الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

السور القرآنية

السور القرآنية

الكتاب: الموسوعة القرآنية المتخصصة
المؤلف: مجموعة من الأساتذة والعلماء المتخصصين
رئيس التحرير: أ.د. علي جمعة
الناشر: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، مصر
عام النشر: ١٤٢٣ هـ - ٢٠٠٢ م
عدد الصفحات: ٨٨٢
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
الموضوع: علوم القرأن
 

  فهرس الموضوعات 

  1. السور القرآنية
  2. السورة لغة:
  3. المناسبة بين المعنى اللغوى والاصطلاحى:
  4. مصدر معرفة تحديد السورة:
  5. عدد سور القرآن:
  6. أسماء السور
    1. سر التسمية:
    2. تعدد أسماء السورة:
    3. أسماء السور بين التوقيف والاجتهاد:
    4. ألقاب السور:
    5. ألقاب أخرى:
  7. ترتيب السور:
    1. المذهب الأول:
    2. المذهب الثانى:
    3. المذهب الثالث:
  8. تناسب السور القرآنية:
  9. الآيات القرآنية:
    1. المناسبة بين المعنى اللغوى والمعنى الاصطلاحى:
    2. عدد آيات القرآن الكريم:
    3. ترتيب الآيات القرآنية:
    4. تناسب الآيات:
    5. فواصل الآيات:
  10. البسملة آية أم لا؟
    1. معناها:
    2. منزلتها من القرآن:
    3. الحروف المفردة فى فواتح السور:
  11. العودة إلي كتاب الموسوعة القرآنية المتخصصة
 
السور القرآنية
 
السورة لغة:
قال ابن منظور (١): «والسورة: المنزلة، والجمع سور، والسورة من البناء: ما حسن وطال. وقال الجوهرى: والسور جمع سورة، مثل بسرة وبسر، وهى كل منزلة من البناء، ومنه سورة القرآن، لأنها منزلة بعد منزلة، مقطوعة عن الأخرى، والجمع سور ... ويجوز أن يجمع على سورات، وسورات. وقال ابن سيدة:
سميت السورة من القرآن سورة لأنها درجة إلى غيرها، ومن همزها جعلها بمعنى بقية من القرآن وقطعة، وأكثر القراء على ترك الهمزة فيها. من سؤرة المال، ترك همزه لما كثر فى الكلام ...
وأنشد النابغة:
ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب
معناه: أعطاك رفعة وشرفا ومنزلة.
وقال ابن فارس (٢): «سور: السين والواو والراء أصل واحد يدل على علو وارتفاع، من ذلك: سار يسور، إذا غضب وثار، وإنّ لغضبه لسورة، والسّور جمع سورة كل منزلة من البناء».
السورة اصطلاحا: طائفة مستقلة من آيات القرآن ذات مطلع ومقطع. يعنى بداية ونهاية (٣).

المناسبة بين المعنى اللغوى والاصطلاحى:
سميت جملة الآيات القرآنية ذات المطلع والمقطع سورة لكمالها وتمامها، وشرفها وارتفاعها، فإنها تحيط بآياتها إحاطة السور بالبناء، وترتفع بقارئها وحافظها حيث الشرف فى الدنيا والآخرة.

مصدر معرفة تحديد السورة:
تحددت السورة القرآنية بفاتحتها وخاتمتها بتوقيف من الله تعالى، وليس باجتهاد من بشر أيا كان، وكان الصحابة- رضى الله عنهم- يعرفون السورة الجديدة بنزول بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، كما بين النبى ﷺ ذلك من خلال قراءته.
يقول الزرقانى (٤) ﵀ «ومرجع الطول والقصر والتوسط، وتحديد المطلع والمقطع إلى الله وحده لحكم سامية».
(١) «لسان العرب لابن منظور. ط ٣ دار إحياء التراث العربى ١٤١٩ هـ/ ١٩٩٩ م».
(٢) معجم مقاييس اللغة، لابن فارس ص ٤٧٥، مادة (سور) طبعة أولى، دار إحياء التراث العربى.
(٣) «الشيخ محمد عبد العظيم الزرقانى. مناهل العرفان ١/ ٣٥٠ ط دار الكتب العلمية ١٤١٦ هـ ١٩٩٦ م».
(٤) مناهل العرفان ١/ ٣٥١.
 
١ ‏/ ٢١٩
 
عدد سور القرآن:
يقول الإمام الزركشى: «واعلم أن عدد سور القرآن العظيم باتفاق أهل الحل والعقد مائة وأربع عشرة سورة، كما هى فى المصحف العثمانى، أولها الفاتحة وآخرها الناس.
وقال مجاهد: وثلاث عشرة، بجعل الأنفال والتوبة سورة واحدة لاشتباه الطرفين وعدم البسملة.
ويرده تسمية النبى ﷺ كلا منهما (٥).
والأول هو المعتمد بإجماع الأمة، ولا نزاع فيه.

أسماء السور
 
سر التسمية:
ذهب جل علماء علوم القرآن إلى أن تسمية سور القرآن الكريم إنما كانت على نسق تسمية العرب لقصائدهم ونحوها، فيقول الإمام الزركشى: «ينبغى النظر فى وجه اختصاص كل سورة بما سميت به، ولا شك أن العرب تراعى فى الكثير من المسميات أخذ أسمائها من نادر أو مستغرب يكون فى الشيء من خلق أو صفة تخصه أو صفة تكون معه أحكم أو أكثر أو أسبق لإدراك الرائى للمسمى، ويسمون الجملة من الكلام أو القصيدة الطويلة بما هو أشهر فيها، وعلى ذلك جرت أسماء سور الكتاب العزيز، كتسمية سورة البقرة بهذا الاسم لقرينة ذكر قصة البقرة المذكورة فيها وعجيب الحكمة فيها، وسميت سورة النساء بهذا الاسم لما تردد فيها من كثير من أحكام النساء» (٦).
أقول: بل إن الأمر على خلاف ذلك، ويعرف هذا بتدبر اسم السورة الذى عرفت به، وتلمس المناسبة بينه وبين كل موضوع من موضوعات السورة، فيبدو جليا أن أسماء السور لها أسرارها الحكيمة، مما يدل على حكمة منزل القرآن، ويشير إلى المناسبة اللطيفة بين اسم السورة وجميع موضوعاتها.
أما ما ذهبوا إليه من محاكاة عادة العرب فى تسميتهم، فإنه يجعل الاسم عنوانا على موضوعه فقط لا على السورة كلها، أو كما يقول أهل التصنيف: إنه يجعل الاسم أخص من المسمى.
فما معنى تخصيص سورة البقرة بهذا الاسم وقد ذكر فيها. على سبيل المثال- هاروت وماروت، وتحويل القبلة، والقصاص، والصيام، والإيلاء، والرضاع، والتحريم الصريح للربا كله، وآية الدّين، بما لم يذكر
(٥) «الإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشى ت ٧٩٤ هـ- البرهان فى علوم القرآن ١/ ٣١٧ ط أولى دار الفكر ١٤٠٨ هـ ١٩٨٨ م».
(٦) البرهان ١/ ٣٤٠.
 
١ ‏/ ٢٢٠
 
فى سورة أخرى، ولم توسم السورة بشيء من هذا كله، رغم أن ذكر شىء من ذلك عنوانا على السورة أشرف من ذكر كلمة البقرة، لولا أن لله الحكمة البالغة فى تخصيص التسمية بهذا الاسم.
بدا منها أن نكول بنى إسرائيل عن طاعة الله تعالى ورسوله موسى ﵇ ظهر بأقبح صوره وأغرب مناظرة فى قصة أمرهم بذبح بقرة، وحين يدور المتفكر بهذا العنوان [نكول بنى إسرائيل عن أمر الله ورسالته] على كل جزء من السورة يجد له ظلا يتفيؤا بين جنبات السورة.

تعدد أسماء السورة:
قد يكون للسورة اسم واحد وهو كثير، وقد يكون لها أكثر من اسم كسورة البقرة، يقال لها: فسطاط القرآن. لعظمها وبهائها. ويقال لها: سورة النساء العظمى لما اشتملت عليه من أحكام النساء، وكسورة المائدة، يقال لها:
سورة العقود، والمنقذة، وسورة براءة، تسمى التوبة، والفاضحة، والحافرة، والعذاب، والمقشقشة، والبحوث، والمبعثرة.
قال الزركشى: وينبغى البحث عن تعداد الأسامى، هل هو توقيفى، أو بما يظهر من المناسبات؟ فإن كان الثانى فلن يعدم الفطن أن يستخرج من كل سورة معانى كثيرة تقتضى اشتقاق أسمائها وهو بعيد. أه (٧).
قلت: بل هذا من قبيل ما يظهر من المناسبات وليس على سبيل التسمية فى الغالب الأعم، بل هو من قبيل الوصف، أو الإشارة إلى خصوص معين.

أسماء السور بين التوقيف والاجتهاد:
للعلماء فى ذلك مذهبان:
المذهب الأول: أن أسماء السور توقيفية.
واستدلوا لذلك بذكر النبى ﷺ لأسماء بعض السور، كفاتحة الكتاب، وسورة البقرة، وآل عمران، والنساء، وغيرها. وبشهرة السور بأسمائها بين الصحابة- رضى الله عنهم- وتواترها بين أجيال الأمة حتى هذا الحين ...
دون أن يختلف عليها أهل قرن عن غيرهم، ولا أهل مكان عمن سواهم.
قال الإمام السيوطى (٨): «وقد ثبتت أسماء السور بالتوقيف من الأحاديث والآثار، ولولا خشية الإطالة لبينت ذلك، ومما يدل لذلك ما أخرجه ابن أبى حاتم عن عكرمة قال: كان المشركون يقولون: سورة البقرة، سورة العنكبوت، يستهزءون بها، فنزل: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ».
وتعقبه الدكتور/ إبراهيم خليفة بقوله:
«إن كان مراد الحافظ- طيب الله ثراه- من الثبوت الذى زعم مجىء الحديث فى كل اسم
(٧) البرهان ١/ ٣٣٩.
(٨) «الإتقان فى علوم القرآن ١/ ١٦٦ ط الأولى دار ابن كثير. بتحقيق د/ مصطفى ديب البغا».
 
١ ‏/ ٢٢١
 
من أسماء سور القرآن على درجة صالحة للحجية من تواتر أو صحة أو حسن فغير مسلم، فإن الباحث المتقصى فى كتب السنة وكتب التفسير بالمأثور يدرك لا محالة أن هذا مطلب عزيز المنال، وأن أقصى ما يظفر به فى أسماء بعض السور آثار ضعيفة فردة لا ينجبر ضعفها موقوفة أو مقطوعة فى كثير من الأحيان مما يدل على أن مثل هذه الدعوى من صاحبها لو كانت قصده- ﵀ مجازفة.
وما أورده من حديث ابن أبى حاتم هنا أعم من المدعى، فإن أقصى ما يدل عليه ثبوت التوقيف فى خصوص ما سماه من البقرة والعنكبوت، فأما ما وراء ذلك فليس فى هذا الحديث عنه عين ولا أثر، ويزيد على ذلك أن الحديث مرسل (٩).
قلت: هذا كلام جليل، غير أنه يبدو لى رجحان القول بالتوقيف وذلك لعدة قرائن:
١ - لا معنى لأن يسمى الله بعض السور دون البعض.
٢ - لا يمكن القول بأن النبى ﷺ ذكر ما ذكر من أسماء السور بغرض تحديد أسمائها، وإنما ربما كان هذا لمناسبة قراءتها أو التنبيه على فضلها.
٣ - أسامى سور القرآن جاءت على خلاف ما يسمى به الناس، فإن كانت السورة الأولى سميت بالفاتحة فلم تسمّ السورة الأخيرة بالخاتمة. وإن سميت بعض السور بأوائلها فلم يطّرد ذلك فى البعض الأكثر. وإن سميت بعضها بأغرب ما فيها فلم يتوافر ذلك فى كل السور. فلو عرضت سورة النمل على اجتهادات البشر لذهبوا إلى تسميتها بسورة الهدهد مثلا لأن قصته أعجب من قصة النملة، ودوره أغرب من دورها.
٤ - السر الحكيم وراء أسماء السور، والمناسبة الدقيقة بين اسم السورة وموضوعها العام، ونحو ذلك من وجوه الإعجاز فى هذا الخصوص؛ كل ذلك يحيل أن تكون أسماء السور اجتهادية.
المذهب الثانى: أن أسماء السور اجتهادية، ولعلهم اعتمدوا فى هذا على عدم ورود اسم كل سورة من طريق التوقيف، وإن وقع هذا لبعض السور.
ويقول بعض المحققين: إن السور التى وردت أسماؤها بطريق التوقيف فتسميتها توقيفية، وما لم يبلغنا فى اسمها توقيف فلا يقال فيها بالتوقيف.

ألقاب السور:
لقب العلماء السور القرآنية مجملة بألقاب صنفت السور إلى أربعة أصناف:
(٩) تفسير سورة النور، ص ٦، ٧ بتصرف.
 
١ ‏/ ٢٢٢
 
١ - السبع الطوال.
٢ - المئون.
٣ - المثانى.
٤ - المفصل.
ولعلهم اعتمدوا فى هذا على ما أخرج أحمد وأبو عبيد من رواية سعيد بن بشير عن قتادة عن أبى المليح عن واثلة بن الأسقع عن النبى ﷺ قال: «أعطيت السبع الطّول مكان التوراة، وأعطيت المئين مكان الإنجيل، وأعطيت المثانى مكان الزبور، وفضّلت بالمفصل» (١٠).
أما الطوال: ويقال لها الطّول، فسميت بذلك لطولها، وهى سبع سور: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف، والسابعة: الأنفال مع التوبة، لقصر كل منهما على حدتها، ولاتحاد موضوعهما وعدم الفصل بينهما بالبسملة، فكانتا كالسورة الواحدة.
وصحح صاحب «الإتقان» رواية ابن أبى حاتم وغيره عن سعيد بن جبير، وغيره أن السورة السابعة هى سورة يونس، بدلا من الأنفال والتوبة (١١).
وأما المئون: فهى السور التالية للسبع الطوال إلى سورة الشعراء، وسميت بذلك لأن كل سورة منها مائة آية أو نحوها.
وأما المثانى: فهى السور التالية للمئين إلى سورة الحجرات أو سورة [ق]، وسميت بهذا الوصف لأنها ثانية بعد المئين، والمئون أولى بالنسبة لها.
«وقال الفراء: هى السورة التى آيها أقل من مائة، ولأنها تثنى أكثر وأسرع مما يثنى الطوال والمئون، أى تطوى بالقراءة».
وقيل لتثنية الأمثال فيها بالعبر والخبر، وجاء فى «جمال القراء»: هى السور التى ثنيت فيها القصص. وقد تطلق على القرآن كله وعلى الفاتحة (١٢).
وأما المفصل: فهو ما ولى المثانى من السور القصار، من سورة الحجرات أو (ق) إلى سورة الناس- على ما رجحه العلماء ورواه أحمد وغيره من حديث حذيفة الثقفى، وفيه:
أن الذين أسلموا من ثقيف سألوا الصحابة- رضى الله عنهم: كيف تحزّبون القرآن؟
قالوا: نحزبه ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل من (ق) حتى نختم (١٣).
وسمى المفصل بذلك لكثرة الفصل بين سوره بالبسملة، لقصرها وكثرتها.
وقيل: لقلة المنسوخ منه، ولهذا يسمى:
بالمحكم، كما رواه البخارى عن سعيد بن جبير (١٤).
وهذا المفصل ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
(١٠) البرهان فى علوم القرآن ١/ ٣٠٧.
(١١) الإتقان ١/ ١٩٩.
(١٢) «الإتقان ١/ ١٩٩».
(١٣) الفتح الربانى بترتيب مسند أحمد، ك/ أبواب تحزيب القرآن، وأبو داود فى السنن، ك/ الصلاة ... أبواب قراءة القرآن وتحزيبه.
(١٤) «صحيح البخارى: ك/ فضائل القرآن، ب/ تعليم الصبيان القرآن».
 
١ ‏/ ٢٢٣
 
١ - طوال.
٢ - أوساط.
٣ - قصار.
وطوال المفصل: من أول سورة الحجرات أو (ق) إلى سورة البروج.
وأوساطه: من سورة الطارق إلى سورة لَمْ يَكُنِ.
وقصاره: من سورة الزلزلة إلى آخر سورة الناس.

ألقاب أخرى:
جاء فى كتاب «جمال القراء» عن بعض السلف أنهم كانوا يقولون:
فى القرآن: ميادين، وبساتين، ومقاصير، وعرائس، وديابيج، ورياض.
فميادينه: جمع ميدان، وهو ما افتتح ب (الم).
وبساتينه: جمع بستان، وهو ما افتتح ب (الر).
ومقاصيره: جمع مقصورة، وهى الحامدات، أى السور المبدوءة ب (الحمد لله).
وعرائسه: هى المسبحات، أى السور المبدوءة بصيغة من صيغ التسبيح.
وديابيجه: جمع ديباجة، وهى آل عمران.
ورياضه: جمع روضة وهى المفصل.

ترتيب السور:
لقد جاء ترتيب السور القرآنية على نسق غير مألوف، وأبرز ما يميز ذلك، أن ترتيب السور فى المصحف كان على خلاف ترتيب النزول، فتجد السورة المدنية المتأخرة نزولا مقدمة فى المصحف على السورة المكية المتقدمة نزولا، والعكس كذلك، بل ربما وقع هذا فى الآيات نفسها كآيتى عدة المرأة المتوفى عنها زوجها.
كما تتقدم السورة القصيرة على الطويلة، والعكس أيضا، وتجتمع سور متشابهات فى نسق متتابع، مثل السور التى تبدأ ب (حم)، بينما تأتى فى مقام آخر فى نسق متفرق، مثل المسبحات، ومع هذا فقد اختلف العلماء فى كون هذا الترتيب بالتوقيف، أو بالتوفيق والاجتهاد، وذهبوا فى ذلك إلى ثلاثة مذاهب:

المذهب الأول:
أن ترتيب السور كان باجتهاد من الصحابة- رضى الله عنهم- واستدلوا لذلك باختلاف الترتيب فى مصاحف الصحابة، فكان مصحف على ﵁ مرتبا على حسب النزول، فأوله سورة اقرأ، فالمدثر، ف (ق)، فالمزمل، فتبت، فالتكوير. وكان مصحف ابن مسعود ﵁ أوله: البقرة، فالنساء، فآل عمران.
 
١ ‏/ ٢٢٤
 
ومصحف أبى بن كعب ﵁ كان يبدأ بسورة الفاتحة، فالبقرة، فالنساء، فآل عمران.
كما استدلوا بحديث ابن عباس ﵁ عند أحمد والترمذى وغيرهما، قال: «قلت لعثمان:
ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهى من المثانى، وإلى براءة وهى من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ووضعتموها فى السبع الطوال، قال عثمان ﵁: كانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن نزولا، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها فقبض رسول الله ﷺ ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب سطر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ووضعتهما فى السبع الطوال (١٥).
قلت: وهذا وذاك استدلال ضعيف، ذلك لأن ترتيب مصاحف الصحابة- رضى الله عنهم- جاء مختلفا حيث كانوا يكتبون لأنفسهم لا للأمة، ولم يؤمروا بترتيب معيّن، ولهذا أقروا بالإجماع على ترتيب السور فى مصحف أبى بكر، بل سلموا صحفهم هذه لعثمان بن عفان ﵁ ليحرقها إجماعا منهم على الترتيب فى مصاحف عثمان الذى وافق ترتيب مصحف أبى بكر، ومن قبل قراءة رسول الله ﷺ، ولا سيما فى العرضة الأخيرة.
هذا ردّ لاستدلالهم الأول، أما استدلالهم الثانى بحديث ابن عباس ﵁ فلا تقوم به حجة، لأنه حديث ضعيف، قال فيه الإمام الترمذى- رحمه الله تعالى-: لا نعرفه إلا من حديث عوف بن زيد الفارسى. وقد ذكره البخارى فى كتابه» الضعفاء الصغير«واشتبه فيه: هل هو ابن هرمز، أو غيره؟
كما أن فى متن الحديث ما يرده، مثل قوله:» فقبض رسول الله ﷺ ولم يبين لنا أنها منها، لأن هذا لا يخلو أن يكون تقصيرا من النبى ﷺ أو قصورا فى الرسالة. وكلا الأمرين باطل محال.

المذهب الثانى:
أن ترتيب بعض السور توقيفى، وهو ما ورد فيه توقيف، وما عداه فليس توقيفيا، وهو ما لم يرد فيه توقيف.
واستدل أصحاب هذا المذهب بما ورد من أحاديث فيها ذكر لبعض السور مرتبا، مثل:
ما روى الإمام مسلم عن أبى أمامة ﵁ عن رسول الله ﷺ: «اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران (١٦).
وعند الإمام البخارى- ﵀ أن
(١٥) الفتح الربانى ١٨/ ٢٩٠.
(١٦) صحيح مسلم، ك/ صلاة المسافرين، ب/ فضل قراءة القرآن وسورة البقرة.
 
١ ‏/ ٢٢٥
 
رسول الله ﷺ: «كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ (قل هو الله أحد، والمعوذتين) (١٧).
وأقول: إن الأحاديث الواردة بالتوقيف فى ترتيب بعض السور وإن دلت على التوقيف فيها، فإنها لا تدل ضرورة على أن ترتيب البعض الآخر كان بالاجتهاد، بل غاية ما يمكن أن يدل عليه هو احتمال أن يكون ترتيب هذا البعض الآخر اجتهاديا، ويبقى احتمال أن يكون أيضا بالتوقيف.

المذهب الثالث:
أن ترتيب السور كان بالتوقيف، نزل به جبريل ﵇ على رسول الله ﷺ، وعلمه كذلك لأصحابه- رضى الله عنهم- فحفظوه وبلغوه لمن بعدهم على ذلك.
قال ابن حجر- ﵀ «ترتيب بعض السور على بعضها، أو معظمها لا يمتنع أن يكون توقيفيا، والأدلة على ذلك:
١ - قول الله تعالى أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء ٨٢] وفى عموم هذه الآية أقول: لو كان ترتيب سور القرآن باجتهاد
الناس لتنوع واختلف على اختلاف نظر كل قائم بهذا العمل، كما اختلف ترتيب مصاحف كتبة الوحى حين كانوا يكتبون القرآن على عهد رسول الله ﷺ فى صحفهم الخاصة بهم، فلم تكن على ترتيب واحد، وبالتالى فوحدة ترتيب سور القرآن منذ عهد النبوة- قراءة- وإلى الآن- قراءة وكتابة- دليل على توقيف هذا الترتيب.
٢ - أخرج الإمام البخارى- ﵀ عن عبد الله بن مسعود ﵁ أنه قال عن سور «بنى إسرائيل- يعنى الإسراء- والكهف ومريم وطه والأنبياء: إنهن من العتاق الأول وهن من تلادى» (١٨).
وروى أحمد وأبو داود (١٩) من حديث حذيفة ﵁ أن رسول الله ﷺ تأخر عليهم ولم يخرج، ولما خرج سألوه؟ فقال:
«طرأ علىّ حزبى من القرآن فأردت أن لا أخرج حتى أقضيه«. فسألنا أصحاب رسول الله ﷺ قلنا: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا:
نحزبه ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل حتى نختم».
٣ - إجماع الأمة قاطبة على هذا الترتيب، وعلى حرمة مخالفته فى كتابة المصاحف، وبهذا كله يتبين رجحان القول بتوقيف ترتيب السور القرآنية فى المصحف، واختار هذا المذهب الإمام أبو جعفر النحاس، وعزاه إلى علىّ بن أبى طالب ﵁.
(١٧) صحيح البخارى، ك/ فضائل القرآن، ب/ فضل المعوذات.
(١٨) البخارى، ك/ التفسير، ب/ سورة بنى إسرائيل. ومعنى العتاق: السور الجيدة القديمة فى نزولها. وتلادى: يعنى معهوداتى ومحفوظاتى.
(١٩) الفتح الربانى بترتيب المسند ١٨/ ٢٩، وأبو داود، ك/ الصلاة، ب/ قراءة القرآن وتحزيبه. وقال الشيخ البنا: وحسّن إسناده الحافظ ابن كثير فى فضائل القرآن.
 
١ ‏/ ٢٢٦
 
٤ - قال صاحب البرهان: «تنبيه: لترتيب وضع السور فى المصحف أسباب تطلع على أنه توقيفى صادر عن حكيم؛ أحدها: بحسب الحروف، كما فى الحواميم. وثانيها: لموافقة أول السورة لآخر ما قبلها، كآخر الحمد فى المعنى وأول البقرة. وثالثها: للوزن فى اللفظ، كآخر (تبت) وأول الإخلاص. ورابعها:
لمشابهة جملة السورة لجملة الأخرى مثل (والضحى) و(ألم نشرح).

تناسب السور القرآنية:
إن سور القرآن كلها مترابطة فيما بينها برباط وثيق، ومناسبة لطيفة، يدركها المتدبرون، قال الله ﷾: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء: ٨٢]، ويلاحظ العلماء هذا التناسب على وجهين:
الوجه الأول: مناسبة السورة لما قبلها وما بعدها.
ولهذا الوجه مسلكان:
المسلك الأول: تناسب لفظى حيث الفواتح والخواتم.
فواتح السور وخواتمها وجه مشرق من وجوه الإعجاز القرآنى، ولذلك اهتم بها العلماء أيما اهتمام، فقاموا يتلمسون التناسب الدقيق بين أجزاء التركيب القرآنى، فأبرزوا ذلك بشكل جلى واضح، وكان من ذلك وجه التناسب بين فاتحة السورة وخاتمة غيرها، وبالنظرة العامة إلى سور القرآن تتميز فواتح السور على أشكال:
١ - الثناء على الله، مثل: الإسراء والكهف.
٢ - الأحرف المفردة، مثل: البقرة وآل عمران والعنكبوت والروم.
٣ - النداء، مثل: النساء والمائدة، والطلاق والتحريم.
٤ - الشرط، مثل: التكوير والانفطار.
٥ - الأمر، مثل: الإخلاص والفلق والناس.
٦ - الاستفهام، مثل: الإنسان والنبأ.
٧ - الدعاء، مثل: المعوذتين.
٨ - القسم، مثل: الفجر والبلد والشمس والليل والضحى.
٩ - الخبر، مثل: القمر والرحمن، والحديد والمجادلة.
١٠ - الحمد، مثل: سبأ وفاطر.
١١ - التسبيح، مثل: الصف والجمعة.
وخواتم السور كذلك على أشكال:
١ - الدعاء، مثل: الفاتحة والبقرة.
٢ - وحدانية الله، مثل: التكوير
 
١ ‏/ ٢٢٧
 
وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ والانفطار يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ.
٣ - خبر الكافرين، مثل: النازعات كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها وعبس أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ.
٤ - خبر المؤمنين، مثل: سورة المطففين فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ والانشقاق إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ
مَمْنُونٍ.
٥ - الثناء على الله، مثل الأنبياء وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ والحج هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ.
٦ - التسبيح، مثل سورة يس فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، والصافات سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
٧ - التنبيه، مثل فصلت أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ والشورى أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ.
٨ - ذكر الخاص بعد العام، مثل الحجرات إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ مع سورة ق نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ.
والتناسب قائم بوضوح بين السور المسبحات، التى افتتحها الله تعالى بإحدى صيغ التسبيح، وكذا بين الحامدات المفتتحة بصيغة الحمد لله، والسور المفتتحة ب حم، ومثلها الطواسين، وهى السور التى بدأها الله بأحرف (طس) وما زاد عليها، وذلك من حيث التشابه فى البدء وفى الموضوع.
ومن أمثلة تناسب فاتحة السورة مع خاتمة السورة التى قبلها:
خاتمة الإسراء وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ الآية) مع فاتحة الكهف الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا.
وخاتمة الطور وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ مع فاتحة سورة النجم وَالنَّجْمِ إِذا هَوى.
وخاتمة الواقعة فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ مع فاتحة الحديد سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي
 
١ ‏/ ٢٢٨
 
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
وربما كانت المناسبة من هذا النوع دقيقة بعض الشيء بما يحتاج إلى تدبر؛ نحو ما يمكن أن يقال فيما بين سورتى الحج والمؤمنون من أن آخر الحج أمر للمؤمنين بالإخلاص لله والاعتصام بدينه، وأول سورة المؤمنون يقدم البشرى بالفلاح على ذلك.
كما يمكن أن يقال فيما بين العنكبوت والروم: فخاتمة العنكبوت ذكرت المجاهدين فى سبيل الله ومعونته لهم، وفاتحة الروم ذكرت أن الحرب سجال ودول غير أن العاقبة لأصحاب الشريعة السماوية.
المسلك الثانى: التناسب بين الموضوع الرئيس فى كل سورة:
وهذا مسلك أعمق وأدق فى الملاحظة، حيث يربط بين الروحين الساريين فى السورتين، ومن أمثلة ذلك ما يلى:
- بين سورة الفاتحة والبقرة: يمكن القول بأن سورة البقرة تفصيل لإجمال سورة الفاتحة.
- وبين سورتى البقرة وآل عمران: يمكن القول بأن سورة البقرة بينت قبح اليهود، بيانا واقعيا من خلال واقع حياتهم، مما يبعث فى النفوس المطمئنة بغضا عظيما، ونفورا بعيدا من اليهود، ثم جاءت سورة آل عمران لتعلن أن اليهود (ليسوا سواء) فلقد كان منهم آل عمران الذين اصطفاهم الله (مع آدم ونوح وآل إبراهيم) كما قال فى سورتهم إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ الآية ٣٣ فعمران، وامرأته، وابنتهما مريم، وحفيدهما عيسى ابن مريم كل أولئك كانوا صالحين على خلاف بنى إسرائيل، بدليل أنه جاء منهم عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.
- وبين سورة الطلاق والتحريم والملك، يمكن أن يقال:
فى سورة التحريم يقرر الله قاعدة عقدية عظيمة، وهى أن التحريم حق خالص لله، لا يجوز لأحد- مهما كان- أن ينازع الله فيها ولو كان رسول الله ﷺ، كما قال ﷾:
وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [النحل ١١٦] وفى سورة الطلاق قبلها أمر بأن يكون التحريم- فيما أذن الله فيه لعباده أن يحرموه- على منهج الله- ﷾ فى التحريم، على حد قوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ لأول إقبال
 
١ ‏/ ٢٢٩
 
عدتهن وهو الطهر الطاهر الذى لم يقع فيه جماع.
ثم تأتى سورة الملك لتثبت أن الملك كله لله لا ينازعه فيه أحد، وكأنها بذلك تقدم تبريرا لانفراد الله بتحريم الحرام وإباحة الحلال.
فهذه السور الثلاث بهذا الترتيب تتلخص فى جمل متراصة:
- إذا حرمتم شيئا مما أذن الله لكم بتحريمه فلا تحرموا إلا على منهج الله، فإنه لا يجوز لأحد أن يحرم شيئا من دون الله، لأن الله- ﷾ هو مالك الملك كله، لقوله ﷾: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ.
الوجه الثانى: التناسب داخل السورة الواحدة:
وهذا التناسب نوعان:
النوع الأول: التناسب بين فاتحة السورة وخاتمتها.
وهذا يسمى: ترابط الأطراف، أو: رد العجز على الصدر.
يقول الدكتور القيعى- ﵀» ومما تجدر الإشارة له: التعرف على الانسجام الكامل بين أول السورة ونهايتها (٢٠).
ومن أمثلة هذا النوع فى سورة البقرة مثلا: فاتحتها ثناء على المتقين الذين آمنوا بالقرآن وما فيه حتى ما لم يعرفوه مثل (الم)، واهتدوا بهداه، وخاتمة السورة شهادة لهم بالإيمان الذى حققوه: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
وسورة النور: لما كان أولها: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ ولما كان معلوما لله تعالى أن الكافرين وأمثالهم سيقولون: وما شأن الله أن يفرض علينا ولنا عقولنا التى نعقل بها أمورنا وندبر بها حياتنا جاء ختام السورة:
أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
وهذا كالجواب على السؤال المثار على أول السورة، أى أن الله أنزل ما أنزله وفرضه لأنه مالك السموات والأرض وهو بكل شىء عليم.
ونحوها سورة الممتحنة: فأولها وآخرها اجتمعا على شىء واحد وهو نهى المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء، أما أولها فقول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي
(٢٠) الأصلان ص ٦٣».
 
١ ‏/ ٢٣٠
 
وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ وأما آخرها فقول الله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ.
النوع الثانى: التناسب بين اسم السورة وموضوعها:
وهذا مبحث عظيم يبرز الأسرار الكامنة وراء أسماء السور القرآنية، بما يقتضيه ذلك من كون أسماء السور توقيفية من عند الله.
ومثال ذلك:
- سورة يوسف تشتمل على عبر وعظات تتلخص فى قوله تعالى فى نفس السورة:
إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ فليس موضوع السورة الأسف والحزن الذى يدل عليه معنى كلمة يوسف، ألا يكون المناسب أنه هو النبى الذى تدور حوله أحداث السورة تناسب أن تسمى باسمه؟.
- وكذلك سورة الحجرات، فمعنى هذا الاسم مأخوذ من الحجر بمعنى المنع، والحجرات جمع حجرة، وهى: المكان المحجور عليه بجدار محيط به، والمراد بالحجرات هنا بيوت النبى ﷺ والسورة الكريمة فى مجمل موضوعها تدور فى فلك الحجر على بعض السلوكيات الاجتماعية السيئة وتطهير المجتمع المسلم منها، مثل سوء الاستئذان على البيوت، والأخذ بنميمة الفاسق، والتقاتل، والاستهزاء، والتنابز بالألقاب، والغيبة، ونحو ذلك مما يتنافى مع الآداب الإسلامية العظيمة.

الآيات القرآنية:
الآية فى اللغة: لها عدة معان، منها:
١ - الدليل والبرهان: كما فى قوله ﷿: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [الروم ٢٠].
٢ - العبرة: كما فى قوله ﷿: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ [هود ١٠٣].
٣ - المعجزة: كما فى الآية: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ [الإسراء ١٠١].
٤ - البناء الرفيع: كما فى قوله ﷿:
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ:
[الشعراء ١٢٨].
وفى الاصطلاح: تعنى: جملة من كلمات القرآن ذات مطلع ومقطع، مندرجة فى سورة قرآنية.
وبهذا المعنى وردت كلمة آية فى قول الله
 
١ ‏/ ٢٣١
 
﷿: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [النحل ١٠١].

المناسبة بين المعنى اللغوى والمعنى الاصطلاحى:
هى أن الآية القرآنية دليل على إثبات عديد من الحقائق مثل وحدانية الله، وهى حاملة للعبر والمواعظ النافعة، وهى معجزة تؤيد صدق نبوة الرسول ﷺ، وتعلن ربانية القرآن الكريم، كما أنها بناء رفيع جدا فى اختيار وتركيب حروف كلماتها، وفى ترتيب الكلمات فى سياقها، وهى مع آيات سورتها لبنة تكوّن بناءها.

عدد آيات القرآن الكريم:
اتفق العلماء على أن عدد الآيات القرآنية (٦٢٠٠) ستة آلاف ومائتا آية، واختلفوا فيما زاد على ذلك ما بين أربع، إلى ست وثلاثين آية.
ويجدر التنبيه هنا إلى أن هذا الاختلاف لا يمس حقيقة القرآن فى شىء، حيث إن القرآن المقروء، أو المكتوب واحد عند جميع العلماء فى المشرق والمغرب، فى القديم والحديث، لا ينقص كلمة هنا ولا حرفا هناك، وإنما غاية الأمر أنهم اختلفوا فى عد وتقسيم هذا الكم القرآنى إلى آيات، ومن أسباب ذلك:
- اختلافهم فى اعتبار الحروف الفواتح مثل الم طه يس ق آية، أو جزءا من آية.
- اختلافهم فى اعتبار البسملة آية، أو فاتحة للسورة فحسب.
- اختلافهم فى عد ما وقف عليه النبى ﷺ أثناء قراءته للقرآن، وما وصله.
وعلى هذا فالاختلاف بين العلماء فى هذا الشأن إنما هو اختلاف شكلى. والله أعلم.

ترتيب الآيات القرآنية:
قال الزرقانى- ﵀: «انعقد إجماع الأمة على أن ترتيب آيات القرآن الكريم على هذا النمط الذى نراه اليوم بالمصاحف كان بتوقيف من النبى ﷺ عن الله- ﷾ وأنه لا مجال للرأى والاجتهاد فيه. بل كان جبريل ﵇ ينزل بالآيات على رسول الله ﷺ، ويرشده إلى موضع كل آية من سورتها، ثم يقرؤها النبى ﷺ على أصحابه- رضى الله عنهم- ويأمر كتاب الوحى بكتابتها معيّنا لهم السورة التى تكون فيها الآية، وموضع الآية من هذه
 
١ ‏/ ٢٣٢
 
السورة، وكان يتلوه عليهم مرارا وتكرارا فى صلاته وعظاته وفى حكمه وأحكامه، وكان يعارض به جبريل كل عام مرة، وعارضه به فى العام الأخير مرتين، وكل ذلك كان على الترتيب المعروف لنا فى المصاحف».
ومن الأدلة على ذلك:
ما أخرجه الشيخان عن أبى مسعود قال:
قال النبى ﷺ: «من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة فى ليلة كفتاه».
وعند مسلم عن أبى الدرداء: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال». وفى رواية: «العشر الأواخر من سورة الكهف».
كما ثبت فى الصحيحين عن أبى هريرة ﵁ قال: كان النبى ﷺ يقرأ فى الجمعة فى صلاة الفجر الم (١) تَنْزِيلُ السجدة، وهَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ.
وعند مسلم عن أبى واقد الليثى أن النبى ﷺ كان يقرأ فى الأضحى والفطر ب ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ واقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ.
وأخرج الإمام مسلم عن عمر ﵁ قال:
ما سألت النبى ﷺ عن شىء أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن بإصبعه فى صدرى، وقال: «تكفيك آية الصيف التى فى آخر سورة النساء».
وروى الإمام أحمد عن عثمان بن أبى العاص قال: كنت جالسا عند رسول الله ﷺ إذ شخص ببصره ثم صوبه ثم قال: «أتانى جبريل فأمرنى أن أضع هذه الآية هذا الموضع من السورة: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى.
وهذا كله، وغيره كثير .. يدل على أن الآيات القرآنية نزلت بهذا الترتيب الموجود فى المصحف.

تناسب الآيات:

إن آيات القرآن الكريم لترتبط فيما بينها ارتباطا وثيقا، يعتبر مظهرا جليلا من مظاهر الإعجاز القرآنى، وتبدو آيات السورة الواحدة بهذا الترابط حلقات فى سلسلة، سلك فيها عقد جميل، ومن جمال تناسب الآيات أن كان على أشكال متنوعة أنظمها فى نوعين:
النوع الأول: تناسب أجزاء الآية الواحدة، ولهذا النوع أشكال:
أحدها: تناسب القسم مع المقسم به، مثل: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى والمناسبة هنا هى تشبيه النبى ﷺ بالنجم فى الاهتداء به.
 
١ ‏/ ٢٣٣
 
ثانيها: السؤال والجواب، مثل الآية أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [يس ٨١]. فآخرها جواب على أولها.
ثالثها: تناسب ألفاظ الآية مع حالها ومعناها، مثل آية سورة البقرة وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ [١٢٦] بالتنظير مع آية سورة إبراهيم: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ [٣٥]، ففي الآية الأولى حيث كانت مكة مكانا منكرا غير معروف جاء لفظه نكرة (بلدا)، ولما أصبح مكانا معروفا يرتاده الناس ويستوطنونه جاء اللفظ المعبر عنه معرفة (البلد) كما فى الآية الثانية.
ومثل قوله: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام ١٥١]، بالتنظير مع آية الإسراء وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ [٣١].
فحيث كان الفقر واقعا جاء التعبير مِنْ إِمْلاقٍ وطمأن الأسرة على رزقها فقدم خبرها نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ، وحيث كان الفقر متوقعا أشار إلى ذلك فقال: خَشْيَةَ إِمْلاقٍ
كما أشار إلى أن الأولاد يخلقهم ربهم وقد قدر لهم أرزاقهم، فقدم خبرهم فقال: نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ.
رابعها: تناسب خاتمة الآية مع موضوعها ... مثل قول الله- ﷾:
فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة ٢٠٩]، ذكر الإمام القرطبى حكاية عن النقاش: أن كعب الأحبار لما أسلم كان يتعلم القرآن، فأقرأه الذى كان يعلمه (فاعلموا أن الله غفور رحيم) على سبيل الخطأ- فقال كعب: إنى لأستنكر أن يكون هكذا، ومر بهما رجل فقال كعب: كيف تقرأ هذه الآية؟ فقال الرجل: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فقال كعب: هكذا ينبغى. وقيل: سئل كعب:
وكيف عرفت وأنت لا تحفظها؟ فقال: ما كان لمن توعد وتهدد أن يغفر ويرحم، وإنما يعز ويحكم.
النوع الثانى: تناسب الآيات مع بعضها داخل السورة الواحدة:
ولهذا النوع أيضا أشكال:
أولها: البيان والتفسير: كما فى الآيات:
إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعًا (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ
 
١ ‏/ ٢٣٤
 
جَزُوعًا (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [المعارج ١٩ - ٢١]. فقوله: هلوعا فسره ما بعده.
الثانى: التأكيد: مثل قول مؤمن آل فرعون: وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ [غافر ٤١، ٤٢]، فالآية الثانية تؤكد موضوع الآية الأولى.
الثالث: المقابلة: مثل قوله- ﷾: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار ١٣، ١٤].
الرابع: البدل للإيضاح لا للطرح: مثل قوله- ﷾: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة].
الخامس: جواب الشرط: كما فى أول سورة النصر: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجًا (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّابًا.

فواصل الآيات:
فاصلة الآية تطلق على الجملة أو الكلمة الأخيرة منها، وهى سر من أسرار القرآن الكريم، وهى قرينة القافية فى الشعر، واللازمة فى السجع، مع الفارق حيث إن الفاصلة فى القرآن لا تقصد لذاتها، وإنما تتبع المعانى، بينما نظائرها فى كلام الناس تقصد لذاتها، ويتوقف عليها المعنى، وعلى ذلك فالفاصلة بلاغة، ونظائرها عجز ونقص.
وحصر الإمام الزركشى فواصل الآيات فى أربعة أمور: التمكين، والتصدير، والتوشيح، والإيغال.
أما التمكين فمعناه: أن تكون الفاصلة خالصة مركزة لما قبلها، مما يعتبر تمهيدا لها، بحيث لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ ومثال ذلك قول الله ﷿: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا [الأحزاب ٢٥] فلولا الفاصلة لربما ظن أحد أن رد الكافرين كان أمرا اتفاقيا [يعنى صدفة] فأعلن الله بالفاصلة عن قدرته، تطمينا للمؤمنين، وتهديدا للكافرين.
وأما التصدير فمعناه: أن يكون لفظ الفاصلة مذكورا فى لفظ الآية، كما فى قوله- ﷿: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [يونس ١٩]، وفى
 
١ ‏/ ٢٣٥
 
الآية العاشرة من سورة نوح: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّارًا.
وأما التوشيح فيعنى: أن تكون الفاصلة مذكورة بمعناها فى صدر الآية- فبينه وبين التصدير شبه قريب، غير أن التصدير يكون باللفظ والتوشيح يكون بالمعنى. كما قال الزركشى:
«ويسمى به لكون نفس الكلام يدل على آخره، نزّل المعنى منزلة الوشاح، ونزّل أول الكلام وآخره منزلة العاتق والكشح، اللذين يجول عليهما الوشاح».
وذلك مثل: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ [يس ٣٧]، وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [الملك ١٣].
وأما الإيغال فهو: أن تفيد الفاصلة معنى جديدا بعد تمام معنى صدر الآية، فى مضمونه. ومثال ذلك: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء ٨٨]، فقد تم الكلام عند قوله: لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ويصح الاكتفاء به، ثم جاءت الفاصلة لتضيف معنى جديدا، وهو أنهم لا يأتون بمثل القرآن ولو تعاونوا على ذلك جميعا.
ومثاله فى قول الله- ﷿: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ المائدة ٥٠.
ومما تجدر الإشارة إليه فى هذا المقام:
تلك الفواصل المشتملة على وصف لله مركب من اسمين من أسمائه، أو صفتين من صفاته، مثل غَفُورٌ رَحِيمٌ عَلِيمٌ حَكِيمٌ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وهكذا، ومن أعظم وأبرز مظاهر الإبداع
فى هذا التركيب:
إثبات كمال الصفة لله بما يدفع توهم نقصانها أو طغيانها، فالعزيز- مثلا- وهو القوى الذى لا يغلبه غيره، قد تطغيه قوته، وأمان ذلك أن يكون القوى حكيما، فلا تدفعه قوته إلى ظلم أبدا، كما قال الله عن نفسه:
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء ٤٠].

البسملة آية أم لا؟
البسملة: هى قول القائل: بسم الله الرحمن الرحيم، ويعرف هذا بالتوليد، ومثلها الحوقلة، وهى: لا حول ولا قوة إلا بالله، والسبحلة، وهى: سبحان الله، والحمدلة، والتهليل، وهكذا.
 
١ ‏/ ٢٣٦
 
معناها:
قال جلة من العلماء: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قسم من ربنا أنزله عند رأس كل سورة، يقسم لعباده: إن هذا الذى وضعت لكم يا عبادى فى هذه السورة حق، وإنى أوفى لكم بجميع ما ضمنت فى هذه السورة من وعدى ولطفى وبرّى. القرطبى (١/ ٧٩).
وقيل: معناها الاستعانة، أى: أستعين على قراءتى، ونحوها ب (اسم الله الرحمن الرحيم).
ويقال: للتبرك عند البدء والشروع فى الشيء، أى أبدأ عملى متبركا ب (اسم الله الرحمن الرحيم).

منزلتها من القرآن:
اختلف العلماء حول إن كانت البسملة قرآنا، أو مجرد استفتاح للسور القرآنية كما هى استفتاح لكل عمل ذى بال:
فقال الإمام مالك: ليست البسملة آية من الفاتحة ولا من غيرها.
وقال الإمام عبد الله بن المبارك: إنها آية من كل سورة.
وقال الإمام الشافعى: هى آية من الفاتحة، وتردد قوله فى سائر السور، فقال مرة: هى آية من كل سورة، وقال مرة أخرى: ليست آية إلا فى الفاتحة فقط.
غير أنهم أجمعوا على كونها بعض آية من سورة النمل: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [الآية ٣٠].
وأرجح هذه الأقوال ما ذهب إليه الإمام مالك، فمستنده أقوى من مستند غيره، ولا يعترض عليه بأن البسملة مثبتة فى المصاحف وليس فيها إلا ما هو قرآن، لأن الخلاف حول كونها من كل سورة، وليس حول قرآنيتها، ولا ينفى الإمام مالك كونها قرآنا، وإنما لا يعدها آية من كل سورة، ويؤيد هذا القول اختلاف العلماء حولها، ولو كانت قرآنا متواترا معدودا فى آيات السور القرآنية لما ترك النبى ﷺ قراءتها عند قراءته لأول السورة كما صح ذلك عنه كثيرا، ولما ساغ للعلماء أن يختلفوا فيها هذا الاختلاف.
ويتفرع على هذا الاختلاف تنوع القول فى حكم قراءتها فى الصلاة وخارجها، وبسط ذلك فى كتب فقه الفروع.

الحروف المفردة فى فواتح السور:
افتتح الله- تعالى- تسعا وعشرين سورة ببعض الحروف الهجائية، بلغ عددها بدون تكرار أربعة عشر حرفا. مثالها ق طه الم المص كهيعص.
ولما كان التعبير بها عجيبا اختلف العلماء
 
١ ‏/ ٢٣٧
 
حول معناها والمراد بها اختلافا يمكن إجماله فى قولين:
أحدهما: أن هذه الحروف سر من أسرار الله فى قرآنه، لا سبيل إلى كشفه، بل هو من المتشابه الذى استأثر الله بعلمه، فلم يطلبوا لها معنى، ولم يلتمسوا لها فى الإعراب وجها، ونسب هذا القول إلى الخلفاء الأربعة وابن مسعود وغيرهم من الصحابة- رضى الله عنهم- وتبعهم على هذا جماعة من الخلف.
ثم جاء من يقول أيضا: إنها سر ولكنه من قبيل الرمز الذى يمكن الوصول إليه بالتدبر، فقال بعضهم: إنها حروف مقتضبة من أسماء الله وصفاته، فقالوا فى الم: الألف إشارة إلى أحد، واللام إشارة إلى لطيف، والميم إشارة إلى ملك.
وقيل: إنها لأسماء الله- ﷻ والرسول ﷺ والملك ﵇، فالألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد.
وقيل غير ذلك.
القول الآخر: قول جمهور العلماء، وهو: أنه لا يليق بالقرآن العربى المبين أن يكون فيه شىء غير مفهوم، وإنما جاء الأمر على هذا الوجه من الغموض طلبا للتدبر، كما قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد ٢٤].
ولما كان الأمر قائما على التدبر لا جرم تنوعت كلمات العلماء فى بيان ذلك، ومنه:
قول البعض: إنها أسماء للسور التى افتتحت بها، فهذه سورة ن، يس وهكذا.
ولكن يرده أنه ليس أمرا مطردا فى جميع سور القرآن، وأن التسمية التى يطلب بها التمييز لا يتحقق مطلوبها هنا، فهناك عدة سور تسمى- على هذا- ب الم، ومجموعة سور أيضا تسمى ب حم، ومثلها تسمى ب الر.
وقيل: إنها أسماء للقرآن، بدعوى أنه يتبعها فى سورها تعظيم للقرآن مثل: الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [أول البقرة].
وإنما يبطل هذا القول أن هذا ليس مطردا فى كل المواضع مثل سورة العنكبوت:
الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ.
وقيل: هى أقسام أقسم الله بها. ورده العلماء بحجة حذف حرف القسم، وهو لا يحذف إلا مع اسم الجلالة عند البصريين، وبأنه يلزم على هذا القول الجمع بين قسمين،
 
١ ‏/ ٢٣٨
 
كما فى ن وَالْقَلَمِ. يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ وقد كره العلماء هذا.
وأرجح الأقوال فى هذا الشأن: أن معنى هذه الحروف هو ما تصدق عليه من حروف الهجاء، ف الم هى: الألف واللام والميم، وهكذا دواليك.
والمراد بها على هذا الوجه هو الإعجاز، بمعنى: كأن الله يقول للمنكرين لربانية القرآن: هذه هى الحروف التى تركبت منها كلمات القرآن، ومنها تركبون كلامكم، فإن كان القرآن- كما تزعمون- افتراء محمد، أو من تعليم بشر، أو سحر يؤثر، وليس من عند الله، فافتروا قرآنا مثله، كما جاء ذلك صريحا فى قول الله- ﷾: أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ [الطور ٣٣ - ٣٤] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [هود ١٣]، وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [البقرة ٢٣].
ولم يستطيعوا شيئا من ذلك، بل لم يرفعوا بذلك رأسا ولا عقيرة، فوقع الحق وظهر أمر الله، كما قال- ﷾: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء ٨٨].
واستأنس البعض لهذا القول ببعض النكات الحسان منها:
١ - أن هذه الحروف أربعة عشر حرفا، على النصف من عدد الحروف الهجائية الثمانية والعشرين، وعدد السور المفتتحة بها تسع وعشرون سورة، على عدد حروف الهجاء عند من يعتبر الألف المهموز حرفا، وغير المهموز حرفا آخر.
٢ - أنها اشتملت أنصاف الحروف من حيث الصفات، ففيها نصف حروف الهمس، والجهر، والشدة، والرخاوة، والإطباق، والانفتاح، وغير ذلك.
٣ - أن عددها الأربعة عشر، مطرد فى كثير من الخلق، مثل مفاصل كل يد فى جسم الإنسان، ومنازل القمر فى البروج الشمالية، أو الجنوبية ... وهكذا.
هذا والله تعالى أعلى وأعلم
وهو ولى الهداية والتوفيق
د./ عبد البديع أبو هاشم محمد
 
١ ‏/ ٢٣٩
 
مراجع للتوسع:
(١) البرهان فى علوم القرآن. للإمام بدر الدين الزركشى.
(٢) الإتقان فى علوم القرآن. للإمام جلال الدين السيوطى.
(٣) مناهل العرفان فى علوم القرآن. للشيخ محمد عبد العظيم الزرقانى.
(٤) مباحث فى علوم القرآن، للشيخ مناع القطان.
 
١ ‏/ ٢٤٠

عن الكاتب

Tanya Ustadz

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية