الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

التفسير الموضوعي

التفسير الموضوعي
اسم الكتاب: التفسير والتأويل في القرآن
اسم المؤلف: صلاح عبد الفتاح الخالدي (معاصر)
الناشر: دار النفائس - الأردن
الطبعة: الأولى، ١٤١٦ هـ/ ١٩٩٦ م
عدد الصفحات: ٢٠٢
أعده للشاملة: محمود الجيزي
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
التصنيف: علم التفسير، علم القرأن

 

فهرس الموضوعات

  1. تمهيد التفسير الموضوعي ألوانه، وخطوات السير فيه
  2. التفسير الموضوعي
    1. -ألوان التفسير الموضوعي الثلاثة
    2. -خطوات السير في التفسير الموضوعي
    3. -البدء بالتفسير والتأويل في القرآن
  3. الفصل الأول التفسير والتأويل في اللغة والاصطلاح
  4. المبحث الأول: التفسير في اللغة والاصطلاح
    1. -التفسير في اللغة
    2. -بين الفسر والسفر
    3. -تعريف «تفسير القرآن»
  5. المبحث الثاني: التأويل في اللغة والاصطلاح
    1. -التأويل في اللغة
    2. -بين الأول والوأل
    3. -التأويل في الاصطلاح
    4. -معنيان للتأويل عند السلف
    5. -الفرق بين هذين المعنيين
  6.  الفصل الثاني التفسير والتأويل في الأسلوب القرآني
  7. -المبحث الأول: التفسير في الأسلوب القرآني
  8. المبحث الثاني: التأويل في الأسلوب القرآني
    1. -المطلب الأول: مع التأويل في سورة يوسف
    2. -المطلب الثاني: مع التأويل في سورة الكهف
    3. -المطلب الثالث: مع التأويل في سورة الأعراف
    4. -المطلب الرابع: مع التأويل في سورة يونس
    5. -المطلب الخامس: مع التأويل في سورة الإسراء
    6. -المطلب السادس: مع التأويل في سورة النساء
    7. -المطلب السابع: مع التأويل في سورة آل عمران
  9.  العودة إلي كتاب التفسير والتأويل في القرآن

 

 تمهيد التفسير الموضوعي ألوانه، وخطوات السّير فيه

التفسير الموضوعي

تفاسير القرآن أربعة أنواع:

الأول: التفسير الإجمالي:

وهو الذي يكتفي المفسّر فيه بعرض المعنى للآية أو الآيات عرضا إجماليا موجزا، دون توسّع أو تفصيل، ويكون التفسير ثلاثة أضعاف القرآن تقريبا.

من التفاسير الإجمالية: تفسير الجلالين، وصفوة البيان لمعاني القرآن لحسنين مخلوف.

الثاني: التفسير التفصيلي:

وهو الذي يسير فيه المفسر مع سور القرآن سورة سورة، ومع آياته آية آية، ويتوسّع في تفسيرها وتأويلها، ويفصّل في كلامه، ويستطرد، ويعرض موضوعات، ومباحث، ومسائل عديدة.

ومعظم التفاسير هي من هذا النوع، مثل: تفسير الطبري، وتفسير الزمخشري، وتفسير الرازي، وتفسير الآلوسي.

وهذه التفاسير المفصلة منها ما هو وجيز، ومنها ما هو وسيط، ومنها ما هو مطوّل، لكنها تبقي تفاسير تفصيلية تحليلية.

الثالث: التفسير المقارن:

بحيث يدرس الباحث تفسير السورة أو الموضوع القرآني في أكثر من تفسير، ثم يستخلص منهج وطريقة كلّ مفسّر فيها، وبعد ذلك يعقد مقارنات بين مناهج وطرائق هؤلاء المفسرين، ليري ما في

تفاسيرهم من جدّة وإضافة، وما فيها من تقليد ومتابعة، وما فيها من تكرار أو إبداع، ثم يتعرف علي مالها من إيجابيات، وما عليها من مآخذ وسلبيات، ويفعل ذلك بعد مقارنته بين هذه التفاسير.

الرابع: التفسير الموضوعي:

وهو تفسير هذا العصر، ولم يشتهر هذا النوع عند المفسرين السابقين في القرون الماضية، وإنما اشتهر بين الباحثين والمفكرين والمتدبرين في عصرنا، ونري أنّ المستقبل إنما هو لهذا النوع من التفسير، وله أهمية خاصة، ورسالة عظيمة يؤدّيها.

وليس كلامي هنا عن الدراسة المنهجية للتفسير الموضوعي، فإنّ هذه العجالة لا تكفي له، وأعد بإصدار دراسة منهجية خاصة عن «التفسير الموضوعي: أهميته، ألوانه، مناهجه»، وقد تكون هذه الدراسة قريبة إن شاء الله.

ألوان التفسير الموضوعي الثلاثة

أريد في هذه الوقفة السريعة أن أشير إلي «ألوان التفسير الموضوعي».

إن ألوان التفسير الموضوعي ثلاثة:

اللون الأول: التفسير الموضوعي للمصطلحات القرآنية:

بحيث يختار الباحث مصطلحا من مصطلحات القرآن، ويفرد له دراسة خاصة، يتابع فيها هذا المصطلح في القرآن، في اشتقاقاته وتصريفاته وحالاته العديدة، ثم يتدبر الآيات التي ورد فيها هذا المصطلح، ويستخلص منها اللطائف والمعاني، والدلالات والإشارات.

من أجود الأمثلة علي هذا اللون من التفسير الموضوعي للمصطلح القرآني: رسالة «الأمة في دلالتها العربية والقرآنية» لأستاذنا الدكتور أحمد حسن فرحات، و «العهد والميثاق في القرآن» لزميلنا- في الدراسة- الأستاذ الدكتور ناصر العمر.

ومنها- بشيء من التساهل- كتاب «الضالون كما يصورهم القرآن» لعبد المتعال الجبري، و «الصبر في القرآن» للدكتور يوسف القرضاوي.

وقد صحّ عزمي- بعون الله- علي اصدار سلسلة لهذا اللون من التفسير الموضوعي، وهي «التفسير الموضوعي للمصطلحات القرآنية» وهذه الرسالة: «التفسير والتأويل في القرآن» هي باكورة هذه السلسلة إن شاء الله.

اللون الثاني: التفسير الموضوعي للموضوعات القرآنية:

بحيث يبقي الباحث مع موضوع من موضوعات القرآن، يجمع الآيات حوله، بمختلف صيغها ومفرداتها، وكلماتها ومصطلحاتها.

وهذا الموضوع أشمل من المصطلحات القرآنية، لأنّ القرآن يتحدث عن الموضوع الواحد بمفردات ومصطلحات مختلفة، وعلي الباحث أن يجمعها وأن ينظر فيها، وأن يستخرج دلالاتها وحقائقها.

مثل: الصلاة في القرآن. الجهاد في القرآن. العقيدة في القرآن. الرسول في القرآن. المنافقون في القرآن.

وقد حاولت في بعض ما كتبت أن أسلك هذا الميدان، وأن تكون تلك الدراسة قريبة من هذا اللون من التفسير الموضوعي بكتاب «مع قصص السابقين في القرآن» بحلقاته الثلاث، الذي خصصته للحديث عن قصص غير الأنبياء في القرآن.

كما أمثل له بكتاب «الشخصية اليهودية من خلال القرآن: تاريخ وسمات ومصير»، وبالكتاب الآخر المتفرع منه وهو: «حقائق قرآنية حول القضية الفلسطينية».

اللون الثالث: التفسير الموضوعي للسور القرآنية:

يفرد الباحث فيه السورة القرآنية بدراسة خاصة، ويمعن النظر فيها، ويبين الوحدة الموضوعية للسورة، ويلحظ أهدافها ومقاصدها، ويقف علي وحداتها ودروسها، ثم

يحللها تحليلا موضوعيا، ويقدمها للقارئين وحدة موضوعية متكاملة.

من أجود الدراسات القرآنية التي تمثل هذا اللون من التفسير الموضوعي، كتاب «سورة الحجرات: دراسة تحليلية موضوعية» للأستاذ الدكتور ناصر العمر.

ومنها كتاب «تدبّر سورة الفرقان» لعبد الرحمن حبنكة الميداني.

ومنها- مع التساهل- دراسات الدكتور علي عبد الحليم محمود التربوية لبعض سور القرآن. مثل: تفسير سورة النور. وتفسير سورة المائدة.

ومنها- مع التساهل أيضا- سلسلة الأستاذ عبد الحميد طهماز. «من موضوعات سور القرآن». والتي أصدر منها حوالي عشرين رسالة.

وفي النية إصدار بعض الدراسات لهذا اللون من التفسير الموضوعي، أفرد فيه كلّ سورة برسالة خاصة، وأرجو من الله التوفيق والعون.

ولا يفوتني التذكير بالبداية الناجحة، التي بدأها سيد قطب- وهي بداية- في تعريفه بالسور القرآنية، في الطبعة المنقحة من الظلال، من سورة الفاتحة حتى سورة الحجر، وكلامه في ذلك التعريف والتقديم يصلح أن يكون «نواة» لمن بعده في هذا اللون من التفسير الموضوعي.

خطوات السير في التفسير الموضوعي

كيف نبحث في المصطلح القرآني الواحد؟ وكيف نفسر هذا المصطلح تفسيرا موضوعيا، وما هي الخطوات التي نتبعها في ذلك؟

فيما يلي عجالة سريعة لهذه الخطوات، ونرجئ التفاصيل فيها إلي دراسة منهجية قادمة عن التفسير الموضوعي إن شاء الله.

نريد أن نفسّر «الجهاد في القرآن» تفسيرا موضوعيا- علي سبيل المثال- فما هي الخطوات التي نسلكها في ذلك؟

١ - نعيد الكلمة إلي جذرها الثلاثي. فالجذر الثلاثي لمصطلح الجهاد هو «جهد».

٢ - نبحث عن المعنى اللغويّ الاشتقاقيّ لهذا الجذر الثلاثي في أمهات كتب اللغة، ومن أهمّ المعاجم في ذلك «معجم مقاييس اللغة» لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا. ونراجع في هذا كتب المعاجم الموسعة، ومن أفضلها «لسان العرب» لابن منظور الأفريقي.

٣ - ننظر في معنى الكلمة- جهد- في الكتب التي تبين معاني ألفاظ وكلمات القرآن. وفي مقدمتها كتاب «مفردات ألفاظ القرآن» للامام الراغب الأصفهاني. ومنها كتاب «التصاريف» ليحيي بن سلام البصري، وكتاب «عمدة الحافظ في تفسير أشرف الألفاظ» للسمين الحلبي.

ويجب أن لا يفوتنا الاطلاع علي الكلمة في معجم «الكليات» لأبي البقاء أيوب الحسيني الكفوي.

٤ - ننظر في اشتقاقات وتصريفات الكلمة- جهد- في القرآن الكريم، ونطلع علي هذه التصريفات والحالات في الكتاب القيم النافع: «المعجم المفهرس لألفاظ القرآن» لمحمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله. ونعدّ قائمة بهذه الاشتقاقات والصيغ.

٥ - نتابع كلّ صيغة أو تصريف منها في آيات القرآن، ونسجل هذه الآيات، ونرتبها، وننظر في بعض دلالاتها وإيحاءاتها.

٦ - نربط بين الأصل الاشتقاقي اللغوي للكلمة، الذي أخذناه من مقاييس اللغة ولسان العرب والمفردات والكليات، وبين الاستعمال القرآني، ونري توفّر المعنى اللغوي، والأصل الاشتقاقي في الآيات القرآنية، وننزل ذلك الأصل اللغوي علي التصريفات القرآنية.

٧ - نطلع علي تفسير الآيات التي استخدمت ذلك المصطلح القرآني في أمهات كتب التفسير، لنعرف ماذا قال المفسرون في تفسيرها، وحتى لا نخطئ في نظراتنا وتحليلاتنا.

ونري أنّ من أمهات كتب التفسير القديمة والحديثة: جامع البيان للطبري، والكشاف للزمخشري، والتفسير الكبير للرازي، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي، والمحرر الوجيز لابن عطية، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير، ونظم الدرر للبقاعي، وفي ظلال القرآن لسيد قطب، والتحرير والتنوير لمحمد الطاهر بن عاشور.

٨ - نسجل ما نلحظه في الآيات من دلالات ولطائف، وإشارات وحقائق، وننقل ما نراه مناسبا من أمهات التفاسير، ونركز علي الدلالات التي فيها جدة وإضافة، أو فيها ارتباط واتصال مع واقع وحياة وحاضر الناس، ونحرص علي أن تكون هذه اللطائف منوعة مختلفة.

٩ - نذهب إلي أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكلام الصحابة والتابعين، لنطلع علي ما في هذه المصادر من كلام يتعلق بالمصطلح الذي نبحثه، فإن الأحاديث الصحيحة التي استخدمته، تضفي عليه مزيدا من الإشارات والفوائد والحقائق.

١٠ - نستخلص بعض ما وجدناه في رحلتنا مع هذا المصطلح القرآني، ونختم البحث بخاتمة نسجل فيها خلاصة نافعة في ذلك.

هذه عشر خطوات مرحلية متدرجة نراها ضرورية لمتابعة أيّ مصطلح قرآني، ليكون البحث علميا موضوعيا، وليكون النظر سليما صائبا، وليكون الاستنتاج صحيحا مقبولا.

البدء بالتفسير والتأويل في القرآن

وعلي هدي هذا المنهج بحثنا في «التفسير والتأويل في القرآن» في هذا البحث.

لقد أردنا أن يكون أول مصطلح نتابعه في القرآن، ونفسره تفسيرا موضوعيا هو «التأويل» لأنّ عملنا وجهدنا ما هو إلا نوع من أنواع تفسير القرآن، ولون من ألوان تأويله.

لقد اختلف العلماء قديما وحديثا في معنى «التأويل» وفي بيان أنواعه، ونشأت عن ذلك مدارس، ومذاهب، وتيارات فكرية مختلفة. وأدخل بعضهم موضوع التأويل في العقيدة، وفي مباحثها الغيبية، وبالذات في صفات الله.

كما اختلف العلماء كثيرا في نظرهم في آية المحكم والمتشابه والتأويل في سورة آل عمران، هل يمكن تأويل المتشابه أو لا يمكن؟ وما هو المتشابه الذي يمكن تأويله، والذي لا يمكن؟ وما هو المراد بالتأويل إن كان ممكنا؟ وما هي ضوابط هذا التأويل الممكن ليكون صوابا؟ وما هو المراد بالتأويل غير الممكن الذي اختصّ الله به؟

كما اختلفوا كثيرا في بيان الفروق بين التفسير والتأويل، وأوردوا في هذا أقوالا عديدة.

هذا كله دفعنا إلي أن نبحث في مصطلح «التأويل» في القرآن، لنحاول معرفة إجابات عن هذه التساؤلات، ولنقدم للقارئ خلاصة وصورة عن هذا الموضوع، ولنعالجه معالجة قرآنية حديثية.

وبما أنّ «التفسير» ملازم للتأويل، ومقترن به، فقد بحثنا فيه أيضا، لا سيما أنّ «التفسير» لم يرد في القرآن إلا مرة واحدة، في سورة الفرقان.

الفصل الأول التفسير والتأويل في اللغة والاصطلاح

المبحث الأول: التفسير في اللغة والاصطلاح

التفسير في اللغة

التفسير مصدر، علي وزن «تفعيل».

وفعله الثلاثي «فسر». يقال: فسر الشيء فسرا.

والفعل الماضي من التفسير، هو الرباعي «فسّر»، يقال: فسّر الشيء تفسيرا.

والجذر الثلاثي للكلمة هو الفسر.

قال الإمام أحمد بن فارس عن الفسر: الفسر كلمة تدلّ علي بيان الشيء وإيضاحه.

تقول: فسرت الشيء، وفسّرته [١].

وقال الإمام الراغب الأصفهاني في المفردات: الفسر: إظهار المعنى المعقول. ومنه قيل لما ينبئ عنه البول: تفسرة. [أي أنّ البول ينبئ ويكشف ويظهر المرض الموجود في الجسم، فالبول تفسرة وإظهار للمرض] .

والتفسير في المبالغة كالفسر [٢].

أي أنّ الراغب يري اتفاق التفسير والفسر في أصل المعني، فهما يدلان

(١) معجم مقاييس اللغة لابن فارس: ٤/ ٥٠٤.

(٢) مفردات ألفاظ القرآن: ٦٣٦.

علي إظهار المعني. لكن في التفسير مبالغة أكثر من الفسر.

ويلتقي كلام ابن فارس مع كلام الراغب علي أنّ معنى التفسير يقوم علي: بيان الشيء وإظهاره وإيضاحه.

وقال ابن منظور في «لسان العرب» عن الفسر:

الفسر: البيان. يقال فسر الشيء وفسّره، أي: أبانه.

والفسر: كشف المغطي. والتفسرة: البول الذي يستدلّ به علي المرض، حيث ينظر فيه الأطباء، فيستدلون به علي علة المريض.

وكلّ شيء يعرف به تفسير الشيء، ومعناه، فهو تفسرته.

والتفسير: البيان. وهو: كشف المراد عن اللفظ المشكل [١].

إنّ كلّ اشتقاقات وتصريفات مادة «فسر» تدلّ علي معناها الأصلي، الذي لا يخرج عن: البيان والكشف والتوضيح والإظهار.

فتفسير الكلام هو: بيان معناه. وإظهاره وتوضيحه، وإزالة إشكاله، والكشف عن المراد منه.

قال الإمام أبو البقاء الكوفي في «الكليات» عن هذا المعنى الجامع للتفسير:

«التفسير: الاستبانة والكشف، والعبارة عن الشيء بلفظ أيسر وأسهل من لفظ الأصل.

قال أهل البيان: التفسير هو أن يكون في الكلام لبس وخفاء، فيؤتي بما يزيله ويفسّره» [٢].

(١) لسان العرب لابن منظور ٥/ ٥٥.

(٢) الكليات لأبي البقاء الكفوي: ٢٦٠.

بين الفسر والسّفر:

لاحظنا أن التفسير مشتق من الفسر.

والاشتقاق الأصغر من هذه المادة «الفسر» يدلّ علي معناها الأصلي، وهو البيان والتوضيح، والكشف والإظهار.

والاشتقاق الأصغر هو: كلّ التصريفات من هذا الجذر الثلاثي «فسر» مثل فسر، يفسر، فسرا، وفسر، يفسّر، تفسيرا.

كذلك الاشتقاق الأكبر لهذه المادة يدلّ علي هذا المعني.

والاشتقاق الأكبر هنا مشاركة مادة أخرى لمادة «فسر» في الحروف الثلاثية لها، لكن مع تقديم وتأخير.

من الاشتقاق الأكبر لهذه المادة كلمة «سفر»، فكلمتا «سفر» و «فسر» متقاربتان في اللفظ والمعني، ومشتقّتان من الحروف الثلاثة: الفاء والسين والراء، اشتقاقا أكبر.

إنّ أساس معنى «سفر» قريب من معنى «فسر».

قال أحمد بن فارس عن «سفر»: هو يدلّ علي الانكشاف والجلاء.

وكلّ المشتقات اشتقاقا أصغر من هذه المادة، تدل علي هذه المعني.

فالسّفر سمي بذلك، لأنّ الناس عند ما يسافرون ينكشفون عن أماكنهم، ويظهرون للآخرين.

ويقال: سفرت المرأة عن وجهها: إذا كشفته وأظهرته.

ويقال: أسفر الصبح: إذا انكشف الظلام وظهر الضياء.

ويقال: وجه مسفر: إذا كان مشرقا مسرورا.

وسميت الكتابة «سفرا»، وسمي الكتاب «سفرة»: لأن الكتابة

تسفر عن ما يحتاج إليه صاحبها، وتكشف مراده، وتظهره [١].

وقال الراغب في المفردات: السّفر كشف الغطاء.

ويختصّ ذلك بالأعيان. يقال: سفر العمامة عن الرأس. وسفر الخمار عن الوجه. أي: كشفه.

والإسفار يختص باللون. يقال: أسفر الصبح: إذا أشرق لونه.

وسافر الرجل: لأنه ينكشف عن المكان. وألف المفاعلة في «سافر» لأنّه هو قد سفر عن المكان، والمكان أيضا سفر عنه [٢].

فبين الفسر والسّفر تقارب في اللفظ، لأنهما مشتقّان اشتقاقا أكبر.

وبينهما تقارب في المعني- ولا أقول: ترادف-: لأنّ أساس معنى الفسر هو: البيان والتوضيح. وأساس معنى السّفر هو: الانكشاف والظهور.

تعريف «تفسير القرآن»

بعد أن عرفنا معنى «التفسير» في اللغة، واشتقاقه من «الفسر»، والصلة بين الفسر والسّفر، ننتقل الآن إلي تعريف هذا المصطلح «التفسير»، بعد أن صار علما يطلق علي بيان معاني القرآن.

للعلماء المفسّرين عدة أقوال في تعريف «تفسير القرآن»، أوردها الإمام السيوطي في «الاتقان»، نختار منها ما يلي:

١ - قال بعضهم: التفسير في الاصطلاح: هو علم نزول الآيات، وشئونها وأقاصيصها، والأسباب النازلة فيها، ومكيها ومدنيّها، ومحكمها ومتشابهها، وناسخها ومنسوخها، وخاصّها وعامّها، ومطلقها ومقيّدها، ومجملها ومفسّرها، وحلالها وحرامها، ووعدها ووعيدها،

(١) معجم مقاييس اللغة: ٣/ ٨٢.

(٢) المفردات: ٤١٢.

وأمرها ونهيها، وعبرها وأمثالها.

٢ - وقال أبو حيان: التفسير علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، ومدلولاتها، وأحكامها الإفرادية والتركيبية، ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب، وتتمات ذلك.

٣ - وقال الزركشي: التفسير: علم يفهم به كتاب الله، المنزّل علي نبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحكمه. واستمداد ذلك من علم اللغة والنحو والتصريف، وعلم البيان، وأصول الفقه والقراءات، ويحتاج لمعرفة أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ [١].

ونلاحظ أنّ هذه التعاريف تتحدث عن تفصيلات ومباحث علم التفسير، وعن موارده ومصادره، أكثر مما تتحدث عن تعريفه تعريفا موجزا، يدلّ علي طبيعته.

وقد مال أبو البقاء الكفوي في الكليّات إلي تعريف أبي حيان للتفسير، فقال في تعريفه: هو علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، ومدلولاتها، وأحكامها الإفرادية، ومعانيها التركيبية [٢].

أما الدكتور محمد حسين الذهبي، فقد أورد في «التفسير والمفسرون» التعاريف الثلاثة للتفسير، التي نقلناها من كتاب «الاتقان».

ثم أضاف لها تعريفا رابعا، هو تعريف الشيخ محمد أبو سلامة في كتابه «منهج الفرقان»، فقال:

٤ - «وعرّفه بعضهم: بأنه علم يبحث فيه عن أحوال القرآن المجيد، من حيث دلالته علي مراد الله، بقدر الطاقة البشرية».

وعلق الشيخ الذهبي علي هذه التعاريف بقوله: «وهذه التعاريف الأربعة

(١) الاتقان في علوم القرآن للسيوطي: بتحقيق الدكتور مصطفي البغا: ٢/ ١١٩١.

(٢) الكليات: ٢٦٠.

تتفق كلها علي أنّ علم التفسير: علم يبحث عن مراد الله تعالى، بقدر الطاقة البشرية. فهو شامل لكلّ ما يتوقف عليه فهم المعني، وبيان المراد» [١].

والذي أميل إليه من التعاريف السابقة هو القسم الأول من التعريف الذي ذكره الإمام الزركشي.

فأقول: التفسير هو: علم يفهم به كتاب الله، المنزل علي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحكمه.

وكم يعجبني التعريف المختصر المفيد للتفسير، الذي اختاره الإمام محمد الطاهر بن عاشور في مقدمة تفسيره: «التحرير والتنوير»:

٥ - قال: «التفسير: اسم للعلم الباحث عن بيان معاني ألفاظ القرآن، وما يستفاد منها، باختصار أو توسع» [٢].

ثم قال ابن عاشور: وموضوع التفسير: ألفاظ القرآن، من حيث البحث عن معانيه، وما يستنبط منه [٣].

(١) التفسير والمفسرون للذهبي: ١/ ١٥.

(٢) التحرير والتنوير لابن عاشور: ١/ ١١.

(٣) المرجع السابق: ٤/ ١٢.

المبحث الثاني: التأويل في اللغة والاصطلاح

التأويل في اللغة

التأويل مصدر علي وزن «تفعيل» وفعله الماضي رباعي، وهو «أول»، تقول: «أوّل يؤوّل، تأويل».

وجذر الكلمة الثلاثي هو: أول.

قال الإمام ابن فارس عن «أول»:

«أول» أصلان، هما: ابتداء الأمر، وانتهاؤه.

من استعماله في الابتداء قولك: الأوّل، وهو مبتدأ الشيء. ومؤنثة: أولي. وجمعه: أوائل.

ومن استعماله في انتهاء الأمر: الأيل. وهو الذكر من الوعول.

وسمي أيّلا لأنه يؤول إلي الجبل، وينتهي إليه، ليتحصّن به.

وقولهم: آل بمعني: رجع. ولهذا قالوا: أوّل الحكم إلي أهله. أي أرجعه، وردّه إلي أهله.

و: الإيالة هي السياسة. لأنّ الرعية ترجع الأمور وتعيدها وتردّها إلي راعيها. وقولهم: آل الحاكم رعيته: إذا أحسن سياستها.

و: آل الرجل: أهل بيته. وسمّوا بذلك لأنّ مرجعهم ومآلهم في الانتهاء إليه، كما أن مرجعه ومآله إليهم لأنهم ابتداؤه!!

ومن هذا الباب- الأول بمعنى الانتهاء والمرجع- قولهم: تأويل الكلام.

وهو عاقبته، وما يؤول وينتهي إليه [١].

إنّ ابن فارس يري أن «الأول» أصل في الابتداء والانتهاء.

وفي الحقيقة نري أنّ هذين الأصلين متقاربان جدا، وكأنهما أصل واحد. لأنّ كلا منهما طرف في الأمر، فالأول بدايته، والأخير نهايته، وهو موصول بين نقطتي البداية والنهاية! إنّ الأول ينتهي إلي الأخير. وإنّ الأخير متصل بالأوّل. فالابتداء والانتهاء يلتقيان علي هذا الأساس، ويدلان علي المرجع والانتهاء.

وقال الامام الراغب الأصفهاني في المفردات عن «الأول»:

الأول: الرجوع إلي الأصل.

ومنه «الموئل»: وهو الموضع الذي يرجع اليه.

والتأويل هو: ردّ الشيء إلي الغاية المرادة منه، علما كان أو فعلا.

ومن ردّ الشيء إلي غايته في العلم قوله تعالى: وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [٢].

ومن ردّ الشيء إلي غايته في الفعل قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ، يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ، قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ [٣].

وقوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ، فَرُدُّوهُ إِلَي اللَّهِ والرَّسُولِ، إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ، ذلِكَ خَيْرٌ وأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [٤].

(١) مقاييس اللغة: ١/ ١٥٨ - ١٦٢. باختصار.

(٢) سورة آل عمران: ٧.

(٣) سورة الأعراف: ٥٣.

(٤) سورة النساء: ٥٩.

قيل إنّ معناه: أحسن معنى وترجمة.

وقيل: أحسن ثوابا في الآخرة.

والأول: السياسة التي تراعي مآلها. وتلاحظ نهايتها [١].

عبارة الراغب في معنى «الأول» أكثر دقة وضبطا. وهو: الرجوع إلي الأصل.

وعبارته في معنى التأويل أيضا جامعة ودالة علي المطلوب، فهو: ردّ الشيء إلي الغاية المرادة منه، علما كان أو فعلا.

أما كلام ابن منظور في لسان العرب عن التأويل والأول، فإننا ننتقي منه هذه العبارات الموجزة:

الأول: الرّجوع. و: آل الشيء يؤول مآلا: إذا رجع وعاد. وأوّل الكلام وتأوّله: إذا دبّره وقدره وفسّره.

ويقال: ألت الشيء: إذا جمعته وأصلحته، فكأنّ التأويل هو: جمع معاني ألفاظ أشكلت، بلفظ واضح لا إشكال فيه.

والتأويل: المرجع والمصير. مأخوذ من: آل إلي كذا: أي: صار إليه [٢].

بين الأول والوأل

عرفنا أنّ التأويل في اللغة يدلّ علي معني: الرجوع والانتهاء والعاقبة.

وكلّ تصريفات واشتقاقات الكلمة، يظهر فيها هذا المعني.

وهذا هو الاشتقاق الأصغر لمادة «أول» التي تدلّ علي معنى الرجوع والانتهاء.

(١) المفردات: ٩٩ بتصرف يسير.

(٢) لسان العرب لابن منظور: ١١/ ٣٢ - ٤٠.

أما الاشتقاق الأكبر لهذه الحروف الثلاثة: الهمزة والواو واللام، فهو يقوم علي هذا المعني.

وكما سبق أن لاحظنا الصلة الاشتقاقية والمعنوية بين الفسر وبين السفر، نلحظ هنا الصلة الاشتقاقية والمعنوية بين الأول والوأل.

الأول: الرجوع والانتهاء.

والوأل: المرجع والمنجي والملجأ.

قال ابن فارس عن الوأل: هي كلمة تدلّ علي تجمع والتجاء [١].

قال تعالى: ورَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ، لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [٢].

أي: عند ما يحين موعد عذاب الله للكفار، فسيقع بهم لا محالة، ولن يجدوا موئلا يئلون إليه، ولا ملجأ يلجئون إليه، ولا مرجعا يرجعون إليه! قال السّميني الحلبي في «عمدة الحفاظ» عن الموئل: «قيل هو: المرجع. وقال الفرّاء: الموئل: المنجي. يقال: وأل زيد من العدوّ. إذا نجا منه.

وقيل: هو الملجأ. يقال: وأل فلان إلي فلان. إذا لجأ إليه» [٣].

وبين الأصلين: أول و: وأل تقارب في المعني.

فالأول هو: الرجوع إلي الأصل والانتهاء إليه.

والوأل هو: الرجوع إلي الملجأ والنجاة إليه والاحتماء به!!

(١) مقاييس اللغة: ٦/ ٧٩.

(٢) الكهف: ٥٨.

(٣) عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ للسمين الحلبي: ٤/ ٣١٨.

التأويل في الاصطلاح

من أدق التعاريف للتأويل في الاصطلاح وأكثرها ضبطا، ما ذكره الامام الراغب الأصفهاني في المفردات.

قال: التأويل هو «ردّ الشيء إلي الغاية المرادة منه، علما كان أو فعلا» [١].

فتأويل الكلام هو ردّه إلي الغاية المرادة منه، وإرجاعه إلي أصله، وإعادته إلي حقيقته التي هي عين المقصود منه.

أو بعبارة أخري: تأويل الكلام هو: ردّ معانيه وإرجاعها إلي أصلها الذي تحمل عليه، وتنتهي هي إليه.

الأصل أن يكون للكلام الصادق حقيقة، مرادة منه، وغاية ينتهي إليها، ومرجع ومآل يرجع إليه، وإلا كان كذبا لا رصيد له من الحقيقة.

وهذه الحقيقة التي لا بدّ أن يؤول ويرجع إليها الكلام الصادق، هي عين المقصود به، والغاية المرادة منه- كما قال الإمام الراغب.

والكلام إمّا أن يكون طلبا، وإمّا أن يكون خبرا.

فإن كان طلبا، فقد يتضمن فعل شيء، وقد يتضمّن تركه.

فتأويل الطلب هو تحقيق المقصود منه بالفعل أو الترك، وبهذا يكون قد أعاد الكلام وأرجعه إلي غايته المرادة منه، فنفذ المطلوب منه.

وإن كان الكلام خبرا، كانت حقيقته وغايته المرادة منه هي وقوعه وحدوثه فعلا وفق ما ورد في الكلام. ويكون تأويل هذا الخبر: تحقق وقوعه في عالم الواقع، وصدق انطباق هذا الوقوع علي مضمون ذلك الكلام.

فعند ما نؤوّل الكلام الطلبي، فإننا ننفذه عمليا، وبهذا نردّه إلي الغاية

(١) المفردات: ٩٩.

المرادة منه، ونحقق حقيقته الفعلية، فنفعل أو نترك.

وعند ما نؤوّل الكلام الخبري، فإننا ننتظر وقوعه فعلا، وبهذا نردّه إلي الغاية المرادة منه، وهي حدوثه في عالم الواقع.

وهذا معنى كلام الراغب: «التأويل: هو ردّ الشيء إلي الغاية المرادة منه، علما كان أو فعلا».

معنيان للتأويل عند السلف

للإمام ابن تيمية كلام جيد عن معنى التأويل عند السلف، أورده في رسالته «الإكليل في المتشابه والتأويل» ومما قال فيه: «وأما التأويل في لفظ السلف، فله معنيان:

أحدهما: تفسير الكلام وبيان معناه، سواء وافق ظاهره أو خالفه.

فيكون التفسير والتأويل عند هؤلاء متقاربا أو مترادفا» [١].

وهذا- والله أعلم- هو الذي عناه مجاهد من أنّ العلماء يعلمون تأويل القرآن.

ولهذا كان محمد بن جرير الطبري يقول في تفسيره: القول في تأويل قوله كذا وكذا. واختلف أهل التأويل في هذه الآية. ونحو ذلك.

فإنّ الطبريّ كان مراده من التأويل التفسير.

والثاني من معاني التأويل عند السلف هو: نفس المراد بالكلام.

فإن كان الكلام طلبا كان تأويله: نفس الفعل المطلوب.

وإن كان الكلام خبرا، كان تأويله: نفس الشيء المخبر به.

(١) انظر رسالة «الإكليل في المتشابه والتأويل» لابن تيمية: ٢٦ - ٣٢. وانظر عرض أستاذنا الدكتور أحمد حسن فرحات لكلام ابن تيمية في «التعريف بالقرآن الكريم»: ١٠٤ - ١٠٧.

الفرق بين هذين المعنيين

وهناك فرق بين هذين المعنيين: فعلي المعنى الأول يكون التأويل من باب العلم، فتأويل الكلام هو العلم بمعناه، وهو كالتفسير والشرح والإيضاح.

ووجود التأويل يكون في القلب، ودور اللسان في التأويل هو في التلفظ والنطق.

وعلي المعنى الثاني يكون التأويل هو نفس الأمور الموجودة في الوجود والواقع. سواء كانت ماضية أو مستقبلية.

فعند ما تقول: طلعت الشمس، يكون تأويل قولك هو نفس طلوعها.

وعلي هذا المعنى يكون تأويل الكلام هو وجود معناه وجودا ماديا عينيا واقعيا [١].

وعلي هذين المعنيين للتأويل عند السلف- كما عرضهما الامام ابن تيمية- نري أنّ التأويل عند السلف يقوم علي معنى الرد والرجوع والإعادة والانتهاء. وهذا هو معناه في اللغة والاصطلاح، كما سبق أن أوردناه.

تأويل الكلام: ردّه إلي حقيقته المادية وغايته الواقعية، وهذا الردّ نوعان:

الأول: ردّ الكلام إلي حقيقته العلمية، وذلك بإعادته إلي أصله ودلالته، وحسن فهمه، وهذا ردّ علمي.

الثاني: ردّ الكلام إلي حقيقته العملية، وذلك بأدائه وفعله، وهذا انتهاء به إلي غايته الفعلية. وهذا ردّ عملي.

وهذان النوعان داخلان في قول الراغب عن التأويل: «هو رد الشيء إلي الغاية المرادة منه، علما كان أو فعلا».

(١) الإكليل في المتشابه والتأويل: ٢٥ - ٢٦ بتصرف في الصياغة للتوضيح.

وقد استخلص أستاذنا الدكتور أحمد حسن فرحات خلاصة نافعة موجزة للتأويل: فقال: «من كل ما سبق يتبين لنا:

أن الكلام إذا وقف به عند المعنى الظاهر، كانت الغاية منه هذا المعنى الظاهر، ويكون المراد بالتأويل هو التفسير.

وإذا كان المراد به تحققه في عالم الواقع إن كان خبرا، أو تحقيقه إن كان طلبا، كانت هذه هي الغاية المرادة منه. وهذا غير التفسير.

وإذا تجاوزنا المعنى الظاهر إلي المعنى غير الظاهر، كانت الغاية المرادة من الكلام، المعنى غير الظاهر، لدلالة القرينة علي ذلك. وكان هذا تأويلا وليس تفسيرا- باصطلاح المتأخرين- ويمكن أن يدخل في التفسير حسب اصطلاح السلف.

وكما يجري التأويل في العلم والقول، كذلك يجري في العمل، كما ورد في قصة موسي عليه السلام مع الرجل الصالح.

حيث ردّ الرجل الصالح الأعمال الثلاثة التي قام بها- خرق السفينة وقتل الغلام، وإقامة الجدار- إلي الغاية المرادة منها، وقال لموسي: «ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا» [١].

(١) التعريف بالقرآن الكريم لأستاذنا الدكتور أحمد فرحات: ١٠٨.

الفصل الثاني التفسير والتأويل في الأسلوب القرآني

المبحث الأوّل: التفسير في الأسلوب القرآني

لم يرد في القرآن من اشتقاقات وتصريفات مادة «فسر» إلا كلمة واحدة، هي «تفسير».

و «تفسير» مصدر الفعل الماضي الرباعي «فسر».

و «تفسير» لم ترد في القرآن إلا مرة واحدة، في سورة الفرقان.

قال تعالى: وقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً. وكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ، وكَفي بِرَبِّكَ هادِياً ونَصِيراً. وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً، كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ، ورَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا. ولا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ، وأَحْسَنَ تَفْسِيراً [١].

ومع أنّ الشاهد في الآية الثالثة، إلا أننا أوردنا الآيات الثلاثة لنعرف السياق الذي وردت فيه كلمة «تفسير» هنا.

تبين الآيات عداوة الكفار للحق، ومحاربتهم للقرآن، وتكذيبهم للرسول عليه الصلاة والسلام، وإثارتهم للشبهات ضده.

الرسول عليه الصلاة والسلام يشكو إلي ربّه كفر قومه وهجرهم للقرآن، فيواسيه الله عز وجل، ويخبره أن هذه هي طريق الرسالات، فكما أنه له

(١) سورة الفرقان: ٣٠ - ٣٣.

أعداء من المجرمين، كذلك كان للرسل السابقين أعداء من المجرمين.

ثم تخبر الآيات عن بعض أساليب الكفار في محاربة الرسول والقرآن، وذلك بإثارتهم للشبهات ضده. فلم يعجبهم نزول القرآن منجما حسب الحوادث، وطلبوا إنزاله جملة ودفعة واحدة، كما أنزل الله الكتب السابقة علي رسله.

وترد الآية علي هذه الشبهة بالإشارة إلي حكمتين من تفريق إنزال القرآن: تثبيت قلب النبي عليه الصلاة والسلام، والتدرج في إنزاله للتشريع والتربية.

ثم تعقب الآيات علي ذلك بايراد القاعدة العامة في مواجهة الحق للباطل: ولا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وأَحْسَنَ تَفْسِيراً.

لقد تكفل الله بنصرة الحق، ودحض الباطل، ونقض شبهات الكفار ضدّ الرسالة والرسول. ولهذا أخبر الله رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه معه، فكلما يأتيه الكفار بمثل أو شبهة أو إشكال، فإن الله يتولي نقض ذلك، حيث ينزل عليه آيات من القرآن، فيها الردّ علي اعتراضهم، وحلّ إشكالهم.

والمراد بالمثل في قوله ولا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ: الاعتراض أو الشبهة.

فعند ما طلبوا إنزال القرآن جملة واحدة، ضربوا التوراة والإنجيل مثلا، فقالوا: لماذا لم يكن القرآن كالتوراة، فلو كان القرآن كلام الله لأنزله الله دفعة واحدة، كما أنزل التوراة.

إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وأَحْسَنَ تَفْسِيراً: ينزل الله آيات من القرآن، فيها دحض اعتراضهم، ونقض مثلهم. وقد وصف الله هذه الآيات النازلة من القرآن بصفتين: فهي الحق، وهي أحسن تفسيرا.

والحق هنا في مقابلة الباطل. فالكفار يأتونك «بمثل». ونحن نأتيك «بالحق» لنقضه، وهذا يدلّ علي أنّ المثل الذي يأتون به باطل وداحض.

وهذه الآيات النازلة في نقض مثل الكفار «أحسن تفسيرا». أي: هي أحسن بيانا وتوضيحا وكشفا وعرضا وحجاجا وجدالا.

وأفعل التفضيل هنا «أحسن» ليس علي ظاهره. فهو لا يدل علي انّ آيات القرآن النازلة أحسن تفسيرا وبيانا من المثل الذي يأتي به الكفار. لأنه لا تجوز المقارنة أصلا بين شبهة الكفار، وبين نقض القرآن لها، ولا نمدح القرآن عند ما نقول إنه أحسن بيانا من كلام الكفار. وقديما قال الشاعر:

ألم تر أنّ السّيف ينقص قدره ... إذا قيل: هذا السّيف أمضي من العصا

إنّ أفعل التفضيل هنا «وأحسن تفسيرا» للمبالغة في الثناء علي آيات القرآن، وبيان فضلها في ذاتها، وحسنها في تفسيرها وبيانها.

إن كلمة التفسير في الجملة: «وأحسن تفسيرا» بمعني: البيان والتوضيح والكشف والإظهار.

وهي تقرر حقيقة قرآنية قاطعة: إنّ الأدلة والبراهين والحجج والحقائق القرآنية هي أحسن تفسيرا وبيانا وعرضا وتوضيحا، وهي الكفيلة بدحض ونقض أباطيل وشبهات الكفار، وعلي المسلمين فهمها واستيعابها.

واستخدامها في مواجهة أعدائهم، ليتمكنوا من إفحامهم.

المبحث الثاني: التأويل في الأسلوب القرآني

ورد في القرآن عدة اشتقاقات لمادة «أول» - التي سبق أن تحدّثنا عن معناها.

ورد فيه من اشتقاقاتها: تأويل. آل. أوّل. أولي. أوّلون. أولات. أولوا.

وكل هذه الاشتقاقات يتوفّر فيها أساس معنى الأول الذي ذكرناه. وهو ابتداء الشيء وانتهاؤه، وإرجاعه إلي أصله، وردّه إلي غايته.

ونريد في وقفتنا هنا أن نتابع ورود كلمة «تأويل» في الأسلوب القرآني، وأن نستخرج منها بعض اللطائف والدلالات.

وردت كلمة تأويل في القرآن سبع عشرة مرة.

وكانت لها أربع حالات:

١ - تأويلا: مصدر منصوب علي التمييز: مرتان.

٢ - تأويله: مضاف إلي الضمير الهاء: ثماني مرات.

٣ - تأويل الأحاديث والأحلام والرؤيا: مضاف للاسم الظاهر: خمس مرات ٤ - تأويل: مجرد عن الإضافة: مرفوع أو مجرور: مرتان

أما السور التي وردت فيها فكانت سبع سور، وهي:

١ - سورة يوسف: وردت فيها ثماني مرات.

٢ - سورة آل عمران: وردت فيها مرتين.

٣ - سورة الأعراف: وردت فيها مرتين.

٤ - سورة الكهف: مرتين.

٥ - سورة النساء: وردت فيها مرة واحدة.

٦ - سورة يونس: وردت فيها مرة واحدة.

٧ - سورة الإسراء: وردت فيها مرة واحدة.

المطلب الأول: مع التأويل في سورة يوسف

قلنا إنّ التأويل ورد في سورة يوسف ثماني مرات من عدد مرات وروده السبع عشرة مرة في القرآن. أي: نصف مرات ورود التأويل في القرآن تقريبا كان في سورة يوسف.

ولعلّ الحكمة اللطيفة في هذا أنّ، سورة يوسف ذكرت قصة يوسف عليه الصلاة والسلام من بدايتها إلي نهايتها. حيث بدأت بالحديث عن رؤيا رآها يوسف عليه الصلاة والسلام في المنام وهو صغير، ثم تتابعت أحدث قصته عشرات السنين، مرّ فيها يوسف عليه السلام بكثير من العقبات والمفاجآت والتطورات، وختمت قصته في آخر آيات السورة، بتحقيق الرؤيا التي رآها وهو صغير، ووجودها في عالم الواقع! ثم إنّ الله خصّ يوسف عليه الصلاة والسلام بعلم «تأويل الأحاديث»، وتعبير الرؤيا، وعرضت السورة أمثلة لرؤي وأحاديث أوّلها يوسف عليه السلام.

واللطيف في الأمر أن آيات سورة يوسف ذكرت لنا ثلاث رؤي منامية، وذكرت لنا تأويلها:

الرؤيا الأولي: رؤيا يوسف وهو صغير سجود الكواكب له.

الرؤيا الثانية: رؤيا كلّ من الشخصين السجينين، اللذين كانا مع يوسف عليه السلام، وتأويله لرؤيا كلّ منهما.

الرؤيا الثالثة: رؤيا الملك للبقرات السمان والعجاف، وتأويل يوسف لها.

فالسورة كلها تقوم علي تأويل الأحاديث، وتعبير الرؤي والمنامات، وتظهر علم يوسف الخاصّ بهذا التأويل.

نص الآيات:

١ - لما رأي يوسف رؤياه وهو صغير، وأخبر أباه بها، طلب أبوه منه عدم إخبار أحد بها.

قال تعالى: وكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ويُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ، ويُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ [١].

٢ - دخل يوسف عليه الصلاة والسلام مرحلة جديدة من أحداث قصته، حيث اشتراه عزيز مصر، وطلب من امرأته إكرام يوسف، وهذا تمهيد لإظهار علمه بتأويل الأحاديث.

قال تعالى: وكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ، ولِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ، واللَّهُ غالِبٌ عَلي أَمْرِهِ، ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [٢].

٣ - عند ما أدخل يوسف عليه السلام السجن ظلما، دخل معه السجن سجينان، ولما كانا في السجن، رأي كلّ منهما رؤيا، فطلبا من يوسف تأويلها:

قال تعالى: ودَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ، قالَ أَحَدُهُما: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً، وقالَ الْآخَرُ: إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً، تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ، نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ، إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [٣].

٤ - أظهر يوسف عليه السلام للسجينين علمه بتأويل الاحاديث، واستشراف المستقبل، وأخبرهما أن الله علمه ذلك.

قال تعالى: قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ، إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ، قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما، ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي [٤].

(١) سورة يوسف: ٦.

(٢) سورة يوسف: ٢١.

(٣) سورة يوسف: ٣٦.

(٤) سورة يوسف: ٣٧.

٥ - بينما كان يوسف سجينا، رأي ملك مصر رؤيا مزعجة، فطلب من خبرائه ومستشاريه تعبيرها وتأويلها، فأخبروه أنها أضغاث أحلام، ولا علم لهم بتأويلها.

قال تعالى: وقالَ الْمَلِكُ: إِنِّي أَري سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ، يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ، وسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ، وأُخَرَ يابِساتٍ. يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ، إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ. قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ، وما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ [١].

٦ - لما رأي الشخص الخارج من السجن- وهو أحد حاشية الملك- عجز الملأ عن تعبير رؤيا الملك، تذكّر علم يوسف بتأويل الرؤيا، وطلب إرساله إلي يوسف، فأخبره بها، وأوّلها يوسف له.

قال تعالى: وقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما، وادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ، أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ. يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ: أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ، وسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ، وأُخَرَ يابِساتٍ [٢].

٧ - في المشاهد الأخيرة من قصة يوسف عليه السلام، تحققت رؤياه التي رآها وهو صغير، وتأوّلت عمليا. فهو الآن عزيز مصر، وقد دخل عليه أبواه وإخوته الأحد عشر، وسجدوا كلهم له.

قال تعالى: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلي يُوسُفَ آوي إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ، وقالَ: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ. ورَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَي الْعَرْشِ وخَرُّوا لَهُ سُجَّداً، وقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ. قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا [٣].

٨ - ختم يوسف عليه الصلاة والسلام قصته التي تقوم علي علمه بتأويل الأحاديث، بشكره لله الذي علمه ذلك، وطلبه منه أن يميته علي الإسلام.

(١) سورة يوسف: ٤٣ - ٤٤.

(٢) سورة يوسف: ٤٥ - ٤٦.

(٣) سورة يوسف: ٩٩ - ١٠٠.

قال تعالى: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ، وعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ، فاطِرَ السَّماواتِ والْأَرْضِ، أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا والْآخِرَةِ، تَوَفَّنِي مُسْلِماً، وأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [١].

خلاصة ذكر التأويل في سورة يوسف، أنّ المرات الثمانية التي ذكرت فيها مقسمة علي الرؤي الثلاثة:

رؤيا يوسف عليه السلام وعلمه بتأويل الأحاديث: أربع مرات.

رؤيا السجينين، وتأويل يوسف لها: مرتان.

رؤيا الملك، وتأويل يوسف لها: مرتان.

وننظر في هذه الرؤي الثلاثة، وتأويل يوسف لها، كلّ واحدة علي حدة، لنعرف المراد بالتأويل في هذه الرؤي.

تأويل رؤيا يوسف:

أراد الله إكرام يوسف عليه السلام وهو صغير، فأراه رؤيا ذات دلالة، رأي في منامه سجود أحد عشر كوكبا والشمس والقمر له، ولم يفهم يوسف عليه السلام عن مغزي رؤياه شيئا لصغر سنه، ولكنّ والده يعقوب عليه السلام علم مغزي الرؤيا، وإشارتها إلي مستقبل إيماني زاهر ليوسف، فلفت نظره إلي هذا المستقبل، ودعاه إلي استشرافه.

قال تعالى: إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً، والشَّمْسَ والْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلي إِخْوَتِكَ، فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً. إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ، ويُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ، ويُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ، وعَلي آلِ يَعْقُوبَ، كَما أَتَمَّها عَلي أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وإِسْحاقَ. إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [٢].

(١) سورة يوسف: ١٠١.

(٢) سورة يوسف: ٤ - ٦.

لقد استشف يعقوب النبيّ عليه السلام، من الرؤيا التي أراها الله لابنه الصغير، أنها دالة علي تخصيص الله ليوسف بعلم تعبير الرؤي، وتأويل الأحاديث.

والمراد بالأحاديث في قوله: ويُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ الرؤي التي يراها الراءون في منامهم، ولا أقول الأحلام التي يحلم بها النائمون، لأنّ الأحلام قد لا تكون صادقة، فقد تكون أضغاث أحلام، قائمة علي الكوابيس والهلوسات. أما الرؤي فهي إشارات من الله، لها إيحاءات ودلالات، ولها أبعاد واقعية حقيقية.

وسميت هذه الرؤي «أحاديث» لأنّ فيها معنى الحدوث.

قال الإمام الراغب في المفردات: «الحدوث: كون الشيء بعد أن لم يكن، عرضا كان ذلك أو جوهرا ... ويقال لكلّ ما قرب عهده محدث، فعلا كان أو مقالا ... والحديث: كلّ كلام يبلغ الإنسان ويصل إليه، من جهة السمع أو الوحي، في يقظته أو منامه ... ومعنى قوله: وعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ: ما يحدّث به الإنسان في نومه ...» [١].

وهذه الأحاديث المنامية التي تحدث للنائم أثناء نومه، ويحدّث هو بها تحتاج إلي تعبير وتأويل.

وتعبير الرؤيا هو تأويلها، أي: بيان بعدها الواقعي، وصورتها المادية الحسية في عالم الواقع.

وسمي تفسير الرؤيا تعبيرا. قال تعالى: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ، إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ [٢].

قال الراغب في معنى التعبير هنا: «أصل العبر: تجاوز من حال إلي

(١) المفردات: ٢٢٢ - ٢٢٣. باختصار.

(٢) سورة يوسف: ٤٣.

حال. فأما العبور فيختص بتجاوز الماء.

والتعبير مختصّ بتعبير الرؤيا، وهو العابر من ظاهرها إلي باطنها: إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ.

والتعبير أخصّ من التأويل. لأنّ التعبير لا يطلق إلا علي تعبير الرؤيا.

أما التأويل فيستعمل في تعبير الرؤيا وتأويلها، ويستعمل في غيرها» [١].

إنّ الذي يؤوّل الرؤيا ويعبرها، كأنه يعبر من ظاهرها الذي يراه النائم أثناء نومه، إلي باطنها، وهو صورتها الفعلية الواقعية، التي ستتحقّق لها في ما بعده في الواقع.

وهذا عبور وتجاوز منه، من ظاهرها المنامي، إلي باطنها الحقيقي الواقعي.

تعبير الرؤيا: عبور بها من الظاهر المنامي إلي الباطن الواقعي.

وتأويل الرؤيا: ردّ صورتها الظاهرية المنامية، إلي حقيقتها المادية الواقعية، ورجوع بها الي حقيقتها، وانتهاء بها إلي نهايتها الحسية، وبيان انطباقها علي الواقع، وذكر مآلها ومصيرها.

النائم في منامه يري رؤيا، وهذه الرؤيا وعد أو وعيد من الله، أو إشارة وتنبيه وإرشاد منه.

وهذا الوعد أو الوعيد نظري، ولا بد أن يكون له غاية مرادة منه، وواقع يتحقّق فيه، ونهاية فعلية ينتهي إليها.

فالمؤوّل عند ما يؤوّل الرؤيا يفهم إشارتها، ويعلم المراد منها، وعند ذلك يردّها إلي هذه الغاية الفعلية، ويذكر لصاحبها ما سيحدث له في المستقبل.

وتأويله النظري لها، وذكره لما ستكون عليه في المستقبل، وعد عد أو وعيد بما سيقع لصاحبها من أحداث.

(١) المفردات: ٥٤٣

وبعد ذلك: تقع الأحداث حسب ما رأي الرائي في منامه، وحسب ما عبرها له المعبّر، وأوّلها له المأوّل. ويكون وقوع الأحداث فعلا هو تأويل لها، أو هو ردّ عمليّ للرؤيا من صورتها النظرية المنامية إلي غايتها المادية العملية.

كيف أوّلت رؤيا يوسف؟

فهم يعقوب عليه السلام إيحاء وإشارة رؤيا ابنه، وعبّرها له بأنّ الله سيجتبيه، ويعلمه تأويل الأحاديث وتعبير الرؤي، وردّ هذه الرؤي المنامية إلي غايتها المادية الواقعية الحقيقية.

لكن كيف سيكون ذلك؟ ومتي سيكون ذلك؟ وأين سيتمّ تأويل رؤيا يوسف؟ وما حقيقة سجود الأحد عشر كوكبا والشمس والقمر له؟

لم يقل يعقوب عليه السلام لابنه عن ذلك شيئا، ولعله لم يكن هو يعلم من تفاصيل ذلك شيئا، كما يبدو من تتابع مشاهد ولقطات قصة يوسف!! الله وحده هو الذي يعلم ذلك، وهو الذي يقدر الأشياء، ويرتب الأحداث، ويسوق الحوادث، لتصبّ في هذا الميدان، ويتحقّق بذلك مراده سبحانه.

سيسجد ليوسف عليه السلام أبواه وإخوته الأحد عشر! لذلك قدّر الله أن يتآمر عليه إخوته، وأن يلقوه في البئر، وأن تأتي القافلة إليه، وأن تحمله معها إلي مصر، وأن يشتريه عزيز مصر، وأن يعتبره فتي ورقيقا عنده، وأن يوصي به امرأته. وأن تراوده تلك المرأة عن نفسه، وأن يستعصم يوسف عليه السلام. وأن يتآمر عليه رجال الدولة. وأن يسجنوه مظلوما بضع سنين.

قدر الله أن يكون معه سجينان في السجن، وأراهما الله رؤيا، وعلم

يوسف تأويلها. وقدّر الله أن ينجو أحدهما، وأن يعود إلي حاشية الملك.

وقدّر الله أن يعجز رجال الملك عن تعبير وتأويل رؤياه، وعلم يوسف تعبيرها، وقذف الله في قلب الملك الإعجاب بيوسف، ومكّن له عند الملك، وسلمه الملك خزائن الأرض بقدر الله، وحكم يوسف مصر السنوات الخصبة والسنوات العجاف! وقدّر الله أن يأتي إخوته إليه- وهم لا يعلمون أنه يوسف- طالبين منه الطعام، وكاد الله ليوسف، ورتب مع إخوته ترتيبات خاصة، أدّت بهم إلي معرفته في النهاية، وأنّ عزيز مصر الذي يقفون أمامه الآن بذلة ومسكنة، هو أخوهم الصغير الذي وضعوه في البئر قبل عشرات السنين!!.

رتّب الله هذه الأحداث، وساق هذه الحوادث، بحكمته وقدره سبحانه، وأدّت في النهاية إلي تأويل رؤيا يوسف، التي رآها قبل عشرات السنين.

وجاء الله بإخوته وأبويه من بدو فلسطين إلي مقره في عاصمة مصر، ودخلوا عليه.

سجد ليوسف إخوته الأحد عشر، وسجد له أبوه وأمه.

وبذلك تمّ تأويل رؤيا يوسف: فالأحد عشر كوكبا الذين سجدوا له في المنام هم إخوته الأحد عشر، والشمس والقمر اللذان سجدا له في المنام هما أبوه وأمّه.

لقد كان سجود أبويه وإخوته له، بعد عشرات السنين من رؤياه تأويلا لتلك الرؤيا.

أي: كان تحقيقا عمليا للوعد الذي ساقه الله عن طريق تلك الرؤيا، وكان السجود الفعلي الواقعي بيانا لنهاية ومرجع ومآل تلك الرؤيا، وإظهارا لصورتها الفعلية الواقعية التي انتهت إليها، واستقرت عليها.

أليس هذا هو معنى التأويل الذي ذكرناه؟ ألم ينطبق علي هذا قول الراغب الأصفهاني في تعريفه للتأويل: «هو ردّ الشيء إلي غايته المرادة

منه، علما كان أو فعلا؟».

لذلك أعلن يوسف لأبيه عليهما السلام، عند ما سجدوا له فعلا، أنّ هذا هو تأويل رؤياه: وقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ، قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا، وقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ، وجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ، مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وبَيْنَ إِخْوَتِي. إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ، إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. [١].

هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ: هذا وقت بيان العاقبة والمآل والنهاية لرؤياي التي رأيتها قبل عشرات السنين. الآن تمّ تأويلها، عند ما تحققت صورتها العملية المادية! قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا: قد حقق لي ربي ما وعدني به في تلك الرؤيا، فقد وعدني فيها بإسجاد أبوي وإخوتي لي، ووعد الله نافذ، وخبر الله واقع محقق، فالآن حققه الله لي، ورأيت الصورة الفعلية النهائية لذلك الخبر النظري!!

يوسف يؤول رؤيا السجينين:

لما سجن يوسف عليه السلام ظلما، دخل معه السجن رجلان من حاشية الملك، غضب عليهما الملك فسجنهما، وهناك في السجن أنسا بيوسف وأعجبا به، ورأي كلّ منهما رؤيا، وطلبا من يوسف تأويلهما، فقدّم لهما عقيدته، وعرّفهما علي دينه وإيمانه، ثم قام بتأويل لكل واحد منهما رؤياه، وتحققت رؤياهما في عالم الواقع، كما أولهما لهما.

قال تعالى: ودَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ، قالَ أَحَدُهُما: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً. وقالَ الْآخَرُ: إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ، نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ، إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. قالَ: لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ

(١) سورة يوسف: ١٠٠.

إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما، ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي، إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ [١].

وقال تعالى: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ: أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً، وأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ، فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ، قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ. وقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ. فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ، فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ. [٢].

كانت رؤيا أحد السجينين: أنه رأي نفسه وهو يعصر خمرا.

وكانت رؤيا الآخر: أنه رأي نفسه يحمل خبزا فوق رأسه، وأن الطير تأتي تأكل منه، وهو علي رأسه.

وكان تأويل رؤيا السجين الأول: أنّ الملك سيفرج عنه، وسيخرجه من السجن، وسيعيده إلي خدمته، وسيعصر خمرا فعلا. ثم يسقيه الملك:

يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً.

وكان تأويل رؤيا السجين الآخر: أن الملك سيغضب عليه، ولن يعفو عنه، بل سيأمر بقتله وإعدامه، وسيقتل فعلا، ويصلب، وتأتي الطير فتأكل من لحم رأسه: وأَمَّا الْآخَرُ: فَيُصْلَبُ، فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ.

وقد وردت كلمة «تأويل» مرتين في هذه الآيات:

فبعد أن أخبره السجينان برؤياهما قالا له: نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ، إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.

وردّ عليهما بالإشارة إلي علمه بالتأويل، فقال: لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ، قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما، ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي.

وفي قولهما له: نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ ورد التعبير بالضمير المذكّر «الهاء»

(١) سورة يوسف: ٣٦ - ٣٧.

(٢) سورة يوسف: ٤١ - ٤٢.

فقالا: «بتأويله» وليس: بتأويلها. مع أنّ الكلام عن الرؤيا، ويكون الضمير العائد علي الرؤيا مؤنثا.

والمراد: نبئنا بتأويل المنام، أو: نبئنا بتأويل الكلام الذي ذكرناه لك.

وتأويل الرؤيا هنا: هو ردّ الرؤيا المنامية إلي حقيقتها الواقعية، وبيان مصيرها ومآلها المادي، وذكر ما تنتهي إليه هذه الرؤيا، وتستقر عليه، في مستقبل حياة السجينين، وتحديد مدلولها العملي.

ولما ردّ عليهما يوسف عليه السلام أخبرهما بعلمه بتأويل الرؤيا، وطمأنهما إلي قيامه بذلك في أسرع وقت، ولكنه أراد أن يقدّم لهما دعوته، وأن يعرّفهما علي دينه، وأن يذكر لهما كفر قومهما، وأن يجعل هذا كله تمهيدا لتأويل الرؤيا.

فقال لهما: لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما، ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي.

ليس الكلام عن تأويل أصناف الطعام- كما فهم كثير من المفسرين- فأن يتوقع أصنافا معينة للطعام، ثم تأتي الأصناف كما توقعه وحدّده، ليس تأويلا للطعام، لأنّ المؤول، هو الذي يأتي بالطعام فعلا، وليس الذي توقعه، إنّ الذي يقدّمه ويأتي به هو الذي يحقق صورته المادية الحقيقية.

إنما أراد يوسف عليه السلام أن يطمئنهما علي تأويله لرؤياهما، وأن يؤكد لهما ذلك، فأخبرهما أنه سيقوم به بأقرب وقت، لكنه يريد أن يحدثهما قبل تأويل الرؤيا عن الإيمان والتوحيد والشرك.

قال لهما: لا يأتيكما طعام ترزقانه، ولا تصلكما وجبة الطعام القادمة المحددة، إلا أكون قد نبأتكما بتأويل المنام والكلام والخبر، قبل وصول ذلك الطعام إليكما.

والضمير في «بتأويله» يعود علي ما عاد عليه الضمير نفسه في قولهما له: «نبئنا بتأويله». أي: نبأتكما بتأويل المنام والخبر والكلام، قبل أن يأتيكما ذلك الطعام.

هذا هو المعني، والله أعلم.

يوسف يؤول رؤيا الملك:

الرؤيا الثالثة في سورة يوسف، التي قام يوسف بتأويلها هي رؤيا الملك. فقد رأي الملك رؤيا، ثم طلب من الذين حوله تعبيرها، ولكنهم عجزوا عن ذلك، فتذكّر أحد رجال حاشية الملك، الذي كان سجينا مع يوسف، علم يوسف بتأويل الرؤيا، لأنه أوّل له رؤياه، فتحققت كما أوّلها، فطلب منهم إرساله إلي يوسف لتأويلها، ولما أخبره بها، قام يوسف بتأويلها.

قال تعالى: وقالَ الْمَلِكُ: إِنِّي أَري سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ، يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ، وسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ، وأُخَرَ يابِساتٍ، يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ، إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ. قالُوا: أَضْغاثُ أَحْلامٍ، وما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ. وقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما، وادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ، أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ. يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ: أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ، يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ، وسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ، وأُخَرَ يابِساتٍ، لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَي النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ. قالَ: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً، فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ، إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ، فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ، وفِيهِ يَعْصِرُونَ [١].

أراد الملك تأويل رؤياه. فقد رأي في منامه رؤيا، وهذه الرؤيا تشير

(١) سورة يوسف: ٤٣ - ٤٩.

إلي أحداث عملية فعلية ستحدث له ولقومه في المستقبل، فما هي هذه الأحداث؟، ومن سيقدر علي بيان انطباق المناظر المنامية التي رآها الملك علي الواقع؟ ومن سيقدر علي ردّ هذه المناظر إلي صورتها المادية الفعلية النهائية؟.

وهذا هو معنى التأويل، الذي يتحقق في ردّ الأمور النظرية إلي نهاياتها الواقعية، وتحديد مآلها ومصيرها الفعلي.

عجز رجال الملك وكهنته وسحرته عن تأويل رؤياه. وقالوا له:

أضغاث أحلام. وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين.

والأضغاث: جمع «ضغث». وهي الأمور المختلطة المتشابكة المتداخلة.

ومعنى قولهم للملك: أضغاث أحلام: أنّ ما رأيته من تلك المناظر المنامية، إنما هي صور مختلطة، ولقطات متداخلة، وهي متشابكة في خيوطها وخطوطها وألوانها، بحيث يستحيل تحليلها وفصلها و «فرزها» وتفريغها، وتحديد كلّ صورة منها وتمييزها عن أخواتها.

ونظرا لما بين هذه الأحلام من تشابك واختلاط، فنحن لا نقدر علي فصلها، ولا علم لنا بتأويلها.

ومعنى قولهم: وما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ: أننا عاجزون عن بيان حقيقة هذه الأحلام، وعن تحديد مدلولها العملي، وعن ردّ مدلولها النظري إلي نهايته العملية، ومآله الواقعي.

إننا عالمون بتعبير الأحلام، ونقدر علي تحديد بعدها الفعلي، عند ما تكون أحلاما بسيطة، صورها ومناظرها منفصلة. أما عند ما تكون أضغاث أحلام متداخلة مختلطة متشابكة، فعلمنا عاجز عن تفريقها وفرزها وتفكيكها!!

ولما أقرّ الكهنة بعجزهم عن تأويل رؤيا الملك، تذكّر ذلك الرجل يوسف، وتذكّر علمه بتأويل الرؤيا، ذلك العلم الذي علمه إياه ربّه ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي، وهذا معناه أنه لن يعجز عن تأويل رؤيا الملك، وأنّ علمه الرباني سيقدر علي إزالة تداخلها، والقضاء علي اختلاطها، وفرزها وتفكيكها، وإدراك حقيقتها الفعلية، وردّها إلي نهايتها العملية، وتحديد بعدها المادي الحسي! لهذا خاطب قومه قائلا: أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ.

وذهب إلي يوسف في سجنه، وقصّ عليه رؤيا الملك، وقدر يوسف علي إدراك حقيقة الرؤيا، وأزال ما فيها من ضغث وتداخل وتشابك واختلاط. وتمكّن من فرزها وتفكيكها.

عند ذلك تمكّن يوسف من ردّ هذه المناظر إلي حقيقتها المادية، وتحديد نهايتها الفعلية: إنها سبع سنوات غيث ورخاء وزرع وإنتاج، تعقبها سبع سنوات من القحط والمحل وانحباس الأمطار وهلاك الزروع. وبعد ذلك تأتي سنة خصب وغيث، وهي السنة الخامسة عشر من هذا الزمن!.

يوسف عالم بتأويل الأحاديث:

بعد ما عرفنا تأويل يوسف للرؤي الثلاثة: رؤياه، ورؤيا السجينين، ورؤيا الملك، نقف علي الحكمة من تكرار تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ثلاث مرات في سورة يوسف.

قال له أبوه يعقوب عن رؤياه: وكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ، ويُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ، ويُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ [١].

وبعد ما استقر يوسف في بيت العزيز في مصر، قال الله:

(١) سورة يوسف: ٦.

وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ، ولِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ، واللَّهُ غالِبٌ عَلي أَمْرِهِ، ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [١].

ولما تحققت رؤيا يوسف بعد عشرات السنين، وصار عزيز مصر، واجتمع شمله مع اخوته، جاءت خاتمة قصته بتوجهه إلي ربه بالشكر:

رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ، وعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ، فاطِرَ السَّماواتِ والْأَرْضِ، أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا والْآخِرَةِ، تَوَفَّنِي مُسْلِماً وأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [٢].

لماذا كررت تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ثلاث مرات في السورة؟

لقد عاش يوسف في منطقتين: في البدو من أرض فلسطين. ثم في مصر.

وسيكون انتقاله القسري إلي مصر تمهيدا لتدرّجه في مكانته في مصر، وسيبقي يرتقي بالتدريج، حتى يصل إلي أعلي مركز، وهو «العزيز».

وبهذا تختم حياته عليه الصلاة والسلام.

قول يعقوب له: ويُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وعد نظري من الله- عن طريق أبيه عليه السلام- وعد بتحقيق شيء في المستقبل، كأنه قال له: وسوف يعلمك ربّك من تأويل الأحاديث.

وكانت الخطوة الأولي من تحقيق هذا الوعد الرباني، أنّ الله قدّر أن يجري له ما جري، حتى يصير عبدا مملوكا في بيت عزيز مصر، وهناك يوصي به العزيز امرأته، ويقول لها أَكْرِمِي مَثْواهُ، عَسي أَنْ يَنْفَعَنا، أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً.

إن الله هو الذي ألهم عزيز مصر الاهتمام الخاصّ، بهذا العبد الفتي

(١) سورة يوسف: ٢١.

(٢) سورة يوسف: ١٠١.

الرقيق الخاص! لماذا ألهم الله العزيز بذلك؟ ولماذا مكّن الله ليوسف في بيت العزيز؟

لتتحقق المرحلة الأولي، في الطريق التي سيقطعها يوسف، من خلال تأويل الأحاديث، وليتحقق وعد الله له بذلك في النهاية: وكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ، ولِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ.

واللام في «لنعلمه» للتعليل، أي: لبيان حكمة الله في تقدير ما جري ليوسف، حتى استقر في بيت العزيز! وكلمة «لنعلمه» وعد من الله بتعليم يوسف تأويل الأحاديث، هذا التأويل الذي سيصل به يوسف إلي أعلي مركز، وهو «عزيز مصر».

وفعلا علم الله يوسف الرؤيا، وقام بتأويل رؤيا السجينين، الذي أوصله إلي تأويل رؤيا الملك، الذي قاده إلي مركز العزيز، حيث أدّي ذلك- بعد أحداث متتالية ومفاجآت مثيرة- إلي قدوم أهله إليه، وسجودهم بين يديه، وبذلك تحقق وعد الله، وتمّ تأويل رؤياه: يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ، قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا.

وفي آخر الأمر، أعلن يوسف عليه السلام فضل الله عليه، واعترف بتعليم الله له، وصرّح بعلمه بتأويل الأحاديث: وعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ. ولهذا كانت معجزة يوسف عليه الصلاة والسلام تقوم علي علمه بتأويل الأحاديث، وتعبير الرؤي.

يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ: وعد سيتحقق في المستقبل.

وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ: خطوة أولي علي طريق تحقيق الوعد.

وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ: اعتراف صريح بتحقيق ذلك الوعد.

وحقق الله ليوسف ما وعد به، لأن الله لا يختلف الميعاد: واللَّهُ غالِبٌ عَلي أَمْرِهِ، ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.

المطلب الثاني: مع التأويل في سورة الكهف


ورد التأويل مرتين في سورة الكهف، في قصة موسي مع الخضر عليهما السلام.

فلما قابل موسي الخضر عليهما السلام، طلب منه أن يصحبه ليتعلم منه، فأخبره الخضر أنه لن يصبر علي الرحلة معه، ولن يسكت علي ما سيشاهد من أعمال يعملها الخضر، لأن ظاهرها يدعو إلي رفضها وإنكارها، وموسي لا يعلم حقيقتها ولا خبرها، فوعد موسي أن يصبر ويطيع الخضر، فاشترط الخضر عليه أن لا يسأله عن شيء، وأن لا يعترض علي ما سيري، وأن ينتظر ما سيبينه الخضر له.

فاتفقا علي ذلك، وانطلقا في الرحلة! سارا علي شاطئ البحر، وأرادا ركوبه، فمرت بهما سفينة، فعرف أصحاب السفينة الخضر، فأكرموهما، وأركبوهما دون أجرة. فلما ركبا السفينة، أخذ الخضر لوحا خشبيا منها فقلعه، وخرق السفينة. فاعترض عليه موسي، وقال له: إنهم أكرمونا وأركبونا بغير أجرة، أهكذا تكافؤهم وتجازيهم؟! إنك بخرقها ستغرق أهلها، وإنّ ما فعلته شيء كبير فظيع! أمام اعتراض موسي علي فعل الخضر، ذكّره بشرطه عليه، وإخباره أنه لن يستطيع الصبر معه، ولا السكوت علي أعماله، فاعتذر موسي عن اعتراضه، واعتبره من باب النسيان! وسارا في الطريق، ولقيا غلمانا يلعبون، فتوجه الخضر إلي أحدهم، فاقتلع رأسه بيده وقتله! فاستغرب موسي، وتساءل: ما ذنب هذا الغلام الصغير؟ واعترض علي الخضر قائلا: أقتلت نفسا زكية بغير نفس؟ لقد

فعلت أمرا يدعو إلي الإنكار. فذكّره الخضر بعهده معه، عند ذلك أخبره موسي أنه إن اعترض علي فعله بعدها فلا يصاحبه.

وسارا معا، حتى أتيا قرية، أهلها بخلاء، فطلبا منهم الطعام، فأبوا أن يطعموهما أو يضيفوهما. ورأي الخضر في القرية جدارا علي وشك السقوط، فأصلحه وأقامه وثبّته.

فاعترض عليه موسي بأنّ القوم لا يستحقون التكريم والخدمة لبخلهم، والأولي أن يأخذ منهم أجرة مقابل إصلاحه الجدار.

وبعد هذه الاعتراضات من موسي علي أعماله الثلاثة، أنهي الخضر الرحلة، وقال له: هذا فراق بيني وبينك.

ولم يشأ الخضر أن يبقي موسي في حيرته ودهشته من الأعمال الثلاثة، التي لم يصبر موسي عليها، فاعترض علي الخضر في فعلها.

فأوّل الخضر لموسي أعماله الثلاثة، وأراه حقيقتها والحكمة منها، وردّ له صورتها الظاهرية التي اعترض عليها موسي إلي باطنها الحقيقي الخفي، الذي لا يدعو إلي الاعتراض والإنكار.

فخرق السفينة في ظاهره مرفوض يدعو للإنكار، لكنّ حقيقته تدعوني إلي فعله، فأنا ما خرقتها لأغرق أهلها، إنما خرقتها لأحميها من المصادرة والغصب، إنّ أصحابها مساكين محتاجون لا يملكون غيرها، وكان أمامهم ملك ظالم مغتصب، يصادر ويستولي علي كل سفينة سالمة، فأردت بهذا الخرق نجاة السفينة من المصادرة، لأنه سيراها معيبة مخروقة! هذه حقيقة فعلي، وهذا هو تأويله!!.

وقتل الغلام في ظاهره مرفوض يدعو للإنكار، لكن حقيقته تدعوني إلي فعله، إنه صغير نعم، ولكنه عند ما يكبر سيكون كافرا، وسيتعب ويرهق أبويه المؤمنين، فقتلته لأريح أبويه، وإنّ الله سوف يعوضهما عنه، ويرزقهما بغلام أفضل وأبر منه! هذه حقيقة فعلي! وهذا هو تأويله!!.

وبناء الجدار مجانا للقوم البخلاء، في ظاهره مرفوض، يدعو للإنكار، لكنّ حقيقته تدعوني إلي فعله. إن الجدار لغلامين يتيمين في المدينة، وكان أبوهما صالحا، وقد أخفي لهما كنزا تحت الجدار قبل موته، فلو تركت الجدار يسقط وينهار، لظهر كنز الغلامين، ولاستولي عليه أهل المدينة، فبنيته إلي أن يكبر الغلامان، ويبلغا أشدهما، ويستخرجا كنزهما. هذه حقيقة فعلي! هذا هو تأويله!! إنّ الله هو الذي أعلمني بحقيقة الأعمال الثلاثة، تلك الحقيقة التي خفيت عليك، فبقيت أنت عند ظاهر هذه الأعمال، أما أنا فلاحظت حقيقتها، وحملتها عليها.

وبهذا التأويل من الخضر لأعماله الثلاثة، وكشفه عن حقيقتها، عرف موسي- وعرفنا معه- أنّ الخضر كان علي صواب فيما فعل، وأنّ أفعاله الثلاثة لا تدعو إلي الاعتراض أو الإنكار!!

نصّ الآيات:

نتدبّر الآيات التي عرضت قصة موسي مع الخضر عليهما السلام، لنعرف موقع التأويل فيها:

قال تعالى: وإِذْ قالَ مُوسي لِفَتاهُ: لا أَبْرَحُ حَتَّي أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ، أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً. فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما، فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً. فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ: آتِنا غَداءَنا، لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً. قالَ: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَي الصَّخْرَةِ، فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ، وما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ، واتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً. قالَ: ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ، فَارْتَدَّا عَلي آثارِهِما قَصَصاً. فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا، آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا، وعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً.

قالَ لَهُ مُوسي: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلي أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً؟ قالَ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً. وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلي ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً؟ قالَ: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً، ولا أَعْصِي لَكَ أَمْراً. قالَ: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ، حَتَّي أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً. فَانْطَلَقا. حَتَّي إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها! قالَ: أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً! قالَ: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً؟ قالَ: لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ، ولا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً. فَانْطَلَقا، حَتَّي إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ!! قالَ: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً. قالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً. قالَ: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي. قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً. فَانْطَلَقا. حَتَّي إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما، فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ، فَأَقامَهُ. قالَ: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً. قالَ: هذا فِراقُ بَيْنِي وبَيْنِكَ! سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً. أَمَّا السَّفِينَةُ: فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها، وكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً! وأَمَّا الْغُلامُ: فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ: فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وكُفْراً. فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وأَقْرَبَ رُحْماً! وأَمَّا الْجِدارُ: فَكانَ

لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما، وكانَ أَبُوهُما صالِحاً. فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما، ويَسْتَخْرِجا كَنزَهُما، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ! وما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [١].

معنى تأويل أعمال الخضر:

لما عرض موسي علي الخضر عليهما السلام أن يصحبه ليتعلّم منه، قال له: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً.

وعلل الخضر كلامه بقوله وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلي ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً؟ أي: ستري أمامك أعمالا أقوم بها، ظاهرها يدعو للإنكار، وسوف تنكرها أنت عليّ، لأنك لا تعرف حقيقتها، ولا الحكمة منها، ولم تحط بها خبرا.

وفعلا لم يصبر موسي عليه السلام علي أعمال الخضر، فأنكرها عليه.

وقبل أن يفارقه الخضر أراد أن يكشف له عن حقيقة الأعمال الثلاثة، وقال له: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً.

وبعد أن كشف له تلك الحقيقة، وأوقفه علي الحكمة منها، قال له:

ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً.

إنّ أعمال الخضر الثلاثة: خرق السفينة، وقتل الغلام، وبناء الجدار، لها صورتان: صورة ظاهرية تبدو من الخارج، فتكون فيها غير مقبولة، فيقوم المشاهد بإنكارها، كما فعل موسي عليه الصلاة والسلام! وصورة باطنية حقيقية، تبدو فيها علي حقيقتها، والذي يقف علي هذه الصورة الباطنية يعرف الحكمة الخفية منها، ويعلم أنه علي حقّ في فعل ما يخالف الظاهر، لأنه يتفق مع هذا الباطن، وهذا ما أدركه الخضر، وفعله.

(١) سورة الكهف: ٦٠ - ٨٢.

والربط بين ظاهر هذه الأعمال وباطنها مطلوب، وحمل الظاهر علي الباطن مطلوب، وهذا ما قام به الخضر، وقدّمه لموسي.

واعتبر الخضر هذا العمل تأويلا سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً.

والتأويل هنا: هو ردّ الشيء إلي غايته العملية المرادة منه- كما قال الراغب في تعريف التأويل- فقد ردّ الخضر أعماله الثلاثة إلي غايتها المقصودة، وكشف حقيقة هذه الأعمال، والحكمة الخفية فيها، وأرجع صورتها الظاهرية إلي حقيقتها الباطنية الخفية، وأري موسي مآل ومصير أعماله، وانتهي بها إلي تلك المحطة الأخيرة، التي عرف منها موسي صواب الخضر فيما فعل.

لقد أوّل الخضر أعماله تأويلا عمليا، وأري موسي الحقيقة العملية منها، وبهذا عرف موسي وجه الحق والصواب فيها:

تأويل خرق الخضر للسفينة: أنه أري موسي الملك، يصادر السفن الصالحة، فالهدف من خرقه لها نجاتها من الملك.

فنجاة السفينة هي تأويل خرقها، الذي يحمل عليها، ويردّ إليها.

وتأويل قتل الغلام، أنّ الخضر أري موسي مستقبل الغلام الكفريّ عند ما يكبر، وإزعاجه لأبويه، فالهدف من قتله إراحة أبويه من كفره، والله يعوضهما عنه، إنّ إراحة أبويه منه هي تأويل قتله، الذي يحمل، ويردّ إليها.

وتأويل بناء الجدار، أنّ الخضر أري موسي كنز اليتيمين تحته، فالهدف من بنائه هو المحافظة علي الكنز إلي أن يكبر الغلامان اليتيمان. إنّ المحافظة علي الكنز هي تأويل بناء الجدار، الذي يجب أن يحمل عليها، ويردّ إليها.

ونلاحظ أنّ الخضر عليه السلام لا ينسب معرفة حقيقة أعماله الثلاثة إلي نفسه، فما كان الخضر بنفسه ليري الملك يصادر السفن، وما كان الخضر بنفسه ليري مستقبل الغلام، وما سيكون عليه بعد عشرين سنة. وما كان الخضر بنفسه ليري كنزا وضع تحت الجدار قبل سنين! إنما أراه الله ذلك، وعرّفه الله تلك الحقائق، وكشف له عن تلك البواطن الخفية، وأمره الله أن يفعل ما فعل، ليحقق تلك الحكم الخفية، أمره الله بخرق السفينة لتنجو من الملك، وأمره الله بقتل الغلام ليستريح أبواه من كفره، وأمره الله ببناء الجدار ليأخذ الغلامان الكنز عند ما يكبران.

ولهذا قال لموسي عليه السلام: وما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي. أي: لم أفعل هذه الأفعال الثلاثة باجتهاد مني، إنما فعلتها بأمر من الله.

شمول أعماله للماضي والحاضر والمستقبل:

وإذا نظرنا في أفعال الخضر الثلاثة، وتأويله لها، فإننا نراها قد استوعبت أطراف الزمان كلها! الزمان إمّا ماض، وإما واقع حاضر، وإمّا مستقبل.

ولقد أري الله الخضر الحقيقة في أطراف الزمان الثلاثة، فقام بتأويل الظاهر إليها، وحمله عليها!! وقوف الملك في موقع متقدم لمصادرة السفن الصالحة، يمثّل فترة الزمان الحاضر، فهو موجود واقف في نقطته وموقعه، وإن لم يشاهده أصحاب السفينة، لأنهم في طريقهم إليه، إنهم لم يروه بعد، ولكنّ الله أري الخضر إياه مع عصابته! وكون الغلام سيكون كافرا عند ما يكبر، يمثّل المستقبل، أو فترة الزمان القادمة، وهذا غيب لا يعلمه بشر، وعلمه خاصّ بالله، ولا يعرف الناس كيف سيكون مستقبل هذا الغلام، وقد أطلع الله الخضر علي هذا المستقبل!

ووضع الكنز تحت الجدار يمثّل فترة الزمان الماضية، فالرجل الصالح أخفي الكنز لابنيه الصغيرين تحت الجدار، قبل أن يموت، ولا يعلم أحد بوجود الكنز تحت الجدار، فأعلم الله الخضر بهذا الكنز الموضوع من قبل!! واختيار أمثلة ثلاثة لأفعال عجيبة مدهشة، تتمثّل فيها فترات الزمان الثلاثة: الماضية والحاضرة والقادمة- مقصود، لادراك معنى التأويل للأحداث، التي مرّت، أو تمر الآن، أو ستمر فيها بعد.

وإنه ليس شرطا أن تكون هذه الأحداث علي صورتها الظاهرية الخارجية التي وقعت من خلالها، فقد تكون لها صورة باطنية خفية، هي المرادة منها، وهي التي ستنتهي وتؤوّل إليها!! لكن من يؤول هذه الأحداث؟ ومن يردّ ظاهرها إلي باطنها؟ ومن يحمل وجودها الواقعي علي حقيقتها الخفية، وغايتها المرادة؟

المطلب الثالث: مع التأويل في سورة الأعراف


ورد التأويل مرتين في سورة الأعراف، والمرتان في آية واحدة، تتحدث عن يوم القيامة، الذي أخبر القرآن عن وقوعه وقدومه، ولكن الكفار أنكروا ذلك، ولم يصدّقوا بالآيات التي تخبر عنه.

قال تعالى: ولَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلي عِلْمٍ، هُديً ورَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ؟ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ: قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ، فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ، فَيَشْفَعُوا لَنا، أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ، قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، وضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ [١].

المعنى الإجمالي للآيتين:

تتحدث الآيتان عن القرآن، وعن تفصيله، وعن معانيه وأخباره ووعوده.

لقد بعث الله محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولا، وأنزل عليه القرآن كتابا، ودعا الناس إلي الإيمان بهذا القرآن، وتصديق أخباره.

وأخبرت الآية الأولي أنّ الله جاء الناس بهذا القرآن، وجعله كتابا مفصّلا، تفصيلا لفظيا، وتفصيلا موضوعيا.

تفصيله اللفظي تمثل في تقسيمه إلي سور، وتقسيم السورة منه إلي آيات، وتقسيم الآية إلي جمل وكلمات.

(١) سورة الأعراف: ٥٢ - ٥٣.

أما تفصيله الموضوعي فقد تمثّل في الموضوعات التي عرضها والمعاني التي قدّمها، والأخبار التي أخبر عنها، والحقائق التي قررها.

تفصيله الموضوعي في حديثه عن الدنيا والآخرة، عن الحياة والموت والبعث، وفي تقريره لحقائق العقيدة والشريعة والأخلاق ومناهج الحياة، وفي عرضه لمسيرة التاريخ من خلال قصصه، وفي ربطه لكل ما يجري في الكون والحياة والانسان بقدر الله وأمره ومشيئته سبحانه.

لقد فصّل الله القرآن بعلمه فَصَّلْناهُ عَلي عِلْمٍ، وجعله هدي يهتدي به المؤمنون، ورحمة يرحم به المؤمنين، عند ما يؤمنون به، ويتدبّرونه، ويلتزمون بتوجيهاته، وينفّذون أحكامه: هُديً ورَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.

هذا أثر القرآن في المؤمنين الذين صدّقوا بأخباره، وآمنوا بوعوده، فسعدوا في الدنيا، وفازوا وربحوا يوم القيامة.

أما الكفار فإنهم لم يؤمنوا به، ولم يصدقوا بأخباره، التي تخبر عن البعث بعد الموت، وعن قدوم الساعة، ومجيء يوم القيامة، ولما سمعوا الآيات التي تتحدث عن ذلك كذبوا بها.

لقد أخبرت آيات القرآن عن مشاهد القيامة، وتحدثت عن نفخة البعث، وخروج الناس أحياء من قبورهم، وسوقهم الي أرض الموقف للحساب والجزاء، وعن الميزان والصحف والصراط، وعن النار وألوان عذابها، وأحوال الكفار فيها، وعن الجنة وأصناف نعيمها وسعادة المؤمنين فيها.

وهذه المشاهد لم تقع الآن، لأننا ما زلنا في الدنيا، لكنها ستقع حتما، لأن الله أخبر عن وقوعها، ولذلك آمن المؤمنون بذلك.

أما الكفار فقد استبعدوا وقوعها واستهجنوه واستغربوه، ولذلك كفروا بها وأنكروها.

وهنا تهدّدهم الآية الثانية، وتبين لهم حالهم يوم القيامة، عند ما يتم تأويل أخبار القرآن ووعوده التي تتحدث عن يوم القيامة.

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ:

«هل»: حرف للاستفهام. والاستفهام هنا إنكاري، إذ ينكر القرآن علي الكفار عدم إيمانهم بالقرآن، وعدم تصديقهم بوعوده.

و «ينظرون»: بمعني: ينتظرون: فهو من الانتظار وليس النظر.

والهاء في «تأويله» تعود علي القرآن- وهو الكتاب المذكور في الآية السابقة.

فمعنى هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ: لماذا لم يؤمن الكفار بالقرآن؟

ولماذا لم يصدّقوا بالآيات التي تتحدث عن يوم القيامة؟ ماذا ينتظرون؟

إنهم ينتظرون تأويل آيات القرآن، وينتظرون وقوع الأحداث يوم القيامة، التي تتحدث عنها الآيات، وينتظرون رؤية هذه الأحداث بعيونهم عند ما يبعثون من قبورهم.

هذا هو تأويل الآيات المخبرة عن يوم القيامة، وهو وقوعها فعلا وحقيقة، ومشاهدتهم لها.

والدليل علي أن هذا هو معنى التأويل المذكور في الجملة هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ مجيء التفصيل بعد ذلك في الآية، مبينا لهذا الإجمال.

يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ: يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ: قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ، فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ، فَيَشْفَعُوا لَنا، أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ.

والمعني: يوم القيامة يأتي تأويل آيات القرآن، التي تخبر عن مشاهد القيامة، وتأويلها هو وقوع هذه الأحداث والمشاهد فعلا، كما أخبرت آيات القرآن من قبل.

عند ذلك، وبعد ما يشاهد الكفار تأويل الآيات عمليا، ويرون الأحداث يوم القيامة عيانا، يقولون: قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ!!.

أي: كان الرسل صادقين معنا في الدنيا، عند ما أخبرونا عن أحداث الساعة، وكانت آيات القرآن صادقة عند ما تحدثت عنها، لقد جاءت الرسل بالحق، وتحدثت الآيات بالحق، بدليل أننا نري الآن حقيقة ما قالوه لنا، نراه عمليا أمامنا، فها هي الآيات قد تمّ تأويلها الآن. ونحن كنا مخطئين. عند ما كذّبنا بها في الدنيا.

فهل لنا من شفعاء، فيشفعوا لنا عند الله؟ ويدفعوا عنا عذاب الله؟

وينقذونا من النار؟ أو هل يمكن أن يردّنا الله إلي الدنيا، ويعيدنا إليها، ويعطينا فرصة أخري، لنؤمن بهذا الحق، ونعمل غير الذي كنا نعمل؟.

إنهم يتمنون هذه الأماني التي لن تتحقق، فلا شفاعة لهم، ولا رجوع إلي الدنيا. إنهم خاسرون هالكون معذبون: قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ.

التأويل مجيء يوم القيامة فعلا:

نستحضر تعريف الإمام الراغب للتأويل: «هو ردّ الشيء إلي الغاية المرادة منه، علما كان أو فعلا» لنري انطباق هذا التعريف علي التأويل المذكور في الآية.

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ، يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ.

تتكلم الآية عن تأويل القرآن- لأن الهاء في «تأويله» تعود علي الكتاب المذكور في الآية السابقة- وتدعو الكفار إلي انتظار تأويله، وتهددهم بما سيكون لهم يوم تأويله، وتريهم صورة عن العذاب الواقع بهم يوم تأويله.

فما المراد بتأويله؟ هل المراد بيان معاني آيات القرآن، وشرحها وتفسيرها؟ لا، لأنه لا دخل لبيان معاني الآيات بالعذاب الواقع بالكفار.

أي أنّ التأويل في الآية ليس بمعنى العلم، بل بمعنى الوقوع والحدوث، وبيان العاقبة والمآل.

أو: هو ردّ معاني الآيات إلي غايتها النهائية، وحقيقتها الفعلية المادية.

تأويل القرآن المذكور في الآية، هو تحقق وقوع آياته التي تخبر وتتحدث عن مشاهد القيامة، وأحداث اليوم الآخر.

إن السياق الذي وردت فيه الآية يتحدث عن يوم القيامة. يبدأ الحديث عن يوم القيامة من الآية رقم (٣٤) من السورة، وينتهي بالآية رقم (٥٣) .

تتحدث الآيات عن مشهد الحسرة والندامة، والتلاوم والتلاعن، بين الفريقين الاتباع والمتبوعين في جهنم، وعن العذاب الواقع بالفريقين، وعن خلودهم معذبين في النار. ثم تعرض مشهدا مقابلا للمؤمنين، وهم منعمون متحابّون في نعيم الجنة.

وتعرض الآيات لقطات حية متحركة مصورة، عن نداءات وحوارات بين أهل الجنة وأهل النار، وأصحاب الأعراف.

وينادي أصحاب الأعراف أصحاب الجنة مهنّئين لهم دخولهم الجنة، وعند ما تصرف أبصارهم تلقاء أصحاب النار، يتعوذون بالله منهم ومن تعذيبهم، ويسألون أشخاصا بأعيانهم من أهل النار سؤال تبكيت وتقريع.

ينادي أصحاب الجنة أصحاب النار، ويسألونهم سؤال استهزاء وتقريع وتبكيت، فيجيبهم أهل النار بذلة ومهانة.

وينادي أصحاب النار أصحاب الجنة، مستغيثين بهم، طالبين منهم شيئا من الماء أو الطعام، فيردّ عليهم أصحاب الجنة بأن الله حرم الجنة ونعيمها

علي الكافرين، ويبقي الكافرون في العذاب مع حسرتهم وخزيهم.

فالآيات كلّها في السياق تتحدث عن يوم القيامة، ومشاهد نعيم المؤمنين في الجنة، وعذاب الكفار في النار.

ما موقف المؤمنين والكافرين في الدنيا من هذه الآيات، وما تقدمه من أخبار ووعود عن يوم القيامة وما فيه؟

أما المؤمنين فقد آمنوا بها، وصدّقوا بمضمونها، واعتقدوا وأيقنوا بوقوعها يوم القيامة. أي: أنهم آمنوا بحدوث مشاهد القيامة كما أخبرت هذه الآيات.

وأما الكافرون فقد كذّبوا بهذه الآيات، واستغربوا مضمونها، وأنكروا وقوع شيء مما تحدث عنه الآيات من مشاهد القيامة، ونفوا أن يكون بعث وحشر وحساب ونار ونعيم وعذاب! أي أن الكفار نفوا وقوع الصورة العملية لمضمون الآيات النظري، وتحقق المدلول الواقعي للوعد والوعيد النظري.

فتأتي الآية الأخيرة في هذا السياق لتهدد الكفار المنكرين ليوم القيامة.

وتقول لهم: أنتم الآن في الدنيا تنكرون وقوع مشاهد القيامة عمليا، التي تتحدث الآيات التي تسمعونها عنها، وتجزم بوقوعها.

انتظروا تأويلها: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ. أي: انتظروا لحين قيام الساعة، وبدء مشاهد يوم القيامة، عند ذلك سيتم تأويل هذه الآيات التي تسمعونها الآن في الدنيا، وسيتحقق وقوع ما أخبرت عنه الآيات في صورة عملية. وستشاهدون صورة مادية واقعية لمضمون هذه الآيات النظري.

عندها، عند ما يتحقق تأويل هذه الآيات عمليا، ووقوع حقيقتها وغايتها المادية، ماذا سيكون وضعكم هناك؟ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ، فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ،

فَيَشْفَعُوا لَنا، أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ؟.

إذن التأويل المذكور مرتين في هذه الآية من سورة الأعراف، هو ردّ معاني الآيات النظرية المخبرة عن مشاهد القيامة، إلي غايتها المادية، وحقيقتها الواقعية، وبيان بعدها الواقعي، وذلك عند بدء عرض مشاهد القيامة فعلا، ومعايشة الناس لها واقعا.

فتأويل هذه الآيات هو بيان مصيرها ومآلها ونهايتها، وتحويل وعدها النظري إلي صورته العملية، ورؤية حقيقتها المادية الواقعية، وذلك عند ما يعيشون فعلا مشاهد القيامة هناك!!.

ا لمطلب الرابع: مع التأويل في سورة يونس

ورد التأويل مرة واحدة في سورة يونس، وذلك في آية ضمن مجموعة من آيات، تتحدث عن القرآن، وتثبت أنه كلام الله، وتتحدي الكفار بمعارضته، وتخبر عن تكذيبهم بمضمونه، وتهددهم بالدمار يوم يأتي تأويله، وتقرر سنة ربانية مطردة في ذلك.

قال تعالى: وما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا، إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ. وما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَري مِنْ دُونِ اللَّهِ، ولكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، وادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ، ولَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ، كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ. ومِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، ومِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ، ورَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ، وإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي ولَكُمْ عَمَلُكُمْ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ، وأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [١].

المعنى الإجمالي للآيات:

تبدأ الآيات بتقرير حقيقة ما عليه الكفار، فهم ليسوا علي علم ولا يقين، في موضوعات الدين والاعتقاد. لقد كفروا بالرسول عليه الصلاة والسلام، وأنكروا أن يكون القرآن كلام الله، وكانوا مع الباطل والشرك بالله، إنهم في كلّ ذلك كانوا متبعين للظن والتخمين، ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان

(١) سورة يونس: ٣٦ - ٤١.

علي الحقّ واليقين، وماذا يساوي الظنّ بالنسبة إلي الحق؟ إنه لا يغني عن الحق، ولا يسدّ مسدّه.

وهذا القرآن الذي يسمعونه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو الحق، وهو كلام الله، وما كان لمحمد عليه الصلاة والسلام أن يفتريه من دون الله، ثم ينسبه إلي الله! إن القرآن مصدق للكتب الربانية السابقة، كالتوراة والإنجيل، ومؤكد لما فيها من حقائق حول الدين والإيمان- هذا قبل أن يحرفها أصحابها من اليهود والنصاري- وهذا القرآن مفصّل في معانيه وموضوعاته، وهو كلام الله رب العالمين، لا ريب ولا شكّ في ذلك: «وما كان هذا القرآن أن يفتري من دون الله، ولكن تصديق الذي بين يديه، وتفصيل الكتاب، لا ريب فيه من رب العالمين».

ولكن ما موقف الكفار من هذه الحقائق؟ إنهم ينكرونها، لأنهم يتّبعون الظن. القرآن غير مفتري، وهو كلام الله، ولكنهم يقولون: القرآن مفتري، وليس كلام الله! وطالما لم يسلّموا أنه كلام الله، وقالوا هو كلام البشر، فلا بد من التحدي، إنه إن كان كلام بشر، كان بمقدور البشر الإتيان بمثله، إذن فعلي هؤلاء الكفار تأليف وتقديم سورة، مثل سور القرآن، بيانها وبلاغتها وفصاحتها مثل سور القرآن، ويمكن أن يستعينوا بمن شاءوا من الأعوان، وأن يستشهدوا بمن أرادوا من الشهداء ... فإن عجزوا عن المطلوب، ولم يقدروا علي الإتيان بسورة مثل القرآن، ثبت أنّ القرآن ليس كلام بشر، ولا في مقدور أحد من المخلوقين، فهو كلام الله سبحانه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ. قُلْ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، وادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.

لكن هل آمن الكفار واتّبعوا الحق، واعتبروا أنّ القرآن كلام الله؟

كلا. إنهم ما زالوا مصرّين علي التكذيب والكفر، رغم وجود عدة آيات وأدلة وبراهين، تثبت أن القرآن كلام الله، وهي عند أصحاب التفكير السويّ السليم تنتج الايمان واليقين والتسليم.

بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ: كذّب الكفار بالقرآن، قبل أن يحيطوا علما بآياته وبراهينه وأدلته، وقبل أن يختبروا صدق ما فيه، وقبل أن يتأكدوا منه، ويتمكّنوا من البحث، والتحري، والدراسة، والاستقصاء، لأنّ التكذيب منهم قرار مسبق، لن يتراجعوا عنه، مهما اتضح لهم من الحقائق الهادية، إنهم رفضوا الحقّ عنادا، وكذبوا به عنادا.

ولو فكروا في الموضوع بمنهجية وعلمية وإنصاف، لآمنوا وصدّقوا بالحق.

وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ: كذّب الكفار بالقرآن، قبل أن يحيطوا به علما، وقبل أن يأتيهم تأويل آياته، لقد كانوا متسرّعين متعجلين في التكذيب، وماذا عليهم لو تأنوا وتريثوا؟ ماذا عليهم لو انتظروا قليلا إلي أن يأتيهم تأويل القرآن؟ إنهم لو تريثوا لعرفوا أنه الحق، ولو انتظروا لحين تأويل آياته، وتحقّقها أمامهم في عالم الواقع، في صورة مادية فعلية، لعرفوا أنّ القرآن حق، وأنّ وعوده تتحقّق وتتأوّل فعلا.

كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ: كفار قريش مثل الكفار الذين من قبلهم في اتباع الظن، وفي التكذيب بالحق، وفي التسرّع والتعجّل بالتكذيب، وفي عدم التريث والتأني، وانتظار تأويل وعود وتهديدات الله، في الكتب التي أنزلها إليهم.

فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ كان تكذيب الكفار السابقين، علي تلك الصورة المتعجلة المتسرعة، سببا في وقوع العذاب بهم، فلما أتاهم تأويل التهديدات، وشاهدوا تحقّقها في عالم الواقع، في صورة عذاب ودمار، أهلكهم الله وقضي عليهم، فزالوا عن الوجود. انظر كيف كانت عاقبتهم وكيف كانت نهايتهم؟

وهؤلاء الكفار المكذّبون لك يا محمد، كذّبوا كما كذّب الكفار من قبلهم، وتعجلوا كما تعجل الذين من قبلهم، ولهذا سيقع بهم كما وقع بالذين من قبلهم، وسيدمرهم الله كما دمر الذين من قبلهم، وانتظر هذه العاقبة المؤلمة لهم، إن لم يتراجعوا عن كفرهم.

إنّ هذه الآية تهديد ووعيد للكفار المكذبين، وإمهال لهم لحين تأويل آيات القرآن، التي تقرر هزيمتهم وهلاكهم، وانتصار الحق، وتحقّق هذه الآيات في صورتها المادية الواقعية.

فما موقف الكفار من هذا التهديد؟

سينقسمون إلي قسمين: قسم يتأثر به، ويكفر في موقفه، ويغير مساره، ويؤمن بالقرآن، ويتبع الرسول عليه الصلاة والسلام.

وقسم لن يتأثر به، ولن يستفيد منه، وسيبقي مصرا علي عناده وكفره وتكذيبه، إلي أن يتحقق التأويل، ويقع العذاب.

وقد أشار إلي القسمين قوله تعالى: ومِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، ومِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ، ورَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ.

أما الذين آمنوا بالقرآن، واستفادوا من التهديد، قبل وقوع وتحقّق التأويل، فهم مسلمون صالحون.

وأما الذين أصرّوا علي التكذيب والكفر والعناد، فعلي الرسول عليه الصلاة والسلام أن يفاصلهم، وأن يتبرأ منهم، وأن يتركهم ينتظرون تحقق التأويل، ووقع العذاب: وإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ: لِي عَمَلِي، ولَكُمْ عَمَلُكُمْ. أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ، وأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ.

المراد بالتأويل في هذه السورة:

تخبر الآيات- التي من ضمنها آية التأويل- عن كفر الكفار بالقرآن، وتكذيبهم به، وزعمهم أنه ليس كلام الله، وأن محمدا عليه الصلاة والسلام قد افتراه، وتتحدّاهم الآيات وتطلب منهم معارضة القرآن، والإتيان بسورة مثله.

وتقرر أن الكفار كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه، وقبل أن يأتيهم تأويله، وكانوا في هذا كأسلافهم السابقين، حيث أوقع الله بهم عذابه وأهلكهم، وهؤلاء يسيرون علي طريق السابقين، والعذاب قادم إليهم، إن لم يؤمنوا.

فما المراد بالتأويل هنا؟

إنه تأويل آيات القرآن التي كذبوا بها، ومعنى تأويلها بيان نهايتها ومآلها، أو وقوع صورتها المادية العملية! والسياق الذي وردت فيه الآية سياق وعيد وتهديد للكفار، وبيان أن العذاب قادم إليهم، وأن تأويل الآيات التي كذبوا بها سائر إليهم، وعما قريب سيشاهدون هذا التأويل ويعيشونه في عالم الواقع! لقد واجهت آيات القرآن الكفار، وكانت تخبرهم بانتصار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإظهار دينه، وتقرر عجز هؤلاء الكفار عن الوقوف أمام الاسلام، أو إطفاء نوره، وتدعوهم إلي الدخول فيه، فلا فائدة من المواجهة والمحاربة.

وكانت آيات القرآن تقدم لهم الوعيد والتهديد، وتخبرهم أنّ العقاب واقع بهم، وأنهم في ذلك مثل الكفار السابقين.

ولما كانوا يسمعون التهديد والوعيد في هذه الآيات، كانوا يزدادون تكذيبا بها، وسخرية واستهزاء بالرسول عليه الصلاة والسلام وأتباعه. فهل من الممكن أو المعقول أن يهزمهم محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومن معه مسلمون

مستضعفون فقراء؟ أمّا هم فهم أقوياء أغنياء أصحاب السلطة والمنزلة؟

في هذا الجو تنزلت آيات سورة يونس، وواجهت الكفار في تكذيبهم واستهزائهم.

بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ، ولَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ.

كذّبوا بأخبار القرآن وحقائقه، كذّبوا بوعوده للمؤمنين، وتهديداته للكافرين، وأنكروا أن يكون المستقبل هو للإسلام والمسلمين، ولم يصدّقوا أنهم يمكن أن ينهزموا أمام المسلمين.

فتقول لهم الآية: إنكم تكذّبون الآن بهذه الآيات، وأنتم لم تحيطوا علما بها، تكذّبون بها لأنه لما يأتكم تأويلها، ولما تشاهدوا صورتها العملية والواقعية، لكنّ تأويلها آت عن قريب، وستعيشون هذا التأويل عمليا عند ما تبدأ المعارك الفعلية بينكم وبين محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهذه المعارك ستنشب عن قريب! إنّ «لما» في قوله: ولَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ تدلّ علي التوقّع، وتستعمل في قرب وقوع ما بعدها.

وذلك كما في قوله تعالى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا. قُلْ: لَمْ تُؤْمِنُوا. ولكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا، ولَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [١] إنّ «لما» هنا حرف «توقّع وإطماع». فالأعراب أسلموا، وجاءوا إلي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وامتنّوا عليه، وزعموا تحقق الايمان بعد الإسلام فيهم، ولكنّ الآية تصحح لهم ذلك، وتقول لهم أنتم أسلمتم، نعم، ولكنكم لم تؤمنوا حتى الآن، لأن الإيمان لم يدخل في قلوبكم إلي الآن.

لكن هذا الإيمان ليس بعيدا عنكم، وأنتم لستم بعيدين عنه، إنكم سائرون في طريقكم إليه، وسيدخل في قلوبكم عن قريب!

(١) سورة الحجرات: ١٤.

وفي الجملة التي أمامنا ولَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ التوقّع واضح.

لم يقع تأويل الآيات التي كذّب بها الكفار حتى الآن، ولم تقع الصورة العملية للتهديدات النظرية لهم، التي حوتها آيات القرآن.

إنهم مهزومون، لكن متي؟ لما يأتهم تأويل ذلك أي: لم تقع هزيمتهم فعلا الآن، لكنها ستحقق عن قريب، فتأويل الآيات التي تقرر ذلك علي وشك الوقوع! وإنّ الرسول منصور، والاسلام ظاهر، لكن؟ لما يتم تأويل ذلك، لأنّ المعركة لم تنشب مع الكفار فعلا حتى الآن، ولكنها ستنشب عن قريب، وعندها سيتمّ تأويل الآيات التي تقرر ذلك.

وهذا ما حصل فيما، بعد، في حركة الدعوة الاسلامية، وحربها مع الكفار، فلم تمض إلا سنوات قليلة علي نزول هذه الآية من سورة يونس- والتي تقرر قرب وقوع وتأويل تهديدات القرآن- حتى تحققت تلك الوعود والتهديدات في عالم الواقع، وذلك في غزوة بدر، وما تلاها من الغزوات التي هزم الله فيها الكفار. وعندها أتي الكفار تأويل تلك الآيات، أي: تمّ تنفيذ وعود وتهديد الآيات القرآنية، وبذلك حوّلت من وعد نظري إلي صورة عملية واقعية، وبذلك تمّ ردّ وإرجاع معنى الآيات النظري إلي غايته الفعلية، ونهايته المادية.

عمر بن الخطاب يروي عن وقوع التأويل:

حملنا معنى التأويل في سورة يونس علي وقوع وعود القرآن للمؤمنين بالنصر، وتحقق تهديداته للكفار بالهزيمة. واعتبرنا غزوات الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهزيمته للكفار من اليهود والمشركين والأحزاب، تأويلا عمليا للنصوص القرآنية، وهذه الغزوات هي المرادة بقوله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ، ولَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ.

ونقدم فيما يلي مثالا واحدا من السيرة النبوية وحركة الصحابة، تبيّن أنّ هذا هو المقصود بالتأويل، وأنّ الصحابة كانوا يفهمونه.

إنّ آيات سورة القمر تقرر هزيمة كفار قريش، كما هزم الله الكفار السابقين، وبعد أن تقدم آيات السورة لقطات سريعة عن مصارع أشهر الكفار السابقين: قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وآل فرعون، تخاطب كفار قريش قائلة: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ؟ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ؟ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ؟ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ ويُوَلُّونَ الدُّبُرَ. بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ، والسَّاعَةُ أَدْهي وأَمَرُّ [١].

تسأل هذه الآيات كفار قريش: أأنتم خير من الكفار السابقين المعذّبين؟

أتظنون أن العذاب لن يقع بكم في الدنيا قبل الآخرة؟ هل معكم براءة من الله أنزلها عليكم في الزبر والكتب؟ أم تعتمدون علي قوتكم وجنودكم وأتباعكم؟ أتظنون أنكم ستنتصرون علي المسلمين في حربكم القادمة القريبة؟ وتقولون: نحن جميع منتصرون، والمسلمون مهزمون؟

لا تظنّوا هذا، ولا تتوقّعوه، إنّ المعارك قادمة بينكم وبين المسلمين، وستنهزمون أمامهم، وسيتفرق جمعكم، وستولون أدباركم للمسلمين، وسينزل الله نصره عليهم: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ ويُوَلُّونَ الدُّبُرَ.

إنّ قوله: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ ويُوَلُّونَ الدُّبُرَ وعيد من الله وتهديد للكفار، وتقرير أنهم سينهزمون لا محالة! وهذه الآيات نزلت في مكة، بينما كان المسلمون قلة مستضعفين، والكافرون أقوياء غالبين، وقد أيقن المسلمون بتحقق وعدها في المستقبل، لكنّ الكافرين لم يصدّقوا ذلك.

متي تمّ تأويل هذه الآيات؟ أي: متي تحقق بعدها العملي المادي الواقعي؟ ومتي ردّ الكلام النظري فيها الي غايته الفعلية المرادة منه؟

(١) سورة القمر: ٤٣ - ٤٦.

لقد حصل ذلك، وتمّ تأويلها بعد بضع سنوات من نزولها، وكان ذلك في غزوة بدر الكبري، في السنة الثانية من الهجرة!! وقد روي لنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه تحقق التأويل لهذه الآيات في غزوة بدر.

قال عكرمة: «لما نزل قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ ويُوَلُّونَ الدُّبُرَ قال عمر: أي جمع سيهزم؟ وأي جمع سيغلب؟

فلما كان يوم بدر، رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يثبت في الدرع، وهو يقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ ويُوَلُّونَ الدُّبُرَ، فعرفت تأويلها يومئذ [١]!!

وتأمّل معنا قول عمر «فعرفت تأويلها يومئذ» لتعرف معنى التأويل.

إن نزول هذه الآية في مكة وعيد وتهديد نظري، وخبر عما سيحدث لهم في المستقبل علي أيدي المسلمين. هذا الوعيد النظريّ يحتاج إلي تأويل، أي: ردّ إلي غايته العملية المرادة منه، ورجوع به إلي صورته المادية، وبيان عاقبته وماله.

ولقد تحقق ذلك الردّ والرجوع والتأويل في معركة بدر، وتحقق عمليا علي أرضها ذلك الخبر القرآني، وعندها فقط عرف عمر رضي الله عنه تأويل الآية! هذا مثال من السيرة النبوية، وفهم الصحابة، يظهر فيه التأويل العملي لقوله تعالى: ولَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ.

وبهذا نعرف أنّ التأويل في سورة الأعراف تهديد ووعيد للكفار بتحقق العذاب بهم يوم القيامة- كما سبق أن بينا- وأما التأويل في سورة يونس، فهو وعيد وتهديد للكفار بتحقق الهزيمة بهم في الدنيا!!

(١) تفسير القرآن العظيم لابن كثير: ٤/ ٢٨١.

المطلب الخامس: مع التأويل في سورة الإسراء


ورد التأويل مرة واحدة في سورة الإسراء، وذلك تعقيبا علي أمر الله المؤمنين بتوفية المكيال، وإتمام الميزان، حيث اعتبر ذلك خيرا وأحسن تأويلا.

قال تعالى: وأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ، وزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ: ذلِكَ خَيْرٌ وأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [١].

الكيل والوزن بين الإتمام والتطفيف:

هذه الآية ضمن آيات تقدّم للمسلمين مجموعة من التوجيهات القرآنية حول الأخلاق والفضائل، حيث تأمرهم بالتحلي بمكارم الأخلاق ومحاسنها، وتنهاهم عن قبائحها ومساوئها.

هذه الآيات من الآية الثالثة والعشرين إلي الآية التاسعة والثلاثين:

٢٣ - ٣٩.

تأمر الآية المسلمين بالوفاء بالكيل عند ما يكيلون، والوزن بالقسطاس عند ما يزنون، وتعتبر هذا الأمر خيرا، كما تعتبره أحسن تأويلا.

ونقيض الوفاء بالكيل هو إنقاصه، ونقيض الوزن بالقسطاس، هو بخس الميزان وتخسيره، وهذا هو التطفيف، الذي ذمّ الله المطففين من أجله.

لقد كان قوم مدين ينقصون المكيال والميزان، فبعث الله له شعيبا عليه

(١) سورة الإسراء: ٣٥.

الصلاة والسلام، فنهاهم عن التطفيف والإنقاص والبخس، وأمرهم بالإتمام والتوفية. قال تعالى: وإِلي مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً، قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، ولا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ والْمِيزانَ، إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ، وإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ. ويا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ والْمِيزانَ بِالْقِسْطِ، ولا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ، ولا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [١].

وقد أمر الله المسلمين بالوزن بالقسط، وعدم إنقاص الميزان، كما ورد في قوله تعالى: والسَّماءَ رَفَعَها ووَضَعَ الْمِيزانَ. أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ. وأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ، ولا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ [٢].

وذمّ الله المطففين لتلاعبهم في المكيال والميزان، فقال تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَي النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ. أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ. يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [٣]. والمطففون هم الذين يطففون الكيل، فينقصونه ولا يتمونه.

قال الامام الراغب في معنى «طفف»: «الطّفيف: الشيء النّزر القليل، والطّفافة هي الشيء الذي لا يعتدّ به لقلته. ويقال: طفّف الكيل:

إذا قليل نصيب المكيل له في إيفائه واستيفائه» [٤].

إنّ المطفف في المكيال متلاعب به، فإذا اكتال من الناس وأخذ منهم زاد في المكيال، فأخذ أكثر من حقّه، لكنه بالمقابل إذا كال لهم وأعطاهم، فإنه ينقص المكيال، ويعطيهم أقلّ مما لهم.

(١) سور هود: ٨٤ - ٨٦.

(٢) سورة الرحمن: ٧ - ٩.

(٣) سورة المطففين: ١ - ٦.

(٤) المفردات للراغب: ٥٢١.

وهذا ما فسّرته الآيات في تعريف المطففين. إنهم الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَي النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ.

التطفيف ظلم وتجاوز، والمطفّف ظالم متجاوز، إذا اكتال وإذا كال، إذا أخذ، وإذا أعطي.

وقد لاحظ هذه اللفتة الإمام أحمد بن فارس في مقاييس اللغة، فقال:

«التطفيف: نقص المكيال والميزان. وقال بعض أهل العلم: إنما سمي نقص المكيال والميزان تطفيفا، لأن الذي ينقصه منه يكون طفيفا أي: قليلا.

ويقال لما فوق الإناء: الطّفاف» [١].

الزيادة في المكيال والميزان تطفيف، يقال: طفّ المكيال: إذا زاد.

والإنقاص منه تطفيف، يقال: طفّف المكيال: إذا أنقص منه.

وتوحي جملة: الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَي النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ بتجبر وظلم المطففين، وأنهم ذوو مكانة وسلطان ورئاسة في قومهم، والذي يوحي بهذا حرف الجر «علي»، الذي يدلّ علي الاستعلاء، فهم يكتالون علي الناس، ويتجبّرون عليهم، ويأمرونهم بقبول مكاييلهم وموازينهم، رغم ما فيها من بخس لهؤلاء الناس.

إن آية سورة الإسراء تأمر بالتوفية في الكيل والوزن، وتنهي عن التطفيف فيه.

وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ: عليكم عند ما تكيلون أن توفوا الكيل، وأن لا تنقصوه إذا كان عليكم، وأن لا تزيدوه إذا كان لكم.

وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ: عند ما تزنون بالميزان، فعليكم أن تكونوا عادلين في الوزن، فلا تأخذوا أكثر من حقكم، ولا تعطوا غيركم عند ما تبيعونهم أقلّ من حقهم.

(١) مقاييس اللغة: ٣/ ٤٠٥.

القسط هو العدل، والمقسط هو العادل، وإنّ الله يحبّ المقسطين العادلين.

و «القسطاس»: هو الميزان، وسمي قسطاسا مبالغة في وجوب تحقّق القسط والعدل فيه، عند ما يوزن به.

وقد وصف القسطاس في الآية بالاستقامة: وزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ والاستقامة ضرورية له ليتحقق العدل فيه، ويبدو الإنصاف والإيفاء منه.

إنّ الميزان المؤمن الصادق قائم بالقسط، فهو قسطاس مستقيم، بينما ميزان المطفف أعوج، فهو ميزان خادع، يزن بالخسران والإنقاص والبخس.

وقد قارن شعيب عليه السلام بين الميزانين وصاحبيهما، عند ما نهي قوم مدين عن البخس وأمرهم بالقسط، وذلك في قوله تعالى: أَوْفُوا الْكَيْلَ، ولا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ. وزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ، ولا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ [١].

معنى التأويل في السورة:

وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ، وزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ. ذلِكَ خَيْرٌ وأَحْسَنُ تَأْوِيلًا.

بعد ما أمرت الآية المسلمين بإيفاء الكيل وإتمام الوزن، عقبت علي هذا، بأنه خير، وأحسن تأويلا.

«ذلك» في الجملة اسم إشارة، والمشار إليه هو المذكور في بداية الآية. والتقدير: إيفاؤكم الكيل والوزن هو خير.

و «خير» في الجملة أفعل تفضيل، لكنّ التفضيل هنا ليس علي ظاهره، أي: ليس هنا مفضول وفاضل.

(١) سورة الشعراء: ١٨١ - ١٨٣.

إذا كان التفضيل علي ظاهره، فكيف يكون المعني؟ هل يعتبر إيفاء الكيل والوزن أفضل من تركه وتطفيف المكيال والميزان؟ كلا.

إنّ الإيفاء ليس أفضل من الإنقاص والتطفيف! لأنه لا مجال للمقارنة أو المفاضلة بينهما. فالإيفاء واجب والتطفيف حرام، ولا مفاضلة بين الواجب والحرام. هل نقول: إنّ الزواج أفضل من الزنا؟ وإنّ الصلاة أفضل من تركها؟ لو فعلنا ذلك لظلمنا الزواج والصلاة، عند مقارنتهما بأضدادهما.

ألم تر أنّ السيف ينقص قدره ... إذا قيل: هذا السيف أمضي من العصا

التفضيل هنا «ذلك خير» ليس علي ظاهره، ولا تفاضل بين الإيفاء والتطفيف، وإنما تفضيل الإيفاء في ذاته، لأنّ المقصود الثناء علي الإيفاء في نفسه، وبيان قيمته، وحثّ المسلمين عليه. أي: الإيفاء فاضل وخير وطيّب ونافع وجيد.

وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا: هذه الجملة معطوفة علي ما قبلها، سيقت للدعوة إلي إيفاء المكيال والميزان، والثناء عليه، والترغيب فيه.

إنّ ايفاء المكيال والميزان خير في ذاته، وهو أحسن تأويلا.

فما معنى التأويل هنا؟ وهل يخرج عن معناه في الآيات السابقة التي حللناها؟.

معنى أَحْسَنُ تَأْوِيلًا: إيفاء المكيال والميزان أحسن ردا، وأحسن عاقبة، وأحسن مالا، وأحسن نهاية، وأحسن إرجاعا، وهذا هو معنى التأويل الذي استعمله القرآن: «هو ردّ الشيء إلي الغاية المرادة منه، علما كان أو فعلا».

لماذا إيفاء المكيال والميزان أحسن مآلا وعاقبة وردا ونهاية؟

تريد الآية ترغيب المسلمين في إيفاء المكيال والميزان، وتحسينه في عيونهم، مع ترهيبهم من نقيضه، وتنفيرهم من التطفيف.

التطفيف أسوأ تأويلا:

إنّ بعض المسلمين قد ينظر للموضوع نظرة تجارية مادية متعجلة، وتحركه الرغبة في زيادة المال وتحقيق المكاسب، فتعميه هذه الرغبة عن مشاهدة آخر الطريق، وملاحظة نهايته! ولذلك يظنّ أنّ تطفيف المكيال والميزان خير له، وأحسن من الإيفاء! ولماذا لا يكون خيرا وأحسن عنده؟ ألا ينتج عنه زيادة الكسب والمنفعة؟

ومضاعفة الربح؟ ألا يزداد ماله دراهم أو دنانير؟ ألا يزداد وزن سلعته غرامات أو كيلووات؟ أليس هذا خيرا له وأحسن؟

أمّا عند ما يوفي المكيال والميزان فإنه يفقد هذه المكاسب المادية، ويخسر هذه الأرباح الطائلة! تنقص أمواله، ويقلّ دخله، وهل هناك تاجر ذو حس تجاري، ورغبة في الربح، يرضي أن يفقد هذه المكاسب، ويترك استغلال هذه الفرص؟ مع أنّ التجارة «شطارة»!! تردّ الآية علي هذه التبريرات النفسية، فتقول للتاجر: ليس الأمر كما حدثتك نفسك الطامعة في الربح والكسب، ولو علي حساب الآخرين.

إنّ تطفيفك للمكيال والميزان، وحصولك علي كسب أكثر، وربح أعلي، ليس خيرا لك في النهاية. هو خير لك الآن، لكن ما هي عاقبته عليك؟

ما هي نهايته؟ أي: ما هو تأويله؟ وما هي صورته الفعلية الواقعية التي ينتهي إليها، ويستقر عليها؟

إنّ الله لن يبارك له تجارته التي تقوم علي تطفيف المكيال والميزان. وإن الله لن يوفقه في حياته طالما أنه جني كسبا حراما، وأضاف إلي رصيده مالا حراما.

ماذا سيحصل له عند ما يطفّف المكيال والميزان؟ سيقذف الله كراهيته في قلوب «الزبائن» لتلاعبه في الميزان، وظلمه لهم، ونهبه لأموالهم، وبهذا سينصرفون عنه، وستقل صفقاته التجارية، أي ستقلّ أرباحه،

وستصاب أمواله وتجارته بالركود. هذا هو «تأويل» تطفيف المكيال والميزان، وهذه هي عاقبة ونهاية ذلك! ثم إنّ الله قد يبتلي هذا التاجر المطفّف بابتلاءات شديدة، في نفسه وأسرته وممتلكاته، فيدفع أضعاف أضعاف ما حصّله من مال وربح حرام، عن طريق تطفيف المكيال والميزان.

كم زاد رصيده من التطفيف والتلاعب؟ مائة دينار؟ أو ألف دينار؟

فليكن. لكن لينتظر «تأويل» هذه الزيادة المحرمة، قد يصيبه الله بمرض خطير، هو أو أحد أفراد أسرته، فيدفع لعلاجه آلاف الدنانير. فهل كان تأويل التطفيف خيرا أو شرا؟

وقد يصاب بحادث لسيارته، فتتضر بذلك كثيرا، فيدفع لإصلاحها مئات أو آلاف الدنانير! وهذا هو تأويل تطفيف ميزانه! وقد تصيب تجارته آفة أو جائحة، كأن يحترق محلّه التجاري، أو يسطو عليه اللصوص، فيدفع آلاف الدنانير للإصلاح والتعويض. وهذا هو تأويل التطفيف.

هذه الأخطار التي تحدق به في الدنيا، أما يوم القيامة فماذا ينتظره هناك من أخطار؟ وماذا أعدّ الله له من عذاب؟ مقابل التطفيف والتلاعب، وأكل أموال الآخرين؟ وهذا هو تأويل التطفيف، وبيان عاقبته السيئة ونهايته الألمية! أبعد كلّ هذه الأخطار، ما زال بعض التجار يظنّ أنّ التطفيف خير وأحسن تأويلا له؟ لا بدّ أن يمدّ عينه بعيدا، ليري هذه الأخطار التي تحدق به في الدنيا والآخرة، ويقف علي «تأويل» هذه التطفيف، ويلاحظ صورته النهائية، وعاقبته المادية.

بعد هذا الرد للتطفيف إلي عاقبته، سيقول ذلك التاجر بما تقرره الآية:

إنّ عدم إيفاء الكيل تطفيف، وإنّ عدم الوزن بالقسطاس تطفيف، وهذا التطفيف شرّ، وهو أسوأ تأويلا، وأسوأ عاقبة ونهاية وردّا ومآلا!!

إيفاء الكيل والميزان أحسن تأويلا:

هذا في الجانب السلبيّ القائم علي التطفيف، أما في الجانب الإيجابي المشرق، فإنّ إيفاء الكيل، والوزن بالقسطاس، هو خير وأحسن تأويلا، وأحسن عاقبة ومآلا وردّا ونهاية، في الدنيا وفي الآخرة! فكيف كان ذلك؟ وكيف يحسن التاجر تأويل التزامه بأخلاقيات التجارة؟ وكيف يلاحظ عاقبة ومآل ذلك؟

إنّ الله سيبارك له في تجارته، ويوفّقه في حياته، ويرزقه الهناء والسعادة، والرضي بالقضاء، والقبول عند الناس.

إيفاء الكيل والوزن أحسن تأويلا وردا في الدنيا:

سيحبّه «الزبائن»، ويحرصون علي التعامل معه، والشراء منه، وبهذا تزداد مبيعاته، وتكثر صفقاته، وبذلك تزداد أرباحه، وعندها يدرك أنّ هذه الخيرات كلها تأويل وعاقبة لالتزامه.

وسيبارك الله في حياته، وسيعافيه هو وأسرته من الأمراض والابتلاءات، وبذلك سيوفر الكثير من الأموال، التي كان سينفقها علي مواجهة الأمراض وتكاليف العلاج، وهذا تأويل لالتزامه.

وسيحفظ الله له تجارته، ويحميها من الآفات والكوارث، وهذا تأويل لالتزامه.

هذا في الدنيا، وفي الآخرة فإنّ الله يعدّ له حسن الجزاء والثواب، ويمتعه في جنات النعيم، ويمنّ عليه بالرضي والرضوان، وهذا تأويل لالتزامه.

إن هذا التاجر الصادق لم يكن ضيق الأفق، قصير النظر، كذلك التاجر المطفف، وإنما امتدّ ببصره للمستقبل، ورأي عاقبة ومآل الالتزام بتوجيهات الإسلام، فاستعلي علي وساوس النفس لتطفيف المكيال

والميزان، وسعي لإيفاء الكيل، وإتمام الوزن، راغبا في حسن تأويل ذلك، حريصا علي نيل عاقبته السعيدة، ومآله المطلوب، ونهايته المرضية، في الدنيا والآخرة!! هذا هو معنى التأويل، لمن يوفي المكيال والميزان، وهذه هي عاقبة ونهاية ذلك التصرف الجميل.

إنّ التأويل في سورة الإسراء تأويل للمكيال والميزان، تأويل ناتج عن حسن التزام توجيهات القرآن، المتعلقة بالكيل والوزن، تأويل يلحظ فيه عاقبة ونهاية هذا الأمر، والرغبة في مآله وغايته.

وهذا هو المعنى المتفق مع ورود التأويل في باقي السور.

المطلب السادس: مع التأويل في سورة النساء

ورد التأويل مرة واحدة في سورة النساء، وذلك في سياق الأمر بالحكم بشرع الله، وطاعة أولي الأمر من المسلمين، وذمّ المنافقين الذين يرفضون الاحتكام إلي شرع الله، ويريدون أن يتحاكموا إلي الطاغوت.

قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلي أَهْلِها، وإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ، إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ، إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَي اللَّهِ والرَّسُولِ، إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ، ذلِكَ خَيْرٌ وأَحْسَنُ تَأْوِيلًا، أَلَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ، وما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَي الطَّاغُوتِ، وقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ، ويُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً [١].

المعنى الإجمالي للآيات:

يأمر الله المسلمين أن يؤدّوا الأمانات- علي إطلاقها وعمومها- إلي أهلها، وأن يحكموا بين الناس- كلّ الناس- بالعدل والقسط، وأن لا يظلموا ولا يجوروا في أحكامهم، وهذه الأوامر من الله، فهي أوامر ممدوحة طيبة خيّرة نافعة، والله سمع لما يقولون وما ينطقون به من أحكام عند ما يصدرونها، وهو بصير بهم يراهم وهم يتحركون ويتنقّلون، لأداء الأمانات أو إصدار الأحكام، فلا بدّ أن يستحضروا رقابة الله عليهم،

(١) سورة النساء: ٥٨ - ٦٠.

وسمعه لكلامهم، وبصره بهم، ليحرصوا علي تنفيذ هذه الأوامر.

وقد يختلف المسلمون فيما بينهم في تحديد الأمانات التي تؤدّي، وفي تحديد العدل عند إصدار الحكم، فلا بدّ من أصل يرجعون إليه، ومن ميزان يزنون فيه، ومن حكم يحتكمون إليه، وذلك ليردّوا إليه المتنازع فيه، طلبا للحق، وإنهاء للخلاف، وابتغاء للصواب! فما هو هذا الميزان والحكم والأصل؟ تحدّده الآية الثانية بأنه «شرع الله» المتمثل في كتابه الكريم وسنة رسوله العظيم صلّى الله عليه وسلّم، ولذلك تأمر الآية المسلمين بطاعة الله وطاعة رسوله وأولي الأمر: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: أَطِيعُوا اللَّهَ، وأَطِيعُوا الرَّسُولَ، وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.

ونري أنّ الآية كررت فعل «أطيعوا» مرة ثانية عند الأمر بطاعة الرسول، وذلك للتأكيد علي أن طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام من طاعة الله، ولأن هدية وسنته وسيرته مصدر ثان من مصادر التشريع الاسلامي، بعد القرآن الكريم.

نري أن كلّ فعل يشير إلي مصدر مستقل من مصادر التشريع:

أَطِيعُوا اللَّهَ: الإشارة إلي القرآن، المصدر الأول للتشريع.

وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ: الإشارة إلي السنة، المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي.

وطاعة الله مطلقة، وطاعة الرسول أيضا عليه الصلاة والسلام مطلقة لأنّ الرسول عليه الصلاة والسلام لا يأمر بمعصية.

أما طاعة أولي الأمر من المسلمين فهي مقيدة بقيدين:

الأول: أن لا يأمروا بمعصية، فتطيعهم الرعية عند ما يأمرون بالطاعة والخير والبر، لكنها لا تطيعهم عند ما يأمرون بالمعصية، ولهذا أسقط فعل

«أطيعوا» من الجملة الثالثة، وعطفت علي «الرسول»: أَطِيعُوا اللَّهَ، وأَطِيعُوا الرَّسُولَ، وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.

الثاني: أن يكونوا من المسلمين وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، وليس معنى هذا أن يكونوا من المسلمين بمجرد الانتساب، بل أن يكونوا من المسلمين قولا وفعلا وسلوكا وتصرفا، وبما أنهم أولوا الأمر، وأصحاب الحكم، فيجب أن ينفذوا شرع الله، ويطبّقوا حكم الله، ولا يجوز أن يقرّوا تشريعا أو قانونا أو نظاما يتعارض مع حكم الله، فإن فعلوا ذلك واحتكموا إلي غير شرع الله لم يعودوا من المسلمين الصادقين، وبذلك فقدوا حقهم علي الرعية في الطاعة.

الرد إلي الله ورسوله:

وبعد ما تعرّف الآيات المسلمين حكاما ومحكومين علي الميزان والحكم والأصل، وهو حكم الله ورسوله، تدلّهم علي طريقة حلّ نزاعاتهم الاجتهادية، وحلّ خلافاتهم الاجتهادية، وذلك بأن يردّوا المتنازع فيه من الامور والمسائل والقضايا إلي حكم الله ورسوله.

وذلك حيث تقول: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَي اللَّهِ والرَّسُولِ وفي هذا دليل علي جواز التنازع والاختلاف في المسائل الاجتهادية، وجواز تعدّد الآراء، وتباين وجهات النظر، في المسألة الواحدة، طالما أنه ليس فيها نص شرعي، وطالما أنّ هدف المختلفين المتنازعين المجتهدين مصلحة الأمة، وتحرّي الصواب! يجوز التنازع «الأخويّ» الاجتهادي بين الرعية فيما بينها، ويجب علي الأفراد المتنازعين ردّ الأمر المختلف فيه الي الله ورسوله.

ويجوز التنازع «الاخويّ» الاجتهادي بين الرعية وحكامها، ويجوز أن يقف شخص من أفراد الأمة أمام الحاكم، ليقول له- بأدب واجتهاد-:

لا. ويجب ردّ المختلف فيه بين الرعية والحاكم إلي الله ورسوله.

لا يجوز لوليّ أمر المسلمين أن يمنع الآراء المخالفة لرأيه، ولا أن يصادرها، ولا أن يؤذي أصحابها، ولا أن يحرص علي جعل الناس كلّهم ظلا له، تابعين لرأيه، بل يجب عليه أن يسمح بتعدّد الاجتهاد، وتعدّد الآراء ووجهات النظر، ووجود أفراد في الأمة مخالفين له في اجتهاده.

في هذه الحالة يجب علي المختلفين المتنازعين المجتهدين من احكام والمحكومين أن يبحثوا عن حلّ نهائيّ للمسائل الخلافية، وأن يحتكموا إلي «حكم» ينهي النزاع، وأن يردّوا إليه الأمر، وأن يلتزموا بحكمة.

هذا الحكم، هو الأصل والميزان، إنه شرع الله، المتمثل في القرآن الكريم وحديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فإن تنازعتم في شيء، فردوه إلي الله والرسول، وإن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر».

وترغب الآية المسلمين حكاما والمحكومين بالردّ إلي الله ورسوله، وتبيّن عاقبته الجيدة فيهم، فتقول: ذلِكَ خَيْرٌ وأَحْسَنُ تَأْوِيلًا.

و «ذلك» اسم إشارة، والمشار إليه هو المذكور في الجملة السابقة، وهو ردّ المتنازع فيه إلي كتاب الله وسنة رسوله، فهذا الرد والاحتكام فيه إلي الأصل خير وبركة! وأفعل التفضيل في «خير» ليس علي ظاهره. أي لا يوجد في المسألة فاضل وأفضل منه. فالردّ إلي كتاب الله وسنة رسوله ليس خيرا من عدم الردّ إليها وليس أفضل من ترك الردّ إليها! فإنّ عدم الردّ إليها شرّ خالص، وباطل محض، ليس فيه ذرة خير أو نفع! إنما يراد بيان فضل الردّ في ذاته، دون التفات إلي تفضيله علي غيره، إنّ ردّ الأمر المتنازع فيه إلي الله ورسوله أحسن عاقبة وردا، وأحسن مرجعا ومآلا، وأحسن نهاية وحكما، وأحسن علاجا وحلا.

ولا يوجد مسلم صالح حاكما أو محكوما يرفض الاحتكام إلي الله ورسوله، ويأبي ردّ المتنازع فيه إلي كتاب الله وسنة رسوله، بما أن هذا الاحتكام والردّ هو خير وأحسن تأويلا ومرجعا وقضاء.

لكنّ المنافق او ضعيف الإيمان، ويرفض هذا الاحتكام والرد، ويأبي الخضوع لحكم الله ورسوله، ويسعي إلي حكم الطواغيت، ويقبل بحكم البشر المناقض لحكم الله ورسوله، ويكون بذلك قد فقد إيمانه، وأغضب ربّه، وعصي نبيه، وأطاع شيطانه.

ولهذا تتعجب الآية التالية من موقف المنافقين، الراغبين في الاحتكام إلي الطاغوت، الرافضين لحكم الله ورسوله: أَلَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَي الطَّاغُوتِ، وقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ، ويُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً.

شتّان بين ردّ وردّ، وبين تأويل وتأويل شتّان بين ردّ المؤمنين المتنازع فيه إلي الله ورسوله، الذي هو خير وأحسن تأويلا، وبين ردّ المنافقين المتنازع فيه إلي الطاغوت، الذي هو شرّ وأسوأ تأويلا!!

معنى التأويل في الآية:

التأويل هو ردّ الشيء إلي الغاية المرادة منه، علما أو فعلا.

وتقدم الآية لنا الميزان الذي نزن به، والمرجع الذي نرجع إليه، والأصل الذي نردّ إليه الأمور المختلف فيها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ، فَرُدُّوهُ إِلَي اللَّهِ والرَّسُولِ، إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ، ذلِكَ خَيْرٌ وأَحْسَنُ تَأْوِيلًا.

هناك أمور متنازع فيها بين المسلمين، ليس فيها نصّ صريح يزيل التنازع

ويحلّ الإشكال. فكيف يزال التنازع؟ وما المرجع الذي يرجعون إليه؟ وما الأصل الذي يتحاكمون إليه؟

ما هو تأويل ذلك الأمر المتنازع فيه؟ بمعني: ما هي حقيقة ذلك الأمر؟

وما هو الراجح فيه من الأقوال والآراء المقدمة؟ أيّ رأي منها يوافق الحقّ والصواب؟ ومن الذي يقرر ذلك؟ ومن هو المؤهل للحكم فيه؟ ومن هو الصالح للردّ إليه؟ ومن هو الذي يؤول الموضوع، ويقدم حقيقته الراجحة الصحيحة؟

إنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حياته، وكتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم بعد قبضه، وهذا ما صرّحت به الآية: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَي اللَّهِ والرَّسُولِ، إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ، ذلِكَ خَيْرٌ وأَحْسَنُ تَأْوِيلًا.

فَرُدُّوهُ إِلَي اللَّهِ والرَّسُولِ: ردّوا الأمر المتنازع فيه إلي الله والرسول، أي ردّوه إلي كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام.

أي: أوّلوا المتنازع فيه، وابحثوا عن حلّ نهائي له، واذهبوا إلي من يؤوّله، ويريكم حقيقته ومآله، ومرجعه ونهايته، ردّوه إليه ليؤله لكم! وإذا كان التأويل هو ردّ الشيء إلي غايته، عرفنا حكمة الأمر بالردّ في الآية: فَرُدُّوهُ إِلَي اللَّهِ والرَّسُولِ: قدّموه إلي الميزان الصحيح، المتمثل في كتاب الله وسنة الرسول، ليتمّ تأويله، وتعرف حقيقته.

ذلِكَ خَيْرٌ: ردّ المتنازع فيه إلي الميزان والمرجع والأساس والأصل، إلي كتاب الله وسنة رسوله، خير وبركة وصواب.

وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا: أحسن ردّا، وعاقبة ومآلا، ونهاية ومرجعا وحلا، وحكما وبيانا.

سبب نزول الآية:

أورد الإمام ابن كثير في تفسيره بعض الروايات في سبب نزول هذه الآية، منها:

١ - ما أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزل قوله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ في عبد الله بن حذافة السّهمي، وإذ بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سريّة.

٢ - وما أخرجه البخاري ومسلم وأحمد عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سريّة، واستعمل عليهم رجلا من الأنصار، فلما خرجوا، وجد عليهم في شيء (أي: غضب منهم بسبب خلاف بينهم وبينه، فأراد أن يعاقبهم) فقال لهم: ألي قد أمركم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تطيعوني؟

قالوا: بلي.

قال: فاجمعوا لي حطبا.

ثم دعا بنار فأضرمها فيه.

ثم قال لهم: عزمت عليكم لتدخلنها! فقال لهم شابّ منهم: إنما فررتم إلي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من النار، فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها.

فرجعوا إلي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبروه، فقال لهم: (لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدا!! إنما الطاعة في المعروف) [١].

تدلّ هذه الحادثة علي معنى الردّ والتأويل وحدود الطاعة في الآية، الآية تأمر بطاعة الله ورسوله ووليّ الأمر، لكنّ طاعة وليّ الأمر مقيدة

(١) انظر تفسير ابن كثير: ٢/ ٥٦٦ - ٥٦٧.

بتنفيذ الأوامر الشرعية.

فهذا الأنصاري أمير السرية قد غضب من أصحابه، وتنازع معهم وتنازعوا معه في شيء، فأخذته صفاته البشرية من الضعف واستغلال المنصب وحبّ الانتقام، وهي أخطاء بشرية تعتري البشر ولو كانوا صالحين، فأمرهم بإلقاء أنفسهم في النار تنفيذا لأمره.

فهل ينفّذون الأمر، ويلقون أنفسهم فيها؟ بعضهم همّ بذلك من باب الطاعة والالتزام!! ولكنّ ذلك الشابّ الذكيّ منهم أعاد الأمر إلي الميزان، وردّ المسألة إلي الأصل: كيف تلقون أنفسكم فيها، وأنتم أسلمتم واتبعتم الرسول صلّى الله عليه وسلّم لينجيكم الله منها؟ لا تفعلوا! وعند ما نرجع للرسول عليه الصلاة والسلام نعرف حكمه في المسألة، وننفّذه، فإن أمرنا بذلك فعلنا!! إنّ هذا التفكير المنهجي العلميّ من هذا الشابّ الصحابيّ هو بحث عن تأويل أمر الأمير الغاضب، وسعي لمعرفة حقيقة الأمر، والوقوف علي مآله وعاقبته ونهايته.

ولذلك طالب بردّ الموضوع إلي الأصل، والاحتكام إلي المرجع والحكم، وهو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهذا هو معنى التأويل في الأسلوب القرآني.

لقد أوّل لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأمر المتنازع فيه والمختلف عليه مع الأمير الغاضب، وأصدر حكمه فيه، وذلك عند ما قال لهم: لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدا.

فلو نفذ جنود السرية أمر الأمير الغاضب، ألقوا أنفسهم في النار من باب طاعة وليّ الأمر، لكن فعلهم أعظم شرا، وأسوأ تأويلا وتنفيذا وردا وتطبيقا وعاقبة، حيث يدخلهم الله نار جهنم، ولا يخرجهم منها! ولكنّهم أحسنوا عند ما أحالوا الأمر المختلف فيه علي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،

فبيّن لهم الصواب والحقيقة، وهذا تأويل من الرسول عليه الصلاة والسلام للأمر المتنازع فيه، وفعلهم هذا هو خير وأحسن تأويلا وعاقبة ومآلا وغاية.

ثم أرسي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القاعدة الدائمة للمسلمين من بعده حتى قيام الساعة، وقدّم لهم الأساس والميزان في صلة المحكومين بالحكام والرعية بالراعي.

هذا الأساس والميزان في قوله تعقيبا علي الحادثة:

(إنما الطاعة في المعروف).

طاعة ولي الأمر المسلم الصالح واجبة، وتنفيذ أوامر الحاكم المسلم الصالح واجب، لكن علي شرط أن يأمر بالواجب والمعروف، أما إذا أمر الحاكم بمعصية ومنكر وحرام، فعندها تلغي طاعته، ويحرم تنفيذ أمره، ولا سمع له ولا طاعة، لأنّ الطاعة في المعروف الحلال.

فهذه الجملة المحدّدة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إنما الطاعة في المعروف»

هي الميزان والأصل، والقاعدة والأساس، يرجع إليها المسلمون في حلّ خلافاتهم مع حكامهم ومسئوليهم وولاة أمورهم، ينظرون إلي أوامر مسئوليهم من خلالها، ويتعاملون مع حكامهم علي أساسها، فينفذون من تلك الأوامر ما اتّفق معها، ويرفضون تنفيذ ما تعارض معها!! وإعادة المسلمين لأوامر وتعليمات مسئوليهم وحكامهم إلي هذه القاعدة النبوية، هو ردّ إليها، وحمل عليها، أو: هو تأويل لتلك الأوامر علي أساس هذه القاعدة.

وهذا تطبيق لقوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَي اللَّهِ والرَّسُولِ، إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ، ذلِكَ خَيْرٌ وأَحْسَنُ تَأْوِيلًا!!

المطلب السابع: مع التأويل في سورة آل عمران

ورد التأويل مرتين في سورة آل عمران، والمرتان ذكرتا في آية واحدة، وهذه الآية في سياق آيات أخري، تتحدث عن المحكم والمتشابه في القرآن، وموقف فريقين من المتشابه، فريق الذين في قلوبهم زيغ، الراغبين في الفتنة، وفي تأويل المتشابه، وفريق الراسخين في العلم المعترفين بعجزهم عن تأويل المتشابه، حيث يسندون العلم بتأويل المتشابه إلي الله وحده.

قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ، مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ، وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ، فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ، ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ، وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ، كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا، وما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ. رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا، وهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ. إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ [١].

المعنى الإجمالي للآيات:

ما من مفسّر للقرآن إلا وقد وقف أمام هذه الآيات وقفة مطوّلة، واستطرد في الكلام عن ما تشير له الآيات، وتوسّع في الكلام عن المحكم والمتشابه في القرآن، وعن تأويل المتشابه وكيفيته وإمكانيته وضوابطه.

واختلفت الأفهام كثيرا في هذه الموضوعات، وتعددت الآراء، وتباينت وجهات النظر، وكلّ رأي يدّعي صاحبه اعتماده فيه علي هذه الآيات.

ولا يعنينا استعراض هذه الآراء المتعارضة، وحجج أصحابها، إنما نريد

(١) سورة آل عمران: ٧ - ٩.

أن ننظر في معنى التأويل المذكور فيها، ونربطه مع معنى التأويل الوارد في السور الأخرى الذي عرضناه من قبل! يقرر الله حقيقة إنزال القرآن علي محمد صلّى الله عليه وسلّم: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ. وفي هذه الجملة إثبات أن القرآن كلام الله، وأن محمدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، تلقي القرآن من عند الله عن طريق الوحي.

وتقسم الآية آيات القرآن إلي قسمين: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ- هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ- وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ.

«منه»: من: حرف جر، تدلّ علي معنى التبعيض، وتفيد التقسيم.

والضمير «الهاء» فيها، يعود علي القرآن. أي من القرآن آيات محكمات، ومنه آيات متشابهات.

آياتٌ مُحْكَماتٌ: من «الإحكام» وهي اسم مفعول.

هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ: هذه جملة معترضة، جيء بها لوصف الآيات المحكمات من القرآن بأنهن أمّ الكتاب، ولتقرير حقيقة في فهم الآيات والمتشابهات.

وأساس معنى «الأمّ» هو: الأصل والمرجع، فأمّ الطفل هي أصله، ومرجعه الذي يرجع اليه، وأمّ الجيش رايته التي يرجع الجنود إليها، وأمّ الرأس الدماغ، الذي يسيطر علي الجسم ويحركه.

وأمّ القرآن هي الفاتحة، التي هي أساس وأصل القرآن، وكلّ معاني القرآن ترجع إليها، وتنبثق منها.

ووصفت الآية الآيات المحكمات بأنهن أم الكتاب: هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ بالمفرد، ولم تقل: هنّ أمهات الكتاب بالجمع. لأن الآيات المحكمات كلها أمّ الكتاب، فينظر إليهن بمجموعهن علي أنهن أمّ، ولا ينظر لكل آية علي حدة.

وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ: هذا هو القسم الثاني من آيات القرآن، وهو الآيات

المتشابهات، و «متشابهات» اسم فاعل من التشابه، وهو التماثل.

وبعد ما ذكرت الآية هذين القسمين من آيات القرآن، ذكرت اختلاف نظرة الناس إلي الآيات المتشابهات. فمنهم من يتبعها بهدف الفتنة والرغبة في تأويلها، وهؤلاء هم الذين في قلوبهم زيغ، ومنهم من لا يعلم تأويلها، ويكل علم تأويلها إلي الله، ويسلّم بعجزه هو، وهم الراسخون في العلم، الذين يؤمنون بأنّ المحكمات والمتشابهات آيات القرآن من عند الله.

فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ، فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ: هؤلاء متبعو المتشابه من القرآن، وهم المفتونون، الذين في قلوبهم زيغ وانحراف، وميل عن الحق، واتباع للباطل.

فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ: اسم الموصول «ما» في محل نصب مفعول به. والضمير في «منه» يعود إلي القرآن. أي: هؤلاء الزائغون يتبعون المتشابه من آيات القرآن.

ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ: تبين هذه الجملة هدف هؤلاء الزائغين من اتّباع المتشابه، وهو طلب الفتنة.

و «ابتغاء» في الجملة: مصدر منصوب لأنه مفعول لأجله. فهم يتبعون المتشابه لأجل الفتنة.

والفتنة هي التمويه والتلبيس والابتعاد عن الحق. فهم في أنفسهم مفتونون، لأنهم وقعوا في الشبهات، والتبست عليهم الأمور، وساروا مع الباطل والهوى والشيطان.

ثم هم يريدون أن يفتنوا الآخرين ليكونوا مثلهم ضالين، يريدون أن يوقعوهم في الشبهات، وأن يموّهوا عليهم الحقائق، وأن يعموهم عن رؤية الحق، وأن يلبّسوا عليهم الأمور.

وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ: هذا هو هدف الزائغين من اتباع المتشابه، وهو

أنهم يريدون تأويله، ويحرصون عليه.

والهاء في «تأويله» لا تعود علي القرآن كله، وإنما تعود علي المتشابه منه، هذا المتشابه المذكور في جملة «فيتبعون ما تشابه منه» وهو اسم الموصول وصلته في الجملة.

والمعنى يتّبعون المتشابه من القرآن بهدف تأويل ذلك المتشابه.

وبعد أن بينت الآية هدف الزائغين، وهو نشر الفتنة من خلال تأويلهم للمتشابه، بينت أن تأويل المتشابه مقصور علي الله، فقالت: وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ.

والجملة حصرت تأويل المتشابه، وقصرته علي الله، بأداتي الحصر والقصر: ما وإِلَّا.

والهاء في تَأْوِيلِهِ تعود علي المتشابه، كما عادت عليه الهاء الأولي في وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ.

ومعنى الحصر والقصر في الجملة، أنه لا يعلم أحد من البشر تأويل المتشابه، لأنه لا يعلم تأويله إلا الله.

وبعد ما ذكرت الآية الفريق الأول الراغب في تأويل المتشابه، طلبا للفتنة، وذمّتهم بسبب ذلك، بينت موقف الفريق الآخر، الذين لا يخوضون في تأويل المتشابه، والذين يكلون علم تأويله إلي الله، ومدحتهم، ووصفتهم بصفة الرسوخ في العلم، فقالت: والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ، كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا.

الراجح في سياق الجملة أنّ الواو في والرَّاسِخُونَ حرف استئناف، والجملة ليست معطوفة. أي الرَّاسِخُونَ ليس معطوفا علي لفظ الجلالة اللَّهُ.

وليس وضع الجملة هكذا: وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ.

الراجح أنّ الوقف لازم علي لفظ الجلالة. وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ.

وما بعدها جملة استئنافية تقرّر معنى جديدا، وهو موقف الراسخين في العلم من تأويل المتشابه. وهي جملة خبرية. الرَّاسِخُونَ مبتدأ.

والجملة الفعلية يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ في محل رفع خبر. أي: الراسخون في العلم قائلون آمنا به كلّ من عند ربنا.

وبينما ذمّت الآية الزائغين لرغبتهم في تأويل المتشابه، فقد مدحت الراسخين في العلم لعدم خوضهم في تأويل المتشابه، واعترافهم بالعجز عن تأويله، وقصرهم تأويله علي الله، وإعلانهم الإيمان بالقرآن كله وأنّ قسميه من المحكم والمتشابه هما من عند الله: يَقُولُونَ: آمَنَّا بِهِ، كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا.

ووصفت الآية الراسخين في العلم وصفا آخر، مادحة لهم، فقالت:

وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ. فهم أولوا ألباب، وأصحاب عقول كبيرة، ولذلك عرفوا حدّهم في التعامل مع الآيات المتشابهات، فلم يجاوزوه، وعرفوا عجزهم عن تأويلها، فآمنوا بها أنها من عند الله.

ثم عرضت الآيتان التاليتان دعاء يدعو به الراسخون في العلم أولو الألباب، ويطلبون من الله فيه أن يثبتهم علي الحق، وأن لا يزيغ قلوبهم كما أزاغ قلوب متبعي المتشابه: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ.

وأعلنوا إيمانهم بقدوم يوم القيامة: رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ، إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ.

مناسبة نزول الآيات:

قبل أن نتحدث عن معنى التأويل المذكور مرتين في هذه الآيات، واختلاف العلماء فيه، وقبل أن نقدم بعض اللطائف والدلالات من

الآيات، نحب أن نتعرف علي مناسبة وسبب نزول هذه الآيات، لأن معرفة مناسبة النزول تعين علي فهم صحيح للآية.

روي محمد بن إسحاق في السيرة أن مطلع سورة آل عمران نزل في قدوم وقد نصاري نجران علي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المدينة، وجدالهم معه بشأن عيسي بن مريم عليه الصلاة والسلام.

وقد كان الوفد مكونا من ستّين رجلا، وكان رؤساؤهم ثلاثة:

العاقب واسمه عبد المسيح، وهو أميرهم.

والسيد، واسمه الأيهم، وهو صاحب رحلهم ومجتمعهم.

وأبو حارثة بن علقمة، وهو أسقفهم وحبرهم وإمامهم.

وروي محمد بن إسحاق تفاصيل قصتهم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، عن محمد بن جعفر بن الزبير بن العوام رضي الله عنهم.

قال محمد بن جعفر بن الزبير:

لما قدم وفد نصاري نجران علي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المدينة، دخلوا عليه مسجده بعد أن صلّى العصر، عليهم ثياب جبب وأردية وبرود، وكانوا ذوي هيئة وجمال.

فلما رآهم بعض الصحابة قالوا: ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم.

ولما حانت صلاتهم، قاموا يصلون صلاتهم النصرانية في المسجد النبوي، فقال عليه الصلاة والسلام: دعوهم يصلون فصلوا نحو المشرق!! فكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رؤساؤهم الثلاثة العاقب والسيد وأبو حارثة.

وقالوا له: إن عيسي هو الله، وهو ابن الله، والله ثالث ثلاثة.

واحتجوا علي أن عيسي هو الله، بأنه كان يحيي الموتي، ويبرئ الأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طيرا.

واحتجوا علي أن عيسي ابن الله بأنه لم يكن له أب، وأنه قد تكلم في المهد.

واحتجّوا علي أنّ الله ثالث ثلاثة: بقوله: فعلنا، وأمرنا، وخلقنا، وقضينا، ولو كان الله واحدا لقال: فعلت، وقضيت، وأمرت، فالثلاثة هم: الله، وعيسي، ومريم!!! وقالوا للرسول عليه الصلاة والسلام: إن القرآن قد نزل بذلك، وقد قال بذلك، وقد دلت آياته علي أن عيسي هو الله، وهو ابن الله، وهو ثالث ثلاثة.

فردّ عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبطل مزاعمهم، وأزال شباهتهم.

ثم قال للحبرين: السيد وأبي الحارثة: أسلما.

قالا: قد أسلمنا قبلك! قال لهما: كذبتما يمنعكما من الاسلام أنكما جعلتما مع الله ولدا، وعبدتما الصليب، وأكلتما الخنزير! قال محمد بن جعفر بن الزبير بن العوام:

فأنزل الله في قولهم، واختلاف أمرهم صدر سورة آل عمران، إلي بضع وثمانين آية منها.

الم. اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ: افتتح الله السورة بتنزيهه عما قالوا، وبتوحيده سبحانه بالخلق والأمر، لا شريك له، وهذا ردّ عليهم، بسبب ما ابتدعوا من الكفر، وجعلوا معه الأنداد، وذلك ليبطل شبهاتهم، ويبين ضلالهم.

اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ: ليس معه شريك في أمره.

الْحَيُّ الْقَيُّومُ: هو الحيّ الذي لا يموت، وقد مات عيسي، وصلب كما يقول رهبان النصاري.

والله هو القيّوم: القائم علي خلقه، الذي لا يغيب ولا يزول، وقد غاب عيسي عن الناس، وزال عن مكانه الذي كان فيه، وتحول إلي غيره.

نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ: نزّل عليك القرآن بالصدق في المسائل التي اختلف النصاري فيها.

وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ والْإِنْجِيلَ: أنزل التوراة علي موسي، والإنجيل علي عيسي، كما أنزل الكتب علي من كان قبلهما.

وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ: أنزل الله القرآن فرقانا، فيه الفصل بين الحق والباطل، فيما اختلف فيه الأحزاب، بشأن عيسي وغيره.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ، واللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ:

إن الله منتقم ممن كفر بآياته، بعد علمه بها، ومعرفته بما جاء فيها.

إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفي عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ ولا فِي السَّماءِ: فهو عالم بما يريد النصاري، وما يكيدون، وما يقولون عن عيسي: إذ جعلوه إلها وربا، كفرا منهم بالله.

هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ: وكان عيسي ممن صور في الأرحام، كما صور كلّ البشر من بني آدم، والنصاري لا ينكرون ذلك ولا يدفعونه، فكيف يكون عيسي إلها، وقد كان مصوّرا في رحم أمه؟

لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ: هذا تنزيه لله، وتوحيده له، والله عزيز في انتصاره ممن كفر به، تحكيم في حجته، وعذره إلي عباده.

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ، مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ:

فيهنّ حجة الرب وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لهنّ تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه.

وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ: لهنّ تصريف وتأويل، ابتلي الله فيهنّ العباد، كما ابتلاهم في الحلال والحرام، لا يصرفن إلي الباطل، ولا يحرفن عن الحق.

فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ: الذين في قلوبهم ميل وانحراف عن الهدي.

فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ: هؤلاء يتّبعون ما تصرّف منه، وذلك ليصدقوا به ما ابتدعوا وأحدثوا: لتكون لهم حجة، وعلي ما قالوا شبهة.

ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ: يتّبعون المتشابه طلبا للبس.

وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ: ويتّبعون المتشابه طلبا لتأويله، علي ما ركبوا من الضلالة، كاستدلالهم علي التثليث من قوله: خلقنا وقضينا.

وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ: الذي أرادوا به ما أرادوا.

إِلَّا اللَّهُ والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا:

فكيف يختلف القرآن وهو قول واحد من ربّ واحد؟

والراسخون في العلم قد ردوا تأويل المتشابه علي ما عرفوا من تأويل الآيات المحكمة، التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد، وقد اتسق بقولهم القرآن، وصدّق بعضه بعضا، وبذلك نفذت به الحجة، وظهر به العذر، وزاح به الباطل، ودمغ به الكفر.

وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ: وما يتذكّر في مثل ردّ تأويل المتشابه إلي المحكم إلّا أولوا الألباب وأصحاب العقول الكبيرة [١].

إنّ التابعيّ الجليل محمد بن جعفر بن الزبير بن العوام- الذي أورد ابن اسحاق روايته عن قدوم نصاري نجران- قد فسّر الآيات الأولي من سورة آل عمران، وفق مناسبة نزولها في نصاري نجران، وبيّن لنا كيف تولت هذه الآيات نقض مزاعم نصاري نجران، وإظهار الحق بشأن عيسي بن مريم عليه الصلاة والسلام.

ورأي محمد بن جعفر في المحكم والمتشابه والتأويل وجيه سديد، وفهمه

(١) السيرة النبوية لابن هشام: ٢/ ٢٢٢ - ٢٢٦ بتصرف يسير للتوضيح.

لكل واحد من هذه المصطلحات الثلاثة هو الصواب، وهذا الفهم والتفسير الذي قدّمه ابن جعفر هو الذي قال به علماء أهل السنة من بعده.

لقد كان الامام محمد بن جرير الطبري معجبا بكلام ابن جعفر الذي أورده ابن إسحاق، وقد تبناه ورجّحه في تفسيره، كما تبني هذا الرأي مفسّرون لاحقون كالامام ابن كثير!!

معنيان للتأويل في الآية:

تكلمت الآية عن قسمي آيات القرآن:

الآيات المحكمات: وهنّ أصل الآيات المتشابهات وأمّها ومرجعها، وهنّ أكثر عددا من المتشابهات.

الآيات المتشابهات: وهنّ قلائل بالنسبة إلي عدد المحكمات، بدليل قوله وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ وهذا الجمع للتقليل.

وقد بينت الآية موقف فريقين من الناس من الآيات الأخر المتشابهات:

الفريق الأول: الذين في قلوبهم زيغ، حيث يتّبعون الآيات المتشابهات بهدف الفتنة واللبس: وبهدف تأويلها وفق ما عندهم من الضلال! الفريق الثاني: الراسخون في العلم، الذين آمنوا بالآيات المتشابهات، وأيقنوا بعجزهم عن تأويلها، وبيان عاقبتها وصورتها الفعلية، وجعلوا هذا وقفا علي الله: وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ.

وقد اختلف العلماء في تأويل الآيات المتشابهات: هل تأويلها خاصّ بالله؟ وما المراد بالتأويل علي هذا التخصيص؟ أم أن الراسخين في العلم يعلمون تأويلها؟ وما الفرق بين تأويلهم المحمود وتأويل أهل الزيغ المذموم؟

سنوجز إن شاء الله حجة فريقين من العلماء: حجة من قال إن الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه، وحجة من قال: إنهم يعلمون تأويله!

المعنى الأول: هو ما تؤول إليه حقائق الآيات الغيبية

إذا كان التأويل هو بيان المرجع والعاقبة والمآل، وردّ النص إلي صورته المادية الخارجية الواقعية، وتحديد ما تأول إليه حقائق الآيات، من الكيفيات والزمان والتفاصيل العملية، فهذا خاصّ بالله تعالى، ولا يعلمه الراسخون في العلم، ولا يدركون حقيقته ومآله وعاقبته، ولا يقدرون علي ردّ وإرجاع النصوص إلي صورتها الفعلية.

ولذلك يجعلون تأويل النصوص العمليّ خاصا بالله، ويسلّمون بعجزهم عن ذلك، ويعلنون إيمانهم به، ويقولون آمَنَّا بِهِ، كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا.

أما الذين في قلوبهم زيغ فإنه يتّبعون هذا المتشابه بهدف تأويله، والفتنة في تأويله، ويريدون الوقوف علي الصورة المادية للنصوص، وتحديد النهاية الفعلية التي تستقرّ عليها الأخبار، وبما أنّ هذا غير ممكن، لأنّ هذا التأويل العمليّ خاصّ بالله، لذلك يقعون في ليس وضلال! وعند ما نحمل التأويل علي هذا المعني، فإننا نجده يتفق مع معنى التأويل المذكور في السور الأخري، فقد سبق أن استعرضنا الآيات التي ورد فيها التأويل، حيث ورد سبع عشرة مرة في سبع سور قرآنية:

يوسف والكهف والأعراف ويونس والإسراء والنساء وآل عمران.

إنّ التأويل الوارد في هذه السور السبع سبع عشرة مرة يراد به هذا المعني، وهو ردّ الأشياء إلي حقائقها المادية، وإرجاع الأمور إلي صورتها العملية، وتحديد العاقبة والنهاية الواقعية للأخبار والوعود، وبيان ما تؤول إليه فعلا، وتستقرّ عليه واقعا، وتعيين كيفيتها وزمانها ومكانها وملامحها.

هذا معنى التأويل في رؤيا يوسف والسجينين والملك في سورة يوسف، والتأويل في أعمال الخضر الثلاثة أمام موسي في سورة الكهف، والتأويل في وقوع وحدوث مضمون الآيات التي تتحدث عن مشاهد القيامة في

سورة الأعراف، والتأويل في وقوع آيات التهديد للكفار فعلا في سورة يونس، والتأويل في تحديد العاقبة والنهاية العملية للكيل والوزن بالقسط في سورة الإسراء، والتأويل في تحديد الصورة المادية الخيرة للأمة عند ما تردّ المتنازع فيه إلي الله والرسول في سورة النساء، والتأويل في تحديد كيفية وصورة الآيات المتشابهات، التي تتحدث عن الغيبيات، في سورة آل عمران.

إنّ التأويل في القرآن لا يخرج عن هذا المعنى في التحديد العملي لما تؤول إليه حقائق النصوص النظرية. ولهذا قال الإمام الراغب في تعريف التأويل: هو ردّ الشيء إلي الغاية المرادة منه، علما أو فعلا.

هذا التحديد العملي لا يعلمه أحد من البشر، لا الراسخون في العلم ولا غيرهم، لأنه خاصّ بالله.

إنّ تأويل النصوص الغيبية خاصّ بالله، تلك النصوص القرآنية التي تتحدث عن أحداث مستقبلية، تقع للناس علي وجه الأرض، أو تحدث قبيل قيام الساعة وأثناء قيامها وبعده، وتصف ما يجري يوم القيامة من مشاهد وتفاصيل، سواء علي أرض الموقف، أو في الجنة، أو في النار.

الله وحده هو الذي يعلم تأويل هذه الآيات المتشابهات، أي: هو الذي يعلم حقيقة حدوثها، وزمانه، ومكانه، وكيفيته، والصورة المادية الواقعية التي تكون عليها عند وقوعها وحدوثها، والعاقبة التي تؤول إليها هذه النصوص.

هل الراسخون في العلم يعلمون تأويل هذه النصوص علي هذا المعني؟

وهل يقدرون علي تحديد مآلها العملي، وردها إلي كيفية حدوثها الواقعي؟

وتصوّر حقيقتها الفعلية؟ إنهم لا يقدرون علي ذلك!

فهم الآية علي هذا المعنى للتأويل:

تتحدث الآية عن قسمين لآيات القرآن، وموقف فريقين من القسم الثاني، وتذمّ الفريق الأول، وتمدح الفريق الثاني.

الآيات المحكمات هنّ أم الكتاب، وهي معظم آيات القرآن، والآيات المتشابهات هي آيات أخر قليلة.

إنّ كلمة مُحْكَماتٌ في قوله: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ اسم مفعول بصيغة جمع المؤنث السالم، وفعلها الماضي الرباعي «أحكم»، وإذا كانت هذه الآيات محكمات، فمن الذي أحكمها؟ إنه الله ربّ العالمين! المحكم مشتق من «الحكم»: والحكم في اللغة هو: المنع [١].

وقال الإمام الراغب في معناه «حكم: أصله: منع منعا للإصلاح» [٢].

أما المحكم، فقد عرفه الراغب بقوله: «المحكم: ما لا يعرض فيه شبهة، من حيث اللفظ، ولا من حيث المعني.» [٣].

وكم كان محمد بن جعفر بن الزبير دقيقا فطنا عند ما عرّف الآيات المحكمات بقوله: «فيهنّ حجة الرب، وعصمة العباد، ودفع الخصوم، والباطل، ليس لهنّ تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه.» [٤].

الآيات المحكمات هي الآيات واضحات الدلالة والمعني، لا شبهة في ألفاظها أو معانيها، تمنع من تسرّب أفهام خاطئة لها، لا تحتمل إلا معنى واضحا مفهوما، لا تصريف لها، ولا تحريف لها عن وضعها اللغوي، وبسبب هذه الصفات لها، فقد تحققت بها حجة الله علي عباده،

(١) مقاييس اللغة: ٢/ ٩١.

(٢) المفردات: ٢٤٨.

(٣) المرجع السابق: ٢٥١.

(٤) سيرة ابن هشام: ٢/ ٢٢٦.

وعصمت العباد من سوء الفهم للقرآن، ودفعت شبهات الخصوم، وردّت التحريفات الباطلة.

ولأجل ذلك فقد وصف الله هذه الآيات المحكمات بأنهن أُمُّ الْكِتابِ.

قال الامام أحمد بن فارس في أصل معنى «أم» في اللغة: «أم:

أصل واحد، يتفرع منه أربعة أبواب، هي: الأصل، والمرجع، والجماعة، والدين. وهذه الأربعة متقاربة، وبعد ذلك أصول ثلاثة، وهي: القامة، والحين، والقصد» [١].

ونقل ابن فارس قول الخليل الجامع في معنى الأمة: قال الخليل: كلّ شيء يضمّ إليه ما سواه مما يليه، فإن العرب تسمي ذلك الشيء أمّا.

من ذلك أمّ الرأس: الدماغ [٢].

وقال أبو البقاء في الكليات: «وأم كلّ شيء أصله، قال الخليل: كلّ شيء ضمّ إليه ما يليه يسمي أمّا.

قال ابن عرفة: ولهذا سميت أمّ القرآن وأم الكتاب.

وقال الأخفش: كلّ شيء انضمّ إليه أشياء فهو أمّ لها، ولذلك سمي رئيس القوم أمّا لهم» [٣].

الآيات المحكمات التي أحكمها الله في معناها، فلا تصرف إلي غيره ولا تحرف عنه هي أم القرآن، وأصل معانيه، وهي مرجع الآيات المتشابهات، بحيث يجب حمل الآيات المتشابهات عليها، وإرجاعها إليها، لأنها أم تلك الآيات المتشابهات وأصلها.

(١) مقاييس اللغة: ١/ ٢١.

(٢) المرجع السابق: ١/ ٢٢.

(٣) الكليات لأبي البقاء الكفوي: ١٧٦.

أما الآيات المتشابهات: فقد قال الله عنها وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ وهذه الآيات المتشابهات قليلة من حيث الكمية والعدد إذا ما قيست بالآيات المحكمات، قليلة لدلالة الجمع أُخَرُ الذي يدلّ علي التقليل.

ومُتَشابِهاتٌ اسم فاعل، جمع مؤنث سالم. أي أنّ التشابه موجود في نفسها وتركيبها ومعانيها، موجود في داخلها.

الآيات المحكمات أحكمها الله. والآيات المتشابهات التشابه فيها نفسها، وفرق بعيد بين اسم المفعول مُحْكَماتٌ، واسم الفاعل مُتَشابِهاتٌ والفعل الماضي من مُتَشابِهاتٌ هو: تشابه. والتشابه هو التماثل والتشاكل.

قال الامام الراغب في التّشابه والآيات المتشابهات: «والمتشابه من القرآن: ما أشكل تفسيره، لمشابهته بغيره، إما من حيث اللفظ، أو من حيث المعني.

فالمتشابه في الجملة ثلاثة أضرب: متشابه من جهة اللفظ فقط، ومتشابه من جهة المعنى فقط، ومتشابه من جهتهما.

والمتشابه من جهة المعني: أوصاف الله تعالى، وأوصاف يوم القيامة، فإنّ تلك الصفات لا تتصور لنا، لأنه لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسّه وما لم نره من قبل، أو صورة ما لم يكن من جنس ما نحسّه ونراه.

ثم جميع المتشابه علي ثلاثة أضرب:

ضرب لا سبيل للوقوف عليه: كوقت الساعة، وخروج دابة الأرض، وكيفية الدابة، ونحو ذلك.

وضرب للإنسان سبيل إلي معرفته، كالألفاظ العربية، والأحكام الغلقة الخفيّة.

وضرب متردّد بين الأمرين، يجوز ان يختصّ بمعرفة حقيقته بعض الراسخين في العلم، ويخفي علي من دونهم» [١].

إذن: الآيات المتشابهات هي التي في فهمها إشكال، لما فيها من تشابه في لفظها أو معناها، أو فيهما معا. كالآيات التي تتحدث عن صفات الله أو يوم القيامة.

وحتي نفهم هذه الآيات المتشابهات، فلا بدّ من حملها علي أصلها وهي الآيات المحكمات، ولا بدّ من إرجاعها إلي أمّ الكتاب، لتفهم علي ضوئها. وهذا ما يوحي به تركيب الآية: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ- هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ- وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ.

وكان محمد بن جعفر بن الزبير دقيقا وفطنا عند ما قال عن الآيات المتشابهات: «لهن تصريف وتأويل، ابتلي الله فيهنّ العباد، كما ابتلاهم في الحلال والحرام، لا يصرفن إلي الباطل، ولا يحرفن عن الحق» [٢].

ما هو موقف الناس من الآيات المتشابهات: التي في فهمهما إشكال، وتحتمل وجوها من التصريف والفهم؟

الناس فريقان: فريق الذين في قلوبهم زيغ، وفريق الراسخين في العلم، ولكلّ من الفريقين طريقة في فهم المتشابهات في القرآن.

الفريق الأول: الذين في قلوبهم زيغ: قال الله عنهم: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ، ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ، وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ، وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ.

وعند ما ننظر في هذه الكلمات التي تتحدث عن موقف هؤلاء الزائغين من المتشابه، فإننا نري فيها ما يلي:

(١) مختارات منتقاة دالة من كلام الراغب عن المتشابه في المفردات: ٤٤٣ - ٤٤٥.

(٢) سيرة ابن هشام: ٢/ ٢٢٦.

١ - هم في قلوبهم زيغ وانحراف وميل عن الحق، والانحراف عن الحق في القلب هو أساس الداء، لأن استقامة القلب أساس استقامة العقل وحسن الفهم، وانحراف القلب هو سبب انحراف العقل وسوء الفهم.

٢ - زيغ قلوبهم دفعهم إلي اتباع الآيات المتشابهات: فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ، فهم يبحثون عن الآيات المتشابهات ويتتبّعونها، ويجمعونها، ويريدون فهم معانيها بذاتها، مجردة عن غيرها.

هي في ذاتها متشابهة، وفي فهمها إشكال، وهم في قلوبهم زيغ، وفي عقولهم اعوجاج، وفي أذهانهم شبهات، فكيف يفهمونها وهم علي هذه الحالة؟ وكيف يزيلون ما فيها من إشكال؟

لماذا تتبعونها؟ لماذا لم يتتبّعوا الآيات المحكمات الواضحات؟ وهي كثيرة في القرآن، وليس فيها إشكال، ولا تحتمل التحريف والتصريف؟ لم يفعلوا ذلك لأن في قلوبهم زيغا، وتتبعوا المتشابهات لأن في قلوبهم زيغا.

٣ - يهدف زائغو القلوب من اتباع المتشابهات الفتنة: ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ.

والفتنة هي التلبيس وإثارة الشبهات، أي أنهم يريدون فتنة الآخرين، عند ما يتتبّعون المتشابهات أمامهم، وعند ما يثيرون الأسئلة عنها، وعند ما ينشرون الشبهات حولها، يريدون إيقاع الآخرين في اللبس والخلط، وهذه هي الفتنة، التي يفتنون بها الآخرين.

٤ - لزائغي القلوب هدف آخر من اتباع المتشابهات، وهو المتمثل في قوله تعالى: وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ، إنهم يريدون تأويل هذه الآيات المتشابهات. تأويلها لماذا؟ لتحقيق هدفهم الأول، وهو فتنة أنفسهم، وفتنة الآخرين، والفتنة عندهم عن طريق تأويل هذه المتشابهات.

كيف يؤوّلون الآيات المتشابهات؟ إنهم يريدون الوقوف علي حقيقتها الفعلية، ومآلها العملي يريدون تحديد ما ستئول هذه المتشابهات إليه، وتعيين كيفياتها، وزمانها ومكانها وتفاصيل حدوثها.

وهذا غير ممكن لهم ولا لغيرهم. ولهذا هم مذمومون بذلك الهدف، ومذمومون لمحاولاتهم تأويل المتشابهات، وتحديد ما ستئول إليه من نهاية عملية، وعاقبة مادية.

٥ - ذمّ الله زائغي القلوب لمحاولاتهم اليائسة في تأويل الآيات المتشابهات، لأنّ تأويلها خاصّ به سبحانه، ولهذا ورد بعد ذمّهم قوله تعالى: وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ.

والتأويل هنا هو بمعنى التأويل في السور الأخري، وهو تحديد العاقبة والمآل، وبيان ما تؤول إليه النصوص والأخبار القرآنية، وتعيين صورتها الواقعية العملية، وإرجاعها إليها، من حيث الزمان والمكان والكيفية.

وهذا التأويل العملي، بهذه الكيفية المادية، لا يعلمه أحد من البشر، لا الراسخون في العلم ولا الذين في قلوبهم زيغ، فهو خاصّ بالله سبحانه.

الفريق الثاني: الراسخون في العلم، قال الله عنهم: والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ، كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا.

هؤلاء الراسخون في العلم وقفوا أمام متشابه القرآن، الذي يتحدث عن أمور غيبية، فعلموا أنّ تأويله خاصّ بالله، وفهموا معنى قوله تعالى:

وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ.

أي علموا أنّ تحديد عاقبة ومآل الآيات المتشابهات خاصّ بالله، فالله وحده هو الذي يعلم ما تؤول إليه تلك الآيات، ويعلم كيفية وزمان ومكان وصورة حدوثها ووقوعها، في إطارها العملي الواقعي.

لما علم الراسخون في العلم هذا، أيقنوا بعجزهم عن تأويل الآيات المتشابهات، فأعلنوا إيمانهم بالقرآن كله، وقالوا: آمَنَّا بِهِ، كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا.

والضمير في بِهِ يعود علي متشابه القرآن. أي آمنا بمتشابه القرآن،

وسلمنا بمدلوله، مع عجزنا عن تأويله وتحديد عاقبته العملية.

والتنوين في كُلٌّ عوض عن كلمة مقدرة، تقديرها: القرآن.

أي: كلّ القرآن من عند ربنا، سواء كانت آياته محكمات أم كانت متشابهات. فالله أنزل الآيات المحكمات، والله أنزل الآيات المتشابهات.

وقد أثني الله علي هذا الموقف للراسخين في العلم بقوله: وما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ.

وصفهم بأنهم أولوا الألباب، والألباب هي العقول الواعية، إنه لا يتذكر هذا المعنى للآيات المتشابهات إلا أولو الألباب، ولا يعلم عجزه عن تأويلها العمليّ إلا الراسخون في العلم، أصحاب العقول الواعية الكبيرة.

وبينما ذمّت الآية الذين في قلوبهم زيغ لرغبتهم في تأويل المتشابه، فإنها أثنت علي الراسخين في العلم لموقفهم العلميّ منه، ويبدو هذا الثناء في ما يلي:

١ - وصفهم بالرسوخ في العلم. ومعنى الرسوخ: التمكن والتثبت والتوثق. فهم ليسوا مجرد علماء، ولكنهم راسخون في العلم، متمكنون منه، واثقون من مسائله ومباحثه.

وإنّ رسوخهم في العلم دلهم علي صلاحياتهم وقدراتهم وطاقاتهم ومجالاتهم، فخاضوا فيها وبحثوها، وأحسنوا استخدام عقولهم ومعرفة علومهم.

وإنّ رسوخهم في العلم أوقفهم علي ما ليس في وسعهم وطاقتهم، وعرّفهم علي ما لم يزوّدهم الله وسائل البحث فيه، من موضوعات الغيب، فوقفوا عند حدّهم لم يتجاوزوه، ووفروا طاقتهم العقلية فلم يضيعوها في تلك المجالات التي لم تجهّز للخوض فيها.

٢ - إعلان الراسخين في العلم إيمانهم بقسمي القرآن: محكمه ومشابهه،

وتسليمهم بعجزهم عن إمكانية تأويل المتشابه تأويلا عمليا، وقصر هذا التأويل علي الله. وبذلك أحسنوا فهم آيات القرآن وتدبرها، وأحسنوا التعامل مع القرآن، ولم يضربوا بعض آياته ببعض.

٣ - وصفهم بأنهم أولو الألباب، فصاحب العقل الكبير يعلم حدوده، يعلم ما يقدر عليه، فيشتغل فيه، ويعلم ما يعجز عنه، فيقف عنده، ولا يضيع قدراته ووقته فيه.

٤ - لاحظ الراسخون في العلم افتتان زائغي القلوب في متشابهات القرآن، وضياعهم في محاولات تأويلها، فطلبوا من الله أن لا يكونوا مثلهم، وأن لا يزيغ قلوبهم كما أزاغ قلوب أولئك، وأن يثبتهم علي الهداية، وأن ينشر عليهم الرحمة، ودعوا الله قائلين: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا، وهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ.

٥ - ذكر الراسخون في العلم نوعا من أنواع متشابه القرآن الذي لا يعلمون تأويله، فلا يعلم تأويله إلا الله، ولا يأتي به إلا الله، علي الكيفية التي يريدها سبحانه. إنه يوم القيامة. ولهذا أعلنوا إيمانهم به، وبمجيئه حتما، بدون شك ولا ريب: رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ، إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ.

لقد تحدثت آيات القرآن عن أشراط الساعة، ومشاهد يوم القيامة، وأخبرت عن أحداث قادمة ستقع فيه.

والذين في قلوبهم زيغ حاولوا تأويل تلك الآيات، وتحديد حقيقة ما ستئول إليه عمليا، فافتتنوا وضلوا وأضلوا.

أما الراسخون في العلم فقد أيقنوا بعجزهم عن تأويل تلك الآيات، وتحديد ما ستئول إليه عمليا، فأعلنوا إيمانهم بها، وسلموا لله حقيقة تأويلها، وكيفية تحقيقها.

عدم التأويل لا يعنى عدم الفهم:

علي هذا المعنى للتأويل- وهو تحديد حقيقة الأخبار الغيبية عمليا- يكون الذين في قلوبهم زيغ مفتونين ضالين لخوضهم فيه، ويكون الراسخون في العلم مهتدين ممدوحين، وعلميين موضوعيين، لعجزهم عن تأويله، وتسليمهم بقصره علي الله وإيمانهم به.

لكن هل عجز الراسخين في العلم عن التأويل العلمي لهذه الآيات، يعنى عدم فهمهم لها؟ وعدم تفسيرهم لها؟ وعدم بيانهم لمعانيها؟ وهل في القرآن ما لا يفهم معناه؟ وهل خاطبنا الله بما لا نفهمه؟

بعض الناس لم يفرّقوا بين العجز عن التأويل وبين فهم معاني الآيات، وظنّوا أن عجز العلماء عن تأويل الآيات المتشابهات يلزم منه عدم فهمهم لمعانيها، وعدم قدرتهم علي تفسيرها.

وقالوا: ليس في القرآن ما لا يفهم معناه، ولم يخاطبنا الله في القرآن بما لا نعلمه، ويجب علينا أن نفهم كلّ الآيات، محكمات أو متشابهات، ويجب أن نؤوّل كلّ الآيات، محكمات أو متشابهات.

ومنشأ الخطأ عندهم عدم تفريقهم بين فهم معاني الآيات المتشابهات، وبين العجز عن تأويلها.

إنّ العجز عن تأويل الآيات التي تتحدث عن أمور غيبية، وعدم القدرة علي تحديد الصورة العملية النهائية التي تؤول لها تلك الآيات، لا يعنى عدم فهمها وعدم تفسيرها، وعدم معرفة معانيها.

لم يخاطبنا الله في القرآن بما لا نفهم معناه، فكلّ آية وكلمة في القرآن مفهومة المعني، ويجب علينا أن نتدبّرها ونفسرها ونبين معناها، لأنّ القرآن نزل بلسان عربي مبين، وكلماته عربية، والكلام العربي له معنى معلوم مفهوم.

إن الراسخين في العلم يفهمون معاني الآيات المتشابهات، ويعلمون تفسيرها، ويحسنون استخراج دلالاتها والوقوف علي لطائفها.

لكن هذا شيء، وتأويلها شيء آخر، فعلمهم بمعانيها لا يلزم منه القدرة علي تأويلها، وتحديد كيفية وصورة مآلها! عند ما يقف الراسخون في العلم أمام آية تتحدث عن مسألة غيبية، يفسّرونها ويبيّنون معانيها، ويقولون: هذا هو تفسيرها وبيانها، أما تأويلها وتحديد كيفيتها النهائية، وبيان متي وكيف ستقع فعلا، فهذا خاصّ بالله.

ونورد فيما يلي مثالين عن ذلك: مثالا عن كلام القرآن عن مشاهد القيامة، ومثالا عن إخبار القرآن عن صفات الله! عرضت آيات القرآن بعض مشاهد القيامة، وأخبرت عن بعض الأحداث التي ستقع عند قيام الساعة. منها قوله تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ. وإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ. وإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ. وإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ. وإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ. وإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ. وإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ. وإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ. وإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ. وإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ. وإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ. عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ ... [١].

تخبر الآيات عن اثني عشر حدثنا يحدث عند قيام الساعة، وتقدم اثنتي عشرة لقطة من لقطات تلك الأحداث، وهذه الآيات لها فهم وتفسير، كما أن لها تأويلا وتحديدا.

الراسخون في العلم يفهمونها ويفسّرونها، إنهم يعلمون معنى تكوير الشمس، وانكدار النجوم، وتسيير الجبال، وتعطيل العشار، وحشر الوحوش، وتسجير البحار، وتزويج النفوس، وسؤال الموءودة، ونشر الصحف، وكشط السماء، وتسعير الجحيم، وإزلاف الجنة. يعلمون

(١) سورة التكوير: ١ - ١٤.

معاني الكلمات، ويفهمون ما تتضمنه من حقائق ودلالات، ويؤمنون بحدوث ما أخبرت عنه من هذه المشاهد واللقطات.

أما تأويل هذه الآيات التي تعرض هذه اللقطات فإنهم لا يعلمونه، لأنّ تأويلها خاصّ بالله.

تأويل هذه الآيات هو تحديد عاقبتها ومآلها، وتعيين الصورة العملية التي ستقع بها، وبيان متي وكيف ستحدث وتتحقق، من حيث الزمان والمكان والكيفية، هذا لا يعلمه الراسخون في العلم.

إنّ فهمهم لمعاني هذه الآيات قد تحقق، لكنه لا يلزم منه إمكانية تأويلها!!.

وبالنسبة إلي صفات الله، فقد أخبرت آيات القرآن عنها، وأشارت إلي بعض هذه الصفات، وتحدثت عن بعض أفعال الله، تكملت آيات القرآن عن يد الله، وعن وجه الله، وعن معية الله، وعن استواء الله علي العرش، وعن علو الله.

هذه الآيات لها تفسير وفهم، ولها تأويل وتحديد.

والراسخون في العلم يفهمونها ويفسّرونها، ويعرفون معنى اليد والوجه والاستواء والعلو، ويسندونها لله كما أخبر الله.

لكنهم عاجزون عن تأويلها وتحديدها، أي: عاجزون عن بيان حقيقة اتصاف الله بها، وتحديد كيفية وجودها عند الله سبحانه، ولهذا لا يخوضون في تحديد كيفية استواء الله علي عرشه، وكيفية علوه عن خلقه، وكيفية يده ووجهه ونفسه ومعيته سبحانه.

إنّ فهمهم لمعاني هذه الآيات، ومعرفة ما تخبر عنه من أفعال وصفات، قد تحقق، لكنه لا يلزم منه إمكانية تأويلها وتحديدها وتكييفها!!

سياق الآية علي هذا المعنى للتأويل:

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ: جملة خبرية.

مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ: جملة خبرية أخري، مفصّلة للجملة الخبرية السابقة.

هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ: مبتدأ وخبر، وهي جملة معترضة، جيء بها بهدف وصف الآيات المحكمات من القرآن بأنهنّ أمّ القرآن وأصله ومرجعه، وذلك لحمل الآيات المتشابهات عليها، أي أنّ الآيات المحكمات أمّ وأصل للآيات المتشابهات.

وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ: معطوفة علي مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ، وفيها الخبر عن القسم الثاني من آيات القرآن، ووصفها بأنها متشابهات.

ووصفها بوصف أُخَرُ دليل علي أنها قليلة، لأنّ كلمة أُخَرُ جمع قلّة.

بعد حديث الآية عن قسمي آيات القرآن: المحكمات الكثيرة أم القرآن وأصله، والآيات المتشابهات القليلة، تحدثت عن موقف فريقين من الناس من الآيات المتشابهات.

فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ:

أما: حرف شرط بمعنى التفصيل، حيث ورد ذكر الفريقين بعدها: الزائغون والراسخون في العلم.

الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ: فعل الشرط.

فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ: جواب الشرط.

ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ: مفعول لأجله.

وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ معطوف علي المفعول لأجله، يدلّ علي معناه، أي: لزائغي القلوب هدفان من اتباع الآيات المتشابهات: الهدف الأول:

إحداث الفتنة بالقرآن، والثاني: الرغبة في تأويل تلك الآيات المتشابهات، والوقوف علي كيفيتها العملية، وتحديد عاقبتها المادية.

وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ: علم تأويل متشابه القرآن خاصّ بالله، لا يعلمه أحد غيره. فالجملة معترضة، لتقرير هذه الحقيقة، ولذمّ زائغي القلوب في محاولاتهم تأويل المتشابه، لأنه لا يعلم تأويله إلا الله، ولا يعلم حقيقته المادية إلا الله، ولا يعلم كيفية ووقت ومكان وقوعه إلا الله.

لهذا يكون الوقف علي لفظ الجلالة اللَّهُ واجبا. هكذا: وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ.

وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا: جملة استئنافية جديدة، تخبر عن موقف الراسخين في العلم من تأويل المتشابه، وهم الفريق الثاني من الناس.

فالواو: حرف استئناف.

والرَّاسِخُونَ مبتدأ.

يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ: جملة فعلية في محلّ رفع خبر.

أي: الراسخون في العلم قائلون آمنا بالمتشابه دون أن نعلم تأويله، وآمنا بأن كلّ القرآن- محكمه ومتشابهه- من عند ربنا.

وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ: جملة استئنافية جديدة، للثناء علي الراسخين في العلم، في عدم محاولاتهم تأويل المتشابه، ووصفهم بأنهم أولو الألباب.

الذاهبون إلي هذا المعنى للتأويل:

كثير من أئمة التفسير من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ذهب إلي هذا المعنى للتأويل في آية سورة آل عمران التي أمامنا، حيث اعتبروها متوافقة مع ورود كلمة التأويل في القرآن في المواضع الأخري- التي استعرضناها فيما سبق-.

لا سيما أنّ أمامهم حديث صحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يذم زائغي القلوب، الراغبين في تأويل المتشابه، ويحذر المسلمين منهم.

فقد روي البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ. ثم قال: «فإذا رأيتم الذين يتّبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمّاهم الله، فاحذروهم».

وفي رواية أخرى عن عائشة رضي الله عنها قالت: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قول الله: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ، فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ فقال: «إذا رأيتم الذين يتّبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمّي الله، فاحذروهم».

وممن ذهب إلي هذا الرأي الإمامان: ابن جرير الطبري وابن كثير الدمشقي.

قال الطبري في تفسير قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ: الله الذي لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء، هو الذي أنزل عليك القرآن.

من هذا القرآن آيات محكمات. وهنّ اللواتي قد أحكمن بالبيان والتفصيل، وأثبتت حججهنّ وأدلتهن علي ما جعلن أدلة عليه من حلال وحرام، ووعد ووعيد، وثواب وعقاب، وأمر وزجر، وخبر ومثل، وعظة وعبر، وما أشبه ذلك.

ثم وصف الله هؤلاء الآيات المحكمات بأنهن أم الكتاب، أي أنهن أصل الكتاب، الذي فيه عماد الدين والفرائض والحدود، وسائر ما يحتاج إليه الخلق، من أمر دينهم، وما كلّفوا به من الفرائض في عاجلهم وآجلهم.

وإنما سماهنّ أم الكتاب، لأنهنّ معظم الكتاب، وموضع مفزع أهله عند الحاجة إليه [١].

وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ: ومن القرآن آيات أخر، هنّ متشابهات في التلاوة، مختلفات في المعنى [٢].

فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ: فأما الذين في قلوبهم ميل عن الحق وحيف عنه، فيتّبعون من آيات القرآن ما تشابهت ألفاظه، واحتمل صرفه في وجوه التأويلات، باحتماله المعاني المختلفة، وذلك إرادة اللبس علي نفسه وعلي غيره، واحتجاجا بذلك علي باطله الذي مال إليه قلبه، دون الحقّ الذي أبانه الله، وأوضحه بالمحكمات من آيات القرآن! وهذه الآية- وإن كانت نزلت في نصاري نجران- فإنه معنى بها كلّ من ابتدع بدعة في دين الله، فمال إليها قلبه، تأويلا منه لبعض متشابه القرآن، ثم حاج به وجادل أهل الحق، وعدل عن الواضح من أدلة الآيات المحكمات، وذلك ليلبس علي أهل الحق من المؤمنين دينهم، وطلبا منه لعلم تأويل ما تشابه من القرآن.

تشمل كلّ من كان كذلك، كائنا من كان، سواء كان من أهل اليهودية أو النصرانية أو المجوسية، أو كان سبئيا، أو حروريا، أو قدريا، أو جهميا.

فهو من الذين

قال عنهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (فإذا رأيتم الذين يتبعون ما

(١) جامع البيان للطبري: ٣/ ١٧٠، طبعة دار الفكر.

(٢) المرجع السابق: ٣/ ١٧٢.

تشابه منه فأولئك الذين سمي الله، فاحذروهم) [١].

وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ: اتّبعوا المتشابه ابتغاء تأويله، بمعرفة انقضاء مدة أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووقت قيام الساعة.

وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ: ما يعلم وقت قيام الساعة، وانقضاء مدة أجل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته، وما هو كائن، إلا الله، دون من سواه من الذين ابتغوا إدراك علم ذلك عن طريق الحساب والتنجيم والكهانة.

وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ: وأما الراسخون في العلم، فيقولون: آمنا به، كلّ من عند ربنا. لا يعلمون تأويل ذلك، وفضل علمهم في ذلك علي غيرهم، هو علمهم بأن الله وحده هو العالم بتأويل ذلك، دون من سواه من خلقه. [٢]

وبعد ذكر الطبريّ لقولين في موقع جملة والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ، وهل هي معطوفة علي إِلَّا اللَّهُ فيعلمون تأويل المتشابه، أو استئنافية فلا يعلمون تأويله، رجّح القول الثاني، فقال: «والصواب عندنا في ذلك: أنهم- الراسخون في العلم- مرفوعون بجملة خبرهم بعدهم، وهي يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ. لما قد بيّنا أنهم لا يعلمون تأويل المتشابه الذي ذكره الله في هذه الآية» [٣].

ثم قال الطبري: وأما تأويل قوله: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا: فإنه يعني: أنّ الراسخين في العلم يقولون: صدقنا بما تشابه من آيات الكتاب، وأنه حق، وإن لم نعلم تأويله [٤].

وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ: وما يتذكّر ويتعظ وينزجر عن أن

(١) المرجع السابق: ٣/ ١٨٠ - ١٨١ بتصرف وتلخيص.

(٢) المرجع السابق: ٣/ ١٨٢.

(٣) المرجع السابق: ٣/ ١٨٥.

(٤) المرجع السابق: ٣/ ١٨٥.

يقول في متشابه آيات كتاب الله ما لا علم له به إلا أولوا العقل والنهي. [١].

ولا يخرج كلام الإمام ابن كثير عن كلام ابن جرير، فقال في تفسير الآية: «يخبر الله أن في القرآن آيات محكمات، هنّ أمّ الكتاب. أي:

بينات واضحات الدلالة علي كثير من الناس أو بعضهم، فمن ردّ ما اشتبه إلي الواضح منه، وحكّم محكمه علي متشابه، فقد اهتدي، ومن عكس انعكس.

ولهذا قال تعالى: هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أي: أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه.

وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ: أي تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تحتمل شيئا آخر من حيث اللفظ والتركيب، لا من حيث المراد» [٢].

ثم قال ابن كثير: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ: أي ضلال، وخروج عن الحقّ إلي الباطل فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ: إنما يأخذون منه بالمتشابه، الذي يمكن أن يحرّفوه إلي مقاصدهم الفاسدة، وينزلوه عليها، لاحتمال لفظه لما يصرفونه، فأما المحكم فلا نصيب له فيه، لأنه دافع لهم، وحجة عليهم.

ولهذا قال عنهم ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ: أي: الإضلال لأتباعهم، إيهاما لهم أنهم يحتجّون علي بدعتهم بالقرآن، وهو حجة عليهم وليس لهم.

وقوله تعالى: وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ: أي: تحريفه علي ما يريدون. وقال مقاتل والسدي: وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ: يبتغون أن يعلموا ما يكون، وما عواقب الأشياء، من القرآن [٣].

(١) المرجع السابق: ٣/ ١٨٥.

(٢) تفسير ابن كثير: ١/ ٣٦٩ - ٣٧٠.

(٣) المرجع السابق: ١/ ٣٧٠.

المعنى الثاني للتأويل: التفسير والبيان:

عرضنا فيما سبق المعنى الأول للتأويل المذكور في آية آل عمران، وهو بيان الحقيقة التي تؤول إليها النصوص الغيبية، وبيّنّا أن التأويل علي هذا المعنى خاصّ بالله، ولا يعلمه الراسخون في العلم، ولا غيرهم، وفسّرنا الآية علي هذا المعني.

ونقدم الآن المعنى الثاني للتأويل المذكور في هذه الآية، وهو التفسير والبيان.

قال ابن منظور في لسان العرب عن ورود التأويل بمعنى التفسير:

يقال: أوّل الكلام، وتأوّله: إذا فسّره.

والمراد بالتأويل: نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلي ما يحتاج إلي دليل، لولاه لما ترك ظاهر اللفظ.

وسئل أبو العباس أحمد بن يحيي عن التأويل فقال: التأويل والتفسير بمعنى واحد.

وقال أبو منصور: يقال: ألت الشيء أؤوله: إذا جمعته وأصلحته.

فكأنّ التأويل جمع معاني ألفاظ أشكلت بلفظ واضح لا إشكال فيه [١].

وقال أبو البقاء الكفوي في الكليات: «والتفسير والتأويل واحد: وهو كشف المراد عن اللفظ المشكل» [٢].

ومع أنّ التأويل في القرآن لم يرد بمعنى التفسير، لكن استعمله بعض الصحابة والتابعين بمعنى التفسير، وشاع استعماله بعد عصر التابعين بهذا المعني، واشتهر بعد ذلك به، واصطلح عليه المفسّرون، وقديما قال العلماء: لا مشاحة في الاصطلاح.

(١) لسان العرب لابن منظور: ١١/ ٣٢ - ٣٣.

(٢) الكليات لأبي البقاء: ٢٦١.

وذهب إمام المفسرين محمد بن جرير الطبري إلي هذا الرأي، واستخدم التأويل بمعنى التفسير، ولذلك سمّي تفسيره «جامع البيان عن تأويل أي القرآن».

وكان ابن جرير يكثر من استعمال التأويل بمعنى التفسير، ولذلك أدار تفسيره علي هذا المعني.

فهم الآية علي هذا المعنى للتأويل:

الراسخون في العلم يعلمون تأويل الآيات المتشابهات، بينما لا يعلم تأويلها الذين في قلوبهم زيغ.

ويكون فهم الآية علي هذا المعنى هكذا:

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ: الآيات المحكمات أمّ وأصل للآيات المتشابهات، فمن أراد فهم وتأويل وتفسير الآيات المتشابهات فلا بدّ من ردّها إلي أصلها وهو الآيات المحكمات.

فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ، ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ زائغو القلوب لا يحسنون فهم الآيات المتشابهات ولا تأويلها، ولذلك يفتنون فيها وتصاب قلوبهم بالزيغ والانحراف والميل عن الحق، إنهم ينظرون إليها وحدها، ويتعاملون معها بمعزل عن أصلها، وهو الآيات المحكمات، ولذلك يخطئون في تفسيرها وتأويلها.

وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ: تأويل الآيات المتشابهات، ومعناها الصحيح يعلمه الله، لأنه منزل تلك الآيات.

كما يعلم تأويل هذه الآيات المتشابهات الراسخون في العلم، فرسوخهم في العلم، وتمكنهم منه، أوجد عندهم ملكة في تفسير القرآن وتأويله، ففهموا آياته المحكمات الكثيرة، ولما وقفوا أمام آياته المتشابهات القليلة،

أحسنوا تأويلها وحملها. وإرجاعها إلي أمها من الآيات المحكمات، وبذلك أحسنوا استخراج دلالاتها ومعرفة معانيها وحقائقها.

يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا: لما أحسن الراسخون في العلم فهم وتفسير وتأويل الآيات المتشابهات، صرّحوا قائلين: آمنا بمتشابه القرآن الذي علمنا تأويله، كما آمنّا بمحكمة، فالقرآن بمحكمة ومتشابهه، كلّ من عند ربنا.

علي هذا المعنى للتأويل تكون الواو في قوله: والرَّاسِخُونَ حرف عطف، عطفت الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ علي لفظ الجلالة اللَّهُ.

ويكون الأولي وصل المعطوف بالمعطوف عليه، والوقف علي الْعِلْمِ، فتكون الجملة هكذا: وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، وتكون يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا جملة حالية. أي:

الراسخون في العلم عالمون بتأويل المتشابه، قائلين: آمنّا به كلّ من عند ربنا.

وممن ذهب إلي هذا المعنى للتأويل، واعتبر نفسه ممن يعلم تأويل المتشابه:

عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فقد روي عنه ابن جرير الطبري قوله: أنا ممن يعلم تأويله.

وقال مجاهد: والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ: يعلمون تأويله، ويقولون آمنا به.

وقال محمد بن جعفر بن الزبير بن العوام: والراسخون في العلم قد ردّوا تأويل المتشابه علي ما عرفوا من تأويل الآيات المحكمة، التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد، وقد اتسق بقولهم القرآن، وصدّق بعضه بعضا، وبذلك نفذت به الحجة، وظهر به العذر، وزاح به الباطل، ودفع به الكفر [١].

(١) انظر تفسير الطبري: ٣/ ١٨٢ - ١٨٣

وإذا قلنا: إنّ التأويل بمعنى التفسير والبيان، وأنّ العلماء يعلمون تأويل متشابه القرآن، فإن هذا القول لا يتعارض مع المعنى اللغوي للتأويل، بل يتفق معه، ويتحقق المعنى اللغوي فيه.

فالتأويل- كما مرّ معنا- هو ردّ الشيء إلي غايته، وحمله علي أصله، وإرجاعه إلي حقيقته، وتحديد عاقبته ومآله.

وتأويل متشابه القرآن- وهو الآيات التي فيها اشتباه في المعني، وإشكال في الدلالة- لا يعلمه الناس العاديون، ولا الذين في قلوبهم زيغ.

إنّ الآية ذمت محاولة الذين في قلوبهم زيغ تأويل متشابه القرآن، لأنهم لا يحسنون تأويله وردّه إلي محكم القرآن، وبذلك يقعون في الفتنة.

بينما مدحت الآية الراسخين في العلم، لحسن تأويلهم لمتشابه القرآن.

فكيف أوّله الراسخون في العلم؟ وكيف تحقّق في تأويلهم له المعنى اللغوي الاشتقاقي للتأويل؟

لقد قام الراسخون في العلم بردّ المتشابه إلي المحكم، وحمل المتشابه علي الأصل المحكم، قاموا بإعادة الأخر المتشابهات إلي أصلها وهو أم الكتاب المحكمات، وفهموا الآيات المتشابهات علي ضوء أصلها من الآيات المحكمات، وبذلك التأويل والردّ أزالوا الاشتباه فيها، وحلوا ما فيها من إشكال، وبذلك أحسنوا فهم الآيات المتشابهات.

وهذا الفعل منهم ردّ الشيء إلي غايته، وإعادة الكلام إلي أصله، وحمله علي مرجعه وأساسه، وهذا هو المعنى اللغوي الاشتقاقي للتأويل.

وبهذا نعرف دقة عبارة الامام الراغب الأصفهاني، وشمولها للمعنيين المذكورين للتأويل، حيث يقول: «هو ردّ الشيء إلي الغاية المرادة منه، علما كان أو فعلا» [١].

(١) المفردات: ٩٩.

عن الكاتب

Tanya Ustadz

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية