الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

التفسير والمفسرون | الموسوعة القرآنية المتخصصة

التفسير والمفسرون | الموسوعة القرآنية المتخصصة

 الكتاب: الموسوعة القرآنية المتخصصة
المؤلف: مجموعة من الأساتذة والعلماء المتخصصين
رئيس التحرير: أ.د. علي جمعة
الناشر: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، مصر
عام النشر: ١٤٢٣ هـ - ٢٠٠٢ م
عدد الصفحات: ٨٨٢
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
الموضوع: علوم القرأن
 

  فهرس الموضوعات 

  1. التفسير والمفسرون
  2. ١ - التفسير لغة واصطلاحا ووجه الحاجة إليه
    1. -معنى التفسير اصطلاحا:
    2. -وجه الحاجة إلى التفسير:
  3. ٢ - التأويل والتفسير:
    1. -الفرق بين التفسير والتأويل:
    2. -المتشابه فى أسماء الله وصفاته:
    3. -تأويل ما يمتنع - عقلا أو شرعا - حمله على ظاهره:
    4. -تأويل المتشابه اللفظى:
    5. -المصنفات فى التأويل:
  4. -٣ - نشأة علم التفسير:
  5. ٤ - تدوين التفسير:
    1. -خطآن شائعان:
  6. -٥ - مصادر التفسير:
  7. ٦ - مناهج المفسرين:
    1. -شروط المفسر:
  8. ٧ - التفسير بالمأثور:
    1. -حتمية الأخذ بالتفسير المأثور وتقديمه على التفسير بالرأى:
    2. -المصنفات فى التفسير بالمأثور:
    3. -مظان التفسير بالمأثور فى غير المصنفات الخاصة به:
  9. ٨ - تفسير القرآن بالقرآن:
    1. -أولا: شرح الموجز بالمطنب:
    2. ثانيا: تفسير المجمل بالمبين:
    3. -صور التبيين القرآنى للمجمل:
    4. ثالثا: حمل العام على الخاص:
    5. -المخصص المتصل:
    6. -المخصص المنفصل:
    7. -رابعا: حمل المطلق على المقيد:
    8. خامسا: الجمع بين ما يوهم ظاهره التناقض:
    9. -سادسا: بيان الناسخ والمنسوخ:
  10. ٩ - التفسير النبوى:
    1. -الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفسر كل القرآن الكريم:
    2. -القدر الذى بينه النبى صلى الله عليه وسلم:
    3. أوجه بيان السنة للقرآن:
    4. -أولا: تفصيل المجمل:
    5. -ثانيا: إزالة اللبس:
    6. -ثالثا: تخصيص العام:
    7. -رابعا: تقييد المطلق:
    8. -خامسا: بيانه صلى الله عليه وسلم أن المنطوق لا مفهوم له:
    9. -سادسا: توضيح المبهم:
    10. -سابعا: بيان المراد من لفظ أو ما يتعلق به:
    11. -ثامنا: التأكيد لما جاء فى القرآن:
    12. -تاسعا: بيان أحكام لم يرد ذكرها فى القرآن:
  11. ١٠ - تفسير الصحابة:
    1. -مقومات اجتهاد الصحابة فى التفسير:
    2. -سمات تفسير الصحابة:
    3. -مدى حجية تفسير الصحابة:
    4. -الموقوف على الصحابة:
    5. -المفسرون من الصحابة:
  12. ١١ - تفسير التابعين:
    1. -مقومات التفسير عند التابعين:
    2. -سمات تفسير التابعين:
    3. -مدى حجية تفسير التابعين:
    4. -المفسرون من التابعين:
  13. ١٢ - اختلاف السلف فى التفسير:
    1. -اختلاف التضاد:
  14. ١٣ - التفسير بالرأى:
    1. -معنى التفسير بالرأى:
    2. -التفسير بالرأى قسمان:
    3. -اختلاف العلماء فى جواز التفسير بالرأى المحمود:
    4. -أدلة المانعين ومناقشتها:
    5. -الأدلة من القرآن:
    6. -أدلة المانعين من السنة:
    7. -أدلة المانعين من آثار الصحابة والتابعين:
    8. القائلون بالجواز:
    9. -فمن الأدلة القرآنية:
    10. -ومن الأدلة النبوية:
    11. -ومن آثار السلف:
    12. -ومن الأدلة العقلية على الجواز:
    13. -الرأى الراجح:
    14. -اختلاف مشارب العلماء فى التفسير بالرأى:
    15. -أبرز المصنفات فى التفسير بالرأى المحمود:
    16. -ومن تفاسير الرأى المذموم، أو الفرق المبتدعة:
  15. -١٤ - تفاسير القرآن:
  16. ١٥ - التفسير التحليلى والإجمالى:
    1. -المصنفات فيه:
    2. التفسير الإجمالى:
    3. -أهم كتب التفسير الإجمالى:
  17. ١٦ - التفسير الفقهى:
    1. المصنفات فى التفسير الفقهى:
    2. -أولا: من الأحناف:
    3. -ثانيا: الشافعية:
    4. -ثالثا: المالكية:
  18. -١٧ - التفسير البلاغى:
  19. ١٨ - التفسير الصوفى:
    1. -الصوفية وتفسير القرآن:
  20. ١٩ - التفسير الفلسفى:
    1. -المؤلفات فى التفسير الفلسفى:
  21. ٢٠ - التفسير الأدبى الاجتماعى:
    1. -رواد هذا الاتجاه:
    2. -أهم المصنفات فى هذا الاتجاه:
  22. ٢١ - التفسير الموضوعى:
  23. ٢٢ - الترجيحات فى التفسير:
    1. المرجحات فى التفسير ٩٧:
    2. -أولا: مرجحات قرآنية:
    3. -ثانيا: مرجحات حديثية:
    4. -ثالثا: مرجحات إجماعية:
    5. -رابعا: مرجحات تاريخية:
    6. -خامسا: مرجحات لغوية:
  24. ٢٣ - الدخيل فى التفسير:
    1. -أنواع الدخيل فى المأثور:
    2. -أنواع الدخيل فى الرأى:
  25. ٢٤ - الإسرائيليات فى التفسير:
    1. -أقسام الإسرائيليات:
    2. -حكم رواية الإسرائيليات:
  26.  ٢٥ - بدع التفاسير وغرائبه:
    1. -أسباب هذه البدع والغرائب:
  27. -٢٦ - ضوابط سلامة التفسير:
  28. -٢٧ - خطوات المنهج الأمثل فى التفسير:
  29. -٢٨ - طبقات المفسرين ومدارسهم:
  30. العودة إلي كتاب الموسوعة القرآنية المتخصصة

 

 التفسير والمفسرون
١ - التفسير لغة واصطلاحا ووجه الحاجة إليه
التفسير والمفسرون:


١ - التفسير لغة واصطلاحا ووجه الحاجة إليه:
التفسير لغة: الكشف والإيضاح، سواء أكان لمحسوس أم لمعقول، وإن كان استعماله فى الثانى أكثر من استعماله فى الأول.
ومن استعماله فى المحسوس قولهم:
فسرت الفرس، إذا عريته لينطلق فى حصره (١)، أى كشفت ظهره، وهو مشدود بالحصار- وهو اللجام- ليسرع فى عدوه.
ومن استعماله فى المعنويات قوله تعالى:
وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [الفرقان: ٣٣] أى أحسن إيضاحا وتفصيلا.

معنى التفسير اصطلاحا:
أما معناه اصطلاحا، فقد اختلفت عبارات العلماء فى ذلك، ومن أشهرها:
١ - ما قاله أبو حيان فى مقدمة تفسيره:
«التفسير: علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها، وأحكامها الإفرادية والتركيبية، ومعانيها التى تحمل عليها حالة التركيب، وتتمات لذلك».
ثم شرحه بقوله: «فقولنا: (علم) هو جنس يشمل سائر العلوم، وقولنا: (يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن) هذا هو علم القراءات، وقولنا: (ومدلولاتها) أى مدلولات تلك الألفاظ، وهذا هو علم اللغة، وقولنا:
(وأحكامها الإفرادية والتركيبية) هذا يشمل علم التصريف، وعلم الإعراب، وعلم البيان، وعلم البديع، وقولنا: (ومعانيها التى تحمل عليها حالة التركيب) يشمل ما دلالته بالحقيقة وما دلالته بالمجاز، وقولنا: (وتتمات لذلك) هو معرفة النسخ، وسبب النزول، وقصة توضح ما انبهم فى القرآن، ونحو ذلك» (٢).
٢ - وعرفه الزركشى بقوله: «علم يعرف به
(١) انظر القواميس، مادة (فسر)، والبحر المحيط لأبى حيان: ١/ ١٣، ط./ دار الفكر.
(٢) البحر المحيط: ١/ ١٣، ١٤ باختصار يسير.
 
١ ‏/ ٢٤١
 
فهم كتاب الله تعالى، المنزل على نبيه محمد ﷺ، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحكمه» (٣).
وقد ذكر السيوطى فى إتقانه عدة تعريفات كثيرة للتفسير، واعتبر فى كتابه «التحبير فى علم التفسير» تعريف أبى حيان أحسن تعريف. (٤)
ولعل خير ما يجمع تلك التعاريف كلها، ذلك الذى ذكره الزرقانى فى مناهله، حيث يقول: «والتفسير فى الاصطلاح: علم يبحث فيه عن القرآن الكريم، من حيث دلالته على مراد الله تعالى، بقدر الطاقة البشرية» (٥).
وهذا التعريف- على الرغم من إيجاز عبارته- تعريف جامع مانع، يناسب المطلوب من الصياغة فى مثل هذا المقام.
ثم شرح الزرقانى تعريفه هذا شرحا وافيا، ثم بين لنا سبب تسمية هذا العلم بذلك الاسم، ووجه اختصاصه بها دون بقية العلوم، فقال: «وسمى علم التفسير لما فيه من الكشف والتبيين، واختص بهذا الاسم دون بقية العلوم- مع أنها كلها مشتملة على الكشف والتبيين- لأنه لجلالة قدره، واحتياجه إلى زيادة الاستعداد، وقصده إلى تبيين مراد الله من كلامه، كان كأنه هو التفسير وحده، دون ما عداه» (٦).

وجه الحاجة إلى التفسير:
أولا: من أهداف نزول القرآن الكريم الدلالة على صدق النبوة والرسالة، أى أنه نزل ليكون المعجزة الكبرى للنبى ﷺ، ومعرفة أوجه إعجازه لا تتم إلا عن طريق تفسيره.
ثانيا: ومن أهداف القرآن الكريم كذلك أن الله أنزله ليكون روحا لهذه الحياة، ونورا للناس يهديهم إلى ما فيه سعادتهم فى الدنيا، وفلاحهم فى الآخرة، أنزله ليكون منهج حياتهم فى أمور العقيدة والعبادات والمعاملات والأخلاق، وسائر شئون الدين والدنيا والآخرة، ولن يتأتى للأمم والجماعات والأفراد الرقى فى مدارج الكمالات إلا بالعمل بهذا القرآن، ولن يتأتى العمل به إلا بعد فهمه فهما صحيحا، وهذا الفهم الصحيح لا يتأتى إلا بتفسير القرآن.
ثالثا: معلوم أن العلوم تنقسم إلى علوم دنيوية، وعلوم شرعية، والعلوم الدنيوية يتوقف الانتفاع بها على الوجه الأكمل والأصلح للبشرية على العلوم الشرعية، والتخلق بالآداب الإلهية، وإلا كانت دمارا
(٣) البرهان: ٢/ ١٠٤، ١٠٥، ط./ دار المعرفة.
(٤) التحبير ٣٦، ط./ دار المنار.
(٥) مناهل العرفان: ٢/ ٣، ط./ الفنية المتحدة بالقاهرة.
(٦) المصدر السابق: ٢/ ١٠.
 
١ ‏/ ٢٤٢
 
للبشرية، وهذا ما نراه فى عصرنا، حينما تحللت تلك العلوم من الأخلاق الربانية، فكانت نقمة ووبالا على أهلها، وعلى الدنيا كلها، والعلوم الشرعية متوقفة أيضا بدورها على القرآن الكريم، والقرآن الكريم لا يمكن الاستفادة منه- كما ذكرنا- إلا بتفسيره، فثبت من هذا أن كل كمال دينى أو دنيوى متوقف على تفسير القرآن الكريم.

٢ - التأويل والتفسير:
التأويل لغة: مأخوذ من الأول، وهو الرجوع، قال ابن منظور: «الأول: الرجوع، آل الشيء يؤول أولا، ومآلا: رجع، وقال أبو عبيد: التأويل: المرجع والمصير». (٧)
وقيل: إن التأويل مأخوذ من الإيالة، وهى السياسة، قال الزبيدى: «آل الملك رعيته يؤول إيالا: ساسهم وأحسن رعايتهم، وآل المال:
أصلحه وساسه» (٨).
وعلى ذلك: فإن قلنا: إن التأويل مأخوذ من الأول، وهو الرجوع، فلأن فيه إرجاع الآية إلى ما تحتمله من المعانى، وإن قلنا: إنه مأخوذ من الإيالة وهى السياسة، فلأن المؤول يسوس الكلام، ويضعه فى معناه اللائق به.
أما استعمالات التأويل، فإنه يطلق على ما يأتى:
١ - يطلق على التفسير، وهو الإيضاح والتبيين، فيكون التفسير والتأويل بمعنى واحد، وهذا ما جرى عليه ابن جرير الطبرى فى تفسيره، حينما يقول: القول فى تأويل قوله تعالى كذا وكذا، وبقوله: اختلف أهل التأويل فى هذه الآية.
٢ - ويطلق على حقيقة الشيء ذاته، ونفس المراد بالكلام، فإذا قيل: غربت الشمس، فتأويل هذا هو نفس غروبها، وهذا- فى نظر ابن تيمية ﵀ (٩) - هو لغة القرآن التى نزل بها.
٣ - ويطلق على صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلى معنى آخر مرجوح، وهو بهذا الإطلاق نوعان: صحيح، وفاسد.

الفرق بين التفسير والتأويل:
يرى بعض العلماء أن التأويل مرادف للتفسير، ويرى الآخرون أن هناك فرقا بينهما، ولكن هؤلاء اختلفوا فى هذا الفرق.
فمنهم من يقول: إن التفسير يخالف التأويل بالعموم والخصوص، فالتفسير أعم
(٧) لسان العرب (أول) ط./ دار المعارف.
(٨) تاج العروس للزبيدى (أول) ط./ الكويت.
(٩) كما يقول الدكتور محمد الذهبى فى: التفسير والمفسرون: ١/ ٢٠، طبعة المدنى.
 
١ ‏/ ٢٤٣
 
من التأويل، وكأنه يريد من التفسير بيان مدلول اللفظ مطلقا، سواء كان بالمتبادر، أم بغير المتبادر، ويريد من التأويل بيان مدلول اللفظ بغير المتبادر منه لدليل.
ومنهم من يرى أن الاختلاف بينهما إنما هو بالتباين، فكل منهما مباين للآخر، ولكن إلى أى شىء يرجع هذا التباين؟ هنا تختلف عبارات العلماء.
فمنهم من يقول: التفسير: بيان وضع اللفظ، إما حقيقة، وإما مجازا، والتأويل: بيان باطن اللفظ.
ومنهم من يقول: التفسير يتعلق بالرواية، والتأويل يتعلق بالدراية.
ومنهم من يقول: التفسير للمحكمات، والتأويل يتعلق بالدراية.
ومنهم من يقول: التفسير للمحكمات، والتأويل للمتشابهات.
ومنهم من يقول: التفسير هو القطع بأن مراد الله كذا، والتأويل ترجيح أحد المحتملات، بدون قطع.
ومنهم من يقول: التفسير هو بيان المعانى التى تستفاد من وضع العبارة، والتأويل هو بيان المعانى التى تستفاد بطريق الإشارة (١٠).

المتشابه فى أسماء الله وصفاته:
التشابه فى اللغة: يطلق على معنيين، على التماثل، وعلى الالتباس، جاء فى لسان العرب: أشبه الشيء الشيء: ماثله، وفى التنزيل: مُتَشابِهًا وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ [الأنعام: ١٤١]، والشبهة: الالتباس (١١).
والآيات والأحاديث الخاصة بصفات الله تعالى- مثل: الاستواء، واليد، والعين، والقدم، ونحوها- من هذا القبيل الثانى، أى من الأمور المشكلة، ولذلك اختلف فى فهمها:
١ - فالسلف كان منهجهم تجاه تلك النصوص، الإقرار والإثبات والإمرار، من غير تعرض لتأويلها، مع تنزيهه تعالى عن التمثيل والتشبيه.
يقول ابن قدامة: «قال الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل- رضى الله عنه- فى قول النبى ﷺ: «إن الله ينزل إلى السماء الدنيا، وإن الله يرى فى
القيامة»، وما أشبه هذه الأحاديث: نؤمن بها، ونصدق بها، لا كيف ولا معنى، ولا نرد شيئا منها، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق، ولا نرد على رسول الله ﷺ، ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه، وبلا حدّ ولا غاية، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: ١١]، ونقول كما قال، ونصفه بما وصف به نفسه، لا نتعدى ذلك، ولا يبلغه وصف الواصفين، نؤمن
(١٠) انظر فى ذلك: التيسير فى علم التفسير، لعمر النسفى: ١/ ٥٤ من تحقيق د. جمال مصطفى النجار، رسالة دكتوراة، وتاج العروس ٧/ ٢١٥، والبرهان للزركشى: ٢/ ٢٨٦، والإتقان للسيوطى: ٢/ ١٧٣، طبعة دار الندوة الجديدة ببيروت، ومناهل العرفان: ٢/ ٥.
(١١) لسان العرب: (شبه).
 
١ ‏/ ٢٤٤
 
بالقرآن كله، محكمه ومتشابهه، ولا نعلم كيف كنه ذلك إلا بتصديق الرسول ﷺ، وتثبيت القرآن».
وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعى- رضى الله عنه: «آمنت بالله وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله». وعلى هذا درج السلف وأئمة الخلف- رضى الله عنهم- كلهم متفقون على الإقرار والإمرار والإثبات، لما ورد من الصفات فى كتاب الله وسنة رسوله من غير تعرض لتأويله» (١٢).
٢ - أما الخلف: فقد أوّل جمهوره هذه الصفات بمعان لم يقل بها السّلف.
حيث أوّلوا الاستواء بمعنى الاستيلاء أو القهر، واليد بمعنى القدرة، ومجيئه تعالى بمجيء أمره، وعين الله بمعنى عنايته ورعايته، ولفظ اليمين بالقوة، والفوقية بالعلو المعنوى لا الحسّى، والعنديّة فى مثل قوله تعالى فى سورة الأنعام: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ بالإحاطة والتمكن، وهكذا.
وحجة هؤلاء: أنه يجب تنزيه الله- تعالى- عن مماثلة خلقه، ولكن الحقيقة أن مذهب السلف لا يقتضى المماثلة، فإذا كان للخلق علم وسمع وبصر ورحمة، فلله تعالى أيضا علم وسمع وبصر ورحمة، ولكن من قال من السلف أو الخلف إن علم الله وسمعه وبصره ورحمته مثل علم خلقه وسمعهم وبصرهم ورحمتهم؟ وهل يعقل أن يكون فهم الخلف لآيات الصفات أحسن من فهم السلف؟

تأويل ما يمتنع- عقلا أو شرعا- حمله على ظاهره:
وإذا كان هذا موقف السلف والخلف من نصوص الصفات، فإن الأمر يختلف مع تلك النصوص التى يمتنع عقلا وشرعا حملها على ظاهرها، مثل نصوص معية الله- تعالى- كقوله ﷿: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [الحديد: ٤]. فالله تعالى منزه عن أن يكون معنا بذاته فى حجراتنا وداخل دورات مياهنا، وحماماتنا ونحو ذلك، فالمراد بمعيته هنا معيته بالعلم والسمع والبصر، فهو يعلم كل ما يصدر عنا ويسمعه ويبصره.

تأويل المتشابه اللفظى:
يقصد بالمتشابه اللفظى: ما تكرر من القرآن لفظا، أو مع اختلاف فى العبارة
(١٢) لمعة الاعتقاد، لابن قدامة، ٣٥، ٣٦ بشرح محمد العثيمين: طبعة الدار السلفية بالإسماعيلية.
 
١ ‏/ ٢٤٥
 
والتركيب بأى صورة من الصور، كالتقديم والتأخير، والزيادة والنقصان، وإبدال حرف بآخر، أو كلمة بأخرى، وغير ذلك.
ومثاله: قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ [البقرة: ٥٨]، مع قوله تعالى: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: ١٦١].
والمقصود بتأويل المتشابه اللفظى هنا:
بيان السر فى التكرار، وفى اختلاف التركيب فى كل موضع من المواضع المكررة، بحيث يظهر لنا وجه إعجاز القرآن، الذى صرف فيه القول بأساليب متعددة، عجز الخلق جميعا عن مجاراته ولو بأسلوب واحد منها.
وعلى هذا: فإن المقصود بتأويل المتشابه اللفظى يختلف عن المقصود بتأويل متشابه الصفات، ولقد اعتنى العلماء بدراسة هذه الناحية فى القرآن عناية فائقة وكان على رأسهم الخطيب الإسكافى فى كتابه «درة التنزيل وغرة التأويل»، ومحمود بن حمزة الكرمانى فى كتابه «البرهان فى توجيه متشابه القرآن»، وابن الزبير الغرناطى فى كتابه «ملاك التأويل».

المصنفات فى التأويل:
أما المصنفات فى تأويل الصفات فبلغت من الكثرة مبلغا فائقا، نقتصر منها على ما يلى:
١ - تأويلات القرآن لأبى منصور الماتريدى.
٢ - تأويل المتشابهات فى الأخبار والآيات لعبد القاهر البغدادى.
٣ - مجالس فى المتشابه من الآيات القرآنية، لابن الجوزى.
٤ - الإكليل فى المتشابه والتأويل، لابن تيمية.
٥ - القواعد المثلى فى صفات الله وأسمائه الحسنى، لمحمد الصالح العثيمين.

٣ - نشأة علم التفسير:
القرآن الكريم هو منهج الله- تعالى- للناس فى كل ما يتعلق بأمور دينهم ودنياهم
 
١ ‏/ ٢٤٦
 
وأخراهم، من اتبع هداه فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عنه فإن له معيشة ضنكا، ويحشر يوم القيامة أعمى، ولما كان العمل به متوقفا على بيان نصه، وتوضيح غرضه، فقد تكفل الله بذلك، حتى لا يكون للناس على الله حجة، قال تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ [القيامة: ١٧ - ١٩].
ومن هذا المنطلق فقد قيض الله للبشر فى كل عصر من يبين لهم هذا النص القرآنى، ويوضح لهم المقصود منه، وبدا هذا التقييض واضحا منذ عهد النبى ﷺ إلى الآن، قال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل ٤٤].
جلس النبى ﷺ بين أصحابه، ليفصل لهم ما أجمل من القرآن، وليزيل عن أذهانهم ما علق بها من لبس، وليبين لهم تخصيص العام، وتقييد المطلق، وتوضيح المبهم، وغير ذلك مما سنوضحه- إن شاء الله- فى حديثنا عن التفسير النبوى.
وكان الصحابة- رضوان الله عليهم- حريصين كل الحرص على ملازمة مجلس رسول الله ﷺ، بل وجدنا بعضهم كان يتناوب مع صاحبه حضور المجلس النبوى إذا لم يستطع الملازمة.
أخرج البخارى فى صحيحه عن عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- قال: «كنت أنا وجار لى من الأنصار فى بنى أمية بن زيد- وهى من عوالى المدينة- نتناوب النزول على رسول الله ﷺ، ينزل يوما وأنزل يوما، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحى وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك» (١٣).
فلما انتقل الرسول ﷺ إلى الرفيق الأعلى قيض الله- ﷿ للناس صحابته الكرام، ليبينوا لهم مراده من كلامه.
وقد ظل الصحابة يفسرون للناس ما احتاجوا إلى تفسيره.
فلما جاء عصر التابعين قيض الله منهم من يأخذ العلم على أيدى المفسرين من الصحابة، حتى صاروا علماء نابغين، بل كان منهم من يفتى فى وجود أستاذه بأمر منه.
وكان للتابعين مقومات جيدة كانوا يعتمدون عليها فى تفسيرهم، سوف نتحدث عنها- إن شاء الله- قريبا، ولقد أنتج لنا التابعون كما عظيما من التفسير.
وظل التفسير بالمأثور- قرآن، وسنة،
(١٣) البخارى: كتاب العلم، باب التناوب فى العلم، طبعة عيسى الحلبى.
 
١ ‏/ ٢٤٧
 
وأقوال للصحابة والتابعين- يتناقل شفهيا، حتى دخل عصر التدوين، ثم دخل التفسير فى أطوار أخرى من عصر إلى عصر، تتلون ألوانه بتلون اتجاهات أصحابها، حتى وصل إلى عصرنا هذا، وقد أخذ من كل لون، ولا غرو فى ذلك، فهو ماسة ربانية، ينظر كل منهم إلى زاوية من زواياها، فتستهويه، ولا يكاد يصرف نظره عنها، وهو البحر الذى لا ساحل له ولا قرار، وبقدر ما عند الصياد من استعداد وأدوات، بقدر ما يصطاد منه، ليأكل ويبيع ويقتات.

٤ - تدوين التفسير:
التدوين فى بداية الأمر كان خاصا بالقرآن الكريم، دون الحديث النبوى، حتى لا يلتبس شىء من القرآن بغيره، قال ﷺ: «لا تكتبوا عنى، ومن كتب عنى غير القرآن فليمحه» (١٤).
فلما أمن اللبس أباح النبى ﷺ كتابة الحديث أيضا، ويدل لذلك قوله ﷺ يوم فتح مكة، لما طلب أبو شاة أن يكتب له خطبته:
«اكتبوا لأبى شاة». (١٥)
وإذا أردنا أن نقف على بداية تدوين التفسير، وتطور هذا التدوين، فإننا نقرر ما يلى:
أولا: إن تدوين التفسير كعلم مستقل عن الحديث، وليس كباب من أبوابه بدأ فى مرحلة مبكرة، على أيدى التابعين، الذين جمعوا قدرا كبيرا منه على أيدى الصحابة، ومما يدل على ذلك: ما جاء عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وأبى العالية، والحسن البصرى.
فأما سعيد بن جبير فقد ذكر الحافظ ابن حجر فى ترجمته لعطاء بن دينار الهذلى، أن عبد الملك بن مروان سأل سعيد بن جبير أن يكتب إليه بتفسير القرآن، فكتب سعيد بهذا التفسير، فوجده عطاء فى الديوان، فأخذه فأرسله عن سعيد بن جبير. (١٦)
وأما مجاهد فقد روى عنه الذهبى أنه قال: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات، أقف عند كل آية أسأله، فيم نزلت؟
وكيف نزلت؟ (١٧). وروى ابن جرير الطبرى عن أبى مليكة قال: «رأيت مجاهدا سأل ابن عباس عن تفسير القرآن، ومعه ألواحه، فقال ابن عباس: اكتب، حتى سأله عن التفسير كله». (١٨)
وأما أبو العالية- وهو رفيع بن مهران، أحد تلامذة ابن عباس وأبى بن كعب- فقد
(١٤) مسلم، كتاب الزهد، باب التثبيت فى الحديث، وحكم كتابة العلم، طبعة/ دار إحياء الكتب العربية.
(١٥) البخارى، كتاب اللقطة، باب كيف تعرف لقطة أهل مكة.
(١٦) انظر تهذيب التهذيب: ٥/ ٥٦٦ ط/ دار الفكر.
(١٧) تذكرة الحفاظ: ١/ ٩٢ طبعة/ حيدرآباد بالهند.
(١٨) تفسير ابن جرير الطبرى: ١/ ٩٠ ط/ دار المعارف.
 
١ ‏/ ٢٤٨
 
كتب نسخة فى التفسير عن أبىّ، بإسناد قال عنه السيوطى فى «الإتقان»: «وهذا إسناد صحيح». وقد أخرج من هذه النسخة جماعة من العلماء، كالإمام أحمد فى مسنده، والحاكم فى مستدركه، وغيرهما. (١٩)
أما الحسن البصرى، فقد جاء فى «وفيات الأعيان»: أن شيخا من شيوخ المعتزلة، وهو عمرو بن عبيد كتب تفسيرا للقرآن عنه. (٢٠)
ثانيا: وبناء على ما سبق، فإن ما فعله الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، حينما أمر واليه على المدينة، أبا بكر بن حزم (٢١) (سنة مائة)، بجمع الحديث، فكلّف أبو بكر ابن شهاب الزهرىّ بذلك، لا يعتبر الحلقة الأولى لتدوين التفسير، حتى وإن كان بابا من أبواب الحديث، فالتدوين للتفسير- وكعلم مستقل أيضا- كان سابقا لخلافة عمر بن عبد العزيز- ﵀.
ثالثا: ثم تأتى مرحلة ابن جريج، فقد كتب فى التفسير ثلاثة أجزاء كبار، عن ابن عباس رضى الله عنهما. (٢٢)
رابعا: ثم خطا التفسير بعد ذلك خطوة أقرب إلى الشمولية لمعظم آيات القرآن الكريم، حيث كتب الفراء (المتوفى سنة ٢٠٧ هـ) كتابا فى معانى القرآن، متتبعا آيات القرآن، حسب كتابتها فى المصحف الشريف، كما ظهر تفسير ليحيى بن سلام المتوفى سنة ٢٠٠ هـ، اهتم فيه بإيراد الأخبار وتعقبها بالنقد والاختيار، كما اهتم فيه بالنواحى الإعرابية والقراءات وتوجيهها. (٢٣)
خامسا: وما زال التفسير ينمو ويزدهر، حتى وصل إلى مرحلة الاستقصاء لكل آية من آياته، وظهر ذلك على أيدى مجموعة من العلماء، وكان من أشهرهم محمد بن جرير الطبرى المتوفى سنة ٣١٠ هـ، وتفسيره يعتبر أقدم تفسير وصل إلينا، وابن أبى حاتم المتوفى سنة ٣٢٧ هـ، وابن مردويه المتوفى سنة ٤١٠ هـ، وغيرهم من الأئمة الفضلاء.
ولكن الملاحظ على هذه التفاسير التى دونت حتى هذه الفترة أنها كانت لا تهتم إلا بالمأثور فقط، ما عدا تفسير ابن جرير، فإنه كان يزيد على المأثور توجيه الأقوال، وترجيح بعضها على بعض، وذكر الإعراب والقراءات، واستنباط الأحكام وغير ذلك، فلذلك كان عظيم الفائدة.
سادسا: ثم بعد ذلك اتسعت دائرة التفسير الكامل للقرآن كله، وكثرت فيه
(١٩) انظر الإتقان: ٢/ ١٨٩.
(٢٠) وفيات الأعيان: ٣/ ٤٦٢ ط/ دار صادر.
(٢١) انظر صحيح البخارى، كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم.
(٢٢) انظر الإتقان: ٢/ ١٨٨.
(٢٣) نص على هذا الشيخ محمد الفاضل بن عاشور فى كتابه: «التفسير ورجاله» ٢٩، ط/ مجمع البحوث الإسلامية.
 
١ ‏/ ٢٤٩
 
التصانيف المستقلة، وتعددت ألوانه، ورأينا كما هائلا من التفسير، يتناسب مع مكانة وأهمية الكتاب المفسّر، وهو القرآن الكريم، الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.

خطآن شائعان:
وفى هذا المقام لاحظت خطأين شائعين فى كتب من صنف فى مناهج المفسرين:
الخطأ الأول: هو القول بوجود مرحلتين منفصلتين للتفسير، مرحلة شفهية، شملت عصر الصحابة والتابعين، تليها مرحلة تدوينية لم تظهر إلا فى عصر تابعى التابعين، ولعلّ أول من وقع فى هذا الخطأ أستاذ العصر بلا منازع فى مجال مناهج المفسرين، وهو أستاذ أساتذتنا الشيخ الدكتور/ محمد الذهبى- ﵀، حيث نص صراحة فى سفره القيم «التفسير والمفسرون»، على وجود هذا الانفصال الزمنى، بين التفسير فى مرحلة الرواية، والتفسير فى مرحلة التدوين. (٢٤)
أما الخطأ الثانى: فهو قولهم: إن استقلال التفسير عن السنة بالتدوين، كان فى عصر تابعى التابعين، أو بعد هذا العصر.
فها هو ذا أحد أساتذتنا الأجلاء (٢٥) - أكرمه الله- يقول عن ابن جريج- وهو من تابعى التابعين-: «فهو أول من صنف فى تفسير القرآن على استقلال، فكتب فيه ثلاثة أجزاء كبار، عن ابن عباس- رضى الله عنهما».
بل إن الدكتور محمد الذهبى- ﵀ ليذهب إلى تأخير هذا الاستقلال إلى ما بعد جيل ابن جريج- ﵀. (٢٦)
فالروايات التى ذكرناها سابقا، والتى تنص صراحة على أن جماعة من التابعين، كسعيد ابن جبير، ومجاهد، وأبى العالية، والحسن البصرى الذين أخذوا التفسير عن الصحابة، كانوا يدونونه فى نفس الوقت الذى كانت الروايات التفسيرية تتناقل شفهيا، فى عصر الصحابة والتابعين، كما تدل الروايات عن هؤلاء التابعين بصراحة على أن تدوينهم للتفسير كان على جهة الاستقلال، وليس على أنه باب من أبواب السنة كما قيل، ولا يعنى هذا إنكار وجود من دوّن التفسير بعد ذلك مختلطا بالسنة، على أنه باب من أبوابها، ثم انتهى الأمر بعد هذا الاختلاط إلى الاستقلال التام، والاستقصاء الكامل، لتفسير كل آيات القرآن وسوره، على حسب الترتيب المعروف فى المصحف الشريف.
(٢٤) انظر: التفسير والمفسرون: ١/ ١٥١.
(٢٥) هو فضيلة الأستاذ الدكتور/ محمد جبريل فى كتابه القيم: «مدخل إلى مناهج المفسرين» ٨٣، طبعة الرسالة بالباب الأخضر بالقاهرة.
(٢٦) انظر التفسير والمفسرون: ١/ ١٥٢ وهو يتحدث عن الخطوتين الثانية والثالثة.
 
١ ‏/ ٢٥٠
 
٥ - مصادر التفسير:
للتفسير خمسة مصادر مرتبة، لا يجوز لأحد أن يتخطى المقدم منها إلى ما بعده، إلا إذا لم يجد بغيته فى هذا المقدم، والمصادر الخمسة هى:
أولا: القرآن نفسه، إذ أن الموضوع الواحد قد يكون له عدة آيات متناثرة فى ثنايا القرآن. فقد يجد المفسر فيها مطلقا فيحمله على المقيد، أو عاما فيحمله على الخاص، أو مجملا فيحمله على المبيّن، أو موجزا فيوضحه بما جاء مطنبا، ونحو ذلك من صور تفسير القرآن بالقرآن.
ثانيا: السنة النبوية، وهذا أمر بدهى، لأن السنة النبوية مبينة للقرآن، مع ضرورة الاقتصار على الصحيح، والبعد عن الموضوع والضعيف.
ثالثا: أقوال الصحابة- رضى الله عنهم أجمعين، لأنهم هم الذين عاصروا الوحى والتنزيل، وشاهدوا ملابسات القرآن الكريم.
رابعا: أقوال التابعين، فهى موروث عظيم، لجيل تربى على أيدى الصحابة الكرام، وعنهم أخذوا القرآن وسنة النبى- ﵊.
خامسا: وبعد مرور المفسّر بالمصادر السابقة، وعدم وجوده بغيته فيها يأتى المصدر الخامس، ألا وهو إعمال عقله، وكد ذهنه، للوصول إلى مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية، بعد توافر شروط التفسير فيه، ومراعاة الضوابط المطلوبة لسلامة تفسيره، واتباعه خطوات المنهج الأمثل فى التفسير، التى خصصنا لكل منها قدرا معينا فى هذا المدخل، فليرجع إليها.

٦ - مناهج المفسرين:
مصطلح «مناهج المفسرين» مركب إضافى مكون من جزءين:
أما الجزء الأول، وهو كلمة «مناهج» فى اللغة فهى جمع «منهج»، والمنهج هو الطريق الواضح، سواء كان حسيا، أم معنويا، بل إنه فى الأصل كان يطلق على الطريق الحسى، ثم استعمل بعد ذلك فى الطريق المعنوى، ثم غلب عليه بعد ذلك، حتى أضحى الآن لا يكاد يستعمل إلا فى الطريق المعنوى. (٢٧)
أما الجزء الثانى، وهو كلمة «المفسرين»، فهى جمع مفسّر، والمفسر وإن كان يطلق على كل من يفسر ويوضح أى شىء، فإن المراد به الآن عند الإطلاق: هو المشتغل
بتفسير كلام خاص، وهو القرآن الكريم.
(٢٧) انظر لسان العرب، والقاموس المحيط للفيروزآبادى، طبعة الرسالة، ومفردات الراغب الأصفهانى، مادة (نهج)، طبعة دار القلم.
 
١ ‏/ ٢٥١
 
وبناء عليه: فإن المراد بمناهج المفسرين اصطلاحا: هو ذلك العلم الذى يبحث فيه عن طرق المفسرين، فى تناولهم بيان المراد من النص القرآنى، والحكم على كل طريقة من طرق هؤلاء المفسرين، بالصواب أو الخطأ، كما يبحث فيه عن تتمات لا بدّ منها، تتعلق بالتفسير والمفسرين، كتعريف التفسير، وأقسامه، ومصادره، وشروطه، وفائدته، ووجه الحاجة إليه، والفرق بينه وبين التأويل، وغير ذلك.
ولقد صار علما مستقلا يدرس بكليات أصول الدين بجامعة الأزهر.

شروط المفسر:
التفسير هو الترجمة عن الله- تعالى- لبيان مراده- ﷿ من كلامه، لذلك لا يجوز لأى أحد اقتحام هذا المجال إلا بعد أن تتوافر فيه شروط خاصة نص عليها علماء الأمة، ألخصها فيما يأتى:
(أ) الإسلام، لأن الكافر غير مؤتمن على الدنيا، فكيف نأتمنه على الدين؟
(ب) اتباع مذهب السلف الصالح- رضى الله عنهم- فمن كان صاحب بدعة لبّس على الناس مقصود الله- تعالى- ليحملهم على اعتقاد بدعته.
(ج) صحة المقصد، بأن يبتغى بتفسيره وجه الله- تعالى- دون سمعة أو رياء، ليلقى السداد والقبول.
(د) أن يعتمد أول ما يعتمد على المأثور، فلا يجوز إعمال عقله، وترك المأثور.
(هـ) أن يقف على العلوم الواجب توافرها فيمن يتصدى لتفسير القرآن، وهى خمسة عشر علما، على النحو التالى: (٢٨)
١ - علم اللغة؛ لأن بها يعرف شرح مفردات الألفاظ ومدلولاتها، بحسب الوضع.
٢ - النحو، لأن المعنى يتغير ويختلف باختلاف الإعراب.
٣ - التصريف، لأن به تعرف الأبنية والصّيغ، فكلمة (وجد) مثلا كلمة مبهمة، فإذا صرفناها اتضحت بمصدرها.
٤ - الاشتقاق، لأن الاسم إذا كان اشتقاقه من مادتين مختلفتين اختلف باختلافهما، كالمسيح، هل هو من السياحة أم من المسح؟
٥، ٦، ٧ - علوم البلاغة الثلاثة، «المعانى
(٢٨) انظر الإتقان: ٢/ ١٨١.
 
١ ‏/ ٢٥٢
 
والبيان والبديع» لأنه يعرف بالأول خواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعنى، وبالثانى خواصها من حيث اختلافها بحسب وضوح الدلالة وخفائها، وبالثالث وجوه تحسين الكلام، ولأن إعجاز القرآن البلاغى لا يدرك إلا بهذه العلوم.
٨ - علم القراءات، لأن به يعرف كيفية النطق بالقرآن، وبالقراءات يترجح بعض الوجوه المحتملة على بعض.
٩ - علم أصول الدين، ليعلم ما يجب لله- تعالى- وما يستحيل عليه، وما يجوز فى حقه، وكذلك بالنسبة للأنبياء، ما يجب لهم، وما يستحيل عليهم وما يجوز فى حقهم.
١٠ - أصول الفقه، إذ به يعرف وجه الاستدلال على الأحكام والاستنباط.
١١ - أسباب النزول، والقصص، لأن بعض الآيات لا يمكن فهمها إلا به.
١٢ - الناسخ والمنسوخ، ليعلم المحكم من غيره.
١٣ - الفقه.
١٤ - الأحاديث المبينة للمجمل والمبهم.
١٥ - علم الموهبة، وهو علم يورثه الله- تعالى- لمن عمل بما علم.

٧ - التفسير بالمأثور:
كلمة (مأثور) فى اللغة- مأخوذة من الأثر، والأثر يطلق- كما قال ابن منظور فى «اللسان» - على أمرين: على بقية الشيء، وعلى الخبر، أى على الكلام المخبر به عن شخص آخر. (٢٩)
والمعنى الثانى من معانى المأثور هو المراد عند المفسرين، حينما يطلقون مصطلح التفسير بالمأثور، إلا أن دائرته عندهم محدودة، وليست عامة.
فالتفسير بالمأثور عند العلماء يراد به:
ما جاء فى القرآن الكريم نفسه من آيات تبين آيات أخرى، وما ورد عن رسول الله ﷺ وصحابته الكرام، وكذلك عن التابعين، على اختلاف بين العلماء، فيما جاء عن التابعين، على ما سنوضحه فى موضعه قريبا إن شاء الله- تعالى.

حتمية الأخذ بالتفسير المأثور وتقديمه على التفسير بالرأى:
لا يجوز لأحد بحال من الأحوال أن يفسر القرآن الكريم قبل أن يمر على كل مصدر من مصادر التفسير بالمأثور الأربعة، مرتبة ترتيبا وجوبيا على النحو الذى ذكرناه سابقا.
(٢٩) لسان العرب: (أثر).
 
١ ‏/ ٢٥٣
 
فيجب أن نبحث فى القرآن أولا عن المعنى الذى نريده، فقد نجد فيه بغيتنا، وإنما قلنا يجب ذلك لما يأتى:
١ - لأن صاحب أى كلام أدرى بمقصوده من غيره، فما بالنا إذا كان المبين هو الله تعالى؟
٢ - ولأن الشرع أمر باتباع ما جاء عن الله- تعالى- ونهى عن التقديم بين يديه- ﷿.
فإن لم يجد المفسر بيانا وإيضاحا لمعنى الآية فى القرآن، فعليه أن يلجأ إلى سنة رسول الله ﷺ، قبل أى شىء، لما يأتى:
١ - لقيام الأدلة المتعددة على حجية السنة.
٢ - وأيضا فإن الإجماع قد قام على حجية السنة، أطبق على ذلك السلف والخلف، فى جميع العصور.
٣ - وأيضا فإن وظيفة الرسول ﷺ هى تبيين القرآن.
٤ - وأيضا فإن الرسول ﷺ معصوم عن الخطأ فى أمور الوحى.
من أجل هذا لا يجوز للمفسر أن يتخطى البيان النبوى لغيره، إن وجد.
فإن لم يجد المفسر بيانا نبويا ذهب إلى أقوال الصحابة، فإنهم شاهدوا الوحى والتنزيل، ورأوا التفسير العملى للقرآن متجسدا فى أقوال الرسول ﷺ، وأفعاله، وأيضا لما خصوا به من الفهم التام، والعلم الصحيح، والدراية بعادات العرب وأحوالهم، وإتقان لغتهم.
فإن لم يجد المفسر بغيته فى أقوال الصحابة انتقل إلى أقوال التابعين، الذين تتلمذوا على أيدى الصحابة، وعليهم أثنى الرسول ﷺ وصحابته الكرام خيرا، على خلاف بين العلماء فى مدى حجية أقوالهم.
فإن فقد المفسر مطلوبه فى هذه المصادر الأربعة انتقل إلى التفسير بالرأى، بعد توافر الشروط المطلوبة، والضوابط الواجب مراعاتها.

المصنفات فى التفسير بالمأثور:
والمصنفات فى التفسير بالمأثور خاصة، أو التى غلب فيها المأثور كثيرة، يأتى على رأسها ما يلى:
١ - جامع البيان عن تأويل القرآن، لابن جرير الطبرى.
٢ - بحر العلوم، لأبى الليث، نصر بن محمد السمرقندى.
 
١ ‏/ ٢٥٤
 
٣ - معالم التنزيل، لأبى محمد الحسن بن مسعود البغوى.
٤ - المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز، لأبى محمد عبد الحق بن غالب بن عطية.
٥ - تفسير القرآن العظيم، لأبى الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير.
٦ - الجواهر الحسان فى تفسير القرآن، لأبى زيد عبد الرحمن بن محمد الثعلبى.
٧ - الدر المنثور فى التفسير بالمأثور، للحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبى بكر السيوطى.
٨ - فتح القدير، الجامع بين فنّى الرواية والدّراية من علم التفسير، لمحمد بن على الشوكانى، وهو- كما هو ظاهر من عنوانه- شامل للتفسير بالمأثور، والتفسير بالرأى.
٩ - أضواء البيان فى إيضاح القرآن بالقرآن، للشيخ محمد الأمين الشنقيطى.

مظان التفسير بالمأثور فى غير المصنفات الخاصة به:
التفسير بالرأى لا يعنى ترك صاحبه للتفسير المأثور، فإن جل التفاسير بالرأى- إن لم تكن كلها- تحوى كثيرا من روايات التفسير بالمأثور تقوية لمعنى أو ترجيحا لرأى على آخر، ونحو ذلك، ومن هذه التفاسير ما يأتى:
١ - الكشاف، للزمخشرى.
٢ - مفاتيح الغيب، للفخر الرازى.
٣ - الجامع لأحكام القرآن، للقرطبى.
٤ - روح المعانى، للآلوسى.
٥ - التحرير والتنوير، للطاهر بن عاشور.
٦ - محاسن التأويل، للقاسمى.

٨ - تفسير القرآن بالقرآن:
ذكرنا قريبا أن تفسير القرآن بالقرآن يعتبر المصدر الأول من مصادر التفسير بالمأثور، الذى لا ينبغى لأحد أن يتعداه إلى غيره، ما لم يجد مقصوده فيه، وذلك أرقى أنواع التفسير.
ولتفسير القرآن بالقرآن عدة وسائل، نوضح أبرزها فيما يلى:

أولا: شرح الموجز بالمطنب:
فقارئ القرآن يرى فيه نصوصا موجزة فى بعض المواضع، ويرى فى الوقت نفسه نصوصا مطنبة فى الموضوع ذاته، فى مواضع
 
١ ‏/ ٢٥٥
 
أخرى، كما ورد فى قصص الأنبياء، مثل قصة آدم، ونوح، وإبراهيم، وهود، وصالح، وموسى، وعيسى، وغيرهم، كما يرى موضوعات أخرى تفرقت أجزاؤها فى ثنايا القرآن، كموضوعات الربا والخمر، ومشاهد يوم القيامة والمرأة ونحوها.
فعلى المفسر أن يجمع أجزاء الموضوع الواحد، من كل مكان، ليكتمل الموضوع كله أمامه، ثم يشرع فى تفسيره، فى ضوء جميع هذه الأجزاء، حتى لا يلتبس عليه الأمر، أو يخرج ناقص التصور، أو مخطئا فى الحكم.

ثانيا: تفسير المجمل بالمبين:
الناظر فى القرآن يجده ينقسم- من حيث وضوح الدلالة على المراد، وعدم هذا الوضوح- إلى قسمين:
١ - قسم بيّن واضح، غير مفتقر إلى ما يبينه. مثل: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ.
٢ - وقسم يحتاج إلى بيان، لأنه غير واضح الدلالة على المراد.

صور التبيين القرآنى للمجمل:
وهذا المجمل الذى يأتى تبيينه بالقرآن له ثلاث صور كالآتى:
١ - إما أن يكون متصلا باللفظ المجمل.
٢ - وإما أن يكون منفصلا عنه، ولكن فى السورة نفسها.
٣ - وإما أن يكون منفصلا عنه فى سورة أخرى.
فمثال ما جاء متصلا بالمجمل عقبه مباشرة قوله تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ بيّنهم بقوله تعالى: الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة: ١٥٥، ١٥٦].
أما المجمل الذى انفصل عنه ما يبينه، ولكن فى السورة نفسها، فمثاله قوله تعالى:
أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ [المائدة: ١] فالمستثنى المحرّم مجمل، فسرته الآية الثالثة من السورة نفسها، وهى قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ الآية.
أما ما جاء مبيّنا ولكنه منفصل عن المجمل فى سورة أخرى، فكثير، منه قوله تعالى:
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ [الحج: ٢٤]، بيّن بقوله تعالى: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
 
١ ‏/ ٢٥٦
 
هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ [الأعراف: ٤٣].

ثالثا: حمل العام على الخاص:
ومن تفسير القرآن بالقرآن حمل العام على الخاص.
والمراد بالعام- على ما عرفه السرخسى:
«كل لفظ ينتظم جمعا من الأسماء، لفظا أو معنى، فلفظا مثل زيدون، ومعنى مثل (من) و(ما) وما أشبههما. (٣٠)
أما الخاص: فيطلق- كما قال الآمدى- على اللفظ الواحد، الذى لا يصلح مدلوله لاشتراك كثيرين فيه، كأسماء الأعلام، مثل زيد، وعمرو ونحوه. (٣١)

المخصص المتصل:
والعام قد يخص بمتصل، أو منفصل.
والمخصص المتصل أنواع، أشهرها ما يلى:
الأول: الاستثناء.
الثانى: التخصيص بالشرط.
مثاله: قوله تعالى: فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [النور: ٣٣]، فلا يجب على السيد مكاتبة عبده إلا بالشرط المذكور.
الثالث: التخصيص بالغاية، مثل قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة: ٢٢٢].
الرابع: التخصيص ببدل البعض من الكل، كقوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: ٩٧].

المخصص المنفصل:
أما المخصص القرآنى المنفصل، فمن أمثلته: قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ الآية ٢٣ من النساء، حيث خصّصت الآية الثالثة من السورة نفسها، وهى قوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ.

رابعا: حمل المطلق على المقيد:
ومن تفسير القرآن بالقرآن حمل مطلقه على مقيده.
والمطلق عبارة عن: النكرة فى سياق الإثبات، أو هو اللفظ الدال على مدلول شائع فى جنسه، مثل رقبة، وعبد، ونحوهما.
والمقيد يطلق باعتبارين، الأول: ما كان من الألفاظ الدالة على مدلول معين، كزيد وعمرو، وهذا الرجل، ونحوه.
(٣٠) أصول الفقه للسرخسى: ١/ ١٥٢، طبعة دار الكتاب العربى بالقاهرة.
(٣١) الإحكام فى أصول الأحكام للآمدى: ٢/ ٥٥، طبعة/ محمد صبيح.
 
١ ‏/ ٢٥٧
 
والثانى: ما كان من الألفاظ دالا على وصف مدلوله المطلق، بصفة زائدة عليه، كقولك: دينار مصرى، ودرهم مكى.
والفرق بين العام والمطلق: أن المطلق يدل على فرد شائع، أو أفراد شائعة فى جنسه، لا على جميع الأفراد، بينما العام يدل على شمول اللفظ لجميع أفراده، من غير حصر.
وإنما يحمل المطلق على المقيد إذا لم يكن للمطلق إلا أصل واحد.
مثال ذلك: إطلاق الشهادة فى البيوع وغيرها، واشتراط العدالة فيها فى الرجعة والوصية، فيحمل المطلق على المقيد، فتكون العدالة شرطا فى كل شهادة، وكذا إطلاق الميراث فيما أطلق فيه، وتقييد ميراث الزوجين بقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ (النساء: ١١ - ١٢) فيحمل المطلق على المقيد، ولا يوزع الميراث فى أى حالة، إلا بعد تنفيذ الوصية، وسداد الدين.
فإن كان للمطلق أصلان، فلا يحمل المطلق على المقيد، وإنما يبقى المطلق على إطلاقه، والمقيد على تقييده.
مثاله: كفارة اليمين، وقضاء رمضان، جاء مطلقا دون تقييد بالتتابع أو بالتفريق، بينما جاء صوم كفارة التمتع فى الحج مقيدا بالتفريق، ثلاثة أيام فى الحج، وسبعة بعد الرجوع، وجاء صوم كفارة القتل مقيدا بالتتابع، فهذان أصلان، تقييد بالتفريق، وتقييد بالتتابع، فماذا نفعل فى إطلاق صوم كفارة اليمين، وقضاء رمضان؟ إلى أى أصل من الأصلين يرد هذا الإطلاق؟ إلى التقييد بالتفريق أم إلى التقييد بالتتابع؟ هنا نقول:
يبقى هذا المطلق على إطلاقه، ولا يقيد بأحد القيدين، لأن حمله على أحدهما ليس بأولى من حمله على الآخر.

خامسا: الجمع بين ما يوهم ظاهره التناقض:
ومن تفسير القرآن بالقرآن الجمع بين ما يوهم التعارض من آياته، لأن الاختلاف نوعان:
١ - اختلاف حقيقى، وهو ما لا يمكن الجمع فيه بين الشيئين، بأى وجه من الوجوه، وهذا غير موجود فى القرآن على الإطلاق.
٢ - اختلاف غير حقيقى، وهو الذى يبدو للناظر فى بعض الآيات من أول نظرة سطحية لها، وحين التدقيق بين النصوص يتضح عدم التعارض.
 
١ ‏/ ٢٥٨
 
فيجب على المفسر أن ينظر إلى الأسباب التى أدت إلى هذا الإيهام، ثم يقوم بإزالة هذا التعارض الظاهرى.

سادسا: بيان الناسخ والمنسوخ:
ومن وسائل تفسير القرآن بالقرآن، بيان ناسخه من منسوخه، والمراد من النسخ هنا:
رفع الحكم الشرعى بدليل شرعى متأخر.
وإنما يجب على المفسر بيان ذلك، حتى لا يظن جاهل أن هناك تعارضا بين نصوص القرآن الكريم فى الحكم على الشيء الواحد بأكثر من حكم، بالجواز والمنع، أو بالحل والحرمة، أو بالأمر والنهى، وحتى يعرف المسلم آخر حكم استقر عليه الأمر فى نهاية المطاف، فيعمل بالناسخ، ويترك المنسوخ، دون أن يفعل العكس.

٩ - التفسير النبوى:
ذكرنا قريبا أن السنة هى المصدر الثانى من مصادر التفسير بالمأثور، الذى يجب أن لا يتخطاه المفسر، بعد أن لم يجد ما يفسر به من خلال القرآن ذاته.
وإنما قلنا: إنه لا يجوز للمفسر أن يتخطى التفسير النبوى لتوافر الأدلة على ذلك، من القرآن والسنة والإجماع.
فمن الأدلة القرآنية: قوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: ٦٥].
وقوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: ٤٤].
ومن الأدلة النبوية: قوله ﷺ: (ألا إنى أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله). (٣٢)
أما الإجماع: فإن الأمة سلفا وخلفا انعقد قولها على حجية السنة، قال الإمام الشافعى ﵀: «أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله ﷺ، لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس». (٣٣)

الرسول ﷺ لم يفسر كل القرآن الكريم:
ومن البدهى الذى نود تقريره هنا أن الرسول ﷺ لم يفسر كل القرآن الكريم، والأدلة على ذلك كثيرة، من القرآن والسنة والعقل:
(٣٢) سنن أبى داود، كتاب السنة، باب (٥)، طبعة/ دار الفكر، وسنن الترمذى، كتاب العلم، باب (١٠)، طبع دار الكتب العلمية.
(٣٣) إعلام الموقعين: ٢/ ٣٦١ طبعة/ دار الجيل.
 
١ ‏/ ٢٥٩
 
فمن القرآن: تلك الآيات التى تدل على أن فى القرآن ما يستنبطه أولو العلم باجتهادهم، كقوله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: ٨٣].
قال أبو حامد الغزالى: «فأثبت لأهل العلم استنباطا، ومعلوم أنه وراء السماع. (٣٤) فلو كان الرسول ﷺ قد بين كل معانى القرآن فماذا بقى لأولى العلم؟».
ومن السنة: دعاء النبى ﷺ لابن عباس بقوله: «اللهم فقهه فى الدين، وعلمه التأويل» (٣٥).
قال أبو حامد الغزالى- معلقا على هذا الحديث: «فإن كان التأويل مسموعا كالتنزيل، ومحفوظا مثله، فما معنى تخصيصه بذلك؟» (٣٦).
ومن الأدلة العقلية: ١ - اختلاف الصحابة فى التفسير، وتعدد أقوالهم، فلو كان الرسول ﷺ قد فسر القرآن كله لما وجدنا ذلك الاختلاف، بل لما وجدنا لهم تفسيرا من أصله.
٢ - وأيضا: فإنه لو كان للرسول ﷺ تفسير كامل للقرآن لنقل إلينا، كما نقل عنه كل شىء، يتعلق بالدين والدنيا معا، مثل ما يتعلق بآداب النوم وقضاء الحاجة وغيرهما.
وليس من حق أحد أن يدعى أن الرسول ﷺ قد فسر القرآن كله لفظة لفظة، ثم فقد كله إلا القليل منه، أو النادر، لأن التفسير النبوى الكامل مما تتوافر الدواعى على نقله، فأين أهمية نقل آداب النوم، وقضاء الحاجة، من أهمية نقل تفسير كامل للقرآن، لو أثر عنه ﷺ؟
وليس من حق أحد أيضا أن يدعى أنه أثر عنه ﷺ تفسير كامل للقرآن، لكن الصحابة لم يبلغوه لمن خلفهم، لأن هذا قادح فى عدالة الصحابة التى ثبتت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولتنافى ذلك مع كفاحهم فى نشر كتاب الله- تعالى- وتبيينه للناس.

القدر الذى بيّنه النبىّ ﷺ:
من خلال الواقع الذى نقل شفهيا وكتابة، عن طريق الرواة وكتب السنة والتفسير، يتضح لنا بجلاء أن الرسول ﷺ لم يفسر من القرآن إلا قدرا يسيرا، لو قيس بما لم يفسره، وإن كان فى حد ذاته كثيرا.
والسبب فى ذلك: أنه لم يكن فى عصر النبوة من داع لتفسير نبوى كامل للقرآن، وخاصة إذا علمنا أن هناك من القرآن الكريم ما قد استأثر الله- تعالى- بعلمه، وأن منه ما يعلم معناه من له أدنى دراية بلغة العرب،
(٣٤) إحياء علوم الدين: ١/ ٢٩٠، طبعة/ دار البيان العربى.
(٣٥) مسند أحمد: ١/ ٣٣٥ طبعة/ دار الفكر.
(٣٦) إحياء علوم الدين: ١/ ٢٩٠.
 
١ ‏/ ٢٦٠
 
ويؤيد هذا ما أخرجه ابن جرير الطبرى عن ابن عباس- رضى الله عنهما- حيث يقول:
(التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله). (٣٧)

أوجه بيان السنة للقرآن:
لبيان السنة للقرآن أنواع كثيرة، نذكر أشهرها فيما يأتى:

أولا: تفصيل المجمل:
فقد ورد فى القرآن مجمل كثير، لا يستطيع الإنسان فهمه إلا من خلال السنة، كآيات الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، فلم يرد فى القرآن عدد فروض الصلاة موضحة، ولا عدد ركعاتها، ولا بيان أوقاتها، ولا كيفيتها ولا مبطلاتها، وغير ذلك، والزكاة أيضا كذلك، من ناحية الأنواع والنصاب، والمقادير، وسائر تفصيلاتها، وكذلك الحج، لم يرد فى القرآن كيفيته، أو مبطلاته، وغير ذلك من سائر أحكامه. قال تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: ٧].

ثانيا: إزالة اللبس:
ومن أمثلة ذلك: ما أخرجه مسلم وغيره عن المغيرة بن شعبة قال: «بعثنى رسول الله ﷺ إلى نجران، فقالوا: أرأيت ما تقرءون يا أُخْتَ هارُونَ [مريم: ٢٨]، وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ، فقال: «ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم». (٣٨)

ثالثا: تخصيص العام:
ومثاله: أنه قد ورد فى القرآن تحريم الميتة والدم على العموم، ولكن السنة خصصت هذا العموم، حيث قال رسول الله ﷺ: «أحلت لنا ميتتان: السمك، والجراد، وأحل لنا دمان:
الكبد، والطحال» (٣٩).

رابعا: تقييد المطلق:
ومن أمثلته: قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ [النساء: ١١، ١٢] فقد وردت الوصية هنا مطلقة بدون تحديد، فقيدها الرسول ﷺ بالثلث، فى حديث سعد ابن أبى وقاص حيث جاء فيه: «قلت:
يا رسول الله، أوصى بمالى كله؟ قال: لا، قلت: فالشطر؟ قال: لا، قلت: فالثلث؟ قال:
فالثلث والثلث كثير» (٤٠).
(٣٧) تفسير ابن جرير: ١/ ٣٤ معارف.
(٣٨) مسلم: كتاب الآداب، باب (٩).
(٣٩) أبو داود: كتاب الأطعمة، باب (٣٤)، وسنن ابن ماجة: كتاب الأطعمة، باب (٣١)، طبعة/ دار الفكر العربى.
(٤٠) البخارى: كتاب الوصايا، باب (٢).
 
١ ‏/ ٢٦١
 
قال ابن حجر عن هذا الحديث: «فيه تقييد مطلق القرآن بالسنة». (٤١)

خامسا: بيانه ﷺ أن المنطوق لا مفهوم له:
ويظهر هذا إذا كان فى الآية قيد لم يقصد به الاحتراز، وإنما خرج مخرج الغالب.
ومن أمثلة ذلك: قيد السفر فى الرهان المقبوضة، فى قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِبًا فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة: ٢٨٣] قال الشوكانى: «قال أهل العلم: الرهن فى السفر ثابت بنص التنزيل، وفى الحضر بفعل رسول الله ﷺ، كما فى الصحيح، أنه ﷺ رهن درعا له عند يهودى». (٤٢)

سادسا: توضيح المبهم:
وذلك يتناول أشياء كثيرة، منها:
١ - تعيين أشخاص.
٢ - تعيين جماعات أو أقوال.
٣ - تعيين أماكن.
٤ - تعيين أوقات.
٥ - تعيين أعمال.
٦ - تعيين أشجار.
٧ - تعيين أقوال.
٨ - تعيين مواقف.
٩ - تعيين كيفية من الكيفيات.
١٠ - تعيين مسافة من المسافات.
١١ - تعيين معيشة من المعيشات.
١٢ - تعيين صلاة من الصلوات.
١٣ - تعليل تسمية من التسميات.
ولنضرب لذلك بعضا من الأمثلة، لبعض هذه الأنواع: (٤٣)
١ - فى تعيين أقوام: عن عدى بن حاتم قال: قال رسول الله ﷺ: «إن المغضوب عليهم هم اليهود، وإن الضالين هم النصارى». (٤٤)
٢ - فى تعيين أماكن: عن أنس- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: «الكوثر نهر، أعطانيه ربى- ﷿ فى الجنة». (٤٥)
٣ - فى تعيين أعمال: عن أم هانئ- رضى الله عنها- عن النبى ﷺ فى قوله تعالى: وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [العنكبوت: ٢٩] قال: «كانوا يحذفون أهل الطريق، ويسخرون منهم». (٤٦)
٤ - فى تعيين أشجار: عن أنس- رضى الله عنه- عن رسول الله ﷺ فى قوله تعالى:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ [إبراهيم: ٢٤] قال: «هى «النخلة» وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ [إبراهيم: ٢٦] قال: «هى الحنظل» (٤٧).
(٤١) فتح البارى: ٥/ ٤٣٤، طبعة/ الريان.
(٤٢) فتح القدير للشوكانى: ١/ ٣٣٥، طبعة/ دار الخير، والحديث فى صحيح البخارى كتاب الجهاد باب (٨٩) وفى كتاب المغازى، باب (٨٦).
(٤٣) انظر فى تفصيل تلك الأنواع: التفسير بالمأثور: للدكتور جمال مصطفى النجار: ١١٧ وما بعدها، طبعة/ الحسين الإسلامية.
(٤٤) مسند أحمد: ٤/ ٣٧٨، وسنن الترمذى: كتاب التفسير، تفسير الفاتحة.
(٤٥) صحيح مسلم: كتاب الصلاة، باب (٥٣، ٥٤).
(٤٦) سنن الترمذى: كتاب التفسير، تفسير سورة العنكبوت.
(٤٧) المصدر السابق فى تفسير سورة إبراهيم.
 
١ ‏/ ٢٦٢
 
٥ - فى تعيين أقوال: عن أبى بن كعب- رضى الله عنه- أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: «وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى [الفتح:
٢٦] قال: لا إله إلا الله». (٤٨)
٦ - فى تعيين مواقف: عن أبى هريرة ﵁ عن النبى ﷺ فى قوله: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا [الإسراء: ٧٩] قال: «هو المقام الذى أشفع لأمتى فيه». (٤٩)
٧ - فى تعيين مسافة: عن أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه- عن النبى ﷺ فى قوله تعالى: وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ [الواقعة:
٣٤] قال: «ارتفاعها كما بين السماء والأرض، ومسيرة ما بينهما خمسمائة عام». (٥٠)
٨ - فى تعيين صلاة: قال ﷺ: «الصلاة الوسطى صلاة العصر» (٥١).

سابعا: بيان المراد من لفظ أو ما يتعلق به:
ومن أمثلة ذلك: قوله ﷺ فى قوله تعالى:
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة: ١٤٣] قال: «عدلا». (٥٢)

ثامنا: التأكيد لما جاء فى القرآن:
ومن أمثلة ذلك: قوله ﷺ فى قصة موسى والخضر: «كانت الأولى من موسى نسيانا، والوسطى شرطا، والثالثة عمدا» (٥٣). فهذا تأكيد لما حدث بالفعل من موسى، كما أخبر القرآن الكريم.

تاسعا: بيان أحكام لم يرد ذكرها فى القرآن:
وهذا من قبيل: ما جاء فى قوله تعالى:
وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: ٧]، ومن أمثلة ذلك:
(أ) تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، أو بينها وبين خالتها.
(ب) ميراث الجدة.
(ج) الحكم بشاهد ويمين.
(د) صدقة الفطر.
(هـ) أحكام الشّفعة.
(و) تحريم كل ذى ناب من السباع، وكل ذى مخلب من الطيور، والحمر الأهلية.
(ز) حرمان الكافر من ميراث قريبه المسلم، وكذلك حرمان القاتل والرقيق.

١٠ - تفسير الصحابة:
أقوال الصحابة فى التفسير هى المصدر الثالث من مصادر التفسير بالمأثور، بعد القرآن الكريم، والتفسير النبوى، كما سبق
(٤٨) المصدر السابق فى تفسير سورة الفتح.
(٤٩) مسند أحمد: ٢/ ٤٤١.
(٥٠) سنن الترمذى: كتاب التفسير، تفسير سورة الواقعة.
(٥١) مسند أحمد: ٥/ ١٢، والترمذى: فى كتاب التفسير، تفسير سورة البقرة الآية: ٢٣٨.
(٥٢) سنن الترمذى، كتاب التفسير، باب تفسير سورة البقرة.
(٥٣) البخارى، كتاب التفسير، تفسير سورة الكهف.
 
١ ‏/ ٢٦٣
 
ذكره؛ لأن علمهم مقدم على علم كل من أتى بعدهم.

مقومات اجتهاد الصحابة فى التفسير:
والصحابة حينما كانوا يفسرون، فإنما كان ذلك لارتكازهم على عدة مقومات، أبرزها ما يلى:
١ - قوة حافظتهم، ودقة فهمهم.
٢ - وقوفهم على مفردات اللغة وتراكيبها، ومعرفتهم أساليبها ومراميها، وبلوغهم قمة الفصاحة، وسنام البلاغة.
٣ - معرفتهم لعادات العرب وطبائعها.

سمات تفسير الصحابة:
اتسم تفسير الصحابة للقرآن بعدة سمات، من أهمها ما يأتى:
١ - كانوا يكتفون فى الغالب الأعم بمدلول الآية العام، أو المراد منها باختصار، دون التطرق إلى تفاصيل ليسوا فى حاجة إليها، أو التقعر فى أمور بعيدة الصلة عن الآية.
٢ - البعد عن الإسرائيليات، حتى يظل للإسلام نبعه الصافى.
٣ - قلة الاختلاف بينهم فى التفسير، ومعظم اختلافهم كان اختلاف عبارة، ومن الممكن الجمع بين أقوالهم فيه.
٤ - عدم تطويع الآيات لمذهب معين، لأن تشتت الأمة وتمذهبها بمذاهب دينية وسياسية متعددة لم يحدث إلا بعد عصرهم.
٥ - كان غالب التفسير فى عهدهم شفهيا، فلم يدون منه إلا القليل، على أيدى نفر من الصحابة، على هوامش مصاحفهم، أو فى صحيفة خاصة بصاحبها.
٦ - عدم الاهتمام بذكر السند، لأن الصحابة عدول، وما وقع من تشدد فى بعض الوقائع فإنما كان لزيادة التثبت، وليس للشك فى أحدهم.
٧ - لم يرو عن الصحابة تفسير كامل للقرآن، لعدم اقتضاء ما يوجب ذلك.

مدى حجية تفسير الصحابة:
اتفق العلماء على أن تفسير الصحابى يأخذ حكم الحديث المرفوع إذا:
١ - شهد الصحابى الوحى والتنزيل.
٢ - وكان كلامه فيما لا مجال للرأى والاجتهاد فيه، كالحديث عن أسباب النزول، أو عن مشاهد يوم القيامة، والجنة والنار، والملأ الأعلى، ونحو ذلك.
٣ - وكان الصحابى غير معروف بالأخذ عن ثقافة بنى إسرائيل.
٤ - وصح السند إلى هذا الصحابى.
 
١ ‏/ ٢٦٤
 
مثال ذلك: ما أخرجه البخارى وغيره عن جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما- أنه قال: «كانت اليهود تقول: من أتى امرأته من دبرها فى قبلها جاء الولد أحول، فأنزل الله- ﷿: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ» (٥٤) [البقرة: ٢٢٣].

الموقوف على الصحابة:
أما الموقوف على الصحابة فقد اختلف العلماء فى حكم الأخذ به:
١ - فمنهم من قال: لا يجب الأخذ به، لأنهم فى اجتهادهم كسائر المجتهدين، الذين يصيبون ويخطئون، فكيف يجب تقليدهم؟
٢ - ومن العلماء من رأى ضرورة الأخذ بتفسيرهم، لأنهم عاشوا عصر تنزيل القرآن، وشاهدوا التفسير العملى له، من خلال حياة الرسول ﷺ، ولبلوغهم
قمة الفصاحة والبلاغة.
رأينا فى المسألة: ما ورد فى التفسير عن الصحابة لا يخلو من أحوال ثلاث:
١ - إما إجماع منهم.
٢ - وإما اختلاف بينهم.
٣ - وإما قول لا يعرف له مخالف أو موافق.
فإن أجمعوا على شىء؛ كان إجماعهم حجة، يجب الأخذ به، لأن إجماع الأمة فى أى وقت على أمر ما يجب الانقياد له، فكيف بإجماع أشرف قرن على الإطلاق، بخبر رسول الله ﷺ حيث قال: «خير الناس قرنى». (٥٥)
أما إذا اختلفوا، بحيث تعددت أقوالهم:
حاولنا أن نجمع بينها، لأن أغلب اختلافهم اختلاف تنوع وعبارة، وليس اختلاف تضاد، فإن لم يمكن الجمع اخترنا الراجح وفقا لضوابط الترجيح، ولا نخرج عن أقوالهم.
وإن كان فى الآية قول لصحابى، لم يعرف له مخالف ولا موافق، فالأحوط والأولى أن نأخذ به، لما امتازوا به من أمور لم تتوافر لغيرهم.
قال الشافعى- ﵀ عن الصحابة: (٥٦)
«أدوا إلينا سنن رسول الله ﷺ، وشاهدوه والوحى ينزل عليه، فعلموا ما أراد رسول الله
(٥٤) صحيح البخارى، كتاب التفسير، تفسير سورة البقرة، ومسلم فى كتاب النكاح، باب (١١٧، ١١٨).
(٥٥) البخارى، كتاب فضائل الصحابة، باب (١).
(٥٦) كما فى إعلام الموقعين: ١/ ٨٠، ط. دار الجيل.
 
١ ‏/ ٢٦٥
 
ﷺ، عاما وخاصا، وعزما وإرشادا، وعرفوا من سنته ما عرفنا وجهلنا، وهم فوقنا فى كل علم واجتهاد، وورع وعقل، وأمر استدرك به علم، واستنبط به، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا، ومن أدركنا ممن يرضى، أو حكى لنا عنه ببلدنا، صاروا- فيما لم يعلموا لرسول الله ﷺ فيه سنة- إلى قولهم إن اجتمعوا، أو قول بعضهم إن تفرقوا، وهكذا نقول، ولم نخرج عن أقاويلهم، وإن قال أحدهم ولم يخالفه غيره، أخذنا بقوله».

المفسرون من الصحابة:
رغم الكثرة الكاثرة، والآلاف المؤلفة، من أصحاب رسول الله ﷺ، الذين عاصروا الوحى، وشاهدوا التنزيل، وأحاطوا بملابسات القرآن وأسباب نزوله، فإننا لم نر منهم من اشتهر بالتفسير إلا عددا قليلا، عدهم السيوطى فى إتقانه بأنهم عشرة.
حيث يقول ﵀: «اشتهر بالتفسير من الصحابة عشرة: الخلفاء الأربعة، وعبد الله بن عباس، وابن مسعود، وأبىّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعرى، وعبد الله بن الزبير، أما الخلفاء فأكثر من روى عنه منهم على بن أبى طالب، والرواية عن الثلاثة نزرة جدا، وكان السبب فى ذلك تقدم وفاتهم، كما أن ذلك هو السبب فى قلة رواية أبى بكر ﵁ للحديث، ولا أحفظ عن أبى بكر ﵁ فى التفسير إلا آثارا قليلة جدا، لا تكاد تجاوز العشرة». (٥٧)
وإذا كان هؤلاء العشرة هم الذين اشتهروا بالتفسير، فإن هناك من الصحابة من تكلم فى التفسير، ولكن ليس بدرجة هؤلاء العشرة، وعلى رأس هؤلاء: أبو هريرة، وعائشة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وجابر بن عبد الله.
بل إن هؤلاء العشرة لم يكونوا على درجة واحدة من التكلم فى التفسير، كما صرح السيوطى سابقا.
فإذا نظرنا إلى الخلفاء الأربعة، وجدنا الرواية عن أبى بكر وعمر وعثمان فى التفسير قليلة، ويرجع ذلك إلى عدة أسباب، أبرزها ما يلى:
١ - اشتغالهم بأمور الحكم ومصالح العباد، فى الداخل، وإرسال الجيوش فى الخارج.
٢ - لم يكن لمعاصريهم حاجة شديدة إلى التفسير، حيث كان هؤلاء المعاصرون عربا يتمتعون بالسليقة العربية، بالإضافة إلى وقوفهم على أسباب النزول.
٣ - تقدم وفاتهم، فلم يعمروا كثيرا كما عمّر غيرهم.
(٥٧) الإتقان: ٢/ ١٨٧.
 
١ ‏/ ٢٦٦
 
أما الخليفة الرابع، فالرواية عنه فى التفسير أكثر من الثلاثة السابقين، لما يأتى:
١ - لم يشتغل بأمور الخلافة، طيلة العهود الثلاثة السابقة.
٢ - اشتدت حاجة معاصريه لما عنده من التفسير، لاتساع الفتوحات الإسلامية، واعتناق كثير من الأعاجم دين الإسلام.
٣ - تأخر وفاته ﵁.
أما الستة الباقون، فمنهم ثلاثة مكثرون، وثلاثة دونهم فى الكثرة، أما المكثرون فعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وأبى بن كعب، وأما الثلاثة الأقل منهم تفسيرا، فهم زيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعرى، وعبد الله ابن الزبير.
وبناء على ما سبق: فإن هناك أربعة من العشرة فاقوا إخوانهم فى الكثرة لأسباب خاصة، هؤلاء الأربعة هم: علي بن أبى طالب، وعبد الله بن مسعود، وأبى بن كعب، وعبد الله ابن عباس، وإذا أردنا ترتيبهم من ناحية الكثرة فى الرواية بدأنا بعبد الله بن عباس، ثم بعبد الله بن مسعود، ثم على بن أبى طالب، ثم أبى بن كعب، رضى الله عنهم أجمعين.

١١ - تفسير التابعين:
التابعون: جمع تابع، ويقال له تابعى أيضا.
والتابعى- فى نظر بعضهم كالخطيب البغدادى والحافظ ابن كثير- من صحب الصحابى (٥٨)، وعلى ذلك: فلا يكتفى بمجرد رؤية الصحابى ولقائه، بل لا بد له من الصحبة.
وذهب أكثر أهل الحديث إلى عدم اشتراط الصحبة، والاكتفاء باللقى والرواية. وأيّا مّا كان الأمر فالمراد بالتابعين هنا: هم تلاميذ صحابة رسول الله ﷺ الذين تعلموا العلم على أيديهم، وعلموه المسلمين.

مقومات التفسير عند التابعين:
كان للتابعين عدة مقومات، ارتكزوا عليها فى تفسيرهم، على رأسها ما يلى:
١ - القرآن الكريم نفسه.
٢ - السنة النبوية.
٣ - أقوال الصحابة.
٤ - أقوال من أسلم من أهل الكتاب.
٥ - إجادتهم للغة العرب التى أتقنوها تمام الإتقان.
٦ - توافر أدوات الاجتهاد عندهم، حيث وقفوا على تلك العلوم الواجب توافرها، فيمن يتصدى لتفسير كتاب الله تعالى.

سمات تفسير التابعين:
وقد تميز تفسيرهم بعدة سمات، أبرزها ما يلى:
(٥٨) الكفاية فى علم الرواية، للخطيب البغدادى: ٤٨، طبعة/ دار الكتب الحديثة.
 
١ ‏/ ٢٦٧
 
١ - غلبة الطابع الشفهى للتفسير.
٢ - عدم ورود تفسير كامل للقرآن عنهم.
٣ - اتساع رقعة الاختلاف فى التفسير بينهم، ولكنه أقل مما حدث بعدهم.
٤ - احتشاد تفسير التابعين بالإسرائيليات، نتيجة لدخول عدد من أهل الكتاب فى الإسلام، وتوقان بعض المسلمين لسماع تفاصيل ما رأوه مجملا فى القصص القرآنى.
٥ - حمل تفسير التابعين نواة الاختلاف المذهبى، واصطبغ به، نتيجة لظهور الفرق الإسلامية على مسرح الأحداث بعد مقتل عثمان ﵁.

مدى حجية تفسير التابعين:
ذهب كثير من العلماء إلى ضرورة الأخذ بأقوال التابعين فى التفسير.
وحجتهم فى ذلك: أن التابعين تتلمذوا على أيدى الصحابة، وحفظوا القرآن على أيديهم، وعنهم أخذوا تفسيره، وعليهم أثنى الرسول ﷺ بقوله: «خير الناس قرنى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم». (٥٩)
وسعيد بن جبير مثلا، يقول عنه أستاذه ابن عباس لأهل الكوفة الذين جاءوا يستفتونه: «أليس فيكم ابن أم الدهماء؟ يعنى سعيد بن جبير» (٦٠).
وهذا مجاهد يقول: «عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة». (٦١)
أى لتمام ضبطه، وحسن قراءته وأدائه، ويقول أيضا: «عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه، وأسأله عنها». (٦٢)
وهذا عكرمة مولى ابن عباس يقول:
ما زلت أبين له- أى لأستاذه ابن عباس- نجاة من قالوا: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذابًا شَدِيدًا [الأعراف: ١٦٤]
عرف أنهم نجوا، فكسانى حلة». (٦٣)
وبينما يذهب كثير من العلماء إلى ضرورة الأخذ بتفسير التابعين، نرى بعضا آخر يرى عدم الأخذ به، وحجتهم فى ذلك:
١ - أن التابعين لم يسمعوا من رسول الله ﷺ حتى يمكن حمل ما قالوه على سماعهم منه ﷺ، كما قيل عن تفسير الصحابى.
٢ - أن التابعين لم يشاهدوا الوحى والتنزيل، ولم يعايشوا ملابسات القرآن، مثل الصحابة، فتفسيرهم عرضة للخطأ.
٣ - عدالة التابعين غير ثابتة، كما ثبتت عدالة الصحابة، بالكتاب والسنة.
والذى نميل إليه:
(٥٩) البخارى: كتاب فضائل الصحابة، باب (١).
(٦٠) تهذيب التهذيب: ٤/ ١٢، طبعة/ دار الفكر.
(٦١) ميزان الاعتدال: ٣/ ٩، طبعة/ عيسى الحلبى.
(٦٢) تفسير الطبرى: ١/ ٩٠ ط./ المعارف.
(٦٣) تهذيب التهذيب: ٧/ ٢٦٥.
 
١ ‏/ ٢٦٨
 
١ - أن التابعين إذا أجمعوا على شىء كان إجماعهم حجة، ويجب الأخذ بقولهم، لأن الإجماع لا بدّ وأن يستند إلى دليل شرعى، ولا تجتمع الأمة على ضلالة.
٢ - أما إذا اختلفوا فلا يكون قولهم حجة.
٣ - فإن قال أحدهم بتفسير، ولم يأت تفسير غيره:
(أ) فإن كان مما لا مجال فيه للرأى والاجتهاد، ولم يعلم عن هذا التابعى أخذ عن ثقافة أهل الكتاب، فالأخذ به أولى من تركه، لاحتمال أن يكون سمعه من صحابى، أخذه هو
الآخر بدوره من رسول الله ﷺ.
(ب) أما إذا كان فيه مجال للرأى والاجتهاد، فنحن مخيرون بين قبوله ورده.

المفسرون من التابعين:
ولقد شهد جيل التابعين عددا عظيما من المفسرين، نذكر منهم: سعيد بن جبير، ومجاهد بن جبر، وعكرمة البربرى، وعطاء ابن أبى رباح، وطاوس بن كيسان، وعلقمة بن قيس، ومسروق بن الأجدع، وعبيدة بن عمرو، وعبيد بن نضيلة، والأسود بن يزيد، وأبا عبد الرحمن السلمى، وعامر الشعبى، والحسن البصرى، وقتادة بن دعامة، وأبا العالية، وسعيد بن المسيب، وزيد بن أسلم، وغيرهم ممن أسهم فى محيط التفسير بما لا يزال وسيظل- إن شاء الله- ثروة تفسيرية، ينتفع بها طلاب العلم ورواد الثقافة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فجزاهم الله خير الجزاء، ورضى عنهم فى الأولين والآخرين، وفى الملأ الأعلى إلى يوم الدين.

١٢ - اختلاف السلف فى التفسير:
قلنا سابقا: إن من سمات تفسير الصحابة قلة اختلافهم فيه، وهو وإن ازدادت رقعته بين التابعين إلا أنه إذا قيس باختلاف من بعدهم يعتبر قليلا، ويمكن أن نقول: إن الاختلاف بين السلف معظمه اختلاف تنوع فى العبارة، وليس اختلاف تضاد، ويمكن إرجاعه إلى الأسباب الآتية: (٦٤)
السبب الأول: تنوع الأسماء والصفات، بأن يعبر كل مفسر عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل على معنى فى المسمى، غير المعنى الآخر، مع اتحاد المسمى، مثل أسماء الله الحسنى، وأسماء رسول الله ﷺ، وأسماء القرآن.
فأسماء الله الحسنى كلها تدل على مسمى واحد، فليس دعاؤه باسم من أسمائه الحسنى مضادا لدعائه باسم آخر، قال تعالى: قُلِ
(٦٤) انظر فى ذلك مقدمة فى أصول التفسير لابن تيمية: ٣٨ - ٥٠، طبعة/ دار ابن حزم.
 
١ ‏/ ٢٦٩
 
ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الإسراء: ١١٠].
فكل اسم من أسماء المولى- ﷿ يدل على شيئين، على ذات الله- ﷿ وعلى الصفة التى تضمنها هذا الاسم، كالرحيم يدل على الله، ويدل على صفة الرحمة، والقدير يدل على الله، ويدل على صفة القدرة، وهكذا.
والأمر كذلك مع أسماء رسول الله ﷺ، وأسماء القرآن، فالرسول ﷺ له أسماء متعددة، كمحمد، وأحمد، والماحى، والحاشر، والعاقب، والقرآن له أسماء متعددة كذلك، مثل القرآن، والكتاب، والفرقان، والشفاء، والبرهان.
ومن أمثلة هذا النوع: اختلاف المفسرين فى معنى الصراط المستقيم، فقد قال بعضهم: هو القرآن، وقال بعضهم: هو الإسلام، وقال بعضهم: هو السنة والجماعة، وقال بعضهم: هو طريق العبودية، وقال آخرون، هو طاعة الله ورسوله، ولا تنافى بين جميع هذه الأقوال، لأنهم جميعا أشاروا إلى ذات واحدة، ولكن كل واحد منهم وصفها بصفة من صفاتها.
السبب الثانى: التعبير بالمثال، حيث يذكر كل واحد منهم من الاسم العام بعض أنواعه، لا على سبيل مطابقة الحد للمحدود، فى عمومه وخصوصه، ولكن على سبيل التمثيل، بتنبيه الإنسان على النوع، كسائل أعجمى سأل عن مسمى لفظ البرتقال، فأرى برتقالة، وقيل له: البرتقال هذا، فالإشارة هنا إلى النوع، لا إلى البرتقالة وحدها.
مثال ذلك: قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فاطر: ٣٢].
فالمعروف أن الظالم لنفسه هو الذى ترك المأمورات، وارتكب المحظورات، وأن المقتصد هو الذى اقتصر على فعل المأمورات وترك المحظورات، وأما السابق فهو الذى زاد على أداء الواجبات فعل المستحبات، وزاد على ترك المحظورات توقى الشبهات، ولكن المفسرين اختلفت عباراتهم فى تفسيرها، فقد قال بعضهم: السابق الذى يصلى فى أول الوقت، والمقتصد الذى يصلى فى أثنائه، والظالم لنفسه الذى يؤخر العصر إلى الاصفرار.
وقال بعضهم: الظالم آكل الربا، أو مانع الزكاة، والمقتصد الذى يؤدى الزكاة المفروضة، ولا يأكل الربا، والسابق المحسن بأداء المستحبات مع الواجبات، إلى غير ذلك من عباراتهم.
 
١ ‏/ ٢٧٠
 
فكل نوع من هذه الأنواع التى ذكروها داخل تحت الآية، وأنه أريد به التنبيه على مثيله، لأن التعريف بالمثال قد يكون فى بعض الأحوال أفضل من التعريف بالحد المطابق.
السبب الثالث: ما كان الاختلاف فيه راجعا إلى احتمال أمرين أو أكثر، كلفظ «قسورة»، فيحتمل أن يراد به الرامى، ويحتمل أن يراد به الأسد، ونحو ذلك من الألفاظ المشتركة، التى اتحد لفظها واختلف معناها، كلفظ اليمين، يطلق على اليد، وعلى القوة، وعلى القسم، وكلفظ العين، يطلق على البئر، وعلى الباصرة، وعلى الجاسوس، ونحوها.
السبب الرابع: التفسير بألفاظ متقاربة، لا مترادفة.
فقد يعبر المفسر عن اللفظ بلفظ قريب، لا بلفظ مرادف له، لأن الترادف فى لغة العرب قليل، وقد يندر وجوده فى القرآن، أو ربما ينعدم.
ومثال ذلك: ما ذكره المفسرون فى قوله تعالى: وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ [الأنعام: ٧٠]، فقد فسر بعضهم قوله: (تبسل) بمعنى تحبس، وقال بعضهم:
ترتهن، وليس هناك تضاد بين القولين، فإن المحبوس قد يكون مرتهنا، وقد لا يكون، فالمفسر حين يفسر إنما يريد تقريب المعنى.

اختلاف التضاد:
هذا عن اختلاف التنوع، الذى يوجد بكثرة فى أقوال السلف، فإن معظم اختلافهم يندرج تحته، أما اختلاف التضاد، وهو ما كانت العبارات فيه متعارضة، بحيث إذا أخذ بأحد الأقوال لا يؤخذ بغيره، فهو قليل بين السلف.
ومثال ذلك: تعيين الصلاة الوسطى، فقد قيل فيها أقوال متعددة شملت الصلوات كلها.
فما موقفنا تجاه تلك الأقوال؟ وكيف نرجح قولا على ما عداه؟
هذا ما سوف نجيب عنه- إن شاء الله- فى موضوع الترجيحات فى التفسير.

١٣ - التفسير بالرأى:
التفسير بالرأى قسيم التفسير بالمأثور، ولكن علام يطلق الرأى؟ وما المراد بالتفسير بالرأى؟
يطلق الرأى على المعانى الآتية:
١ - على الاعتقاد، يقال: هذا رأيى فى كذا، أى اعتقادى فيه.
٢ - وعلى الاجتهاد.
٣ - وعلى القياس، والمحدّثون يسمون أصحاب القياس أصحاب الرأى. (٦٥)
ولكن العلماء خصوه- كما يقول ابن القيم
(٦٥) انظر فى ذلك: القاموس المحيط ولسان العرب (رأى)، وتفسير ابن جرير الطبرى:/ ٨، ٣٥، ط/ المعارف.
 
١ ‏/ ٢٧١
 
﵀: «بما يراه القلب بعد فكر وتأمل، وطلب لمعرفة وجه الصواب، مما تتعارض فيه الأمارات، فلا يقال لمن رأى بقلبه أمرا غائبا عنه مما يحس به إنه رأيه، ولا يقال أيضا للأمر المعقول الذى لا تختلف فيه العقول، ولا تتعارض فيه الأمارات إنه رأى، وإن احتاج إلى فكر وتأمل، كدقائق الحساب ونحوها». (٦٦)

معنى التفسير بالرأى:
والتفسير بالرأى يراد به: بيان معانى الآيات القرآنية، بغير المأثور، من القرآن، أو السنة، أو أقوال الصحابة والتابعين.

التفسير بالرأى قسمان:
المفسر بغير المأثور إن توافرت فيه شروط التفسير وضوابطه، كان تفسيره محمودا، وإلا كان مذموما.
فالتفسير بالرأى المحمود هو: ذلك التفسير الذى أعمل فيه المفسر عقله، للوصول إلى مراد الله- تعالى- بقدر الطاقة البشرية، مستعينا فى ذلك بكل الأدوات والشروط والعلوم الواجب توافرها فى مجال التفسير، على نحو ما بيناه سابقا، وما سنبينه أكثر لاحقا- إن شاء الله- أثناء حديثنا عن ضوابط سلامة التفسير.
أما التفسير بالرأى المذموم: فهو ما خالف فيه المفسر تلك الشروط، ولم يكن ملما بتلك الأدوات، أو لم يراع تلك الضوابط.

اختلاف العلماء فى جواز التفسير بالرأى المحمود:
اتفق علماء الأمة سلفا وخلفا على منع التفسير بالرأى المذموم، أما التفسير بالرأى المحمود، فقد اختلفوا فى جوازه- اختلافا حقيقيا لا لفظيا كما فهم بعض الباحثين وبعض المؤلفين- إلى فريقين: فريق يمنعه منعا باتا، مهما كان المفسر ملما بعلوم الأولين والآخرين، ومتوافرا فيه شروط وأدوات التفسير، وفريق يرى جوازه لمن توافرت فيه تلك العلوم والشروط والأدوات، يقول الراغب الأصفهانى: «اختلف الناس فى تفسير القرآن، هل يجوز لكل ذى علم الخوض فيه؟
فبعض تشدد فى ذلك وقال: لا يجوز لأحد تفسير شىء من القرآن، وإن كان عالما أديبا متسعا فى معرفة الأدلة، والفقه، والنحو، والأخبار والآثار، وإنما له أن ينتهى إلى ما روى له عن النبى ﷺ، وعن الذين شهدوا التنزيل، من الصحابة- رضى الله عنهم- أو عن الذين أخذوا عنهم من التابعين، وذكر آخرون أن من كان ذا أدب وسيع فموسع له أن يفسره، فالعقلاء والأدباء فوضى (٦٧) فى معرفة الأغراض». (٦٨)
(٦٦) إعلام الموقعين ١/ ٦٦.
(٦٧) أى شركاء، كما فى لسان العرب (فوض)، طبعة/ دار القلم.
(٦٨) مقدمة جامع التفاسير للأصفهانى: ٩٣، طبعة/ دار الدعوة.
 
١ ‏/ ٢٧٢
 
وللسيوطى فى إتقانه عبارة تحمل معنى ما قاله الراغب بالتمام. (٦٩)
وإنما قلنا: إن الخلاف بين الرأيين حقيقى لا لفظى، لعدة اعتبارات، على رأسها ما يأتى:
١ - العبارتان الصريحتان لكل من الراغب الأصفهانى، والحافظ السيوطى فى ذلك، واللتان تنصان صراحة على أن المانعين أرادوا منع أى تفسير بغير المأثور، بصرف النظر عن كونه بالرأى المحمود أو بالرأى المذموم.
٢ - أدلة المانعين، وردود المجيزين تفيد التعميم، وسيتضح ذلك التعميم من خلال ما يأتى:

أدلة المانعين ومناقشتها:
استدل المانعون لتفسير القرآن بغير المأثور- ولو مع توافر كل الشروط والأدوات والعلوم- بأدلة من القرآن والسنة، وآثار عن الصحابة والتابعين.

الأدلة من القرآن:
١ - استدلوا بقوله تعالى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ [الأعراف: ٣٣].
حيث قالوا: إن القول على الله بغير علم محرم؛ لأنه فى الآية معطوف على محرم، والتفسير بالرأى قول على الله بغير علم، فيكون محرما.
ويرد على هذا الاستدلال: بأن التفسير بالرأى المحمود ليس قولا على الله بغير علم، وإنما هو إدراك الطرف الراجح، باستخدام العلوم التى يحتاج إليها المفسر بعد انعدام العلم اليقينى، فالقول بغلبة الظن حينئذ يكفى، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها [البقرة: ٢٨٦] بل إن المجتهد حينئذ مأجور، حتى لو لم يحالفه التوفيق، كما صح فى الحديث.
٢ - واستدل المانعون أيضا بقوله تعالى:
وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:
٣٦] حيث قالوا: التفسير بالرأى قول بغير علم، فيكون منهيا عنه.
ويرد عليهم فى ذلك بما رددنا عليهم فى استدلالهم السابق.
٣ - كما استدلوا بقوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: ٤٤]، حيث قالوا: إنه ليس لغير النبى ﷺ أن يتكلم فى شىء من معانى القرآن، لأن النبى هو المبين له.
ويرد عليهم فى ذلك: بأن الآية ليس فيها
(٦٩) انظر الإتقان: ٢/ ١٨٠.
 
١ ‏/ ٢٧٣
 
قصر البيان عليه ﷺ، لأنه كان مأمورا ببيان ما خفى عليهم، أو اختلفوا فى فهمه، كما نصت الآية ٦٤ من السورة ذاتها، حيث يقول تعالى: وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، وأما ما كان واضحا فى عصره ﷺ، فلم يكن مأمورا ببيانه، ولكن لما اتسعت الفتوحات الإسلامية، ودخل العجم فى دين الله، وبعد الناس عن عهد النبوة، وفشا الجهل فيهم بلغة العرب، وأسباب النزول، وملابسات القرآن احتاجوا إلى بيان، حيث لم يكفهم ما نقل من طريق السماع.

أدلة المانعين من السنة:
استدل المانعون بحديثين عن رسول الله ﷺ:
١ - الحديث الأول: رواه الترمذى عن ابن عباس- رضى الله عنهما- أن رسول الله ﷺ قال: «اتقوا الحديث عنى إلا ما علمتم، فمن كذب علىّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، ومن قال فى القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار». (٧٠)
٢ - الحديث الثانى: أخرجه الترمذى وأبو داود عن جندب أنه قال: قال رسول الله ﷺ: «من قال فى القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ». (٧١)
وهذان الحديثان لا يدلان فى الواقع على المنع، لا سندا ولا متنا.
أما سند الأول منهما، ففيه عبد الأعلى ابن عامر الثعلبى، والترمذى وإن حسن له إلا أن العلماء ضعفوه، كما نقل الحافظ ابن حجر عنهم فى تهذيبه أثناء ترجمته له. (٧٢)
أما سند الحديث الثانى، فهو ضعيف أيضا، لوجود سهيل بن أبى حازم القطعى فيه، وقد ضعفه العلماء، كما نقل عنهم الذهبى فى ميزانه، وابن حجر فى تهذيبه. (٧٣)
أما من ناحية المتن: فإن المراد بالرأى فى هذين الحديثين لا يخرج عن الصور الآتية:
١ - الرأى القائم على غير علم، بأن صدر من شخص لم تتوافر فيه شروط المفسر، ولا ضوابط التفسير، ويدل لصحة هذا التوجيه ما أخرجه ابن جرير الطبرى من طريق سعيد ابن جبير عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال: «من قال فى القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار». (٧٤)
٢ - أو أن المراد من الرأى: الخوض فيما استأثر الله- تعالى- بعلمه، وجعله من المتشابه الذى لا يعلمه إلا هو، كالروح ونحو ذلك.
٣ - أو أن المراد من الرأى: الرأى الذى يجعل المذهب أصلا ومتبوعا، والتفسير فرعا وتابعا، كما يفعله مفسرو الفرق المبتدعة.
(٧٠) سنن الترمذى: كتاب التفسير، باب (١).
(٧١) الترمذى فى الموضع السابق، وأبو داود فى كتاب العلم، باب (٥).
(٧٢) تهذيب التهذيب: ٥/ ٤، ط/ دار الفكر.
(٧٣) ميزان الاعتدال: ١/ ٤٣٢، وتهذيب التهذيب ٤/ ٢٦١.
(٧٤) تفسير ابن جرير: ١/ ٧٨ - ط/ المعارف.
 
١ ‏/ ٢٧٤
 
٤ - أو أن المراد من الرأى: الهوى والاستحسان، كما يفعله بعض الوعاظ، حينما يقصدون أغراضا صحيحة، فيلجئون إلى آراء خاصة، ترغيبا وترهيبا للمستمع.
٥ - أو أن المراد من الرأى: الرأى القائم على ترك المأثور، والأخذ بظاهر العربية، فإن الأخذ بظاهر العربية فقط لا يكفى، بل لا بد من الاعتقاد على المأثور أولا.

أ دلة المانعين من آثار الصحابة والتابعين:
كما استدل المانعون بآثار عن الصحابة والتابعين، منها:
١ - قول أبى بكر ﵁: «أى أرض تقلنى، وأى سماء تظلنى إن قلت فى آية من كتاب الله برأيى، أو بما لا أعلم». (٧٥)
٢ - وعن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: «إنما هو كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، فمن قال بعد ذلك برأيه فما أدرى أفى حسناته يجد ذلك، أم فى سيئاته».؟ (٧٦)
ويمكن أن يرد على هذه الآثار وما شاكلها بما يأتى:
أوّلا: إن امتناع السلف عن التفسير إنما كان فيما لا علم لهم به، أما ما كانوا يعلمونه فكانوا يقولون به ولا يكتمونه، وإلا لكانوا من الذين يكتمون العلم، والذين هددهم الله ورسوله ﷺ بالعذاب الأليم.
والدليل على ذلك:
(أ) أن كتب الحديث والتفسير مملوءة بتفاسير صحيحة عنهم.
(ب) وبدليل أن الروايات الواردة عنهم فى ذم التفسير بالرأى تنص على أن المراد التفسير بغير علم، كما جاء عن أبى بكر وغيره قوله: «بما لا علم لى».
ثانيا: أو أن امتناع من امتنع منهم كان على سبيل التورع والاحتياط، خوفا من عدم إصابة قول الحق.
ثالثا: أو أن امتناع من امتنع إنما كان لعدم وجوب ذلك عليهم، نظرا لوجود آخرين يسدون مسده، كما كانوا يفعلون مع من يطلق امرأته ثلاثا، كل منهم يدفعه للآخر.
وبناء عليه: فإن ما استدل به المانعون لا يدل لهم بحال من الأحوال.

القائلون بالجواز:
أما القائلون بجواز التفسير بالرأى المتوافر له شروطه، فقد استدلوا لصحة مذهبهم بأدلة من القرآن والسنة، وآثار عن السلف الصالح، وبأدلة عقلية.
(٧٥) الموضع السابق.
(٧٦) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر: ٢/ ١٣٦، طبعة المنيرية.
 
١ ‏/ ٢٧٥
 
فمن الأدلة القرآنية:
١ - تلك الآيات التى تدعو إلى التدبر والتذكر، كقوله تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء: ٨٢، ومحمد: ٢٤]، فقد دلت هذه الآية وأمثالها على أن تفسير ما لم يستأثر الله- تعالى- بعلمه ليس محظورا على العلماء، وأهل الفكر والنظر.
٢ - تلك الآيات التى تدل على أن فى القرآن ما يستنبطه أولو العلم باجتهادهم، مثل قوله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: ٨٣].
قال الغزالى: «فأثبت لأهل العلم استنباطا، ومعلوم أنه وراء السماع». (٧٧)

ومن الأدلة النبوية:
دعاء النبى ﷺ لابن عباس بقوله: «اللهم فقهه فى الدين وعلمه التأويل». (٧٨)
قال الغزالى معقبا على هذا الدعاء: «فإن كان التأويل مسموعا كالتنزيل، ومحفوظا مثله، فما معنى تخصيصه بذلك؟». (٧٩)

ومن آثار السلف:
قول أبى بكر فى الكلالة: «أقول فيها برأيى» (٨٠). وقول مجاهد: «عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه، وأسأله عنها». (٨١)

ومن الأدلة العقلية على الجواز:
١ - اختلاف الصحابة فى التفسير، فلو كان التفسير بالرأى ممنوعا عليهم، ومقصورا على رسول الله ﷺ لما تجرءوا على التفسير، ولما حدث بينهم هذا الاختلاف.
٢ - لو منع التفسير بالرأى لمنع الاجتهاد فى الدين، ولو منع الاجتهاد فى الدين لتعطل كثير من الأحكام، ولوقع الناس فى حرج عظيم، لكن التالى باطل لقوله تعالى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:
٧٨]، فما أدى إليه وهو منع التفسير بالرأى باطل، خاصة أن الرسول ﷺ مات ولم يتعرض لتفسير كل الآيات القرآنية، ولم يؤثر عنه استنباط لكل الأحكام الفقهية التى يمكن أن تشملها الآية.

الرأى الراجح:
من عرضنا لأدلة المانعين، وردودنا عليها، ولأدلة المجيزين ووضوحها ودلالتها على الجواز، يترجح لدينا جواز التفسير بالرأى، إذا توافرت فى المفسر الشروط الواجب توافرها فى هذا المجال.
(٧٧) إحياء علوم الدين: ١/ ٢٩٠.
(٧٨) مسند أحمد ١/ ٢٦٦.
(٧٩) الإحياء: ١/ ٢٩٠.
(٨٠) تفسير ابن جرير: ٨/ ٥٣، ط/ المعارف.
(٨١) تفسير ابن جرير: ١/ ٩٠، ط./ المعارف.
 
١ ‏/ ٢٧٦
 
اختلاف مشارب العلماء فى التفسير بالرأى:
نتيجة لتنوع البشر فى ميولهم واتجاهاتهم، وكذلك اختلاف صبغتهم واهتماماتهم، فقد رأينا المفسرين بالرأى يتجهون بتفاسيرهم اتجاهات شتى، ولا يمكن لاتجاه من هذه الاتجاهات المحمودة أن يستغنى عنه باتجاه آخر.
فمنهم من غلبت عليه الناحية الفقهية، ومنهم من طغت عليه النزعة الصوفية، ومنهم من انغمس فى الآراء الفلسفية، ومنهم من كان جلّ اهتمامه النواحى العقلية والكونية، ومنهم من ألبس تفسيره ثوب ما يعرف بالنزعة العلمية، ومنهم من أضفى على تفسيره الصبغة الأدبية، ومنهم من آثر المسحة البلاغية، ومنهم من نظر إلى موضوع بذاته من موضوعات القرآن، تناثرت آياته فى ثناياه، ليخرج لنا بأحكام عامة، تمثل لنا منهج الله فى كل زاوية من زوايا هذه الحياة، ولهذا وجدنا أمامنا كما هائلا من التفاسير، فى المجال الفقهى والصوفى والبلاغى والأدبى والفلسفى، وغير ذلك، مما سوف نتعرض لبعضه قريبا- إن شاء الله.

أبرز المصنفات فى التفسير بالرأى المحمود:
١ - مفاتيح الغيب لفخر الدين الرازى.
٢ - أنوار التنزيل وأسرار التأويل، للقاضى عبد الله بن عمر البيضاوى.
٣ - مدارك التنزيل وحقائق التأويل، لأبى البركات عبد الله بن أحمد النسفى.
٤ - لباب التأويل فى معانى التنزيل، لعلاء الدين على بن محمد الخازن.
٥ - البحر المحيط، لمحمد بن يوسف، الشهير بأبى حيان.
٦ - غرائب القرآن ورغائب الفرقان، لنظام الدين بن الحسن النيسابورى.

ومن تفاسير الرأى المذموم، أو الفرق المبتدعة:
١ - تنزيه القرآن عن المطاعن، للقاضى عبد الجبار المعتزلى.
٢ - الكشاف، لأبى القاسم محمود بن عمر الزمخشرى، جار الله المعتزلى.
٣ - مجمع البيان لعلوم القرآن، لأبى على الفضل بن الحسن الطبرسى، الشيعى.

١٤ - تفاسير القرآن:
المتصفح لكتب التفاسير التى خلفها لنا علماء أمتنا الفضلاء، يرى تنوعا كبيرا بينها، بحيث يمكن تقسيمها إلى عدة أقسام، بالنظر إلى عدة اعتبارات، ونستطيع أن نرجع أهم تلك الأقسام إلى اعتبارات ثلاثة:
 
١ ‏/ ٢٧٧
 
١ - الاعتبار الأول: من حيث المصادر التى يستمد منها التفسير، وهو بهذا الاعتبار ينقسم إلى قسمين، تفسير بالمأثور، وتفسير بالرأى، ويدخل تحت التفسير بالرأى كل أنواع التفسير بالرأى المحمود، والمذموم، بسائر اتجاهاته الفقهية، والصوفية، والبلاغية، والأدبية، والموضوعية، والتحليلية، والإجمالية، والعلمية، وغير ذلك.
٢ - الاعتبار الثانى: من حيث التوسع والإيجاز فى التفسير، وهو بهذا الاعتبار ينقسم إلى قسمين، تفسير تحليلى، وتفسير إجمالى.
٣ - الاعتبار الثالث: من حيث عموم موضوعات التفسير، التى تقابل المفسر فى كل سورة، ومن حيث خصوص موضوع بعينه فى القرآن كله، وهو بهذا الاعتبار ينقسم إلى قسمين، تفسير عام، وتفسير موضوعى.
ولا شك فى أنه لا مانع أن يدرج تفسير معين، تحت أكثر من قسم من هذه الأقسام، باعتبارات مختلفة، لأن هذه الاعتبارات لم يراع فيها المقابلة، فلم تكن العلاقة بينها علاقة تناقض.

١٥ - التفسير التحليلى والإجمالى:
ينقسم التفسير من حيث التوسع فى بيان ألفاظ القرآن ومعانيه، وعدم التوسع فى ذلك إلى قسمين: تحليلى، وإجمالى.
أما التفسير التحليلى: فهو مأخوذ من الحل بمعنى: الفتح، ونقض المنعقد.
قال ابن منظور: «وحلّ العقدة يحلها حلا، فتحها ونقضها، فانحلت». (٨٢)
وهو فى الاصطلاح قريب من هذا المعنى اللغوى، حيث يراد به: بيان الآيات القرآنية بيانا مستفيضا من جميع نواحيها، بحيث يسير المفسر فى هذا البيان مع آيات السورة آية آية، شارحا مفرداتها، وموجها إعرابها، وموضحا معانى جملها، وما تهدف إليه تراكيبها من أسرار وأحكام، ومبينا أوجه المناسبات بين الآيات والسور، مستعينا فى ذلك بالآيات القرآنية الأخرى ذات الصلة، وبأسباب النزول، وبالأحاديث النبوية، وبما صح عن الصحابة والتابعين، وبغير ذلك من العلوم التى تعينه على فهم النص القرآنى وتوضيحه للقراء، مازجا ذلك بما يستنبطه عقله، وتمليه عليه نزعته.

المصنفات فيه:
لما كانت الاعتبارات مختلفة فى تقسيم التفاسير، فإنه من البدهى إمكان إدراج تفسير واحد تحت أكثر من قسم، بأكثر من اعتبار، فمثلا يمكن إدراج تفسير ابن جرير الطبرى ضمن كتب التفسير بالمأثور، وضمن
(٨٢) لسان العرب (حل).
 
١ ‏/ ٢٧٨
 
كتب التفسير التحليلى، ويمكن إدراج تفسير القرطبى ضمن كتب التفسير بالرأى، وضمن كتب التفسير التحليلى، وضمن كتب التفسير الفقهى وهكذا، لأن العلاقة بين كل اعتبار وآخر ليست قائمة على المقابلة أو التضاد، وبالتالى فإن معظم ما ذكرناه من كتب التفسير بالرأى يصح أن يكون نموذجا للمصنفات فى التفسير التحليلى.

التفسير الإجمالى:
أما التفسير الإجمالى فإنه فى الغالب يكون موجها للقاعدة العريضة من الناس، وبالتالى فلا يدخل المفسر فى التفاصيل الدقيقة، والمباحث المتخصصة.
وإنما يهتم ببيان المعنى العام باختصار، سائرا مع الآيات حسب ترتيبها فى المصحف الشريف، وهو- أى المفسر- كما يقول الدكتور أحمد السيد الكومى- ﵀: «إذ ينطق بعبارته التى صاغها من ألفاظه يأتى- بين الفينة والفينة- بلفظ من ألفاظ القرآن، حتى يشعر السامع أنه لم يكن بعيدا فى تعبيره عن سياق القرآن، ولا مجانبا لمجموع ألفاظه، وحتى يحقق التفسير من جانب، آخر، ويكون رابطا نفسه بنظم القرآن من جانب آخر، ويكون فى الموضع الذى يجانب فيه لفظ القرآن آتيا بلفظ أوضح عند السامعين، وأيسر فى الفهم عند المخاطبين» (٨٣)
والمفسر- فى سبيل ما تهدف إليه الجمل من معان، وما ترمى إليه من مقاصد- لا بدّ له من الاستعانة بما يحتاج إليه من آية أخرى، أو حديث نبوى، أو أثر صحيح عن السلف، أو بيت من أشعار العرب، أو حكمة مأثورة عن الحكماء والبلغاء.
هذا هو الغالب عند من يفسرون القرآن تفسيرا إجماليا، لأنهم يخاطبون به الجانب الأعظم من المسلمين، فلذلك لا يتعرضون لمعالجة الجزئيات والتفاصيل بصورة متخصصة، ولكننا وجدنا بعضا ممن كتب فى التفسير الإجمالى يتعرض لبعض المسائل التى لا يفهمها إلا المتخصصون، كما فعل الجلالان، جلال الدين المحلى، وجلال الدين السيوطى فى «تفسير الجلالين»، حيث تعرضا لأوجه الإعراب، ونبها على بعض القراءات، ونحو ذلك مما لا يفهمه إلا المتخصصون، ولا يدركه غيرهم.

أهم كتب التفسير الإجمالى:
معظم كتب هذا الاتجاه ظهرت فى العصر الحديث، ويأتى على رأسها التفاسير التالية:
(٨٣) التفسير الموضوعى، للدكتور أحمد الكومى: ٦، مذكرة مقررة على طلاب كلية أصول الدين.
 
١ ‏/ ٢٧٩
 
١ - المصحف المفسر، للأستاذ محمد فريد وجدى.
٢ - التفسير الوسيط، إصدار مجمع البحوث الإسلامية.
٣ - التفسير الحديث، لمحمد عزة دروزة.
٤ - التفسير الواضح، للدكتور محمد محمود حجازى.

١٦ - التفسير الفقهى:
ومن العلماء من اتجهت همته فى تفسير القرآن إلى تفسيره تفسيرا فقهيا.
والمقصود من هذا الاتجاه: الاعتناء بآيات الأحكام، واستنباط القواعد منها والأصول، واكتشاف الثروة التشريعية لبيان أحكام الله- تعالى- التى كلف عباده الامتثال لها، ومدى حاجة جميع الأزمنة والأمكنة إلى هذه الثروة التشريعية، ليضمنوا السعادة فى الدنيا، والفوز بالآخرة.
والتفسير الفقهى بدت جذوره واضحة منذ العهد النبوى على يدى رسول الله ﷺ، كبيانه ﷺ للخيط الأبيض والأسود بأنهما بياض النهار وسواد الليل، حين التبس الأمر على عدى بن حاتم، لما أحضر خيطين؛ أبيض وأسود، فلما توفى رسول الله ﷺ جدّت للصحابة أمور لم تقع من قبل، فاتجهت عقولهم لإيجاد الحكم الشرعى لها من القرآن، فإن وجدوا فيه الحكم أنزلوه على الحادثة، وإلا انتقلوا إلى السنة النبوية، فإن لم يجدوا فيها حكما أعملوا عقولهم، واجتهدوا بما عندهم من مقومات الاجتهاد، حتى يخرجوا بالحكم المناسب.
وظل الأمر هكذا فى عهد الصحابة وعهد التابعين إلى عهد أئمة المذاهب الأربعة وغيرها.
هذا العصر شهد أمورا وحوادث كثيرة لم يكن لها مثيل من قبل، فاجتهد هؤلاء الأئمة فى ضوء القرآن والسنة وغيرهما من مصادر التشريع، وقد ضرب لنا هؤلاء الأئمة المثل العليا فى التسامح وعدم التعصب لآرائهم.
فلما خلف جيل الأئمة جيل المقلدين، رأينا التعصب الأعمى على أشده، وكأن قول من قلدوه قرآن لا يقبل المناقشة، أو سنة قاطعة لا يجوز مخالفتها.
وإحقاقا للحق، وإنصافا لأهل الفضل، فقد وجدنا من هؤلاء المقلدين من كان عفيف اللسان، ودائرا مع الدليل حيث يدور.

المصنفات فى التفسير الفقهى:
قبل عصر التدوين لم نر مصنفات فى التفسير الفقهى، باستثناء مسائل متفرقة
 
١ ‏/ ٢٨٠
 
يرويها أصحاب الكتب المختلفة عن الصحابة والتابعين، أما بعد عصر التدوين، فقد وجدنا كثيرا من المصنفات فى ذلك، على اختلاف مذاهب العلماء الفقهية، ونستطيع أن نذكر أهم المصنفات فى التفسير الفقهى على النحو التالى:

أولا: من الأحناف:
١ - تفسير «أحكام القرآن»، لأبى بكر الرازى المعروف بالجصاص، والمتوفى سنة ٣٧٠ هـ.
٢ - تفسير «التفسيرات الأحمدية فى بيان الآيات الشرعية» لأحمد أبى سعيد المدعو ب (ملاجيون) من علماء القرن الحادى عشر الهجرى.

ثانيا: الشافعية:
١ - «أحكام القرآن»، للشافعى، من جمع أبى بكر البيهقى صاحب السنن.
٢ - تفسير «أحكام القرآن» للكيا الهراسى المتوفى سنة ٥٠٤ هـ.

ثالثا: المالكية:

١ - «أحكام القرآن» لابن العربى، المتوفى سنة ٥٤٣ هـ.
٢ - «الجامع لأحكام القرآن»، للإمام القرطبى المتوفى سنة ٦٧١ هـ.
هذه أهم المصنفات فى التفسير الفقهى لأئمة المذاهب من أهل السنة، أما الفرق الأخرى من الشيعة وغيرها فلها مؤلفات فى ذلك، ولكنها لا تخلو من التعصب الشديد، بحيث تؤول النصوص القرآنية تأويلا يخدم مبادئها، أو على الأقل لا تتعارض معها، بما يخرج فى النهاية بالألفاظ القرآنية عن معانيها ومدلولاتها.

١٧ - التفسير البلاغى:
ومن اتجاهات المفسرين للقرآن الكريم، الاتجاه البلاغى، حيث قصد أصحابه بيان إعجاز القرآن للناس جميعا فى هذه الناحية، فإذا كان العرب قد اشتهروا بتباريهم فى
الفصاحة، وتسابقهم فى البلاغة، وإذا كانوا قد جعلوا للكلام مملكة بدون ملك، فإنهم حينما جاءهم القرآن وجدوا فيه ذلك الملك الذى ينصاعون لنظامه، ويحتكمون لبيانه، فما فتئ إلا وقد ملك قلوبهم، وبهر عقولهم، فانحنت هذه العقول لفصاحته راكعة، وخرت تلك القلوب لبلاغته ساجدة.
والتفاسير جميعها تكاد لا تخلو من الاعتناء بهذه الناحية البلاغية، ولكن هناك تفاسير فاقت غيرها فيها، ويأتى على رأسها:
 
١ ‏/ ٢٨١
 
١ - «تفسير الكشاف»، لمحمود بن عمر الخوارزمى، المعتزلى، الملقب بجار الله الزمخشرى، وهذا التفسير- بصرف النظر عما فيه من اعتزاليات- أبرز بلاغة القرآن، من معان وبيان، بما يتضح لكل منصف كيف فاقت بلاغة القرآن كل بلاغة، وكيف أن القرآن صار للعرب معجم بلاغتهم، فما من نوع راق من أنواع البلاغة إلا رأوه قد جنح فيه إلى الوضع والتأصيل، وحينما قارنوا بينه وبين أسمى ما نطق به أعظم بلغائهم، وجدوا الفرق بين البلاغتين كالفرق بين النابغ والمقلد، وإن دققت قلت: كالفرق بين الخالق والمخلوق.
٢ - ومن التفاسير البلاغية أيضا: تفسير «أنوار التنزيل، وأسرار التأويل» للقاضى البيضاوى.
ومع أنه اختصر تفسيره من الكشاف، إلا أنه أعمل فيه عقله، وضمنه نكتا بارعة، ولطائف رائعة، واستنباطات دقيقة.
٣ - ومن هذه التفاسير البلاغية أيضا:
تفسير «إرشاد العقل السليم، إلى مزايا الكتاب الكريم»، لأبى السعود محمد بن محمد بن مصطفى العماد الحنفى.
وقد اهتم أبو السعود فى تفسيره هذا بإبراز النواحى البلاغية للقرآن، حيث كشف لنا عن أسرار التقديم والتأخير، والإيجاز والإطناب، والفصل والوقف، والتعبير بلفظ دون آخر، واستنباط المعانى الدقيقة المستورة فى خبايا المفردات والتراكيب، وغير ذلك من أسرار علوم البلاغة الثلاثة، المعانى والبيان والبديع، التى لا يهتدى إليها إلا من منحه الله بصيرة نافذة، وحسا ثاقبا، وممن تأثر بتفسير أبى السعود فى الناحية البلاغية تأثرا عظيما، الإمام الآلوسي- رحمه الله تعالى- فى تفسيره «روح المعانى».
ويأتى فى المكانة- بعد تلك التفاسير- من الاهتمام بالناحية البلاغية تفاسير أخرى، نقرأ فيها كثيرا من أسرار بلاغة القرآن، كتفسير أبى البركات النسفى، وتفسير «البحر المحيط» لأبى حيان، و«غرائب القرآن» للنيسابورى، و«تفسير الجلالين»، لجلال الدين المحلى، وجلال الدين السيوطى، وغيرها قديما وحديثا.

١٨ - التفسير الصوفى:
ومن التفاسير التى ظهرت على ساحة الثقافة الإسلامية تفاسير الصوفيين، وكلمة (صوفى) اختلف العلماء فى أصلها اللغوى الذى اشتقت منه، على عدة أقوال لم تسلم كلها من النقد والاعتراض، إما لغة وإما واقعا تاريخيا، ما عدا القول الذى ينص على أنه
 
١ ‏/ ٢٨٢
 
مشتق من الصوف، فاللغة تؤيده، والواقع يؤكده، لأنهم لبسوه زهدا فى الحياة، وتخشنا فى المعيشة.
والتصوف فى نظر أصحابه يعنى الزهد والورع، ومجاهدة الهوى والنفس والشيطان، للوصول بالروح إلى أعلى درجات الصفاء بقدر الإمكان.
وأول ما ظهرت الصوفية- كطريقة لها جماعة خاصة، ونظام معين- بالبصرة، وعرفوا آنذاك بالمبالغة فى الزهد والعبادة أكثر من غيرهم، لذلك كان يقال: فقه كوفى وعبادة بصرية.

الصوفية وتفسير القرآن:
تحت شعار «للقرآن ظاهر وباطن» انطلق الصوفيون يفسرون القرآن، وهو شعار ظالم باطل، لأن القرآن عربى، نزل يخاطب الناس بلغتهم، فإذا كانت ألفاظه تمثل الظاهر، فإن المراد من الباطن تلك المعانى التى تدل عليها تلك الألفاظ، أما أن تكون أفهام هؤلاء القوم- التى لم تؤسس على قوانين اللغة، ولم تراع مدلولات الألفاظ وفق استعمال العرب الذين نزل القرآن بلغتهم- هى المرادة بهذا الباطن، فذلك هو الشذوذ فى الفهم، والتطرف فى الفكر.
ولقد أنتجت لنا مراحل التطور الصوفى نوعين من التفسير: أحدهما: التفسير الصوفى النظرى، ويعتبر ابن عربى إمام هذا النوع، وثانيهما: التفسير الصوفى العملى الإشارى.
أما التفسير الصوفى النظرى فهو عبارة عن: صرف معانى القرآن الظاهرة إلى معان فلسفية وافدة من مجتمعات كافرة، تتعارض مع الإسلام.
ومن أبرز المصنفات فى هذا النوع ما جاء فى كتابى «الفتوحات المكية» و«الفصوص» لابن عربى، والتفسير المنسوب إليه.
أما التفسير الإشارى: فهو شرح الآيات بخلاف ما يظهر منها عن طريق الإلهامات والمكاشفات، التى لا يمن الله بها إلا على أرباب السلوك- كما يقولون- دون نفى الظاهر، الذى تدل عليه لغة العرب.
وأهم المؤلفات فى التفسير الإشارى:
١ - «حقائق التفسير»، لأبى عبد الرحمن السلمى.
٢ - «تفسير القرآن العظيم»، لسهل التسترى.
٣ - «غرائب القرآن ورغائب الفرقان» للنيسابورى، وإن كان غالب اهتمامه بغير التفسير الإشارى.
 
١ ‏/ ٢٨٣
 
٤ - «روح المعانى» للآلوسى، وهو كسابقه أيضا، غالب اهتمامه بغير التفسير الإشارى.
بالإضافة إلى التفسير المنسوب لابن عربى، فكما اهتم فيه بالتفسير الصوفى النظرى اهتم فيه أيضا بالتفسير الإشارى.
موقفنا من التفسير الصوفى: بالنسبة للتفسير الصوفى النظرى: فإنه بالتأمل فيه، وبخاصة فيما ورد عن إمام هذا النوع فى التفسير المنسوب إليه، وفى كتابيه «الفتوحات المكية» و«الفصوص» لا يمكننا أن نعتبر ذلك تفسيرا للقرآن، وإنما هو فكر شاذ أريد به الذيوع، عن طريق التستر بزى تفسير الكلام الإلهى، وعباءة البيان القرآنى، لأن هذا التفسير قائم على القول بوحدة الوجود، ومعناه عندهم أنه ليس هناك إلا وجود واحد، كل العالم مظاهر ومجال له، فالله عندهم هو الموجود بحق، وكل ما عداه أوهام وخيالات، ووصفها بالوجود إنما هو على سبيل المجاز، فإذا أضيف إلى ذلك بقية الأفكار الفلسفية التى تتعارض مع الإسلام، والتى قام عليها هذا التفسير، كان ذلك أدعى إلى نبذ هذا التفسير، لأنه انحراف ظاهر، وشذوذ واضح.
أما التفسير الإشارى: فرغم أنه لا ينفى الظاهر المراد، فقد رأينا فيه أيضا العجب العجاب، بحيث إنه لا يمكننا فى كثير منه- إن لم يكن فى أكثره- الجمع بين ما يقال إنه إشارات إلهية والظاهر المراد، وأرى أن الأولى لنا- فيما لم يكن ظاهره البطلان والفساد- التوقف فى قبوله، لأنه مبنى على الوجدان، وهذا أمر لا نقطع بصحته لصاحبه، إضافة إلى أنه يفتح المجال واسعا لادعاء الكاذبين فى التقول على الله- تعالى- بغير علم.
وإذا كان الآلوسي يقول فى مقدمة تفسيره: «فالإنصاف كل الإنصاف التسليم للسادة الصوفية، الذين هم مركز للدائرة المحمدية ما هم عليه، واتهام ذهنك السقيم فيما لم يصل لكثرة العوائق والعلائق إليه.
وإذا لم تر الهلال فسلم ... لأناس رأوه بالأبصار». (٨٤)
فإن الدكتور/ محمد الذهبى- ﵀ يعقب على قوله هذا وعلى قول مثله لابن عربى بقوله: «ومثل هذه الأقوال أشبه ما تكون بالإكراه لنا على قبول وجدانيات القوم وشطحاتهم مهما أوغلت فى البعد والغرابة، وتوريط لنا بتسليم كل ما يقولون تحت تأثير ما لهم فى نفوسنا من المكانة العلمية والدينية». إلى أن يقول: «إن مثل هذه التفاسير الغريبة للقرآن مزلة قدم لمن لم يعرف مقاصد القوم، وليتهم احتفظوا بها
(٨٤) روح المعانى: ١/ ١٨، ط./ دار الفكر.
 
١ ‏/ ٢٨٤
 
عند أنفسهم، ولم يذيعوها على الناس فيوقعهم فى حيرة واختلاف، إذا لأراحونا من هذه الحيرة وأراحوا أنفسهم من كلام الناس فيهم، وقذف البعض لهم بالكفر والإلحاد فى آيات الله». (٨٥)

١٩ - التفسير الفلسفى:

ومن العلماء من اتجه فى تفسير القرآن اتجاها فلسفيا.
ففي العهد العباسى شجع العباسيون حركة الترجمة إلى العربية بصورة كبيرة وخطيرة فى الوقت ذاته، حتى أضحت بغداد كعبة علمية وجامعة ثقافية، يفد إليها طلاب العلم من كل حدب ينسلون، ومن الكتب التى ترجمت كتب الفلسفة، التى وقف حيالها علماء المسلمين فريقين:
(أ) فريق معارض محارب، حيث رآها تتعارض مع القرآن الكريم، وكان على قمة هذا الفريق الإمام أبو حامد الغزالى، والفخر الرازى، الذى امتلأ تفسيره بالرد على هذه الفلسفة، فى المواضع المناسبة.
(ب) وفريق أعجب بها إلى حد كبير، رغم هذا التعارض الظاهر، لأنه رأى أنه يمكن التوفيق بين القرآن والفلسفة بإحدى وسيلتين:
١ - الوسيلة الأولى: تأويل النص القرآنى بما يساير أقوال الفلاسفة، وهذا من الخطورة بمكان، لأن فيه ليّا لعنق الآية الكريمة، وإكراه ألفاظها على معان لا تحتملها، وليست مرادة لله- ﷿ من قرآنه، هذا فوق ما فيه من شطط واضح، وإلحاد ظاهر فى آيات الله.
٢ - الوسيلة الثانية: شرح النصوص القرآنية بآراء الفلاسفة، وتلك أخطر من سابقتها، حيث تجعل كلام الفيلسوف هو الأصل المتبوع، وكلام الله- ﷿ هو الفرع التابع، وفى هذا قلب للموازين، وإلحاد أعظم وأخطر من سابقه.
ولكن هذا التوفيق رغم الجهد الجهيد من أصحابه، كان فى غاية الضعف والهزال، ولذلك لم يجد من تصدى لهدم تلك الآراء الفلسفية صعوبة فى الإتيان عليها من قواعدها، فخر عليها سقفها من فوقها.

المؤلفات فى التفسير الفلسفى:
المتتبع لمؤلفات من طغت عليهم تلك النزعة التفسيرية، لا يرى لهم تفسيرا كاملا للقرآن الكريم، وإنما هى شروح مبثوثة لهم ضمن مؤلفاتهم، ومن أبرز هؤلاء:
١ - أبو نصر الفارابى المتوفى سنة ٣٣٩ هـ، فى كتابه «فصوص الحكم». (٨٦)
(٨٥) التفسير والمفسرون: ٢/ ٤٠٨ بشيء من الاختصار.
(٨٦) انظر نماذج لذلك فى «فصوص الحكم»: ١٤٦ - ١٧٥، ط/ السعادة.
 
١ ‏/ ٢٨٥
 
٢ - إخوان الصفا، الذين يمتون فى أغلب الظن بصلة إلى الباطنية الإسماعيلية، حيث كانت لهم رسائل عرفت باسمهم «رسائل إخوان الصفا»، ضمنوها كثيرا من هذه التأويلات الملحدة. (٨٧)
٣ - ابن سينا المتوفى سنة ٣٧٠ هـ، ويعتبر بطل هذه النزعة، وكان له مسلك خطير فى ذلك، حيث كان يقوم على إلغاء الظاهر، واعتباره رمزا لمعان أخرى، ففسر الجنة والنار والصراط، والملائكة والشياطين، وغير ذلك تفسيرا يخرج بالإنسان عن ملة الإسلام، حيث يسلبه الفهم الصحيح لأركان الإسلام، ومقومات الإيمان. (٨٨)

٢٠ - التفسير الأدبى الاجتماعى:
وهو لون جديد من ألوان التفسير ظهر فى العصر الحديث، أراد به رواده البعد عن المباحث التحليلية الدقيقة، والمصطلحات والتخصصات العميقة، التى ربما تقف حائلا
دون هداية الناس إلى المراد من إنزال القرآن الكريم. فتناولوا بيان النص القرآنى بطريقة تظهر مواضع دقته وبلاغته، بأسلوب شائق جذاب، ثم طبقوا ذلك النص على ما فى الكون من نظم العمران، وسنن الاجتماع، بما يظهر للناس أن سعادتهم فى الدنيا وفوزهم فى الآخرة رهن العمل بهذا القرآن.

رواد هذا الاتجاه:
وأهم رواد هذا الاتجاه:
الشيخ محمد عبده، الذى يعتبر زعيم وعميد هذا الاتجاه، وتلميذه البار به الشيخ الأستاذ محمد رشيد رضا، والشيخ محمد مصطفى المراغى شيخ الجامع الأزهر.
ومن أبرز مزايا هذا الاتجاه: (٨٩)
١ - بيان أن القرآن الكريم هو الأصل فى التشريع.
٢ - إظهار ما فى القرآن الكريم من شفاء لكل الأمراض الاجتماعية.
٣ - تفنيد كل الشبهات التى أثيرت حول الإسلام.
٤ - البعد عن الأحاديث الموضوعة والضعيفة.
٥ - تحذير الناس من الإسرائيليات، لما لها من آثار خطيرة فى التفسير، بل فى العقيدة ذاتها، لأنها تصور الإسلام على أنه دين خرافات وأوهام.
ولكن أصحاب هذه الاتجاه، وقعوا فيما حذروا الناس منه، فرأيناهم فى بعض المواضع يروون تلك الإسرائيليات ولا يعقبون عليها، كذلك رأيناهم يرجعون إلى التوراة والإنجيل، ويفسرون بهما مبهمات القرآن
(٨٧) انظر نماذج لذلك فى رسائل إخوان الصفا: ١/ ٩١، ٩٨، ٤/ ١١٠، ١٧٢ - ١٨٥، ط. تحفة الأخبار.
(٨٨) انظر نماذج لذلك فى رسائل ابن سينا: ١٢٤ - ١٣٢، طبعة/ الهند ١٩٠٨.
(٨٩) انظر ذلك بالتفصيل فى كتابنا: التفسير بالرأى: ٣١١ - ٣٤١، طبعة/ الحسين الإسلامية.
 
١ ‏/ ٢٨٦
 
ومجمله، بل تجاوزوا حدهم حينما رأيناهم أحيانا يصرفون المعنى المتبادر من ظاهر النص القرآنى، ليوافق ما جاء فى التوراة.
٦ - عدم الخوض فيما استأثر الله- تعالى- بعلمه، وعدم التكلف- غالبا- فى تعيين مبهمات القرآن، حتى يظل للإسلام نبعه الصافى بعيدا عن الظنون والتخيلات.
٧ - سهولة العبارة وبلاغتها، وعدم استخدام مصطلحات العلوم والفنون، إلا بقدر الضرورة، لأن الزج بتلك المصطلحات يصرف الناس عن تدبر القرآن، والعمل به.
أما عن عيوب هذا الاتجاه فيأتى على رأسها ما يلى:
١ - الحرية المطلقة للعقل فى فهم النصوص الشرعية، فلئن قال الزمخشرى المعتزلى قديما: «امش فى دينك تحت راية السلطان- أى العقل- ولا تقنع بالرواية عن فلان وفلان». (٩٠) فإن عميد هذا الاتجاه وهو الشيخ محمد عبده حيث يقول عن العقل:
«ومن قاضاك إلى حاكم فقد أذعن إلى سلطته، فكيف يمكنه بعد ذلك أن يجور أو يثور عليه». (٩١)
ويقول أيضا: «إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل». (٩٢)
بل إن الشيخ عبد العزيز جاويش أحد أتباع هذا الاتجاه يقول: «إن من الممكن أن تصل العقول البشرية بالبحث والتنقيب والتجارب إلى ما تصبو إليه النفس الإنسانية من مراتب الكمال فى الأحكام والتصورات، والنظم الاجتماعية، والمسائل العلمية، والآداب الخلقية». (٩٣)
لقد نسى هؤلاء أو تناسوا أنه لا تعارض على الإطلاق بين الدين والعقل، أو بين الدين والعلم، وإذا كان العقل يستطيع أن يصل إلى قمة التشريع فى كل نواحى الحياة فلماذا أرسل الله الرسل؟ ولماذا قال تعالى:
وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: ١٥]؟
٢ - ونتيجة لهذا الخطأ القاتل وجدناهم يقعون فى خطأ آخر وهو: صرف النصوص الشرعية عن ظواهرها لتتفق مع عقولهم القاصرة، بما أدى بهم فى النهاية إلى إنكار أشياء ثابتة بالشرع ثبوتا حقيقيا، ومتواترة باللفظ والمعنى من جيل إلى جيل، وتذرعوا فى ذلك بالتمثيل والتخييل، فأنكروا الملائكة، والجن، والسحر، والمعجزات الحسية.
٣ - ومن عيوب هذا الاتجاه أيضا: رد الأحاديث الصحيحة، التى تتعارض مع مبادئهم، بزعم أنها أحاديث آحاد، أو باحتمال
(٩٠) أطواق الذهب للزمخشرى: ١١٠، ط./ دار الفضيلة.
(٩١) الإسلام والنصرانية للشيخ محمد عبده: ٥١، طبعة/ محمد صبيح.
(٩٢) المصدر السابق: ٥٢، ٥٣.
(٩٣) الإسلام دين الفطرة والحرية، لعبد العزيز جاويش ١٣٧، ط./ دار المعارف.
 
١ ‏/ ٢٨٧
 
أن الصحابة حدثوا بها عن أهل الكتاب، ونحو ذلك من التعليلات الباطلة التى لا تستطيع الصمود أمام النقد العلمى النزيه.

أهم المصنفات فى هذا الاتجاه:
١ - تفسير جزء «عم» للشيخ محمد عبده.
٢ - «تفسير المنار» لرشيد رضا.
٣ - «تفسير المراغى» للشيخ محمد مصطفى المراغى.
٤ - «تفسير القرآن الكريم» للشيخ محمود شلتوت من أول الجزء الأول من القرآن إلى نهاية الجزء العاشر منه.

٢١ - التفسير الموضوعى:
كما اهتم العلماء بدراسة السورة القرآنية كلها من أول آية منها إلى آخر آية فيها، مهما تعددت موضوعاتها، فقد اهتموا كذلك بإفراد موضوع خاص بالبحث والتحليل، وعرف ذلك فى الوسط التفسيرى ب «التفسير الموضوعى».
وقد بدا ذلك الاهتمام فى نواح ثلاث:
١ - دراسة موضوعات تتعلق بمفردات القرآن، أو أساليبه، أو بيان ناسخه ومنسوخه، أو أسباب نزوله، ونحو ذلك. مثل: «مفردات القرآن» للراغب الأصفهانى، و«التبيان فى أقسام القرآن» لابن القيم، و«الناسخ والمنسوخ» لأبى جعفر النحاس، و«أسباب النزول»، لكل من الواحدى والسيوطى.
٢ - الوحدة الموضوعية للسورة، وذلك بالكلام عن السورة ككل، من ناحية أغراضها العامة والخاصة، مع ربط موضوعاتها، بعضها ببعض، حتى تبدو السورة، وهى فى منتهى التناسق والإحكام، وكأنها عقد من لؤلؤ منظوم فى غاية الإبداع.
يقول الشاطبى: «إن السورة الواحدة مهما تعددت قضاياها فهى تكون قضية واحدة، تهدف إلى غرض واحد، أو تسعى لإتمامه، وإن اشتملت على عديد من المعانى». (٩٤)
ومن أبرز من اهتم بهذه الناحية الفخر الرازى- ﵀ فى تفسيره «مفاتيح الغيب» ثم البقاعى فى تفسيره «نظم الدرر» ثم سيد قطب فى تفسيره «فى ظلال القرآن» بصورة لم يسبق إليها، ولم يقاربه فيها أحد إلى الآن، وكذلك الدكتور محمد محمود حجازى فى رسالة الدكتوراة «الوحدة الموضوعية فى القرآن الكريم»، وفى تفسيره المسمى ب «التفسير الواضح».
٣ - جمع الآيات القرآنية التى تتحدث عن موضوع واحد من موضوعات العقيدة والعبادات والمعاملات والأخلاق وغيرها،
(٩٤) الموافقات: ٣/ ٢٤٩، ط./ محمد صبيح.
 
١ ‏/ ٢٨٨
 
وبيانها بالشرح والتحليل والاستنباط، وذلك منهج حديث معاصر، اهتمت به كلية أصول الدين فى جامعة الأزهر، اهتماما عظيما، حيث قعّدت قواعده، وأصّلت أصوله، وخطّت منهجه الواضح من خلال جعله مادة مقررة على طلابها، ومن خلال توجيه همة طلاب الدراسات العليا فى مرحلتى الماجستير والدكتوراة لإعداد رسائل فى موضوعات هذا النوع من التفسير.
وهذه الأنواع الثلاثة التى تهتم بإفراد موضوع خاص من الموضوعات التى تتعلق بالقرآن الكريم لم تظهر فى وقت واحد، وإنما ظهرت على مراحل متدرجة، فأقدمها النوع الأول، يليه الثانى، ثم الثالث، وإن كان الثالث يضرب بجذوره فى القدم، ليصل إلى العهد النبوى، ويدل على ذلك تفسيره ﷺ للظلم المراد فى قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: ٨٢] بقوله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: ١٣]، فقد جمع الرسول ﷺ الآيات التى تتحدث عن موضوع واحد وهو الظلم، وخرج لنا بالمعنى المراد لله- تعالى- منه فى سورة الأنعام.
ولكن هذا النوع الثالث، لم تكتمل صورته، ولم يأخذ سماته الأخيرة وشكله النهائى ومنهجه الواضح إلا فى هذا العصر الحديث على أيدى أساتذة كلية أصول الدين جامعة الأزهر كما سبق ذكره.
(ملاحظة): مصطلح التفسير الموضوعى إذا أطلق الآن لم يرد منه إلا هذا النوع الثالث، الذى نستطيع وضع تعريف له على النحو التالى:
التفسير الموضوعى هو: بيان مراد الله- تعالى- بقدر الطاقة البشرية- فى موضوع معين من موضوعات القرآن الكريم، عن طريق جمع الآيات الخاصة به، ودراستها وفق منهج خاص، يبرز لنا هدف هذا الموضوع وأبعاده، ويبين غنى الإسلام تماما عن كل منهج سواه، ويوضح أن السعادة كل السعادة فى اتباع المنهج الإلهى، والشقاء كل الشقاء فى الإعراض عنه.

منهج الدراسة فى التفسير الموضوعى:
تتمثل أبرز نقاط هذا المنهج فى الخطوات الآتية:
١ - اختيار الموضوع القرآنى المراد دراسته دراسة موضوعية، ووضع اسم خاص له.
٢ - حصر آيات هذا الموضوع مكيها
 
١ ‏/ ٢٨٩
 
ومدنيها، وعدم ترك آية منه، فقد تمثل تلك الآية الحكم النهائى فى الموضوع، فيخرج الحكم خاطئا.
٣ - ترتيب آيات هذا الموضوع ترتيبا زمانيا قدر الإمكان، حسب نزولها على النبى ﷺ.
٤ - الاستعانة بأسباب نزول هذه الآيات.
٥ - الاستعانة بالأحاديث النبوية وآثار السلف الخاصة بالموضوع.
٦ - بيان مناسبة كل آية من هذه الآيات فى سورها.
٧ - دراسة هذه الآيات دراسة موضوعية متكاملة، يراعى فيها التوفيق بين مطلقها ومقيدها، وعامها وخاصها، ودفع ما يوهم التعارض بين ظاهرها، والتنبيه على ناسخها ومنسوخها، بحيث تلتقى الآيات وما استعين به من أحاديث وآثار فى مصب واحد، دون لىّ عنق إحداها على معنى لا تحتمله.
٨ - وفى النهاية يصاغ الموضوع صياغة جيدة بأسلوب شائق، ويوضع فى إطار جميل، وهيكل متناسق.

المصنفات فى التفسير الموضوعى:
والمصنفات فى التفسير الموضوعى بمعناه الشائع الذى وضحناه بلغت من الكثرة ما يفوق الحصر، خاصة بعد أن حذت الجامعات الإسلامية، وأقسام الدراسات الإسلامية
والعربية فى مصر وفى جميع أنحاء العالم حذو- كلية أصول الدين- بجامعة الأزهر فى هذا الاتجاه، وفتحت أعين المهتمين بالدراسات القرآنية فى هذا المجال، بالدرجة التى يستحيل على أى باحث حصر الإنتاج العلمى العالمى فى التفسير الموضوعى، ولكننا نذكر على سبيل المثال بعضا من هذه المصنفات:
١ - «المرأة فى القرآن الكريم»، لعباس العقاد.
٢ - «الربا فى القرآن الكريم»، لأبى الأعلى المودودى.
٣ - «الوصايا العشر»، لشيخ الأزهر الأسبق، الشيخ محمود شلتوت.
٤ - «البداية فى التفسير الموضوعى»، للدكتور/ عبد الحى الفرماوى.
٥ - «الجدل فى القرآن الكريم»، للدكتور/ زاهر عواض الألمعى.
٦ - «الجيش المسلم، غايته وقيادته وجنده فى ضوء القرآن الكريم»، للدكتور/ جمال مصطفى عبد الحميد النجار.

٢٢ - الترجيحات فى التفسير:
قلنا سابقا إن الاختلاف بين المفسرين قسمان: اختلاف تنوع، واختلاف تضاد،
 
١ ‏/ ٢٩٠
 
واختلاف التنوع يمكن لنا الجمع بين الأقوال فيه، أما اختلاف التضاد فلا يمكن لنا الجمع فيه بين تلك الأقوال.
وموقفنا مع روايات السلف التى لا يمكن الجمع بينها كالآتى:
(أ) إن كان فى الروايتين أو الروايات صحيح وضعيف، قدم الصحيح على الضعيف.
(ب) وإن كانت الروايات كلها صحيحة رجحنا ما كان منها معتمدا على الشرع، فإن لم يكن شرع يقوى أيا منها أخذنا ما اعتمد على دليل من اللغة أو غيرها.
فإن تعارضت الأدلة أو لم نستطع ترجيح قول على آخر بأى وسيلة فوضنا الأمر لله- تعالى- وآمنا بما جاء فى كتابه، ويعامل هذا النص القرآنى معاملة المتشابه.
قال الإمام أبو طالب الطبرى- فيما ينقله عنه السيوطى فى شأن اختلاف الصحابة:
«وإذا تعارضت أقوالهم وأمكن الجمع بينها فعل، نحو أن يتكلم على الصراط المستقيم، وأقوالهم فيه ترجع إلى شىء واحد، فيدخل منها ما يدخل فى الجمع، فلا تنافى بين القرآن، وطريق الأنبياء، وطريق السنة، وطريق النبى ﷺ، وطريق أبى بكر وعمر، فأى هذه الأقوال أفرده كان محسنا.
وإن تعارضت رد الأمر إلى ما ثبت فيه السمع، فإن لم يجد سمعا وكان للاستدلال طريق إلى تقوية أحدها رجح ما قوى الاستدلال فيه، وإن تعارضت الأدلة فى المراد، علم أنه قد اشتبه عليهم، فيؤمن بمراد الله- تعالى- ولا يتهجم على تعيينه، وينزله منزلة المجمل قبل تفصيله، والمتشابه قبل تبيينه». (٩٥)
هذا كله إذا كانت الروايات واردة عن شخصين أو أكثر، فإن كانت واردة عن شخص واحد قدمنا الصحيح على غيره، فإن كانت مستوية فى الصحة قدم المتأخر على المتقدم، فإن لم نعرف المتأخر من هذه الروايات الصحيحة سلكنا معها مثل ما سلكنا مع الروايات الصحيحة الواردة عن شخصين أو أكثر.
ويرى بعض العلماء- كالزركشى- أنه إذا تعذر الجمع بين أقوال الصحابة قدم قول ابن عباس- رضى الله عنهما- على غيره، لدعاء النبى ﷺ له، بينما يرى الشافعى- ﵀ تقديم قول زيد بن ثابت فى مسائل المواريث، لشهادة رسول الله ﷺ له فيها. (٩٦)

المرجحات فى التفسير (٩٧):
بالإضافة إلى ما قررناه الآن يوجد عدة مرجحات يرجع إليها، لترجيح رأى على غيره، ويأتى على رأس هذه المرجحات:
(٩٥) الإتقان: ٢/ ١٧٦.
(٩٦) البرهان: ٢/ ٣١٣.
(٩٧) انظر هذا الموضوع بتوسع فى كتابنا: التفسير بالرأى ١١٥ - ٢٢٦.
 
١ ‏/ ٢٩١
 
١ - مرجحات قرآنية.
٢ - مرجحات حديثية.
٣ - مرجحات إجماعية.
٤ - مرجحات تاريخية.
٥ - مرجحات لغوية.

أولا: مرجحات قرآنية:
وأبرز هذه المرجحات ما يأتى:
١ - قبول ما وافق القرآن، ورد ما خالفه.
٢ - ترجيح ما تأيد بالقرآن على غيره.
٣ - قبول القول المبنى على قراءة متواترة، ورد ما بنى على قراءة شاذة.
٤ - القول المبنى على قراءة ثابتة مقدم على القول المبنى على ردّ هذه القراءة.
٥ - ترجيح ما وافق رسم المصحف، على ما خالفه.
٦ - ترجيح ما كان موافقا للسياق القرآنى على غيره.

ثانيا: مرجحات حديثية:
وأبرزها ما يلى:
١ - القول المؤيد بالحديث مرجح على غيره.
٢ - ترجيح ما وافق السنة على ما خالفها.
٣ - القول المؤيد بسبب النزول مقدم على غيره.

ثالثا: مرجحات إجماعية:
ويأتى على رأسها: كل ما خالف الإجماع فهو مردود.

رابعا: مرجحات تاريخية:
ويأتى على رأسها: القول المؤيد بالتاريخ مقدم على المخالف للتاريخ.

خامسا: مرجحات لغوية:
ويأتى على رأسها:
١ - تقديم ما كان موافقا لظاهر اللفظ القرآنى المعهود، على ما كان مخالفا له.
٢ - تقديم المعهود من كلام العرب على غيره.
٣ - تقديم المعنى الشرعى على المعنى اللغوى.
٤ - القول بالحقيقة مقدم على القول بالمجاز، إن لم تكن قرينة تؤيد المجاز.
٥ - تقديم المعنى العرفى على المعنى اللغوى.
٦ - الأصل وجوب حمل الكلام على الترتيب دون ادعاء تقديم أو تأخير فى الألفاظ.
 
١ ‏/ ٢٩٢
 
٧ - متى صح القول بعدم القلب فلا يجوز القول به. (٩٨)
٨ - القول بعدم الزيادة أرجح من القول بها.
٩ - القول بالتغاير أولى من القول بالترادف.
١٠ - تقديم القول بالعموم على القول بالخصوص، بدون دليل.
١١ - تقديم القول بالإطلاق على القول بالتقييد بدون دليل.
١٢ - القول بعدم الحذف مقدم على القول بالحذف.
١٣ - ترجيح المؤيد بالتصريف أو الاشتقاق على غيره.
١٤ - الأصل فى الأمر الوجوب، وفى النهى التحريم.
١٥ - تقديم القول بالتأسيس على القول بالتأكيد.

٢٣ - الدخيل فى التفسير:
حينما يسمع الإنسان كلمة (دخيل) يتبادر إلى ذهنه كلمة (أصيل)، وبيانهما هنا فى غاية الأهمية، لأننا لا نستطيع أن نقف على الدخيل فى التفسير إلا إذا وقفنا على الأصيل فيه. وكلمة الأصيل لغة تطلق على عدة معان يجمعها قدر مشترك، وهو: ما له أساس متين، وأصل ثابت مكين. (٩٩)
أما فى مجال التفسير فيطلق على: ما ثبت عن طريق القرآن أو السنة أو أقوال الصحابة أو التابعين ثبوتا مقبولا، وعلى ما ورد عن طريق التفسير بالرأى المحمود.
وذلك لأن نظر المفسر يتجه أول ما يتجه فى بيان المراد إلى القرآن ذاته فإن لم يجد فيه ما يفسر به نظر إلى السنة، فإن لم يجد فيها اتجه إلى أقوال الصحابة ثم أقوال التابعين، فإن لم يجد، أعمل رأيه وكدّ ذهنه للوصول إلى المراد بعد توافر شروط وأدوات وعلوم المفسر فيه.
أما الدخيل فيطلق لغة على عدة معان، يقول ابن منظور: «والدّخل: ما داخل الإنسان من فساد فى عقل، أو جسم، والدّخل والدّخل: العيب الداخل فى الحسب، وفلان دخيل فى بنى فلان، إذا كان من غيرهم، فتدخل فيهم». (١٠٠)
وعلى ذلك فالدخيل لغة: يطلق على ما ليس له أصل ثابت، ولم يقم على أساس متين أو ركن ركين، فى ذلك المجال الذى اقتحمه.
وبناء على تقسيمنا الأصيل إلى الأصيل فى المأثور (القرآن والسنة وأقوال الصحابة
(٩٨) المقصود من قلب الكلام: أن بعض ألفاظه قد حلّ مكان بعض آخر منه، وأخذ حكمه أيضا، أما التقديم والتأخير فلا يأخذ أحدهما حكم الآخر.
(٩٩) انظر لسان العرب، والقاموس المحيط، والمصباح المنير، مادة (أصل).
(١٠٠) لسان لعرب (دخل). باختصار.
 
١ ‏/ ٢٩٣
 
والتابعين) وأصيل فى الرأى، وهو الرأى المحمود، فإننا نستطيع أن نقسم الدخيل إلى دخيل فى المأثور، ودخيل فى الرأى، ونقول إن الدخيل فى الاصطلاح هو:
ما نسب كذبا إلى الرسول ﷺ، أو إلى صحابى، أو تابعى، أو ما ثبتت روايته عن صحابى أو تابعى، ولكن هذه الرواية فقدت شروط القبول، وعلى ما صدر عن رأى فاسد، لم تتوافر فيه شروط التفسير بالرأى المحمود.

أنواع الدخيل فى المأثور:
ويضم الدخيل فى المأثور الأنواع التالية:
١ - الأحاديث الموضوعة على الرسول ﷺ.
٢ - الأحاديث الضعيفة، خاصة إذا كان ضعفها لا ينجبر بحال، وفق ما قرره علماء الحديث.
٣ - الإسرائيليات المخالفة للقرآن والسنة، وكذلك التى يعبر عنها بالمسكوت عنه، حيث لا مؤيد لها ولا مخالف لها فى شرعنا.
٤ - ما نسب إلى الصحابة ولم يثبت عنهم.
٥ - ما نسب إلى التابعين ولم يثبت عنهم.
٦ - ما تعارض من أقوال الصحابة أو أقوال التابعين مع القرآن أو السنة أو العقل تعارضا حقيقيا لا يمكن الجمع بينه وبين هذه الأشياء.

أنواع الدخيل فى الرأى:
تتعدد أنواع الدخيل فى الرأى وفقا لسبب الخطأ فى التفسير بالرأى، فهذه الأسباب متعددة يأتى على رأسها ما يلى:
١ - الإلحاد فى آيات الله- تعالى- مع سوء القصد.
٢ - الأخذ بظاهر المنقول، دون النظر إلى ما يليق بذاته- تعالى- وما لا يليق.
٣ - تحريف النصوص الشرعية عن مواضعها، وتعطيلها وصرفها عن ظواهرها.
٤ - التنطع فى استخراج معان من بطون النصوص، دون دليل عليها.
٥ - التنطع فى اللغة والنحو، والخروج عن القواعد المألوفة فيهما.
٦ - تفسير القرآن مع فقد شروط وأدوات وعلوم المفسر.
٧ - التكلف فى التوفيق بين النصوص القرآنية، ومكتشفات العلم الحديث.
وبناء على تلك الأسباب، فإن لكل سبب نوعا من أنواع الدخيل على النحو التالى:
 
١ ‏/ ٢٩٤
 
١ - الدخيل عن طريق الملاحدة، ويأتى على رأس هؤلاء فرق الباطنية قديما، والبهائية والقاديانية حديثا.
٢ - الدخيل عن طريق المشبّهة والمجسّمة.
٣ - الدخيل عن طريق الفرق الإسلامية المبتدعة، كالشيعة والمعتزلة والخوارج.
٤ - الدخيل عن طريق الشطحات الصوفية.
٥ - الدخيل عن طريق اللغة والنحو.
٦ - الدخيل عن طريق افتقاد المفسر لأدوات التفسير.
٧ - الدخيل عن طريق التفسير العلمى، كما وقع ويقع لكثير ممن يتحدثون فى الإعجاز العلمى للقرآن، بدعوى أن القرآن سبق العلماء بأكثر من أربعة عشر قرنا فى الحديث عن أمور تتعلق بالكون والنفس، ولم يعرف عنها العلماء شيئا إلا فى أيامنا هذه.

٢٤ - الإسرائيليات فى التفسير:
هذا النوع من أخطر أنواع الدخيل فى التفسير بالمأثور.
ولفظة (الإسرائيليات) جمع، مفردها إسرائيلية، وهى فى أصل إطلاقها حكاية أو قصة تذكر عن مصدر إسرائيلى، نسبة إلى بنى إسرائيل، وبنو إسرائيل ينسبون إلى جدهم الأعلى إسرائيل ﵇، وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الله تعالى.
ولفظ بنى إسرائيل يطلق على كل من جاء من ذرية إسرائيل ﵇ إلى عصر رسول الله ﷺ، ولكن غلب إطلاق لفظ اليهود على من تناسل من أبناء يعقوب ولم يؤمن بعيسى ﵇، أما من آمن بعيسى منهم فيطلق عليهم النصارى.
وقد توسع العلماء فى إطلاق تلك التسمية (الإسرائيليات) حتى صارت تطلق على كل ما تطرق إلى التفسير والحديث من أساطير قديمة، يهودية أو نصرانية وغيرها، وعلى ما لا أصل له فى مصدر قديم، وعلى ما دسّه أعداء الإسلام كذبا وزورا ليشوهوا به صورة هذا الدين العظيم.
وإنما غلّب اللون اليهودى على غيره، لأن غالب ما دخل من الخرافات والأباطيل فى كتب التفسير كان عن طريق اليهود.
وكان من أبرز أسباب دخول الإسرائيليات فى حقل الثقافة الإسلامية ما يأتى:
١ - اعتناق طائفة من اليهود الإسلام نفاقا، ليحاربوا الإسلام، من داخل صفوفه بعد أن عجزوا عن محاربته وجها لوجه، كما حدث من عبد الله بن سبأ اليهودى.
 
١ ‏/ ٢٩٥
 
٢ - اعتناق جماعة من أهل الكتاب الإسلام عن حب واقتناع، مثل عبد الله بن سلام، وتميم الدارى، وكعب الأحبار، وجلوس بعض من المسلمين إليهم ليحدثوهم عن تفصيل بعض ما أجمل فى القرآن، من قصص الأنبياء، والأمم السابقة.

أقسام الإسرائيليات:
تنقسم الإسرائيليات من حيث صدقها وكذبها إلى ثلاثة أقسام:
١ - القسم الأول: ما جاء موافقا لما فى شرعنا، فهذا نؤمن به ونصدقه، ومثاله: ما جاء فى «صحيح البخارى» وغيره فى صفة رسول الله ﷺ فى التوراة، وأنه موصوف فيها كصفته فى القرآن، حيث قال عطاء بن يسار لعبد الله بن عمرو: «أخبرنى عن صفة رسول الله ﷺ فى التوراة، فقال له: والله إنه لموصوف فى التوراة كصفته فى القرآن ...».
الخ (١٠١)
٢ - القسم الثانى: ما جاء مخالفا لما فى شرعنا، كتلك الروايات التى تصف الله- تعالى- ورسله- ﵈ بما لا يليق، كتعب الله- تعالى- من خلق السموات والأرض، وحزنه على خلق الإنسان لما رأى كثرة ذنوبه، وزنا لوط بابنتيه، وحملهما وإنجابهما منه، وزنا داود بامرأة أوريا وحملها منه سفاحا، وصنع هارون العجل الذى عبده بنو إسرائيل، فهذا القسم مرفوض مردود، لا يجوز تصديقه بحال من الأحوال.
٣ - القسم الثالث: ما هو مسكوت عنه، لعدم وجود دليل فى شرعنا يؤيده، أو يرفضه، وهذا القسم غالبه مما لا فائدة فيه، مثل تعيين بعض البقرة الذى ضرب به قتيل بنى إسرائيل، والشجرة التى أكل منها آدم- ﵇. وهذا القسم نتوقف فى الحكم عليه، فلا نصفه بالصدق أو الكذب، لعدم وجود دليل يبين لنا صدقه من كذبه، وعليه يحمل حديث «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم». (١٠٢)

حكم رواية الإسرائيليات:
١ - القسم الأول وهو الموافق لشرعنا:
تجوز روايته، وعليه يحمل حديث: «وحدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج». (١٠٣) وسائر النصوص المشابهة.
٢ - أما القسم الثانى وهو المخالف لشرعنا: فلا تجوز روايته، ولا يعقل أن تحمل عليه النصوص الدالة على التحديث عنهم، لأن رواية المكذوب لا تجوز إلا إذا اقترنت ببيان كذبها.
٣ - أما القسم الثالث وهو المسكوت عنه:
(١٠١) انظر صحيح البخارى، كتاب التفسير، تفسير سورة الفتح، وكتاب البيوع، باب كراهية الصخب فى السوق.
(١٠٢) البخارى: كتاب التفسير، باب (وقالوا اتخذ الله ولدا).
(١٠٣) البخارى: كتاب الأنبياء (فتح البارى: ٦/ ٤٩٦).
 
١ ‏/ ٢٩٦
 
فإن بعض العلماء، كابن تيمية والدكتور محمد الذهبى (١٠٤) - رحمهما الله تعالى- يرى جواز روايته، استنادا لما فهموه من الإباحة فى حديث «حدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج» ولكن بعضا من العلماء رفضوا رواية هذا القسم، وقالوا كما توقفنا فى تصديقه نتوقف فى روايته، فأى تصديق لرواياته أقوى من أن نقرنها بالقرآن الكريم، فيتوهم القارئ أن فيها تفصيلا لما أجمل، وتبيينا لما أبهم؟ وعلى رأس هؤلاء الرافضين الدكتور محمد أبو زهو، والشيخ أحمد شاكر والدكتور/ عبد الوهاب عبد الوهاب فائد- ﵏ جميعا- (١٠٥) وهو رأى فى غاية القوة، وأحق أن يتبع، سدا للذريعة، وصيانة لصورة الإسلام العظيم، وكتابه الحكيم.

٢٥ - بدع التفاسير وغرائبه:
ويقصد بهذا العنوان تلك المفاهيم التى استحدثها بعض الناس، ووضعوها لمعان عجيبة ودخيلة على فهم السلف الصالح، وعلماء الأمة المعتدّ بهم، فى بيان المعنى المراد من النص القرآنى.
وعلى هذا: فإن بدع التفاسير وغرائبه تعتبر من الدخيل فى التفسير بالرأى.

أسباب هذه البدع والغرائب:
يمكننا أن نعتبر كل ما ذكرناه من أسباب الدخيل فى التفسير بالرأى أسبابا لهذه البدع والغرائب، ولكننا نخص بعضها هنا بالذكر، وعلى رأسها ما يأتى:
١ - عدم اجتناب الأمور التى يجب على المفسر اجتنابها.
٢ - تفسير القرآن باللغات الغريبة النادرة.
٣ - تخريج إعراب القرآن على الوجوه الضعيفة أو الشاذة.
٤ - عدم مراعاة سياق الآية.
٥ - تحريف الكلم عن موضعه، بتقطيع اللفظة الواحدة إلى لفظتين، أو تحويل اللفظتين إلى لفظة واحدة.
ومن أمثلة تلك البدع والغرائب:
١ - ما ذكره الزمخشرى والمعتزلة فى تفسير قوله تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [البقرة: ٢٥٥] بأن المراد بالكرسى: علم الله تعالى.
٢ - ما ذكره بعض المتصوفة فى الآية نفسها، فى قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ بأن المعنى (من ذلّ)، من الذل (ذى) يعنى النفس (يشف) من الشفاء، (ع) من الوعى، فقطعوا الكلمة الواحدة إلى أجزاء، وعلى عكس ذلك جعلوا
(١٠٤) انظر: مقدمة فى أصول التفسير: ٣٤، والإسرائيليات للذهبى: ٨٦، ٨٧، طبعة/ مجمع البحوث الإسلامية.
(١٠٥) انظر رأيهم فى: عمدة التفسير، للشيخ أحمد شاكر: ١/ ١٥، طبعة/ دار المعارف، والدخيل للدكتور فائد: ١/ ١٥٧، طبعة حسان.
 
١ ‏/ ٢٩٧
 
الكلمتين كلمة واحدة، فى تفسير قوله تعالى:
وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: ٦٩] حيث جعلوا من (اللام) و(مع) التى تفيد المعية كلمة واحدة، من اللمعان، فقالوا: إن (لمع) بمعنى أضاء. (١٠٦)
٣ - وما ذكره بعضهم فى تفسير قوله تعالى حكاية عن إبراهيم ﵇: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: ٢٦٠] من أن إبراهيم كان له صديق وصفه بأنه قلبه، أى ليسكن هذا الصديق إذا عاين الإحياء. (١٠٧)
ومن الكتب التى اهتمت ببيان هذه البدع والغرائب كتاب «العجائب والغرائب» لمحمود الكرمانى، وكتاب «بدع التفاسير» لعبد الله الغمارى، وخصص لها السيوطى النوع التاسع والسبعين فى إتقانه.

٢٦ - ضوابط سلامة التفسير:
لكى يضمن المفسر سلامة تفسيره، عليه أن يراعى الضوابط الآتية:
١ - أن يتجنب ما يأتى:
(أ) التفسير من غير حصول العلوم التى يجوز معها التفسير.
(ب) تفسير المتشابه الذى لا يعلمه إلا الله تعالى.
(ج) التفسير المقرر للمذهب الفاسد، بأن يجعل مذهبه أصلا، وتفسيره فرعا.
(د) التفسير مع الجزم بأن مراد الله كذا، من غير دليل قاطع.
(هـ) التفسير بالهوى والاستحسان. (١٠٨)
٢ - مراعاة سبب النزول، فإن كثيرا من الآيات يتوقف فهمها على معرفته.
٣ - مطابقة التفسير لهدى النبى ﷺ وسيرته.
٤ - مراعاة ما هو معروف، من نظام الكون، وسنن الاجتماع، وتاريخ البشرية العام وتاريخ العرب الخاص، ووقت نزول القرآن.
٥ - مراعاة المؤاخاة بين المفردات فى النص القرآنى.
٦ - ملاحظة المعانى المستعملة زمن نزول القرآن الكريم.
٧ - مراعاة المعنى الحقيقى والمعنى المجازى، فقد يكون أحدهما هو المراد دون الآخر، مع ملاحظة أن الأصل هو تقديم المعنى الحقيقى، إلا لقرينة ترجح المعنى المجازى.
٨ - مراعاة سياق الكلام.
٩ - مراعاة الغرض الذى سيق له الكلام.
(١٠٦) انظر التفسير والمفسرون: ٢/ ٤٠٩.
(١٠٧) الإتقان: ٢/ ١٨٦.
(١٠٨) الإتقان: ٢/ ٨٣ نقلا عن ابن النقيب.
 
١ ‏/ ٢٩٨
 
١٠ - تقديم المعنى الشرعى على المعنى اللغوى.
١١ - تقديم المعنى العرفى على المعنى اللغوى.
١٢ - عدم القول بالترادف ما أمكن، فإن للتركيب معنى غير معنى الإفراد.
١٣ - اجتناب ادعاء التكرار ما أمكن، فإن التركيب يحدث معنى زائدا، وإذا كانت كثرة الحروف تفيد زيادة المعنى فكذلك كثرة الألفاظ.
١٤ - ترك ما لا يصح سنده من أسباب النزول وأحاديث الفضائل، ففيما صحّ غنية عما لم يصح.
١٥ - ترك الإسرائيليات المخالفة لما فى شرعنا، وكذلك المسكوت عنها، ففيها من الخطر على العقيدة والإسلام الكثير والكثير.
١٦ - استعمال قواعد الترجيح، إذا تعددت الأقوال.
١٧ - عدم التسرع إلى التفسير بظاهر العربية، من غير نظر إلى القرآن نفسه، والمنزل عليه، والمخاطب.
١٨ - حمل كلام الله- تعالى- على المعنى الأغلب والأشهر من اللغات، دون توجيهه إلى الأنكر أو الشاذ، ما وجد إلى ذلك سبيلا.
١٩ - حمل كلام الله تعالى على عرف القرآن الخاص، ومعانيه المعهودة دون غيرها.
٢٠ - الاعتناء بتدبر الألفاظ، ومعانى الدلالات، ومعرفة معانى الأدوات، من الأسماء والأفعال والحروف والظروف، لأن الأداة ترد بمعان مختلفة، يختلف معها المعنى باختلاف موقعها.
٢١ - أن يراعى ضوابط إعراب القرآن. (١٠٩)
٢٢ - معرفة موضوع القرآن وهدفه، فهدف القرآن: هداية الناس إلى أحسن حال، وأفضل مآل، وكذلك التدليل على صحة نبوة النبى ﷺ، فإخراجه عن هذين الهدفين لا يجوز بحال من الأحوال، كما يلتمس بعض أصحاب التفسير العلمى لكل نظرية علمية آية من القرآن.
٢٣ - الوقوف على عادات العرب، فإن بعض الآيات لا يمكن فهمها إلا من خلال معرفة هذه العادات.
٢٤ - استحضار جميع الآيات التى تندرج ضمن موضوع واحد، قبل البدء فى تفسير أى آية منها، حتى يخرج بحكم صحيح.
٢٥ - مراعاة الربط بين الآية وتذييلها، فهذا يساعد على إدراك الإعجاز القرآنى.
(١٠٩) انظر فى ضوابط إعراب القرآن، كتاب: تفسير القرآن الكريم، أصوله وضوابطه، للدكتور على العبيد، طبعة/ الرياض.
 
١ ‏/ ٢٩٩
 
٢٦ - الوقوف على موهم الاختلاف والتناقض، ومعرفة إزالة هذا التناقض الظاهرى.
٢٧ - معرفة الكليات والأفراد فى القرآن الكريم، والمراد بالكليات: الألفاظ والأساليب الواردة فى القرآن على معنى مطرد، أما الأفراد: فهى تلك الألفاظ أو الأساليب التى أتت بمعنى غير المستعمل عادة.

٢٧ - خطوات المنهج الأمثل فى التفسير:
بعد أن يراعى المفسر:
١ - توافر شروط المفسر فيه وإلمامه بالعلوم المطلوبة منه.
٢ - واجتنابه الأمور المحظورة فى التفسير.
٣ - والضوابط المطلوبة لسلامة تفسيره، والتى تحدثنا عن كل منها سابقا، عليه اتباع ما يلى:
أولا: المرور بمصادر التفسير بالمأثور، على الترتيب الواجب، فيطلب المعنى أولا من القرآن نفسه، فإن لم يجده فمن السنة، وإلا فمن أقوال الصحابة، ثم من أقوال التابعين، على التفصيل الذى بيناه فى موضعه.
ثانيا: إن لم يجد المفسر المعنى فى مصادر التفسير بالمأثور، فعليه إعمال عقله، مستعينا بالعلوم المطلوبة للمفسر، مراعيا الأمور المحظورة، وضوابط السلامة السابقة.
ثالثا: ذكر مناسبة الآية لما قبلها.
رابعا: ذكر سبب النزول.
وقد وقع خلاف بين العلماء فى بأيهما يبدأ؟ ولعل التفصيل الذى ذكره الزركشى فى «البرهان» هو الأفضل، حيث قال- ﵀: «واعلم أنه جرت عادة المفسرين أن يبدءوا بذكر سبب النزول، ووقع البحث فى أنه أيهما أولى البداءة به، بتقديم السبب على المسبب؟ أو بالمناسبة؟ لأنها المصححة لنظم الكلام وهى سابقة على النزول، والتحقيق التفصيل بين أن يكون وجه المناسبة متوقفا على سبب النزول، كالآية السابقة فى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [النساء: ٥٨]، فهذا ينبغى فيه تقديم ذكر السبب، لأنه حينئذ من باب تقديم الوسائل على المقاصد، وإن لم يتوقف على ذلك فالأولى تقديم وجه المناسبة». (١١٠)
خامسا: ثم البداءة بعد ذلك بالمفردات، من جهة اللغة والتصريف والاشتقاق.
سادسا: ثم التعرض لما يتعلق بتراكيب الكلام، فيبدأ بإعراب ما يتوقف المعنى على إعرابه، ثم ما يتعلق بعلوم البلاغة الثلاثة،
(١١٠) البرهان: ١/ ١٢٩، ط. دار المعرفة.
 
١ ‏/ ٣٠٠
 
المعانى، فالبيان، فالبديع، لإظهار أسرار الإعجاز البلاغى.
سابعا: ثم يبين المعنى المراد بعبارة سلسة بليغة، مطابقة للنص المفسّر، دون تزيد على معناه، أو إنقاص شىء من محتواه.
ثامنا: استنباط ما يمكن استنباطه، من أمور تتعلق بالعقيدة، أو بالأحكام الفقهية، أو البلاغية، أو غير ذلك، فى حدود القوانين الشرعية، والقواعد اللغوية.
مع ملاحظة أمرين فى غاية الأهمية:
أولهما: اجتناب كل ما يعتبر من قبيل الحشو، فلا يشحن تفسيره بمسائل الإعراب، وعلل النحو، ودلائل أصول الفقه، ودلائل مسائل الفقه، فكل ذلك مقرر فى تأليف هذه العلوم، وإنما يؤخذ ذلك مسلما به فى علم التفسير، دون استدلال عليه.
ثانيهما: التركيز على العنصر العملى فى القرآن، ببيان أن القرآن ليس كتاب تلاوة وثقافة فقط، ولكنه كتاب علم وعمل، فيجب على المسلمين أن يتحركوا به فى دنيا الواقع، كما فعل الرسول ﷺ وصحابته الكرام- رضى الله عنهم أجمعين.

٢٨ - طبقات المفسرين ومدارسهم:

لما أنزل الله- تعالى- القرآن على رسول الله ﷺ أمره بتبليغ ألفاظه، وتبيين ما احتاج الناس إلى بيانه، قال تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة: ٦٧]، وقال أيضا: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: ٤٤].
فامتثل النبى ﷺ لأمر ربه، فبين لهم ما كان خافيا عليهم، وأزال عن قرآنه ما التبس منه، ففهم الصحابة قرآن ربهم وعملوا به، ولما انتقل الرسول ﷺ إلى جوار ربه ترك عبء الدعوة الإسلامية، وتبليغ كتاب الله- ﷿ وتبيينه على عاتق أصحابه الكرام، فكان هؤلاء الصحب عند حسن الظن بهم، فانتشروا فى البلاد شرقا وغربا، وأسسوا للناس مدارس، تعلمهم كتاب ربهم، وتفقههم فى أمور دينهم.
وقد اشتهر من بين هؤلاء الصحابة:
الخلفاء الراشدون الأربعة، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وأبىّ بن كعب، وأبو موسى الأشعرى، وعبد الله بن الزبير، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة، وعائشة، وعبد الله ابن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وجابر بن عبد الله.
ثم جاء بعد طبقة الصحابة طبقة التابعين الذين تتلمذوا على أيدى صحابة رسول الله ﷺ، وما هى إلا سنوات قلائل إلا وقد وجدنا
 
١ ‏/ ٣٠١
 
لجهد الصحابة الثمرة المرجوة منه، حيث لم يخلد هؤلاء الصحابة للراحة فى المدينة أو فى الأمصار المفتوحة، وإنما كانوا منارات علم وتعليم، فأسسوا المدارس من أجل إنشاء جيل صار خير الأجيال بلا منازع بعد جيل الصحابة- رضى الله عن الجميع.
وكان من أبرز تلك المدارس ثلاث مدارس، أثرت فى الحركة التفسيرية تأثيرا منقطع النظير، هذه المدارس هى:
(أ) مدرسة مكة: وكان أستاذها عبد الله ابن عباس، وكان أبرز طلابها: سعيد بن جبير، ومجاهد بن جبر، وعكرمة أبو عبد الله البربرى، وعطاء بن أبى رباح، وطاوس بن كيسان.
(ب) مدرسة الكوفة: وأستاذها عبد الله ابن مسعود، وكان من أبرز تلاميذ هذه المدرسة الذين صاروا أئمة فى التفسير:
علقمة بن قيس، وزر بن حبيش، ومسروق بن الأجدع، وعبيدة بن عمرو، وعبيد بن نضيلة، والأسود بن يزيد، وأبو عبد الرحمن السلمى، وعامر الشعبى، والحسن البصرى، وقتادة بن دعامة السّدوسى.
(ج) مدرسة المدينة: ومؤسسها وأستاذها أبىّ بن كعب، ومن أبرز تلاميذ هذه المدرسة الذين صاروا أئمة فى التفسير: أبو العالية رفيع بن مهران الرياحى البصرى، وسعيد بن المسيب، ومحمد بن كعب القرظى، وزيد بن أسلم.
ثم بعد هذه الطبقة جاءت طبقة أخرى اهتمت بجمع أقوال الصحابة والتابعين فى التفسير، وعلى رأس هذه الطبقة: سفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، وشعبة بن الحجاج، وآخرون.
ثم جاءت بعدها طبقة أخرى، وعلى رأسها: محمد بن جرير الطبرى، وابن أبى حاتم، وابن ماجة، والحاكم، وابن مردويه، وابن حبان، وابن المنذر، وهذه التفاسير كلها بالمأثور، ليس فيها غيره، إلا تفسير ابن جرير الطبرى، فإنه فى معظم الأحيان يتعرض لتوجيه الأقوال التى يذكرها ويرجح بعضها على بعض، كما يتعرض للمسائل الفقهية، وأصول الفقه والقراءات والإعراب وغير ذلك، مما جعل تفسيره فى غاية الأهمية لدى المشتغلين بالمأثور وبالرأى على حد سواء، وإن كانت الصبغة المأثورية هى الغالبة عليه.
وبعد هذه الطبقة التى كانت تهتم بذكر السند جاءت طبقة أخرى، أهملوا الإسناد، فالتبس الصحيح بالعليل، وتسلل الدخيل إلى التفسير.
إلى أن جاءت طبقة أخرى كان الواحد
 
١ ‏/ ٣٠٢
 
منهم أشبه بحاطب ليل، ثم خطا المفسرون بعد ذلك خطوة متخصصة، أو قريبة منها، حيث رأينا الواحد منهم يصبغ تفسيره بالصبغة التى برع فيها، أو طغت عليه، فوجدنا بعضهم يهتم بالإعراب وقواعد النحو وفروعه، كما هو صنيع الزجاج، والواحدى، وأبى حيان، ووجدنا آخرين جعلوا كل همهم سرد القصص عن السابقين، بصرف النظر عن صحتها أو بطلانها، كما فعل الثعلبى، ووجدنا صنفا آخر صب اهتمامه على مسائل الفقه، وكأنه أراد بتفسيره أن يكون موسوعة فقهية، كما فعل القرطبى، كما رأينا صنفا آخر جعل العلوم العقلية والفلسفية بؤرة اهتمامه فى التفسير، كالفخر الرازى.
أما أصحاب البدع، كالمعتزلة والخوارج، فمتى لاحت لهم شاردة تخدم بدعتهم وخيّل لهم أن لها موضعا فى تفسير الآية سارعوا فى وضعها، كما فعل الزمخشرى فى كشافه، وكذلك فعل الملاحدة، كالباطنية فى تفاسيرهم.
ومع امتداد الزمان وتنوع العلوم، ووقوف العلماء على كثير من أسرار هذا الكون، ومع تعدد نظم الاجتماع والعمران، رأينا فى كل عصر طبقة تهتم بناحية أو أكثر من نواحى القرآن.
أ. د./ جمال مصطفى عبد الحميد عبد الوهاب النجار
 
١ ‏/ ٣٠٣
 
مراجع الاستزادة: للاستزادة والتوسع فى موضوعات هذا المدخل يرجع إلى:

(١) الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى.
(٢) الإسرائيليات فى التفسير والحديث للدكتور/ محمد الذهبى.
(٣) أصول الدخيل فى تفسير أى التنزيل، للدكتور/ جمال مصطفى النجار.
(٤) البرهان فى علوم القرآن للزركشى.
(٥) التفسير بالرأى، للدكتور/ جمال مصطفى النجار.
(٦) التفسير بالمأثور، للدكتور/ جمال مصطفى النجار.
(٧) التفسير والمفسرون، للدكتور/ محمد الذهبى.
(٨) الدخيل فى تفسير القرآن الكريم، للدكتور/ عبد الوهاب فائد.
(٩) دراسات فى مناهج المفسرين، للدكتور/ إبراهيم خليفة.
(١٠) لمعة الاعتقاد، لابن قدامة.
(١١) مدخل إلى مناهج المفسرين، للدكتور/ محمد جبريل.
(١٢) مقدمة فى أصول التفسير، لابن تيمية.
(١٣) مناهل العرفان فى علوم القرآن، للشيخ محمد عبد العظيم الزرقانى.

 

 

عن الكاتب

Tanya Ustadz

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية