاض.

ثمَّ قَالَ الشَّيْخ: (( هَذَا خُلَاصَة مَا رمز إِلَيْهِ جَار الله )) (١) .. ثمَّ قَالَ فِي آخر عرضه لما ذكر من وجوهٍ: (( .. واللائق بجزالة التَّنْزِيل ولطيف إشاراته مَا أَشَارَ إِلَيْهِ ذُو الْيَد الطُولى جارُ الله.. )) (٢) .

وَلذَلِك، فَإِنَّهُ يرد عَلَيْهِ مَا يرد على كَلَام الزَّمَخْشَرِيّ، وَالَّذِي ذكرتُه آنِفا، وَإِن كَانَ هَذَا أقرب إِلَى ملاءمة السباق واللحاق.

وَأما الْوَجْه الثَّانِي الَّذِي يهمنا من الألوسي، فحاصله أَن الْخطاب فِي {لَا تُحرِّك} لسَيِّد المخاطَبين صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَقِيقَة، أَو من بَاب (إياكِ أَعنِي، واسمعي يَا جَارة) ، أولكل من يصلُح لَهُ الْخطاب.. وَأَن الضَّمِير فِي {بِهِ} إِنَّمَا هُوَ ليَوْم الْقِيَامَة، وَأَن الْجُمْلَة اعتراضٌ جِيءَ بِهِ لتأكيد تهويله وتفظيعه، مَعَ تقاضي السباق لَهُ.. وَالْمعْنَى على ذَلِك: لَا تسْأَل عَن تَوْقِيت ذَلِك الْيَوْم الْعَظِيم، مستعجلاً معرفَة ذَلِك، فَإِنَّهُ الْوَاجِب علينا حِكْمَة حشر الْجَمِيع فِيهِ، وإنزال قُرْآن يتَضَمَّن بَيَان أَحْوَاله، ليُستعَدَّ لَهُ، وإظهاره بالوقوع الَّذِي هُوَ الداهية الْعُظْمَى، وَأما مَا عدا ذَلِك من تعْيين وقته، فَلَا يجب علينا حِكْمَة، بل هُوَ منافٍ للحكمة، فَإِذا سَأَلت، فقد سَأَلت مَا ينافيها، فَلَا تجاب.

هَذَا مَعْطُوف على قَوْله: (( وَيلْزم حِينَئِذٍ فواتُ الْمُبَالغَة.. ))

(١) روح الْمعَانِي، ٢٩ / ١٤٢، ١٤٣

(٢) السَّابِق، ٢٩/١٤٤

وَقد كفانا الألوسيُّ نَفسه مؤونة نقض هَذَا الْوَجْه - لبعده الشَّديد عَن الظَّاهِر، وَعَن سَبَب النّزول الَّذِي هُوَ مَحل اتِّفَاق الْجُمْهُور كَمَا سبق - بقوله: (( .. وَفِيه مَا فِيهِ، وَمَا كنت أذكرهُ لَوْلَا هَذَا التَّنْبِيه )) (١) .

(٧) الشَّيْخ عبد الحميد الفراهي (ت ١٣٤٩هـ) : لَيْسَ بَين أَيْدِينَا - مَعَ الأسف الشَّديد - تَفْسِير الفراهي الَّذِي سَمَّاهُ (نظام الْقُرْآن وَتَأْويل الْفرْقَان بالفرقان) ، وَالَّذِي ذُكر أَنه طبق فِيهِ تنظيره فِي مجَال التناسب، وَالَّذِي أطلق عَلَيْهِ (النظام) - كَمَا أشرتُ من قبل -.. وَلذَا، فإنني أنقل عَن رِسَالَة الدكتوراه المُعدَّة عَنهُ مَا يتَعَلَّق بِهَذَا الْمقَام، فقد ذكر الباحث سيد سعيد أحسن العابدي أَن الفراهي تكلم عَن أَن الْمُفَسّرين لمَّا خَفِي عَلَيْهِم رِبَاط الْكَلَام فِي هَذِه السُّورَة، جعلُوا هَذِه الْآيَات الْأَرْبَع كلَاما مستأنفاً، غير مربوط بمضمون السُّورَة، وظنوا أَن النَّبِي اعتراه الْعجل، فَكَلمهُ جِبْرِيل ناهياً عَنهُ.. ثمَّ قَالَ الفراهي: (( نعم.. إِن نزُول الْقُرْآن كنُزول الْغَيْث، ينْتَظر انبعاثاً لكَي يُطَابق بِالْحَال، وَقد وَقع عِنْد إِلْقَاء الْكَلَام أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ عَاجلا لتلقي الْوَحْي، حرصاً عَلَيْهِ لشدَّة حرصه على إنذار قومه، فَاعْلَم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد مَا أوحى إِلَيْهِ، كَانَ يحْسب أَن حملا باهظاً قد أُلقي عَلَيْهِ، فَإِن نسي مِنْهُ شَيْئا كَانَ مسؤولاً عَنهُ، وَمَعَ ذَلِك كَانَ يشتاق إِلَى زِيَادَة الْوَحْي، لَعَلَّ قومه يَنْتَفِعُونَ بِهِ، فَجَاءَت التسلية حسب هذَيْن الْأَمريْنِ، مَعَ رِعَايَة وَجه الْكَلَام فِي هَذِه السُّورَة، فَكَأَنَّهُ قيل لَهُ: لِم تجتهد هَكَذَا فِي تلقي الْوَحْي؟ ! أما حفظه أَو جمعه فعلينا، وَأما هِدَايَة قَوْمك، فهم منهمكون فِي محبَّة العاجلة، فكثير القَوْل وقليله سواءٌ عَلَيْهِم )) (٢) .

(١) السَّابِق، ٢٩ / ١٤٤

(٢) ذكر الدكتور العابدي فِي رسَالَته تِلْكَ (ص ١٤٨، ١٤٩) أَن هَذَا الْكَلَام من تَفْسِير الفراهي، ص ١١: ١٤ بِتَصَرُّف.

والحقُّ أَن وَجه الْمُنَاسبَة لم يَتَّضِح - كَمَا يَنْبَغِي - من خلال هَذَا الْكَلَام؛ إِذْ يرِدُ عَلَيْهِ مَا أوردناه من قبل على تَوْجِيه الزَّمَخْشَرِيّ، من كَونه يحلُّ الْمُنَاسبَة بِالنّظرِ إِلَى الْآيَات اللاحقة فَقَط، دون النّظر إِلَى الْآيَات السَّابِقَة، ولعلنا إِن رَجعْنَا إِلَى أصل كَلَام الفراهي تكون الصُّورَة أَكثر وضوحاً.. وَالله أعلم.

(٨) الْأُسْتَاذ سيد قطب (ت ١٣٨٦هـ) : وسوف أتجاوزه أَيْضا قَلِيلا.. حَيْثُ إِنَّنِي سأختار تَوْجِيهه فِي بَيَان التناسب.

(٩) الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر بن عاشور (ت ١٣٩٧هـ) : فالشيخ - رَحْمَة الله عَلَيْهِ - على دقة فهمه، وَبعد غوره، فِي التَّنْبِيه إِلَى لطائف الْكتاب الْعَزِيز، والاستدراك على هَنَات السَّابِقين، والإسهام الرائع فِي الإضافات المبتكرة، لم يُنبه أَو يُعلق على بَيَان وَجه مناسبةٍ يحلُّ من إِشْكَال هَذِه الْآيَات، وَاكْتفى بِأَن قرَّر أَنَّهَا مدمجةٌ فِي السُّورَة؛ لِأَنَّهَا نزلت فِي أثْنَاء نُزُولهَا (١) .. ثمَّ قَالَ:

(( هَذِه الْآيَة وَقعت هُنَا معترضةٌ، وَسبب نُزُولهَا مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا نزل عَلَيْهِ الْقُرْآن يحرِّك بِهِ لِسَانه، يُرِيد أَن يحفظه، مخافةَ أَن يتفلَّت مِنْهُ، أَو من شدَّة رغبته فِي حفظه، فَكَانَ يلاقي من ذَلِك شدَّة، فَأنْزل الله تَعَالَى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} ، قَالَ: جمعَه فِي صدرك، ثمَّ تَقْرَأهُ {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} ، قَالَ: فاستمع لَهُ وأنصت {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أَن نبينه بلسانك، أَي: أَن تَقْرَأهُ. أ? (٢) . فَلَمَّا نزل هَذَا الْوَحْي فِي أثْنَاء نزُول السُّورَة للغرض الَّذِي نزل فِيهِ، وَلم تكن سُورَة مُسْتَقلَّة، كَانَ مُلْحقًا بالسورة، وواقعاً بَين

(١) التَّحْرِير والتنوير، ٢٩/٣٣٧

(٢) صَحِيح البخارى (٦/٧٦) ، صَحِيح مُسلم (١/٣٣٠) .

الْآي الَّتِي نزل بَينهَا )) (١) .

ثمَّ قَالَ الشَّيْخ - رَحمَه الله: (( .. فَيكون وُقُوع هَذِه الْآيَة فِي هَذِه السُّورَة مثل وُقُوع {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} فِي سُورَة مَرْيَم، وَوُقُوع: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} فِي أثْنَاء أَحْكَام الزَّوْجَات فِي سُورَة الْبَقَرَة )) (٢) .

وَبعد أَن نقل وَجه القفَّال - الَّذِي نَقله الرَّازِيّ - وعقَّب عَلَيْهِ بِأَن الأسلوب الْعَرَبِيّ ومعاني الْأَلْفَاظ تنبو عَنهُ.. قَالَ: (( .. وَالَّذِي يلوح لي فِي موقع هَذِه الْآيَة هُنَا، دون أَن تقع فِيمَا سبق نُزُوله من السُّور قبل هَذِه السُّورَة، أَن سور الْقُرْآن حِين كَانَت قَليلَة كَانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يخْشَى تفلُّتَ بعض الْآيَات مِنْهُ، فَلَمَّا كثرت السُّور، فبلغت زهاء ثَلَاثِينَ - حسب مَا عدّه سعيد ابْن جُبَير فِي تَرْتِيب نزُول السُّور -؛ صَار النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْشَى أَن ينسى بعض آياتها، فَلَعَلَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخذ يُحَرك لِسَانه بِأَلْفَاظ الْقُرْآن عِنْد نُزُوله احْتِيَاطًا لحفظه، وَذَلِكَ من حرصه على تَبْلِيغ مَا أُنزَلَ إِلَيْهِ بنصِّه، فَلَمَّا تكفل الله بحفظه، أمره ألاَّ يُكَلف نَفسه تَحْرِيك لِسَانه، فالنهيُ عَن تَحْرِيك لِسَانه نهي رحمةٍ وشفقة، لما كَانَ يلاقيه فِي ذَلِك من الشدَّة )) (٣) .

ثمَّ عَاد الشَّيْخ وأكد كَون هَذِه الْآيَات مُعْتَرضَة فِي السِّيَاق، إِذْ قَالَ عِنْد كَلَامه على قَوْله تَعَالَى: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} : (( رُجُوع إِلَى مِهْيَع الْكَلَام الَّذِي

(١) التَّحْرِير والتنوير، ٢٩/٣٤٩.

(٢) السَّابِق، ٢٩/٣٥٠

(٣) التَّحْرِير والتنوير، ٢٩/٣٥٠.

أَي سِيَاق الْكَلَام ونسقه، قَالَ صَاحب اللِّسَان: مهيع، وَاضح وَاسع بيِّن، وجَمعُه مهايع. انْظُر مَادَّة (هيع) .

بنيت عَلَيْهِ السُّورَة، كَمَا يرجع الْمُتَكَلّم لوصل كَلَامه بعد أَن قطعه عَارض أَو سَائل )) (١) .

(١٠) الْأُسْتَاذ مُحَمَّد عِزَّةْ دَرْوَزة (ت ١٤٠٤هـ) : لم يشفِ - الْأُسْتَاذ دروزة النفسَ بِمَا كَانَ ينْتَظر من مثله - وَهُوَ من ذكر فِي مُقَدّمَة تَفْسِيره - كَمَا نقلتُ عَنهُ من قبل - أَن من صلب منهجه (( الاهتمام لبَيَان مَا بَين آيَات وفصول السُّور من ترابط، وَعطف الْجمل القرآنية على بَعْضهَا (سياقاً أَو مَوْضُوعا) ، كلما كَانَ ذَلِك مَفْهُوم الدّلَالَة، لتجلية النّظم القرآني والترابط الموضوعي فِيهِ )) .. إِذْ أَنه اكْتفى بقوله - بعد أَن ذكر رِوَايَة البُخَارِيّ وَمُسلم فِي سَبَب النّزول: (( .. وَالرِّوَايَة متسقةٌ مَعَ الْآيَات، وورودها فِي الْموضع الَّذِي وَردت فِيهِ - وَالَّذِي يَبْدُو عجيباً لَا يَسْتَقِيم _ وَالله أعلم _ إِلَّا بغرض أَن تكون هَذِه الْحَادِثَة وَقعت أثْنَاء نزُول الْآيَات السَّابِقَة لَهَا، فَأوحى الله - عز وَجل - بِهَذِهِ الْآيَات فَوْرًا لبَيَان مَا فِي الْعَمَل من عجلة لَا ضَرُورَة لَهَا، فأملى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على كَاتبه الْآيَات مَعَ الْآيَات الْأُخْرَى، وَلَو لم تكن مُتَّصِلَة بهَا مَوْضُوعا )) (٢) .

وَهَكَذَا.. ترك الْأُسْتَاذ المشكلة من غير حلٍّ!

وَهنا تَأتي أهمية الرُّجُوع إِلَى البقاعي وَسيد قطب - اللَّذين تجاوزنا ترتيبهما.

أما برهَان الدّين البقاعي.. فقد حاول فِي كِتَابه الْعَظِيم (نظم الدُّرَر) حلَّ الْإِشْكَال بمراعاة مَا ذكره فِي أَوله من النّظر إِلَى سِيَاق السُّور، وربط أَجْزَائِهَا بِبَعْض، فَبعد كلامٍ جيد حول قَوْله تَعَالَى: بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى

(١) التَّحْرِير والتنوير، ٢٩/٣٥١.

(٢) التَّفْسِير الحَدِيث، مُحَمَّد عزة دروزة ٢/١٠.

مَعَاذِيرَهُ حَاصله أَن الْإِنْسَان المقصر، المجادل عَن نَفسه، حجةٌ على نَفسه، وَلَو احْتج عَنْهَا واجتهد فِي ستر عيوبها، فَلَا تقبل مِنْهُ الْأَعْذَار؛ لِأَنَّهُ أُعطي البصيرة - وَهِي نور الْمعرفَة المركوزة فِي الْفطْرَة الأولى - فأعماها بهوى النَّفس وشهواتها.. بعد ذَلِك قَالَ - رَحمَه الله:

(( .. وَمعنى هَذَا كُله أَن الْإِنْسَان محجوبٌ فِي هَذِه الدَّار عَن إِدْرَاك الْحَقَائِق، بِمَا فِيهِ من الحظوظ والكسل والفتور، وَلما فِيهِ من النقائص، بَيْنَمَا كَانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مبرَّءاً من ذَلِك؛ لخلق الله إِيَّاه كَامِلا، وترقيته بعد ميلاده كلَّ يومٍ فِي مراقي الْكَمَال (…) . وَلكنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لتعظيمه لهَذَا الْقُرْآن، لما لَهُ فِي نَفسه من الْجَلالَة، وَلما فِيهِ من خَزَائِن السَّعَادَة، والعلوم الَّتِي لَا حدَّ لَهَا (…) كَانَ يُحرِّك بِهِ لِسَانه استعجالاً لتعهُّده؛ ليحفظه وَلَا يشذَّ عَنهُ مِنْهُ شَيْء، وَلما كَانَ قد ختم - سُبْحَانَهُ - مَا قبلهَا - أَي مَا قبل هَذِه الْآيَات الْأَرْبَع - بالمعاذير، وَكَانَت العجلة مِمَّا يُعتذر عَنهُ، وَكَانَ الْحَامِل على جَمِيع مَا يُوجب الْمَلَامَة والاعتذار مَا طبع عَلَيْهِ الْإِنْسَان من حب العاجلة، قَالَ تَعَالَى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} لِئَلَّا يمِيل إِلَى العاجلة، وَلَا يَقع فِي مخالفةٍ، إعلاماً بِأَنَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - قد دفع عَن نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تِلْكَ الْحجب، وأوصله من رُتْبَة (لوكشف الغطاءُ مَا ازددتُ يَقِينا) إِلَى أنهاها، وَبِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قادرٌ على مَا يُرِيد من كشفِ مَا يُرِيد لمن يُرِيد، كَمَا يكْشف لكل إنسانٍ عَن أَعماله فِي الْقِيَامَة، حَتَّى يعرف مَا قدَّم مِنْهَا وَمَا أخَّر، وتنبيهاً على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا كسب لَهُ فِي هَذَا الْقُرْآن غير حسن التلقي، إبعاداً لَهُ عَن قَول الْبشر، (…) وَلما لم يكن لهَذَا التحريك فَائِدَة - مَعَ حفظ الله لَهُ على كل حَال - إِلَّا قصد الطَّاعَة بالعجلة، وَكَانَت العجلة هِيَ الْإِتْيَان بالشَّيْء قبل أَوَانه الْأَلْيَق بِهِ، وَلِأَن هَذِه العجلة وَإِن كَانَت من الكمالات بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِلَى إخوانه

الْأَنْبِيَاء - فَإِنَّهُ هَذَا التحريك من النَّفس اللوّامة، الَّتِي تلوم على ترك الْمُبَادرَة إِلَى أَفعَال الْخَيْر، وَغَيرهَا من أَفعَال النَّفس المطمئنة أكملُ مِنْهَا - فَنقل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من مقامٍ كَامِل إِلَى أكملَ مِنْهُ، وَكَانَ هَذَا الْكَلَام الْمُتَعَلّق بِالْقُرْآنِ وَالَّذِي بعده فرقاناً بَين صِفَتي اللوّامة فِي الْخَيْر واللوّامة فِي الشَّرّ.. )) (١) .

وَهَكَذَا.. لَا يَكْتَفِي البقاعي بربط الْآيَات بِمَا سبقها مُبَاشرَة، بل يصل بهَا فِي بَيَان الْمُنَاسبَة إِلَى مطلع السُّورَة الْكَرِيمَة، لَا سِيمَا الْآيَة الثَّانِيَة مِنْهَا: {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} .

ثمَّ يُصَرح - رَحمَه الله - بمناسبة الْآيَات لسورة المدثر الَّتِي قبلهَا بقوله: (( .. وَالْآيَة ناظرةٌ إِلَى قَوْله تَعَالَى فِي المدثر حِكَايَة: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} ، وَمَا بَينهمَا اعْتِرَاض فِي وصف حَال الْقِيَامَة، جرَّ إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} )) .

وَهَذَا ملمح ذكيٌّ مِنْهُ، حَيْثُ ربط بَين السورتين وكأنهما فِي سِيَاق واحدٍ، وَجعل مَا اعْتَبرهُ (اعتراضاً) مقسمًا على السورتين، وَهَذَا مِنْهُ وفاءٌ لمنهجه الَّذِي ذكر فِيهِ أَنه ينظر إِلَى الْغَرَض الَّذِي سيقت لَهُ السُّورَة، ثمَّ ينظر مَا يحْتَاج إِلَيْهِ ذَلِك الْغَرَض من الْمُقدمَات، ومراتبها فِي الْقرب والبعد من الْمَطْلُوب، ثمَّ ينظر عِنْد انجرار الْكَلَام فِي الْمُقدمَات إِلَى مَا يستتبعه من استشراف نفس السَّامع إِلَى الْأَحْكَام واللوازم التابعة لَهُ، وَالَّتِي تَقْتَضِي البلاغة شِفَاء الغليل بِدفع عناء

هَذَا جَوَاب قَوْله: (( وَلما لم يكن لهَذَا التحريك.. )) .

(١) انْظُر: نظم الدُّرَر، ٢١/٩٧: ١٠٠، وَكَلَام البقاعي فِيهِ نَفِيس جدا، لَوْلَا مَا يشوبه من كَثْرَة الاستطراد، وَطول الْجمل المعترضة، فَهُوَ بحاجة إِلَى شَيْء من التصفية والتهذيب، وَلَعَلَّ مَا قمتُ بِهِ هُنَا يَفِي بغرض توضيح مُرَاده.. وَالله أعلم.

الاستشراف إِلَى الْوُقُوف عَلَيْهَا (١) . . وَهَكَذَا.. حَتَّى يظْهر بِالْفِعْلِ مصداق كلمة الشَّيْخ ولي الله الملوي فِي آيَات الذّكر الْحَكِيم: (( إِنَّهَا على حسب الوقائع تنْزيلاً، وعَلى حسب الْحِكْمَة ترتيباً )) (٢) .

وعَلى الرغم من هَذِه الإجادة من البقاعي - رَحمَه الله وَأحسن إِلَيْهِ - فِي هَذَا الْوَجْه من التناسب؛ إِلَّا أنني أرى أَن الْأُسْتَاذ الأديب الذواقة سيد قطب - رَحمَه الله - هُوَ أقرب من تعرضوا لهَذِهِ الْآيَات إِلَى إِصَابَة المحزِّ فِي بَيَان تساوق آيَات السُّورَة كلهَا فِي الْإِشَارَة إِلَى مقصدٍ كليٍّ.. وَذَلِكَ حِين يشدًّ آيَات السُّورَة كلهَا إِلَى معنى أساسي وَاحِد تَجْتَمِع عَلَيْهِ، وترتدُّ إِلَيْهِ، وَهُوَ معنى (( الجِدِّ الْخَالِص )) الَّذِي يَنْبَغِي أَن يُنظر إِلَى هَذَا الدّين كُله - بتعاليمه، وعقائده، وَأَحْكَامه - على أساسٍ مِنْهُ.. يَقُول - رَحمَه الله - فِي مُقَدّمَة السُّورَة:

(( .. وَفِي ثنايا السُّورَة وحقائقها ومشاهدها تعترض أَربع آياتٍ تحتوي توجيهاً خَالِصا للرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وتعليماً لَهُ فِي شَأْن تلقي هَذَا الْقُرْآن، ويبدو أَن هَذَا التَّعْلِيم جَاءَ بمناسبةٍ حَاضِرَة فِي السُّورَة ذَاتهَا؛ إِذْ كَانَ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخَاف أَن ينسى شَيْئا مِمَّا يُوحى إِلَيْهِ، فَكَانَ حرصه على التحرُّز من النسْيَان يَدْفَعهُ إِلَى استذكار الْوَحْي فقرةً فقرةً فِي أثْنَاء تلقيه، وتحريك لِسَانه بِهِ ليستوثق من حفظه، فَجَاءَهُ هَذَا

(١) انْظُر نَص الْقَاعِدَة فِي نظم الدُّرَر: ١/١٨، وَقد سبقت مَعنا فِي المبحث الْخَامِس، وَقد نصَّ البقاعي فِي مصاعد النّظر (١/٣٧) على أَنَّهَا مِمَّا تفرد بِسَمَاعِهِ عَن شَيْخه أبي الْفضل المغربي؛ إِذْ لم يسْمعهَا مِنْهُ غَيره - كَمَا قَالَ -، وَقَالَ عقب ذَلِك: (( لَو كنت مِمَّن يتشبع بِمَا لم يُعطَ، لم أنسبها إِلَيْهِ، فَإِنَّهَا أحسنُ من كل مَا فِي كتابي، وَهِي الأَصْل الَّذِي ابتني ذَلِك كُله عَلَيْهِ )) رحمهمَا الله جَمِيعًا.

(٢) نظم الدُّرَر، ١/٨، وَكَذَلِكَ: الْبُرْهَان، ١/٣٧

التَّعْلِيم: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} ليطمئنه إِلَى أَن هَذَا الْوَحْي، وَحفظ هَذَا الدّين، وَجمعه، وَبَيَان مقاصده، كل أُولَئِكَ موكولٌ إِلَى صَاحبه، ودورُه هُوَ التلقي والبلاغ، فليطمأنَّ بَالا، وليتلقَّ الْوَحْي كَامِلا، فيجده فِي صَدره مَنْقُوشًا ثَابتا، وَهَكَذَا كَانَ )) (١) .

ثمَّ يَقُول - رَحمَه الله: (( .. وبالإضافة إِلَى مَا قُلْنَاهُ فِي مُقَدّمَة السُّورَة عَن هَذِه الْآيَات، فَإِن الإيحاء الَّذِي تتركه فِي النَّفس هُوَ تكفُّل الله الْمُطلق بشأن هَذَا الْقُرْآن: وَحيا، وحفظاً، وجمعاً، وبياناً، وإسنادُه إِلَيْهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بِالْكُلِّيَّةِ، لَيْسَ للرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أمره إِلَّا حملُه وتبليغُه، ثمَّ لهفةُ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَشدَّة حرصه على اسْتِيعَاب مَا يُوحى إِلَيْهِ، وَأَخذه مَأْخَذ الْجد الْخَالِص، وخشيتُه أَن ينسى مِنْهُ عبارَة أَو كلمة، مِمَّا كَانَ يَدعُوهُ إِلَى مُتَابعَة جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - فِي التِّلَاوَة آيَة آيَة، وَكلمَة كلمة، يستوثق مِنْهَا أَن شَيْئا لم يفُتْه، ويتثبت من حفظه لَهُ فِيمَا بعد، وتسجيل هَذَا الْحَادِث فِي الْقُرْآن المتلوِّ لَهُ قِيمَته فِي تعميق هَذِه الإيحاءات الَّتِي ذكرنَا هُنَا وَفِي مُقَدّمَة السُّورَة بِهَذَا الْخُصُوص )) (٢) .

ولننظر فِي أَمر هَذَا (الجدِّ الْخَالِص) الَّذِي ردَّ إِلَيْهِ سيد قطب آيَات السُّورَة، وَجعله المحور الَّذِي تَدور عَلَيْهِ.

أَلَيْسَ هُوَ الْمشَار إِلَيْهِ بِالنَّفسِ اللوَّامة فِي مطْلعهَا؟! . .

ثمَّ بِالْإِشَارَةِ إِلَى أُولَئِكَ الَّذين يحسبون أَن الْمَوْت هُوَ نِهَايَة الرحلة؛ وَلذَلِك يُرِيدُونَ ليفجروا فِي حياتهم من غير أَن يشعروا بأية مسؤولية تحدُّ من عُتوِّهم،

(١) فِي ظلال الْقُرْآن، ٦/٣٧٦٧

هَذَا مَعْطُوف على قَوْله: (( .. هُوَ تكفُّلُ الله الْمُطلق … )) .

(٢) فِي ظلال الْقُرْآن، ٦/٣٧٧٠

أَو آخرةٍ سيُحاسبون فِيهَا على أَعْمَالهم.

ثمَّ بتقرير أَن الْإِنْسَان ذَاته بصيرةٌ على نَفسه، وَأَن معاذيره الكاذبة لن تَنْفَعهُ.. يَوْم تُبلى السرائر.

ثمَّ بعد ذَلِك - بعد الْآيَات (المعترضة) مُبَاشرَة - يَأْتِي ذكر أُولَئِكَ المتعجِّلين من قصار النّظر، الَّذين لَا يرَوْنَ أبعد من أنوفهم، فيحبون العاجلة ويذرون الْآخِرَة.

ثمَّ يَأْتِي تَصْوِير حَال الْوَاحِد من هَؤُلَاءِ، إِذْ يعاين سَكَرَات الْمَوْت، ويتبدَّى ضعفه التَّام، وضآلته الْبَالِغَة أَمَام الْحَقِيقَة الرهيبة الَّتِي طالما تصامم عَنْهَا، وتشاغل عَن الِالْتِفَات إِلَيْهَا، حقيقةِ الْمَوْت، مصيرِه ومصيرِ جَمِيع الْخلق، وحينها - حِين تبلغ روحه التراقي، ويُهرع أَهله وَمن حوله إِلَى من يرقيه.. بَيْنَمَا يُوقن هُوَ وَهُوَ على أَبْوَاب الْآخِرَة أَنَّهَا النِّهَايَة - حينها فَقَط يعلم أَن الله هُوَ الْحق الْمُبين، بَيْنَمَا كَانَ - فِي فرصه الْإِمْكَان - يعِيش حَيَاته لاهياً عابثاً، وَلَا يَأْخُذ هَذِه الْحَقَائِق مَأْخَذ (الْجد الْخَالِص) الَّذِي يَنْبَغِي لَهَا.

ثمَّ تُقرِّر السُّورَة فِي آياتها الْأَخِيرَة هَذِه الْحَقِيقَة، عَن طَرِيق الِاسْتِفْهَام الإنكاريِّ التوبيخي: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} لِترد عجزها إِلَى صدرها، لتلتقي الْمُقدمَة والمؤخرة على بَيَان وجوب (الْجد الْخَالِص) ، الَّذِي لن ينجو إِنْسَان بِغَيْرِهِ.

يَقُول سيد قطب - رَحمَه الله: (( .. وَهَكَذَا تعالج السُّورَة عناء هَذَا الْقلب، وإعراضه، وإصراره، ولهوه، وتُشعره بالجدِّ الصارم الحازم فِي هَذَا الشَّأْن، شَأْن الْقِيَامَة، وشأن النَّفس، وشأن الْحَيَاة المقدّرة بحسابٍ دَقِيق، ثمَّ شَأْن هَذَا الْقُرْآن الَّذِي لَا يُخرم مِنْهُ حرف؛ لِأَنَّهُ من كَلَام الْعَظِيم الْجَلِيل، الَّذِي تتجاوب جنباتُ

الْوُجُود بكلماته، وَتثبت فِي سجل الْكَوْن الثَّابِت، وَفِي صلب هَذَا الْكتاب الْكَرِيم )) .

ثمَّ يَقُول - قبيل تَفْصِيله القَوْل فِي الْآيَات بمفردها:

(( .. وَقد عرضنَا نَحن لحقائق السُّورَة ومشاهدها فُرَادَى لمُجَرّد الْبَيَان، وَهِي فِي نسق السُّورَة شيءٌ آخرٌ؛ إِذْ إِن تتابعها فِي السِّيَاق، والمزاوجة بَينهَا هُنَا وَهُنَاكَ، ولمسة الْقلب بِجَانِب من الْحَقِيقَة مرّة، ثمَّ العودة إِلَيْهِ بالجانب الآخر بعد فَتْرَة، كل ذَلِك من خَصَائِص الأسلوب القرآني فِي مُخَاطبَة الْقلب البشري، مِمَّا لَا يبلغ إِلَيْهِ أسلوب آخر، وَلَا طَريقَة أُخْرَى )) (١) .

وَهَكَذَا.. بعد هَذَا التطواف - الَّذِي طَال قَلِيلا - مَعَ هَذِه الْآيَات الْكَرِيمَة من سُورَة الْقِيَامَة، نتبين أَن ثمَّة رابطةً قَوِيَّة تشدُّها إِلَى محور السُّورَة، وَأَن التناسب وَاضح - عِنْد إمعان النّظر، وتعميق التَّأَمُّل - بَين آياتها كلهَا، وَبَينهَا وَبَين سابقتها ولاحقتها.

ويهمُّني فِي نِهَايَة هَذَا الْعرض لأقوال الْمُفَسّرين المتعددة - وَبعد أَن رجحتُ تَوْجِيه البقاعي، ثمَّ فضلتُ عَلَيْهِ تَوْجِيه سيد قطب - أَن أُشير إِلَى مسألةٍ مهمة فِي هَذَا السِّيَاق.. وَهِي أَنه مهما اخْتلفت الآراء أَو تنوعت، حول توضيح نوع الارتباط بَين هَذِه الْآيَات المشكلة - أَو مَا يشابهها من حَيْثُ عدم ظُهُور الْمُنَاسبَة فِي بادىء النّظر -.. إِلَّا أنني ألحظ - عِنْد بذل شيءٍ من الوسع وتدقيق النّظر - توافقاً على وجهٍ مَا، وترابطاً على نحوٍ أَو آخر، وَقد يظنُّ صَاحب النظرة العجلى أَن هُنَاكَ تباعداً بَين مَوْضُوعَات الْآيَات والأحداث الَّتِي تُشِير إِلَيْهَا أَو تتناولها، إِلَّا أَن تدبُّر الْآيَات مرّة بعد مرّة، ومحاولة دراسة ظروف النَّص، وسَبْرِ أغوار

(١) فِي ظلال الْقُرْآن، ٦/٣٧٦٧

الْمَعْنى، يَنْفِي أيَّ تنافرٍ أَو تباعدٍ بَين الْآيَات، وسرعان مَا يطمئنُّ الْمَرْء إِلَى وجود صلَة، وَحُصُول علاقَة، وتوفر مُنَاسبَة، وَهَذَا مَا يوحي بِهِ قَول الباقلاني: (( .. هَذَا خروجٌ لَو كَانَ فِي غير هَذَا الْكَلَام لتُصوِّر فِي صُورَة الْمُنْقَطع.. وَقد تمثل فِي هَذَا النّظم لبراعته وَعَجِيب أمره، وموقع لَا ينفكُّ مِنْهُ القَوْل )) (١) مُشِيرا بذلك إِلَى الترابط والتلاحم الَّذِي يقوم عَلَيْهِ النّظم القرآني (٢) .

وثمَّةَ أمرٌ آخرٌ تجدر الْإِشَارَة إِلَيْهِ أَيْضا، وَهُوَ أَن ترجيحي مَا رجحت لَا يَنْفِي مَا قد يكون من صِحَة غَيره مِمَّا ذكرتُ - أَو مِمَّا لم أقع عَلَيْهِ - وَذَلِكَ أَن السُّورَة أَو الْجُمْلَة من الْقُرْآن الْمجِيد قد تحْتَمل أَكثر من وجهٍ فِي بَيَان نظامها وارتباطها، وَلَا بَأْس بِتَعَدُّد هَذِه الْوُجُوه - مَا لم تؤدِّ إِلَى تعارضٍ أَو تناكُرٍ - لِأَن الْقُرْآن مبنيٌّ على تعدُّد الدّلَالَة (٣) .. وَكَيف لَا، وَهُوَ كَلَام الله الآخر إِلَى البشرية حَتَّى قيام السَّاعَة؟ ! فَلَا تزَال دَائِرَة دلالاته تتسع وتتنوع، وَلَا يزَال مجَال الْأَخْذ مِنْهُ يتراحب، {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} (الْكَهْف / ١١٠) .

(١) إعجاز الْقُرْآن، ص ٢٠٩

(٢) انْظُر فِي ذَلِك: فِي الدراسات القرآنية …، د. السَّيِّد أَحْمد عبد الْغفار، ص ٩٣

(٣) انْظُر فِي ذَلِك: دَلَائِل النظام، ص ٧٩

ثَانِيًا: التناسب فِي السُّورَة الْوَاحِدَة:

ثمَّة أُمُور عدَّة يُنظر إِلَيْهَا عِنْد بَيَان تناسب السُّورَة الْوَاحِدَة، وَمِنْهَا: تَحْدِيد (شخصية السُّورَة) ، وتحديد (عمودها) الَّذِي تقوم عَلَيْهِ، وإبراز مقاصدها الْكُلية، ومناسبة فَاتِحَة السُّورَة لخاتمتها، ومناسبة اسْمهَا لموضوعها الرئيس.

وسوف أحاول أَن أنظر فِي هَذِه الْمسَائِل على ضوء مثالٍ تطبيقي.. وَليكن

الْمِثَال هُوَ سُورَة الْأَعْرَاف.. وهى من الطوَال (٢٠٦ آيَة) ، وَقد تشابكت فِيهَا الموضوعات والقصص، بِمَا يصلح لكَونهَا أنموذجاً لتطبيق مَا أرَاهُ من التناسب فِي سور الْقُرْآن الْكَرِيم..

(١) سُورَة الْأَعْرَاف: لَيْسَ أفضل من سيد قطب.. ليحدد ملامح سور الْقُرْآن، وليرسم - بقلمه الصَّنَاع، وحسِّه المرهف - ملامحها الْخَاصَّة! وَهُوَ يحدد ملامح سُورَة الْأَعْرَاف فِي كَونهَا تقصُّ تَارِيخ رحْلَة موكب الْإِيمَان يحمل العقيدة.. فَهِيَ تعالج مَوْضُوع العقيدة فِي المجال التاريخي الحركي، بَيْنَمَا عَالَجت سُورَة الْأَنْعَام - السَّابِقَة لَهَا مُبَاشرَة - ذَات الْمَوْضُوع، وَلَكِن فِي المجال التنظيري التقريري.. يَقُول سيد قطب - رَحمَه الله - عَن سُورَة الْأَعْرَاف: (( .. إِنَّهَا تعرضه (مَوْضُوع العقيدة) فِي مجَال التَّارِيخ البشري.. فِي مجَال رحْلَة البشرية كلهَا، مبتدئة بِالْجنَّةِ وَالْمَلَأ الْأَعْلَى، وعائدة إِلَى النقطة الَّتِي انْطَلَقت مِنْهَا. وَفِي هَذَا المدى المتطاول تعرض (موكب الْإِيمَان) من لدن آدم - عَلَيْهِ السَّلَام - إِلَى مُحَمَّد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -.. تعرض هَذَا الموكب الْكَرِيم، يحمل هَذِه العقيدة، ويمضي بهَا على مدَار التَّارِيخ، يواجه بهَا البشرية جيلاً بعد جيل، وقبيلاً بعد قبيل، ويرسم سِيَاق السُّورَة فِي تتابعه كَيفَ اسْتقْبلت البشرية هَذَا الموكب وَمَا مَعَه من الْهدى؛ كَيفَ خاطبها هَذَا الموكب؟ وَكَيف جاوبته؟ وَكَيف وقف الْمَلأ مِنْهَا لهَذَا الموكب بالمرصاد؟ وَكَيف تخطى هَذَا الموكب أرصادها وَمضى فِي طَرِيقه إِلَى الله؟ وَكَيف كَانَت عَاقِبَة المكذبين وعاقبة الْمُؤمنِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة؟..

إِنَّهَا رحْلَة طَوِيلَة.. طَوِيلَة. وَلَكِن السُّورَة تقطعها مرحلةً مرحلةً، وتقف مِنْهَا عِنْد مُعظم المعالم البارزة، فِي الطَّرِيق المرسوم.. ملامحه وَاضِحَة، ومعالمه قَائِمَة، ومبدؤه مَعْلُوم، ونهايته مرسومة.. والبشرية تخطو فِيهِ بمجموعها الحاشدة، ثمَّ

تقطعه رَاجِعَة إِلَى حَيْثُ بدأت رحلتها فِي الْمَلأ الْأَعْلَى )) (١) .

ثمَّ يَقُول - رَحمَه الله - بعد تَفْصِيل ماتع، سرده بأسلوبه الأدبى الرفيع: (( إِنَّهَا قصَّة البشرية بجملتها، فِي رحلتها.. ذَهَابًا وإياباً تتمثل فِيهَا حَرَكَة هَذِه العقيدة فِي تَارِيخ البشرية ونتائج هَذِه الْحَرَكَة فِي مداها المتطاول.. حَتَّى تَنْتَهِي إِلَى غايتها الْأَخِيرَة فِي نقطة المنطلق الأولى.. )) .

وتلتقي سورتا الْأَنْعَام والأعراف - كَمَا سبقت الْإِشَارَة - على غَرَض (عرض العقيدة) .. وَلَكِن تبقى لكلٍّ مِنْهُمَا شخصيتها فِي تنَاوله.. وَكَذَلِكَ تبقى لكلٍّ مِنْهُمَا شخصيتها الفنية، من حَيْثُ الْأَدَاء التعبيري والأسلوب ...

(( فالتعبير فِي كل سُورَة يُنَاسب منهجها فِي عرض الْمَوْضُوع. فَبَيْنَمَا يمْضِي السِّيَاق فِي الْأَنْعَام فِي موجات متدافعة، وبينما تبلغ الْمشَاهد دَائِما دَرَجَة اللألاء والتوهُّج والالتماع، وتبلغ الإيقاعات دَرَجَة الرنين والسرعة القاصفة والاندفاع.. إِذا السِّيَاق فِي الْأَعْرَاف يمْضِي هادئ الخطو، سهلَ الْإِيقَاع، تقريريَّ الأسلوب، وكأنما هُوَ الْوَصْف المصاحب للقافلة فِي سَيرهَا المديد.. خطْوَة خطْوَة، ومرحلة مرحلة.. حَتَّى تؤوب وَقد يشْتَد الْإِيقَاع أَحْيَانًا فِي مَوَاقِف التعقيب، وَلكنه سرعَان مَا يعود إِلَى الخطوة الوئيد الرتيب { ... وهما، بعدُ، سورتان مكيتان من الْقُرْآن} )) (٢) .

(٢) عَمُود السُّورَة: وَهَذَا، كَمَا تقدم، من مصطلحات الشَّيْخ الفراهي - رَحمَه الله -.. وَهُوَ يقْصد بِهِ العنوان الرئيس للسورة، الَّذِي تُؤدِّي مَعْرفَته إِلَى ردِّ جَمِيع مَقَاصِد السُّورَة وموضوعاتها إِلَيْهِ - كَمَا سبق تَفْصِيله فِي المبحث الثَّالِث -

(١) فِي ظلال الْقُرْآن، ٣/١٢٤٤

(٢) السَّابِق، ٣/١٢٤٥

. وَقد ذكر الشَّيْخ الفراهي أَن عَمُود سُورَة الْأَعْرَاف هُوَ إنذار أهل الْقرى، وتوعُّدهم بالهزيمة، وَتَقْرِير غَلَبَة الْحق.. (١) .

وَهَذَا حقٌّ، وَيدل عَلَيْهِ مَا سبق من كلامٍ فِي (ملامح السُّورَة) الَّتِي هِيَ (( قصُّ رحْلَة موكب الْإِيمَان حَامِلا العقيدة )) ، وَالَّتِي تُستنبط من نتائج هَذِه الْقَصَص الْمَذْكُورَة فِيهَا، من نصر الله أنبياءه وَرُسُله،، ودوران الدائرة على أعدائهم.. بداية من لعن الشَّيْطَان الرَّجِيم وتحقير شَأْنه، وَحَتَّى تَمْكِين الْمُسْتَضْعَفِينَ من بني إِسْرَائِيل فِي الأَرْض بعد دمار فِرْعَوْن وَجُنُوده.. فَهَذِهِ النهايات كلهَا تذكير لـ (أهل الْقرى) من مُشْركي مَكَّة، وَمن كل الطغاة من بعدهمْ بِأَن نور الله غَالب، وَأَن كَلمته هِيَ الْبَاقِيَة، وَأَن جنده هم المنصورون.

(٣) مَقَاصِد السُّورَة: بِالْإِضَافَة إِلَى الْمَقْصد الرئيس السَّابِق، والمعبَّر عَنهُ بـ (عَمُود السُّورَة) ، وَالَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ أَيْضا البقاعي بقوله: (( .. ومقصودها إنذار من أعرض عَمَّا دَعَا إِلَيْهِ الكتابُ فِي السُّور الْمَاضِيَة، من التَّوْحِيد والاجتماع على الْخَيْر، وَالْوَفَاء لما قَامَ على وُجُوبه من الدَّلِيل فِي الْأَنْعَام، وتحذيره بقوارع الدَّاريْنِ )) (٢) .. بِالْإِضَافَة إِلَى هَذَا؛ ثمَّة مَقَاصِد أُخْرَى تنطوي فِي هَذَا الْمَقْصد الْأَعَمّ.. وَقد أحسن عرض هَذِه الْمَقَاصِد الشَّيْخ الطَّاهِر بن عاشور - رَحمَه الله -.. وَعنهُ نذكرها - ملخَّصةً ومنسقةً - (٣) ..

١ - تَقْرِير التَّوْحِيد، وَالنَّهْي عَن اتِّخَاذ الشُّرَكَاء من دون الله، وإنذار الْمُشْركين.

(١) دَلَائِل النظام، ص ٩٤

(٢) مصاعد النّظر، ٢/١٣٠

(٣) انظرها مفصلة فِي: التَّحْرِير والتنوير، ٨/٨، ٩

٢ - التَّذْكِير بِمَا أودع الله فِي فطْرَة الْإِنْسَان من وَقت تكوين أَصله من الْقبُول بِالْإِيمَان، وتحذير النَّاس من التلبُّس ببقايا مكر الشَّيْطَان الَّذِي أغوى بِهِ أبويهما الْأَوَّلين، وَالدّلَالَة على طَرِيق النجَاة من تلبيسه ووسوسته.

٣ - التَّذْكِير بِالْبَعْثِ وتقريب دَلِيله، وَوصف أهوال يَوْم الْجَزَاء، وأحوال أَهله من الْمُجْرمين والمتقين..

٤ - تذكير النَّاس بِنِعْمَة خلق الأَرْض، وتمكين النَّوْع الإنساني من خيراتها، وَالنَّهْي عَن الْفساد فِيهَا، والدعوة إِلَى إصلاحها وإعمارها لصالح الإنسانية.

٥ - الْإِفَاضَة فِي قصِّ أَخْبَار الرُّسُل مَعَ أقوامهم، وَمَا لاقوه من عنادهم وأذاهم، ثمَّ مَا آل إِلَيْهِ أُولَئِكَ المكذِّبون من سوء الْمصير فِي الدُّنْيَا قبل الْآخِرَة.. وَحسن التَّخَلُّص من هَذَا إِلَى ذكر الْبشَارَة بِنَبِي الرَّحْمَة صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَصفَة أمته، وَفضل دينه الْخَاتم.

هَذِه رُؤُوس الْمَقَاصِد الفرعية، المنطوية فِي (عَمُود السُّورَة) الرئيس.. وغنىٌّ عَن الذّكر أَن نشِير إِلَى أَن الحَدِيث عَن هَذِه الْمَقَاصِد جَاءَ موزعاً على آيَات السُّور، من أَولهَا إِلَى آخرهَا، بِحَيْثُ ترتبط بدايتها بنهايتها فِي وشيجة وَاحِدَة، وقالب خَاص.. وبإعجاز باهر.. بِحَيْثُ لَو تكلّف متكلف أَن يعبر عَن هَذِه الموضوعات المتواشجة المترابطة بأضعاف كلماتها الَّتِي سيقت بهَا فِي هَذِه السُّورَة الْعَظِيمَة - لم يسْتَوْف عُشْرَ معشار مَا استوفته.. ثمَّ إِنَّك تَجِد فِيمَا قد يتكلفه معَارض الْقُرْآن الْمجِيد (( ثِقَل النّظم، ونفور الطَّبْع، وشِرَاد الْكَلَام، وتهافت القَوْل، وتمنُّع جَانِبه، والقصور عَن الْإِيضَاح عَن واجبه. ثمَّ إِنَّك لَا تقدر على أَن تنْتَقل من قصَّة إِلَى قصَّة، وَفصل إِلَى فصل، حَتَّى تتبين لَك مَوَاضِع الْوَصْل، وتستصعب عَلَيْك أَمَاكِن الْفَصْل. ثمَّ لَا يمكنك أَن تصل بالقصص مواعظَ زاجرة، وأمثالاً

سائرة، وَحكما جليلة، وأدلةً على التَّوْحِيد بيِّنة، وكلمات فِي التنْزيه والتحميد شريفة. (…) وَلَو لم يكن إِلَّا حديثٌ وَاحِد على هَذَا النمط الباهر لكفى، وأقنع وشفى {وَلَو لم تكن إِلَّا سورةٌ وَاحِدَة لكفت فِي الإعجاز.. فَكيف بِالْقُرْآنِ الْعَظِيم؟} )) (١) ..

(٤) مُنَاسبَة فَاتِحَة السُّورَة لخاتمتها: وَرَغمَ أَن هَذَا يظْهر من خلال عرض مَقَاصِد السُّورَة، الَّتِي تردُّ الآخر إِلَى الأول، وتمهد بِالْفَاتِحَةِ للخاتمة.. إِلَّا أنَّا نخصه بِالذكر لزِيَادَة الْبَيَان على هَذَا الاتساق والترابط فِي بُنيان السُّورَة الْوَاحِدَة.

فقد قصَّت السُّورَة الْكَرِيمَة فِي أوائلها كَيفَ نجح الشَّيْطَان فِي إِخْرَاج آدم من الْجنَّة، وبينت أَن محاولاته لتضليل بنيه لن تَنْتَهِي.. وَفِي أثْنَاء السُّورَة تناولت - عبر قصَص أَنْبيَاء الله نوح وَهود وَصَالح وَلُوط وَشُعَيْب ومُوسَى، مَعَ أقوامهم - كَيفَ نجح اللعين مرّة أُخْرَى فِي إغواء من أغوى عبر تَارِيخ الإنسانية، وَلكنهَا عَادَتْ فِي الْأَخير لتذكر بِأَن الشَّيْطَان، مهما بلغ، لَا يملك أَكثر من الوسوسة.. فكيده، مهما عظم، ضَعِيف.. ومكره، مهما استخفى، لَا يَحِيق إِلَّا بِهِ وبأوليائه.. وَمَا دَامَ الْإِنْسَان معتصماً بِاللَّه السَّمِيع الْعَلِيم، فستنهزم عَنهُ وساوس اللعين وترتد مدحورةً: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (الْآيَة ٢٠١) .. وَخير مَا يعْصم الْمَرْء تشبثُه بِذكر الله تَعَالَى؛ فَإِن هَذَا الذّكر هُوَ الَّذِي يعصمه من الزلل، ويستبقيه فِي مستوى الْإِيمَان الرفيع. وَخير الذّكر هُوَ الْقُرْآن الْمجِيد، الَّذِي افتتحت السُّورَة بتقرير حقيته: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (الْآيَة ٢) ، واختتمت بتعظيم شَأْنه: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الْآيَة ٢٠٤) .. وَبِهَذَا الذّكر يَنْتَظِم

(١) مُسْتَفَاد من: إعجاز الْقُرْآن، الباقلاني، ص ٢٩٦، ٢٩٧ (بِتَصَرُّف) .

الْمُؤمن العابد مَعَ الْكَوْن كُله فِي أنشودة حمد الله وتعظيمه: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} (الْآيَة ٢٠٦) (١) ..

أَرَأَيْت، إِذن، إِلَى هَذِه الْمُنَاسبَة التَّامَّة، والرابطة الْوَثِيقَة، والوشيجة المتينة، بَين فَاتِحَة السُّورَة وخاتمتها - وَمَا بَينهمَا؟

أَلا تبدو لَك السُّورَة - على طولهَا - وَكَأَنَّهَا - بِالْفِعْلِ - وحدة وَاحِدَة؟

فعزَّ من هَذَا كَلَامه، وَسُبْحَان مَنْ هَذَا بيانُه

(٥) مُنَاسبَة اسْم السُّورَة لمقاصدها وعمودها: وَهَذَا أَمر دَقِيق جدا؛ إِذْ إِنَّه يجمع (عَصَب) السُّورَة كلَّه فِي اسْمهَا، فَكَأَن هَذَا الِاسْم (شفرة) لبنيانها كلِّه .. فلنحاول.. وَالله الْمُوفق!

لم يخْتَلف المفسِّرون فِي تَسْمِيَة هَذِه السُّورَة بـ (الْأَعْرَاف) ، وَلم يذكرُوا لَهَا اسْما آخر - كَمَا هُوَ حَال كثير من السُّور الْأُخْرَى -..

وَقد جَاءَ ذكر (الْأَعْرَاف) فِي قَوْله - تَعَالَى - فِي سِيَاق الحَدِيث عَن أهل الْجنَّة وَأهل النَّار، بعد اسْتِقْرَار كلٍّ فِي محلِّه: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلّاً بِسِيمَاهُمْ} (الْآيَة ٤٦) ، ثمَّ: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} (الْآيَة ٤٨)

وثمة أَقْوَال كَثِيرَة متضاربة فِي تَحْدِيد المُرَاد من الْأَعْرَاف، ثمَّ تَحْدِيد أَهله (٢) .

(١) أصل هَذَا الْوَجْه من الرَّبْط بَين الخاتمة والبداية مُسْتَفَاد من الشَّيْخ مُحَمَّد الْغَزالِيّ - رَحمَه الله - فِي: نَحْو تَفْسِير موضوعي …، ص ١٢٥.

(٢) الْعرف: مَا ارْتَفع من الشَّيْء، أَي أَنه أَعلَى مَوضِع فِيهِ؛ لِأَنَّهُ أشرف وَأعرف مِمَّا انخفض مِنْهُ. وَهُوَ مستعار من عرف الديك وَالدَّابَّة. وَانْظُر فِي تَفْصِيل الْأَقْوَال فِيهِ: روح الْمعَانِي، ٨/١٢٣، ١٢٤. وَقد سبق أَن تعرضنا لتفصيل القَوْل فِي ذَلِك فِي كتابتي (الصراع بَين الْحق وَالْبَاطِل كَمَا جَاءَ فِي سُورَة الْأَعْرَاف) ، مطبوعات مكتبة الْملك عبد الْعَزِيز الْعَامَّة بالرياض، ط١/ ١٤١٦هـ، ص ٢٨: ٣٠

وجرياً على طَريقَة الشَّيْخ الفراهي، وَالَّتِي دَعَا فِيهَا إِلَى عدم الِاسْتِغْرَاق فِي خضم هَذِه الْأَقْوَال المتعارضة - لَا سِيمَا وَأَنه لَا حَدِيث مَرْفُوعا صَحِيحا يحدِّد الدّلَالَة النهائية المتعينة مِنْهَا -، وَذَلِكَ حَتَّى لَا تفلت منا الحكمةُ المستكنَّة فِي آيَات الله، وَالَّتِي هِيَ - وَحدهَا، لَا تأويلات النَّاس واحتمالاتهم! - الْهدى والنور.

نقُول: جَريا على هَذِه الطَّرِيقَة الحميدة المرضية، نَخْتَار من هَذِه الْأَقْوَال المتكاثرة قولا وَاحِدًا، ونُجرى عَلَيْهِ الْمُنَاسبَة الْمَطْلُوبَة هُنَا..

فَنحْن نرى - مَعَ الْأُسْتَاذ الشَّيْخ مُحَمَّد الْغَزالِيّ، رَحمَه الله - أَن أَصْحَاب الْأَعْرَاف هم الدعاة وَالشُّهَدَاء الَّذين بلَّغوا رسالات الْأَنْبِيَاء وقادوا الْأُمَم إِلَى الْخَيْر (١) .. وَإِلَيْك نصَّ كَلَامه فِي هَذَا.. قَالَ - رَحمَه الله:

(( .. واختصت هَذِه السُّورَة بِذكر أَصْحَاب الْأَعْرَاف، وَمِنْهُم أَخذ اسْمهَا.

والشائع بَين المفسِّرين أَن هَؤُلَاءِ قوم اسْتَوَت حسناتهم وسيئاتهم، فانتظروا حَتَّى يُبتَّ فِي أَمرهم.

وَأرى أَن أَصْحَاب الْأَعْرَاف هم الدعاة وَالشُّهَدَاء الَّذين بلَّغوا رسالات الْأَنْبِيَاء وقادوا الْأُمَم إِلَى الْخَيْر، فَإِن الْأَعْرَاف هِيَ القمم الرفيعة، وَمِنْهَا سُمي

(١) ذكر هَذَا القَوْل - ضمن أقوالٍ أُخْرَى - الألوسي، وَقَالَ (٨/١٢٤) : (( .. وَمن النَّاس من استظهر القَوْل بِأَن أَصْحَاب الْأَعْرَاف قومٌ علت درجاتهم؛ لِأَن المقالات الْآتِيَة (الْوَارِدَة فِي سِيَاق السُّورَة) وَمَا تتفرع عَلَيْهَا لَا تلِيق بغيرهم )) .. وَهُوَ مَا رجَّحه الرَّازِيّ بقوله (١٤/٩٠) : (( وَتَحْقِيق الْكَلَام أَن أَصْحَاب الْأَعْرَاف هم أَشْرَاف أهل الْقِيَامَة )) .

عُرفُ الديك عُرفاً..

وهم فِي الْآخِرَة يرقبون الجماهير والرؤساء فِي ساحة الْحساب، ويلقون بالتحية أهل الْجنَّة، وبالشماتة أهل النَّار.

وَحَدِيث الْقُرْآن عَنْهُم يرجح هَذَا الْفَهم. فهم يَتَكَلَّمُونَ بِثِقَة، ويوبِّخون المذنبين على مَا اقترفوا، ويستعينون بِاللَّه من مصيرهم. وَمن المستبعد أَن يكون ذَلِك موقف قومٍ اسْتَوَت حسناتهم وسيئاتهم.. لَا يَدْرُونَ أَيْن يُذهب بهم! )) (١) .

وَهُوَ رأيٌ سديد.. وَقد أَشَارَ البقاعي إِلَى نحوٍ مِنْهُ فِي قَوْله:

(( .. ومقصودها: إنذار من أعرض عَمَّا دَعَا إِلَيْهِ الكتابُ فِي السُّورَة الْمَاضِيَة (…) ، وأدلُّ مَا فِيهَا على هَذَا الْمَقْصد أمرُ الْأَعْرَاف، فَإِن اعْتِقَاده يتَضَمَّن الإشراف على الْجنَّة وَالنَّار، وَالْوُقُوف على حَقِيقَة مَا فِيهَا، وَمَا أعد لأَهْلهَا، الداعى - أَي هَذَا الإشراف والاطلاع - إِلَى امْتِثَال كل خير وَاجْتنَاب كل شَرّ، والاتعاظ بِكُل مرقِّق )) (٢) .

وعَلى هَذَا تتضح الْمُنَاسبَة التَّامَّة بَين السُّورَة وشخصيتها وعمودها، ومقاصدها الْكُلية. فَتكون الْإِشَارَة إِلَى (أهل الْأَعْرَاف) ومكانتهم فِي الْآخِرَة، إلماحاً إِلَى (أهل الشَّهَادَة) ووظيفتهم فِي الدُّنْيَا.. وهم الْأمة الخاتمة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ..} (الْبَقَرَة/١٤٣) .. وَتَأْتِي الْإِشَارَة إِلَى هَذِه الشَّهَادَة - الملحوظة فِي (أهل الْأَعْرَاف) - فِي قَوْله - تَعَالَى - فِي هَذِه السُّورَة: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ

(١) نَحْو تَفْسِير موضوعى..، ص ١١١، ١١٢

(٢) مصاعد النّظر، ٢/١٣٠، ١٣١، وَكَذَلِكَ: نظم الدُّرَر، ٧/٣٤٧

تَهْتَدُونَ (الْآيَة ١٥٨) ، وَقد قَالَ قبلهَا مُبَاشرَة: {.. فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الْآيَة ١٥٧) .. فهم أَصْحَاب الرسَالَة الْأَخِيرَة، الشاملة، الَّتِي لَا تخْتَص بِزَمَان وَلَا بمَكَان..

وَمن أجل أَن تكون شَهَادَة حَملَة هَذِه الرسَالَة حَقِيقَة بِالِاعْتِبَارِ؛ قصَّ الْحق - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - عَلَيْهِم فِي هَذِه السُّورَة الْعَظِيمَة قصَّة (موكب الْإِيمَان) عبر تَارِيخ الإنسانية - من لدن آدم، وَحَتَّى بنى إِسْرَائِيل.. آخر من حُمِّلوا أَمَانَة الْإِيمَان قبلهم، وَلَا سِيمَا قصَّة أَصْحَاب السبت بَالِغَة الدّلَالَة فِي سِيَاق وَظِيفَة (الشَّهَادَة) ومقتضياتها -.. وَذَلِكَ حَتَّى تكون التجربة التاريخية الحقةُ حَاضِرَة أمامهم، ليستدلوا بهَا فِي هم الْأمة الخاتمة حركتهم، ويتأسَّوا بهَا فِي طريقهم، ولتكون حجَّة لَهُم فِي شَهَادَتهم على الْعَالمين.. أَلَيْسُوا الشاهدة؟ {.. أَلَيْسُوا هم (أهل الْأَعْرَاف) فِي الْآخِرَة؟}

ثَالِثا: التناسب فِيمَا بَين السُّور:

النظرُ فِي هَذَا اللَّوْن من التناسب يتَّجه أساساً إِلَى أَمريْن رئيسين: الْمُنَاسبَة اللفظية (وتلحق بهَا مُنَاسبَة الفواتح والخواتم) ، والمناسبة الموضوعية..

فلننظر فِي ثَلَاث سور من الْقُرْآن الْمجِيد - على سَبِيل التَّمْثِيل -، هِيَ: الْمَائِدَة، والأنعام، والأعراف.. وأولاها مَدَنِيَّة، والآخريان مكيتان - لنرى كَيفَ تنتظم فِي عقد النّظم القرآني المتلاحم، الْمُتَّصِل لاحقُه بسابقه.

ولنبدأ بمقصود كلٍّ مِنْهَا، وارتباطه بمقصود سواهَا..

فمقصود سُورَة الْمَائِدَة هُوَ الْوَفَاء بِمَا هدى إِلَيْهِ الْكتاب الْحَكِيم، وَمَا دلَّ عَلَيْهِ مِيثَاق الْعقل من تَوْحِيد الْخَالِق، وَرَحْمَة الْخَلَائق، شكرا للنعمة، واستدفاعاً للنقمة.. وقصة (الْمَائِدَة) أدلُّ مَا فِيهَا على ذَلِك؛ فَإِن مضمونها أَن من زاغ عَن

الطُّمَأْنِينَة، وراغ عَن الثَّبَات والسكينة - بعد الْكَشْف الشافي، والإنعام الوافي - نُوقِشَ الْحساب، فَأَخذه الْعَذَاب (١) ..

وتتخذ السُّورَة الْكَرِيمَة إِلَى ذَلِك طَرِيق بِنَاء التَّصَوُّر الاعتقادي الصَّحِيح، وَبَيَان الانحرافات الَّتِي تتلبَّس بِهِ عِنْد أهل الْكتاب وَأهل الْجَاهِلِيَّة جَمِيعًا، وَبَيَان معنى (الدّين) ، وَأَنه الِاعْتِقَاد الصَّحِيح مرتبطاً بالتلقي عَن الله وَحده فِي التَّحْرِيم والتحليل، وَالْحكم وَالْقَضَاء.. ثمَّ أخيراً: توضيح شَأْن هَذِه الْأمة الْمسلمَة، وَبَيَان دورها الْحَقِيقِيّ فِي هَذِه الأَرْض، وكشف أعدائها المتربصين بهَا (٢) ..

وَهَذَا كلُّه يَقْتَضِي من أهل هَذِه الرسَالَة الخاتمة - الَّتِي رَضِي الله لَهُم الْإِسْلَام دينا، وأكمل لَهُم دينهم، وأتمَّ عَلَيْهِم نعْمَته - الْوَفَاء بِعَهْد الله وميثاقه الَّذِي واثقهم بِهِ: ليقومُنَّ بَين النَّاس بِالْعَدْلِ، وليشهدُنَّ عَلَيْهِم بِالْقِسْطِ، وليقيُمُنَّ فيهم حكم الله كَمَا أَرَادَ.. وَيُشِير إِلَى ذَلِك أوضح إِشَارَة تَسْمِيَتهَا بِسُورَة (الْعُقُود) .

ومقصود سُورَة الْأَنْعَام هُوَ الِاسْتِدْلَال على مَا دَعَا إِلَيْهِ الْكتاب الْكَرِيم فِيمَا سبق من سور؛ بِأَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - الْمُسْتَحق لجَمِيع الكمالات، والمتصرف بِالْقُدْرَةِ الباهرة على الإيجاد والإعدام (٣) .. فعمود السُّورَة هُوَ مَوْضُوع العقيدة.. بِكُل مكوِّناتها ومقوِّماتها (٤) .. وأنسب الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة فِيهَا لهَذَا الْمَقْصد هُوَ الْأَنْعَام - وَهُوَ مايربطها بالمائدة أعظم ربط؛ إِذْ ذكر فِيهَا السوائبُ وَغَيرهَا مِمَّا كَانَ يدين بِهِ أهل الْجَاهِلِيَّة (٥) -؛ لِأَن الْإِذْن فِيهَا مسبب عَمَّا ثَبت لَهُ - سُبْحَانَهُ -

(١) انْظُر: مصاعد النّظر، ٢/١٠٦

(٢) انْظُر: فِي ظلال الْقُرْآن، ٢/٨٢٩

(٣) مصاعد النّظر، ٢/١١٨

(٤) رَاجع: فِي ظلال الْقُرْآن، تَقْدِيم سُورَة الْأَنْعَام كُله.

(٥) انْظُر: نظم الدُّرَر، ٧/٢٤٠، ٢٤١

من الفَلْق، والتفرد بالخلق، لِأَنَّهُ المتوحد بالألوهية، والمتصرِّف بِالنَّهْي وَالْأَمر.. سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (١) . وَهُوَ مَا يربطها، أَيْضا بالمائدة، الَّتِي ذكر فِيهَا أَمر حاكميته الله تَعَالَى وَحده، والتحذير من التغافل عَمَّا أنزل من الْأَحْكَام.

وَأما سُورَة الْأَعْرَاف، فقد سبق قَرِيبا أَنَّهَا تلتقي مَعَ (الْأَنْعَام) فِي الْغَرَض الرئيس الْعَام، وَهُوَ عرض العقيدة.. وَلَكِن تتَمَيَّز بشخصيتها المستقلة فِي الْأَدَاء وَالتَّعْبِير، والقضايا المتنوعة الَّتِي تصبُّ فِي ذَات الْغَرَض.

هَذِه هى الرُّؤْيَة الْعَامَّة الَّتِي توضح ارتباط السُّور الثَّلَاث، على رغم اخْتِلَاف هُويتها بَين المكية والمدنية، وَأَيْضًا على رغم تنوع مَوْضُوعَات كلٍّ مِنْهَا..

والآن.. لنَنْظُر فِي شَيْء من التفاصيل حول ذَلِك.. وَالَّتِي ذكرهَا الشَّيْخ الغُماري فِي كِتَابه (جَوَاهِر الْبَيَان) .. قَالَ - رَحمَه الله:

(( ٥ - سُورَة الْمَائِدَة: قَالَ الصاوي فِي حَاشِيَته على تَفْسِير الجلالين: وَجه الْمُنَاسبَة بَينهَا وَبَين مَا قبلهَا أَنه حَيْثُ وعدنا الله بِالْبَيَانِ كراهةَ وقوعنا فِي الضلال (آخر آيَة من النِّسَاء) ، تمَّم ذَلِك الْوَعْد بِذكر هَذِه السُّورَة، فَإِن فِيهَا أحكاماً لم تكن فِي غَيرهَا. قَالَ الْبَغَوِيّ: عَن ميسرَة قَالَ: إِن الله تَعَالَى أنزل فِي هَذِه السُّورَة ثَمَانِيَة عشر حكما لم تنزل فِي غَيرهَا من الْقُرْآن.. (…)

٦ - سُورَة الْأَنْعَام: ختمت السُّورَة السَّابِقَة بقوله تَعَالَى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ؛ فَنَاسَبَ أَن يُبيِّن سَبَب تِلْكَ الملكية ومنشأها، فَافْتتحَ هُنَا بجملة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورََ} . فسبب ملكية الله للسماوات وَالْأَرْض أَنه خالقهما وَمَا فيهمَا،

(١) انْظُر: مصاعد النّظر، ٢/١١٨

وَتلك ملكية حَقِيقِيَّة، لَا كملكية النَّاس لما يملكونه بشرَاء أَو هبة أَو تَوْرِيث، فَإِنَّهَا ملكية مجازية، والحقيقة فِيهَا لله تَعَالَى (…) وَفِي قَوْله - تَعَالَى - فِيهَا: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} إِشَارَة إِلَى أهل الْكتاب الَّذين ألَّهوا عِيسَى أَو عُزَيراً، وهم المذكورون فِي سُورَة الْمَائِدَة.

وَقَالَ بعض الْعلمَاء: افْتِتَاح الْأَنْعَام بِالْحَمْد مُنَاسِب لختم الْمَائِدَة بفصل الْقَضَاء، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الزمر/٧٥) . وَكَذَلِكَ؛ فَإِن الْمَائِدَة اشْتَمَلت على أَحْكَام لم تذكر فِي غَيرهَا، وَكَذَلِكَ الْأَنْعَام. (…)

٧ - سُورَة الْأَعْرَاف: نوَّه الله بِالْقُرْآنِ فِي أَوَاخِر السُّورَة السَّابِقَة بقوله تَعَالَى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} :.. إِلَى أَن توعد المكذبين بِهِ والمعرضين عَنهُ: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا …} ?؛ فَافْتتحَ هَذِه السُّورَة بنهي نبيه أَن يكون فِي صَدره ضيقٌ مِنْهُ، بِسَبَب تَكْذِيب قومه بِهِ، وصُدوفهم عَنهُ: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} … )) (١) .

. . وَبِهَذَا ظهر ارتباط السُّور الثَّلَاث، والتحام مَعَانِيهَا..

وَلَا ريب أَن إِعَادَة النّظر فِي الْقِرَاءَة المتأنية لَهَا - ولسائر سور الْقُرْآن الْمجِيد - تفتح على المتأمل أبواباً لَا حصر لَهَا وَلَا نِهَايَة من التناسب والترابط المُحكَم، الَّذِي يظْهر وَحْدة الْقُرْآن الْكَرِيم الْكُلية، بِاعْتِبَارِهِ الكلمةَ الإلهيةَ الأخيرةَ للثقلين، إِلَى قيام السَّاعَة، وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين.

(١) انْظُر: جَوَاهِر الْبَيَان..، ص ٢٩: ٣ (بِتَصَرُّف واختصار) .

الخاتمة

الْحَمد لله الَّذِي بنعمه تتمّ الصَّالِحَات، وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيد الكائنات، سيدنَا محمدٍ.. وعَلى آله وَأَصْحَابه السَّابِقين إِلَى الْخيرَات.. وَبعد:

فها أَنا قد وصلتُ - بعد هَذَا التطواف بجوانب مَوْضُوع علم الْمُنَاسبَة - إِلَى الخاتمة.. وَيُمكن أَن أوجز هُنَا أهم نقاط الدراسة وَالَّتِي جَاءَت كالتالي:

(١) ربطتُ فِي دراستي هَذِه مَا بَين علم الْمُنَاسبَة (وموضوع التناسب والترابط عُمُوما) وَبَين مَا شاع فِي الْأَعْصَار الْأَخِيرَة من لونٍ تفسيرىٍّ مُهِمّ هُوَ (التَّفْسِير الموضوعى) ، وأوضحتُ مدى أهمية الْمُنَاسبَة كطريقٍ إِلَى التَّفْسِير الموضوعي الْأَكْمَل.

(٢) بينَّت أهمية النّظر إِلَى الْقُرْآن الْمجِيد كوحدة وَاحِدَة، حَتَّى تتمّ الْهِدَايَة الْمَطْلُوبَة مِنْهُ.

(٣) أوضحتُ مدى أهمية هَذِه النظرة الوحدوية إِلَى الْقُرْآن وأثرها فِي وحدة صف الْمُسلمين، ودورها فِي نزع الشقاق والنّزاع من بَينهم، حَتَّى لَا يَكُونُوا كأولئك الَّذين ذمَّهم الله باتخاذهم القرآنَ عِضينَ (أَي أجزاءَ مُتَفَرِّقَة) .

(٤) رددتُ على من رأى أَلا أهمية لمثل هَذَا اللَّوْن من التَّفْسِير، بزعم مَا يُخشى من التكُّلف فِي محاولة تطبيقه.

(٥) وحذَّرتُ كَذَلِك من الْخَوْض فِيهِ قبل استكمال عُدَّته اللَّازِمَة، من التضلُّع بعلوم الْكتاب المتنوعة، ودقَّة النّظر، واتساع الرُّؤْيَة.. حَتَّى لَا يكون التَّقْصِير فِي تطبيقه مدعاةً إِلَى التقليل من شَأْن الْعلم ذَاته.

(٦) ركزتُ على عددٍ من أبرز من اهتموا بالْكلَام فِي الْمُنَاسبَة (تنظيراً أَو

تطبيقاً) ، لَا سِيمَا الشَّيْخ الْهِنْدِيّ الْعَلامَة الْمُفَسّر عبد الحميد الفراهي، الَّذِي أوضحتُ أهميته الْبَالِغَة فِي هَذَا السِّيَاق، ومدى أَصَالَة أفكاره وجِدَّة تنظيره فِيهِ.. وَتَأْتِي أهمية ذَلِك فِي ظلّ عدم الاهتمام الْكَافِي - أَو عدم الاهتمام مُطلقًا - بِهَذَا الشَّيْخ الْجَلِيل، فِي ظلِّ عدم التواصل العلمي الجاد بَين أهل الْعلم فِي الْعَالم كُله، فِي الْوَقْت الَّذِي صَار فِيهِ الْعَالم وَكَأَنَّهُ قريةٌ وَاحِدَة! ..

(٧) كَمَا أنني اعتنيتُ بإبراز سبق الشَّيْخ الإِمَام برهَان الدّين البقاعي إِلَى التطبيق الموسَّع لهَذَا الْعلم، بِمَا يَجعله - بحقٍّ - فَارس هَذَا الميدان الأول، بِمَا كتبه فِي كِتَابه الْعَظِيم (نظم الدُّرَر) ، وَغَيره.. وَمِمَّا يتَّصل بِهَذَا الْإِشَارَة إِلَى ضَرُورَة إِعَادَة النّظر فِي هَذِه الموسوعة القرآنية الفريدة فِي بَابهَا.. مِمَّا يتطلب تَوْجِيه الاهتمام إِلَيْهَا، بتحقيقها تَحْقِيقا علمياً متقناً، وَكَذَلِكَ بمحاولة إِخْرَاج طبعه مهذبة مصفاة، تكون أقرب إِلَى فهم عَامَّة المثقفين، الْأَمر الَّذِي يعظِّم من الاستفادة من هَذَا السِّفْر الْجَلِيل.

(٨) ودعوتُ فِي هَذَا السِّيَاق إِلَى الاهتمام بكتابات الفراهي - وَغَيره من أهل الْعلم بِالْقُرْآنِ -، وإعادة نشر مَا طبع مِنْهَا، فضلا عَن نشر مَا لم يطبع أصلا، لَا سِيمَا مَا يتَعَلَّق مِنْهَا بِالْقُرْآنِ الْمجِيد.

هَذَا.. وَالله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أسأَل أَن ينفع بِهَذِهِ الدراسة، وَأَن يَجْعَلهَا سببَ حَرَكَة علمية مُتَّصِلَة بِهَذَا الْمَوْضُوع المهم، من أجل أَن يتعاظم انتفاعنا بِهَذَا الْقُرْآن الْمجِيد، وَمن أجل أَن ننهض بدورنا الْوَاجِب فِي خدمته وَالْقِيَام بِحقِّهِ..

وَالْحَمْد لله أَولا وآخراً، وظاهراً وَبَاطنا، سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ الله الْعَظِيم، أستغفره وَأَتُوب إِلَيْهِ، وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وعَلى آله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا، وَآخر دعوانا أنِ الْحَمد لله رب الْعَالمين.

مصَادر ومراجع

أهم المراجع والمصادر

١ - الإتقان فِي عُلُوم الْقُرْآن، السُّيُوطِيّ، تَحْقِيق: د. مصطفى ديب البُغا، دَار ابْن كثير - بيروت، ط ٣/١٩٩٦م.

٢ - إعجاز الْقُرْآن، الباقلاني، تَحْقِيق: السَّيِّد أَحْمد صقر، دَار المعارف - الْقَاهِرَة.

٣ - إعجاز الْقُرْآن، مصطفى صَادِق الرَّافِعِيّ، دَار الْكتاب الْعَرَبِيّ - بيروت.

٤ - الإعجاز الْبَيَانِي فِي تَرْتِيب آيَات الْقُرْآن الْكَرِيم وسوره، د. مُحَمَّد أَحْمد يُوسُف الْقَاسِم، ط ١/١٩٧٩ م.

٥ - الْإِشَارَة إِلَى الإيجاز فِي بعض أَنْوَاع الْمجَاز، الْعِزّ بن عبد السَّلَام، المكتبة العلمية - الْمَدِينَة المنورة.

٦ - الِانْتِصَار لِلْقُرْآنِ، الباقلاني، منشورات معهد تَارِيخ الْعُلُوم الْعَرَبيَّة والإسلامية - ألمانيا، ١٩٨٦ م. (نُسْخَة مصورة عَن مخطوطة الْكتاب باستانبول، برعاية الْأُسْتَاذ فؤاد سزكين) .

٧ - الْبُرْهَان فِي عُلُوم الْقُرْآن، الزَّرْكَشِيّ، تَحْقِيق: مُحَمَّد أَبُو الْفضل إِبْرَاهِيم، الْحلَبِي - مصر، ط ٢/١٩٧٢ م.

٨ - الْبَحْر الْمُحِيط، أَبُو حَيَّان الأندلسي، تَصْوِير دَار الْفِكر - بيروت، ط٢/١٩٨٣م.

٩ - الباقلاني وَكتابه (إعجاز الْقُرْآن) .. دراسة تحليلية نقدية، د. عبد الرؤوف مخلوف، مكتبة الْحَيَاة - بيروت، ١٩٧٣ م.

١٠ - التَّصْوِير الفني فِي الْقُرْآن، سيد قطب، دَار الشروق - الْقَاهِرَة / بيروت، ط ٦/١٩٨٠م.

١ - التَّحْرِير والتنوير، مُحَمَّد الطَّاهِر بن عاشور، الدَّار التونسية للنشر، ١٩٨٤م.

٢ - التَّفْسِير الْكَبِير، فَخر الدّين الرَّازِيّ، تَصْوِير دَار الْكتب العلمية - طهران، ط٢.

٣ - التَّفْسِير الحَدِيث، مُحَمَّد عِزَّة دَرْوَزة، الحلبى - مصر، ط ١/١٩٦٢ م.

٤ - التَّفْسِير الْبَيَانِي لِلْقُرْآنِ الْكَرِيم، د. عَائِشَة عبد الرَّحْمَن، دَار المعارف - الْقَاهِرَة، ١٩٦٢ م.

٥ - جَوَاهِر الْبَيَان فِي تناسب سور الْقُرْآن، عبد الله بن الصّديق الغماري، مكتبة الْقَاهِرَة - مصر.

٦ - دَلَائِل النظام، عبد الحميد الفراهي، الدائرة الحميدية ومكتبتها - الْهِنْد، ١٣٨٨?.

٧ - الرَّازِيّ مفسِّراً، د. محسن عبد الحميد، دَار الْحُرِّيَّة للطباعة - بَغْدَاد، ط ١/١٩٧٤ م.

٨ - الرَّازِيّ من خلال تَفْسِيره، عبد الْعَزِيز المجذوب، الدَّار الْعَرَبيَّة للْكتاب - تونس، ط ٢/١٩٨٠م.

٩ - روح الْبَيَان، إِسْمَاعِيل حَقي البروسوي، تَصْوِير دَار إحْيَاء التراث الْعَرَبِيّ - بيروت.

١٠ - روح الْمعَانِي، شهَاب الدّين الآلوسي، ط - المنيرية - الْقَاهِرَة.

١١ - سيد قطب: الأديب النَّاقِد.. والداعية الْمُجَاهِد.. والمفسِّر الرائد، د. صَلَاح الدّين عبد الفتاح الخالدي، دَار الْقَلَم - دمشق (سلسلة أَعْلَام الْمُسلمين، رقم٨١) ، ط١/٢٠٠٠م.

صَحِيح البُخَارِيّ، للْإِمَام أبي عبد الله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ. تَحْقِيق

١ - مُحَمَّد فؤاد عبد الْبَاقِي. ط. المكتبة الإسلامية - استانبول - تركيا.

٢ - صَحِيح مُسلم، للْإِمَام أبي الْحسن مُسلم بن الْحجَّاج الْقشيرِي النَّيْسَابُورِي، تَحْقِيق مُحَمَّد فؤاد عبد الْبَاقِي. ط. دَار أَحيَاء التراث الْعَرَبِيّ ١٣٧٤?. بيروت.

٣ - الصراع بَين الْحق وَالْبَاطِل كَمَا جَاءَ فِي سُورَة الْأَعْرَاف، د. عَادل مُحَمَّد صَالح أَبُو الْعلَا، مطبوعات مكتبة الْملك عبد الْعَزِيز الْعَامَّة بالرياض، ط١/ ١٤١٦? - ١٩٩٥ م.

٤ - فصلٌ فِي إعجاز الْقُرْآن، مَحْمُود مُحَمَّد شَاكر (مُقَدّمَة لكتاب الظَّاهِرَة القرآنية، مَالك بن نَبِي) دَار الْفِكر - دمشق، ١٩٨١ م - ١٤٠٢ هـ.

٥ - فتح الْقَدِير، الشَّوْكَانِيّ، تَصْوِير دَار الْمعرفَة - بيروت.

٦ - الفراهي وجهوده فِي الدعْوَة الإسلامية، د. مُحَمَّد سيد سعيد أحسن العابدي (رِسَالَة دكتوراه - لم تنشر بعد - مُقَدّمَة إِلَى قسم الدعْوَة والإرشاد بكلية أصُول الدّين، جَامِعَة الْأَزْهَر بِالْقَاهِرَةِ، عَام ١٩٧٦م) .

٧ - فِي الدراسات القرآنية: الْجَانِب التاريخي - الْجَانِب الأسلوبي - الْجَانِب البلاغي، د. السَّيِّد أَحْمد عبد الْغفار، دَار الْمعرفَة الجامعية بالإسكندرية.

٨ - فِي ظلال الْقُرْآن، سيد قطب، دَار الشروق - الْقَاهِرَة /بيروت، ١٩٧٣م.

٩ - كتَابنَا الْأَكْبَر، د. عَائِشَة عبد الرَّحْمَن، سلسلة محاضرات الْمَوْسِم الثقافي لجامعة أم درمان الإسلامية - السودَان، ٦٦/١٩٦٧ م.

١٠ - الْكَشَّاف، الزَّمَخْشَرِيّ، تَصْوِير دَار الْمعرفَة - بيروت.

١١ - كَيفَ نتعامل مَعَ الْقُرْآن، مُحَمَّد الْغَزالِيّ (مدارسة أجراها مَعَه عمر عبيد حَسَنَة) ، المعهد العالمي للفكر الإسلامي - أمريكا، ط ٣/١٩٩٢م.

١ - مبَاحث فِي عُلُوم الْقُرْآن، د. صبحى الصَّالح، دَار الْعلم للملايين - بيروت، ط ١٠/١٩٧١ م.

٢ - الْمدرسَة القرآنية، السَّيِّد مُحَمَّد باقر الصَّدْر، دَار التعارف للمطبوعات - بيروت، ط ١/١٤٠١هـ - ١٩٨١ م.

٣ - معارج التفكُّر ودقائق التدبُّر: تَفْسِير تربوي لِلْقُرْآنِ الْكَرِيم، عبد الرحمن حسن حبنَّكة الميداني، دَار الْقَلَم - دمشق، ط ١/١٤٢٠هـ - ٢٠٠٠ م.

٤ - مقدمتان فِي عُلُوم الْقُرْآن، نشرهما: آرثر جفري، الخانجي - الْقَاهِرَة، ط ٢/١٩٧٢ م.

٥ - من بلاغة الْقُرْآن، د. أَحْمد أَحْمد البدوي، مكتبة نهضة مصر، ط٣/ ١٩٥٠م.

٦ - مصاعد النّظر للإشراف على مَقَاصِد السُّور، برهَان الدّين البقاعي، تَحْقِيق: د. عبد السَّمِيع مُحَمَّد أَحْمد، مكتبة المعارف - الرياض، ط١ / ١٤٠٨هـ - ١٩٨٧ م.

٧ - نظم الدُّرَر فِي تناسب الْآيَات والسور، برهَان الدّين البقاعي، مطبوعات دَائِرَة المعارف العثمانية - الْهِنْد، ط ١/١٩٦٩م: ١٩٧٦ م.

٨ - النبأ الْعَظِيم، نظرات جَدِيدَة فِي الْقُرْآن، د. مُحَمَّد عبد الله دراز، دَار الْقَلَم - الكويت، ط ٣/١٩٨٨م.

٩ - نَحْو تَفْسِير موضوعي لسور الْقُرْآن الْكَرِيم، مُحَمَّد الْغَزالِيّ، دَار الشروق - الْقَاهِرَة، ط ٤ / ٢٠٠٠ م.

١٠ - النّظم الفني فِي الْقُرْآن، عبد المتعال الصعيدي، مكتبة الْآدَاب - الْقَاهِرَة.

١١ - النّظم القرآني فِي كشاف الزَّمَخْشَرِيّ، د. درويش الجندي، دَار نهضة مصر، ١٩٦٩ م.

 

عن الكاتب

Tanya Ustadz

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية