الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

الفرق بين التفسير والتأويل

الفرق بين التفسير والتأويل

  اسم الكتاب: التفسير والتأويل في القرآن
اسم المؤلف: صلاح عبد الفتاح الخالدي (معاصر)
الناشر: دار النفائس - الأردن
الطبعة: الأولى، ١٤١٦ هـ/ ١٩٩٦ م
عدد الصفحات: ٢٠٢
أعده للشاملة: محمود الجيزي
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
التصنيف: علم التفسير، علم القرأن

 

فهرس الموضوعات 

  1. الفصل الثالث التأويل في كلام الرسول وأصحابه
  2. المبحث الأول: التأويل في الحديث النبوي
    1. المطلب الأول: تأويل الرؤيا وتعبيرها
    2. المطلب الثاني: التأويل بمعني الفهم والتفسير
    3. المطلب الثالث: كيف كان رسول الله يتأول القرآن؟
  3. المبحث الثاني: كيف كان الصحابة يتأولون القرآن؟
  4. الفصل الرابع الفرق بين التفسير والتأويل
    1. الفرق بين التفسير والتأويل
    2. أشهر الأقوال في الفرق بين التفسير والتأويل
    3. الراجح في الفرق بين التفسير والتأويل
    4. المرحلة الأولي تفسير القرآن
    5. المرحلة الثانية تأويل القرآن
    6. وجوب تحقق التفسير والتأويل معا
    7. الدليل علي هذه المرحلية
    8. مع فهم الطبري للتأويل
    9. التأويل بمعني الصرف والتحويل
  5. الخاتمة
  6. العودة إلي كتاب التفسير والتأويل في القرآن

 

 الفصل الثالث التأويل في كلام الرسول وأصحابه

المبحث الأوّل: التأويل في الحديث النبوي

ورد التأويل في حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان أحيانا يرد بمعنى تعبير الرؤيا وتأويلها، وأحيانا بمعنى الفهم والتفسير.

ونورد فيما يلي أمثلة من الأحاديث علي كل واحد من المعنيين:

المطلب الأول: تأويل الرؤيا وتعبيرها

خصّص علماء الحديث في مصنفاتهم كتبا خاصة لتأويل الرؤيا وتعبيرها.

ففي صحيح البخاري كتاب «تفسير الرؤيا» وفي صحيح مسلّم كتاب «الرؤيا».

والباب الثالث من كتاب «الرؤيا» في صحيح مسلّم، أطلق عليه الإمام النووي شارح الصحيح اسم: «باب تأويل الرؤيا».

ونقرأ في هذا الباب هذه الأحاديث التي ورد فيها مصطلح التأويل:

١ - قال أنس بن مالك رضي الله عنه: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:- رأيت ذات ليلة فيما يري النائم، كأنا في دار عقبة بن رافع، فأتينا برطب من رطب ابن طاب.

فأوّلت الرفعة لنا في الدنيا، والعاقبة في الآخرة، وأنّ ديننا قد طاب [١].

رؤيا الرسول عليه الصلاة والسلام أنه كان مع بعض أصحابه في دار رجل اسمه «عقبة بن رافع»، فتفاءل بذلك، وأكل من تمر ابن طاب فتفاءل بذلك.

وأوّل هذه الرؤيا بأنها تشير إلي مبشرات قادمة. «رافع» يشير إلي الرفعة في الدنيا. و «عقبة» يشير إلي حسن العاقبة في الآخرة، وتمر «ابن طاب» يشير إلي طيبة واستقرار وانتصار الاسلام.

وهذا ما حصل في الدنيا، وتحقق تأويل الرسول عليه السلام لهذه الرؤيا، فقد طاب الاسلام وكمل واستقر، ونال المسلمون الرفعة في الدنيا.

٢ - قال ابن عباس رضي الله عنهما: قدم مسيلمة الكذاب علي عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة. فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته.

فقدمها في بشر كثير من قومه.

فأقبل إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومعه ثابت بن قيس بن شماس، وفي يد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قطعة جريدة، حتى وقف علي مسيلمة في أصحابه.

فقال له: (لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، ولكن أتعدّي أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنّك الله، وإني لأراك الذي أريت فيك ما أريت.

وهذا ثابت يجيبك عني) .

ثم انصرف عنه.

قال ابن عباس: فسألت عن قول النبي صلّى الله عليه وسلّم (إنك أري الذي أريت فيك ما رأيت) ، فأخبرني أبو هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: (بينا أنا نائم- رأيت في يدي سوارين من ذهب، فأهمني شأنهما. فأوحي إليّ في المنام أن أنفخهما، فنفختهما فطارا.

(١) صحيح مسلّم: ٤٢ كتاب الرؤيا: ٣ باب رؤيا النبي حديث رقم: ٢٢٧٠.

فأوّلتهما كذابين يخرجان من بعدي. فكان أحدهما العنسيّ، صاحب صنعاء، والآخر مسيلمة، صاحب اليمامة) [١].

كانت رؤيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سوارين من ذهب في يديه، فلما نفخهما طارا.

وكان تأويلها ظهور كذابين يدّعيان النبوة: الأسود العنسي في اليمن، ومسيلمة الكذاب في اليمامة.

وقد تحققت رؤياه فعلا، وتأويلها: حدوثها في عالم الواقع، فقد خرج الكذابان العنسي ومسيلمة، وكانا من أخطر مدّعي النبوة علي المسلمين، وبذل المسلمون جهودا كبيرة للقضاء عليهما، وتمكّنوا أخيرا من التغلب عليهما وقتلهما، وكان قتلهما هو تأويل طيران السوارين لما نفخهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المنام.

ونقف مع هذه الأحاديث التي أوردها الامام مسلّم في كتاب «فضائل الصحابة» والتي تتحدث عن تأويل الرسول عليه الصلاة والسلام لرؤيا رآها بشأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

١ - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (بينا أنا نائم، رأيت الناس يعرضون وعليهم قمص. منها ما يبلغ الثديّ، ومنها ما يبلغ دون ذلك، ومرّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجرّه.

قالوا: ماذا أوّلت ذلك يا رسول الله؟

قال: الدين!) [٢] رأي الرسول صلّى الله عليه وسلّم في منامه الناس يمرّون أمامه، وكلّ منهم يلبس قميصا. وهذه القمصان متفاوتة في المقاس، منها الطويل ومنها القصير، أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد كان قميصه طويلا يجرّه.

(١) صحيح مسلّم- نفس الكتاب والباب. حديث: ٢٢٧٣. وحديث: ٢٢٧٤.

(٢) صحيح مسلّم: ٤٤ كتاب فضائل الصحابة: ٢ باب من فضائل عمر: حديث رقم:

٢٣٩٠.

وتأويل هذه الرؤيا أن القمصان هي الدين، ومعلوم أنّ التزام المسلمين بأحكام الدين الاسلامي متفاوت، منهم من يكون التزامه وثيقا، ومنهم من يكون التزامه ضعيفا.

أما التزام عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأحكام الدين فهو وثيق متين، ولهذا كان قميصه في المنام طويلا.

وقد تحققت رؤيا الرسول عليه الصلاة والسلام عمليا فيما بعد، فصار عمر أميرا للمؤمنين. وترك بعد وفاته آثاره وسننه، وصار قدوة للمسلمين من بعده.

٢ - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: (بينا أنا نائم، إذ رأيت قدحا أتيت به، فيه لبن. فشربت منه، حتى إني لأري الريّ يجري في أظفاري. ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب.

قالوا: فما أوّلت ذلك يا رسول الله؟

قال: العلم) [١].

اللّبن في هذه الرؤيا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو العلم، وهذا هو تأويل الرسول عليه السلام لهذه الرؤيا.

وقد تحققت رؤياه عليه السلام في عالم الواقع، فشربه اللبن في الرؤيا، وارتواؤه منه، تأويله الواقعيّ تمكنه من العلم، ورسوخه فيه، وهذا متحقق في سيرته وشخصيته عليه الصلاة والسلام.

وتأويل إعطائه فضله من اللبن لعمر في عالم الواقع، هو تمكّن عمر من العلم ورسوخه فيه، وهذا متحقق في شخصيته رضي الله عنه.

وممّا أوّله وعبّره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من رؤيا،

ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:

(١) صحيح مسلّم- المرجع السابق- حديث رقم: ٢٣٩١.

(رأيت امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى نزلت بمهيعة.

فتأوّلتها أنّ وباء المدينة نقل إلي مهيعة، وهي الجحفة) [١].

رؤيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المنام: رأي امرأة سوداء ثائرة الرأس، خرجت من المدينة، وسارت في الطريق، وذهبت إلي الجحفة، واستقرّت فيها.

والجحفة لها اسم آخر هو «مهيعة»، وهي في الطريق بين المدينة ومكة.

وتأويل هذه الرؤيا الواقعيّ أن الحمّي والمرض والوباء قد أخرجه الله من المدينة إلي الجحفة، فتأويل الرؤيا هو تحقيقها الماديّ في عالم الواقع.

قال ابن حجر في فتح الباري: «تقدّم في آخر فضل المدينة، في آخر كتاب الحج من حديث عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: (اللهمّ حبّب إلينا المدينة. وانقل حمّاها إلي الجحفة قالت عائشة: وقدمنا المدينة، وهي أوبأ أرض الله».

«قال المهلب: هذه الرؤيا من الرؤيا المعبرة، وهي مما ضرب به المثل، ووجه التمثيل أنه شقّ من اسم «السوداء» السّوء والدّاء، فتأوّل خروجها بما جمع من اسمها.

«وقيل: ثوران الرأس يؤول بالحمي، لأنها تثير البدن بالاقشعرار» [٢] نكتفي بهذه الأحاديث الخمسة الصحيحة، التي أشارت إلي رؤي رآها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في منامه- ورؤيا الأنبياء حق- كما أشارت إلي تأويل وتعبير الرسول عليه الصلاة والسلام لهذه الرؤي الخمسة.

إنّ تأويله لهذه الرؤي هو ملاحظته لبعدها الواقعي، وتسجيله لمدلولها العملي، وبيانه لحقيقتها المادية. وهكذا يكون كلّ تأويل وتعبير للرؤي.

والملاحظ أنّ حقيقة تلك الرؤي المادية قد وقعت بالفعل، وانطبقت علي الواقع، كما أوّلها وعبّرها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

(١) صحيح البخاري: ٩١ كتاب التعبير: ٤٢ باب المرأة السوداء. حديث رقم: ٧٠٣٩.

(٢) فتح الباري: ١٢/ ٤٢٥ - ٤٢٦.

المطلب الثاني: التأويل بمعنى الفهم والتفسير

ورد التأويل بالمعنى الثاني- الذي سبق أن قرّرناه أثناء حديثنا عن آية المحكم والمتشابه، وفي سورة آل عمران- وهو: التفسير والبيان والفهم، في بعض أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

وهو في هذه الأحاديث موجّه لتأويل القرآن، أي: فهمه وتفسيره وبيان معناه.

من هذه الأحاديث:

١ - روي الإمام أحمد عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: هلاك أمتي في الكتاب واللبن! قالوا: يا رسول الله: وما الكتاب واللّبن؟

قال: يتعلّمون القرآن، فيتأوّلونه علي غير ما أنزل الله. ويحبون اللبن، فيدعون الجماعات والجمع، ويبدون! [١] إنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم يذمّ هذا الصنف من الناس، وهم الذين يتعلمون القرآن، ويدرسونه، ولكنهم لا يفهمونه فهما صائبا، ولا يتأوّلونه تأوّلا صحيحا، وإنما يفهمونه فهما خاطئا، ويفسّرونه تفسيرا مغلوطا، ويؤوّلونه تأويلا مردودا باطلا، علي غير ما أنزل الله، وبذلك يحرّفون بهذا التأويل الباطل الآيات عن معناها الصحيح، إلي معنى آخر مرفوض، لا تدلّ عليه، ولا تشير إليه.

وبينما ذمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المتأولين السابقين، لأنهم تأوّلوا القرآن علي

(١) مسند أحمد بن حنبل: ٤/ ١٥٥.

غير ما أنزل الله، فقد صوّب المتأولين من الصحابة تأويلات خاطئة، وقدّم لهم الفهم والتأويل الصحيح، ولم يذمّهم لحسن نيتهم في التأويل غير السديد، وأعذرهم، ثم صوّب لهم فهمهم وتأويلهم.

قال الإمام ابن حجر في ضابط التأويل المردود الذي يعذر صاحبه ولا يذمّ: «قال العلماء: كلّ متأوّل معذور بتأويله ليس بآثم، إذا كان تأويله سائغا في لسان العرب، وكان له وجه في العلم» [١].

وقد أورد الإمام البخاري أربعة أحاديث لذلك، في كتاب «استتابة المرتدين المعاندين وقتالهم»، وأفرد لها بابا خاصا، أطلق عليه اسم:

«باب ما جاء في المتأولين».

الحديث الأول: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت هشام ابن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرؤها علي حروف كثيرة، لم يقرئنيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كذلك، فكدت أساوره في الصلاة، فانتظرته حتى سلّم، ثم لببته بردائه- أو بردائي- فقلت: من أقرأك هذه السورة؟

قال: أقرأنيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

قلت له: كذبت. فو الله إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقرأني هذه السورة التي سمعتك تقرؤها.

فانطلقت أقوده إلي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: يا رسول الله: إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان علي حروف لم تقرئنيها، وأنت أقرأتني سورة الفرقان! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أرسله يا عمر. اقرأ يا هشام.

(١) فتح الباري: ١٢/ ٣٠٤.

فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرؤها. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هكذا أنزلت.

ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اقرأ يا عمر. فقرأت، فقال: هكذا أنزلت! ثم قال: إن هذا القرآن أنزل علي سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسّر منه» [١].

قال ابن حجر في شرح الحديث: «ومناسبته للترجمة من جهة أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يؤاخذ عمر بتكذيب هشام، ولا بكونه لبه بردائه، وأراد الإيقاع به، بل صدّق هشاما فيما نقله، وعذر عمر في إنكاره، ولم يزده علي بيان الحجة في جواز القراءتين» [٢].

إنّ عمر رضي الله عنه قال ما قال في حقّ هشام متأوّلا، وقد عذره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علي خطأ تأويله لحسن نيته، ثم صوّب له تأويله، وقدّم له الصواب في المسألة.

الحديث الثاني: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [٣] شق ذلك علي أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟

فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ليس كما تظنّون. إنما هو كما قال لقمان لابنه يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [٤] [٥].

قال ابن حجر: «ووجه دخوله في الترجمة من جهة أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يؤاخذ

(١) صحيح البخاري: ٨٨ كتاب استتابة المرتدين: ٩ باب ما جاء في المتأولين حديث:

٦٩٣٦.

(٢) فتح الباري: ١٢/ ٣٠٥.

(٣) سورة الأنعام: ٨٢.

(٤) سورة لقمان: ١٣.

(٥) صحيح البخاري- المرجع السابق، حديث: ٦٩٣٧.

الصحابة بحملهم الظلم في الآية علي عمومه، حتى يتناول كلّ معصية، بل عذرهم لأنه ظاهر في التأويل، ثم بيّن لهم المراد بما رفع الإشكال» [١].

لقد أوّل بعض الصحابة الآية علي غير وجهها، وفهموها فهما غير صائب، واعتبروا الظلم فيها شاملا لكلّ معصية، وهذا تأويل خاطئ منهم، لكنه تأويل باجتهاد، فلم يؤاخذهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم علي ذلك، بل عذرهم، ثم صحح لهم تأويلهم وصوب لهم فهمهم.

وهكذا الحديثان الآخران في الباب- الثالث والرابع- ففي الحديث الثالث أخطأ بعض الصحابة فهم وتأويل موقف أحدهم، وهو مالك بن الدخشن، واعتبروه منافقا بسبب ذلك الموقف، فصوّب لهم رسول صلّى الله عليه وسلّم تأويلهم، واعتبره مسلما صادقا، وطالبهم بإجراء أحكام الاسلام علي الظاهر، ومع ذلك عذرهم في فهمهم، ولم يؤاخذهم بتأويلهم.

وفي الحديث الرابع بيان خطأ حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه في فهمه وتأويله حيث كتب كتابا إلي أهله في مكة، يخبرهم بتوجّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لفتح مكة، وذلك ليس إذاعة منه لسرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإنما ليقدم خدمة لأهله في مكة. وقد صوّب له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهمه وتأويله، ولم يؤاخذه به [٢].

إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد رفض تأويلات غير سديدة لبعض المسلمين، وبيّن لهم المعنى الصائب والموقف الصحيح، ولكنه عذرهم لأنّ ظاهر النص أو الحادثة قد يوحي بذلك التأويل الذي فهموه.

ومن هذه الأمثلة نري أنّ التأويل في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد ورد بمعنى الفهم والتفسير والبيان، سواء كان هذا صوابا أم خطأ.

(١) فتح الباري: ١٢/ ٣٠٥.

(٢) انظر فتح الباري: ١٢/ ٣٠٣ - ٣١١.

المطلب الثالث: كيف كان رسول الله يتأول القرآن؟

للصحابة بعض الروايات في تأويل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لبعض آيات القرآن، يوضحون فيها كيفية تأويله لها.

من هذه الروايات:

١ - روي البخاريّ عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: ركب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علي حمار، علي قطيفة فدكيّة، وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة، قبل وقعة بدر.

فمرّ بمجلس فيه عبد الله بن أبيّ بن سلول، وذلك قبل أن يسلّم عبد الله بن أبيّ، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفي المجلس عبد الله بن رواحة.

فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة، خمّر عبد الله بن أبيّ أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبّروا علينا.

فسلّم عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم وقف فنزل، فدعاهم إلي الله، وقرأ عليهم القرآن.

فقال عبد الله بن أبيّ: أيها المرء، إنه لا أحسن مما تقول، إن كان حقا فلا تؤذينا به في مجلسنا، ارجع إلي رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه.

فقال عبد الله بن رواحة: بلي يا رسول الله، فاغشنا به في مجلسنا فإنا نحبّ ذلك! فاستبّ المسلمون والمشركون واليهود، حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يخفّضهم حتى سكنوا!

ثم ركب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دابته، فسار، حتى دخل علي سعد بن عبادة، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: (يا سعد: ألم تسمع ما قال أبو حباب- يريد عبد الله ابن أبيّ- قال: كذا وكذا) .

قال سعد: يا رسول الله: اعف عنه واصفح عنه. فو الذي أنزل عليك الكتاب، لقد جاء الله بالحقّ الذي أنزل عليك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة علي أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة، فلما أبي الله ذلك بالحق الذي أعطاك، شرق بذلك، فذلك فعل به ما رأيت! فعفا عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب، كما أمرهم الله، ويصطبرون علي الأذي. قال الله عز وجل: ولَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ومِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذيً كَثِيراً [١]. وقال الله: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً، حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ، فَاعْفُوا واصْفَحُوا حَتَّي يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [٢].

وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يتأوّل العفو ما أمره الله به، حتى أذن الله فيهم.

فلما غزا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بدرا، وقتل الله به صناديد كفار قريش، قال ابن أبي بن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توجّه، فبايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علي الإسلام، وأسلموا.» [٣].

الشاهد في الحديث ذكر- رواية- أسامة بن زيد- رضي الله عنه آية من كتاب الله، أمر الله فيها الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بالعفو والصفح عن أهل الكتاب والمشركين، حتى يأتي الله بأمره، ويأمرهم بقتال الكافرين.

(١) سورة آل عمران: ١٨٦.

(٢) سورة البقرة: ١٠٩.

(٣) صحيح البخاري: ٦٥ كتاب التفسير: ١٥ باب: ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذي كثيرا: حديث رقم: ٤٥٦٦.

وقول أسامة بن زيد رضي الله عنه بعد ذكر الآية: وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يتأوّل العفو ما أمره الله به، حتى أذن الله فيهم.

فكيف كان تأويل رسول الله عليه الصلاة والسلام؟

لقد كان تأويله فيهم هو التطبيق العمليّ للآية التي أمرته بالعفو والصفح، والتنفيذ الفعليّ لمضمونها، حيث كان يعفو ويصفح فعلا، حتى أنزل الله آيات بعد ذلك تأذن له بقتالهم.

إن تأويله الفعليّ للآية ليس مجرد فهمها وتفسيرها نظريا، ولكنه تحقيقها في عالم الواقع، وبيان مآلها العملي والواقعي.

٢ - روي الامام البخاري في تفسير سورة النصر عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده:

سبحانك اللهمّ ربّنا وبحمدك. اللهمّ اغفر لي، يتأوّل القرآن.

وفي رواية أخرى عنها قالت: «ما صلّى النبي صلّى الله عليه وسلّم صلاة، بعد أن نزلت عليه إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ والْفَتْحُ إلا يقول فيها: سبحانك ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي» [١].

إنّ ما ترويه عائشة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كان تأويلا منه للقرآن.

وتأويله للقرآن كان تأويلا عمليا، وتنفيذا وتطبيقا للأمر الذي أمره الله به.

أنزل الله عليه سورة النصر، وأمره فيها بتسبيح الله وحمده واستغفاره:

إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ والْفَتْحُ، ورَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واسْتَغْفِرْهُ، إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً.

فكيف نفذ الرسول عليه الصلاة والسلام هذه الأوامر الربانية: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واسْتَغْفِرْهُ؟

لقد جعلها في صلاته، ونفذها عمليا،

فكان كثيرا ما يقول في ركوعه

(١) صحيح البخاري: ٦٥ كتاب التفسير: ١١٠ سورة النصر: حديثان: ٤٩٦٧، ٤٩٦٨.

وسجوده: سبحانك اللهم وبحمدك، وهذا تنفيذ لقوله تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ. ويقول: اللهم اغفر لي، وهذا تنفيذ لقوله تعالى: وَاسْتَغْفِرْهُ.

وعلقت عائشة رضي الله عنها علي هذا التطبيق العملي للأوامر الربانية النظرية، بأنه في هذا الفعل: يتأول القرآن.

وقال الإمام ابن حجر في شرحه للحديث: «ومعنى قوله: يتأول القرآن: يجعل ما أمر به من التسبيح والتحميد والاستغفار في أشرف الأوقات والأحوال» [١].

تأويل الرسول صلّى الله عليه وسلّم للآية: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واسْتَغْفِرْهُ ليس مجرد فهم وتفسير وبيان لها، ولكنه تطبيق وتنفيذ.

وهذا هو معنى التأويل الوارد في القرآن- كما سبق أن بيّنا- فإذا كان تأويل الأمر هو فعله وتطبيقه عمليا، فإن الرسول صلّى الله عليه وسلّم هو أوّل مؤول للأوامر الربانية في القرآن، لأنه فعلها عمليا، وأوجد حقيقتها المادية التي آلت إليها النصوص التكليفية.

٣ - أخرج الإمام أبو داود في سننه صفة حجة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كما رواها عنه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. ونقتطف من كلام جابر ماله صلة بموضوع تأويل الرسول عليه الصلاة والسلام للقرآن.

قال جابر رضي الله عنهما: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاج، فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتمّ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويعمل بمثل عمله.

حتي أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كيف أصنع؟

(١) فتح الباري: ٨/ ٧٣٤.

قال: اغتسلي، واستثفري بثوب وأحرمي.

فصلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المسجد ثم ركب القصواء، حتى إذا استوت به ناقته علي البيداء.

فنظرت إلي مد بصري، من بين يديه، من راكب وماش، وعنه يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك.

ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعلم تأويله، فما عمل به من شيء عملنا به ....» [١].

إن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يحمل تأويل القرآن علي معناه العملي، وتطبيق أوامر وأحكام القرآن بصورة فعلية مادية.

فالله أمر المسلمين بالحج، وتحدثت آيات القرآن عن مناسك الحج وأركانه، لكن كيف يحجّ المسلمون عمليا؟ وكيف ينفذون أوامر الله بالحج فعلا؟ وبعبارة أخري: كيف يؤول المسلمون آيات الحج تأويلا واقعيا؟

يؤدّون به مناسك الحج فعلا! يخبرنا جابر رضي الله عنه أنهم اقتدوا بالرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو يؤدّي مناسك الحج، فهو موجود بين أظهرهم، وهو حيّ معهم، وتنزل عليه آيات القرآن التي تبيّن أركان ومناسك الحج، وهو يعلم تأويل هذه الآيات، وهم يقتدون به في تأويله العملي للآيات.

إنّ تأويل الرسول صلّى الله عليه وسلّم لآيات القرآن الآمرة بالحج هو أداؤه لمناسك الحج فعلا، وتحقيق الصورة المادية الواقعية لها، وهذا هو معنى التأويل الوارد في القرآن.

تأويل الأمر أداؤه وتنفيذه، ولهذا كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع هو أول مؤوّل لآيات الحج في القرآن.

(١) سنن أبي داود: ١١ كتاب مناسك الحج: ٥٦ باب صفة حجة النبي. حديث رقم: ١٩٠٥.

المبحث الثاني: كيف كان الصّحابة يتأوّلون القرآن؟


عرفنا من النماذج السابقة التي عرضناها كيف كان تأويل الرسول صلّى الله عليه وسلّم للقرآن، وأنّ تأويله لأوامره هو تنفيذها فعلا وتحقيقها في عالم الواقع.

وإذا أردنا أن نقف علي هذا اللون من تأويل الصحابة للقرآن، فإنه لا يخرج عن تأويل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أي أنهم كانوا ينفّذون أوامر النصوص عمليا أو يلاحظون صورتها المادية، ومآلها العملي المستقبلي.

من الأمثلة التي توضح ذلك:

١ - أخرج الإمام أحمد عن سعيد بن جبير أنّ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يصلي حيثما توجهت به راحلته. ويقول: قد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفعل ذلك. ويتأوّل عليه قوله تعالى: ولِلَّهِ الْمَشْرِقُ والْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [١] [٢].

إنّ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يري جواز صلاة التطوع علي الراحلة حيثما توجّهت به الراحلة، ولا يشترط فيها استقبال القبلة، فلو صلّى التطوع إلي غير القبلة وهو علي راحلته صحت صلاته.

ويعتمد ابن عمر علي ظاهر الآية، فالآية تبين أنّ المشرق والمغرب لله، وأنّ المصلي نافلة أينما ولّي وجهه فهو يوليه الله، وصلاته مقبولة الله.

(١) سورة البقرة: ١١٥.

(٢) مسند أحمد بن حنبل: ٢/ ٤١.

كما يعتمد ابن عمر على فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويقول: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفعله. أي: رأى الرسول صلّى الله عليه وسلّم يصلّي النافلة على الراحلة إلي غير القبلة.

والشاهد في هذا المثال في جملة: ويتأول عليه قوله تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ.

أي: كان ابن عمر يفهم من الآية هذا الفهم، ويعتبرها دليلا على جواز عدم استقبال القبلة في صلاة النافلة، وبعد ذلك كان يصلي كما فهم.

فتأويل ابن عمر للآية هو فهمها أولا، ثم تطبيقها فعلا، وتحقيقها عمليا، وأداؤه صلاة النافلة وفق ما أذنت به.

٢ - روي الإمام البخاري عن ابن شهاب الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت: الصلاة أوّل ما فرضت ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وأتمت صلاة الحضر.

قال الزهري: فقلت لعروة: ما بال عائشة تتمّ؟

قال عروة: تأوّلت ما تأوّل عثمان! [١] تروي عائشة رضي الله عنها أنّ الصلاة كانت ركعتين في السفر والحضر، عند ما فرضها الله على المسلمين، وبعد ذلك جعل الله صلاة الحضر أربع ركعات، وأبقي صلاة السفر ركعتين.

وفي كلامها إشارة إلي إنّ الأفضل للمسافر هو أن يقصر الصلاة الرباعية فيصليها ركعتين.

ولكنّ عائشة كانت تسافر فتتمّ الصلاة ولا تقصرها، وهذا الفعل منها

(١) صحيح البخاري: ١٨ كتاب تقصير الصلاة: ٥ باب يقصر إذا خرج من موضعه.

حديث رقم ١٠٩٠.

لا يتفق مع روايتها، فلماذا لا تقصر الصلاة؟

وقد لفت هذا نظر راوي الحديث ابن شهاب الزهري، فسأل شيخه عروة بن الزبير عنه: ما بال عائشة تتمّ الصلاة عند ما تسافر؟

فأجابه عروة قائلا: تأوّلت كما تأوّل عثمان! يشير عروة إلي ما فعله عثمان بن عفان رضي الله عنه، عند ما كان أمير المؤمنين، حيث ذهب إلي الحج، وفي مكة كان يتمّ الصلاة ولا يقصرها.

لقد سمّي عروة إتمام عثمان للصلاة رغم سفره تأويلا، لقوله تعالى: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ... [١].

كما اعتبر إتمام عائشة للصلاة تأويلا لهذه الآية كما تأوّلها عثمان.

إن الآية تأذن للمسلمين في قصر الصلاة الرباعية عند ما يضربون في الأرض، ويخرجون للسفر.

وجملة إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ليست قيدا للقصر، بمعنى أنّ القصر ليس مقرونا بخوف فتنة الكفار، فإذا أمن المسلمون وزال الخوف والفتنة زال القصر.

إنّ هذه الجملة خرجت مخرج غالب أحوال الصحابة، حيث كانوا في حرب مع الكفار، وكانت أسفارهم فيها خوف الفتنة.

وبعد ما زال خطر الكفار، وانتهت الفتنة، وأمن المسلمون، استمرت رخصة قصر الصلاة.

قال الإمام ابن كثير في تفسير الآية: «وأما قوله: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فقد يكون هذا خرج مخرج الغالب، حال نزول هذه

(١) سورة النساء: ١٠١.

الآية، فإن في مبدأ الاسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة، بل ما كانوا ينهضون إلا إلي غزو عام، أو في سرية خاصة، وسائر الأحياء حرب للإسلام وأهله.

والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب، أو على حادثة، فلا مفهوم له» [١].

ولهذا استوضح عمر بن الخطاب رضي الله عنه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قصر الصلاة للمسافر مع الأمن.

أخرج الإمام مسلم عن يعلى بن أمية قال: سألت عمر بن الخطاب:

قوله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا. فكيف نقصر وقد أمن الناس؟

فقال لي عمر رضي الله عنه: عجبت مما عجبت منه. فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك. فقال لي: (صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته) .

وجواب الرسول صلّى الله عليه وسلّم على تساؤل عمر دليل على أنّ القصر ليس مقرونا بالخوف، فيجوز أن يكون مع الأمن، وهذا القصر للمسافر رخصة من الله لعباده، وصدقة تصدق بها عليهم.

ولهذا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقصر الصلاة لما حجّ حجة الوداع، وقد زال خطر المشركين، ودخل الناس في الإسلام.

وأخرج البخاري وغيره عن حارثة بن وهب الخزاعيّ رضي الله عنه قال: صلّى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آمن ما كان بمني ركعتين.

وفي رواية أخرى له قال: صليت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم الظهر والعصر بمني، أكثر ما كان الناس، وآمنه، ركعتين.

وأخرج البخاريّ ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:

(١) تفسير ابن كثير: ١/ ٥٩٨ - ٥٩٩.

«صليت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ركعتين

، وأبي بكر وعمر وعثمان، صدرا من إمارته، ثم أتمها» [١].

ورغم هذه الروايات التي تدلّ على قصر الرسول صلّى الله عليه وسلّم والصحابة الصلاة مع الأمن، إلا أنّ عثمان وعائشة رضي الله عنهما أتما الصلاة، وكان إتمامهما للصلاة تأويلا كما قال عروة بن الزبير.

قال الإمام ابن حجر في شرح الحديث وبيان تأويلهما: «وقال ابن بطال: الوجه الصحيح في ذلك أنّ عثمان وعائشة كانا يريان أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إنما قصر لأنه أخذ بالأيسر من ذلك على أمته، فأخذا لأنفسهما بالشدة.

وهذا رجّحه جماعة، من آخرهم القرطبي» ثم قال ابن حجر: «وأما عائشة فقد جاء عنها سبب الإتمام صريحا.

وهو فيما أخرجه البيهقي من طريق هشام بن عروة عن أبيه: أنها كانت تصلي في السفر أربعا. فقلت لها- القائل ابن أختها عروة بن الزبير- لو صليت ركعتين.

فقالت: يا ابن أختي: إنه لا يشقّ عليّ.

وهو دالّ على أنها تأوّلت أن القصر رخصة، وأنّ الإتمام لمن لا يشق عليه أفضل!» [٢].

إنّ إتمام عثمان وعائشة رضي الله عنهما للصلاة مع السفر، هو تأويل منهما للآية التي ترخّص بالقصر.

وتأويلهما هو فهم للآية أولا، حيث فهما منها أنها تريد أن تيسر على المسلمين عند المشقة في السفر، وأنّ قصر الرسول عليه الصلاة والسلام أثناء سفره هو تيسير منه للأمة، لأنه مشرّع، وأفعاله تشريع. أما هما

(١) أنظر هذه الأقوال وغيرها في تفسير ابن كثير: ١/ ٥٩٨ - ٦٠١.

(٢) فتح الباري: ٢/ ٥٧١.

فإن المشقة منتفية في حقهما، والسفر لا يشقّ عليهما، ولذلك لم يقصرا الصلاة.

وتأويلهما للآية بعد ذلك أنهما أدّيا الصلاة فعلا تامة غير مقصورة، وهذا هو المظهر المادي العمليّ للتأويل، حيث حقّقا الصورة المادية لمعنى الآية، ونفّذا فعلا ما دلّت عليه الآية حسب فهمهما لها.

٣ - أخرج البخاريّ عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنه قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله: أين تنزل؟ في دارك بمكة؟ فقال: وهل ترك عقيل من رباع أو دور؟ وكان عقيل ورث أبا طالب، هو وطالب، ولم يرثه جعفر ولا علي رضي الله عنهما شيئا، لأنهما كانا مسلمين، وكان عقيل وطالب كافرين، فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لا يرث المؤمن الكافر.

قال ابن شهاب: وكانوا يتأوّلون قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وهاجَرُوا وجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، والَّذِينَ آوَوْا ونَصَرُوا، أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [١] [٢].

يخبر أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنه كان مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم لما توجّه إلي فتح مكة، فسأل أسامة الرسول عليه الصلاة والسلام: أين سينزل في مكة؟ أينزل في داره فيها؟ أم ينزل في دار أخري؟

فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن عقيل بن أبي طالب لم يترك له في مكة دارا، وذلك لأنه باع جميع دور هاشم بن عبد مناف، وابنه عبد المطلب، التي آلت إلي أبي طالب وعبد الله والد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

لقد أسلم جعفر وعلي ابنا أبي طالب رضي الله عنهما، وبذلك فقدا

(١) سورة الأنفال: ٧٢.

(٢) صحيح البخاري: ٢٥ كتاب الحج: ٤٤ باب توريث دور مكة وبيعها: حديث رقم: ١٥٨٨.

حقّهما في ميراث أبي طالب، وطالب شقيق عقيل فقد في معركة بدر، فلم يبق في مكة إلا عقيل بن أبي طالب، وبذلك وضع يده على دور أبي طالب وعبد الله والد الرسول عليه السلام، ثم باع تلك الدور.

ولم يرث جعفر ولا علي والدهما أبا طالب لأنهما مؤمنان، ولا يرث المؤمن الكافر، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإنّ اختلاف الدين من موانع الإرث كما هو معلوم.

قال ابن شهاب الزهري راوي الحديث عن أسامة: إن الصحابة كانوا يتأوّلون الآية التي أوردها بولاية الميراث [١].

أي: المؤمنون الصادقون من المهاجرين والأنصار، أولئك بعضهم أولياء بعض، يتولي بعضهم بعضا في الميراث وغيره.

والشاهد في هذا المثال أنّ ابن شهاب اعتبر عدم التوارث بين المؤمنين والكفار، وحصول التوارث بين المؤمنين فقط، هو تأويل من الصحابة لآية سورة الأنفال: أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ.

وتأويلهم للآية أخذ جانب التأويل العملي، أي أنهم طبقوا حقيقة الآية عمليا، ونفّذوا توجيهها لهم فعلا، وأوجدوا مضمونها فيما بينهم، وهذا هو التأويل الذي نتحدث عنه.

٤ - أخرج الامام البخاريّ عن سعيد بن المسيب عن أبي موسي الاشعري رضي الله عنه قال: «خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم إلي حائط من حوائط المدينة لحاجته، وخرجت في إثره. فلما دخل الحائط جلست على بابه، وقلت: لأكوننّ اليوم بوّاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولم يأمرني.

فذهب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقضي حاجته، وجلس على قفّ البئر، فكشف عن ساقيه، ودلاهما في البئر.

(١) فتح الباري: ٣/ ٤٥٢.

فجاء أبو بكر يستأذن عليه ليدخل. فقلت: كما أنت حتى أستأذن لك.

فوقف، فجئت إلي النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: يا نبيّ الله: أبو بكر يستأذن عليك. قال: ائذن له، وبشّره بالجنة، فدخل، فجاء عن يمين النبي صلّى الله عليه وسلّم، فكشف عن ساقيه، ودلاهما في البئر.

فجاء عمر، فقلت: كما أنت حتى أستأذن لك. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم:

ائذن له، وبشّره بالجنة، فجاء عن يسار النبي صلّى الله عليه وسلّم، فكشف عن ساقيه، فدلاهما في البئر. فامتلأ القفّ، فلم يكن فيه مجلس.

ثم جاء عثمان، فقلت: كما أنت حتى أستأذن لك. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:

ائذن له وبشّره بالجنة، معها بلاء يصيبه، فدخل، فلم يجد معهما مجلسا، فتحوّل، حتى جاء مقابلهم على شفة البئر، فكشف عن ساقيه، ثم دلاهما في البئر.

فجعلت أتمني أخا لي، وأدعو الله أن يأتي.

قال ابن المسيب: فتأوّلت ذلك قبورهم، اجتمعت هاهنا، وانفرد عثمان» [١].

إنّ أبا موسي الأشعري رضي الله عنه يخبر عن اجتماع الرسول صلّى الله عليه وسلّم مع أبي بكر وعمر على جانب في حافة البئر، وعن انفراد عثمان وجلوسه مقابلهم على الجانب الآخر من الحافة لعدم وجود مكان له بجانبهم.

وهذا التقدير الرباني لمواقعهم في هذه الجلسة يشير إلي ما سيكونون عليه في المستقبل، عند وفاتهم جميعا.

وقد فهم سعيد بن المسيب هذه الإشارة، وعبّر عنها قائلا: فأوّلت ذلك قبورهم، اجتمعت هاهنا، وانفرد عثمان.

(١) صحيح البخاري: ٩٢ كتاب الفتن: ١٧ باب الفتنة التي تموج كموج البحر حديث رقم: ٧٠٩٧.

لقد كان قبرا أبي بكر وعمر بجانب قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، في المسجد النبوي، بينما كان قبر عثمان بعيدا في البقيع.

وكون قبور الثلاثة رضي الله عنهم على هذه الكيفية، هو تأويل تقدير الله لمواقعهم على حافة البئر مع رسول الله عليه الصلاة والسلام.

وبعبارة أخري: تقدير الله لمواقعهم الثلاثة على حافة البئر وعد بشيء سيتحقق فيما بعد، وكان تأويل هذا الوعد تحقيقه وحصوله ووقوعه فعلا.

وهكذا كان، حيث دفن الصاحبان بجانب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بينما دفن عثمان في البقيع.

٥ - أخرج الامام الترمذي عن أسلم أبي عمران التّجيبي قال: كنّا بمدينة الروم، فأخرجوا إلينا صفّا عظيما من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر، وعلي أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة ابن عبيد، فحمل رجل من المسلمين على صفّ الروم، حتى دخل فيهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله: يلقي بيديه إلي التهلكة.

فقام أبو أيوب فقال: يا أيها الناس: إنكم تتأولون هذه الآية. هذا التأويل، وإنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما أعزّ الله الإسلام، وكثر ناصروه، قال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ أموالنا قد ضاعت، وإنّ الله قد أعزّ الاسلام، وكثير ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا، فأصلحنا ما ضاع منها. فأنزل الله على نبيه صلّى الله عليه وسلّم يردّ علينا ما قلنا:

وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ولا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَي التَّهْلُكَةِ. فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها، وتركنا الغزو ...

فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله، حتى دفن بأرض الروم [١].

إنّ الصحابيّ الجليل أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه وقف ليصحح

(١) سنن الترمذي: ٤٨ كتاب تفسير القرآن ٣ باب من تفسير سورة البقرة. حديث:

٢٩٧٢.

للمسلمين المجاهدين سوء فهمهم للآية، ويصوّب لهم تأويلهم المردود لها.

الآية هي قول الله: وأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ولا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَي التَّهْلُكَةِ، وأَحْسِنُوا، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [١].

كان الفهم والتأويل الخاطئ للآية أنّ بعض المجاهدين اعتبر التهلكة، هي اقتحام الأهوال والأخطار، ومواجهة الأعداء، واختراق صفوفهم، وأنّ من فعل ذلك فقد ألقي بنفسه إلي التهلكة، والله قد نهانا عن إلقاء أنفسنا في التهلكة.

ولهذا لما رأوا المجاهد الشجاع يخترق صفوف الروم، ويدخل فيهم، ويقتل رجالهم أنزلوا الآية على فعله، فاعتبروا فعله مخالفا لها، فقالوا: سبحان الله، يلقي بيديه إلي التهلكة.

إنّ سبب خطأ فهمهم وتأويلهم للآية أنهم لم يعرفوا سبب نزولها، ولذلك وقف أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه يبين لهم سبب نزولها، وقال لهم: إنكم تتأوّلون هذه الآية هذا التأويل، وإنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار.

التهلكة هي في عدم الإنفاق في سبيل الله، وفي القعود عن نصرة دين الله، وترك مواجهة أعداء الله، والتخلي عن الجهاد في سبيل الله، والانصراف إلي الأعمال الشخصية على حساب قضايا الأمة.

أراد الأنصار الانصراف إلي أموالهم وأراضيهم وبساتينهم، التي أهملوها ووجّهوا طاقاتهم لنصرة الإسلام، فبعد ما نصر الله دينه، وكثر جنوده وناصروه، لماذا لا يعودون إلي أموالهم؟

فأنزل الله آية في القرآن تردّ عليهم، وتدعوهم إلي عدم التخلي عن الإنفاق والجهاد، وعدم العودة إلي الأموال، وتعتبر هذا تهلكة خطيرة.

(١) سورة البقرة: ١٩٥.

أي أنّ التهلكة هي في القعود عن الجهاد والمواجهة، وليست في المواجهة والتحدي.

لقد رفض أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه تأويلا مردودا للآية، تأويلا يقود إلي القعود وعدم اقتحام الأهوال واختراق الصفوف.

وقدم تأويلا صحيحا للآية، تأويلا يدفع أصحابه إلي الانفاق والجهاد والتحدي والشجاعة والإقدام.

التأويل هنا هو فهم للآية ينتج عنه فعل وتصرف، وأبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه يريد تأويلا وفهما صائبا، ينتج عنه فعل إيجابي وتصرف سليم.

أبو أيوب يريد اعتبار الآية داعية إلي الجهاد والإقدام والشجاعة، ويريد من المجاهد تأويل الآية هذا التأويل، أي: يريد منه تحقيق مفهوم هذه الآية في عالم الواقع إقداما وتضحية.

إنّ التأويل في هذا الحديث لا يخرج عن التأويل في الأحاديث السابقة، الذي هو فهم للنص أو الحديث بتطبيقه وتنفيذه وأدائه في عالم الواقع.

دعاء الرسول لابن عباس بتعليم التأويل:

نقف وقفة مناسبة مع الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، الذي كان من أعلم الصحابة بالقرآن وفقه وفهمه وتأويله، والذي حاز لقب «ترجمان القرآن».

لقد دعا له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالفقه في الدين وعلم التأويل، وقد ورد هذا الدعاء في روايات عديدة، بينها تفاوت في العبارات.

١ - روي البخاري في كتاب الوضوء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دخل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الخلاء، فوضعت له وضوءا، فقال: من وضع

هذا؟ فأخبر. فقال: اللهمّ فقهه في الدين [١].

٢ - وروي البخاري في. كتاب العلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ضمني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلي صدره وقال: (اللهم علمه الكتاب) [٢].

٣ - وروي البخاري في كتاب العلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ضمّني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلي صدره، وقال: (اللهمّ علّمه الحكمة) [٣].

٤ - وروي مسلم في كتاب فضائل الصحابة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الخلاء، فوضعت له وضوءا. فلما خرج قال:

من وضع هذا؟ قالت- والقائلة ميمونة رضي الله عنها-: ابن عباس.

قال: (اللهمّ فقهه) [٤].

٥ - وروي أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وضع يده على كتفي- أو منكبي- ثم قال: (اللهمّ فقهه في الدين، وعلمه التأويل) [٥].

٦ - وروي أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان في بيت ميمونة، فوضعت له وضوءا من الليل. فقالت ميمونة:

يا رسول الله: وضع لك هذا عبد الله بن عباس.

(١) صحيح البخاري: ٤ كتاب الوضوء: ١٠ باب وضع الماء عن الخلاء. حديث رقم:

١٤٣.

(٢) صحيح البخاري: ٣ كتاب العلم: ١٧ باب قول النبي اللهم علمه الكتاب.

حديث: ٧٥.

(٣) صحيح البخاري: ٦٢ كتاب فضائل الصحابة: ٢٤ باب ذكر ابن عباس. حديث رقم: ٣٧٥٦.

(٤) صحيح مسلم: ٤٤ كتاب فضائل الصحابة: ٣٠ باب فضائل ابن عباس. حديث رقم: ٢٤٧٧.

(٥) مسند أحمد بتحقيق شعيب الأرناءوط وفريقه: ٤/ ٢٢٥. حديث رقم: ٢٣٩٧.

فقال عليه الصلاة والسلام: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل) [١].

لقد تعمدت إيراد هذه الروايات الست لحديث ابن عباس، ودعاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم له لأبين خطأ شائعا عند بعض من يكتبون عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعلمه بالتأويل.

إن الكثيرين يظنون أنّ دعاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم

بقوله: «اللهم فقّهه في الدين، وعلمه التأويل» رواه البخاري ومسلم. وهذا باطل، فأطراف الحديث عند البخاري ومسلم ليس فيها: «وعلمه التأويل». وإنما هذه الجملة عند أحمد وغيره.

ولهذا قال الإمام ابن حجر: «وعلّمه التأويل هذه اللفظة اشتهرت على الألسنة، حتى نسبها بعضهم للصحيحين! ولم يصب!» [٢]

قصة الحديث أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أراد أن يتعرف على هدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في صلاة الليل، فذهب إلي بيت ميمونة أم المؤمنين وزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لهذه الغاية وكان غلاما مميزا، وفي الليل، استيقظ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ودخل الخلاء، فأراد أن يخدمه، فوضع له إبريق الماء على باب الخلاء، فلما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الخلاء ورأي الماء، أعجب بذلك التصرف، الدالّ على فطنة ونباهة صاحبه، فسأل ميمونة رضي الله عنها: من فعل هذا؟ فقالت الغلام عبد الله بن عباس.

فضمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ابن عباس إلي صدره بحنان ومودة، ووضع يده على كتفه، ودعا الله له قائلا: اللهمّ فقهه في الدين، وعلّمه التأويل.

أي أنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم سأل الله أن يمنحه الفقه في الدين، وفهم أحكامه وأن يفقهه في القرآن، ويعلّمه تأويله، ويوفّقه لحسن فهم معانيه.

(١) مسند أحمد- المرجع السابق: ٥/ ١٥٩ - ١٦٠. حديث رقم: ٣٠٣٢.

(٢) فتح الباري ٧/ ١٠.

ومعلوم أنّ دعاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم مجاب، ولذلك منّ الله على ابن عباس بالفقه في الدين، وعلم التأويل، فصار بحقّ ترجمان القرآن.

ألفاظ روايات البخاري ومسلم هي: «اللهمّ فقّهه»، و «اللهم علّمه الكتاب»، و «اللهم فقّهه في الدين» و «اللهم علّمه الحكمة».

أما الجملة المحفوظة: «اللهم فقّهه في الدين، وعلّمه التأويل»، فهي صحيحة، وإن لم تكن في الصحيحين.

قال الشيخ شعيب الأرناءوط في تخريج أحاديث مسند أحمد، عند تخريجه لهذا الحديث في مسند أحمد: «إسناده قوي، على شرط مسلم، رجاله ثقات، رجال الشيخين، غير عبد الله بن عثمان بن خثيم، فمن رجال مسلم.

وأخرجه يعقوب بن سليمان في «المعرفة والتاريخ». وأخرجه الطبراني» [١].

وقال في موضع آخر، في تخريج هذا الحديث بإسناد آخر، عن طريق آخر: «إسناده قوي، على شرط مسلم، وأخرجه ابن سعد، وابن أبي شيبة، ويعقوب بن سفيان، وابن حبان، والطبراني، والحاكم ...» [٢].

وقال الشيخ شعيب الأرناءوط في تخريج (اللهمّ فقهه في الدين وعلمه التأويل)

في تحقيقه لكتاب «شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العز:

أخرجه بهذا اللفظ: أحمد، والطبراني في الكبير والصغير، والبخاري ومسلم دون «وعلمه التأويل»، والترمذي، وابن ماجة بزيادة «وتأويل الكتاب»، والبغوي، والبزار بلفظ «اللهم علمه تأويل القرآن») [٣].

(١) مسند أحمد: ٤/ ٢٢٥ - ٢٢٦ حاشية رقم (٣) .

(٢) المرجع السابق: ٥/ ١٦٠.

(٣) شرح العقيدة الطحاوية: بتحقيق الأرناءوط والتركي: ١/ ٢٥٤ - ٢٢٥. حاشية.

والخلاصة الحديثية أنّ

دعاء الرسول صلّى الله عليه وسلم لابن عباس بقوله: (اللهم فقّه في الدين، وعلّمه التأويل)

ورد في حديث صحيح، إسناده قوي، على شرط مسلم.

وعند ما ننظر في هذا الدعاء، فإننا نري الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد جمع بين الفقه في الدين وتعلّم التأويل، وعطف علم تأويل القرآن على الفقه في الدين.

إنّ قوله: وعلمه التأويل» أو «علّمه تأويل القرآن» يدلّ على أنّ التأويل علم مستقل قائم بذاته، وأنّ التأويل يحصّله الانسان بالتعلم والتحصيل والاكتساب، إضافة إلي ما وهبه الله من ملكة وموهبة وفطنة.

والتأويل المذكور هنا هو المعنى الثاني الذي تحدثنا عنه أثناء وقفتنا مع آية المحكم والمتشابه في سورة آل عمران، وهو الفهم والفقه والتفسير والبيان.

لقد علم الله ابن عباس رضي الله عنهما تأويل القرآن، ففهم معاني القرآن، وأوّل آياته.

وندعو إلي ملاحظة تحقق معنى التأويل في فقه اللغة - الذي سبق أن قرّرناه - على علم ابن عباس بتأويل القرآن.

فإذا كان أساس اشتقاق ومعنى التأويل هو الردّ والحمل والإرجاع والإحالة، وبيان المرجع والمآل والعاقبة والنهاية، فإنّ تأويل ابن عباس للقرآن بالمعنى العلمي، الذي أتقنه وفقهه، يبدو فيه المعنى الأصلي ظاهرا.

فعند ما كان ابن عباس يؤوّل آية من القرآن، فإنما كان يحملها على المعلومات التفسيرية الصحيحة من أحاديث وأسباب نزول ولغة العرب، ويعيدها إليها، وينظر في الآية التي يؤوّلها على ضوء هذه المعلومات التي بين يديه، فيكون تأويله لهذه الآية صائبا، وفهمه لها صحيحا، واستنباطه منها دقيقا، وهو بهذا التأويل يقدم حقيقة معنى الآية، ويقرر مآلها وعاقبتها العلمية التي تريد تقريرها.

وبهذا نري الجمع بين المعنى العلمي للتأويل والمعنى العملي الواقعي له، ونري تحقق معناه الأصلي اللغوي في هذين النوعين من استعماله:

الاستعمال العلمي الذي استعمله فيه ابن عباس، والاستعمال العملي الذي ورد في نصوص أخري، سبق أن أوردناها.

وعلى ضوء هذا نفهم كلام ابن عباس رضي الله عنهما، الذي أورده له الامام الطبري في مقدمة تفسيره: قال ابن عباس: التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله» [١].

(١) تفسير الطبري بتحقيق محمود شاكر: ١/ ٧٥.

الفصل الرابع الفرق بين التفسير والتأويل

الفرق بين التفسير والتأويل

نذكّر بما سبق أن عرضناه، من معنى التفسير والتأويل.

فالتفسير هو: الكشف والبيان والظهور.

والتأويل هو: الردّ والإرجاع وبيان العاقبة والمآل.

ونذكر بما سبق أن قررناه من أنّ التأويل له معنيان:

التأويل العملي: وهو المذكور في القرآن وغالب الأحاديث النبوية، وهو ردّ النصوص والأشياء إلي غايتها المرادة منها. وتحقيقها فعلا في عالم الواقع، وتحديد وعاقبتها ونهايتها، وبيان ما تؤول إليه.

والتأويل العلمي: وهو حسن فهم النصوص التي فيها غموض أو إبهام، أو شبهة أو إشكال، وذلك بردّها إلي نصوص أخرى واضحة محددة، وحملها عليها، وفهمها على ضوئها، وإزالة غموض أو إشكال تلك النصوص. وإنفاذ النظر المتدبر في تلك النصوص، واستخراج ما فيها من لطائف ودلالات.

وكلامنا هنا ليس عن التأويل العملي، وإنما عن التأويل العلمي، فهو الذي يوضع مقابل التفسير، عند ما يستعمل المصطلحان في فهم القرآن.

تفسير آيات القرآن هو: فهمهما وبيان معانيها وإظهار دلالاتها.

وتأويل آيات القرآن هو: إزالة ما فيها من غموض أو إشكال.

وفهمهما فهما صائبا، وتأويلها تأويلا صحيحا، واستنباط لطائفها ودلالاتها، واستخراج حقائقها وإشاراتها.

أشهر الأقوال في الفرق بين التفسير والتأويل

اختلف العلماء في بيان الفروق بين التفسير والتأويل، وتعددت أقوالهم في ذلك وتضاربت.

وسنذكر أهمّ هذه الأقوال، ثم نتبعها بما نراه راجحا إن شاء الله.

أورد الدكتور محمد حسين الذهبي رحمه الله في مقدمة «التفسير والمفسرون».

سبعة أقوال في الفرق بينهما [١].

١ - التفسير والتأويل: مصطلحان مترادفان بمعنى واحد، فلا فرق بينهما، ومعناهما بيان القرآن وشرح آياته وفهمها.

وهذا قول أبي عبيدة معمر بن المثني ومن معه.

وهذا قول مرجوح لأن التفسير والتأويل مصطلحان قرآنيان، فلا بد من ملاحظة الفروق بينهما، فلا ترادف في كلمات القرآن، ولن نجد فيه كلمتين بمعنى واحد، قد يكون بينهما تقارب شديد في المعني، بحيث تخفي الفروق بينهما على كثير من الناس، لكنّ المتدبرين يقفون على فروق دقيقة خفية بينها.

٢ - التفسير: بيان معاني القرآن من باب الجزم والقطع، وذلك لوجود دليل لدي المفسر، يعتمد عليه في الجزم والقطع.

والتأويل: بيان معاني القرآن من باب الاحتمال وغلبة الظن والترجيح، لعدم وجود دليل لدي المؤول يعتمد عليه في الجزم والقطع.

وهذا قول أبي منصور الماتريدي.

٣ - التفسير: بيان معاني الألفاظ القرآنية الظاهرة، التي وضعت لها في اللغة. كتفسير الصراط بالطريق، والصيّب بالمطر.

(١) انظر التفسير والمفسرون للذهبي: ١/ ١٩ - ٢٢.

والتأويل: بيان باطن الألفاظ القرآنية، والإخبار عن حقيقة المراد بها.

والمثال على هذا الفرق قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [١] فهذه الآية لها تفسير وتأويل.

تفسيرها: أن المرصاد من الرصد والمراقبة. أي: إن الله مطلع على كل ما يعمل الظالمون، يراها ويعلمها ويرصدها، ويسجلها عليهم ليحاسبهم عليها.

وتأويلها: تحذر الآية من التهاون بأمر الله، والغفلة عن الأهبة والاستعداد للعرض عليه يوم القيامة.

وهذا قول أبي طالب التغلبي.

٤ - التفسير هو: فهم الآيات على ظاهرها، بدون صرف لها عنه.

والتأويل هو: صرف الآيات عن ظاهرها إلي معنى آخر، تحتمله الآيات، ولا يخالف الكتاب والسنة، وذلك عن طريق الاستنباط.

وهو قول البغوي والكواشي.

٥ - التفسير: هو الاقتصار على الاتباع والسماع والرواية، والاكتفاء بما ورد من مأثور في معاني الآيات.

والتأويل: استنباط المعاني والدلالات من الآيات، عن طريق الدراية والتدبر وإعمال الفكر والنظر.

وهذا قول أبي نصر القشيري، وهو الذي رجّحه الدكتور الذهبي [٢].

٦ - التفسير هو: بيان المعاني القريبة التي تؤخذ من الآيات، من كلماتها وجملها وتراكيبها، عن طريق الوضع واللغة.

والتأويل هو: بيان المعاني البعيدة التي تلحظ من الآيات، وتوحي بها

(١) سورة الفجر: ١٤.

(٢) انظر التفسير والمفسرون: ١/ ٢٢.

كلماتها وجملها وتراكيبها عن طريق الإشارة واللطيفة والإيحاء.

ومال إلي هذا القول الآلوسي في تفسيره «روح المعاني».

أما إيراد الذهبي لرأي الراغب الأصفهاني في التفسير والتأويل فسنأخذه من مقدمة تفسيره «جامع التفاسير» بعد قليل إن شاء الله.

ومما عرضه الإمام السيوطي في «الاتقان في علوم القرآن» من الفروق بين التفسير والتأويل- إضافة إلي ما ذكرناه سابقا:

٧ - التفسير: أكثر استعماله في الألفاظ والمفردات.

والتأويل: أكثر استعماله في المعاني والجمل.

٨ - التفسير: بيان ألفاظ القرآن التي لا تحتمل إلا معنى واحدا.

والتأويل: توجيه لألفاظ القرآن التي تحتمل عدة معان، إلي معنى واحد، اعتمادا على الأدلة في ذلك [١].

وهذه الأقوال متقاربة كما سنبين بعد قليل إن شاء الله.

الفرق بينهما عند الراغب وأبي البقاء وفرحات:

يطيب لي أن أسجل آراء ثلاثة علماء: قديم ومتأخر ومعاصر، في بيان الفرق بين التفسير والتأويل، ثم أورد بعد ذلك رأيي في المسألة.

الأول: هو الإمام الراغب الأصفهاني، حيث يقول في مقدمة تفسيره «جامع التفاسير».

التفسير أعمّ من التأويل.

وأكثر ما يستعمل التفسير في الألفاظ. والتأويل في المعاني. كتأويل الرؤيا.

(١) انظر «الاتقان» للسيوطي بتحقيق الدكتور مصطفي البغا: ٢/ ١١٨٩ - ١١٩١

والتأويل: يستعمل أكثره في الكتب الإلهية. والتفسير يستعمل فيها وفي غيرها.

والتفسير: أكثره يستعمل في مفردات الألفاظ. والتأويل: يستعمل أكثره في الجمل.

فالتفسير:

أ- إما أن يستعمل في غريب الألفاظ نحو: «البحيرة» و «السائبة» و «الوصيلة».

ب- أو في وجيز يبيّن ويشرح، كقوله تعالى: وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ [١].

ج- وإما في كلام مضمّن بقصة، لا يمكن تصوّره إلا بمعرفتها نحو قوله: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ [٢].

وقوله: ولَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها [٣].

وأما التأويل:

أ: فإنه يستعمل مرة عاما، ومرة خاصا، مثل «الكفر» و «الإيمان».

فالكفر يستعمل تارة في الجحود المطلق، ويستعمل تارة في جحود الباري خاصة. والإيمان يستعمل تارة في التصديق المطلق، ويستعمل في تصديق دين الحق خاصة.

ب: ويستعمل في لفظ مشترك بين معان مختلفة. مثل لفظ «وجد» فإنه يستعمل في الجدة والجديد، ويستعمل في الوجود، ويستعمل في الوجود.

(١) سورة البقرة: ٤٣.

(٢) سورة التوبة: ٣٧.

(٣) سورة البقرة: ١٨٩.

والتأويل نوعان: مستكره ومنقاد.

فالمستكره هو: ما يستبشع إذا سبر بالحجة، ويستقبح بالتدليسات المزخرفة.

وهو على أضرب أربعة:

الأول: أن يكون لفظ عام، فيخصّص في بعض ما يدخل تحته، نحو قوله تعالى: وإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وجِبْرِيلُ وصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ [١].

حمل بعضهم «صالح المؤمنين» على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقط.

الثاني: أن يلفّق بين اثنين. نحو قول من زعم أنّ الحيوانات كلها مكلفة، محتجا بقوله تعالى: وإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [٢]. وقد قال تعالى: وما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ ولا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ [٣] فاستدلّ بعضهم بقوله: إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ على أن الحيوانات مكلفة كما أننا مكلفون.

الثالث: ما استعين فيه بخبر مزور، أو كالمزوّر. كقوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ [٤] قال بعضهم: عنى بالساق: الرجل الجارحة، مستدلا بحديث موضوع، الرابع: ما يستعان به باستعارات واشتقاقات بعيدة.

كما قال بعض الناس: البقر: هو إنسان يبقر عن أسرار العلوم.

والهدهد: هو إنسان موصوف بجودة البحث والتنقير.

(١) سورة التحريم: ٤.

(٢) سورة فاطر: ٣٤.

(٣) سورة الأنعام: ٣٨.

(٤) سورة القلم: ٤٢.

فالضرب الأول: أكثر ما يروج على المتفقهة، الذين لم يقووا في معرفة الخاص والعام.

والضرب الثاني: أكثر ما يروج على المتكلم، الذي لم يقو في معرفة شرائط النظم.

والضرب الثالث: أكثر ما يروج على صاحب الحديث، الذي لم يتهذب في شرائط قبول الأخبار.

والضرب الربع: أكثر ما يروج على الأديب، الذي لم يتهذب بشرائط الاستعارات والاشتقاقات.

والمنقاد من التأويل: هو ما لا يعرض فيه البشاعة المتقدمة.

وقد يقع الخلاف فيه بين الراسخين في العلم، لإحدي جهات ثلاثة:

الأولي: الاشتراك في اللفظ، نحو قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [١] فهل الْأَبْصارُ من بصر العين، أو بصر القلب؟

الثانية: أمر راجع إلي النظم. نحو قوله تعالى: وأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [٢] أو مردود إليه وإلي المعطوف عليه معا:

وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً، وأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ.

الثالثة: لغموض المعني، ووجازة اللفظ، نحو قوله تعالى: وإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [٣].

والوجوه التي يعتبر بها تحقيق أمثالها، وتقود إلي ترجيح المناسب من

(١) سورة الأنعام: ١٠٣.

(٢) سورة النور: ٤ - ٥.

(٣) سورة البقرة: ٢٢٧.

الأقوال المختلفة في التأويل، أن ينظر في المختلف فيه:

١ - فإن كان المختلف فيه أمرا، أو نهيا عقليا، فزع في كشفه إلي الأدلة العقلية، وقد حثّ الله على ذلك في قوله: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ، لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ، ولِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ [١].

٢ - وإن كان المختلف فيه أمرا شرعيا، فزع في كشفه إلي آية محكمة، أو سنة مبيّنة.

٣ - وإن كان من الأخبار الاعتقادية، فزع فيه إلي الحجج العقلية.

٤ - وإن كان من الأخبار الاعتبارية، فزع فيه إلي الأخبار الصحيحة، المشروحة في القصص [٢].

الثاني: هو الإمام أبو البقاء الكوفي.

قال في كتابه القيم «الكليات» عن التفسير والتأويل:

«التفسير والتأويل: قيل هما واحد، وهو كشف المراد عن المشكل.

وقيل: التأويل: بيان أحد محتملات اللفظ.

والتفسير: بيان مراد المتكلم.

وقيل: التأويل: ما يتعلق بالدراية.

والتفسير: ما يتعلق بالرواية.

وعند الراغب الأصفهاني: التفسير أعمّ من التأويل. وأكثر استعمال التفسير في الألفاظ ومفرداتها، وأكثر استعمال التأويل في المعاني والجمل. وأكثر استعمال التأويل في الكتب الإلهية، والتفسير يستعمل فيها وفي غيرها.

وقال أبو منصور الماتريدي: التفسير: القطع على أنّ المراد من اللفظ

(١) سورة ص: ٢٩.

(٢) مقدمة «جامع التفسير» للإمام الراغب الأصفهاني بتحقيق أستاذنا الدكتور أحمد فرحات: ٤٧ - ٥١ بتصرف يسير للتوضيح.

هذا، والشهادة على الله أنه عنى باللفظ هذا، فإن قال دليل مقطوع به فصحيح وإلا فتفسير بالرأي، وهو المنهيّ عنه. والتأويل ترجيح أحد المحتملات بدون القطع والشهادة على الله.

وكلام الصوفية في القرآن ليس بتفسير.

وفي «عقائد النسفي»: النصوص على ظاهرها: والعدول عنها إلي معان يدّعيها أهل الباطن إلحاد.

وفي معنى الظهر والبطن وجوه: أشبهها بالصواب ما قاله أبو عبيد، وهو أنّ القصص التي قصّها الله عن الأمم الماضية وما عاقبهم به، ظاهرها الإخبار بهلاك الأولين، وباطنها وعظ الآخرين، وتحذير لهم، لا يفعلوا فعلهم، كي لا يحلّ به مثل ما حلّ بالأولين.

وفي تفسير أبي حيان: كتاب الله جاء بلسان عربي مبين، لا رمز فيه ولا لغز ولا باطن، ولا إيماء بشيء مما ينتحله الفلاسفة وأهل الطبائع.

وأما ما يذهب إليه بعض المحققين من أنّ النصوص على ظواهرها، ومع ذلك فيها إشارات خفية إلي دقائق تنكشف على أرباب السلوك، يمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة، فهذا من كمال الإيمان، ومحض العرفان.

وتفسير القرآن: هو المنقول عن الصحابة. وتأويله: ما يستخرج منه بحسب القواعد العربية.

فلو قلنا في قوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، ومُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ [١]: أريد به إخراج الطير من البيضة كان تفسيرا، ولو قلنا: أريد به إخراج المؤمن من الكافر، والعالم من الجاهل، كان تأويلا» [٢].

الثالث: هو أستاذنا الدكتور أحمد حسن فرحات.

فبعد أن سجل أهمّ الأقوال في الفرق بين التفسير والتأويل، قال:

(١) سورة الأنعام: ٩٥.

(٢) الكليات لأبي البقاء: ٢٦١ - ٢٦٢.

«والذي نميل إليه: أن التفسير فيه معنى الكشف والبيان والتفصيل.

وأنّ التأويل فيه معنى الرجوع والردّ والصرف والسياسة.

وبناء على ذلك نري أنه لا تعارض بين الأقوال، وأن كلّا من هذه الأقوال يعبّر عن نوع من الأنواع، التي تنطوي تحت التفسير أو التأويل.

فالذي قال: إنّ التفسير هو القطع على أنّ المراد من اللفظ هذا، إنما نظر إلي نوع من التفسير، وهو الذي يعتمد على دليل قطعي، من قرآن أو سنة أو إجماع، وهذه ولا شك إحدي الحالات التي تواجه المفسر.

ومثله الذي قال: التفسير هو بيان مراد المتكلم، أو هو ما يتعلق بالرواية، أو هو بيان موضوع اللفظ.

يلاحظ بأنّ التفسير في كلّ هذه الأقوال فيه معنى الكشف والبيان.

والذي يقول: إن التأويل: هو ترجيح أحد محتملات اللفظ، بدون القطع والشهادة على الله، أو هو ما يتعلق بالدراية، أو هو صرف الآية إلي معنى تحتمله، أو هو المعنى غير المتبادر ...

ويلاحظ أنّ كلّ ما ذكر من أنواع وأمثلة، تدخل تحت التأويل، وتحتاج إلي تدبر الكلام، وتقليبه على الوجوه المحتملة، وقد تصرفه عن ظاهره لدليل، وقد تقبل ظاهر الكلام المتبادر مع القول بمعنى آخر غير متبادر. إذ لا تعارض بينهما.

وبناء على هذا: يرجع الاختلاف بين العلماء في هذا إلي اختلاف التنوّع، لا اختلاف التضادّ.

حيث عبّر كلّ واحد منهم عن نوع من أنواع التفسير، أو نوع من أنواع التأويل» [١].

(١) التعريف بالقرآن الكريم- على الآلة الكاتبة- لأستاذنا الدكتور أحمد فرحات: ١١١.

الراجح في الفرق بين التفسير والتأويل

لا ننسي أنّ أساس معنى التفسير هو الكشف والبيان والظهور والوضوح.

وأنّ أساس معنى التأويل هو الردّ والرجوع والعود والحمل، وتحديد العاقبة والمآل والغاية والنهاية.

ولا ننسي كلام الإمام الراغب الأصفهاني عن التأويل: «هو ردّ الشيء إلي الغاية المرادة منه علما أو عملا».

إننا مع أستاذنا الدكتور أحمد فرحات في أنه يمكن الجمع بين معظم الأقوال السابقة في بيان الفرق بين التفسير والتأويل، وأنّ الاختلاف في معظمها اختلاف تنوع، لا اختلاف تضادّ.

وننتقل بعد هذا الملاحظة إلي خطوة أخرى في الفرق بين التفسير والتأويل.

إننا نري أنّ فهم القرآن وفقه معانيه واستخراج دلالاته، لا بدّ أن يكون على مرحلتين متدرجتين:

المرحلة الأولي: تفسير القرآن.

المرحلة الثانية: تأويل القرآن.

كلّ ناظر في القرآن، متدبر في آياته، لا بدّ أن يطلع على تفسير القرآن أولا، ويعلم تفسيره من المصادر التفسيرية.

ثم يقوم بعد ذلك بتأويل القرآن، وملاحظة لطائفة، وتسجيل حقائقه، واستخراج دلالاته.

إننا نري أنّ تفسير القرآن لا بدّ أن يسبق تأويله، حتى يكون التأويل صوابا صحيحا. إن أيّ تأويل للقرآن بدون تفسير له، هو تأويل بالرأي غير المعتمد على العلم، وهو مذموم ومنهي عنه.

بناء على هذا التفريق المرحليّ بين التفسير والتأويل، يمكننا أن نجمع بين

أقوال عديدة، سبق أن أوردناها في التفسير والتأويل.

المرحلة الأولي تفسير القرآن

نري المفسر فيها يفسر ألفاظ وكلمات القرآن، ويعتمد في تفسيره على الرواية والمأثور، ويورد في تفسير الآية ما في معناها من آيات أخري، ومن أحاديث نبوية صحيحة، ومن أقوال صحابة وتابعين، ومن أسباب نزول، وتفسير غريب، وناسخ ومنسوخ، وتوجيه قراءات، وشواهد أشعار. وهو في عمله هذا يفسر ظاهر الآية، ويورد المعنى القريب المتبادر منها، ونظرا لما عنده من نصوص يورد تفسير الآية من باب الجزم والقطع.

هذا كلّه تشمله المرحلة الأولي، التي هي البداية لفهم القرآن، والتي أسميناها «تفسير القرآن».

ونلاحظ توفّر المعنى اللغويّ الاشتقاقي للتفسير في هذه المرحلة، فالمفسر في عمله يبين معنى الآية ويشرحه ويظهره، ويفسره ويكشف عنه.

واعتماد المفسّر في هذه المرحلة على المعلومات التفسيرية العلمية الصحيحة، وعلى آراء من سبقوه من علماء التفسير، وجهده فيها في المعرفة والاطلاع، بهدف تكوين حصيلة علمية، تؤهله للانتقال للمرحلة الثانية، وتعينه على حسن تأويل القرآن.

المرحلة الثانية تأويل القرآن

ينتقل إليها المفسر ليكون مؤوّلا للقرآن، وينظر في القرآن على ضوء معلوماته التفسيرية التي حصّلها في المرحلة الأولي.

إنّ المؤوّل في هذه المرحلة: يمعن النظر في الجمل والتراكيب والآيات، ويعتمد في نظره على تدبره وإعمال عقله، وتقليب وجوه الرأي والنظر، وتنفذ نظراته إلي باطن الآية، ويلتفت إلي لطائفها وإشاراتها وإيحاءاتها، ويستخرج حقائقها ودلالاتها، ويلحظ المعنى البعيد غير المتبادر للذهن، وغير الظاهر من الآية، ويسجل التوجيه والرمز والومضة التي تشرق بها

الآية، ويقف على غرضها ومقصودها، ويزيل ما عليها من لبس أو اشتباه، ويحلّ ما تثيره من غموض أو إشكال.

عمل المؤوّل في المرحلة الثانية عمل ذاتي، وليس اعتمادا على من سبقه كما فعل في المرحلة الأولي، ونتاجه في هذه المرحلة نتاج شخصي، وتأويلاته التي يقدمها هي ثمرة تدبّره للقرآن، ونظره فيه، وشخصيته في هذه المرحلة بارزة واضحة، وجهده الذاتي فيه ملحوظ، ورأيه مسجّل معتبر.

وكما لاحظنا توفّر معنى التفسير اللغوي الاشتقاقي في المرحلة الأولي، فإننا نري توفّر معنى التأويل اللغوي الاشتقاقي في هذه المرحلة.

إنّ التأويل هو الردّ والرجوع، والمؤوّل هنا يحقّق معناه، فعند ما يقدم تأويلاته لا بدّ أن يردّها إلي معلوماته التفسيرية، ويرجع بها إليها، فإن تعارضت تأويلاته مع النصوص التفسيرية ألغاها وتخلي عنها، لأنّها تأويلات باطلة خاطئة.

إن المؤوّل يصحح لنفسه بعد ما يؤول، ويصوّب تأويله على هدي تفسيره، وينظر في تأويله على ضوء تفسيره، ويعيد تأويله إلي تفسيره، ويرده إليه، ويرجع به عليه.

أي: يحاكم المؤوّل المرحلة الثانية «التأويل» إلي المرحلة الأولي «التفسير»، ويردّ التأويل إلي التفسير، ويفهم التأويل على ضوء التفسير.

وجوب تحقق التفسير والتأويل معا

يجب على كلّ ناظر في القرآن متدبر له، أن يحقق المرحلتين في تعامله مع القرآن، ومحاولة فهمه.

إذا أعمل رأيه في الآيات، وحاول استخراج معانيها، وتأويل حقائقها دون دراسة تفسيرية في التفاسير المأمونة الموثوقة، فإنه سيخطيء في نظره

ورأيه وتدبره وتأويله، وهذا هو التأويل بالرأي غير المستند إلي العلم، وهو مذموم وباطل.

إنه في هذه الحالة لم يسلك الطريق الصحيح لحسن فهم القرآن، بل تخطي المرحلة الأولي وتجاوزها ولم يتوقف عندها، وقفز قفزة خاطئة إلي المرحلة الثانية، اعتداد بعقله غير الناضج تفسيريا، وإعمالا لرأيه غير المصوغ صياغة تفسيرية علمية.

وما أكثر هؤلاء الذين يهجمون على تأويل القرآن بهذه الصفة، في هذا الزمان، الذين يقفزون للمرحلة الثانية قفزا واسعا في الفراغ! فيفهمون آيات القرآن فهما خاطئا، قائما على المزاجية والهوى، ويقوّلون هذه الآيات ما لم تقله، ويستشهدون بها على ما لا تشهد عليه، ويستخرجون منها ما لا تدلّ عليه، ويؤوّلونها تأويلا باطلا مردودا مستكرها! كذلك لا نري أن يقف الناظر في القرآن عند المرحلة الأولي، وأن يبقي ضمن دائرة تفسير القرآن- على المعنى الذي قررناه- وأن يكتفي بترديد ما وقف عليه في تفسير الآيات من أقوال مأثورة، وأحاديث صحيحة، وروايات في النزول والنسخ والغريب، وأن يكررها وأن ينقلها من تفاسير السابقين إلي تفسيره.

لا نريد للمفسر أن يكون مجرد ناقل لكلام السابقين، ورواية لآرائهم.

وإن كان هناك بعض المفسرين كانوا هكذا، وكتبوا تفاسيرهم هكذا، واكتفوا فيها بتكرار الأقوال السابقة التي أوردها السابقون.

أين جهد المفسر الذاتي؟ وأين شخصيته المستقلة؟ وأين اختياراته.

وترجيحاته؟ وأين تأويلاته واستنتاجاته؟ أين تدبره هو، ونظره هو في القرآن؟

إنّ انتقال الناظر في القرآن من مرحلة المفسر إلي مرحلة المؤوّل ضروري، وإن استخراج الدلالات واللطائف والحقائق من القرآن مطلوب، وإن بناء

التأويل على التفسير واجب.

وإننا نعلم أن بعض الناظرين في القرآن لا يستطيع الانتقال إلي المرحلة الثانية، فيبقي «يراوح» مكانه في المرحلة الأولي. إنه غير مؤهّل ليكون مؤولا، ولا يملك من عمق النظر وإعمال الفكر ما يعينه ليكون مؤوّلا.

إن التأويل «فتوحات» من الله، و «فيوضات» منه، ومواهب يهبها سبحانه لمن يشاء، ونعم ينعم بها علم من يشاء.

ويتفاوت المؤوّلون في تأويلاتهم، في عمقها وجدّتها وأصالتها وفاعليتها وتأثيرها. وكأنّ المؤوّلين صيادون يريدون اصطياد اللطائف، واقتناص الإشارات والومضات والإيحاءات! هناك صياد يصطاد الصيد القريب، وهناك صياد ينجح في اصطياد السريع الخفي البعيد، وهناك من يصطاد صيدا صغيرا، وهناك من يقتنص الصيد الثمين الغني الوفير.

وهكذا المؤولون في تأويلاتهم للقرآن، والمهمّ هو أن يردّوا هذه التأويلات إلي التفاسير السابقة، وأن يرجعوا بها إليها، وأن يصحّحوها على أساسها.

وهذا يقودنا إلي التذكير بحقيقة: إذا كان التفسير والتأويل مرحلتين متعاقبتين، وإذا كان بعض المفسّرين بقي مع المرحلة الأولي، فإن كلّ مؤول مفسّر، وليس كل مفسّر مؤوّلا.

فلا بد للمؤوّل من أن يكون مفسّرا أولا ليصحّ تأويله، ولكن المفسّر قد لا يتمكن من الارتقاء إلي مستوي التأويل!!.

الدليل على هذه المرحلية:

قلنا إنهما مرحلتان في فهم القرآن: تفسيره أوّلا، ثم تأويله بعد ذلك، وأنه لا يجوز التأويل قبل التمكن من التفسير، وأن كلّ مؤول مفسر، وليس كل مفسر مؤولا.

والدليل على هذه المرحلية، هو تفاوت الصحابة في فهم معاني القرآن، فمنهم من كان يكتفي بالوقوف مع ظاهر الآيات، ويقدم معناها القريب المتبادر، ومنهم من كان يعمق التدبر فيها، ويدرك إشاراتها وإيحاءاتها، ويقدم المعنى البعيد اللطيف الرشيق غير المتبادر.

في مقدمة هؤلاء عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، الذي

دعا له الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائلا: «اللهمّ فقّهه في الدين، وعلمه التأويل».

وكان ابن عباس رضي الله عنهما من أعلم الصحابة بتفسير القرآن وتأويله، ولهذا حاز لقب «ترجمان القرآن».

ما كل اصحابة كانوا مؤوّلين للقرآن، وإن كانوا مفسّرين له، أما ابن عباس فقد كان مفسّرا مؤوّلا، رضي الله عنه.

روي الإمام البخاري في كتاب التفسير من صحيحه عن سعيد بن جبير، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: «كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه، فقال: لم تدخل هذا معنا، ولنا أبناء مثله؟

فقال عمر: إنه من علمتم.

فدعاه ذات يوم، فأدخله معهم.

فما رئيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم.

قال: ما تقولون في قول الله: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ والْفَتْحُ؟

فقال بعضهم: أمرنا نحمد الله ونستغفره، إذا نصرنا وفتح علينا.

وسكت بعضهم، فلم يقل شيئا.

فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس؟

فقلت: لا.

قال: فما تقول؟

قلت: هو أجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أعلمه له، فقال له: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ والْفَتْحُ، وذلك علامة أجلك، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واسْتَغْفِرْهُ، إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً.

قال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول» [١].

لقد أجري عمر بن الخطاب رضي الله عنه امتحانا لابن عباس وبعض الصحابة، في فهمهم لسورة النصر، فالصحابة كانوا مفسّرين لها، لكنّ ابن عباس كان مؤوّلا لها.

أخبر ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر كان يقدّمه، ويدخله مع أشياخ بدر، مع أنه شاب، وهؤلاء شيوخ، وتقديم عمر له لما لاحظه من فطنته وذكائه وبعد نظره ورجاحة عقله.

ولما لاحظ العباس اهتمام عمر بابنه عبد الله رضي الله عنهم، أوصاه قائلا: يا بنيّ: إن عمر يدنيك، فلا تفشينّ له سرّا، ولا تغتابن عنده أحدا، ولا يسمع منك كذبا، ولا تبتدئه بشيء حتى يسألك عنه.

ولما رأي بعض أشياخ بدر إشراك عمر لابن عباس معهم، وجدوا ذلك في نفوسهم، فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لعمر: لم تدخل هذا معنا، ولنا أبناء مثله؟

فأجابه عمر قائلا: إنه من قد علمتم.

(١) صحيح البخاري: ٦٥ كتاب التفسير: ٤ باب قوله فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ.

حديث رقم: ٤٩٧٠.

وهذه إشارة من عمر إلي فطنة ابن عباس وذكائه وعلمه ومعرفته.

وفي رواية ثانية أنّ بعض المهاجرين قالوا لعمر: ألا تدعو أبناءنا كما تدعو ابن عباس؟

فقال لهم عمر: ذاك فتي الكهول، وإن له لسانا سئولا، وقلبا عقولا.

وأراد عمر أن يبين لهؤلاء الصحابة علم ابن عباس وفطنته، فدعاهم ودعاه يوما.

وفهم ابن عباس قصد عمر من الدعوة، ولهذا قال: فما رئيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم.

وفي رواية أخري: أن عمر قال لهم: سأريكم اليوم منه، ما تعرفون به فضله! ولما اجتمعوا عند عمر، طلب منهم تفسير سورة النصر: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ والْفَتْحُ، ورَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واسْتَغْفِرْهُ، إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً.

لقد نظروا في آيات السورة نظرة ظاهرية، ولاحظوا المعنى القريب المتبادر منها: عند ما يأتي الله بنصره، ويفتح البلدان أمام الاسلام، فعلى الرسول عليه الصلاة والسلام أن يسبح الله، وأن يحمده، وأن يستغفره، والله تواب يتوب على عباده.

هل كلامهم هذا خطأ أم صواب؟

لقد كان صوابا، فهذا هو معنى السورة، وهذا ما تأمر به.

لكن هؤلاء الصحابة كانوا مفسّرين للسورة، فسّروا كلماتها تفسيرا ظاهريا قريبا، وكان تفسيرهم لها صحيحا، لكنه مجرد تفسير.

أما ابن عباس فقد كان يعرف من السورة ما قالوه، ويعرف أنّ هذا هو ظاهرها، ولكنه تجاوز هذا الظاهر، وانتقل من تفسيرها القريب إلي

خطوة أخرى أرفع وأسمي وأبعد، وقدّم تأويلا للسورة تأويلا مستنبطا من موضوعها وهدفها وسياقها.

إن الله أعلم رسوله صلّى الله عليه وسلّم بقرب دنوّ أجله، إن النصر والفتح علامة على قرب الأجل، فعليه الإكثار من حمد الله وتسبيحه واستغفاره، استعدادا للارتحال عن هذه الدنيا ومغادرتها.

وقال ابن عباس في رواية أخري: لما نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ والْفَتْحُ نعيت إلي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نفسه، فأخذ بأشدّ ما كان قط، اجتهادا في أمر الآخرة.

ولقد كان ابن عباس موفّقا في هذا التأويل للسورة، وفي الالتفات لهذا المعنى الخفي البعيد الذي توحي به، وقد أشاد عمر بفهمه، ووافقه عليه، وقال له: ما أعلم منها إلا ما تقول.

ثم توجّه عمر للصحابة الجالسين فقال لهم: كيف تلومونني على حبّ ما ترون؟

قال الامام ابن حجر بعد شرحه للحديث: «فيه جواز تحديث المرء عن نفسه بمثل هذا، لإظهار نعمة الله عليه، وإعلام من لا يعرف قدره لينزل منزلته، وغير ذلك من المقاصد الصالحة، لا للمفاخرة والمباهاة، وفيه جواز تأويل القرآن بما يفهم من الإشارات، وإنما يتمكن من ذلك من رسخت قدمه في العلم» [١].

تشير سورة النصر إلي ارتباط حياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم علي الأرض بهذا الدين، فهو رسول الله، ومهمته هي تبليغ الاسلام ونصرته وجهاد أعدائه، فإذا ما نصر الله دينه، ومنح المسلمين الفتح، فقد تحققت مهمة الرسول صلّى الله عليه وسلّم بنجاح كبير، وبذلك تنتهي حياته علي الأرض، المرتبطة بمهمته الدعوية الجهادية.

(١) انظر شرح ابن حجر للحديث في فتح الباري: ٨/ ٧٣٥ - ٧٣٦.

ولذلك توحي هذه السورة للرسول صلّى الله عليه وسلّم بقرب انتهاء أجله، وعليه بعد النصر والفتح الإكثار من التسبيح والتحميد والاستغفار، استعدادا للانتقال إلي الدار الآخرة.

هذا ما فهمه ابن عباس رضي الله عنهما من السورة، وهذا ما وافقه عليه عمر بن الخطاب، وبذلك كان ابن عباس مؤولا لها وليس مجرد مفسر، وكان تأويله مرحلة ثانية بعد التفسير الظاهري للسورة.

ألم يفهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم من السورة هذه الإشارة؟

روي الامام البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما صلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم صلاة، بعد أن نزلت عليه إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ والْفَتْحُ إلا يقول فيها: سبحانك ربّنا وبحمدك، اللهم اغفر لي» [١].

ثم كم عاش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد نزول هذه السورة؟

لقد نزلت عليه سورة النصر لما حجّ حجة الوداع. قال ابن عمر رضي الله عنهما: «نزلت هذه السورة في أوسط أيام التشريق في حجة الوداع، فعرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه الوداع» [٢].

وكانت وفاته صلّى الله عليه وسلّم بعد ثلاثة أشهر من نزول هذه السورة. حيث كانت وفاته يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة! ولابن عباس رضي الله عنهما موقف آخر مع عمر بحضور بعض الصحابة، قدّم فيه تأويلا لآية من القرآن، وليس مجرد تفسير لها.

روي الإمام البخاري في كتاب التفسير من صحيحه عن عبيد بن عمير

(١) صحيح البخاري: ٦٥ كتاب التفسير: ١١٠ باب: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ والْفَتْحُ.

حديث رقم: ٤٩٦٧.

(٢) فتح الباري: ٨/ ٧٣٦.

قال: قال عمر رضي الله عنه يوما لأصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فيم ترون هذه الآية نزلت؟ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، وأَصابَهُ الْكِبَرُ، ولَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ، فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ، كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [١].

فقالوا: الله أعلم! فغضب عمر وقال: قولوا نعلم، أو لا نعلم!! فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين! قال عمر: يا ابن أخي: قل ولا تحقر نفسك! قال ابن عباس: ضربت مثلا لعمل.

قال عمر: أيّ عمل؟

قال ابن عباس: لعمل.

قال عمر: لرجل غني، يعمل بطاعة الله عز وجل، ثم بعث الله له الشيطان، فعمل بالمعاصي حتى أغرق عمله» [٢].

وفي رواية ثانية أوردها ابن حجر في فتح الباري: «أنّ ابن عباس قال لعمر: ضربت مثلا لعمل.

فقال له عمر: أي عمل؟

قال ابن عباس: شيء ألقي في روعي. عنى بها العمل: ابن آدم أفقر ما يكون إلي جنته إذا كبر سنة وكثر عياله، وابن آدم أفقر ما يكون إلي عمله يوم يبعث!

(١) سورة البقرة: ٢٦٦.

(٢) صحيح البخاري: ٦٥ كتاب التفسير: ٤٧ باب: أيود أحدكم. حديث رقم: ٤٥٣٨.

فقال له عمر: صدقت يا ابن أخي» [١].

أما الإمام ابن جرير الطبري فقد أورد رواية أخرى لهذا الحديث.

فقد روي الطبريّ بإسناده عن عطاء قال: «سأل عمر الناس عن هذه الآية، فما وجد أحدا يشفيه.

حتي قال ابن عباس وهو خلفه: يا أمير المؤمنين: إني أجد في نفسي منها شيئا.

فتلفت عمر إليه، وقال له: تحول هاهنا. لم تحقر نفسك؟

قال ابن عباس: هذا مثل ضربه الله عز وجل. فقال: أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير وأهل السعادة، حتى إذا كان أحوج ما يكون إلي أن يختمه الله بخير، حين فني عمره، واقترب أجله ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء، فأفسده كلّه، فأحرقه وهو أحوج ما يكون إليه» [٢].

إن ابن عباس هنا كان مؤولا لهذه الآية، ملتفتا لمغزاها وهدفها.

ولهذا عقّب الإمام ابن حجر علي الحديث قائلا: «وفي الحديث قوة فهم ابن عباس، وقرب منزلته من عمر، وتقديمه له من صغره، وتحريض العالم تلميذه علي القول بحضرة من هو أسن منه، إذا عرف فيه الأهلية، لما فيه من تنشيطه وبسط نفسه وترغيبه في العلم».

مع فهم الطبري للتأويل

الإمام أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري، المتوفي سنة ثلاثمائة وعشر للهجرة، هو إمام المفسرين والمؤوّلين جميعا.

(١) فتح الباري: ٨/ ٢٠٢.

(٢) تفسير الطبري- طبعة دار الفكر: ٣/ ٧٥.

وتفسيره هو المرجع لكلّ ناظر في القرآن، أو مفسّر له، أو مؤول لآياته.

وللإمام الطبريّ فهم واضح للتفسير والتأويل، حيث يعتبرهما مصطلحين بمعنى واحد، فكأنهما مترادفان، يدلان علي شرح آيات القرآن، وبيان معانيها، والكشف عن موضوعاتها وحقائقها.

إن الإمام الطبريّ يستعمل التأويل بمعنى التفسير، ولهذا سمّي تفسيره «جامع البيان عن تأويل آي القرآن».

وكان عند ما يفسر الآية يقول: «القول في تأويل الآية». وعند ما يذكر أقوال العلماء في تفسير الآية يقول: «اختلف أهل التأويل في تأويل الآية».

فالتأويل في كلامه بمعنى التفسير.

ولهذا قال في خطبة تفسيره: «ونحن- في شرح تأويله، وبيان ما فيه من معانيه- منشئون إن شاء الله كتابا مستوعبا، لكلّ ما بالناس الحاجة إليه من علمه، جامعا، ومن سائر الكتب غيره في ذلك كافيا.» [١]

وقد عقد الإمام الطبريّ مبحثا في مقدمة تفسيره، جعل عنوانه: «القول في الوجوه التي من قبلها يوصل إلي معرفة تأويل القرآن»، وأراد من هذا المبحث بيان الوجوه التي يستطيع العلماء تأويل القرآن بها، وبيان أقسام القرآن من حيث التأويل.

إنّ الطبري يري أنّ القرآن من حيث التأويل ثلاثة أقسام، بدأها بقوله:

ونحن قائلون في البيان عن وجوه مطالب تأويله [٢].

(١) جامع البيان في تأويل آي القرآن للطبري بتحقيق محمود شاكر: ١/ ٦ - ٧.

(٢) المرجع السابق: ١/ ٧٣.

القسم الأول: لا يمكن لعالم تأويله إلا بالاطلاع علي تأويل الرسول صلّى الله عليه وسلّم له.

وقد أورد ثلاث آيات، تدلّ علي أنّ الله أوكل لرسوله صلّى الله عليه وسلّم مهمة بيان القرآن وتأويله، ثم قال: «إنّ مما أنزل الله علي نبيه صلّى الله عليه وسلّم، ما لا يوصل إلي علم تأويله إلا ببيان الرسول صلّى الله عليه وسلّم».

وذلك تأويل جميع ما فيه: من وجوه أمره ونهيه، ووظائف حقوقه وحدوده، ومبالغ فرائضه ... وما أشبه ذلك من أحكام آياته، التي لا يدرك علمها إلا بالبيان الذي قدّمه الرسول صلّى الله عليه وسلّم لأمته.

وهذا الوجه لا يجوز لأحد القول فيه، إلا ببيان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتأويله، وذلك بالاطلاع علي بيان الرسول عليه الصلاة والسلام.

القسم الثاني: تأويله خاصّ بالله الواحد القهار، ولا يعلمه أحد من الناس.

وهو ما في القرآن من الخبر عن آجال حادثة، وأوقات آتية، كوقت قيام الساعة، والنفخ في الصور، ونزول عيسي بن مريم، وما أشبه ذلك.

فإنّ تلك الأوقات لا يعلم أحد حدودها، ولا يعرف أحد من تأويلها إلا الخبر بأشراطها. لأن الله استأثر بالعلم بها، ولم يطلع عليها أحدا من خلقه.

قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ، أَيَّانَ مُرْساها، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي، لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ، ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ والْأَرْضِ، لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً، يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ، ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [١].

(١) سورة الأعراف: ١٨٧.

وكان نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم إذا ذكر شيئا من ذلك القسم، لم يدلّ عليه إلا بأشراطه، دون تحديده بوقته، فلما ذكر عليه الصلاة والسلام الدجال، لم يحدّد وقت خروجه، لعدم علمه بذلك الوقت، واكتفي بتحذير أصحابه قائلا: «إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم، فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي علي كل مسلم».

فهذا يدلّ علي أنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يكن عنده علم أوقات أشياء تحدث في المستقبل، بمقادير السنين والأيام، لأن هذا خاصّ بالله.

القسم الثالث: يعلم تأويله كلّ ذي علم باللسان العربي الذي أنزل الله به القرآن.

وذلك مثل: إقامة إعراب القرآن، ومعرفة المسميات المذكورة في القرآن بأسمائها اللازمة لها، والموصوفات بصفتها الخاصة بها، فإنّ ذلك لا يجهله أحد منهم.

فلو أنّ سامعا من العرب سمع قول الله تعالى: وإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ ولكِنْ لا يَشْعُرُونَ [١]. لم يجهل أنّ معنى الإفساد هو كلّ ما فيه مضرة، مما ينبغي تركه، ومعنى الصلاح هو كلّ ما فيه منفعة، مما ينبغي فعله، وإن جهل المعاني التي جعلها الله إفسادا، والمعاني التي جعلها الله إصلاحا.

فالذي يعلمه ذو اللسان العربي من تأويل القرآن هو ما وصفت، من معرفة أعيان المسميات بأسمائها اللازمة، والموصوفات بصفاتها الخاصة.

ولا يعلم الواجب من أحكام الآيات وصفاتها وهيآتها التي خصّ الله نبيّه بعلمها، فلا يدرك علمها إلا ببيانه عليه الصلاة والسلام.

(١) سورة البقرة: ١١ - ١٢.

كما لا يعلم تأويل ما استأثر الله بعلمه دون خلقه.

ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: التفسير علي أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها. وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله.

والوجه الرابع الذي ذكره ابن عباس، من أنّ أحدا لا يعذر بجهالته، هذا لا حاجة للبيان عن وجوه تأويله، لأنه لا يجوز لأحد الجهل بتأويله [١].

وخلاصة كلام ابن جرير الطبري أنه يقسم القرآن من حيث إمكانية تأويله وتفسيره أقساما ثلاثة:

القسم الأول: لا يعلم تأويله إلا الله، ومثّل له بتحديد أوقات ومقادير وسنوات وكيفيات أحداث قادمة ستقع عند قيام الساعة، وهذا هو التأويل العملي، الذي يلحظ مآل وعاقبة ونهاية تلك النصوص، ويركز علي حقيقتها المادية، وكيفيتها الفعلية.

القسم الثاني: هو الذي أوله وفسّره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهي آيات الأحكام، وما فيها من أوامر أو نواه، أو حدود وأركان وشروط، وذلك كأوقات الصلاة وركعاتها وأركانها وسننها.

ويوجب علي علماء التأويل الاطلاع علي ما بينه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والأخذ به، وعدم مخالفته.

القسم الثالث: وهو ما ترك تأويله وتفسيره لعلماء التأويل، حيث يقفون أمامه متدبرين ناظرين مفسّرين مؤوّلين، كإعراب القرآن وشرح بيانه وبلاغته، وشرح معانيه.

ولئن منع العلماء من الخوض في تأويل القسم الأول الخاصّ بالله،

(١) جامع البيان للطبري: ١/ ٧٣ - ٧٦ بتصرف واختصار.

ولئن ألزموا بالأخذ بتأويل الرسول صلّى الله عليه وسلّم للقسم الثاني وعدم مخالفته، فإنّ المجال أمامهم واسع مفتوح في القسم الثالث، فبإمكانهم أن يقفوا أمامه، وأن يخوضوا فيه، إذا توفرت فيهم الشروط والمؤهلات العلمية لذلك.

ثم إنّ القسم الثالث المخصص لعلماء التأويل كثير في القرآن، بل إن غالب ومعظم آيات القرآن من القسم الثالث، بينما آيات القسمين الأول والثاني قليلة بالقياس إلي آيات القسم الثالث.

وأيضا فإن العلماء يعلمون معاني آيات القسم الأول والثاني، ويمكنهم بيانها وشرحها وتفسيرها، لكنهم لا يقدرون علي تأويلها، بمعنى تحديد حقيقتها وكيفيتها ووقتها وصورتها، أو مخالفة ما قاله الرسول صلّى الله عليه وسلّم فيها.

وبهذا التفصيل من الإمام ابن جرير الطبري في فهمه للتأويل، نختم كلامنا عن الفروق بين التفسير والتأويل.

التأويل بمعنى الصرف والتحويل:

عرضنا فيما مضي معنيين للتأويل:

الأول: بيان ما يؤول وينتهي إليه الشيء، وتحديد حقيقة الخبر وصورته الفعلية، وأداء الأمر وتحقيقه. وهذا هو معناه في القرآن، وغالب أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وغالب فهم الصحابة.

الثاني: الفهم والتوضيح والبيان، وهو قريب من معنى التفسير، وهذا هو معناه في بعض أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبعض كلام الصحابة، وعند معظم المفسرين، وفي مقدمتهم الإمام ابن جرير الطبري.

ونتكلم هنا عن معنى ثالث للتأويل، هذا المعنى طارئ متأخّر، لم يستعمله الرسول صلّى الله عليه وسلّم ولا الصحابة والتابعون، وإنما استعمله المتأخّرون.

التأويل عند المتأخرين من الأصوليين والفقهاء هو: الصرف والتحويل.

تري هذا التعريف للتأويل في كتب أصول الفقه، وعلم الكلام.

قال الإمام ابن تيمية في رسالة «الإكليل في المتشابه والتأويل» عن هذا المعنى للتأويل: «إنّ التأويل في عرف المتأخرين من المتفقهة والمتصوفة والمتكلمة والمحدّثة هو: صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلي المعنى المرجوح، لدليل يقترون به».

هذا هو التأويل الذي يتكلّمون عليه في أصول الفقه ومسائل الخلاف.

فإذا قال أحدهم: هذا الحديث أو هذا النص مؤول، أو محمول علي كذا، قال الآخر: هذا نوع تأويل، والتأويل يحتاج إلي دليل.

والمؤوّل عليه وظيفتان:

الأولي: بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي ادّعاه.

والثانية: بيان الدليل الموجب للصرف إليه عن المعنى الظاهر.

«وهذا هو التأويل الذي يتنازعون فيه في مسائل الصفات، فقد يصنّف بعضهم في إبطال التأويل وذمّه، ويقول بعضهم: آيات الصفات لا تؤوّل.

ويقول الآخر: بل يجب تأويلها. ويقول الثالث: بل التأويل جائز، يفعل عند المصلحة، ويترك عند المصلحة، أو التأويل يصلح للعلماء دون غيرهم» [١].

فهذا هو الذي يعنونه من معاني التأويل الثلاثة، وهو الذي فيه التنازع والاختلاف، أما المعنيان الأوّلان السابقان للتأويل فلا تنازع ولا خلاف فيهما.

وقال الإمام أبو جعفر الطحاوي في عقيده يردّ تأويلات فرق المتكلمين لصفات الله، وذلك أثناء حديثه عن نفي المعتزلة لرؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة: «ولا يصحّ الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم

(١) الإكليل: ٢٤ - ٢٥.

بوهم، أو تأوّلها بفهم. إذ كان تأويل الرؤية- وتأويل كلّ معنى يضاف إلي الربوبية- ترك التأويل، ولزوم التسليم، وعليه دين المسلمين.» [١].

ومعنى كلامه: أنّ رؤية المؤمنين لربهم في الجنة لا تقبل الوهم أو سوء الفهم، فمن توهّم فيها تشبيها لله بخلقه، فإمّا أن يؤوّلها ويصرفها وينفيها ويعطّلها، وإما أن يجسّم الله بخلقه، وكلا الأمرين باطل.

ومعنى قوله: «وتأويل كل معنى يضاف إلي الربوبية ترك التأويل ولزوم التسليم»: فهم آيات الصفات الصحيح لا يتحقق إلا بعدم التأويل والصرف والتحويل، وعدم محاولة إدراك كيفية هذه الصفات، وعدم تصوّر حقيقة ذات الله المتصفة بهذه الصفات.

التأويل في المرة الأولي: «تأويل كلّ معني» يراد به التأويل بالمعنى الثاني الذي قررناه، وهو الفهم والتفسير والبيان.

والتأويل في المرة الثانية: «ترك التأويل» يراد به التأويل بالمعنى الأول، وهو بيان حقيقة الشيء وصورته الفعلية، والله منزّه عن التجسيم ومشابهة المخلوقين، ولهذا لا يمكن تصوّر كيفية ذات الله، وكيفية اتصافه بصفاته.

كما يراد به المعنى الثالث للتأويل، وهو الصرف والتحويل، لأننا لو أوّلنا صفات الله، وصرفناها إلي معان أخري، فسوف نعطّلها وننفيها.

ولما شرح الإمام عليّ بن علي بن أبي العز الحنفي كلام الطحاوي السابق قال عن المعاني الثلاثة للتأويل: «فالتأويل في كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم هو: الحقيقة التي يؤول إليها الكلام.

فتأويل الخبر: هو عين المخبر به.

وتأويل الأمر: نفس الفعل المأمور به.

(١) شرح العقيدة الطحاوية: ١/ ٢٤٩.

وأمّا ما كان خبرا، كالإخبار عن الله واليوم الآخر، فهذا قد لا يعلم تأويله، الذي هو حقيقته.

وهذا هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله.

لكن لا يلزم من نفي العلم بالتأويل نفي العلم بالمعني، الذي قصد المخاطب إفهام المخاطب إياه. فما في القرآن آية إلا وقد أمر الله بتدبرها، وما أنزل آية إلا وهو يحبّ أن يعلم ما عنى بها، وإن كان تأويلها لا يعلمه إلا الله.

هذا هو معنى التأويل في الكتاب والسنة وكلام السلف.

والتأويل في كلام كثير من المفسرين كابن جرير ونحوه، يريدون به تفسير الكلام، وبيان معناه، سواء وافق ظاهره أو خالفه.

وهذا اصطلاح معروف. وهذا التأويل كالتفسير، يحمد حقّه، ويردّ باطله.

والتأويل في كلام المتأخرين من الفقهاء والمتكلمين هو: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلي الاحتمال المرجوح، لدلالة توجب ذلك.

وهذا هو التأويل الذي يتنازع الناس فيه في كثير من الأمور الطلبية والخبرية.

فالتأويل الصحيح منه: الذي يوافق ما دلّت عليه نصوص الكتاب والسنة، وما خالف ذلك فهو التأويل الفاسد» [١].

التأويل بمعناه الثالث- وهو الصرف والتحويل نوعان: منه تأويل صحيح مقبول، وهو ما يتمّ فيه صرف اللفظ عن معناه الظاهر غير المراد، إلي معنى آخر مراد، بشرط أن يحتمل اللفظ ذلك المعنى الآخر، وبشرط قيام ضرورة تدعو إلي التحول للمعنى الثاني، وبشرط توفر دليل من نصوص

(١) مقتطفات من شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي: ١/ ٢٥٢ - ٢٥٦.

الكتاب والسنة تدلّ علي ذلك.

أما التأويل المذموم الفاسد، فهو الذي يتمّ صرف اللفظ عن المعنى الأول، وتحويله إلي المعنى الثاني، الذي لا يحتمله اللفظ، ولا ضرورة إليه، ولا دليل عليه.

والتأويل الفاسد مرفوض، وكثيرا ما صدر عن بعض المتأخرين، وبخاصة أصحاب الفرق وعلماء الكلام.

وأكثر ما يكون التأويل والصرف المرفوض في فهم علماء الكلام لصفات الله، وبخاصة تلك الصفات التي في فهمها إشكال، ويظن منها مشابهة الله بخلقه.

وحول هذا المعنى يقول قائلهم في «جوهرة التوحيد»:

وأيّ نص أوهم التّشبيها ... أوله أو فوض، وروم تنزيها

ولا نوافق الناظم علي هذا النظم، ويجب أن نفهم نصوص القرآن التي تحدث عن صفات الله، كما فهمها الصحابة والتابعون، حيث أثبتوها لله كما أخبر الله، وكما يليق بجلال الله، بدون تشبيه ولا تجسيم ولا تأويل ولا تعطيل ولا تكييف.

ومن هذا نعلم تطوّر استعمال مصطلح «التأويل» في التاريخ الاسلامي، وكيف ابتعد في استعمال العلماء له عن معناه في القرآن والسنة، إلي معنى اصطلح عليه فيما بعد.

ورد التأويل في القرآن والسنة بمعنى الفعل والأداء، والرد والرجوع، وتحديد العاقبة والمآل.

ثم تطور فيما بعد، فصار يستعمل في معنى الفهم والتفسير والبيان والكشف، وهذا ما استعمله فيه ابن جرير الطبري وغيره.

ثم تطور فيما بعد، وابتعد كثيرا عن معناه في الاستعمال القرآني

والحديثي، ليستعمل بمعنى الصرف والتحويل، وهو ما يتبادر إلي الذهن عند إطلاقه.

ونلحظ توفر المعنى الاشتقاقي اللغوي للتأويل في معانيه الثلاثة، وفي هذا نورد ما قاله أستاذنا الدكتور أحمد حسن فرحات:

«ومن كلّ ما سبق يتبين لنا أنّ الكلام:

- إذا وقف به عند المعنى الظاهر، كانت الغاية منه هذا المعنى الظاهر.

ويكون المراد بالتأويل هو التفسير.

- وإذا كان المراد به تحققه في عالم الواقع إن كان خبرا، أو تحقيقه إن كان طلبا، كانت هذه هي الغاية المرادة منه، وهذا غير التفسير.

- وإذا تجاوزنا المعنى الظاهر إلي المعنى غير الظاهر، كانت الغاية المرادة من الكلام المعنى غير الظاهر، لدلالة القرينة علي ذلك. وكان هذا تأويلا وليس تفسيرا، باصطلاح المتأخرين. ويمكن أن يدخل في التفسير حسب اصطلاح السلف» [١].

ونحن تؤثر استعمال التأويل بمعناه الأول، الذي يقصره علي الله، كما نفضّل استعماله بالمعنى الثاني، الذي ينصبّ علي فهم لطائف وخفايا القرآن.

ولا نري استعماله بالمعنى الثالث، الذي هو الصرف والتحويل، لأنّ المقبول الصحيح منه يدخل ضمن التأويل بالمعنى الثاني. والله أعلم.

(١) التعريف بالقرآن الكريم لأستاذنا الدكتور أحمد فرحات: ١٠٨.

الخاتمة

بهذا ينتهي كلامنا عن «التفسير والتأويل في القرآن»، وبهذا تتوقف جولتنا مع مصطلح «التأويل».

لقد كانت الرحلة مع «التأويل» شيقة ممتعة، كما كانت نافعة مفيدة، ولله الحمد.

لقد عشنا مع التأويل في اللغة والاصطلاح، وتحوّلنا مع أمهات كتب اللغة والمعاجم، باحثين عن معنى التأويل فيها.

ثم سعدنا وتمتّعنا بمتابعة «التأويل» في سور القرآن الكريم، وتأنينا في جولتنا وسيرنا مع سور القرآن التي أوردت هذا المصطلح. وحرصنا علي الوقوف مع الآيات متدبرين ناظرين.

عشنا مع التأويل في سورة يوسف، وفي سورة الأعراف، وفي سورة يونس، وفي سورة الكهف، وفي سورة الإسراء، وفي سورة النساء، وأخيرا في سورة آل عمران.

وقد لاحظنا أنّ التأويل في كلّ سورة من هذه السور السبع ورد في سياق خاص. وأنّ التأويل في هذه السور كلّها ورد بمعنى واحد، وهو: بيان العاقبة، وتحديد المآل، وإيجاد المطلوب، وفعل الأمر، وتحقيق الخبر.

وكانت وقفتنا طويلة أمام التأويل في سورة آل عمران، لاختلاف العلماء في فهمه، ولتعلّقه بالمحكم والمتشابه، وهل يمكن تأويل المتشابه أو لا يمكن، وما هي ضوابط التأويل الممكن.

ثم انتقلنا الي التأويل في حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكلام أصحابه، وبيّنا أنّ الحديث عن التأويل كان يراد به معنيان من معاني التأويل: التأويل الوارد في القرآن بمعنى الردّ والأداء والحقيقة والمآل، والتأويل بمعنى الفهم والتفسير والبيان.

وأوردنا أحاديث عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وروايات عن أصحابه الكرام، يتحقق فيها هذا المعني.

وتحدثنا أخيرا عن «الفرق بين التفسير والتأويل»، وسجلنا أهم الفروق التي أوردها العلماء بينهما. ثم توقفنا لتقديم ما نراه راجحا في التفريق بينهما، وشرحنا وجهة نظرنا في أن الناظر في القرآن والمتدبّر فيه، لا بدّ أن يمرّ بمرحلتين متعاقبتين:

المرحلة الأولي: هي تفسير القرآن، من خلال الاطلاع علي ما ورد في تفسير الآية من آيات، وأحاديث صحيحة، وكلام صحابة وتابعين وعلماء سابقين، وروايات حول أسباب النزول والنسخ والقراءات والغريب وغير ذلك.

والمرحلة الثانية: هي تأويل القرآن، بالالتفات الي لطائفة وإشاراته، واستخراج حقائقه ودلالاته.

وبعد ذلك عرضنا فهم إمام المفسرين أبي جعفر محمد بن جرير الطبري لتأويل القرآن، وتقسيمه آيات القرآن الي ثلاثة أقسام من حيث تأويلها.

وأشرنا الي ورود معنى ثالث للتأويل، في استعمال المتأخرين من الفقهاء والأصوليين وعلماء الكلام، وهو استعمالهم له بمعنى الصرف والتحويل، وبيّنا تحقق معنى التأويل اللغوي والاشتقاقي في هذا المعنى الجديد.

وسجّلنا تحفّظنا علي استعمال التأويل بمعناه الثالث الطارئ علي المعنيين السابقين، وأنّ التأويل والصرف المقبول الصحيح يدخل ضمن تفسير النص، أي يدخل في المعنى الثاني، وآثرنا استخدام التأويل بمعنييه: المعنى الوارد في القرآن والسنة، والمعنى الثاني الذي استعمله فيه بعض العلماء من سلف الأمة.

وبهذا ينتهي ما قدّره الله لنا من كلام حول «التأويل في القرآن». والحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات، ونرجو أن يتقبل الله منا هذا العمل.

وصلّى الله علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلّم.

عن الكاتب

Tanya Ustadz

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية