الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

عام القرآن وخاصه ومطلق القرآن ومقيده

عام القرآن وخاصه ومطلق القرآن ومقيده

الكتاب: الموسوعة القرآنية المتخصصة
المؤلف: مجموعة من الأساتذة والعلماء المتخصصين
رئيس التحرير: أ.د. علي جمعة
الناشر: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، مصر
عام النشر: ١٤٢٣ هـ - ٢٠٠٢ م
عدد الصفحات: ٨٨٢
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
الموضوع: علوم القرأن
 

فهرس الموضوعات 

  1. القرآن وما يكتب فيه
  2. أولا: القرآن: أسماؤه وإطلاقاتها لغة وشرعا
  3. الإطلاق الأول القرآن باعتباره ألفاظا منطوقة
    1. أولا: القرآن بوصفه علم شخص على هذا الاعتبار:
    2. ثانيا: القرآن بوصفه اسم جنس باعتبار اللفظ المنطوق:
  4. الإطلاق الثانى القرآن باعتباره نقشا مرقوما
    1. الفرق بين القرآن وبين كل من الحديثين القدسى والنبوى
  5. الإطلاق الثالث القرآن باعتباره كلاما نفسيا قائما بذاته (إطلاقه عند المتكلمين)
  6. مسألة:"نزول القرآن على سبعة أحرف"
    1. الوجه الرضى فى الأحرف وكيف اكتملت به العدة سبعة:
    2. بقاء الأحرف السبعة فى المصحف على هذا الوجه:
    3. ليست قراءات الأئمة السبعة تمام الأحرف السبعة:
  7. عروبة لغة القرآن، وهل يقدح فيها المعرب؟
  8. غريب القرآن
  9. منطوق القرآن ومفهومه
  10. عام القرآن وخاصه
  11. مطلق القرآن ومقيده
    1. أولا: ما هو المطلق:
    2. ثانيا: حكم المطلق مع المقيد:
  12. مجمل القرآن ومبينه
    1. أولا: المجمل:
    2. إحداها: أسباب الإجمال:
    3. ثانيها: هل المجمل واقع فى القرآن؟:
    4. ثالثها: آيات اختلف فيها هل من قبيل المجمل أم المبين؟
    5. رابعها: التفرقة بين المجمل والمحتمل لمعنيين:
    6. خامسها: حكمة إيراد المجمل:
    7. ثانيا: المبين:
    8. أولاهما: بم يقع البيان؟
    9. ثانيتهما: تأخير البيان: 
  13. أحكام القرآن
    1. منهج القرآن العظيم فى سياق أحكامه
    2. الأحكام الشرعية بين القطعية والظنية:
  14. أقسام القرآن
  15. أركان القسم:
  16. الأسماء والكنى والألقاب فى القرآن
    1. أولا: الأسماء:
    2. ثانيا: الكنى:
    3. ثالثا: الألقاب:
    4. الموصول لفظا المفصول معنى
    5. خواص القرآن
  17. جمع القرآن
    1. أولا: جمع القرآن بمعنى حفظه:
    2. ثانيا: جمع القرآن بمعنى كتابته:
    3. (أ) عهد النبى صلى الله عليه وسلم:
    4. الباعث على كتابة القرآن فى هذا العهد:
    5. (ب) ما وقع من الجمع الكتابى فى عهد أبى بكر للقرآن:
    6. (ج) الجمع العثمانى للقرآن:
    7. كتابة القرآن
    8. المصحف نقطه وشكله
  18. العودة إلي كتاب الموسوعة القرآنية المتخصصة

 القرآن وما يكتب فيه
 
أولا: القرآن: أسماؤه وإطلاقاتها لغة وشرعا
قال الجاحظ: «سمى الله كتابه اسما مخالفا لما سمى العرب كلامهم على الجملة والتفصيل. سمى جملته قرآنا، كما سموا ديوانا، وبعضه سورة كقصيدة، وبعضها آية كالبيت، وآخرها فاصلة كقافية (١).
وقد أفرد البعض أسماء القرآن بالتصنيف، فصنف فيها الحرالّيّ جزءا أنهى فيه أسامى القرآن إلى نيف وتسعين (٢) اسما.
وقال أبو المعالى عزيزى بن عبد الملك المعروف بشيذلة (٣) فى كتاب البرهان:
«واعلم أن الله سمى القرآن بخمسة وخمسين اسما» أهـ.
وإذا كانت كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى غالبا كما يقولون، فإنه لا أشرف من القرآن ولا أجدر منه بالحظوة بكل شرف ورفعة، بيد أن أولئك الذين قد بلغوا بأسماء القرآن إلى هذا الكم الهائل نيّفا وتسعين أو خمسة وخمسين وما إلى ذلك قد أسرفوا، وما لزموا الجادة فى التفرقة بين ما حقه أن يعدّ اسما، وما هو من قبيل الأوصاف التى لا ينبغى نظمها فى سلك الأسماء، فلم يفرقوا بين القرآن الاسم، والحكيم الوصف.
وإنما الجدير أن يعدّ من أسماء القرآن حقا خمسة أسماء:
أولها: وأشهرها على الإطلاق: «القرآن» وفى بيان أصل هذا اللفظ ومأخذه نقول: لم يختلف أحد فى علمية- أى كونه علما- كلمة القرآن على هذا الكتاب الحكيم المجموع بين دفتى المصحف، وإنما الخلاف الواقع بين أهله فى هذه الكلمة فى ثلاثة أمور:
أحدها: هل نقل عن معنى كان قبل العلمية أو لا؟
ثانيها: هل هو مشتق أو مأخوذ من شىء أو لا؟
ثالثها: هل يهمز أو لا يهمز؟ وإن همز فهل همزته أصلية ونونه زائدة أو العكس.
وهاك تفصيل ذلك كله:
١ - قال قوم منهم اللحيانى (٤): «هو
(١) الإتقان ج ١ ص ١٧٨.
(٢) البرهان ج ١ ص ٢٧٣.
(٣) فى المطبوع «سيدلة» بالسين، تصحيف، وشيذلة، ضبطها ابن خلكان بفتح الشين والذال واللام، وقال: «وهو لقب عليه، معناه: مع كشفى عنه» وعزيزى، ضبطه أيضا بفتح العين، هو ابن عبد الله أحد فقهاء الشافعية، وصاحب كتاب البرهان فى مشكلات القرآن. توفى سنة ٤٩٤ هـ. انظر ابن خلكان ج ١ ص ٣١٨، وشذرات الذهب ٣/ ٤٠١، وكشف الظنون ٢٤١.
(٤) اللحيانى: هو أبو الحسن على بن حازم، اللغوى المشهور المتوفى سنة ٢١٥ هـ، وقد أفاد ابن سيدة من كتبه فى تأليف (المخصص).
 
١ ‏/ ٩٥
 
مصدر لقرأت، كالرجحان والغفران، سمى به الكتاب المقروء من باب تسمية المفعول بالمصدر». أه (٥).
وهذه المقالة من أصحابها تتضمن أمرين:
أولهما: أن الكلمة التى جعلت علما لهذا الكتاب هى بعينها الكلمة التى جاءت فى اللغة مصدرا بمعنى القراءة، فتكون علميتها منقولة عن المعنى المصدرى، تسمية للمفعول بالمصدر، كاللفظ بمعنى الملفوظ، والمعنى المصدرى ظل مستعملا ولم يهجر مع استعمال الكلمة فى معنى المفعول أيضا.
وثانى الأمرين وهو يترتب على أولهما:
أن هذه الكلمة فى علميتها كما هى فى مصدريتها مهموزة همزتها أصلية ونونها زائدة على زنة فعلان، ومن حذف همزتها كقراءة ابن كثير ونطقها هكذا (قران) فهو من باب التخفيف بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الساكن قبلها على وزن (فعان). وهذا القول بما يتضمنه من هذين الأمرين هو المختار الذى لا ينبغى التعويل إلا عليه (٦).
فمن ثم وفق الأستاذان الجليلان الزرقانى وغزلان كل التوفيق إذ اختاراه (٧).
وهذا الرأى هو ما عليه جمهور من كتب فى علم الأصول كالسعد التفتازانى والجلال المحلى.
٢ - وذهبت طائفة منهم الزجاج إلى أنه: وصف على وزن (فعلان) من القرء بمعنى الجمع.
وعلى ذلك يكون للفظة (القرآن) استعملان فى معنى المصدرية وتكون بمعنى القراءة الوصفية وتكون مشتقة من القرء بمعنى الجمع، والثانى هو العلم على خصوص الذكر الكريم.
وعليه أيضا تكون الهمزة أصلية فى الكلمة والنون زائدة، ومن حذف الهمزة تخفيفا نقل حركتها للساكن قبلها فصارت على وزن (فعان).
والذى أذهب إليه هو ضعف هذا الرأى وإن مال بعضهم إلى اختياره كالآلوسى، وقد ردّ هذا القول أيضا الشيخ غزلان بأن هذه الصيغة غير مألوفة فهى سماعية لا يخرج عليها إلى عند الضرورة، ولا ضرورة هنا (٨).
٣ - ونقل الزركشى عن بعض المتأخرين (٩) والسيوطى عن قطرب (١٠) أن:
مادة القرآن هى (قرأ) بمعنى أظهر وبيّن، وأنكر بعض المتأخرين أن تكون من القرء بمعنى الجمع لقوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، وهذا القول لم يبين أصحابه هل لفظة (القرآن) مصدر أم وصف على وزن فعلان، وإن كان المتعين من حكاية الزركشى
(٥) الإتقان ج ١ ص ١٨٢.
(٦) انظر: المسألة التاسعة من تفسير قوله تعالى شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (البقرة ١٨٥) من تفسير الجامع لأحكام القرآن (ج ٢ ص ٢٩٨).
(٧) انظر: مناهل العرفان للزرقانى (ج ١ ص ١٤٠)، والبيان، للشيخ غزلان (ص ١٩ - ٢١).
(٨) البيان فى مباحث من علوم القرآن لغزلان (ص ٢٠).
(٩) انظر: البرهان (ج ١ ص ٢٧٧).
(١٠) انظر: الإتقان (ج ١ ص ١٨٢).
 
١ ‏/ ٩٦
 
أنهم يجعلونها مصدرا من الإظهار وليس الجمع.
وعلى هذا القول تكون الهمزة من أصل الكلمة كسابقه، ولكن أصحاب هذا القول منعوا أن تكون لفظة (قرآنه) فى قوله تعالى:
إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ من القرء بمعنى الجمع أو مصدرا بمعنى القراءة.
والصحيح أن العطف للفظة (قرآنه) على (جمعه) لا يلزم منه التكرار كما قالوا، بل (جمعه) يكون فى قلبه ﷺ، و(قرآنه) يكون فى اللسان فيكون بمعنى القراءة، أو القرء بمعنى الجمع لحروفه بعضها البعض، وعليه يكون المعنى: أن يقرأ النبىّ ﷺ ما جمعه الله له فى صدره. وهذا المعنى هو الظاهر الراجح.
ولقد اتفقت الأقوال الثلاثة السابقة فى أمرين هما: علمية لفظة (القرآن) على الذكر الحكيم، وكون الهمزة من أصل كلمة (القرآن).
٤ - نقل الزركشى عن تاريخ الخطيب قول الشافعى: أنه قرأ القرآن على إسماعيل ابن قسطنطين ولم يكن يهمز (القرآن) وأنه كان يجعله اسما ليس مأخوذا من القراءة، ونقل عن الواحدي أيضا نسبة عدم الهمز لقراءة ابن كثير والشافعى وإن همز الأخير (قرأت)، فهى علم مشتق كما قاله جماعة من الأئمة (١١).
٥ - ونقل الزركشى أيضا عن البيهقى أنه: نقل عن جماعة أن (القرآن) مشتق من قرنت الشيء بالشىء إذا ضممته، لضمه السور والآيات بعضها لبعض. ونقل عنه نسبة هذا المعنى للأشعرى (١٢).
٦ - ونقل السيوطى عن القراء أنه:
مشتق من القرائن (١٣)، لأن الآيات يصدق بعضها بعضا.
والأقوال الثلاثة الأخيرة تتفق فى أمرين هما: أن لفظة (قران) لم تستعمل قبل التنزيل بل هى علم مرتجل وليس منقولا، وأنها غير مهموزة ونونها أصلية فهى على وزن (فعال)، ومن همز تكون على وزن (فعئال) بزيادة الهمزة. هذا كله فى لفظة (قرآن) فى غير آية القيامة.
ويختلف القول الثالث منها عن الآخرين فى جعله لفظة (قران) علما غير مشتق، وهما يجعلانه مشتقا.
وهذه الأقوال الثلاثة ضعيفة؛ لمخالفتها ما أطبق عليه القراء- ما عدا ابن كثير- من إثبات الهمزة، وادعاء زيادتها لأصحاب الأقوال الثلاثة بغير برهان؛ لأن الأصل عدم الزيادة، وهذا ما جعل الزجاج ينسب هذا
(١١) انظر: البرهان (ج ١ ص ٢٧٧) وما بعدها.
(١٢) انظر: البرهان (ج ١ ص ٢٧٨).
(١٣) وعبارة الزركشى عن هذا القول: «وقال القرطبى: القرآن- بغير همز- مأخوذ من القرائن». وهى أدق مما نقل عن الفراء؛ لأن الاشتقاق إما أن يكون من المصدر، وهو المختار الذى عليه مذهب البصريين، وإما أن يكون من الفعل الماضى على ما هو مذهب الكوفيين، والقرائن الذى هو جمع قرينة ليس بمصدر ولا بفعل حتى يشتق
منه، فالقول من مثله غلط محض، أما الأخذ الذى عبر به القرطبى فيما نقل عنه الزركشى فهو أوسع دائرة من الاشتقاق فيصحّ.
 
١ ‏/ ٩٧
 
القول للسهو، وهو ما أشار إليه الفارسى فى الحلبيات. (١٤)
ومما يجب الالتفات إليه أن أصحاب الأقوال السابقة جميعها لا ينكرون مجىء لفظة (قرآن) مصدرا فى اللغة، ولكنهم عند ما يختلفون يتكلمون عن كلمة أخرى؛ لأنهم صرحوا بنسبة (القرآن) للاستعمال فى المصدرية، صرح بذلك الفراء والقرطبى، ويصعب أن يغيب مثل هذا الثابت فى اللغة عن أمثال الشافعى والفراء.
وأما ثانى أسمائه: فهو: «الفرقان» وقد سماه الله به فى قوله تعالى من سورة آل عمران: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ (١٥) وقوله جل قائلا: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيرًا (١٦). وفى تفسير هذا الاسم يقول الزركشى فى البرهان: «وأما تسميته «فرقانا»؛ فلأنه فرق بين الحق والباطل، والمسلم والكافر، والمؤمن والمنافق، وبه سمى عمر بن الخطاب الفاروق». (١٧)
وذهب لمثل هذا المعنى الآلوسي وإن زاد أنه قد يكون سمّى بذلك لفصل بعضه عن بعضه الآخر، أو لكونه نزل مفصلا وليس دفعة واحدة كغيره من الكتب، وزاد أيضا أنه مصدر بمعنى الفاعل أو المفعول. (١٨)
ومما سبق نقله تكون كلمة (الفرقان) تطلق ويراد منها الفاعل أى الفارق؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل، وتطلق ويراد منها المفعول أى المفروق بين سوره أو بين نجومه فى نزوله، أو المفروق فيه بين الحق والباطل.
وقد رد العلامة الآلوسي جميع أسماء القرآن وأوصافه لهذين الاسمين (القرآن والفرقان)؛ ولذا اقتصر عليهما. (١٩)
وأما ثالث هذه الأسماء الخمسة: فهو «الكتاب». قال الآلوسي ﵀ فى تفسيره من قوله تعالى سورة البقرة: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ (والكتاب كالكتب مصدر كتب ويطلق على المكتوب كاللباس بمعنى الملبوس (١٩)، والكتب كما قال الراغب: ضم أديم إلى أديم بالخياطة. وفى المتعارف: ضم الحروف بعضها إلى بعض. والأصل فى الكتابة النظم بالخط، وقد يقال ذلك للمضموم بعضه إلى بعض باللفظ، ولذا يستعار كل واحد للآخر، ولذا سمّى (كتاب الله) وإن لم يكن كتابا، والكتاب هنا إما باق على المصدرية وسمى به المفعول للمبالغة أو هو بمعنى المفعول، وإطلاقه على المنظوم عبارة قبل أن تنتظم حروفه التى يتألف منها
(١٤) انظر: البرهان (ج ١ ص ٢٧٨).
(١٥) سورة آل عمران (٣، ٤).
(١٦) سورة الفرقان آية (١).
(١٧) انظر: البرهان (ج ١ ص ٢٨٠).
(١٨) روح المعانى، للآلوسى (ج ١٨ ص ٢٣١).
(١٩) روح المعانى، للآلوسى (ج ١ ص ٨).
 
١ ‏/ ٩٨
 
فى الخط تسمية بما يؤول إليه مع المناسبة.
ويطلق الكتاب كالقرآن على المجموع المنزل على النبى المرسل ﷺ وعلى القدر الشائع بين الكل والجزء) (٢٠) أهـ.
وبعد هذا التحرير لأمر هذه الأسماء الثلاثة، لم يبق غير ردّ دعاوى بعض أتباع المستشرقين من أمثال بلاشير وكرنكو عند ما يذهبون إلى عدم أصالة هذه الألفاظ الثلاثة فى اللغة العربية، وأنها ترتد لأصل آرامى. (٢١)
وهذا باطل أيضا من جهة أخرى: أن استعمال العرب هذه الألفاظ قبل التنزيل كان كافيا لتعريبها.
وأما رابع هذه الأسماء فهو «التنزيل» قال فى تفسيره الزركشىّ ﵀: «وأما تسميته (تنزيلا)؛ فلأنه مصدر نزلته لأنه نزل من عند الله على لسان جبريل؛ لأن الله تعالى أسمع جبريل كلامه وفهمه إياه كما شاء من غير وصف ولا كيفية، فنزل به على نبيه، فأداه هو كما فهمه وعلمه» أهـ (٢٢).
وقد جاء ذكر هذا اللفظ- أعنى لفظ التنزيل- فى نحو قوله تعالى من سورة الشعراء: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ وقوله فى سورة الحاقة تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ.
وأما خامس هذه الأسماء فهو: «الذكر» كما فى قوله تعالى فيما قال جوابا على المتهكمين على القرآن ونبيه ﷺ: وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ الآية. وقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ. (٢٣) وقوله علا وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ الآية.
وقوله سبحانه: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ. وقوله جل من قائل: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ (٢٤). وقوله تعالى: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ. (٢٥)
والذكر مصدر ذكر يذكر، فإطلاقه على التنزيل المجيد إما لكونه ذاكرا للناس ما يصلح أمر معاشهم ومعادهم مذكّرا بما فيه من البشارة والنذارة، فيكون من إطلاق المصدر على الفاعل، وإما لكونه مذكورا بفضله وشرفه، وبالقلب وعيا وإجلالا، وباللسان تلاوة وعلما، مذكورا فيه ما لا يستقيم أمر الخلق إلا به، فيكون من إطلاق المصدر على المفعول.
ويجوز أن يكون من الذكر بمعنى الشرف لكونه شريفا فى نفسه مشرفا لمن انتسب إليه وتخلق به. قال تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ وقال: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ
(٢٠) روح المعانى، للآلوسى (ج ١ ص ١٠٦).
(٢١) انظر: مباحث فى علوم القرآن (ص ١٧ - ١٩).
(٢٢) انظر: البرهان (ج ١ ص ٢٨١).
(٢٣) سورة الحجر آية (٩).
(٢٤) سورة الزخرف آية (٤٤).
(٢٥) سورة الأنبياء آية (٥٠).
 
١ ‏/ ٩٩
 
لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ. فيكون من الإطلاق الأول- أعنى إطلاق المصدر على الفاعل-.
وعبارة الزركشى ﵀ فى تفسير هذا الاسم: «وأما تسميته ذكرا» فلما فيه من المواعظ والتحذير وأخبار الأمم الماضية، وهو مصدر ذكرت ذكرا.
والذكر: الشرف. قال تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أى: شرفكم أه. (٢٦)
وبعد فهذه هى الأسماء الخمسة لهذا الكتاب العظيم أغفل الطبرى ﵀ منها رابعها وهو التنزيل، بيد أن هذا الاسم قد صار من أشهر أسمائه فى عرف جميع المنتسبين إليه من العلماء فمن دونهم. قال الشيخ طاهر الجزائرى فى كتابه (التبيان):
«وقد كثر تداول العلماء لهذا الاسم: فتراهم يقولون: ورد فى التنزيل كذا، ولم يرد فى التنزيل كذا إلى غير ذلك، وهو يعنون بالتنزيل القرآن» أه. (٢٧) قال شيخنا
غزلان: «وهذه الأسماء الخمسة هى التى شاع على ألسنة العلماء استعمالها أسماء للنظم الكريم، وكلها أعلام بالغلبة، ولا ريب أن القرآن أشهرها وأكثرها جريانا على الألسنة» أه. (٢٨)
الحقيقة الشرعية لهذه الأسماء وإطلاقاتها (علم الشخص- اسم الجنس) (القرآن): تعددت إطلاقات القرآن بالمعنى الشرعى تبعا لتعدد اعتبارات ما يراد منه، فتارة يراد باعتباره لفظا منطوقا، وتارة باعتباره نقشا مرموقا فى المصحف، وثالثة باعتباره الكلام النفسى القائم بذاته الأقدس ﷻ.
وقد اتفق العلماء على صحة إطلاق (القرآن) على اللفظ المنطوق بالألسنة، وعلى النقش المرقوم فى المصحف، سواء كان هذا الإطلاق من خلال جعله علم شخص بأن يكون هذا الإطلاق على المجموع المؤلف من مائة وأربع عشرة سورة بحركاتها وسكناتها، أم كان من خلال اسم الجنس الذى يطلق فيه الاسم (القرآن) على كل القرآن أو بعضه؛ لأنهما يشتركان فى قدر مشترك ولكنهم يختلفون فى إطلاقه على الكلام النفسى القائم بذاته.
(٢٦) انظر: البرهان (ج ١ ص ٢٧٩).
(٢٧) انظر: البيان (ص ١٢٣).
(٢٨) البيان (ص ٢٢). وقوله ﵀: (وكلها أعلام بالغلبة) غلبة العلمية هى أن يكون للاسم عموم بحسب الوضع فيعرض له الخصوص فى استعماله لغلبة إطلاقه على شىء بعينه، ثم إن كان استعمل فى غير ما غلب عليه كالعقبة والنجم فالغلبة تحقيقية، وإن لم يستعمل فى غيره أصلا مع صلوحه لذلك بحسب وضعه فتقديرية. انظر حاشية الخضرى على ابن عقيل (ج ١ ص ٨٧). والأسماء الخمسة استعملت بالفعل فى فرد آخر مندرج تحتها فهى من الغلبة التحقيقية.
 
١ ‏/ ١٠٠
 
وبهذا التمهيد يصلح أن نفصل الكلام فى إطلاق القرآن باعتباراته الثلاثة، فنبدأ بموطن اتفاق العلماء، ثم نثنى بموطن الاختلاف.

الإطلاق الأول القرآن باعتباره ألفاظا منطوقة
 
أولا: القرآن بوصفه علم شخص على هذا الاعتبار:
إذا أردنا أن نعرف القرآن من حيث هو علم شخص فعلينا أن نعين مدلوله بإيراد أهم خصائصه التى اشتهر بها ولا سيما عند علماء أصول الفقه ومنها:
١ - الإنزال أو التنزيل على النبى ﷺ.
٢ - الإعجاز بسورة منه.
٣ - النقل بالتواتر.
٤ - الكتابة فى المصحف.
٥ - التعبد بالتلاوة.
وذكر بعض هذه الخصائص يكفى لتمييز مدلوله. ولنا أن نعرفه من خلال هذه الخصائص الخمسة بقولنا: القرآن هو «القول أو الكلام المنزل على محمد ﷺ للإعجاز بسورة منه المنقول إلينا بالتواتر، المكتوب فى المصحف، المتعبد بتلاوته من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس».
وخرج (بالقول أو الكلام) الألفاظ المهملة، وب (المنزل) ما لم ينزل من كلامه المذخور عند الذى لا ينفد كلامه، والأحاديث النبوية. أما خروج الأحاديث القدسية فيتوقف على القول فى: هل نزلت على نبينا محمد ﷺ بألفاظها أو لا؟ فبالأول: قال بعض المحققين مثل الأستاذ محمد عبد الله دراز فى «النبأ العظيم». وعليه نحتاج إلى قيد لإخراج هذه الأحاديث القدسية.
وبالثانى: قال الجمهور، وعليه لا حاجة لقيد جديد لإخراجها. فالحديث النبوى سواء كان النبىّ ﷺ فهمه من كلام الله وبتأمله حقائق الكون فهو كالتوقيفي، أم كان توقيفا بأن تلقى مضمونه من الوحى فهو من حيث مضمونه منسوب له ﷾، ولكنه فى القسمين حرىّ بأن ينسب من حيث كونه كلاما لفظيا لقائله وهو النبىّ ﷺ. فخرج القسمان بالقيد الأول. وكذلك الحال فى الحديث القدسى؛ لأنه على القول الراجح منزل بمعناه فقط؛ لأنه لم يأخذ أحكام حرمة اللفظ كالقرآن من حرمة روايته بالمعنى، ومسّ المحدث لما حواه. والتحدى بالقرآن وعدمه بالحديث القدسى فارق آخر، وكذلك عدم التعبد بتلاوته كلاهما يثبت عدم نزوله بلفظه.
 
١ ‏/ ١٠١
 
أما نسبة القول فى الحديث القدسى له ﷾ فنسبة مألوفة معروفة فى العربية. وإنما لم نسمّ بعض الحديث النبوى بالقدسى لأننا لم نقطع بنزول معناه كما قطعنا فى الحديث القدسى؛ لورود النص بقوله ﷺ فى القدسى: «قال الله تعالى». هذا مع تلقينا لكل سننه ﷺ بالقبول بقسميها التوفيقى والتوقيفى لقوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (الحشر ٧).
وجعل التنزيل متعلّقا لقوله فى التعريف (على محمد ﷺ قيد ثان يخرج المنزل على غيره ﷺ من ملائكة ورسل وأنبياء آخرين كصحف إبراهيم، وتوراة موسى.
وقولنا فى هذا التعريف: (للإعجاز بسورة منه) المقصود به إظهار عجز المرسل إليهم وصدق النبى ﷺ، وهذا الإعجاز يكون بأى سورة- ولو الكوثر أقصر سورة أو ما فى قدرها- وهذا المعنى يفيد أن الإعجاز لم يكن بالقرآن كله كما فى آية الإسراء، ولا بعشر سور كما فى آية هود، بل بسورة واحدة. وجاء بها نكرة فى سياق الشرط ليعممها كما فى آية البقرة: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ليدلّ إطلاقها على صدقها بأى سورة ولو أقصرها، ويفيد أيضا أن المراد بالقرآن المعرف هو المجموع الشخصى الذى لا يقال إلّا على كل القرآن دفعة واحدة، ويفيد أيضا منع توهم بعض الجاهلين أن الإعجاز لا يكون إلّا بما هو أكبر من سورة الكوثر مثلا.
وعليه فقولنا: (للإعجاز بسورة منه) قيد ثالث اكتفى به بعض المعرفين؛ للاحتراز عن الكلام غير المعجز المنزل من عنده ﷾، وعن المنسوخ، وهذا صنيع ابن
الحاجب، ورأى ابن السبكى فى «جمع الجوامع» عدم الاكتفاء به، وجعله مخرجا للأحاديث القدسية.
وقولنا: (المنقول إلينا بالتواتر) قيد رابع يخرج المنقول أحاديا، كمنسوخ التلاوة إن نقل آحادا بسند صحيح أو حسن، ويخرج أيضا القراءات الشاذة.
وأرى أن قيد التواتر فى التعريف إنما هو لبيان الواقع لا للإخراج؛ لأن القراءات الشاذة ومنسوخ التلاوة خرجا بقيد الإعجاز السابق.
وكذلك قولنا: (المكتوب فى المصحف) فإنه لا يخرج شيئا. وإن كان بعض الأئمة كأبى حامد الغزالى فى «المستصفى» ألّف بين القيدين (التواتر والكتابة فى المصحف) واكتفى بهما عن غيرهما. وهو صنيع صدر الشريعة فى تنقيحه وتوضيحه. فعرف هؤلاء
 
١ ‏/ ١٠٢
 
(القرآن) بأنه هو: «ما نقل بين دفتى المصحف تواترا».
وقولنا: (المتعبد بتلاوته) أيضا لبيان الواقع لا للإخراج. ومن قال: إنه لإخراج القراءات الشاذة أو منسوخ التلاوة كالجلال المحلى، فقول غير صحيح، بل هذه العبارة لا تصلح قيدا ولا يحتاج إليها فى التعريف؛ لأنه من أحكام القرآن، ومن المقرر أن التعريفات تنزه عن ذكر الأحكام فيها، قال الأخضرى:
وعندهم من جملة المردود ... أن تدخل الأحكام فى الحدود
وذلك لأن اشتمال التعريف على الأحكام يوقع فى الدور؛ لأن الحكم على الشيء فرع تصوره، وبهذا يكون تصور الشيء توقف على نفس تصوره. ولكن هذا لا يمكن لأن عددا من العلماء كالزرقانى والشيخ غزلان والجلال المحلى ذكروا (المتعبد بتلاوته) كقيد، ولكن العلامة الناصر استشكل هذا القيد، ومع ذلك فنحن نسلم للجلال والبنانى بأن الحكم المذكور فى التعريف إن ذكر للتمييز فحسب لا يضرّ.
وقولنا: (من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس) لبيان أنه علم شخص يطلق على القرآن كله. ويشبهه فى هذه الدلالة قول ابن السبكى فى آخر تعريفه: (المحتج بأبعاضه).

ثانيا: القرآن بوصفه اسم جنس باعتبار اللفظ المنطوق:
وفى هذا الحديث نتكلم عن (القرآن) بوصفه اسم جنس على هذا الاعتبار نفسه، فكيف نعرفه؟ وهل إطلاقه بوصفه اسم جنس حقيقة أو مجاز؟ وإن كان حقيقة فهل إطلاقه عليهما (علم الشخص واسم الجنس) من قبيل الاشتراك اللفظى أى بوضع واحد، أو من المشترك المعنوى أى بأوضاع مختلفة؟
ويمكن أن نقول: إن لفظ (القرآن) كبقية أسمائه من المشترك اللفظى بين تمام المجموع «علم الشخص» وبين القدر المشترك بين الكل والبعض «اسم الجنس»، والتعريف الذى يظهر أنه اختيار التفتازانى للقرآن بوصفه اسم جنس هو (الكلام المنقول فى المصحف تواترا) ولعل مما لا يخفى أن كون هذا تعريفا صحيحا للقرآن بهذا الوصف- أعنى وصف كونه اسم جنس- لا يتم إلا لو أريد من (أل) فى قوله: (الكلام). تعريف الجنس لا تعريف العهد، وهذا هو قصده قطعا، فأما حيث يراد منها تعريف العهد، فإن هذا التعريف إنما يكون القرآن بوصفه علم شخص.
ويحسن زيادة لفظ (مطلق) قبل هذا التعريف لنفى احتمال التردد بين الجنس والعهد فى (أل). وعند تجرد إطلاق لفظ
 
١ ‏/ ١٠٣
 
(القرآن) عن القرينة فيحمل على معنى تمام المجموع الذى هو علم الشخص، ويحمل أيضا عليه عند وجود القرينة المحتمة له كما فى قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ. أما إذا وجدت القرينة الصارفة له عن هذا المعنى فيحمل على اسم الجنس كما فى قوله تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ؛ لأنه من المعلوم أن الاستماع مطلوب لبعض القرآن كما هو مطلوب لمجموعه. ولقد كان للقرينة دورها فى حمل لفظ (القرآن) على أحد المعنيين؛ لأن شأن المشترك كذلك، لأنه من قبيل المجمل المحتاج للقرينة لتبينه.
ووقوع لفظ (القرآن) نكرة فى سياق النفى وشبهه كالشرط والاستفهام قرينة صارفة له عن المعنى الشخصى إلى الجنسى بسبب العموم الذى عرض له فى هذا السياق.
وكذلك فى سياق الإثبات لتبادر الإطلاق الصالح لأن يقال على كل فرد من أفراد جنسها على سبيل البدل كما فى قوله تعالى:
وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ.
ولقد نبه العلامة الفنارى على التلويح أن إطلاق المعنى الجنسى (للقرآن) على أبعاضه حقيقة؛ وذلك لأن إطلاق العام وإرادة الخاص لا بخصوصه لا تخرجه عن حيز الحقيقة، إنما المخرج هو إرادة الخاص بخصوصه، وذلك لبقاء المعنى الكلى فى الإطلاق الأول، وهو الحقيقة فى اسم الجنس وعدم بقائه فى الثانى لإرادة الجزئى الذى ينافى معنى الكلى.

الإطلاق الثانى القرآن باعتباره نقشا مرقوما
النقوش الموجودة فى المصحف الدالة على ألفاظ القرآن لا على نفسها هى أحد الوجودات الأربعة وهى الوجود فى خطّ البنان، وهذه الألفاظ المنقوشة تعطى حكم نفس الألفاظ عرفا وشرعا.
ولعل من السهولة بمكان تعريف (القرآن) باعتباره نقشا مرقوما كعلم شخص أو اسم جنس، فالأول مثل قولنا: (ما بين دفتى المصحف من أول سورة الحمد إلى آخر سورة الناس). والثانى مثل قولنا: (مطلق ما فى المصحف ...).
ولقد اتفقت الأمة على صحة إطلاق (القرآن) بالاعتبارين السابقين.
 
١ ‏/ ١٠٤
 
الفرق بين القرآن وبين كل من الحديثين القدسى والنبوى
وخلاصة الفرق بين (القرآن) باعتبار اللفظ المنطوق والنقش المرقوم وبين الحديثين النبوى والقدسى:
(أ) ألفاظ القرآن منزلة، والحديث النبوى غير منزلة، أما الحديث القدسى فالجمهور على أنها منزلة خلافا لبعض المحققين.
(ب) القرآن لا تجوز رواية شىء منه بالمعنى، والحديث النبوى تجوز باتفاق، وو الحديث القدسى تجوز على التحقيق.
(ج) القرآن منزّل للإعجاز منه بسورة، وكلا الحديثين ليس للإعجاز.
(د) القرآن منقول كله بالتواتر، وكلا الحديثين ينقل بالتواتر والآحاد، وأغلب نقلها بالآحاد.
(هـ) للقرآن أسماؤه الخمسة المخصوصة، وله اسم مخصوص لمجموعه المكتوب وهو (المصحف)، وكلا الحديثين ليس كذلك.
(و) القرآن متعبد بتلاوته، والحديث بقسميه ليس كذلك، بل أقل القليل منه المتعبد بتلاوة لفظه وهو الأذكار إجماعا.
(ز) القرآن مختلف فى قراءة الجنب والحائض له والنفساء: الجمهور يمنع، وفريق على جوازها، والحديث تجوز قراءة هؤلاء له باتفاق.
(ح) مسّ المصحف للمحدث حدثا أصغر:
الجمهور على منعه، وفريق على جوازه، واتفقوا على جواز مس كتب الحديث للمحدث حدثا أصغر.

الإطلاق الثالث القرآن باعتباره كلاما نفسيا قائما بذاته (إطلاقه عند المتكلمين)
لقد ثار الخلاف حول النظر للقرآن من هذا الاعتبار، وهو اعتبار الكلام النفسى القائم بذاته قديما قدم الذات الأقدس، وذلك فى محاولة جميع العلماء تحديد العلاقة بين القرآن بهذا الاعتبار (الكلام النفسى القائم بذاته)، وبين القرآن بالاعتبارين السابقين (اللفظ المنطوق والنقش المرقوم).
وقد كان للعلامة السعد التفتازانى فى شرح مقاصده نص طويل، يوضح هذا الخلاف الواقع فى هذه المسألة، يحسن ذكره بطوله، فقد قال: «وبالجملة لا خلاف لأرباب الملل والمذاهب فى كون البارى تعالى متكلما، وإنما الخلاف فى معنى كلامه وفى قدمه
 
١ ‏/ ١٠٥
 
وحدوثه، فعند أهل الحق: كلامه ليس من جنس الأصوات والحروف، بل صفة أزلية قائمة بذات الله تعالى، منافية للسكوت والآفة كما فى الخرس والطفولة، هو بها آمر، ناه، مخبر، وغير ذلك يدل عليها بالعبارة أو الكتابة أو الإشارة، فإذا عبر عنها بالعربية فقرآن وبالسريانية فإنجيل، وبالعبرانية فتوراة، فالاختلاف فى العبارات دون المسمى، كما إذا ذكر الله تعالى بألسنة متعددة ولغات مختلفة.
وخالفنا فى ذلك جميع الفرق، وزعموا أنه لا معنى للكلام إلا المنتظم من الحروف المسموعة الدال على المعانى المقصودة، وأن الكلام النفسى غير معقول، ثم قالت الحنابلة والحشوية: إن تلك الأصوات والحروف مع تواليها وترتب بعضها على بعض ويكون الحرف الثانى من كل كلمة مسبوقا بالحرف المتقدم عليه، كانت ثابتة فى الأزل قائمة بذات البارى تعالى وتقدس، وأن المسموع من أصوات القراء والمرئى من أسطر الكتاب نفس كلام الله تعالى القديم.
وكفى شاهدا على جهلهم ما نقل عن بعضهم: أن الجلدة والغلاف أزليان. وعن بعضهم: أن الجسم الذى كتب به الفرقان فانتظم حروفا ورقوما هو بعينه كلام الله تعالى، وقد صار قديما بعد ما كان حادثا.
ولما رأت الكرّاميّة أن بعض الشر أهون من بعض، وأن مخالفة الضرورة أشنع من مخالفة الدليل ذهبوا إلى أن المنتظم من الحروف المسموعة مع حدوثه قائم بذات الله تعالى، وأنه قول الله تعالى لا كلامه. وإنما كلامه قدرته على التكلم وهو قديم، وقوله حادث لا محدث. وفرقوا بينهما بأن: كل ما له ابتداء إن كان قائما بالذات فهو حادث بالقدرة غير محدث، وإن كان مباينا للذات فهو محدث بقوله: «كن» لا بالقدرة.
والمعتزلة لما قطعوا بأنه المنتظم من الحروف، وأنه حادث، والحادث لا يقوم بذات الله تعالى، ذهبوا إلى أن معنى كونه متكلما أنه خلق الكلام فى بعض الأجسام. واحترز بعضهم من إطلاق لفظ المخلوق عليه لما فيه من إيهام الخلق والافتراء، وجوزه الجمهور.
ثم المختار عندهم- وهو مذهب أبى هاشم ومن تبعه من المتأخرين- أنه من جنس الأصوات والحروف، ولا يحتمل البقاء حتى أن ما خلق مرقوما فى اللوح المحفوظ أو كتب فى المصحف لا يكون قرآنا، وإنما القرآن ما قرأه القارئ وخلقه البارى من الأصوات المتقطعة والحروف المنتظمة.
وذهب الجبائى إلى أنه من جنس غير الحروف، يسمع عند سماع الأصوات، ويوجد
 
١ ‏/ ١٠٦
 
بنظم الحروف وبكتبها، ويبقى عند المكتوب والحفظ ويقوم باللوح المحفوظ وبكل مصحف وكل لسان. ومع هذا فهو واحد لا يزداد بازدياد المصاحف ولا ينتقص بنقصانها ولا يبطل ببطلانها.
والحاصل أنه انتظم من هذه المقدمات قياسان: ينتج أحدهما قدم كلام الله تعالى، وهو أنه من صفات الله وهى قديمة، والآخر حدوثه، وهو أنه من جنس الأصوات وهى حادثة. فاضطر القوم إلى القدح فى أحد القياسين. ومنع بعض المقدمات ضرورة امتناع حقية النقيضين فمنعت المعتزلة كونه من صفات الله، والكرامية كون كل صفة قديمة، والأشاعرة كونه من جنس الأصوات والحروف، والحشوية كون المنتظم من الحروف حادثا.
ولا عبرة بكلام الكرامية والحشوية، فبقى النزاع بيننا وبين المعتزلة وهو فى التحقيق عائد إلى إثبات كلام النفس ونفيه، وأن القرآن هو هذا المؤلف من الحروف الذى
هو كلام حى، وإلا فلا نزاع لنا فى حدوث الكلام الحسى، ولا لهم فى قدم النفسى لو ثبت، وعلى البحث والمناظرة فى ثبوت الكلام النفسى، وكونه هو القرآن ينبغى أن يحمل ما نقل من مناظرة أبى حنيفة وأبى يوسف ستة أشهر، ثم استقرار رأيهما على أن من قال بخلق القرآن فهو كافر. (٢٩)
أ. د/ إبراهيم عبد الرحمن خليفة
(٢٩) انظر: المقاصد (ج ٢ ص ٥).
 
١ ‏/ ١٠٧
 
مصادر إضافية لمزيد من البحث والاطلاع
(١) الإتقان فى علوم القرآن، للحافظ جلال الدين السيوطى، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، طبعة عيسى الحلبى، الطبعة الأولى.
(٢) البرهان فى علوم القرآن، لبدر الدين الزركشى، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط عيسى الحلبى، الطبعة الأولى.
(٣) البيان فى مباحث من علوم القرآن، للأستاذ الدكتور عبد الوهاب غزلان، ط دار التأليف، الطبعة الأولى.
(٤) التلويح، لسعد الدين التفتازانى، على التوضيح لصدر الشريعة وحواشيه للفنرى وملا خسرو وغيرهما.
(٥) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبى ط دار الكتاب، الطبعة الثانية.
(٦) حاشية البنانى على شرح الجلال المحلى لجمع الجوامع، لتاج الدين السبكى، ط مصطفى الحلبى، الطبعة الأولى.
(٧) حاشية سعد الدين التفتازانى على شرح العضد لمختصر ابن الحاجب، نشر مكتبة الكليات الأزهرية.
(٨) حاشية الخضرى على ابن عقيل، ط الحلبى، الطبعة الأولى.
(٩) حاشية الشيخ محمد عبده على شرح الجلال الدوانى للعقائد العضدية، ط الخيرية.
(١٠) روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم والسبع المثانى، لمحمود بن عمر الآلوسي، ط المنيرية.
(١١) شرح المقاصد للتفتازانى.
(١٢) شرح المواقف وحواشيه، ط اسطنبول، الطبعة الأولى.
(١٣) مباحث فى علوم القرآن، للدكتور صبحى الصالح، ط دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الأولى.
(١٤) مفاتيح الغيب (التفسير الكبير) للإمام الرازى، ط المنيرية.
(١٥) مفردات القرآن، للراغب الأصفهانى، ط مصطفى الحلبى، الطبعة الأولى.
(١٦) مناهل العرفان فى علوم القرآن، للدكتور محمد عبد العظيم الزرقانى، ط عيسى الحلبى، الطبعة الثانية.
(١٧) النبأ العظيم، للدكتور محمد عبد الله دراز، نشر مكتبة عمار.
وغير ذلك.
 
١ ‏/ ١٠٨
 
مسألة: «نزول القرآن على سبعة أحرف»
هذا الموضوع من أصعب الموضوعات وأشدها على المحدثين وعلماء القرآن، فإنه على الرغم من رواية الجمّ الغفير من الصحابة لهذه القضية عن النبى ﷺ حتى عدّ من روايتها السيوطى فى كتابه «الإتقان» واحدا وعشرين صحابيا (١)، بل حتى أورد السيوطى فى «إتقانه» رواية أبى يعلى فى «مسنده» الكبير أن عثمان قال على المنبر:
أذكّر الله رجلا سمع النبى ﷺ قال: «إن القرآن أنزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف». لما قام فقاموا، حتى لم يحصوا فشهدوا بذلك فقال: وأنا أشهد معهم (٢).
نقول: على الرغم من هذا، فإن أحدا من أولئك الصحابة لم يسأل النبى ﷺ عن التحديد الضابط لهذه الأحرف السبعة، والمعين لها واحدا بعد واحد حتى تبلغ سبعة لا تزيد ولا تنقص، بل اكتفوا بتصويبه ﷺ لكل من المختلفين فى القراءة بقوله: «هكذا أنزلت». ونحوه، ودفعه لكل نزغة من شك يمكن أن يوسوس بها الشيطان فى الصدور تجاه هذا التصويب، بإخباره إياهم أن القرآن أنزل على سبعة أحرف، كما هى عادتهم- رضوان الله عليهم- فى عدم إلحاح المسألة عليه ﷺ، ولا سيما فيما لا تدعو إليه الضرورة.
فمن ثم اختلف الناس فى شأن هذه السبعة الأحرف اختلافا عظيما، بلغ به ابن حبان خمسة وثلاثين قولا، عدّ منها القرطبى خمسة فى مقدمة «تفسيره» (٣)، ثم زاد السيوطى على هذا كله فبلغ فى «إتقانه» بهذا الاختلاف أربعين قولا ذكرها جميعا.
والناظر إلى هذه الأقوال- المتشعبة الخلاف فيما بينها تشعبا شديدا- نظرة إجمالية، يجدها بين قائل بعدم انحصار عدد هذه الأحرف فى سبعة، وإنما الأمر فى هذا هو على التسهيل والتيسير، ولفظ (السبعة) يطلق على إرادة الكثرة فى الآحاد، كما يطلق السبعون فى العشرات، والسبعمائة فى المئين ولا يراد العدد المعين. قال الحافظ فى «الفتح»: (وإلى هذا جنح عياض ومن تبعه) (٤).
وبين قائل بانحصار العدد فى سبعة بالفعل، ثم لا يحاول أن يخطو خطوة وراء هذا فى تفسير هذه الأحرف، بل يقول: هذا
(١) انظر: (ج ١ ص ١٦٣).
(٢) الحديث ذكره الهيثمى فى مجمع الزوائد عن أبى المنهال بلفظ مقارب بلاغا ثم قال: «رواه أبو يعلى فى مسنده والطبرانى فى الكبير وفيه راو لم يسم» (ج ٧ ص ١٥٢).
(٣) انظر: الجامع لأحكام القرآن ج ١ ص ٤٢.
(٤) فتح البارى ج ٩ ص ٢٣. وعبارة القاضى عياض حسبما نقلها عنه الإمام النووى فى شرح صحيح مسلم هكذا: (قال القاضى عياض: قيل: هو توسعة وتسهيل لم يقصد به الحصر قال: وقال الأكثرون: هو حصر للعدد فى سبعة) ج ١ ص ٩٩. وهذه العبارة من القاضى لا تفهم جنوحه إلى عدم الانحصار كما ذكر الحافظ لا نصا ولا ظاهرا إلا أن يكون الحافظ أخذ هذا من مجرد ابتداء القاضى به مع كونه غير متعين فيما ذكره، ولا سيما أنه جاء من القاضى على صورة التمريض (قيل)، أو يكون الحافظ قد اطلع من كلام القاضى فى موضع آخر على ما هو أصرح من هذا فهو وذلك. والله اعلم.
 
١ ‏/ ١٠٩
 
الحديث هو من المشكل الذى لا يدرى معناه، من قبيل أن الحرف من المشترك اللفظى، فإن العرب تسمى الكلمة المنظومة حرفا، وتسمى القصيدة بأسرها كلمة، والحرف يقع على المقطوع من الحروف المعجمة، والحرف أيضا: المعنى والجهة. قاله أبو جعفر محمد ابن سعدان النحوى (٥). وهو أيضا مختار السيوطى حسبما يفصح عنه قوله فى «شرح سنن النسائى»: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، والمراد به أكثر من ثلاثين قولا حكيتها فى «الإتقان»، والمختار عندى: أنه من المتشابه الذى لا يدرى
تأويله (٦).
وكذلك الشيخ ولى الله الدهلوى حيث قال في «شرحه على الموطأ» ما حاصله: «إن ما تقرر عندى وترجح فى هذا الاختلاف أن ذكر السبع فى الحديث لبيان الكثرة لا للتحديد» (٧).
وبين قائل: هى سبعة مفسرة، ثم يتعدد القول فى تفسيرها حتى تبلغ الأقوال بعد القولين الآنفين ثمانية وثلاثين عددا فيتممها أربعين على ما عددها السيوطى.
ونحن بطبيعة الحال ليس من مقصودنا فى هذه الصفحات أن نستقصى جميع الأقوال مع ضعف أكثرها، بل مقصودنا تجلية المعنى المقصود بالأحرف السبعة، وتحقيق القول فيها، وسبيلنا إلى تحقيق هذه الغاية أن نسوق بعض الروايات الفصل عن النبى ﷺ فى قضيتنا هذه، لنستخلص منها ما يهدينا- إن شاء الله- إلى الصواب، على نحو ما صنع شيخ أشياخنا الزرقانى فى «مناهله»، وقد استوعب الروايات فى هذه المسألة- أو كاد- الحافظ ابن كثير فى كتابه «فضائل القرآن» من ص ١٦ حتى ص ٢١. وسنقتصر من ذلك على أيسر ما يتم به مقصودنا:
روى الشيخان- واللفظ للبخارى- عن ابن عباس- رضى الله عنهما: أن رسول الله ﷺ قال: «أقرأنى جبريل على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدنى حتى انتهى إلى سبعة أحرف». زاد مسلم: قال ابن شهاب: بلغنى أن تلك السبعة الأحرف إنما هى فى الأمر الذى يكون واحدا لا يختلف فى حلال ولا حرام (٨).
حديث آخر: روى الشيخان- واللفظ للبخارى- من فضائل القرآن عن عمر بن الخطاب يقول: «سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان فى حياة رسول الله ﷺ، فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله ﷺ، فكدت أساوره فى الصلاة، فتصبرت حتى سلّم، فلببته بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة
(٥) هو أحد القراء كان يقرأ بقراءة حمزة ثم اختار لنفسه قراءة نسبت إليه توفى سنة ٢٣١ هـ. إنباه الرواة ٣ ص ١٤٠. وانظر البرهان ج ١ ص ٢١٣، والإتقان ج ١ ص ١٦٤.
(٦) انظر شرحه لسنن النسائى المسمى زهر الربى على المجتبى ج ٢ ص ١٥٢.
(٧) انظر: بذل المجهود فى حل ألفاظ أبى داود للشيخ خليل أحمد السهارنفورى ج ٧ ص ٣٢.
(٨) صحيح البخارى كتاب فضائل القرآن باب أنزل القرآن على سبعة أحرف، وصحيح مسلم كتاب صلاة المسافر باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه.
 
١ ‏/ ١١٠
 
التى سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله ﷺ، فقلت: كذبت، فإن رسول الله ﷺ قد أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله ﷺ فقلت: إنى سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها. فقال رسول الله ﷺ: «أرسله، اقرأ يا هشام». فقرأ عليه القراءة التى سمعته يقرأ، فقال رسول الله ﷺ: «كذلك أنزلت»، ثم قال: «اقرأ يا عمر»، فقرأت القراءة التى أقرأنى فقال رسول الله ﷺ: «كذلك أنزلت».
إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه». (٩)
وكذا وقع لأبيّ مع آخرين، يقرأ كل منهما بغير قراءة صاحبه فى سورة النحل- كما عند الطبرى- واحتكامهم إلى رسول الله ﷺ، وتصويبه ﷺ لقراءتهم جميعا، وضربه ﷺ فى صدر أبىّ دفعا لما اعتراه من الشك، وقول النبى ﷺ فى آخر الحديث فقال لى: «يا أبىّ، أرسل إلىّ أن اقرأ القرآن على حرف، فرددت إليه: أن هوّن على أمتى، فردّ إلىّ الثانية:
اقرأه على حرفين، فرددت إليه: أن هوّن على أمتى، فردّ إلىّ الثالثة: اقرأه على سبعة أحرف، ولك بكل ردة رددتها مسألة تسألنيها».
الحديث أخرجه مسلم.
ونحوا من هذا الاختلاف فى القراءة وتصويب النبى ﷺ لكلّ، وقع لعبد الله بن مسعود وعمرو بن العاص إلى غير ذلك من وقائع الاختلاف والتصويب التى صحت فى هذه القضية.
حديث آخر: روى مسلم بسنده عن أبىّ بن كعب أن النبى ﷺ كان عند أضاة بنى غفار.
قال: «فأتاه جبريل- ﵇ فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتى لا تطيق ذلك. ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتى لا تطيق ذلك، ثم جاءه الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك على ثلاثة أحرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتى لا تطيق ذلك، ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف. فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا» (١٠).
وقد بين النبى ﷺ السبب الذى من أجله لا تطيق أمته نزول القرآن على ما دون سبعة أحرف فى حديث الترمذى عن أبىّ قال: «لقى رسول الله ﷺ جبرائيل، فقال: يا جبرائيل إنى بعثت إلى أمة أميين، منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذى لم يقرأ كتابا قط، قال: يا محمد إن القرآن أنزل على سبعة أحرف». قال الترمذى: وفى الباب عن
(٩) قال البدر العينى فى عمدة القارى فى شرح هذا الحديث من كتاب الخصومات من الجامع الصحيح تحت عنوان ذكر تعدد موضعه (أى من صحيح البخارى ومن أخرجه غيره) أخرجه البخارى من فضائل القرآن عن سعيد بن عفير، وفى التوحيد عن يحيى بن بكير عن ليث عن عقيل، وفى استتابة المرتدين وقال الليث: حدثنى يونس، وفى فضائل القرآن أيضا عن أبى اليمان عن شعيب. وأخرجه مسلم فى الصلاة عن يحيى بن يحيى عن مالك به، وعن حرملة عن ابن وهب، وعن إسحاق بن إبراهيم وعبد الله بن حميد، وأخرجه أبو داود عن العقبى عن مالك به، وأخرجه الترمذى فى القراءة عن الحسن بن على العلال وأخرجه النسائى فى الصلاة عن يونس بن عبد الأعلى وعن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين، وفى فضائل القرآن أيضا عنهما. ج ١٢ ص ٢٥٨.
وقوله: أساوره أى أواثبه، وقوله: فلببته بردائه، أى: جمعته عليه عند لبته وهى النحر. أى: أخذت بخناقه.
(١٠) صحيح المسلم الموضع السابق.
 
١ ‏/ ١١١
 
عمر وحذيفة بن اليمان وأبى هريرة وأم أيوب- وهى امرأة أبى أيوب الأنصارى- وسمرة وابن عباس وأبى جهم بن الحارث بن الصمة.
هذا حديث حسن صحيح قد روى عن أبيّ بن كعب من غير وجه (١١). أ. هـ.
ما نستخلصه من هذه الأحاديث:
١ - أن حقيقة العدد سبعة مرادة قطعا، ومن زعم عدم الانحصار فيه فقد خالف صريح المنطوق.
٢ - أن السبعة أحرف كلها منزلة، متساوية فى كل الأحكام الخاصة بالتلاوة والإعجاز.
٣ - أن نزول القرآن على سبعة أحرف سببه التيسير على الأمة والتخفيف عليها وإجابة لقصد نبيها حيث أتاه جبريل فأمره أن تقرأ أمته القرآن على حرف، فطلب منه
رسول الله ﷺ أن يسأل الله- ﷾ المعافاة لأمته لأنها لا تطيق ذلك، ولم يزل يردد المسألة حتى بلغ سبعة أحرف. ولأن النبى ﷺ أرسل للناس كافة فسيعسر على الناس الانتقال من لغتهم إلى لغة أخرى؛ ولذلك خفّف عن هذه الأمة بالأحرف السبعة؛ ولذا اختلف العلماء فى جواز القراءة بلغة غير العربية على أقوال: ثالثها الجواز عند العجز عن العربية. نصّ على ذلك ابن الجزرى فى «نشره» (١٢). وذكر أمثلة لذلك بقراءة الهذلى لقوله تعالى: حَتَّى حِينٍ (عتى حين)، وقراءة الأسدي- (تعلمون) و(تعلم) (وتسود) بكسر تاء المضارعة، إلى غير ذلك من الأمثلة التى ذكرها.
كما أن هناك فوائد أخرى لنزول القرآن على سبعة أحرف: أن من تمام التيسير على الأمة جمع الأحرف السبعة لوجهات النظر المختلفة فى التأمل البلاغى فى النص القرآنى، مما يبقى للقرآن مكانته السامية فى الإعجاز؛ إذ كل قراءة بمنزلة آية، فيكون هذا التنوع بمثابة الجمع لمناحى الإعجاز اللغوى والبلاغى.
ومن فوائد نزول القرآن على أحرف سبعة تعظيم ثواب هذه الأمة حيث إنهم يفرغون جهدهم ليبلغوا قصدهم فى تتبع معانى ذلك التنوع والتعدد، فالأجر على قدر المشقة.
ومن فوائده أيضا: بيان قدر هذه الأمة وشرفها، من حيث تلقيهم لكتاب ربهم بهذا التلقى، وحفظه لفظة لفظة، بصيغه وسكناته وحركاته وتفخيم حروفه وترقيقها، فحفظوه من التحريف والتصحيف بما لم يهتد إليه فكر أمة من الأمم، مما يؤكد اتصال سند هذه الأمة بكتاب ربها، مما يدفع ارتياب الملحدين فى وصله. وهذا ما ذكره ابن
(١١) أخرجه الترمذى (أبواب القراءات عن رسول الله ﷺ باب ما جاء أن القرآن نزل على سبعة أحرف).
(١٢) النشر فى القراءات العشر: (ح ١ ص ٢٢) وما بعدها.
 
١ ‏/ ١١٢
 
الجزرى (١٣) من فوائد لنزول القرآن على سبعة أحرف.
٤ - أن التيسير بتعدد الأحرف تأخر إلى العهد المدنى، هذا ما يفهم من حديث أبىّ عند مسلم وفيه: (أن النبى ﷺ كان عند أضاة بنى غفار قال: فأتاه جبريل- ﵇ الحديث). حيث كانت هذه الأضاة بالمدينة كما قال الحافظ ﵀ فى (الفتح): وأضاة بنى غفار هى بفتح الهمزة والضاد المعجمة بغير همز وآخرة تاء تأنيث:
مستنقع الماء كالغدير وجمعه أضا كعصا، وقيل بالمد (١٤) والهمز كإناء، وهو موضع بالمدينة النبوية ينسب إلى بنى غفار بكسر المعجمة وتخفيف الفاء- لأنهم نزلوا عنده» (١٥). والظاهر أن هذا التأخر إنما كان لعدم الحاجة- فى العهد المكى- إلى تعدد الأحرف لعدم انتشار الإسلام والقرآن آنئذ بين أحياء العرب، وقصوره على القلة المؤمنة به، وأغلبهم من قريش الذين أرسل النبى ﷺ بين ظهرانيهم، وأن القرآن المكى كان على أفصح لهجة مشهورة ومستفيضة فى جميع بطون قريش، وأن هذه اللهجة كانت بالتالى مفهومة وميسرة لأولئك القلة المؤمنين به، فلم تمس حاجتهم وقتئذ إلى المزيد من التيسير، فلما كانت الهجرة إلى المدينة وبدء انتشار الإسلام بين العرب وفيهم من يمكن ألا يتقن تلك اللهجة، مست الحاجة إلى التيسير بتعدد الأحرف، وشمل هذا التعدد عندئذ بطبيعة الحال جميع القرآن مكيه ومدنيه من قبل أن التكليف هو بكل القرآن لا ببعضه دون بعض، كما شمل تشريع هذا التعدد جميع الناس منذئذ لا فرق فى ذلك بين قرشى وغير قرشى من قبل أن الكل فى التشريع سواء.
ومن هنا اختلفت الأحرف المقروء بها سورة الفرقان المكية مثلا بين عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم بن حزام وهما قرشيان، كما اختلفت بين أبىّ الأنصارى وغيره فى سورة النحل المكية أيضا، وقراءة عبد الله بن مسعود وآخر فى سورة من حم المكيات كذلك، إلى آخر تلك الوقائع.
وهكذا وجدنا القراءات العشر المتواترة المنسوبة إلى القراء العشرة لا تفرق فى تعددها واختلافها بين مكى ومدنى من الذكر الحكيم، بل تعمها جميعا وعلى حد سواء، كما لا تفرق فى تلقيها وأدائها بين أحد من الناس، بل ورث القراءة بها فى الكل والإقراء بها للكل كابرا عن كابر، ثم لم يزل الأمر على هذا الشمول للمقروء وقرائه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها إن شاء الله تعالى.
ولعل ما قلناه من نزول القسم المكى من القرآن أول ما نزل بتلك اللهجة المستفيضة
(١٣) النشر فى القراءات العشر، (ح ١ ص ٥٢ - ص ٥٤).
(١٤) قول الحافظ وقيل: بالمد والهمز إلخ راجع للجمع لا للمفرد، وعبارة النووى من شرح مسلم فى بيان هذه اللفظة (عند أضاة بنى غفار) هى بفتح الهمزة وبضاد معجمة مقصورة، وهى الماء المستنقع كالغدير وجمعها أضا كحصاة وحصا، وإضاء بكسر الهمزة والمد كأكمة وإكام. ح ٦ ص ١٠٤.
(١٥) فتح البارى ج ٩ ص ٢٨.
 
١ ‏/ ١١٣
 
فى بطون قريش والمفهومة لها جميعا هو ما عناه عثمان ﵁ من قوله للرهط القرشيين عند جمع القرآن: (إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فى عربية من عربية القرآن، فاكتبوها بلسان قريش، فإن القرآن أنزل بلسانهم) (١٦). قال القاضى أبو بكر بن الباقلانى: (معنى قول عثمان: «نزل القرآن بلسان قريش. أى: معظمه، وأنه لم تقم دلالة قاطعة على أن جميعه بلسان قريش، فإن ظاهر قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا أنه نزل بجميع ألسنة العرب، ومن زعم أنه أراد مضر دون ربيعة، أو هما دون اليمن، أو قريشا دون غيرهم، فعليه البيان، لأن اسم العرب يتناول الجميع تناولا واحدا، ولو ساغت هذه الدعوى لساغ للآخر أن يقول بلسان بنى هاشم مثلا؛ لأنهم أقرب نسبا إلى النبى ﷺ من سائر قريش (١٧).
وبالجملة، فليس للتيسير بالأحرف السبعة ونزولها بالمدينة وقت معلوم على التحديد، لكن الذى يظهر ويتفق مع طبيعة الأمور أن يكون ذلك قد تم بعد قدومه ﷺ المدينة واستقرار مقامه فيها بزمن يسير، حيث بادرت أحياء من العرب بالقدوم إلى المدينة والدخول فى الإسلام كأسلم وغفار (١٨). فكان من المتجه إذن لهؤلاء وأمثالهم أن يكون لهم تيسير القرآن بنزوله على سبعة أحرف منذ هذا الوقت المبكر. والله أعلم بحقيقة الحال.
وقد حاول عدد من العلماء بيان كيف كان التعدد، فذهب بعضهم إلى أن جبريل كان يقرأ النبى ﷺ فى كل عرضة بوجه أو حرف.
وهذا ما اختاره أبو عمرو الدانى (١٩). ولكننا نرى أن ذلك من الغيب المستور ونكل علمه إلى الله.
٥ - أن الصحابة لا محالة فهموا مراد رسول الله ﷺ من هذه الأحرف السبعة التى نزل بها القرآن، بل لقد أقرأهم رسول الله ﷺ بها، ونقلوها بالتواتر كما هو الحال فى كل القرآن؛ لأن هذه الأحرف كجزء القرآن فما وجب فى الكل وجب فى الأجزاء. وليست الأحرف السبعة من قبيل المشكل أو المتشابه
الذى لا يمكن تأويله كما ذهب إليه محمد بن سعدان النحوى والسيوطى فى «المجتبى» وولى الدهلوى والآلوسي (٢٠).
والسؤال: ما المعنى الذى فهمه الصحابة رضى الله عنهم للأحرف السبعة؟ هل هى أصناف مختلفة من الكلام كالزاجر والآمر، والحلال والحرام، والمحكم والمتشابه، والأمثال؟
ولقد جاء خبر عن ابن مسعود ورفعه للنبىّ ﷺ فى نفس المعنى السابق. ولكن إرادة هذه
(١٦) صحيح البخارى (كتاب فضائل القرآن- باب بيان نزول القرآن بلسان العرب وباب جمع القرآن).
(١٧) فتح البارى: (ح ٩ ص ٩)
(١٨) فى حديث إسلام أبى ذر عند مسلم قوله: (وقال نصفهم «يعنى قومه غفارا» إذا قدم رسول الله ﷺ المدينة أسلمنا، فقدم رسول الله ﷺ المدينة فأسلم نصفهم الباقى، وجاءت أسلم فقالوا: يا رسول الله! إخوتنا- نسلم على الذى أسلموا عليه فأسلموا. فقال رسول الله ﷺ: «غفار غفر الله لها. وأسلم سالمها الله» صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة رضى الله تعالى عنهم، باب فضائل أبى ذر ﵁.
(١٩) انظر: مقدمة جامع البيان لأبى عمرو الدانى (المحققة منفصلة باسم الأحرف السبعة) د. عبد المهيمن الطحان، (ص ٤٦).
(٢٠) انظر مثلا: روح المعانى، للآلوسى: (ح ١ ص ٢٠).
 
١ ‏/ ١١٤
 
الأصناف بالأحرف السبعة من الإحالة ووضوح البطلان بحيث لا يتسع لها عقل عاقل؛ لأنه لا يصحّ أن يقرأ القرآن كله بصنف واحد من هذه الأصناف المذكورة. وقد ردّ الحافظ هذا الخبر الوارد عن ابن مسعود بما ذكره عن ابن عبد البر من عدم ثبوته؛ لأن أبا سلمة بن عبد الرحمن لم يلق ابن مسعود وهو الراوى عنه. وقال: وقد أطنب ابن جرير الطبرى فى الرد على هذا الرأى بما حاصله أنه يستحيل أن يجتمع فى الحرف الواحد هذه الأوجه السبعة. ثم ذكر أن تصحيح ابن حبان والحاكم لخبر ابن مسعود فيه نظر، وذكر أنه رواه البيهقى مرسلا. وحكم عليه بالجودة. ثم ذكر أن المراد بالأحرف السبعة:
أن الكلمة الواحدة تقرأ على وجهين وثلاثة وأربعة إلى سبعة تيسيرا. ونقل عن الأهوازى والهمدانى ردهما لتأويل السبعة أحرف بالأصناف السبعة (٢١).
واقتصر ابن الجزرى من أمر هذا الحديث على تأويله فقال: (فإن قيل): فما تقول فى الحديث ... وذكره من رواية الطبرانى بلفظ مقارب فيه تقديم وتأخير ثم قال فالجواب عنه من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن هذه السبعة غير السبعة الأحرف التى ذكرها النبى ﷺ فى تلك الأحاديث، وذلك من حيث فسرها فى هذا الحديث فقال: حلال وحرام إلى آخره. ثم أكد ذلك بالأمر بقول: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا. فدل على أن هذه غير تلك القراءات.
الثانى: أن الأحرف السبعة فى هذا الحديث هى هذه المذكورة فى الأحاديث الأخرى التى هى الأوجه والقراءات، ويكون قوله: حلال وحرام إلى آخره تفسيرا للسبعة الأبواب. والله أعلم.
الثالث: أن يكون قوله: حلال وحرام إلى آخره لا تعلق له بالسبعة الأحرف ولا بالسبعة الأبواب، بل إخبار عن القرآن أى هو كذا وكذا واتفق كونه بصفات سبع كذلك (٢٢». أ. هـ.
وكذلك صنع السيوطى من بعده وعبارته فى هذا المقام بعد ذكر الحديث وفيها المزيد من مقولات العلماء وموقفهم منه: (وقد أجاب عنه قوم، بأنه ليس المراد بالأحرف السبعة التى تقدم ذكرها فى الأحاديث الأخرى؛ لأن سياق تلك الأحاديث يأبى حملها على هذا، بل هى: ظاهرة فى أن المراد أن الكلمة تقرأ على وجهين وثلاثة إلى سبعة، تيسيرا وتهوينا، والشيء الواحد لا يكون حلالا وحراما فى آية واحدة، وقال البيهقى ... وذكر تأويله السابق فى نقل «الفتح» ثم قال: وقال غيره: من أوّل الأحرف السبعة بهذا، فهو فاسد؛ لأنه محال أن يكون الحرف فيها حراما لا ما سواه، أو
(٢١) انظر: فتح البارى، للحافظ ابن حجر (ح ١ ص ٢٩).
(٢٢) النشر فى القراءات العشر، لابن الجزرى: (ج ١ ص ١٧١).
 
١ ‏/ ١١٥
 
حلالا لا ما سواه، ولأنه لا يجوز أن يكون القرآن يقرأ على أنه حلال كله أو حرام كله، وأمثال كله.
وقال ابن عطية: هذا القول ضعيف؛ لأن الإجماع على أن التوسعة لم تقع فى تحريم حلال ولا تحليل حرام، ولا فى تغيير شىء من المعانى المذكورة. وقال الماوردى: هذا القول خطأ: لأنه ﷺ أشار إلى جواز القراءة بكل واحد من الحروف، وإبدال حرف بحرف، وقد أجمع المسلمون على تحريم إبدال آية أمثال بآية أحكام. وذكر قول أبى على الأهوازى وأبى العلاء الهمدانى السابق فى نقل «الفتح» (٢٣).
وتلك الأصناف السبعة ليس لها سند بالمرة، ولقد وصل أصحاب هذا الرأى إلى أن جعلوا هذه الأصناف أربعين قولا، ولقد أوجز الرد عليهم شيخ أشياخنا الزرقانى بعد ذكر هذه الأقوال الأربعين والتى جعلوا منها الناسخ والمنسوخ والخاص والعام والمحكم والمتشابه- فردّه عليهم بردود خلاصتها:
١ - أن سياق الأحاديث لا يساعد على حمل الأحرف السبعة على الأصناف السبعة؛ لأنها كلها تصرح بأن الأحرف إنما هى فى القراءة والتلفظ.
٢ - عدم وجود سند صحيح لهذا القول.
٣ - التيسير المقصود من نزول القرآن على سبعة أحرف لا يتحقق مع هذه الأصناف والأنواع.
٤ - زيادة بعض تلك الآراء عن السبعة مما يعنى الخطأ فى العدّ أو أنهم يعتقدون أن السبعة غير مقصودة وهذا باطل.
٥ - أن أكثر ما ذكروه فى تلك الآراء يدخل بعضه فى بعض، فمن المتعسر اعتبارها أقوالا مستقلة. ثم نقل ما نقله السيوطى عن الشرف المرسى من ردّ فى معنى الكلام السابق (٢٤).
ويورد أبو عمرو الدانى فى مقدمة «جامع البيان» فى القراءات السبع تحت عنوان (معنى الأحرف السبعة) وجهين للمراد من الأحرف السبعة:
أولهما: أن الأحرف السبعة سبعة أوجه فى اللغات، ومثّل لها ب (أفلس، وفلس)، والحرف يراد منه الوجه ومنه قوله تعالى:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ أى على وجه.
وثانيهما: أن الأحرف السبعة هى القراءات السبعة، جريا على عادة العرب فى تسمية الشيء باسم ما له علاقة به من مقارنة أو مقاربة أو مجاورة؛ ولذلك سمّى النبىّ ﷺ القراءة حرفا وإن كان كلاما كثيرا.
فقد سمّى العرب القصيدة والخطبة والرسالة
(٢٣) الإتقان: (ج ١ ص ١٧١).
(٢٤) مناهل العرفان: (ح ١ ص ١٨٢ - ص ١٨٤).
 
١ ‏/ ١١٦
 
كلمة، ومن هذا الاستعمال قوله تعالى:
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا فقال: إنما يعنى بالكلمة هاهنا قوله فى سورة القصص:
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ فأطلق الكلمة على كل هذا الكلام؛ ومن ثمّ خاطب النبىّ ﷺ من بالحضرة وسائر العرب فى هذا الخبر من تسمية القراءة حرفا لما يستعملون فى لغتهم وما جرت عليه عادة منطقهم (٢٥).
وعقّب ابن الجزرى فى «النشر» على كلام أبى عمرو فذكر أن كلا الوجهين محتمل، وفرّق بينهما، وذكر أن حديث «أنزل القرآن على سبعة أحرف» يحتمله الوجه الأول، وحديث عمر مع هشام رضى الله عنهما يحتمله الوجه الثانى (٢٦).
والصواب: أن المعنيين لا فرق بينهما؛ لأن عمر ﵁ قال: سمعته يقرأ فيها أحرفا لم يكن النبىّ ﷺ أقرأنيها، فلو كان معنى الحرف يخالف معنى القراءة تعلم رسول الله ﷺ عمر ذلك ولنبهه لحاجته إلى معرفة ذلك.
وإذا عدنا إلى كلام أبى عمرو الدانى فنجد أن الوجه الأول اختاره جماعة من العلماء ذكرهم الزركشى فى «البرهان» منهم أبو عبيد القاسم بن سلام وأحمد بن يحيى ثعلب، ونقله حكاية ابن دريد (٢٧) عن أبى حاتم السجستانى (٢٨)، وبعضهم عن القاضى أبى بكر الباقلانى. وذكر أن بعض القرآن نزل بلغة قريش وبعضه نزل بلغة هذيل، وبعضه بلغة تميم، وأزد، وربيعة، وهوازن، وسعد بكر، ومعانيها كلها واحدة. واحتج الأزهرى (٢٩) لهذا القول بقول عثمان فى جمع القرآن: «وما اختلفتم أنتم وزيد فاكتبوه بلغة قريش، فإنه أكثر ما نزل بلسانه». وفى رواية: «إنما نزل بلسانهم».
فعلى فرض أن هذه الرواية الأخيرة هى المحفوظة، فإن الحصر ب (إنما) ليس حصرا حقيقيا بل إضافيا؛ لكثرة ما نزل بلغة قريش.
ونقل الزركشى عن ابن قتيبة وغيره إنكارهم أن يكون فى القرآن حرف من غير لغة قريش لقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ ونقل عن ابن قتيبة قوله: ولا نعرف فى القرآن حرفا واحدا يقرأ على سبعة أوجه. ثم نقل تغليط ابن الأنبارى لابن قتيبة بحروف منها قوله تعالى: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ وقوله تعالى: أَرْسِلْهُ مَعَنا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وقوله باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا.
(٢٥) القطعة التى حققها د. عبد المهيمن الطحان (ص ٢٧ - ٣٠).
(٢٦) النشر فى القراءات العشر: (ح ١ ص ٢٤).
(٢٧) هو أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد: صاحب كتاب «الجمهرة فى اللغة» وناظم المقصورة (ت ٣٢١ هـ ببغداد) - إنباة الرواة (ح ٣ ص ٩٢).
(٢٨) هو أبو حاتم سهل بن محمد السجستانى صاحب المبرد، مات بالبصرة سنة ٢٥٥ هـ.
(٢٩) هو أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهر الأزهرى، صاحب كتاب «التهذيب» توفى سنة ٣٧٠ هـ (اللباب: ح ١ ص ٣٨).
 
١ ‏/ ١١٧
 
ونقل عن ابن عبد البر أنه نقل عن بعض أهل العلم إنكارهم لأن تكون السبعة أحرف سبع لغات؛ لأن عمرو هشام بن حكيم أهل لغة واحدة ومع ذلك وقع بينهم الاختلاف (٣٠).
ونرى أن ما احتج به ابن قتيبة لا ينهض حجة؛ لأن قوم النبى ﷺ العرب والناس كافة وليسوا قريشا فقط؛ لأنه أرسل للناس كافة.
وأما ما احتج به ابن عبد البر فيدفعه أن شأن القراءة هو التلقى عن النبى ﷺ لا فرق بين أن يكون المتلقون من لغة واحدة أو من عدة لغات.
وقد أجاد الآلوسي فى نقله لرد السيوطى على هذه الشبهة بأنه: هل من أحد يدعى أن الإنزال كان كما كان ثم أهل اللغات هذبوه ورشحوه بكلماتهم بعد الإذن لهم بذلك؟؛ ولذا لا يتصور اختلاف أهل اللغة الواحدة، والقبيلة الواحدة. ونقل عن الإمام السيوطى أن مرجع السبع الرواية لا الدراية بأن الصحابى قد يعى ما فى القراءة أو الرواية من لغات غير لغته وقد لا يدرى، ومن ثمّ قد ينكر أحد الراويين رواية وقراءة الآخر (٣١).
نعم، إن القول بأن السبعة أحرف سبع لغات قد يتحقق معه التيسير المراد من إنزال القرآن على سبعة أحرف، ولكن الحديث عن السبعة أحرف ليس قاصرا على الكلام عن التيسير فحسب، بل هناك مقامات بلاغية تختلف فيها أنظار العرب، وكذلك مقام الإيجاز مع التفسير لتحقيق حجة الإعجاز لفهم الخصم، ولو كان تعدد القراءات بمثابة تعدد الآيات لذهب مقصد الإيجاز وتضخم القرآن وعاد النقض على المقصود من التيسير؛ ولذا فهذا الوجه ليس عندى بمرتضى.
ويشتد القصور والسقوط عن درجة القبول فى القول القائل بالاقتصار على ضرب مخصوص من اللغات، وهو الألفاظ المترادفة وما يقاربها، وقد سبق أن نسبه القرطبى لأكثر أهل العلم. ولقد كان لأصحاب هذا القول حجج كثيرة أوضح من صرح بها وأطال فى سردها أبو جعفر الطبرى.
ولذا سنجمل ما جاء فى تفسيره من أدلة على هذا القول: فقد بدأ بإنكار وجود حرف فى كتاب الله قد قرئ بسبع لغات، وألزم الخصم بأنه لو قال بأن الأحرف السبعة سبع لغات مثبتة فى القرآن لما صحّ أن يقع الخلاف الوارد بين الصحابة فى القراءة، وإقرار النبى ﷺ لهم على هذا الخلاف. وذكر أن مجرد الجمع بين هذا القول وحججه مفسد له؛ لأن أصحاب هذا القول يحتجون بما روى عن الصحابة والتابعين أنه قال: هو بمنزلة قولك: (تعال) و(هلّم) و(أقبل)، أو هو بمثابة قراءة ابن مسعود (إلا زقية) وهى فى
(٣٠) البرهان: (ح ١ ص ٢١٨) وما بعدها.
(٣١) روح المعانى: (ح ١ ص ٢١).
 
١ ‏/ ١١٨
 
قراءتنا (إلا صيحة)، فهذه الحجج مبطلة لمقالتهم؛ لأن ذلك لا يعنى اللغات السبع فى حرف واحد أو كلمة واحدة، بل يعنى اختلاف الألفاظ مع اتفاق المعانى. ثم طالب أصحاب هذا القول بحرف واحد من الكتاب مقروء بسبع لغات.
ثم انتقل للجواب عن السؤال: أين الأحرف السبعة الآن التى أمر رسول الله ﷺ بالقراءة بها. هل نسخت ورفعت؟ فأجاب بأنها لم تنسخ ولم تضيعها الأمة؛ لأن الأمة أمرت بحفظ القرآن وخيرت فى قراءته وحفظه بأى الأحرف السبعة شاءت، كالحال فى الحنث فى اليمين تأتى بأى الخصال الثلاث شئت، فتكون بذلك مصيبا
مكفّرا، وقد رأت الأمة لعلة من العلل، الثبات على حرف واحد دون سائر الحروف الستة الباقية. ثم ذكر أحاديث جمع القرآن، ثم ذكر أن هذه الأخبار التى يضيق عنها كتابه تكشف عن أن عثمان ﵁ رأفة وشفقة بالأمة جمع الناس على حرف واحد لمنع الفتنة التى بدأت تظهر فى عصره من إنكار بعض الناس لبعض الحروف فى القرآن، فأطاعته الأمة فى ذلك ووافقت عليه. حتى آل الأمر الآن إلى أنه لا قراءة إلا بالحرف الواحد الذى اختاره إمام المسلمين وأمير المؤمنين للأمة ووافقت عليه الأمة فى عصره وأقرته.
ثم أجاب عن سؤال ملخصه كيف جاز للأمة ترك القراءة ببعض أحرف القرآن؟
فأجاب بأن القراءة بالأحرف السبعة كانت رخصة يباح استخدامها وليس فرضا؛ لأنه لو كان فرضا لوجب العلم بالأحرف السبعة على من تقوم الحجة بنقلهم، ولما لم يفعلوا ذلك علم عدم فرضيته.
أما جعل اختلاف القراءة فى ضبط الكلمات مفسرا لقوله ﷺ: «أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف». فيراه الطبرى غير صحيح؛ لأنهم اتفقوا على أن الخلاف فى مثل هذه التوجيهات والضبط لا يوجب تكفير الممارى فيه كما هو الحال فى الممارى فى الأحرف السبعة.
ثم أجاب عن تساؤل عن علمه بالأحرف السبعة التى نزل بها القرآن وألسنتها؟ فأجاب بأن الأحرف الستة الأخرى لا حاجة لنا بمعرفتها؛ لأننا إن عرفناها اليوم ما قرأنا بها للأسباب السابقة، وقيل: إن خمسة منها لعجز هوازن واثنين لقريش وخزاعة. وذكر روايات فى ذلك عن ابن عباس وذكر أنها لا يصح الاحتجاج بها (٣٢). وهذا مجمل ما أتى به الطبرى من استدلال على رأيه.
وما قاله الطبرى واستدلّ به ليس مأخوذا عليه كله، بل منه ما نوافقه عليه وأخّرنا ذكره
(٣٢) انظر: تفسير الطبرى (الطبعة المحققة): (ح ١ ص ٥٥ ص ٥٩) (ح ١ ص ٦٣ - ص ٦٦).
 
١ ‏/ ١١٩
 
لحين كلام الطبرى لموافقته ما نعتقده وخاصة فى ردّه على القائلين بأن الأحرف السبعة كانت سبع لغات.
ولكن لنا رد آخر على القائلين بهذا الرأى وهو: هل كان للعرب لغات متنافرة لا يفهم بعضهم بعضا حتى يحتاجوا إلى أن ينزل القرآن على سبع لغات فى الكلمة الواحدة؟، فلو كان الأمر كذلك، كيف كانوا يحفظون قصائد شعراء القبائل، وإن لم يكن الشاعر من نفس قبيلة الحفاظ؟ وكيف كان الشاعر يجوب القبائل يعرض شعره بغير ترجمان، فالنابغة تارة عند الغساسنة فى الشام، وأخرى عند المناذرة فى العراق، وشعره يفهمه أهل القريتين، والمعلقات السبع على أستار الكعبة يفهمها القاصى والدانى، وأسواق العرب الجامعة يتعامل فيها الناس، ويتساجل فيها الشعراء، وهم من قبائل شتى. والنبىّ ﷺ يقابل الوفود ويعرض عليهم الإسلام فيفهمون كلامه.
وأيضا الترادف، وإن كان القائلون به هم الأكثرون ولكنهم لم يذكروا من ثمراته أن العرب كانوا مضطرين إليه لفهم بعضهم بعضا؛ ولذا فهذا الرأى رأى ساقط عند الطبرى وعندنا.
وفيما نرى أن الطبرى يقرر بكل وضوح وصراحة وصرامة أن اختلاف اللهجات واللغات والقراءات فى النطق لا علاقة لها بحديث تعدد الأحرف السبعة، وهذا هو مذهب الطبرى الذى صرّح به، فلا داعى للتفرقة بين اللازم البين وغيره؛ لأنه هو مذهب الرجل.
والذى يدفعنا للرد على كلام الطبرى، أن مؤدى مذهبه هذا ضياع ستة أحرف من القرآن وأن القرآن فى العصر المكى كان قاصرا على قريش، وأنّ من سواهم ممن عرض عليهم الإسلام معذورون غير مقصرين فى الجحود والكفر بمعجزته وشريعته لعدم فهمهم. وكل هذا مناف لما كان عليه العرب وواقعهم.
والظاهر من كلام الطبرى أنه يرى أن حكمة التيسير تقتضى أن تشمل الأحرف السبعة القرآن كله أو أكثره، وعليه يلزمه ما قدمناه، ولو عكس دعواه فجعل اختلاف اللهجات سبيلا إلى اختلاف النطق، فبهذا لا تكون هناك صلة بين دعواه وحديث الأحرف السبعة، بل بهذا يعود الاختلاف إلى حرف واحد ويلزمه ما لزمه من قبل.
وما استدل به من آثار لم يصحّ منها أثر واحد، على ما سبق أن وضحنا، ولم يجد فيها مثالا واحدا يؤيد دعواه حتى اخترع
 
١ ‏/ ١٢٠
 
مثال (هلمّ، وأقبل، وتعال، وإلىّ، وقصدى، ونحوى، وقربى)، وحتى هذا المثال لا يصحّ إلّا إذا أثبت أن هذه الألفاظ بألسنة مختلفة لا بلسان واحد.
أما استدلاله بأن اختلاف الناس فى القراءة هو الذى دفع عثمان ﵁ أن يجمع المصحف على حرف واحد لدرء الخلاف، وتشبيهه لما فعله عثمان بأنه مثل اختيار خصلة من خصال الكفارة، فلا نوافقه عليه؛ لأن السبب المعقول أن الصحابة لمّا تفرقوا فى الأمصار وأقرءوا الناس بقراءاتهم التى سمعوها من النبى ﷺ حفظ منهم أهل الأمصار المختلفة قراءتهم، فلما اجتمع أهل الأمصار المختلفة فى غزاة سمع بعضهم قراءة بعض، فدفع الجهل والعصبية بعضهم إلى أن يقول: قراءتى خير من قراءتك. فرأى عثمان أن يجمع الناس على مصحف واحد بعد أن قال له حذيفة ﵁: أدرك أمتك قبل أن تختلف اختلاف اليهود والنصارى. فهل كان حذيفة يقصد أن يدرك عثمان الأمة من البلاء الذى ينزل عليهم بسبب الأحرف السبعة! بل الصواب أن عثمان ﵁ جمعهم على مصحف واحد يجمع كل ما هو قرآن، وينفى عنه كل ما ليس بقرآن، فجمع المصحف على سبعة أحرف.
وأمّا تشبيهه للأحرف بخصال الكفارة فهو لا يستقيم؛ لأن خصال الكفارة كلها مخلوقة من أفعال العباد، أما الأحرف السبعة فهى منزلة من عند الله- ﷾ فهى من القرآن المعجز؛ ولذا لم يرتض أهل التحقيق من المتكلمين والفقهاء والقراء ما ذهب إليه الطبرى وشيعته، ونقل ابن الجزرى أن جماعات الفقهاء والمتكلمين والقراء على أن المصاحف العثمانية جمعت الأحرف السبعة. ونقل البدر العينى عن أبى الحسن الأشعرى الإجماع على عدم جواز تضييق ما وسعه الله على عبده من إنزاله القرآن على أحرف، ولا حرج أن يقرأ بأى حرف شاء مما نزل به القرآن. وقرر أبو شامة ذلك فى «المرشد الوجيز» فى غير ذات موضع: فمرة ينقل عن أبى بكر ابن الطيب أن مصحف
عثمان جمع ما أقرأ به النبىّ ﷺ الناس، ووصل إلينا متواترا، أما الآحاد فلم يدونه كقراءة ابن مسعود فى: فَإِنْ فاؤُ زاد فى قراءته (فيهن). وفى موضع آخر يقرر أنه- عثمان- ما كان هو ولا أحد من أئمة المسلمين يستجيز المنع من القراءة بحرف ثبت أن الله- تعالى- أنزله. وموضع ثالث ينفى ما يتوهم من أن المصاحف العثمانية جمعت حرفا واحدا، بل جمعت الأحرف السبعة حتى يقرر أن عثمان ﵁ عرف حاجة الناس للأحرف السبعة فأثبتها فى مصاحفه.
 
١ ‏/ ١٢١
 
أما اختياره لحرف زيد فلأنه اجتمع عليه المهاجرون والأنصار فكان مشهورا مستفيضا وأشار إلى أنه سمّى بحرف زيد؛ لأنه هو الذى رسمه فى المصاحف وتولى إقراءه دون غيره. ونقل الأبىّ فى شرح مسلم عن القاضى عياض مثل ما نقلنا عن أبى شامة فى اشتمال المصاحف العثمانية على الأحرف السبعة، ثم نقل الأبىّ عن ابن عرفة المالكى أن الأحرف باقية ومحفوظة مع مرور المئين من السنين.

الوجه الرضى فى الأحرف وكيف اكتملت به العدة سبعة:
الوجه الرضى عندى: أن المقصود بالحرف الوجه من وجوه القراءات، وهو الرأى الثانى الذى ذكره أبو عمرو الدانى. وقد أخفق بعض العلماء فى عدّ هذه الوجوه السبعة كأبى عمرو الدانى. ونجح بعضهم كابن الجزرى فقال: «وذلك أنى تتبعت القراءات صحيحها وشاذها وضعيفها ومنكرها فإذا هو يرجع اختلافها إلى سبعة من الاختلاف لا يخرج عنها وذلك: إما فى الحركات بلا تغير فى الصورة والمعنى نحو (البخل) (٣٣) بأربعة (وبحسب) بوجهين (٣٤) أو بتغير فى المعنى فقط نحو فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ، (٣٥) وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ (٣٦) وأمه. وإما فى الحروف بتغير المعنى لا الصورة نحو: (تبلو وتتلوا). (٣٧) ونُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ و(ننحيك ببدنك)، (٣٨) أو عكس ذلك نحو (بصطة وبسطة)، و(الصراط والسراط)، أو بتغيرهما نحو: (أشد منكم ومنهم)، (٣٩) و(يأتل ويتأل)، (٤٠) فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ، و(فامضوا (٤١) إلى ذكر الله)، وإما فى التقديم والتأخير نحو: فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ (٤٢) (وجاءت سكرة الحق بالموت) (٤٣) أو فى الزيادة والنقصان نحو:
(وأوصى ووصى، والذكر والأنثى). (٤٤) فهذه سبعة أوجه لا يخرج الاختلاف عنها. وأما نحو اختلاف الإظهار، والإدغام، والروم، والإشمام، والتفخيم، والترقيق، والمد، والقصر، والإمالة، والفتح، والتخفيف، والتسهيل، والإبدال، والنقل، مما يعبر عنه بالأصول، فهذا ليس من الاختلاف الذى يتنوع فيه اللفظ والمعنى؛ لأن هذه الصفات المتنوعة فى أدائه لا تخرجه عن أن يكون لفظا واحدا، ولئن فرض فيكون من الأول. ثم رأيت الإمام الكبير أبا الفضل الرازى حاول ما ذكرته فقال: إن الكلام لا يخرج اختلافه عن سبعة أوجه:
الأول: اختلاف الأسماء من الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث والمبالغة وغيرها.
(٣٣) هى ضم فسكون وضمتان، وفتح فسكون وفتحتان، والمتواتر من ذلك أول الأربعة وآخرها.
(٣٤) كسر السين وفتحها، والقراءتان متواترتان.
(٣٥) برفع آدم ونصب كلمات وبالعكس، والقراءتان متواترتان.
(٣٦) بضم الهمزة وتشديد الميم وبعدها تاء تأنيث بمعنى حين، وهى المتواترة، وأمه بفتحات آخره هاء وصلا ووقفا بمعنى النسيان وهو شاذ لا يقرأ به.
(٣٧) أى من قوله تعالى فى سورة يونس: هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ والقراءة باللفظين متواترة.
(٣٨) ننجيك بالجيم وهى المتواترة وننحيك بالحاء وهى شاذة.
(٣٩) فى موضعين من سورة غافر آية ٢١، آية ٨٢ والقراءتان متواترتان.
(٤٠) الأولى بصورة الافتعال من الألو بمعنى التقصير، والثانية بصورة التفعل من الآلية بمعنى الحلف، فيختلف المعنى كما اختلفت الصورة. هذا مراده، ولا يتعين لإمكان أن تكون الصورتان معا بمعنى الحلف فيكونا من تغير الصورة دون المعنى والقراءتان متواترتان.
(٤١) الأولى هى المتواترة، والثانية بالغة الشذوذ، وقد مشى ابن الجزرى هنا على أن السعى يفيد معنى الإسراع، والمضى يفيد السير العادى، ومن ثم اختلف المعنيان على هذا.
(٤٢) بتقديم المبنى للمعلوم على المبنى للمجهول وعكسه، والقراءتان متواترتان.
(٤٣) بالغة الشذوذ، والمتواتر ما فى المصحف.
(٤٤) أى مع وما خلق الذكر والأنثى، والنقصان بالغ الشذوذ.
 
١ ‏/ ١٢٢
 
الثانى: اختلاف تصريف الأفعال وما يسند إليه من نحو الماضى والمضارع والأمر والإسناد إلى المذكر والمؤنث والمتكلم والمخاطب والفاعل والمفعول به.
الثالث: وجوه الإعراب.
الرابع: الزيادة والنقص.
الخامس: التقديم والتأخير.
السادس: القلب والإبدال فى كلمة بأخرى وفى حرف جر بآخر.
السابع: اختلاف اللغات من فتح وإمالة وترقيق وتفخيم وتحقيق وتسهيل وإدغام وإظهار ونحو ذلك.
ثم وقفت على كلام ابن قتيبة- وقد حاول ما حاولنا بنحو آخر- فقال: وقد تدبرت وجوه الاختلاف فى القراءات فوجدتها سبعة:
الأول: فى الإعراب بما لا يزيل صورتها فى الخط ولا يغير معناها نحو: (هن أطهر لكم- وأطهر) (٤٥). (وهل يجازى إلا الكفور- ونجازى (٤٦) إلا الكفور)، و(البخل والبخل)، (وميسرة وميسرة). (٤٧)
والثانى: الاختلاف فى إعراب الكلمة وحركات بنائها بما يغير معناها ولا يزيلها عن صورتها نحو: (ربّنا باعد، وربّنا باعد، (٤٨) وإذ تلقونه، وإذ تلقونه، (٤٩) وبعد أمّة، وبعد أمه).
الثالث: الاختلاف فى حروف الكلمة دون إعرابها بما يغير معناها ولا يزيل صورتها نحو: (وانظر إلى العظام كيف ننشزها وننشرها) (٥٠)، (وإذ فزع عن قلوبهم، وفزّع). (٥١)
الرابع: أن يكون الاختلاف فى الكلمة يغير صورتها ومعناها نحو: (طلع منضود) فى موضع وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ فى آخر.
الخامس: أن يكون الاختلاف فى الكلمة بما يغير صورتها فى الكتاب ولا يغير معناها نحو: (إلا زقية واحد- وصيحة (٥٢) واحدة، وكالعهن المنقوش- وكالصوف). (٥٣)
السادس: أن يكون الاختلاف بالتقديم والتأخير نحو: (وجاءت سكرة الحق بالموت- سكرة الموت بالحق-).
السابع: أن يكون الاختلاف بالزيادة والنقصان نحو (وما عملت أيديهم- وعملته-) (٥٤)، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٥٥) (وهذا أخى له تسع وتسعون نعجة أنثى). (٥٦)
ثم قال ابن قتيبة: وكل هذه الحروف كلام الله تعالى نزل به الروح الأمين على رسول الله ﷺ.
قلت: وهو حسن كما قلنا وهناك أمثلة أخرى لاختلاف القراءات أكثر وضوحا مثل:
(بضنين) بالضاد (وبظنين) بالظاء (٥٧) (وأشد
(٤٥) هود آية ٧٨. قرأ لفظ (أطهر) بالرفع على الخبرية، وهى القراءة المتواترة، وبالنصب على الحالية وهى ضعيفة بالغة الشذوذ.
(٤٦) أى بالغيبة والبناء للمجهول وبنون العظمة، والقراءتان متواترتان.
(٤٧) فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ البقرة ٢٨٠. قرأت مَيْسَرَةٍ بفتح السين وضمها، والقراءتان متواترتان.
(٤٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا- سبأ- بنصب ربنا على النداء وسكون دال باعد على الطلب، وبرفع ربنا على الابتداء وفتح دال باعد على المضى، والقراءتان متواترتان.
(٤٩) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ النور آية ١٥ قرئ (تلقونه) بحذف إحدى التاءين من التلقى أى (تتلقونه)، وهى القراءة المتواترة، وقرئ شذوذا (تلقونه) بضم تاء المضارعة وتسكين اللام أى يلقيه بعضكم إلى بعض من الإلقاء، (وتلقونه) بفتح وكسر اللام وتخفيف القاف مع ضمها من (الولق)، هو الكذب، وهما شاذتان.
(٥٠) وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها البقرة ٢٥٩ قرئ (ننشزها) بالزاى أى نرفعها ونضم بعضها إلى بعض، و(ننشرها) بالراء أى نبعثها ونحييها، والقراءتان متواترتان.
(٥١) فى سبأ قرئ (فزع) بالبناء للمعلوم وللمجهول. وهما متواترتان، وقرئ (فرغ) بالراء والغين وهى شاذة.
(٥٢) يس وص والمتواتر (صيحة وزقية) وإن كانت بمعناها هى بالغة الشذوذ مخالفة لرسم المصحف.
(٥٣) القارعة والمتواتر ما فى المصحف.
(٥٤) وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ب يس قرئ بحذف الهاء وإثباتها، وهما متواترتان.
(٥٥) ومن يقول فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ الحديد ٢٤ قرئ بحذف هو وإثباتها والقراءتان متواترتان.
(٥٦) كلمة (أنثى) زائدة على الرسم وهى فى غاية الشذوذ والمتواتر حذفها.
(٥٧) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ- التكوير قرئ بالضاد من الضن بمعنى البخل والكتمان، وبالظاء من الظنة وهى التهمة، وهما متواترتان.
 
١ ‏/ ١٢٣
 
منكم، وأشد منهم) على أنه قد فاته كما فات غيره أكثر أصول القراءات. كالإدغام، والإظهار، والإخفاء، والإمالة، والتفخيم، وبين بين، والمد، والقصر، وبعض أحكام الهمز، كذلك الروم، والإشمام، على اختلاف أنواعه، وكل ذلك من اختلاف القراءات، وتغاير الألفاظ مما اختلف فيه أئمة القراء، وقد كانوا يترافعون بدون ذلك إلى النبى ﷺ ويرد بعضهم على بعض، كما سيأتى تحقيقه وبيانه فى باب الهمز والنقل والإمالة، ولكن يمكن أن يكون هذا من القسم الأول فيشمل الأوجه السبعة على ما قررناه (٥٨) أهـ.
وما نقله ابن الجزرى- ﵀ عن ابن قتيبة هو بعينه ما حكاه القاضى الباقلانى عن بعض أهل العلم، لكن مع نوع تغير فى العبارات وتصرف فى زيادة بعض الأمثلة، وليس قولا مستقلا فى المسألة كما توهم شيخ أشياخنا الزرقانى، ولينظر قارئنا الكريم بشيء من الإمعان إلى هذا النص من تفسير القرطبى قال- ﵀: (القول الرابع: ما حكاه صاحب «الدلائل» عن بعض العلماء، وحكى نحوه القاضى ابن الطيب قال:
تدبرت وجوه الاختلاف فى القراءة فوجدتها سبعا:
منها: ما تتغير حركته، ولا يزول معناه ولا صورته مثل: هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ وأطهر، وَيَضِيقُ صَدْرِي ويضيق.
ومنها: ما لا تتغير صورته ويتغير معناه بالإعراب، مثل: رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وباعد.
ومنها: ما تبقى صورته ويتغير معناه باختلاف الحروف، مثل قوله: نُنْشِزُها وننشرها.
ومنها: ما تتغير صورته ويبقى معناه:
كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ وكالصوف المنفوش.
ومنها: ما تتغير صورته ومعناه؛ مثل:
وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وطلع منضود.
ومنها: بالتقديم والتأخير كقوله:
وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ، وجاءت سكرة الحق بالموت.
ومنها: بالزيادة والنقصان، مثل قوله:
«تسع وتسعون نعجة أنثى»، وقوله: «وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين»، وقوله:
«فإن الله من بعد إكراههم لهن غفور رحيم» (٥٩) أه.
فهذا حصر ثلاثة من أكابر العلماء للأحرف السبعة أو الوجوه السبعة بين القراءات، وإن كان بينهم ثمة خلاف فقد رأى العلماء الخضرى والدمياطى وبخيت المطيعى أن الخلاف بينهم لفظى؛ لأن غاية الاختلاف بينهم اختلاف التعبير عن بعض الوجوه، وزيادة أبى الفضل الرازى اختلاف اللهجات،
(٥٨) النشر فى القراءات العشر، لابن الجزرى (ج ١ ص ٢٦ - ص ٢٨).
(٥٩) مقدمة تفسير القرطبى (ج ١ ص ٤٥ وما بعدها).
 
١ ‏/ ١٢٤
 
وهذه الزيادة يمكن ردها إلى الوجوه الأخرى فلا يبقى خلاف حقيقى؛ فابن الجزرى، وإن لم يذكر اختلاف اللهجات ضمن الوجوه، ولكنه أنكر على ابن قتيبة عدم ذكره.
أما انحصار أمر التيسير فى النطق فليس بشرط، كما سبق أن وضحنا، حتى لا ينحصر التيسير فى الوجه السابع فقط، وهو اختلاف اللهجات.
وهناك شبهة أوردها الحافظ وهى:
أن القرآن نزل وأكثر العرب أميون وكانوا لا يعرفون الحروف إلّا بمخارجها. وإن كانت هذه الشبهة قد تنال فى الظاهر مما ذهب إليه ابن قتيبة، فقد ردّ الحافظ بأن ذلك لا يلزم؛ لأن هذا قد يكون وقع اتفاقا، وإنما اطلع عليه ابن قتيبة بالاستقراء.
وقد زاد الشيخ الزرقانى هذا وضوحا حيث بيّن أن هذه الوجوه توصل إليها بالاستقراء، وكان يكفى المسلمين، وإن كانوا أميين فى هذا الوقت، أن يعرفوا أن وجوه الاختلاف سبعة، وإن لم يضعوا لهذه الوجوه عناوين؛ لأنهم يعرفون هذه الوجوه تطبيقا فى كل مفردات القرآن، ومثل ذلك عدم معرفتهم بالعناوين الخاصة بالإعراب والبناء، ولكنهم يعرفون النطق الصحيح الفصيح. وبذلك اتضح أن كون العرب أميين لا يعرفون العناوين التى ذكرت فى الوجوه السبعة هذا لا يعنى عدم وجودها؛ لأن هذه العناوين أسماء لمسميات وجدت كوجوه اختلاف بين القراءات، فهى وصف للواقع، وليست إنشاء له.

بقاء الأحرف السبعة فى المصحف على هذا الوجه:
بحثنا فى هذه المسألة لا يشمل الكلام على قرآنية الأحرف السبعة النازلة، ولا أوجه الخلاف بين القراءات كما صنع الأئمة الثلاثة: ابن قتيبة وأبو الفضل الرازى وابن الجزرى، لما كان فى كلامهم من كفاية الكلام على ما ذهب إليه الشيخان الجليلان محمد بخيت المطيعى والزرقانى من أن بعض الأحرف السبعة متواترة، وبعضها الآخر غير متواتر ومخالف للمصحف العثمانى فى الرسم فلم تكتب. حتى ادعى الشيخان نسخ ما لم يتواتر منها. والصحيح أن إثبات أصل القرآنية يحتاج لدليل التواتر، فنحتاج إلى ثبوت التواتر أولا فيما ادعيا فيه النسخ، وهذا هو المتسق لكلام الأصوليين وغيرهم ولمنطق العقل السليم. ونحن لا نوافق أيضا على ما ذهب إليه الشيخ المطيعى من لفظية الخلاف بين القائلين ببقاء الأحرف السبعة فى المصحف وبين القائلين ببقاء حرف واحد فقط كما قال الطبرى وغيره. وحاولنا لتفهم
 
١ ‏/ ١٢٥
 
كلام الشيخ أن نغض الطرف عن الخلاف بين القولين فى أن أحدهما يعقبه الكفر والآخر لا، وأن أصحاب القول الثانى يقولون: إنما أثبت من القراءات المشهورة ما وافق الرسم العثمانى فقطو كذلك غض النظر عن تفرقة الطبرى الغريبة بين جحد الحرف وجحد القراءة، إذا غضضنا الطرف عن هذا كله، سيبقى الخلاف عندنا حقيقيا، لما قلناه من عدم صحة دعوى النسخ لشىء من الأحرف السبعة النازلة. وكان سبيلنا لإثبات وجود الأحرف السبعة إيجاد مثال واحد فى القرآن، وقد كان تعليقنا على ما ذكرناه من نصوص الأئمة الثلاثة: ابن قتيبة والرازى وابن الجزرى ما فيه كفاية فى هذا الباب.
ونلاحظ فى المثل المذكور فى هذه النصوص وحواشىّ عليها أن مثل الزيادة والنقص لا تكون من مصحف واحد. فلا تجتمع الزيادة والنقص فى مصحف واحد، ونلاحظ أيضا قلة أمثلة الإبدال فى تغير الحرف والصورة معا سواء تغير المعنى أم لا.

ليست قراءات الأئمة السبعة تمام الأحرف السبعة:
سبق لنا عرض نصّ الأبىّ فى شرح مسلم الذى نقل عن ابن عرفة المالكى أنه يرى أن الأحرف السبعة هى القراءات السبع، وأن قراءة يعقوب داخلة فيها، ولكن الإمام ابن الجزرى فى النشر ردّ هذا القول ونسبه للعوام، واحتج على من قال بأن الأحرف السبعة وجدت قبل وجود القراء السبعة، وقبل جمعها على يد ابن مجاهد فى القرن الرابع.
وذكر فى موضع آخر أن مسألة بقاء الأحرف السبعة مفرعة على مسألة هل يجوز للأمة ترك شىء من الأحرف المتواترة؟ فمن منع أوجب أن تكون الأمة تقرأ بالأحرف السبعة إلى اليوم، وإلّا اجتمعت الأمة المعصومة على ضلالة. ولكنه ذكر أن القراءات السبعة أو العشرة المشهورة بالنسبة لما كان يقرأ به الصحابة والتابعون نزر من بحر.
ونحن نوافق ابن الجزرى فيما قاله من إنكار أن تكون القراءات سبعة؛ لأن التواتر للقراءات لم ينحصر فى السبعة المشهورة وهى قراءات نافع وابن كثير وأبى عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائى، بل تعدى إلى قراءات الأئمة الثلاثة المتممة للعشرة وهم:
أبو جعفر ويعقوب وخلف أحد راويى حمزة، فقد ذكر الجلال المحلى أن الأخير كانت اختياراته من أوجه فى السبعة، ولكنه صار وجها مستقلا به؛ ولذا صارت قراءة مستقلة.
ولكننا لا نوافق الإمام ابن الجزرى فيما ذكره من أن القراءات السبع بالنسبة للقراءات التى كان يقرأ بها الصحابة والتابعون نزر من
 
١ ‏/ ١٢٦
 
بحر، والذى حمله على ذلك هو انخداعه بقول سابقيه من أمثال: أبى عباس المهدوى، وأبى محمد مكى، وأبى شامة، وابن تيمية، فى عدم اشتراط التواتر فى ضوابط القراءة المقبولة حتى نظم ابن الجزرى هذا الرأى فى «طيبة النشر» فقال:
وكل ما وافق وجه نحوى ... وكان للرسم احتمالا يحوى
وصحّ إسنادا هو القرآن ... فهذه الثلاثة الأركان
وحيثما يختل ركن أثبت ... شذوذه لو أنه فى السبعة
بل لقد أنكر ابن الجزرى على جماهير القراء والفقهاء والمحدثين اشتراطهم التواتر فى القراءة.
ونحن نسأل ابن الجزرى: أين ذهبت القراءات التى هى سوى العشرة المشهورة والتى كان يقرأ بها السلف، مع الأخذ فى الاعتبار أنه لا تصح دعوى النسخ إلّا بإثبات أصل القرآنية بالتواتر، وإذا كان السلف يقرءون بها، فهى لم تنسخ لانقطاع الوحى، بل إن هذا القول يكذبه القرآن نفسه بقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.
والخلاصة: أن القراءات السبع هى بعض أحرف القرآن السبعة لا كلها، وأن القراءات العشر المشهورة بين أيدى الناس اليوم هى جميع الأحرف السبعة التى أنزل الله عليها القرآن. وإن شئت قلت: الأحرف السبعة هى القراءات العشر بلا أدنى فرق بين العبارتين.
والله أعلم.
أ. د/ إبراهيم عبد الرحمن خليفة مراجع للبحث والاستزادة:
(١) اتحاف فضلاء البشر فى القراءات الأربع عشر، للشيخ أحمد الدمياطى الشهير بالبناء، طبع ونشر عبد الحميد أحمد حنفى.
(٢) الإتقان فى علوم القرآن، للسيوطى.
(٣) إكمال إكمال المعلم شرح مسلم، لأبى عبد الله الأبىّ، مكتبة طبرية، الرياض.
(٤) بذل المجهود فى حل أبى داود، للشيخ خليل أحمد السهارنفورى، ط دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
(٥) البرهان فى علوم القرآن، لبدر الدين الزركشى.
(٦) جامع الترمذى.
(٧) جامع البيان عن تأويل آى القرآن، للطبرى.
(٨) جامع البيان فى القراءات السبع، لأبى عمر الدانى، قطعة من مقدمة حققها دكتور عبد المهيمن طحان ووضعها تحت عنوان «الأحرف السبعة للقرآن» دار المنارة للنشر والتوزيع، مكة المكرمة.
(٩) الجامع الصحيح، للبخارى.
(١٠) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبى.
(١١) روح المعانى، للآلوسى.
(١٢) زهر الربى شرح المجتبى، للسيوطى، ط المكتب العلمى، بيروت، لبنان.
(١٣) سنن أبى داود.
(١٤) شرح النووى لصحيح مسلم، مؤسسة مناهل العرفان، بيروت، نشر مكتبة الغزالى، دمشق.
(١٥) صحيح مسلم.
 
١ ‏/ ١٢٧
 
(١٦) عمدة القارى شرح صحيح البخارى، لبدر الدين العينى، ط دار إحياء التراث العربى، بيروت، لبنان.
(١٧) عون المعبود شرح سنن أبى داود، لأبى الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادى، ط دار الحديث، القاهرة.
(١٨) فتح البارى بشرح صحيح البخارى، للحافظ ابن حجر العسقلانى.
(١٩) فضائل القرآن، للحافظ ابن كثير، ط عيسى البابى الحلبى.
(٢٠) الكلمات الحسان فى الحروف السبعة وجمع القرآن، للشيخ محمد بخيت المطيعى.
(٢١) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للحافظ الهيثمى، ط دار الكتاب العربى، بيروت، لبنان.
(٢٢) المحتسب فى تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها، لأبى الفتح عثمان بن جنى، تحقيق على النجدى ناصف والدكتور عبد الفتاح إسماعيل شلبى، نشر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية.
(٢٣) المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز، لأبى شامة، د. طيار آلتى قولاج، دار وقف الديانة التركى للطباعة والنشر،- أنقرة.
(٢٤) مسند الإمام أحمد بن حنبل، ط الحلبى.
(٢٥) مناهل العرفان فى علوم القرآن، للشيخ محمد عبد العظيم الزرقانى.
(٢٦) النشر فى القراءات العشر، لابن الجزرى، نشر عباس أحمد الباز، المروة، مكة المكرمة، ط دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
 
١ ‏/ ١٢٨
 
عروبة لغة القرآن، وهل يقدح فيها المعرب؟
ترجم البخارى فى «جامعه الصحيح» بابا بعنوان (نزل القرآن بلسان قريش والعرب) وذكر فيه قوله تعالى: قُرْآنًا عَرَبِيًّا، وقوله تعالى: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ثم ذكر طرفا من حديث أنس ﵁ فى جمع القرآن، وفيه قول عثمان: (إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فى عربية من عربية القرآن فاكتبوها بلسان قريش، فإن القرآن أنزل بلسانهم). وما ذكره الإمام البخارى يكشف عن أنه يرى أن قريشا لم يقتصر القرآن على لسانها، وإن كانت هى أسعد حظا به من غيرها؛ ولذا قدم لسان قريش ثم سائر العرب.
ولا يعنى هذا عندى ما ذهب إليه الطبرى من تناكر ألسنة العرب وعدم ائتلافها بما يسبب اختلافا فى جواهر ألفاظها، وإنما أفهم منه اختلاف اللهجات فى النطق بالألفاظ؛ ولذا لم أره حسنا ما صنعه بعض الأئمة من عقد أنواع مخصوصة فى كتبهم لما ورد فى القرآن بغير لغة الحجاز، منهم الزركشى والسيوطى، فعدوا سبعا وثلاثين لغة. وما أحسب إلّا الاتفاق فى جواهر الألفاظ هو الذى سوغ جمع هذه الألسنة فى لسان واحد فى قوله تعالى: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ، وقوله فى سورة الشعراء: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، ولو كانت مختلفة الجواهر لجمعها كما فى قوله تعالى:
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ. ولكنّ هذا لا يعنى استيعاب القرآن لكل لهجات العرب، بل اصطفى منها ما لا تنفر الآذان منه، فقد نقل الزركشى عن قاسم بن ثابت (١) فى كتابه «الدلائل» أن من الأحرف ما لقريش ولكنانة ولأسد وهذيل وتميم وضبة وألفافها وقيس.
ونقل قولا آخر: أن مضر تستوعب اللغات التى نزل بها القرآن؛ لأن قبائل مضر تستوعب سبع لغات وتزيد.
ونقل الزركشى عن ابن عبد البر: أن قوما أنكروا كون كل لغات مضر فى القرآن؛ لأنها تشتمل على شواذ لا يقرأ بها.
كشكشة قيس وهى قلب الكاف شينا، وعنعنة تميم وهى قلب الهمزة عينا، وكذلك
(١) هو القاسم بن ثابت بن حزم بن عبد الرحمن بن مطرف بن سليمان العوفى السرقسطى الأندلسى أبو محمد، عالم بالحديث واللغة والفقه، توفى سنة ٣٢٠ هـ. فهرست ابن خير ص ١٩١، بغية الوعاة ص ٣٧٤؛ نفح الطيب ١/ ٢٥٥. وكتابه الدلائل فى غريب الحديث ومعانيه.
 
١ ‏/ ١٣٠
 
إبدالهم السين تاء. وما نقل عن عثمان أن القرآن نزل بلسان مضر. معارض بحديث أنس أنه نزل بلغة قريش. (٢)
وقد ذكر أبو نصر الفارابى فى كتابه (الألفاظ والحروف) أن أحسن لسان لسان قريش وأجوده وأسهله، وعنها أخذ اللسان العربى من قيس وتميم وأسد، فهؤلاء هم أكثر من أخذ عنهم، وتركت قبائل لمجاورتها الأعاجم وغير العرب، ولم يؤخذ عن حضرى ولا أحد من سكان البرارى. (٣)
والمقصود من هذا البحث: أن القرآن الكريم جاء بأصفى ألفاظ اللغة العربية وأعذبها وأفصحها، مما لا يمكن أن يخدش عربية لغة القرآن، بحيث لا تجد لفظا واحدا فيه إلّا وله أصالة فى العربية، أمّا ما يدعيه البعض من وجود ألفاظ أعجمية فى القرآن، فليس فى القرآن لفظ أعجمى لا يعرفه العربى أو لم يستعمله، وكيف يصحّ خلاف ذلك والقرآن يكذبه عند ما يبين أنه نزل بلسان عربى، وهذا يقتضى أن اسم الشيء ووصفه المخلوع على اسمه معا يجب أن يحمل على جميعه كما هو متبادر، وعليه يكون جميع القرآن عربيا، وقد قال- ﷿ فى ردّه على من زعم أن النبىّ يعلمه بشر فقال: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (٤) وقال ﷿:
وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ (٥). فالكلمة إذا كانت عربية ولكنها حوشية مجهولة لم تكن توصف بالفصاحة، فكيف بالكلام الأعجمى مجهول اللفظ والمعنى، ولو كان فى القرآن أعجمى لبادر العرب بإنكاره على القرآن. فمن ينفى وجود الأعجمى فى القرآن إنما يقصد الذى لا تعرفه العرب ولا تستعمله، ومن قال بوجوده فهو يقصد الذى عرفه العرب واستعملوه حتى لان وانقاد للسانهم، وهكذا يكون الخلاف بين الفريقين لفظيا؛ لأنه توارد على محلين لا محل واحد.
وعلى هذا التحرير يحمل ما نقله الزركشى عن جمهور العلماء، من عدم وجود غير العربى فى القرآن، ومنهم: أبو عبيدة والطبرى والقاضى أبو بكر بن الطيب فى «التقريب» وابن فارس اللغوى والشافعى فى «الرسالة»، ونقل عن الشافعى ردّه على القائلين بوقوع الأعجمى فى القرآن. (٦) وحكى عن ابن فارس عن أبى عبيدة أنه أنكر قول القائلين بوقوع غير العربى فى القرآن؛ لأنه لو كان واقعا لتوهم متوهم أن العرب عجزت عن الإتيان بمثله؛ لأنه يشتمل على غير لغاتهم؛ ولذا أبطل القراءة بالفارسية فى الصلاة لعدم
(٢) البرهان فى علوم القرآن، للزركشى، ج ١، ص ٢١٩ فما بعدها.
(٣) البيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن عن طريق الإتقان، للشيخ طاهر الجزائرى، تحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ص ٨٤ وما بعدها.
(٤) سورة النحل آية (١٠٣).
(٥) سورة فصلت آية (٤٤).
(٦) الرسالة (ص ٤٠)، تحقيق أ. أحمد محمد شاكر، ط مصطفى الحلبى سنة ١٩٤٠ م.
 
١ ‏/ ١٣١
 
إعجاز الترجمة، ورأى أن من جوز القراءة بالفارسية فليجوزها بكتب التفسير. ثم نقل عن ابن عباس وعكرمة وغيرهما القول بوقوع غير العربى فيه. (٧)
أما السيوطى فقد ذكر أنه أفرد هذه المسألة بالتصنيف فى كتاب «المهذب فيما وقع فى القرآن من المعرب» ملخصه: أن العلماء اختلفوا فى وقوع المعرب فى القرآن، فالأكثرون منهم: الشافعى، والطبرى، وأبو عبيدة، والقاضى أبو بكر، وابن فارس، على عدم وقوعه فيه لقوله تعالى: قُرْآنًا عَرَبِيًّا وقوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ. وشدد الشافعى النكير ثم ذكر قول أبى عبيدة السابق ذكره، وذكر أن ابن جرير نقل عن ابن عباس وغيره تفسير بعض ألفاظ القرآن بأنها حبشية أو فارسية أو نبطية، من باب توارد اللغات، فقد تكلم العرب والفرس والحبش بلفظ واحد، ونقل قولا آخر أن ذلك جاء لنزول القرآن بلغة العرب العاربة، الذين كانت لهم مخالطة بألسنة غيرهم فى الأسفار، ونقل ثالثا يقول: إن هذه الألفاظ عربية صرفة، ولغة العرب متسعة فقد تخفى على الأكابر. ونقل ذلك عن أبى المعالى عزيزى بن عبد الملك، ونقل قولا رابعا بوقوعه فيه، وأجابوا عن قوله تعالى: قُرْآنًا عَرَبِيًّا أنها كلمات يسيرة لا تخرجه عن كونه عربيا، وعن قوله تعالى: ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ أن المعنى أكلام أعجمى ومخاطب عربى، واستدلوا أيضا باتفاق النحاة على منع صرف (إبراهيم) للعلمية والعجمة. وردّ هذا الاستدلال بأن الأعلام ليست محل الخلاف، ولكنهم وجّهوه بأن تجويزه فى الأعلام يجوزه فى الأجناس.
ونقل السيوطى أن أقوى دليل لهم- وهو اختياره- ما رواه الطبرى عن أبى ميسرة التابعى قال: فى القرآن من كل لسان. بسند صحيح.
وروى مثله عن سعيد بن جبير ووهب ابن منبه، وعليه يكون فى القرآن إشارة إلى أنواع اللغات والألسنة ليتم إحاطته بكل شىء.
ثم ذكر عن ابن النقيب قوله فى أن القرآن جمع كل اللغات. ثم استدل السيوطى بأن الرسول ﷺ مرسل للعالمين، فلا بد أن يجمع القرآن كل اللغات.
ونقل عن الخويّيّ (٨) أنه ذكر فائدة أخرى لوقوع المعرب فى القرآن، وهو: أن المعرب الواقع فى القرآن لا يسع الفصيح إلّا استعماله، وضرب لذلك مثالا ب (إستبرق) بأن عظمة الوعد تكون بالوعد بالملبس الناعم، والحرير كلما كان أثقل كان أرفع، فوجب على الفصيح أن يذكر الحرير الأثخن
(٧) البرهان فى علوم القرآن: (ج ١ ص ٢٨٧) وما بعدها.
(٨) الخويّيّ: بضم الخاء وفتح الواو وتشديد الباء وهو شمس الدين أحمد بن حنبل بن سعادة الخويّيّ الشافعى، صاحب الإمام فخر الدين الرازى، كان فقيها مناظرا وأستاذا فى الطب والحكمة. توفى سنة ٦٣٨ هـ ونسبه إلى خوبى مدينة بآذربيجان (شذرات الذهب ٥/ ١٨٣).
 
١ ‏/ ١٣٢
 
الأثقل، وهذا هو الإستبرق، ولو أراد أن يأتى بكلمة عربية واحدة فلن يستطيع؛ لأنها لن تكون فى نفس درجة الفصاحة، أو لا توجد؛ لأن العرب عرفوا الحرير عن العجم والديباج الثقيل لا وضع لهم فيه، فاكتفوا بتعريب (الإستبرق)، ولو لم يستعمل (الإستبرق) لتكلم بكلمتين، والكلمة الواحدة أوجز. ثم نقل عن أبى عبيد القاسم بن سلام حكايته القول بالوقوع عن الفقهاء، ثم نقل جمعه بين القولين بأن جعل هذه الكلمات أصولها أعجمية، وهذا به يصدق قول الفقهاء، ولكن العرب عرّبوها فصارت عربية. وإلى هذا الجمع ذهب الجواليقى وابن الجزرى وآخرون أه. (٩)
قلت: ما ذكره السيوطى عن أبى عبيد عقّب عليه ابن فارس فأنكر على أبى عبيد أنه نسب القائلين بوقوع المعرب فى القرآن للجهل، ولكنه وافقه فى الجمع فقال: «فالقول إذن ما قاله أبو عبيد، وإن كان قوم من الأوائل قد ذهبوا إلى غيره». (١٠) والكلام فى هذه المسألة مبسوط فى كتب فقه اللغة وأصول الفقه وفيه مصنفات مفردة كالجواليقى وما ذكره السيوطى فى كتابه. وقد جمعنا لك خلاصته. ثم السيوطى جمع كل ما قيل فيه معرب ورتبها على حروف المعجم، ونحن نكتفى بالمثال الذى أوردناه عن الخويّيّ فى (الإستبرق).
أ. د/ إبراهيم عبد الرحمن خليفة
(٩) الإتقان فى علوم القرآن: (ج ٢ ص ١٢٥ - ص ١٢٩).
(١٠) انظر: الصاحبى، لابن فارس، (ص ٢٩).
 
١ ‏/ ١٣٣
 
غريب القرآن
عرّف السعد التفتازانى فى شرحه «لتلخيص المفتاح» الغرابة بأنها: «كون الكلمة وحشية غير ظاهرة المعنى ولا مأنوسة الاستعمال» ثم قال: «لا يقال الغرابة كما يفهم من كتبهم: الكلمة، غير مشهورة الاستعمال، وهما فى مقابلة المعتادة، وهى بحسب قوم دون قوم. والوحشية، هى المشتملة على تركيب ينفر الطبع منه وهى فى مقابلة العذبة، فالغريب يجوز أن يكون عذبا، فلا يحسن تفسيره بالوحشية، بل الوحشية قيد زائد لفصاحة المفرد، وإن أريد بالوحشية غير ما ذكرنا، فلا نسلم أن الغرابة بذلك المعنى تخل بالفصاحة، لأنا نقول هذا أيضا اصطلاح مذكور فى كتبهم، حيث قالوا:
الوحشى منسوب إلى الوحش الذى يسكن القفار استعيرت للألفاظ التى لم يؤنس استعمالها. والوحشى قسمان: غريب حسن، وغريب قبيح. فالغريب الحسن: هو الذى لا يعاب استعماله على العرب؛ لأنه لم يكن وحشيا عندهم، وذلك مثل: شرنبث واشمخر واقمطر. وهى فى النظم أحسن منها فى النثر، ومنه غريب القرآن والحديث. والغريب القبيح: يعاب استعماله مطلقا، ويسمى الوحشى الغليظ، وهو: أن يكون مع كونه غريب الاستعمال ثقيلا على السمع كريها على الذوق ويسمى المتوعر (١) أيضا» أه.
وقال عبد الحكيم السيالكوتي- ﵀ تعقيبا على قول السعد: «فالغريب الحسن هو الذى لا يعاب استعماله على العرب. اعلم أن الألفاظ على ثلاثة أقسام: منها ما هى مستعملة مطلقا كالأرض والسماء، فلا يعاب استعماله على أحد، ومنها ما هى مستعملة فى العرب العرباء غير مستعملة فى غيرهم، فلا يعاب استعمالها عليهم ويعاب على غيرهم، ومنه غريب القرآن والحديث- ومنها ما هى غير مستعملة مطلقا، فيعاب استعمالها على الكل، فمنه ما هو كريه على الذوق والسمع كجحيش (٢)، ومنه ما هو غير مكروه كتكأكأتم وافرنقعوا» (٣)، وإليه أشار الشارح ﵀ بقوله- فيما سيأتى فى وجه النظر- من أن الجرشى (٤) إما من قبيل تكأكأتم أو جحيش، فعلم مما ذكرنا أن قوله:
والوحشى قسمان ليس المقصود منه الحصر بل مجرد إطلاق الغريب على الوحشى.
(١) ص ١٨ وقوله مثل: شرنبثا واشمخر واقمطر قال عبد الحكيم السيالكوتي فى حاشيته على المطول: أى غليظ الكفين والرجلين، ويراد به الأسد، والنون فيه زائدة بدليل شرابث واشمخر ارتفع واقمطر تفرق واشتد أو وفر واجتمع. ص ٣٠.
(٢) هو كالفريد وزنا ومعنى وهو المتنحى عن الناس، قال أبو حنيفة ابن النعمان اللغوى: الجحيش: الفريد الذى لا يزحمه فى داره مزاحم يقال: نزل جحيشا، كما يقال: نزل حريدا فريدا. انظر: اللسان فى هذه المادة.
(٣) تكأكأتم أى اجتمعتم (وافرنقعوا) أى تفرقوا أو انصرفوا كما فى شرح السعد نفسه.
(٤) الجرشى- هى بكسر الجيم والراء وفتح الشين مع تشديدها بعدها ألف (النفس) كما أفاده السعد نفسه انظر المطول ص ١٩: وانظر:
القاموس واللسان فى هذه المادة.
 
١ ‏/ ١٣٤
 
ثم ذكر أن عدم الغرابة المعتبرة «هى عند العرب العاربة لا عند غيرهم، فلا تعتبر الغرابة عند غيرهم وجودا ولا عدما (٥)»
إذن الغريب قسمان:
(١) قبيح غير مأنوس الاستعمال لدى جمهور العرب العاربة، وهو عيب يخل بالفصاحة، ولذا لا يشتمل القرآن على شىء منه؛ لأنه إن وجد جرّ لنسبة الجهل أو العجز له ﷾ عن ذلك علوا كبيرا، كما يقول السعد فى شرحه «لمختصر التلخيص» (٦) قلت: «أو السفه والعبث؛ لأنه- ﷾ إن لم يعلم بعدم فصاحة الكلمة لزم نسبة الجهل إليه، وإن علم فلم يستطع وضع الفصيح لزم العجز، أو استطاع ولم يضع، لزم العبث بتعريض القرآن لما يسقط حجيته، ونبيه لما يذهب نبوته؛ ولذا لا شىء منه فى كلام الله- ﷾ ولا كلام نبيه ﷺ.»
(٢) حسن مأنوس لدى جمهور العرب الخلّص، وإن غمض على من سواهم بقدر ما يجهلون من مدلول اللغة، أما العرب لا يتصور فى حقهم الجهل بهذا القسم، وإلا صار كالأول وللزمت منه مفسدة فوق ما ذكرنا، وهى التناقض بأن نجعله عند العرب حسنا مأنوس الاستعمال، ونجعله كذلك عندهم قبيحا مهجور الاستعمال، وكذلك يستلزم اختلال القسمة؛ لأن المقسوم ليس أعم من أقسامه، بل القسم الواحد هو عين مقسومة وهو عين القسم الآخر فالغريب ليس أعم من القبيح بل هو عين القبيح، والقبيح هو عين الحسن فليس هناك قسمة.
والذى دفعنا لهذا التفصيل هو غفلة بعض أصحاب الرواية عنه، وهم الذين يشترطون لصحة الحديث خلوه من الشذوذ والعلة، ومع ذلك ينقلون عن جماهير الصحابة أنهم كانوا- وهم العرب الخلص- يجهلون مدلول اللغة، وهذا يستلزم جميع المعانى السابق ذكرها، ودفعهم إلى ذلك حرفيتهم فى اتباع صحة السند ما رواه أبو عبيد القاسم وابن سعد عن أبى بكر الصديق وعمر- رضى الله عنهما- فى عدم معرفة (الأب) فى قوله تعالى:
وَفاكِهَةً وَأَبًّا، وإن كان ابن كثير أعلّ الأثر المروى عن أبى بكر بالانقطاع؛ لعدم إدراك إبراهيم التيمى- الراوى عن أبى بكر- أبا بكر الصديق، ولكنه لعله رفعه لدرجة الحسن بالأثرين الشاهدين له عن عمر ﵁، وتكلف ابن كثير فى تأويل الأثر بأن عمر ﵁ أراد استكشاف علم كيفية الأب، وإلا فكونه نبتا فى الأرض معلوم لقوله تعالى: فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وكان يكفى الحافظ إعلال متن الأثر بما سبق أن ذكرنا من علة متمثلة فى المفاسد السابقة.
(٥) انظر: المصدر نفسه.
(٦) انظر: شروح التلخيص (ص ٨٢) من أعلى.
 
١ ‏/ ١٣٥
 
أسباب أخرى لغرابة هذا القسم الحسن لدى العرب الخلص: قدمنا بأن جهل العرب الخلص بمدلول القسم الحسن من الغريب غير مقصود؛ لذا فهناك أسباب أخرى غير الجهل منها:
(أ) تعنت مشركى قريش وتجاهلهم فى فهم الواضحات تلبيسا على القرآن والنبى ﷺ كسؤالهم عن الرحمن فيما أورده القرآن فى قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُورًا (٧). وقد بيّن أبو حيان فى «تفسيره» أنهم استفهموا عن (الرحمن) وهم عالمون به (٨). وذلك كما صنع فرعون حيث جحد الحقيقة عند ما سأل عن رب العالمين وهو يعلم حقيقة الأمر وحقيقة الإطلاق والاستعمال.
وما استظهره أبو حيان هو عين ما استظهره الآلوسي وهو الحق الذى لا ريب فيه.
فهم يعلمون من الاشتقاق أن هذا الاسم مشتق من صفة الرحمة للدلالة على المبالغة فيها.
(ب) واستهداف المشركين إظهار القرآن فى مظهر السابق المتهافت والعابث اللاهى، ويظهر هذا بوضوح عند تشبيههم على شجرة الزقوم وهم يقولون: النار تأكل الشجر فكيف تنبت فيه شجرة. وقال آخر: ما الزقوم إلا التمر بالزبد وأنا أتزقمه فردّ عليه القرآن بقوله تعالى: أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٩)
وقد ذكر البغوىّ فى تفسير هذه الآيات أن ابن الزبعرى قال لصناديد قريش: إن محمدا يخوفنا بالزقوم؛ فجمعهم أبو جهل فى بيته وقال لجارية: زقمينا، فأتتهم بالزبد والتمر فقال: تزقموا فهذا ما يوعدكم به محمدا فقال تعالى: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (١٠).
وغير ذلك من النماذج من هذا النمط الخبيث، من نحو سخريتهم من عدد التسعة عشر لخزنة النار، على ما جاء فى سورة المدثر، وحمل اليهود استقراض الله خلقه على حقيقته لا على مجازه أو الاستعارة التمثيلية حتى قالوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ، واستشكال نصارى نجران من أخوّة
(٧) سورة الفرقان آية (٦٠).
(٨) البحر المحيط (ج ٦ ص ٥٠٩).
(٩) سورة الصافات آيات (٦٢ - ٦٨).
(١٠) تفسير البغوى المسمى بمعالم التنزيل، بهامش تفسير الخازن المسمى ب (لباب التأويل فى معانى التنزيل) (ج ٦ ص ٢٣) وما بعدها.
 
١ ‏/ ١٣٦
 
مريم لهارون، وهى أخت موسى- ﵉ فكان القرآن يرد بحسم على تشبيهاتهم وسفههم. وكذلك النبىّ ﷺ عند ما ردّ على نصارى نجران بأنهم كانوا يسمون بأنبيائهم وصالحيهم (١١).
(ج) الفهم الخاطئ عن حسن قصد لبعض نصوص التنزيل؛ بسبب النقص فى أدوات الاجتهاد الأخرى، مما يدفع للتسرع والعجل، وقد وقعت نماذج من ذلك من الصحابة رضى الله عنهم، وكأنه- سبحانه- أراد أن ينبه على وجود التزام أقصى غايات الاحتياط وبذل الجهد فى فهم الكتاب العزيز؛ لأن الصحابة الذين شهدوا منازل الوحى يقع منهم مثل هذا، فعلى الجميع أن يتحروا التقوى وبذل أقصى الجهد فى فهم الكتاب، وسنعرض نموذجين فقط من هذه النماذج وهما:
(١) ما وقع فى فهم بعض الصحابة لقوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ، فالمجاز المشهور الذى يكاد يلحق بالحقيقة، أن المقصود بالخيط الأبيض بياض النهار، والخيط الأسود سواد الليل، ثم نزل البيان المانع من حمل معنى الخيطين على الحقيقة، وهو قوله- تعالى-: مِنَ الْفَجْرِ ولكن بعض الصحابة حملوا المعنى على الحقيقة فجاء بخيطين: أبيض وأسود، وربطهما في قدميه، وظل يأكل حتى يتبين كل واحد من الآخر، حتى نزل البيان بقوله: مِنَ الْفَجْرِ هكذا فى رواية البخارى (١٢) التى نقلها الحافظ ابن كثير فى تفسيره، ثم ذكر روايات أخرى فقال:
«وقال الإمام أحمد: حدثنا هشام أخبرنا حصين عن الشعبى أخبرنى عدى بن حاتم قال لما نزلت هذا الآية: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ عمدت إلى عقالين: أحدهما أسود، والآخر أبيض فجعلتهما تحت وسادتى. قال:
فجعلت أنظر إليهما، فلما تبين لى الأبيض من الأسود أمسكت، فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله ﷺ فأخبرته بالذى صنعت فقال:
إن وسادك إذا لعريض، إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل». أخرجاه فى الصحيحين (١٣) من غير وجه عن عدى.
ويعنى قوله: «إن وسادك إذا لعريض أى:
إن كان ليسع الخيطين الأسود والأبيض المراد بهذه الآية تحته، فيقتضى أن يكون بعرض المشرق والمغرب.
وهكذا وقع فى رواية البخارى (١٤) مفسرا بهذا: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو
(١١) أخرجه مسلم (كتاب الآداب- باب النهى عن التكنى بأبى القاسم ...)، والترمذى (كتاب التفسير- باب من سورة مريم) وقال: (حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن إدريس).
(١٢) صحيح البخارى (كتاب التفسير- سورة البقرة باب (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) .. إلخ).
(١٣) انظر نفس المصدر السابق، وصحيح مسلم كتاب الصيام باب بيان أن الدخول فى الصوم يحصل بطلوع الفجر ... إلخ).
(١٤) نفس الموضع من الجامع الصحيح.
 
١ ‏/ ١٣٧
 
عوانة عن حصين عن الشعبى عن عدى قال:
أخذ عدى عقالا أبيض وعقالا أسود حتى إذا كان بعض الليل نظر فلم يستبينا، فلما أصبح قال: يا رسول الله جعلت تحت وسادتى ...
قال: «إن وسادك إذا لعريض، إن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادتك».
وجاء فى بعض الألفاظ «إنك لعريض القفا». ففسره بعضهم بالبلادة. وهو ضعيف، بل إذا صح فإنه يرجع إلى هذا؛ لأنه إذا كان وساده عريضا فقفاه أيضا عريض. والله أعلم.
ويفسره رواية البخارى (١٥) أيضا: حدثنا قتيبة حدثنا جرير عن مطرف عن الشعبى عن عدى بن حاتم قال: قلت يا رسول الله، ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود أهما الخيطان؟ قال «إنك لعريض القفا، إن أبصرت الخيطين، ثم قال لا بل هو سواد الليل وبياض النهار». انتهى المقصود منه (١٦).
(٢) النموذج الثانى: ما وقع من بعض الصحابة فى فهم قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِسابًا يَسِيرًا (١٧) فقد فهمت عائشة- رضى الله عنها- أن المنة والنعمة من الله فى تخفيف الحساب، فوقع عندها تعارض بين معنى الآية وحديث رسول الله ﷺ: «من نوقش الحساب عذّب». فبين لها رسول الله ﷺ وجه الصواب. والقصة كما أخرجها البخارى ومسلم والترمذى وأبو داود من حديث ابن أبى مليكة قال: إن عائشة كانت لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه، وإن النبى ﷺ قال: «من نوقش الحساب عذب». فقالت: أليس يقول الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِسابًا يَسِيرًا (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُورًا، فقال: «إنما ذلك العرض، وليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك». وفى رواية: «وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب». وفى أخرى قال: قال رسول الله ﷺ: «ليس أحد يحاسب إلا هلك». قلت: يا رسول الله، جعلنى الله فداك، أليس الله تعالى يقول: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِسابًا يَسِيرًا قال: «ذلك العرض تعرضون، ومن نوقش الحساب هلك» (١٨) إلى غير ذلك من نماذج هذا اللون الواقعة فى عهده ﷺ وهى أفراد قليلة على أية حال.
(د) أن يقع عام يراد به الخصوص، أو يخصص بما يقع به البيان من كتاب أو سنة فلا يعلم المراد إلا بذلك البيان.
(هـ) أن يقع مطلق فيقع تقييده من بيان القرآن أو السنة فيحتاجون لمعرفة البيان.
(و) أن يقع مجمل يبينه الكتاب أو السنة كذلك فيتوقف فهم المراد على هذا البيان.
(١٥) نفس الموضع.
(١٦) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٢٢١.
(١٧) سورة الانشقاق آية (٧ - ٩).
(١٨) رواه البخارى (١/ ١٧٦) فى كتاب العلم- باب من سمع شيئا فراجع حتى يعرفه ...)، ومسلم فى (الرقاق- باب من نوقش الحساب عذب) (رقم ٢٨٧٦)، وأبو داود (رقم ٣٠٩٣) فى الجنائز (باب عيادة النساء)، والترمذى (رقم ٢٤٢٨)، فى (صفة القيامة- باب من نوقش الحساب عذب) انظر جامع الأصول (ج ١٠ ص ٤٣٢) وما بعدها.
 
١ ‏/ ١٣٨
 
(ز) أن يأتى مبهم من مبهمات القرآن وقع بيانها فى الكتاب أو السنة، كتفسير لفظ:
(خليفة) فى قوله تعالى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فجاء البيان فى القرآن بأنه (آدم) ﵇، وكذلك (العبد الصالح) فى آية الكهف: فَوَجَدا عَبْدًا مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا، فجاء البيان فى السنة فى حديث البخارى الطويل بأنه الخضر ﵇.
(ح) تبادر أن للمنطوق مفهوما ثم يبين صاحب الشريعة أنه لا مفهوم له- كما فى حديث آية قصر الصلاة فى السفر: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فإن قيد إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لا مفهوم له، بيّن لهم ذلك المصطفى ﷺ حين قال:
«صدقة تصدق الله بها عليكم فأقبلوا صدقته» (١٩) وذلك جواب على استفسار بعض الصحابة الذين أشكل عليهم فهم الآية؛ لأن القيد هنا خرج مخرج الغالب؛ لأن غالب أسفارهم كانت مخوفة. وكذلك خرج القيد مخرج الغالب فى قوله تعالى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا وقوله تعالى: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ.
(ط) أن تراد الحقيقة الشرعية (عند القائلين بوقوعها) وهى دون الحقيقة اللغوية فيحتاجون للبيان من الشارع.
فهذه تسعة أسباب لوقوع هذا القسم من الغريب للعرب الخلص من الصحابة، ثم امتنعت خطوات الحديث عن الغريب بعد عصر النبوة، وفى عصر الصحابة ومن بعدهم من التابعين وتابعيهم، وكلما طال الزمان على الناس، احتاجوا إلى البيان وإلى المزيد منه، ثم اتسعت الدولة الإسلامية وظهر المولدون وذهب العرب الخلص، فصار الاحتياج إلى ما كان ظاهرا بينا، حتى سرى إلى كثير من العامة وإلى بعض الخاصة، فصنفت كتب النحو والصرف والبلاغة والمعاجم وفقه اللغة، وأفردت المصنفات فى غريب القرآن، وبيان أن اللفظ لا تتوقف معرفته على معرفة حقيقته؛ لأن حمله على الحقيقة اللغوية قد يسبب مفاسد عظيمة فى فهم النص الشرعى، وأوضح من دلل على فائدة معرفة معانى مفردات غريب القرآن الراغب الأصفهانى فى مقدمة كتابه «المفردات»، فقد بيّن أن أول درجات الوصول لمعانى القرآن فهم مفرداته، بل هى أول درجات إتقان العلوم المختلفة؛ لأن ألفاظ القرآن هى لب كلام العرب، وذكر أنه فى كتابه سيبين الألفاظ القرآنية ويبين مناسبتها لسياقها والاشتقاقات وكذلك الألفاظ المستعارات منها (٢٠).
(١٩) الحديث أخرجه البخارى ومسلم وأصحاب السنن.
(٢٠) مقدمة المفردات: (ص. د، هـ).
 
١ ‏/ ١٣٩
 
وقال السيوطى فى «الإتقان»: «أفرده (يعنى بيان الغريب) بالتصنيف خلائق لا يحصون منهم: أبو عبيدة، وأبو عمر الزاهد، وابن دريد، ومن أشهرها (كتاب العزيزى)؛ فقد أقام فى تأليفه خمس عشرة سنة، يحرره هو وشيخه أبو بكر بن الأنبارى، ومن أحسنها (المفردات) للراغب، ولأبى حيان فى ذلك تأليف مختصر فى كراسين. قال ابن الصلاح: وحيث رأيت فى كتب التفسير:
(قال أهل المعانى)، فالمراد به مصنفو الكتب فى معانى القرآن، كالزجاج، والفراء، والأخفش، وابن الأنبارى». انتهى.
وينبغى الاعتناء به، فقد أخرج البيهقى من حديث أبى هريرة مرفوعا: «أعربوا القرآن، والتمسوا غرائبه»، وأخرج من حديث ابن عمر مرفوعا: «من قرأ القرآن فأعربه كان له بكل حرف عشرون حسنة، ومن قرأه بغير إعراب كان له بكل حرف عشر حسنات».
المراد بإعرابه معرفة معانى ألفاظه، وليس المراد به الإعراب المصطلح عليه عند النحاة، وهو ما يقابل اللحن؛ لأن القراءة مع فقده ليست قراءة، ولا ثواب فيها. وعلى الخائض فى ذلك التثبت، والرجوع إلى كتب أهل الفن وعدم الخوض بالظن (٢١) أه.
وقد قام مجمع اللغة العربية بمصر بتصنيف مصنف نفيس فى هذا الباب باسم (معجم ألفاظ القرآن الكريم) استفاد واضعوه من جميع كتب التفسير.
أ. د/ إبراهيم عبد الرحمن خليفة
(٢١) الإتقان فى علوم القرآن: (ج ٢ ص ٣).
 
١ ‏/ ١٤٠
 
مصادر ومراجع للاستزادة والبحث فى:
(١) الإتقان فى علوم القرآن، للسيوطى.
(٢) البحر المحيط، لأبى حيان، ط ١ دار الفكر، بيروت.
(٣) البرهان فى علوم القرآن، للزركشى.
(٤) التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن على طريق الإتقان، للشيخ ظاهر الجزائرى، تحقيق الأستاذ الدكتور عبد الفتاح أبو غدة، نشر مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب.
(٥) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير.
(٦) جامع الترمذى.
(٧) الجامع الصحيح للبخارى.
(٨) حاشية السيالكوتي على المطول، ج ١، استنبول.
(٩) الرسالة، للإمام الشافعى، تحقيق وشرح الأستاذ أحمد شاكر.
(١٠) روح المعانى، للآلوسى.
(١١) الصاحبى فى فقه اللغة، لابن فارس.
(١٢) صحيح مسلم.
(١٣) مختصر السعد التفتازانى ضمن شروح التلخيص ط/ عيسى الحلبى.
(١٤) المطول فى شرح تلخيص المفتاح له، ج ١ بهمن بقم- نشر مكتبة آية الله العظمى المرعشى النجف بقم- إيران.
(١٥) معالم التنزيل للبغوى بهامش تفسير الخازن المسمى لباب التأويل فى معانى التنزيل ج ١ مصطفى الحلبى.
(١٦) المفردات فى غريب القرآن، للراغب الأصبهانى ط ١ مصطفى الحلبى.
 
١ ‏/ ١٤١
 
منطوق القرآن ومفهومه
المنطوق لغة: اسم مفعول من النطق، فهو كالملفوظ وزنا ومعنى، ففي «القاموس»:
النطق: التكلم بصوت مرتفع وحروف تعرف بها المعانى.
والمفهوم لغة: المعنى المستفاد من اللفظ المنطوق، فهو اسم مفعول من الفهم بمعنى العلم، فالمنطوق: اللفظ، والمفهوم: معناه.
ولأهل أصول الفقه اصطلاحان مشهوران فيهما:
أحدهما لابن الحاجب يخالف فيه الآمدى والجمهور، فيعرف المنطوق بأنه: دلالة اللفظ على معنى فى محل النطق بأن يكون ذلك المعنى حكما للمذكور. ويعرف المفهوم بأنه:
دلالته (أى اللفظ) على معنى لا محل النطق بأن يكون ذلك المعنى حكما لغير المذكور.
فالمنطوق والمفهوم عنده قسمان للدلالة اللفظية.
وثانيهما للآمدى والجمهور فيعرفون المنطوق بأنه: ما (أى معنى) دل عليه اللفظ فى محل النطق. والمفهوم بأنه: ما دل عليه اللفظ لا فى محل النطق.
وبهذا هم يجعلونهما من أقسام المدلول لا للدلالة. والفرق بين الدلالة والمدلول: أن الدلالة كون اللفظ. بحيث يفهم منه المعنى، أما المدلول فهو نفس معنى اللفظ. ولا شك أن الجمهور لا يقصر المنطوق على الحكم بل يعديه ليشمل الذوات. وكذلك يشمل عندهم:
(النص):
وهو ما لا يحتمل إلا وجها واحدا من التأويل.
و(الظاهر): ما يحتمل وجهين وأريد الراجح منهما لتبادره للفهم بنفسه.
و(المؤول): وهو ما احتمل وجهين وحمل على المرجوح منهما لدليل استوجب صرفه عن الراجح إليه. وبهذا يتضح أن المنطوق عندهم يكون حقيقة كما فى النص والظاهر يكون مجازا كما فى المؤول.
ولقد حرر هذه المسألة تحريرا بديعا العلامة الشربينى فى تقريره على «حاشية البنانى على شرح الجلال المحلى لجمع الجوامع» عند تعريف ابن السبكى للمنطوق بأنه ما دل عليه اللفظ فى محل النطق.
 
١ ‏/ ١٤٢
 
فقال: «اعلم أن ابن الحاجب جعل المنطوق والمفهوم أقساما للدلالة قال: المنطوق: دلالة اللفظ على معنى فى محل النطق، بأن يكون ذلك المعنى حكما للمذكور. والمفهوم: ودلالته على معنى لا فى محل النطق بأن يكون ذلك المعنى حكما لغير المذكور.
ثم قسم المنطوق- وهو تلك الدلالة- إلى صريح، وغير صريح، فالصريح: دلالة اللفظ بالمطابقة أو التضمن.
وغير الصريح دلالته على ما لم يوضع له بل يدل عليه بالالتزام وهو دلالة الاقتضاء والإيماء والإشارة. فدلالة فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ على تحريم التأفيف منطوق صريح، وعلى تحريم الضرب مفهوم ودلالة، «تمكث إحداهن شطر دهرها لا تصلى». على أن أكثر الحيض وأقل الطهر خمسة عشر يوما منطوقا غير صريح، وعلى هذا فالمنطوق خاص بالحكم دون الذوات.
وقال الآمدى بعد ذكر الاقتضاء وغيره من هذه الأنواع التى جعلها ابن الحاجب أقساما لغير الصريح قبل ذكر المنطوق والمفهوم: أما المنطوق، فقد قال بعضهم: هو ما فهم من اللفظ فى محل النطق وليس بصحيح، فإن الأحكام المضمرة فى دلالة الاقتضاء- كما ذكرناه- مفهومه من اللفظ فى محل النطق، ولا يقال لشىء من ذلك منطوق اللفظ، فالواجب أن يقال: المنطوق: ما فهم من دلالة اللفظ نطقا فى محل النطق. انتهى.
قال العلامة التفتازانى: «جعل المنطوق والمفهوم من أقسام الدلالة يحوج إلى تكلف عظيم فى تصحيح عبارات القوم، لكونها صريحة فى كونها من أقسام المدلول- كما فى كلام الآمدى- فالمصنف- ﵀ تابع القوم فى ذلك لعدم التكلف مع قصور عبارة ابن الحاجب عن تناول مدلول نحو: زيد، مما هو ذات لا حكم مع تصريح إمام الحرمين وغيره بأن النص والظاهر من أقسام المنطوق، ولا خفاء فى أن نحو: زيد والأسد، من جملة النص والظاهر (١)، إلا أنه أبدل ما فهم من اللفظ بما يدل عليه إشارة للرد على ابن الحاجب بأن المنطوق مدلول لا دلالة، وإشارة إلى اندفاع اعتراض الآمدى، فإن ما دل عليه اللفظ فى محل النطق معناه أن الدلالة على ذلك المدلول ثابتة فى اللفظ الذى هو محل النطق أى: المنطوق به، بمعنى أنها ناشئة من وضعه لا من خارج، بخلاف دلالة الاقتضاء والإشارة فإنها ليست ناشئة من وضع اللفظ بل من توقف صحة
المنطوق على المقتضى (٢)، أو لزوم المعنى للمدلول (٣).
وهذا المعنى لا يفيده قولهم: ما فهم من اللفظ فى محل النطق. فإن الفهم منه قد
(١) (زيد) نص لأنه علم شخص لا يحتمل غير مسماه، و(أسد)، ظاهر لأنه يحتمل وجهين: الحيوان المفترس المعروف، والرجل الشجاع، وأول الوجهين راجح يجب الحمل عليه عند التجرد من القرينة لتبادره بنفسه- وثانيهما مرجوح لا يصح الحمل عليه إلا عند القرينة الصارفة عن الراجح إلى المرجوح وبحيث يصير فيه لفظ الأسد مؤولا.
(٢) هذه هى دلالة الاقتضاء قال الجلال المحلى فى شرحها من «جمع الجوامع» (ثم المنطوق إن توقف الصدق فيه أو الصحة له عقلا أو شرعا على إضمار أى تقدير فيما دل عليه (فدلالة اقتضاء) أى: فدلالة اللفظ الدال على المنطوق على ذلك المضمر المقصود تسمى دلالة اقتضاء. والأول كما فى مسند أخى عاصم الآتى فى مبحث المجمل «رفع عن أمتى الخطأ والنسيان» أى: المؤاخذة بهما لتوقف صدقه على ذلك لوقوعهما. والثانى كما فى قوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ أى: أهلها، إذ القرية وهى الأبنية المجتمعة لا يصح سؤالها عقلا، والثالث كما فى قولك لمالك عبد: أعتق عبدك عنى. ففعل فإنه يصح عنك أى ملكه لى فأعتقه عنى لتوقف صحة العتق شرعا على المالك). أهـ. وقوله كما فى مسند أخى عاصم يريد به الحافظ أبا القاسم التميمى كما فى حاشية البنانى عليه. انظر ج ١ ص ٢٣٩.
(٣) وهذه هى دلالة الإشارة قال المحلى فى شرحها (وإن لم يتوقف) أى الصدق فى المنطوق ولا الصحة على إضمار (ودل) اللفظ المفيد له (على ما لم يقصد) به (فدلالة إشارة) أى فدلالة اللفظ على ذلك المعنى الذى لم يقصد به تسمى دلالة إشارة كدلالة قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ على صحة صوم من أصبح جنبا للزومه للمقصود به من جواز جماعهن فى الليل الصادق بآخر جزء منه). أ، هـ. المصدر نفسه ص ٢٣٩ فما بعدها من أعلى.
 
١ ‏/ ١٤٣
 
يكون بواسطة اللزوم العقلى أو الشرعى، ثم إن هذا المنطوق بالمعنى الذى أراده المصنف لا يكون إلا صريحا، وأما المدلول اقتضاء أو إشارة فليس من المنطوق عند أحد، أما ابن الحاجب فإن المنطوق عنده: الدلالة لا المدلول. وأما المصنف والقوم فليس من المنطوق عندهم. لأن الدلالة عليه ليست فى محل النطق، وإنما هو عند المصنف من توابع المنطوق، فالمدلولات عنده ثلاثة: منطوق، وتوابعه، ومفهوم. وقد صرح بتثليث الأقسام الآمدى وبعض شروح المنهاج، فإن قلت: ما الفرق بين المفهوم وتوابع المنطوق؟ قلت:
المفهوم يقصد التنبيه بالمنطوق عليه إما تنبيها بالأعلى على الأدنى وبالعكس، أو التنبيه بالشىء على ما يساويه، وكل ذلك للمناسبة بينهما، بخلاف توابع المنطوق كما يعرفه الذكى المحقق، ثم إن المصنف ترك من توابع المنطوق دلالة الإيماء، وسيأتى بيان وجهه إن شاء الله تعالى إلى المقصود منه» (٤). أه.
ثم وفى هذا العلامة- ﵀ بما وعد به من حديث دلالة الإيماء فقال: «واعلم أن المصنف- ﵀ ترك دلالة الإيماء وهى: أن يقترن المنطوق بحكم أى وصف لو لم يكن ذلك الوصف لتعليل ذلك المنطوق لكان اقترانه به بعيدا؛ فيفهم منه التعليل ويدل عليه، وإن لم يصرح به، ويسمى تنبيها وإيماء مثل اقتران الأمر بالإعتاق وبالوقاع الذى لو لم يكن هو علة لوجوب الإعتاق لكان بعيدا.
لأن هذا إنما يفهم من سياق الكلام لا من اللفظ. وأيضا سيأتى مفصلا فى باب القياس (٥)». أه.
ومن يطالع النص السابق وما قبله يظهر له أن المنطوق قد يكون فى المفردات كما فى النص والظاهر والمؤول أيضا، وكذلك يكون فى المركبات إذا كان المدلول حكما؛ لأن الحكم لا يتصور إلا فى المركبات.
وهناك تقسيم آخر ذكر للمنطوق وهو: أن اللفظ إما أن يدل على تمام المعنى الذى وضع له، وتسمى هذه الدلالة دلالة مطابقة، وإما أن يدل على جزء معناه الذى وضع له، وتسمى هذه الدلالة دلالة تضمن، وإما يدل على لازم معناه الذى وضع له، وتسمى هذه الدلالة دلالة التزام.
أما المفهوم- كما سبق- له اصطلاحان:
فهو عند ابن الحاجب من قبيل الدلالة، وعند الجمهور من قبيل المدلول، ولكن هناك أمور مهمة ننبه عليها:
أولا: المفهوم يطلق على الحكم تارة، وعلى محل الحكم أخرى، وعلى الحكم ومحله معا ثالثة، مثل (تحريم الضرب)، فالتحريم الحكم، والضرب محله، والمفهوم جمع بينهما
(٤) المصدر نفسه ص ٢٣٧ بالهامش.
(٥) المصدر نفسه (ص ٢٤٠).
 
١ ‏/ ١٤٤
 
فصار (تحريم الضرب)، ولكن المنطوق يطلق على الحكم أو محله فقط.
ثانيا: المفهوم ينقسم إلى قسمين: مفهوم موافقة، ومفهوم مخالفة. فالأول: ما وافق حكمه حكم المنطوق، والثانى: ما خالف حكمه حكم المنطوق. والحكم فى الموافقة قد يكون أولى من حكم المنطوق وهذا يسمى فحوى الخطاب؛ لأنه كالريح تجده بمجرد سماع الخطاب، وقد يكون مساويا لحكم المنطوق ويسمى لحن الخطاب، فتحريم ضرب الوالدين أولى من تحريم التأفيف لما يشتمل عليه من شدة الإيذاء، وحرق مال اليتيم مساو لأكل ماله؛ لأنهما يتساويان فى إضاعة ماله وإتلافه. وهناك من قسم المفهوم إلى ثلاثة أقسام: الموافقة وقصرها على الأولى، والمساوى، والمخالفة. ولكننا نرد هذا التقسيم لأمرين:
(أ) أنه سلب اسم الموافقة: عن المساوى، وهذا لا يصح؛ لأن المساوى موافق.
(ب) أن من أخرج المساوى من الموافقة احتج كما يحتج بالموافقة فلا معنى لإخراجه- ومن ثم فمفهوم الموافقة يشتمل على الأولى والمساوى- وليس فى هذا المفهوم الأدون.
والحكم الثابت بالمفهوم كالثابت بالمنطوق، فإذا كان حكم المنطوق قطعيا لاستناده لنظم اللغة فكذلك المفهوم، فالحكم الثابت بالمفهوم فوق الثابت بالقياس؛ لأن الثابت بالقياس يدرك بالرأى والاجتهاد، والمفهوم يدرك باللغة الموضوعة لإفادة المعنى. كذا فى «التوضيح والتلويح». ومن ذهب إلى أن دلالة المنطوق قد تكون قطعية ودلالة المفهوم ظنية إنما أخطئوا فى ضرب الأمثلة؛ لأنها أمثلة كلها لأحكام تدرك بالقياس.
ثالثا: اتفق الكل على حجية مفهوم الموافقة، ولكنهم اختلفوا بعد ذلك فى مواطن منها: طريق الدلالة هل القياس الجلى أم الدلالة اللفظية؟، وإذا كانت الدلالة اللفظية فهل بالمنطوق والمفهوم فى الحقيقة أم بالمفهوم؟ وفى «تحرير الجلال المحلى» لتلك المواطن ينقل عن الشافعى وإمام الحرمين والرازى. إن دلالة الموافقة قياسية سواء كان الأولى أو المساوى الجلى، وتكون العلة فى تحريم الضرب الإيذاء، وفى حرق مال اليتيم الإتلاف، وإن كان الشافعى وإمام الحرمين لم يجعلا المساوى من الموافقة، والرازى لم يصرح، ويرى الغزالى والآمدى أنها دلالة لفظية تفهم بالسياق والقرائن لا مجرد اللفظ، ففي تحريم الضرب فهم تعظيمها واحترامها فحرم الضرب والتأفيف، وكذلك حرق مال اليتيم فالمراد حفظه؛ ولذا منع الحرق والأكل، وعليه تكون دلالة مجازية
 
١ ‏/ ١٤٥
 
لإطلاق الأخص على الأعم، كإطلاق منع التأفيف على منع الإيذاء، وقيل: بل نقل اللفظ لهما عرفا فصار حرق مال اليتيم عرفا يطلق على إضاعته، وعلى القولين هما من المنطوق. وكثير من العلماء- منهم الحنفية- على أن الموافقة مفهوم لا منطوق ولا قياسي، ومنهم من تردد فيجعله تارة مفهوما وأخرى قياسيا كالبيضاوى، ورأى الصفى الهندى عدم التناقض فكلاهما مسكوت عنه. ورأى ابن السبكى أنهما مختلفان فالمفهوم مدلول اللفظ، والمقيس غير مدلول له.
وبعد نقل تحرير الجلال المحلى أرى أن الصواب: أنها دلالة لفظية بطريق المفهوم؛ لأن من يقول: إنها دلالة قياسية يجعل هناك مفهوما أدون، وسبق ذكر منع ذلك، وكذلك لو كانت دلالة قياسية لمنعها من يمنع الاحتجاج بالقياس، ولكنهم احتجوا بها؛ ولأن من قال بأنها دلالة لفظية بطريق المنطوق فإن هذا يحوجه إلى ارتكاب المجاز أو النقل، والأصل عدمهما إلا بموجب ولا موجب لهما.
رابعا: شرط مفهوم المخالفة: شرط العمل بمفهوم المخالفة أن يكون القيد فى اللفظ متعينا للاحتراز عما يناقضه، أى: جاء لإخراج ما عداه، ولا تكون فائدة غير هذا، فلو كانت له فائدة غيره قدمناها؛ لأن هذه الفائدة ستكون ظاهرة ومفهوم المخالفة خفية.
فمن ذلك لو كان القيد لبيان الغالب كما فى قوله تعالى: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ فقوله تعالى: فِي حُجُورِكُمْ لا يعنى أن الربيبة التى ليست فى الحجر جائز نكاحها، الغالب أن الربيبة تكون فى الحجر. وكذلك قوله تعالى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا فالبغاء حرام سواء مع الإكراه أو مع عدمه، وسواء مع إرادتهن أو مع عدمها، فإنما جاء قيد الإكراه ليصف الواقع الذى كانوا عليه فحسب، وهذا يعنى أن البغاء مع عدم الإكراه أيضا حرام؛ لأن القيد ليس للإخراج. وكذلك قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فقوله تعالى: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ليس معناه أن موالاة الكافرين مع المؤمنين جائزة، بل موالاة الكافرين على كل حال حرام.
فكل هذه القيود قصد بها فوائد أخرى غير إخراج ما سوى المنطوق؛ ولذا فهى لا مفهوم لها أى: ليست لها مفهوم مخالفة، لفقد شرط الاحتجاج به وهو تعين القيد فى إخراج سوى المنطوق، ومن ثم فالاسم المجرد من القيد والمسمى (اللقب) لا مفهوم له؛ لأنه لا قيد له، وهذا هو الصحيح عند العلماء.
خامسا: الصحيح أن طريق الدلالة فى
 
١ ‏/ ١٤٦
 
مفاهيم المخالفة هى اللغة، قال المحلى: (يقول كثير من أئمة اللغة بها منهم أبو عبيدة وعبيد تلميذه قالا فى حديث «الصحيحين» مثلا:
«مطل الغنى ظلم» أنه يدل على أن مطل غير الغنى ليس بظلم، وهم إنما يقولون فى مثل ذلك ما يعرفونه من لسان العرب) أهـ. وأنه لذلك حجة لدى الجمهور، وخالف فى ذلك الحنفية وهم محجوجون بما سبق من حتمية أن تكون للقيد فائدة.
وبعد- فقبل أن ننفض أيدينا من هذا البحث، نرى أن نطلع القارئ الكريم على ما كتبه فيه أهل علوم القرآن، مجتزئين فى ذلك بقول السيوطى، ففيه- فوق التلخيص لمعظم ما سبق مما نقلناه من كلام أهل الأصول- فوائد أخرى تضاف إليه، قال ﵀:
المنطوق: ما دل عليه اللفظ فى محل النطق، فإن أفاد معنى لا يحتمل غيره فالنص، نحو:
فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ (٦)، وقد نقل عن قوم من المتكلمين أنهم قالوا بندور النص جدا فى الكتاب والسنة. وقد بالغ إمام الحرمين (٧) وغيره فى الرد عليهم، قال: لأن الغرض من النص الاستقلال بإفادة المعنى على قطع، مع انحسام جهات التأويل والاحتمال؛ وهذا وإن عز حصوله بوضع الصيغ رد إلى اللغة، فما أكثره مع القرائن الحالية والمقالية؛ انتهى. أو مع احتمال غيره احتمالا مرجوحا، فالظاهر نحو: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ (٨)، فإن الباغى يطلق على الجاهل وعلى الظالم، وهو فيه أظهر وأغلب، ونحو: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ (٩)، فإنه يقال للانقطاع: طهر، وللوضوء والغسل، وهو فى الثانى أظهر، فإن حمل على المرجوح لدليل فهو تأويل، ويسمى المرجوح المحمول عليه مؤولا، كقوله: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ (١٠)؛ فإنه يستحيل حمل المعية على القرب بالذات، فتعين صرفه عن ذلك وحمله على القدرة والعلم، أو على الحفظ والرعاية، وكقوله: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ (١١) فإنه يستحيل حمله على الظاهر، لاستحالة أن يكون للإنسان أجنحة، فيحمل على الخضوع وحسن الخلق. وقد يكون مشتركا بين حقيقتين، أو حقيقة ومجاز، ويصلح حمله عليهما جميعا، سواء قلنا بجواز استعمال اللفظ فى معنييه أو لا. ووجهه على هذا أن يكون اللفظ قد خوطب به مرتين: مرة أريد هذا، ومرة أريد هذا. ومن أمثلته: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ (١٢)؛ فإنه يحتمل: لا يضار الكاتب والشهيد صاحب الحق بجور فى الكتابة والشهادة «ولا يضارّ» بالفتح، أى: لا يضرهما صاحب الحق بإلزامهما ما لا يلزمهما، وإجبارهما على الكتابة والشهادة.
(٦) البقرة: ١٩٦.
(٧) هو أبو المعالى عبد الله بن أبى عبد الله بن يوسف الجوينى، شيخ الغزالى، وأعلم المتأخرين من أصحاب الشافعى. توفى سنة ٤٧٨ هـ. ابن خلكان ١/ ٢٨٧.
(٨) البقرة: ١٧٣.
(٩) البقرة: ٢٢٢.
(١٠) الحديد: ٤.
(١١) الإسراء: ٢٤.
(١٢) البقرة: ٢٨٢.
 
١ ‏/ ١٤٧
 
ثم إن توقفت صحة دلالة اللفظ على إضمار سميت دلالة اقتضاء، نحو: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ (١٣)، أى: أهلها، وإن لم تتوقف ودل اللفظ على ما لم يقصد به سميت دلالة إشارة كدلالة قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ (١٤) على صحة صوم من أصبح جنبا، إذ إباحة الجماع إلى طلوع الفجر تستلزم كونه جنبا فى جزء من النهار. وقد حكى هذا الاستنباط عن محمد ابن كعب القرظى.
والمفهوم: ما دل عليه اللفظ، لا فى محل النطق وهو قسمان: مفهوم موافقة، ومفهوم مخالفة:
فالأول: ما يوافق حكمه المنطوق؛ فإن كان أولى سمى فحوى الخطاب كدلالة: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ (١٥) على تحريم الضرب؛ لأنه أشد وإن كان مساويا سمى لحن الخطاب، أى معناه، كدلالة: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْمًا (١٦) على تحريم الإحراق؛ لأنه مساو للأكل فى الإتلاف. واختلف: هل دلالة ذلك قياسية أو لفظية مجازية أو حقيقية؟
على أقوال بيناها فى كتبنا الأصولية.
والثانى: ما يخالف حكمه المنطوق، وهو أنواع: مفهوم صفة، نعتا كان أو حالا أو ظرفا أو عددا، نحو: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا (١٧)، مفهومه أن غير الفاسق لا يجب التبين فى خبره؛ فيجب قبول خبر الواحد العدل. وحال نحو: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ (١٨)، الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ (١٩) أى فلا يصح الإحرام به فى غيرها: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ (٢٠) أى فالذكر عند غيره ليس محصلا للمطلوب، فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً (٢١) أى: لا أقل ولا أكثر. وشرط نحو:
وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ (٢٢) أى فغير أولات الحمل لا يجب الإنفاق عليهن. وغاية نحو: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ (٢٣) أى: فإذا نكحته تحل للأول بشرطه. وحصر نحو: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ (٢٤). إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ (٢٥)؛ أى: فغيره ليس بإله، فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ (٢٦)، أى: فغيره ليس بولى، لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (٢٧)، أى: لا إلى غيره، إِيَّاكَ نَعْبُدُ (٢٨) أى: لا غيرك.
واختلف فى الاحتجاج بهذه المفاهيم على أقوال كثيرة، والأصح فى الجملة أنها كلها حجة بشروط:
منها: ألا يكون المذكور (خرج للغالب) ومن ثم لم يعتبر الأكثرون مفهوم قوله: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ (٢٩)؛ فإن الغالب كون
(١٣) يوسف: ٨٢.
(١٤) البقرة: ١٨٧.
(١٥) الإسراء: ٢٣.
(١٦) النساء: ١٠.
(١٧) الحجرات: ٦.
(١٨) البقرة: ١٨٧.
(١٩) البقرة: ١٩٨.
(٢٠) البقرة: ١٩٧.
(٢١) النور: ٤.
(٢٢) الطلاق: ٦.
(٢٣) البقرة: ٢٣٠.
(٢٤) الصافات: ٣٥.
(٢٥) طه: ٩٨.
(٢٦) الشورى: ٩.
(٢٧) آل عمران: ١٥٨.
(٢٨) الفاتحة: ٥.
(٢٩) النساء: ٢٣.
 
١ ‏/ ١٤٨
 
الربائب فى حجور الأزواج فلا مفهوم له؛ لأنه إنما خص بالذكر لغلبة حضوره فى الذهن.
وألا يكون موافقا للواقع، ومن ثم لا مفهوم لقوله: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ (٣٠) وقوله: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ (٣١) وقوله: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا (٣٢).
والاطلاع على ذلك من فوائد معرفة أسباب النزول.
(فائدة). قال بعضهم: الألفاظ إما أن تدل بمنطوقها أو بفحواها ومفهومها أو باقتضائها وضرورتها، أو بمعقولها المستنبط منها. حكاه ابن الحصار، وقال: هذا الكلام حسن. قلت:
فالأول دلالة المنطوق، والثانى دلالة المفهوم، والثالث دلالة الاقتضاء، والرابع دلالة الإشارة. (٣٣) أ. هـ. والله أعلم.
أ. د/ إبراهيم عبد الرحمن خليفة
(٣٠) المؤمنون: ١١٧.
(٣١) آل عمران: ٢٨.
(٣٢) النور: ٢٣.
(٣٣) ج ٣ من ص ١٠٤ إلى ص ١٠٨.
 
١ ‏/ ١٤٩
 
عام القرآن وخاصه

العامّ والخاصّ: اسم فاعل من العموم والخصوص ولا خلاف فى كونهما من عوارض الألفاظ، ولكن الخلاف فى كونهما من عوارض المعنى، وتحقيق العلامة الشربينى يجعل الخلاف بين الفريقين خلافا لفظيا أو يكاد، وذلك بأنّ العموم يقصد به التناول تارة، وبهذا يكون من عوارض الألفاظ فقط، وتارة يقع بمعنى الشمول، فيتصف به اللفظ والمعنى. فمن قال: العموم ليس من عوارض المعانى صحّ، إذا كان العموم بمعنى التناول أى: إفادة اللفظ للشيء، ومن قال: العموم من عوارضها صحّ، إذا كان بمعنى الشمول.
وحيث كان الخصوص قسيما للعموم، فما قيل فى العموم يقال فى الخصوص، بمعنى أن الخصوص يكون من عوارض الألفاظ فقط عند ما يكون معنى الخصوص التناول، ويكون من عوارض المعانى أيضا الجزئية مقابل الكلية. ولمّا كان هناك اتفاق بين العلماء على أن العموم والخصوص من عوارض الألفاظ اتجهوا فى تعريفاتهم للعام والخاص إلى هذا الاتجاه، فعرّف ابن السبكى العام بأنه: (لفظ يستغرق الصالح له بغير حصر) فقولهم (لفظ) أخرج الألفاظ المتعددة الدالة على معان متعددة بتعددها. وقولهم:
(يستغرق) أى يتناول جميع أفراده دفعة واحدة، فهو قيد أول أخرج ما لا يستغرق كالنكرة فى سياق الإثبات واسم العدد؛ لأنه يتناول أفراده بالبدلية لا الاستغراق. وقولهم:
(الصالح له) قيد لبيان الماهية؛ لأنه ليس هناك لفظ يستغرق غير الصالح له ليحترز عنه. وقولهم (من غير حصر) قيد ثان يخرج اسم العدد؛ لأنه يتناول بحصر كعشرة ومائة، والنكرة المثناة فى الإثبات وكذلك المجموعة.
فكل ما خرج بالقيدين فهو من الخاص بحيث يمكن صياغة تعريف الخاص بأنه: (اللفظ الذى لا يستغرق ما يصلح له أو يستغرقه مع الحصر)، وبه يفهم معنى قولهم التخصيص هو «قصر العام على بعض أفراده».
وقد تكلم الأصوليون كلاما طويلا فى هذا الباب؛ ولذا سنهتم بما يناسب بحثنا فى علوم القرآن، وسنعتمد على ما قدمه السيوطى فى كتابه «الإتقان» مع التعليق على ما يستحق ذلك.
 
١ ‏/ ١٥٠
 
فبدأ الإمام السيوطى بذكر تعريف العام الذى ذكرنا من كلام ابن السبكى- دون شرح له، ثم ثنى ببيان صيغه، من غير خوض فى خلاف أن للعام صيغا موضوعة أو لا، وخوض فى العديد من تلك الصيغ أهي للعموم أم للخصوص؟ فذكر منها «كل» مبتدأة نحو كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (١)، أو تابعة، نحو:
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٢) أ. هـ.
وترك- ﵀ من استعمالات (كل):
الظرفية الموصولة ب (ما) الزائدة المستعملة فى الجملة الشرطية كقوله تعالى: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ (٣). كما ترك ما هو بمعنى «كل» كأجمع وجميع وكافة وعامة، وطرا، وقاطبة، وبأسر، ونحو ذلك. وقد استعمل من ذلك فى القرآن أجمع تابعا «لكل» كما مثل هو «لكل» التابعة. ومنفردا كقوله تعالى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ
(٤)، وجميع: كقوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا (٥)، وكافة: كقوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا (٦). ثم ذكر من صيغه (الذى والتى وتثنيتهما وجمعهما) أى: ما لم يقم عهد بقرينة، وإن لم ينبه الشيخ على ذلك، فإن قامت قرينة على العهد فهى للخصوص.
فمثال العام: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما (٧) فإن المراد به كل من صدر منه هذا القول، بدليل قوله بعد: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ (٨)، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ (٩)، وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ (١٠) الآية، وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا (١١) الآية وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما. (١٢) ومثال ما جاء من ذلك خاصا لقيام قرينة العهد، ولم يعرض له السيوطى هنا قوله تعالى: وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (١٣) وقوله: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا (١٤) الآية، وقوله: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا (١٥) الآية، نزلت فيمن كان من المنافقين مع النبى ﷺ فى غزوة بنى المصطلق كما هو معلوم فى محله من كتب التفسير وأسباب النزول.
ثم واصل حديثه فى ذكر الصيغ فذكر منها (أى، وما، ومن شرطا واستفهاما وموصولا) نحو: أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ
(١) الرحمن: ٢٦.
(٢) الحجر: ٣٠.
(٣) البقرة: ٢٠.
(٤) الحجر: ٤٣.
(٥) الأعراف: ١٥٨.
(٦) سبأ: ٢٨.
(٧) الأحقاف: ١٧.
(٨) الأحقاف: ١٨.
(٩) البقرة: ٨٢.
(١٠) الطلاق: ٤.
(١١) النساء: ١٥.
(١٢) النساء: ١٦.
(١٣) الحجر: ٦.
(١٤) الأنبياء: ٩١.
(١٥) المنافقون: ٧.
 
١ ‏/ ١٥١
 
الْحُسْنى (١٦) فهذا مثال الشرط فى أى، وعليه اقتصر السيوطى فيها، ومثال الاستفهام قوله تعالى فيما قص عن سليمان ﵇: أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ. (١٧) ومثال الموصولة، قوله تعالى: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (١٨) ومثال الشرط فى (ما) قوله تعالى: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ (١٩) ومثال الاستفهام فيها قول امرأة العزيز فيما قص الله عنها: ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٠) فإن السؤال بها يعم أنواع الجزاء كلها، بدليل الاستثناء المتصل الذى هو معيار العموم كما يقولون، ومثال الموصولة، وعليه اقتصر السيوطى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ. (٢١) ومثال الشرطية فى (من) قوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ (٢٢) - وعليه اقتصر السيوطى، ومثال الاستفهامية فيها قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ. (٢٣) ومثال الموصولة فيها قوله تعالى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ. (٢٤)
ثم ذكر من الصيغ (الجمع المضاف) نحو يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ (٢٥)، و(المعرف بأل) نحو قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (٢٦) فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ (٢٧) أى: ومثل الجمع اسمه (أى اسم الجمع) كالقوم، واسم الجنس الجمعى كالشجر، واسم الجنس المضاف، نحو:
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ (٢٨) أى:
كل أمر الله. و(المعرف بأل) نحو: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ (٢٩) أى كل بيع، إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ أى كل إنسان بدليل: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا. (٣٠) والنكرة فى سياق النفى والنهى نحو: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدادًا (٣١)، فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا (٣٢) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ (٣٣)، ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ (٣٤)، فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ. (٣٥) وفى سياق الشرط نحو:
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ، (٣٦) وفى الامتنان نحو: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُورًا (٣٧) وكالفعل فى سياق النفى والنهى كقوله تعالى:
وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها (٣٨) وقوله: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ، (٣٩) واسم الفعل فى سياق النهى كقوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ. (٤٠)
(١٦) الإسراء: ١١٠.
(١٧) النمل: ٣٨.
(١٨) مريم: ٦٩ - العتى: الطغيان ومجاوزة الحد فى العدوان.
(١٩) البقرة: ١٩٧.
(٢٠) يوسف: ٢٥.
(٢١) الأنبياء: ٩٨.
(٢٢) النساء: ١٢٣.
(٢٣) البقرة: ٢٥٥.
(٢٤) الأنبياء: ١٩.
(٢٥) النساء: ١١.
(٢٦) المؤمنون: ١.
(٢٧) التوبة: ٥.
(٢٨) النور: ٦٣.
(٢٩) البقرة: ٢٧٥.
(٣٠) العصر: ٢، ٣.
(٣١) البقرة: ٢٢.
(٣٢) النساء: ٢٠. وهذا خير من تمثيل السيوطى بقوله تعالى فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ لما سيأتى.
(٣٣) الحجر: ٢١.
(٣٤) البقرة: ٢.
(٣٥) البقرة: ١٩٧.
(٣٦) التوبة: ٦.
(٣٧) الفرقان: ٤٨.
(٣٨) الأعراف: ٥٦.
(٣٩) مريم: ٦٤.
(٤٠) الإسراء: ٢٣.
 
١ ‏/ ١٥٢
 
وترك السيوطى- ﵀ من صيغ العام المستعملة فى القرآن.
(أ) (مهما) وهى كلفظة (ما) لغير العاقل، ولا تستعمل إلا شرطية كقوله تعالى: وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٤١).
(ب) (كيف) لعموم الأحوال استفهاما، وشرطا، ولم يأت فى القرآن، ومتجردة عنهما. فمثالها استفهاما قوله تعالى وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ (٤٢)، ومثالها متجردة قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ (٤٣).
(ج) (أين) لعموم المكان شرطا واستفهاما ومجردة منهما، فمثالها شرطا قوله تعالى:
أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ، (٤٤) ومثالها استفهاما: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ، (٤٥) ومثالها مجردة منهما: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ (٤٦).
(د) (أنى) لعموم الأحوال تارة ككيف، ولعموم الأماكن كمن أين، وتأتى شرطا ولم يقع فى القرآن. واستفهاما بالمعنيين الآنفين، ومجردة منها بهذين المعنيين. فمثالها استفهاما بمعنى كيف: قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ (٤٧) الآية، ومثالها استفهاما بمعنى من أين: قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (٤٨)، ومثالها مجردة منهما: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ (٤٩)، وهى محتملة للمعنيين.
(هـ) (حين) كأين فى عموم المكان، مجرورة بمن، أو ظرفا موصولة بما، أو بدونها، وقد تكون على ظرفيتها شرطية إن وصلت بما، ومثالها قوله تعالى: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (٥٠).
(و) (متى) لعموم الزمان ماضيا فى الاستفهام ومستقبلا فيه وفى الشرط، ولم تستعمل فى القرآن إلا مستقبلة فى الاستفهام كقوله تعالى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٥١).
(ز) (أيان) لعموم الزمان المستقبل شرطا واستفهاما، ولم تستعمل فى القرآن إلا استفهاما كقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٥٢).
(٤١) الأعراف: ١٣٢.
(٤٢) آل عمران: ١٠١.
(٤٣) آل عمران: ٦.
(٤٤) النساء: ٧٨.
(٤٥) التكوير: ٢٦.
(٤٦) الحديد: ٤.
(٤٧) البقرة: ٢٤٧.
(٤٨) آل عمران: ٣٧.
(٤٩) البقرة: ٢٢٣.
(٥٠) البقرة: ١٥٠.
(٥١) يونس: ٤٨.
(٥٢) الأعراف: ١٨٧.
 
١ ‏/ ١٥٣
 
(ح) (كم) لعموم العدد استفهاما، وفى الكثرة غير المحصورة خبرية، فمن الأول قوله تعالى: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ (٥٣)، ومن الثانى قوله تعالى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها. (٥٤) والأمران محتملان فى نحو قوله سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٥٥).
(ط) (كأين) وهى ككم الخبرية فى نحو قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ. (٥٦)
ثم عقد السيوطى- ﵀ فصلا فى مخاطبات القرآن بالعام بين عام باق على عمومه، وعام مراد به الخصوص، وعام مخصوص، فقال- ﵀: «العام على ثلاثة أقسام:
الأول: الباقى على عمومه: قال القاضى جلال البلقينى: ومثاله عزيز، إذ ما من عام إلا ويدخل فيه التخصيص فقوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ (٥٧) قد يخص منه غير المكلف، وحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ (٥٨) خص منها حالة الاضطرار، وميتة السمك والجراد، وحرم الربا خص منه العرايا. (٥٩) وذكر الزركشى فى «البرهان» أنه كثير فى القرآن، وأورد منه: وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، (٦٠) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا، (٦١) وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا، (٦٢) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، (٦٣) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرارًا. (٦٤) قلت: هذه الآيات كلها فى غير الأحكام الفرعية، فالظاهر أن مراد البلقينى أنه عزيز فى الأحكام الفرعية، وقد استخرجت من القرآن بعد الفكر آية فيها، وهى قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ (٦٥) الآية، فإنه لا خصوص فيها».
الثانى: العام المراد به الخصوص.
الثالث: العام المخصوص. وللناس بينهما فروق. أن الأول لم يرد شموله لجميع الأفراد، لا من جهة تناول اللفظ، ولا من جهة الحكم، بل هو ذو أفراد استعمل فى فرد منها.
والثانى أريد عمومه وشموله لجميع الأفراد من جهة تناول اللفظ لها، لا من جهة الحكم، ومنها أن الأول مجاز قطعا لنقل اللفظ عن موضعه الأصلى بخلاف الثانى فإن فيه مذاهب أصحها: أنه حقيقة، وعليه أكثر الشافعية وكثير من الحنفية وجميع الحنابلة، ونقله إمام الحرمين عن جميع الفقهاء. وقال الشيخ أبو حامد: إنه مذهب الشافعى وأصحابه. وصححه السبكى؛ لأن تناول
(٥٣) الكهف: ١٩.
(٥٤) الأعراف: ٤.
(٥٥) الشعراء: ٧.
(٥٦) آل عمران: ١٤٦.
(٥٧) الحج: ١.
(٥٨) المائدة: ٣.
(٥٩) هى بيع الرطب على النخل بخرصها تمرا على الأرض ممن يتقن الخرص، والتقدير بحسب الإمكان: أرخص فيه رسول الله ﷺ للعذر كما فى حديث الصحيحين وغيرهما. أنظر بلوغ المرام للحافظ ابن حجر العسقلانى وشرحه سبل السلام لمحمد بن إسماعيل الصنعانى ج ٣ من ص ٥٨ إلى ص ٦٠.
(٦٠) المائدة: ٩٧.
(٦١) يونس: ٤٤.
(٦٢) الكهف: ٤٩.
(٦٣) فاطر: ١١.
(٦٤) غافر: ٦٤.
(٦٥) النساء ٢٣.
 
١ ‏/ ١٥٤
 
اللفظ للبعض الباقى بعد التخصيص كتناوله له بلا تخصيص. وذلك التناول حقيقى اتفاقا، فليكن هذا التناول حقيقيا أيضا.
ومنها أن قرينة الأول عقلية والثانى لفظية.
ومنها أن قرينة الأول لا تنفك عنه، وقرينة الثانى قد تنفك عنه. ومنها أن الأول يصح أن يراد به واحد اتفاقا، وفى الثانى خلاف، ومن أمثلة المراد به الخصوص قوله تعالى:
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ. (٦٦)
والقائل واحد (هو) نعيم بن مسعود الأشجعى أو أعرابى من خزاعة، كما أخرجه ابن مردويه من حديث أبى رافع؛ لقيامه مقام كثير فى تثبيط المؤمنين عن ملاقاة أبى سفيان قال الفارسى: ومما يقوى أن المراد به واحد قوله: إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ (٦٧)، فوقعت الإشارة بقوله: (ذلكم) إلى واحد بعينه، ولو كان المعنى جمعا لقال: (إنما أولئكم الشيطان)، فهذه دلالة ظاهرة فى اللفظ.
ومنها قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ (٦٨) أى: رسول الله ﷺ لجمعه ما فى الناس من الخصال الحميدة. ومنها قوله: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ (٦٩). أخرج ابن جرير من طريق الضحاك عن ابن عباس فى قوله:
مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ. قال: إبراهيم ﵇. ومن الغريب قراءة سعيد بن جبير: مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ قال فى «المحتسب»: يعنى آدم لقوله: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (٧٠)، ومنه قوله تعالى:
فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ (٧١). أى: جبريل كما فى قراءة ابن مسعود» أ. هـ.
وأقول: ذكر السيوطى- كما ترى- للعام المراد به الخصوص أربعة أمثلة لا ننازعه منها إلا فى ثالثها، وإن كان فى بعضها كلام، وأعنى بهذا الثالث ما عزا فيه إلى الطبرى الرواية عن الضحاك عن ابن عباس: من أن الناس فى ثانية آيتى الإفاضة يراد بهم إبراهيم، فإن النسخ المطبوعة بطبعات مختلفة من تفسير الطبرى فى تفسير هذه الآية من سورة البقرة ليس فيها الرواية عن الضحاك موصولة إلى ابن عباس، بل الرواية فيها جميعا هى عن الضحاك موقوفة عليه، وهكذا رواها عن الطبرى الحافظ ابن كثير (٧٢)، وكذا رواها الحفاظ من أمثال الحافظ ابن حجر فى «الفتح» عن ابن أبى حاتم وغيره. فهذه واحدة.
وثانية هى أطم من الأولى وأعظم، وهى أن هذا القول أحد قولين فى الآية حكاهما
(٦٦) آل عمران: ١٧٣.
(٦٧) آل عمران: ١٧٥.
(٦٨) النساء: ٥٤.
(٦٩) البقرة: ١٩٩.
(٧٠) طه: ١١٥.
(٧١) آل عمران: ٣٩.
(٧٢) أنظر تفسيره ج ١ ص ٢٤٢.
 
١ ‏/ ١٥٥
 
الطبرى واختار غيره لما قال من إجماع الحجة عليه، وأنه لولا إجماع الحجة على هذا الغير لاختاره. هذا معنى كلامه، وإنما القول المعتمد فى تفسير الآية أن يراد من الإفاضة فيها عين ما أريد منها فى سابقتها، ومن قوله: مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ عرفات كما وقع التصريح به فى سابقتها على ما روى البخارى- ﵀ عن عائشة- رضى الله عنها-: «كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الخمس وكان سائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه ﷺ
أن يأتى عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى:
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ أ. هـ كذا أخرجه البخارى فى الحج وفى التفسير، واللفظ من التفسير فى تفسير الآية من سورة البقرة. تريد- رضى الله عنها: أن المأمور بالإفاضة فى هذه الآية هو النبى ﷺ وأصحابه، أمروا أن تكون إفاضتهم من حيث يفيض جمهور العرب أى من عرفة- لا من حيث كان يفيض قريش ومن دان دينها من المزدلفة أى أن يكون موقف النبى ﷺ الذى تصدر منه الإفاضة هو عرفة لا المزدلفة على ما كانت تفعل قريش، وتوجيه (ثم) على هذا القول المعتمد- والذى اختاره الطبرى نفسه وحكى الإجماع عليه- ما قاله الحافظ ابن حجر فى شرح هذا الحديث من كتاب الحج قال ﵀ (٧٣): (وأما الإتيان فى الآية بقوله: (ثم) فقيل: هى بمعنى الواو. وهذا اختيار الطحاوى، وقيل: لقصد التأكيد لا لمحض الترتيب، والمعنى: فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام، ثم اجعلوا الإفاضة التى تفيضونها من حيث أفاض الناس لا من حيث كنتم تفيضون.
قال الزمخشرى: وموقع (ثم) هنا موقعها من قولك: «أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير الكريم»، فتأتى (ثم) لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم والإحسان إلى غيره، فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات بين لهم مكان الإفاضة فقال: ثم أفيضوا. لتفاوت ما بين الإفاضتين، وأن إحداهما صواب والأخرى خطأ.
قال الخطابى: «تضمن قوله تعالى ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ الأمر بالوقوف بعرفة لأن الإفاضة إما تكون عند اجتماع قبله، وكذا قال ابن بطال وزاد: وبين الشارع مبتدأ الوقوف بعرفة ومنتهاه» أهـ.
نعم قد جاء الآخر رواية عن ابن عباس عند البخارى أيضا فى تفسير الآية من كتاب التفسير والذى حاصله أن الإفاضة فى هذه
(٧٣) فتح البارى ج ٣ ص ٥١٧. فما بعدها.
 
١ ‏/ ١٥٦
 
الآية غيرها فى سابقتها، وأنها الإفاضة من «جمع» أى: المزدلفة إلى منى لرمى الجمرات، ولكن المقصود بالناس فى هذه الرواية ليس ما فى رواية الضحاك، وإنما هو العموم الشامل لجماهير الناس جميعا، أو هم قريش على أقل تقدير. ففي هذا الحديث عند البخارى:
ثم ليدفعوا من عرفات فإذا أفاضوا منها حتى يبلغوا جمعا الذى يتبرر فيه، ثم ليذكروا الله كثيرا أو أكثروا التكبير والتهليل قبل أن تصبحوا، ثم أفيضوا فإن الناس كانوا يفيضون. وقال الله تعالى: وتلا الآية ثم قال:
حتى ترموا الجمرة أ. هـ.
فلا تشترك هذه الرواية مع ما قال الضحاك إذن، إلا فى مجرد أن الإفاضة فى الآية يراد بها الإفاضة من المزدلفة، وأما أن الناس فيها يراد بهم إبراهيم ﵇ فشىء لم يعرف عن ابن عباس ولا عن غيره، وإنما هو قصر على الضحاك وحده، وشتان ما بين الأمرين، ومع هذا فإن هذا القول عن ابن عباس- وإن بقيت فيه (ثم) التى صدرت بها الآية على حقيقتها من إفادة الترتيب، ليس هو القول المعتمد فى تفسير الآية، والذى وصفنا من قول عائشة، بل الذى نطقت به رواية أخرى عن ابن عباس فى تفسير الطبرى نفسه، كما جاءت به الرواية عند الطبرى عن عروة بن الزبير وعطاء وقتادة ومجاهد والسدى والربيع وابن أبى نجيح.
ومن ثم حكى الطبرى إجماع الحجة عليه كما سبق. وإنما كان الذى وصفنا من قول هؤلاء المعتمد؛ لأنه فوق كونه قول الجمهور نص فى إلغاء صنيع قريش، وإيجاب أن يكون موقف الجميع؛ قريش وغير قريش بعرفة، بخلاف ما فى هذه الرواية عن ابن عباس، فإنه وإن أفاد إيجاب الإفاضة إلى منى لم يعرض من قليل أو كثير لما هو أهم منه بدرجات- أعنى إبطال الباطل- ولا سيما أن الإفاضة من المزدلفة إلى منى كان أمرا معروفا ومشتركا متفقا فيه من الكل؛ قريش، وغير قريش، فلم تضف الآية جديدا.
وأيضا فإن أمر منى سيأتى الحديث عنه بعد هذا بقليل فى قوله تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ (٧٤) الآية. وفى هذا الرد:
(أ) على ما زعم الطبرى من ترجيح أن تراد الإفاضة إلى منى لولا إجماع الحجة على الأول.
(ب) وعلى علامة مفسرى العصر الطاهر ابن عاشور فيما زعم من ذلك لولا الحديث، كما قال فى تفسيره الجليل «التحرير والتنوير» يريد حديث عائشة المتضمن للقول المعتمد.
(٧٤) البقرة: ٢٠٣.
 
١ ‏/ ١٥٧
 
(ج) وعلى موقف الحافظ ابن كثير الحائر بين القولين والمتمثل فى قوله بعد إيراده لروايتى عائشة وابن عباس من البخارى (فالله أعلم) أ. هـ.
وأما ما حكى فى هذا المثال من قراءة ابن جبير بالياء يريد آدم كما فسره ابن جنى فى «المحتسب»، فقد كفانا مئونتها بعدّها من الغريب، فإنها قراءة بالغة الشذوذ خارجة أتم الخروج عن القرآنية، فلا يبال بها ولا بما تضمنته من هذا المعنى هنا.
ثم شرع السيوطى بعد هذا فى الحديث عن العام المخصوص وبيان المخصص المتصل منه والمنفصل فقال: «وأما المخصوص فأمثلته فى القرآن كثيرة جدا، وهو أكثر من المنسوخ، إذ ما من عام إلا وقد خص، ثم المخصص له:
إما متصل وإما منفصل، فالمتصل: خمسة وقعت فى القرآن: أحدها: الاستثناء» (يريد المتصل) وذكر له أمثلة خمسة نختار من بينها آخرها وهو قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ (٧٥).
ثم قال السيوطى: «الثانى: الوصف نحو:
وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ (٧٦) الثالث: الشرط، نحو وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا (٧٧)، كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ (٧٨). الرابع: الغاية وذكر لها أمثلة أربعة آخرها: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ (٧٩) الآية.
والخامس:
بدل البعض من الكل نحو: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا (٨٠). ثم قال: والمنفصل آية أخرى فى محل آخر، أو حديث، أو إجماع، أو قياس. ومن أمثلة ما خص بالقرآن قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ (٨١)، خص بقوله: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ (٨٢) وبقوله: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ (٨٣). وقوله:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ (٨٤)، خص من الميتة السمك بقوله: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ (٨٥)، ومن الدم الجامد بقوله: أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا (٨٦).
(٧٥) القصص: ٨٨. والمراد من الوجه الذات أو العمل الصالح الذى أريد به وجهه تعالى.
(٧٦) النساء: ٢٣.
(٧٧) النور: ٣٣.
(٧٨) البقرة: ١٨٠.
(٧٩) البقرة: ١٨٧.
(٨٠) آل عمران: ٩٧.
(٨١) البقرة: ٢٢٨.
(٨٢) الأحزاب: ٤٩.
(٨٣) الطلاق: ٤.
(٨٤) المائدة: ٣.
(٨٥) المائدة: ٩٦.
(٨٦) الأنعام: ١٤٥.
 
١ ‏/ ١٥٨
 
وقوله: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا (٨٧) الآية خص بقوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ (٨٨). وقوله:
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ (٨٩). خص بقوله: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ (٩٠).
وقوله: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ (٩١)، خص بقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ (٩٢) الآية. ومن أمثلة ما خص بالحديث قوله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ (٩٣) خص منه البيوع الفاسدة- وهى كثيرة بالسنة- وَحَرَّمَ الرِّبا، خص منه العرايا (٩٤) بالسنة، وآيات المواريث خص فيها القاتل والمخالف فى الدّين بالسنة. وآية تحريم الميتة خص منها الجراد بالسنة، وآية ثَلاثَةَ قُرُوءٍ (٩٥) خص منها الأمة بالسنة (٩٦).
وقوله: ماءً طَهُورًا (٩٧) خص منه المتغير بالسنة، وقوله: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا (٩٨)، خص منه من سرق دون ربع دينار بالسنة. ومن أمثلة ما خص بالإجماع:
آية المواريث خص منها الرقيق فلا يرث بالإجماع، ذكره مكى. ومن أمثلة ما خص بالقياس: آية الزنا فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ (٩٩) خص منها العبد بالقياس على الأمة المنصوصة فى قوله: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ (١٠٠) المخصص لعموم الآية، ذكره مكى أيضا».
ثم قال السيوطى: «فصل من خاص القرآن: ما كان مخصصا لعموم السنة وهو عزيز، ومن أمثلته قوله تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ (١٠١) خص عموم قوله ﷺ: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله).
وقوله: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى (١٠٢)، خص عموم نهيه ﷺ عن الصلاة فى الأوقات المكروهة بإخراج الفرائض، وقوله: وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها (١٠٣) الآية خص عموم قوله ﷺ:
«ما أبين من حى فهو ميت»، وقوله:
وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ (١٠٤).
خص عموم قوله ﷺ: (لا تحل الصدقة لغنى ولا لذى مرة سوىّ). وقوله: فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي (١٠٥). خص عموم قوله ﷺ: (إذا التقى المسلمان بالسيف، فالقاتل والمقتول فى النار)».
(٨٧) النساء: ٢٠.
(٨٨) البقرة: ٢٢٩.
(٨٩) النور ٢.
(٩٠) النساء: ٢٥. والمقصود الإماء المتزوجات إن أتين بفاحشة الزنا فعليهن نصف ما على الحرائر الأبكار من العذاب، أى خمسون جلدة نصف حد الحرة البكر كما هو مقرر فى محله من كتب الفقه والتفسير. وخص أيضا عموم الآية المحصن بالسنة فحده الرجم، وسيأتى فيه تخصيص آخر بالقياس.
(٩١) النساء: ٣.
(٩٢) النساء: ٢٣.
(٩٣) البقرة: ٢٧٥.
(٩٤) قال فى اللسان: «فى حديث أنه رخص فى العرية والعرايا، قال أبو عبيد: العرايا واحدتها عرية، وهى النخلة يعريها صاحبها رجلا محتاجا.
والإعراء أن يجعل له ثمر عامها. والمقصود: أن النبى ﷺ رخص لهم فى بيع الرطب على النخل بالتمر على الأرض. حرصا وتقديرا حسب الإمكان، كما فى حديث الصحيحين وغيرهما. وانظر بلوغ المرام للحافظ ابن حجر وشرحه سبل السلام للصنعانى ج ٥٨ إلى ص ٦٠.
(٩٥) البقرة: ٢٢٨.
(٩٦) أى فعدتها قرآن.
(٩٧) الفرقان: ٤٨.
(٩٨) المائدة: ٣٨.
(٩٩) النور: ٢.
(١٠٠) النساء: ٢٥.
(١٠١) التوبة: ٢٩.
(١٠٢) البقرة: ٢٣٨.
(١٠٣) النحل: ٨٠.
(١٠٤) التوبة: ٦٠.
(١٠٥) الحجرات: ٩.
 
١ ‏/ ١٥٩
 
ثم قال السيوطى: فروع منثورة تتعلق بالعموم والخصوص: الأول: إذا سيق العام للمدح أو الذم، فهل هو باق على عمومه؟ فيه مذاهب:
أحدها: (نعم) إذ لا صارف عنه، ولا تنافى بين العموم وبين المدح أو الذم.
والثانى: لا؛ لأنه لم يسق للتعميم بل للمدح أو الذم.
والثالث: وهو الأصح: التفصيل، فهو إن لم يعارضه عام آخر لم يسق لذلك، ولا يعم إن عارضه ذلك، جمعا بينهما. مثاله- ولا معارض- قوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٠٦) ومع المعارض قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ (١٠٧). فإنه سيق للمدح، وظاهره يعم الأختين بملك اليمين جمعا، وعارضه فى ذلك: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ (١٠٨)؛ فإنه شامل لجمعهما بملك اليمين، ولم يسق للمدح فحمل الأول على غير ذلك بأنه لم يرد تناوله له. ومثاله فى الذم: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ (١٠٩) الآية فإنه سيق للذم، وظاهره يعم الحلى المباح. وعارضه فى ذلك حديث جابر: «ليس فى الحلى زكاة». فحمل الأول على غير ذلك.
الثانى: اختلف فى الخطاب الخاص به ﷺ، نحو: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ، يا أَيُّهَا الرَّسُولُ هل يشمل الأمة؟ فقيل: نعم؛ لأن أمر القدوة أمر لأتباعه معه عرفا، والأصح فى الأصول المنع لاختصاص الصيغة به.
الثالث: اختلف فى الخطاب ب يا أَيُّهَا النَّاسُ، هل يشمل الرسول ﷺ؟ على مذاهب: أصحّها- وعليه الأكثرون: نعم لعموم الصيغة له؛ أخرج ابن أبى حاتم عن الزهرى قال: إذا قال الله: «يأيها الذين آمنوا افعلوا» فالنبى ﷺ منهم.
والثانى: لا؛ لأنه ورد على لسانه لتبليغ غيره، ولما له من الخصائص.
والثالث: إن اقترن ب «قل» لم يشمله لظهوره فى التبليغ، وذلك قرينة عدم شموله؛ وإلا فيشمله.
الرابع: الأصح فى الأصول أن الخطاب ب «أيها الناس» يشمل الكافر والعبد لعموم اللفظ، وقيل: لا يعم الكافر بناء على عدم تكليفه بالفروع. ولا العبد؛ لصرف منافعه إلى سيده شرعا.
الخامس: اختلف فى «من» هل تتناول
(١٠٦) الانفطار: ١٣، ١٤.
(١٠٧) المؤمنون: ٥، ٦.
(١٠٨) النساء: ٢٣.
(١٠٩) التوبة: ٣٤.
 
١ ‏/ ١٦٠
 
الأنثى؟ فالأصح نعم، خلافا للحنفية، لنا قوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى (١١٠) فالتفسير بهما دال على تناول «من» لهما، وقوله: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ (١١١). واختلف فى جمع المذكر السالم هل يتناولهما؟ فالأصح لا، وإنما يدخلن فيه بقرينة، أمّا المكسّر فلا خلاف فى دخولهن فيه.
السادس: اختلف فى الخطاب ب «يا أهل الكتاب» هل يشمل المؤمنين؟ فالأصح لا؛ لأن اللفظ قاصر على من ذكر. وقيل: إن شاركوهم فى المعنى شملهم وإلّا فلا.
واختلف فى الخطاب ب «يأيها الذين آمنوا» هل يشمل أهل الكتاب؟ فقيل: لا، بناء على أنهم غير مخاطبين بالفروع، وقيل: نعم؛ واختاره ابن السمعانى قال: وقوله: «يا أيها الذين آمنوا» خطاب تشريف لا تخصيص (١١٢) أ. هـ.
وقوله فى سادس هذه الفروع بما قال من اختيار ابن السمعانى فى نحو يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قد فصل الزركشى- ﵀ القول فى هذه القضية وكشف فيه عن شبهة ابن السمعانى وأجاب عنها فقال فى كتابه البحر المحيط: (الخامسة: «يعنى من مسائل اشتمال العموم على بعض ما يشكل تناوله»:
الخطاب ب «يأيها المؤمنون» حكى ابن السمعانى فى «الاصطلام» عن بعض الحنفية أنه لا يشمل غيرهم من الكفار لأنه صريح، ثم اختار التعميم لهم ولغيرهم لعموم التكليف بهذه الأمور، وأن المؤمنين إنما خصوا بالذكر من باب خطاب التشريف لا خطاب التخصيص بدليل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا (١١٣) وقد ثبت تحريم الربا فى حق أهل الذمة.
قلت: وفيه نظر؛ لأن الكلام فى التناول بالصيغة لا بأمر خارج. وقال بعضهم:
لا يتناولهم لفظا، وإن قلنا: إنهم مخاطبون إلا بدليل منفصل أو من عدم الفرق بينهم وبين غيرهم وإلا كيف يقال بعموم الشريعة لهم ولغيرهم، وأما حيث يظهر الفرق أو يمكن معنى غير شامل لهم، فلا يقال بثبوت ذلك الحكم لهم؛ لأنه يكون إثبات حكم بغير دليل، والتعلق قدر زائد على الوجوب فلا يثبت فى حقهم بغير دليل ولا معنى (١١٤) أ. هـ والله أعلم.
أ. د/ إبراهيم عبد الرحمن خليفة
(١١٠) النساء: ١٢٤.
(١١١) سورة الأحزاب: ٣١.
(١١٢) الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى: ج ٣ من ص ٤٨ إلى ص ٥٨.
(١١٣) البقرة: ٢٧٨.
(١١٤) البحر المحيط فى أصول الفقه، لبدر الدين الزركشى: (ج ٣ ص ١٨٣).
 
١ ‏/ ١٦١
 
مطلق القرآن ومقيده
 
أولا: ما هو المطلق:
هو لغة: (التحرر من القيد). واصطلاحا:
(اللفظ الدال على الماهية بلا قيد من وحدة أو غيرها) كذا عرّفه ابن السبكى وغيره.
وبعضهم يقيد الماهية فيقول: (الماهية من حيث هى). ويتساوى فى ذلك جعلنا الماهية المقرونة بالعوارض عين هوية الموجود فى الخارج، فتصير الإنسانية هى عين هوية المشخص (محمد)، أو جعلنا الماهية جزءه- كاختيار بعض الحكماء- ففي الحالتين يكون طلب المطلق من العبد شرعا بأن قال له الشارع: اعتق رقبة، فإن هذا المطلق يتحقق فى فرد ذى هوية مخصوصة؛ لأن الماهية المجردة من المشخصات لا يمكن طلبها من العبد؛ لعدم تمكنه من تحصيلها فى الخارج إلّا بالهوية المخصوصة فى فرد خارجى.
وعليه لم تكن هناك حاجة لعدول الآمدى لتعريفه المطلق بأنه (لنكرة فى الإثبات)، وعدول تلميذه إلى تعريفه بأنه: (ما دلّ على شائع فى جنسه)؛ لأن ما قالاه أمر كلى ذهنى لا يحصل فى الخارج مجردا، ولأن التعريفات وضعت للوصول للحقيقة لا لما فى الخارج.
وقد أحسن صاحب «الكشف» فى تفريقه بين بعض الألفاظ فقال: «الماهية فى ذاتها لا واحدة ولا متكثرة، واللفظ الدال عليها من غير تعرض لقيد ما هو المطلق، ومع التعرض لكثرة معينة هو اسم العدد، وغير معينة هو العام، ولوحدة معينة هو المعرفة، ولوحدة غير معينة هو النكرة».

ثانيا: حكم المطلق مع المقيد:
الأقسام الممكنة فى مسألة حمل المطلق على المقيد أو عدمه تأتى من النظر إلى الحكم والسبب فى المطلق والمقيد، وهما:
المطلق والمقيد إما أن يتفقا فى الحكم والسبب، وإما أن يختلفا فيهما، وإما أن يتفقا فى الحكم ويختلفا فى السبب، أو العكس، فالأقسام أربعة، وكل قسم منها إمّا أن يكون المطلق والمقيد مثبتين وإمّا منفيين وإما أحدهما مثبتا والآخر منفيا. فمجموع
 
١ ‏/ ١٦٤
 
الأقسام: اثنا عشر قسما من ضرب أربعة فى ثلاثة. فما اختلفا فيه فى الحكم والسبب فلا يحمل المطلق على المقيد فيه باتفاق. وبهذا ذهبت أقسام ثلاثة وبقيت تسعة، يظهر الحكم فيها من كلام ابن السبكى وشارحه «المحلى»، مع ملاحظة حمل ما لم يذكر من هذا الفصل على ما ذكر. قالا رحمهما الله:
«مسألة المطلق والمقيد كالعام والخاص» فما جاز تخصيص العام به يجوز تقييد المطلق به وما لا فلا. فيجوز تقييد الكتاب بالكتاب وبالسنة، والسنة بالكتاب والسنة، وتقييدهما بالقياس والمفهومين وفعل النبى ﵊ وتقريره، بخلاف مذهب الراوى، وذكر بعض جزئيات المطلق على الأصح فى الجميع. (و) يزيد المطلق والمقيد «أنهما إن اتحد حكمهما وموجبهما» بكسر الجيم أى سببهما «وكانا مثبتين» كأن يقال فى كفارة الظهار: أعتق رقبة مؤمنة «وتأخر المقيد عن وقت العمل بالمطلق
فهو» أى المقيد «ناسخ» للمطلق بالنسبة إلى صدقه بغير المقيد «وإلا» بأن تأخر عن وقت الخطاب بالمطلق دون العمل أو تأخر المطلق عن المقيد مطلقا أو تقارنا أو جهل تاريخهما «حمل المطلق عليه» أى: على المقيد جمعا بين الدليلين. «وقيل المقيد ناسخ» للمطلق «إن تأخر» عن وقت الخطاب به كما لو تأخر عن وقت العمل به بجامع التأخر، «وقيل: يحمل المقيد على المطلق» بأن يلغى القيد؛ لأن ذكر المقيد ذكر الجزئى من المطلق فلا يقيده، كما أن ذكر فرد من العام لا يخصصه.
قلنا: الفرق بينهما أن مفهوم القيد حجة بخلاف مفهوم اللقب الذى ذكر فرد من العام منه- كما تقدم- «وإن كانا منفيين» يعنى:
غير مثبتين (منفيين أو منهيين) نحو لا يجزى عتق مكاتب. لا يجزى عتق مكاتب كافر، لا تعتق مكاتبا، لا تعتق مكاتبا كافرا «فقائل المفهوم» أى القائل بحجية مفهوم المخالفة وهو الراجح «يقيده به» أى يقيد المطلق بالمقيد فى ذلك «وهى» أى المسألة حينئذ «خاص وعام» لعموم المطلق فى سياق النفى، ونافى المفهوم يلغى القيد ويجرى المطلق على إطلاقه «وإن كان أحدهما أمرا والآخر نهيا» نحو: أعتق رقبة، لا تعتق رقبة كافرة، أعتقا رقبة مؤمنة، لا تعتق رقبة «فالمطلق مقيد بضد الصفة» فى المقيد ليجتمعا، فالمطلق فى المثال الأول مقيد بالإيمان، وفى الثانى مقيد بالكفر «وإن اختلف السبب مع اتحاد الحكم» كما فى قوله تعالى فى كفارة الظهار: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
 
١ ‏/ ١٦٥
 
وفى كفارة القتل: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ.
فقال أبو حنيفة: «لا يحمل المطلق على المقيد فى ذلك لاختلاف السبب، فيبقى المطلق على إطلاقه»، «وقيل يحمل» عليه «لفظا» أى بمجرد ورود اللفظ المقيد من غير حاجة إلى جامع. وقال الشافعى ﵁ يحمل عليه «قياسا» فلا بد من جامع بينهما، وهو فى المثال المذكور حرمة سببهما، أى: الظهار والقتل «وإن اتحد الموجب» فيهما واختلف حكمهما» كما فى قوله تعالى فى التيمم:
فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ وفى الوضوء فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ والموجب لهما الحدث واختلاف الحكم من مسح المطلق وغسل المقيد بالمرافق واضح «فعلى الخلاف» من أنه لا يحمل المطلق على المقيد، أو يحمل عليه لفظا أو قياسا وهو الراجح والجامع بينهما فى المثال المذكور اشتراكهما فى سبب حكمهما «والمقيد» فى موضعين «بمتنافيين» وقد أطلق فى موضع كما فى قوله تعالى فى قضاء أيام رمضان: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وفى كفارة الظهار فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ وفى صوم التمتع فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ «يستغنى» فيما أطلق فيه «عنهما إن لم يكن أولى بأحدهما من الآخر قياسا» كما فى المثال المذكور بأن يبقى على إطلاقه لامتناع تقييده بهما لتنافيهما، وبواحد منهما لانتفاء مرجحه فلا يجب فى قضاء رمضان تتابع ولا تفريق، أما إذا كان أولى بالتقييد بأحدهما من الآخر من حيث القياس كأن وجد الجامع بينه وبين مقيده دون الآخر قيد به بناء على الراجح من أن الحمل قياس، فإن قيل: لفظى. فلا.
وقول ابن السبكى- ﵀ فى شأن ما اتحد فيه السبب والحكم واختلف المطلق والمقيد نفيا وإثباتا: «فالمطلق مقيد بضد الصفة» علق عليه العلامة الشربينى فقال:
«ظاهره أنه لا نسخ هنا، وإن تأخر المقيد عن وقت العمل، والظاهر خلافه، فلعل معناه: أنه مقيد بضد الصفة، ثم إن تأخر عن العمل كان نسخا وإلا كان تقييدا» أه.
ثم لا يخفى بعد هذا على فطانة القارئ الكريم أن شأن ما اختلف فيه السبب دون الحكم أو الحكم دون السبب شأن ما اتحدا فيه من حيث تفصيل الإثبات والنفى لكن مع بعض فروق طفيفة تطلب من مراجعة تقريرات العلامة الشربينى فى هذا المقام (١) أه.
(١) انظر: المصدر نفسه (ص ٤٨ - ص ٥٢).
 
١ ‏/ ١٦٦
 
بقى أن يقف القارئ الكريم على ثانى التنبيهين اللذين ختم بهما السيوطى حديثه الموجز عن هذا النوع من علوم القرآن. قال ﵀: «ما تقدم: يعنى من حمل المطلق على المقيد وعدمه- محله، إذا كان الحكمان بمعنى واحد، وإنما اختلفا فى الإطلاق والتقييد؛ فأما إذا حكم فى شىء بأمور، ثم فى آخر ببعضها، وسكت فيه عن بعضها، فلا يقتضى الإلحاق، كالأمر بغسل الأعضاء الأربعة فى الوضوء وذكر فى التيمم عضوين، فلا يقال بالحمل، ومسح الرأس والرجلين بالتراب فيه أيضا، وكذلك ذكر العتق والصوم والإطعام فى كفارة الظهار، واقتصر فى كفارة القتل على الأولين، ولم يذكر الإطعام، فلا يقال بالحمل وإبدال الصيام بالطعام (٢)» أه.
أ. د/ إبراهيم عبد الرحمن خليفة
(٢) الإتقان فى علوم القرآن (ج ٣ ص ١٠٣).
 
١ ‏/ ١٦٧
 
مجمل القرآن ومبينه
 
أولا: المجمل:
لغة: اسم مفعول من أجمل الشيء (إذا جمعه حتى اختلط بعضه ببعض فلم تتضح تفاصيله). واصطلاحا: (ما لم تتضح دلالته).
فقولهم: (ما) يدخل فيها مع اللفظ الفعل والتقرير، ويخرج المهمل لعدم دلالته أصلا.
وسنعرض لبعض مسائل الإجمال:

إحداها: أسباب الإجمال:
وقد أجمل السيوطى فى «الإتقان» أسباب الإجمال فى ما ملخصه: أن من أسباب الإجمال: (الاشتراك) كما فى قوله تعالى:
ثَلاثَةَ قُرُوءٍ (١). فإن القرء موضوع للطهر والحيض.
ومنها: (الحذف) كما فى قوله تعالى:
وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ (٢) فيحتمل المحذوف أن يكون (فى) أو (عن).
ومنها: (اختلاف مرجع الضمير) نحو:
إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ (٣) فالضمير فى يرفعه يحتمل عوده على الضمير فى (إليه) العائد عليه- ﷾ ويحتمل أن يعود للعمل.
ومنها: (احتمال العطف والاستئناف) نحو قوله تعالى: إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ (٤).
ومنها: (غرابة اللفظ) نحو: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ (٥).
ومنها: (عدم كثرة الاستعمال الآن) نحو:
ثانِيَ عِطْفِهِ (٦) أى متكبرا.
ومنها: (التقديم والتأخير) نحو:
يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها (٧) أى:
يسألونك عنها كأنك حفىّ.
ومنها: (قلب المنقول) نحو: وَطُورِ سِينِينَ (٨) أى: سيناء.
ومنها: (التكرير القاطع لوصل الكلام فى الظاهر) نحو: لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ (٩) (١٠) أهـ. ملخصا. واضح مما عرضنا من أسباب الإجمال نسبية هذه
(١) سورة البقرة: ٢٢٨.
(٢) سورة النساء: ١٢٧.
(٣) سورة فاطر: ١٠.
(٤) سورة آل عمران: ٧.
(٥) سورة البقرة: ٢٣٢.
(٦) سورة الحج: ٩.
(٧) سورة الأعراف: ١٨٧.
(٨) سورة التين: ٢.
(٩) سورة الأعراف: ٧٥.
(١٠) الإتقان فى علوم القرآن: (ج ٣ ص ٥٩) فما بعدها.
 
١ ‏/ ١٦٨
 
الأسباب حتى إنها قد يتلاشى الإجمال فى بعضها.

ثانيها: هل المجمل واقع فى القرآن؟:
يتضح من الأمثلة السابقة عند عرض أسباب الإجمال وقوع المجمل فى القرآن خلافا لدواد الظاهرى. ولكن هل يبقى على إجماله؟ خلاف بين العلماء، والصواب عندى:
أنه لا يكون كذلك، على ما أثبتناه من أن الحق فى المتشابه علم الراسخين بتأويله، وقيل: يبقى مطلقا، وقيل: لا يبقى فى مواطن التكليف. وكل هذا ضعيف سوى الأول.

ثالثها: آيات اختلف فيها هل من قبيل المجمل أم المبين؟
ذكر السيوطى نماذج: منها: آية السرقة قيل: مجملة؛ لأن اليد تطلق على العضو إلى الكوع وإلى المرفق وإلى المنكب، ولا ظهور لواحد منها، وأبان الشارع المراد، وقيل: لا إجمال فيها؛ لأن القطع ظاهر فى الإبانة.
ومنها وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ (١١) قيل: إنها مجملة لترددها بين مسح الكل والبعض، ومسح الشارع على الناصية مبين، وقيل: لا، إنما هى لمطلق المسح الصادق بأقل مسح.
ومنها: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ (١٢) بنسب الحرمة للعين، ولا حرمة فيها، فهى مجملة؛ لأنه لا بدّ من تقدير لفعل وهو محتمل. وقيل: لا، لوجود المرجح وهو العرف بتحريم الاستمتاع.
ومنها: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا (١٣) قيل: مجملة؛ لأن ما من بيع إلا وفيه زيادة، وقيل: لا؛ لأن البيع منقول شرعا فحمل على إطلاقه وعمومه.
ومنها: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ (١٤) ووَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ (١٥).
والآيات التى فيها الأسماء الشرعية لاحتمال إرادة معانيها اللغوية فافتقرت للبيان، وقيل: لا، بل تحمل على الشرعية إلا بدليل.

رابعها: التفرقة بين المجمل والمحتمل لمعنيين:
فرق بينهما ابن الحصار (١٦) - بعد أن ذكر أن من الناس من ساوى بينهما- بأن المجمل:
اللفظ المبهم الذى لا يفهم المراد منه، والمحتمل: الواقع بالوضع الأول على معنيين مفهومين فصاعدا. والمجمل يدل على أمور معروفة، والمحتمل متردد بينها، والشارع لم يفوض لأحد بيان المجمل بخلاف المحتمل (١٧).
(١١) سورة المائدة: ٦.
(١٢) سورة النساء: ٢٣.
(١٣) سورة البقرة: ٢٧٥.
(١٤) سورة البقرة: ٤٣.
(١٥) سورة آل عمران: ٩٧.
(١٦) هو على بن محمد بن محمد بن إبراهيم الخزرجى الإشبيلي له مؤلفات منها «أصول الفقه»، و«الناسخ والمنسوخ»، و«البيان فى تنقيح البرهان». توفى سنة ٦١١ هـ (التكملة لابن الأبار ص ٦٨٦).
(١٧) انظر: الإتقان فى علوم القرآن: (ج ٣ ص ٦٢: ص ٦٥).
 
١ ‏/ ١٦٩
 
خامسها: حكمة إيراد المجمل:
الحاصل أن لإيراد المجمل الذى هو أحد قسمى المتشابه فوائد عظيمة منها: حكم الابتلاء وحفز العقول على النظر وتحصيل العلوم ونيل شرف العلم، والتعرض لنيل درجات علمية من الفضل بقدر ما يبذل من جهد فى التوصل إلى الحق، ومزيد طمأنينة القلوب بالبرهان على أحقية كون القرآن من عند الله. وقد أشار إلى هذه الفوائد الزمخشرى فى «كشافه» (١٨). ولحجة الإسلام الغزالى والرازى فى تفسيره والقاضى عبد الجبار فى «متشابه القرآن» كلام فى هذه المسألة فيراجع فى رسالتنا «المحكم والمتشابه فى القرآن».

ثانيا: المبيّن:
فى بيان حقيقته: يذكر العضد فى شرحه «لمختصر ابن الحاجب» أن البيان يطلق ويراد به فعل المبين، وهو التبيين من بان: إذا ظهر وانفصل، ويطلق ويراد ما حصل به التبيين وهو الدليل، ويطلق ويراد متعلق التبيين ومحله وهو المدلول. فعرفه الصيرفى بالنظر للأول بأنه: الإخراج من حيز الإشكال إلى التجلى والوضوح (١٩). وأورد على هذا التعريف إيرادات واهية، وسنعرض فيما يلى بالتفصيل لمسألتين من مسائل هذا المبحث:

أولاهما: بم يقع البيان؟
ذكر الإمام السيوطى ما يقع به البيان بالأمثلة ما ملخصه: أن بيان آى القرآن قد يقع بالمتصل كما وقع لقوله تعالى: الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ بقوله: مِنَ الْفَجْرِ (٢٠)، وقد يكون البيان بالمنفصل كما فى قوله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ (٢١) فقد بيّنه قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ (٢٢)، فإنه بيّن أن المراد بالطلاق فى الآية الأولى: الذى يملك الرجعة بعده، ولولا الآية الثانية لكان الطلاق منحصرا فى الطلقتين.
ثم ذكر الإمام السيوطى أمثلة كثيرة من البيان المنفصل. ثم ذكر أن البيان قد يكون أيضا بالسنة مثل قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ (٢٣)، وقوله تعالى:
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ قد بينت السنة أفعال الصلاة والحج ومقادير الزكاة فى أنواعها (٢٤).

ثانيتهما: تأخير البيان:
ذكر الإمام ابن السبكى أقوالا فى هذه المسألة ملخصها: أن أولها: يرى أصحابه
(١٨) انظر: الكشاف: (ج ١ ص ٢٥٩).
(١٩) انظر شرح العضد على مختصر ابن الحاجب: (ج ٢ ص ١٦٢).
(٢٠) سورة البقرة: ١٨٧.
(٢١) سورة البقرة: ٢٢٩.
(٢٢) سورة البقرة: ٢٣٠.
(٢٣) سورة البقرة: ٤٣.
(٢٤) انظر: الإتقان فى علوم القرآن: (ج ٣ ص ٦٠: ٦٢).
 
١ ‏/ ١٧٠
 
عدم وقوع تأخير البيان عن وقت الفعل، وإن جاز عند المجوزين للتكليف بما لا يطلق.
وثانيها: يرى أصحابه أن تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الفعل واقع وجائز سواء كان مبينا أم مجملا، قول الجمهور.
وثالثها: يمتنع فى المبين بخلاف المجمل.
ورابعها: يمتنع تأخير البيان الإجمالى فيما له ظاهر دون التفصيلى، ويجوز فى المجمل تأخيرهما.
وخامسها: يمتنع تأخير البيان فى غير النسخ.
وسادسها: لا يجوز تأخير بعض البيان دون بعض، لعدم إيهام المخاطب بأن المقدم هو البيان فقط.
ثم اختار الجلال المحلى رأى الجمهور بأن تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الفعل واقع وجائز، واستدل على الوقوع بالغنيمة فى قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ (٢٥) فإنه عام فيما يغنم خصص بحديث الصحيحين: «من قتل قتيلا فله سلبه». وذكر ابن السبكى أن الحديث كان فى غزوة حنين، وأن الآية كانت فى بدر. وبيّن أن الأقوال السابقة على القول بالجواز، أما القول بالمنع من التأخير فالمختار جواز تأخير النبى ﷺ التبليغ إلى وقت الحاجة، وقيل: لا يجوز لقوله: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ (٢٦) أى على الفور، وذكر أن كلام الرازى والآمدى يقتضى المنع فى القرآن، ولم يقع فى كلامه ﷺ لما علم أنه كان يسأل فيجيب تارة ويقف انتظارا للوحى أخرى. ثم بين أن المختار على المنع أنه يجوز أن لا يعلم المكلف الموجود بالمخصص بذاته أو بوصفه أنه مخصص. وقيل: لا يجوز فى المخصص السمعى لما فيه من تأخير إعلامه بالبيان، وفى العقلى اتفقوا على الجواز، وذكر أنه وقع من بعض الصحابة عدم سماع المخصص السمعى إلّا بعد حين، كعدم سماع عمر ﵁ ما يخصص المجوس حتى سمع عبد الرحمن بن عوف يخبره عن النبى ﷺ أنه قال: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب»، وأنه أخذ الجزية (٢٧).
أ. د/ إبراهيم عبد الرحمن خليفة
(٢٥) سورة الأنفال: ٤١.
(٢٦) سورة المائدة: ٦٧.
(٢٧) انظر: شرح الجلال المحلى على جمع الجوامع: (ج ٢ ص ٦٩: ٧٤).
 
١ ‏/ ١٧١
 
مصادر للبحث والاستزادة
(١) الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى.
(٢) البحر المحيط لبدر الدين الزركشى، ط الكويت.
(٣) التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور.
(٤) تفسير القرآن العظيم لابن كثير.
(٥) جامع البيان عن تأويل أى القرآن للطبرى.
(٦) الجامع الصحيح لأبى عبد الله محمد بن إسماعيل البخارى.
(٧) حاشية البنانى على شرح الجلال المحلى لجمع الجوامع لابن السبكى.
(٨) شرح العضد على مختصر ابن الحاجب، نشر مكتبة الكليات الأزهرية بالصنادقية.
(٩) فتح البارى لابن حجر العسقلانى.
(١٠) الكشاف للزمخشرى.
(١١) معالم التنزيل للبغوى بهامش تفسير الخازن، ط مصطفى الحلبى.
 
١ ‏/ ١٧٢
 
أحكام القرآن
الأحكام: جمع حكم. وهو لغة: بمعنى المنع والقضاء، يقال: حكمت بكذا. أى: منعت من الخلاف. والحكمة تمنع صاحبها من فعل الرذائل. كما فى «المصباح والقاموس».
واصطلاحا: الذى نقصده هو الحكم الشرعى، وقد اقتصر بعض الأصوليين كالبيضاوى وابن السبكى على الحكم التكليفى فى تعريف الحكم الشرعى، ولكنها طريقة ضعيفة عند الأصوليين، نصّ على ذلك شيخ أشياخنا محمد بخيت المطيعى. وعرفها ابن الحاجب فزاد الحكم الوضعى، وهو الصواب.
نرى أن أمثل التعاريف هو: الحكم: خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع)، فقولهم: (خطاب الله) يقصد به توجيه الخطاب أى: الكلام المخاطب به كلام الله النفسى القديم، وخرج به كل خطاب لغيره- سبحانه- ومن قال لا يشمل الأحكام الثابتة بالسنة والإجماع والقياس، قلنا هذه الأدلة معرفات للخطاب وليست مثبتات له. وقولهم: (المتعلق بفعل المكلف) أى: تعلقا معنويا فى الأزل وتنجيزيا بعد البعثة، ووجود المكلف على شرط التكليف، وخرج خطاب الله المتعلق بالذوات والصفات والجمادات، وقولهم: (بالاقتضاء) وهو الطلب فيكون للفعل والترك، وللفعل قد يكون جازما فهو الإيجاب، أو غير جازم فهو الندب، وللترك فيكون جازما وهو التحريم، أو غير جازم وهو الكراهة. وهو- بالاقتضاء- قيد أخرج خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين على سبيل الإخبار، كما فى قوله تعالى:
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ.
وقولهم: (أو التخيير) هو الإباحة فصارت الأحكام التكليفية خمسة، وهى كذلك عند الجمهور- وقولهم (أو الوضع) أى: جعل الشيء سببا كالسرقة سبب فى القطع، أو شرطا
كالطهارة شرط فى الصلاة، أو مانعا كالسكر والجنابة المانعين من الصلاة، أو صحيحا فتترتب عليه آثاره، أو فاسدا فلا تترتب.
فأقسام الحكم الوضعى خمسة أيضا، وهى المعتمدة عند الجمهور. وكل واحد من أقسام الحكم التكليفى الخمسة، تتأتى معه أقسام الوضعى الخمسة فيكون حاصل أقسام
 
١ ‏/ ١٧٣
 
الحكم الشرعى خمسة وعشرين قسما من ضرب خمسة التكليفى فى خمسة الوضعى.
أما الفقهاء فيجعلون الحكم الشرعى مدلول ذلك الخطاب أو قل: صفة فعل المكلف، فالحكم عند الأصوليين الإيجاب الذى هو صفة قائمة بذاته سبحانه، والوجوب الذى هو صفة فعل المكلف هو الحكم عند الفقهاء.
وقد اعتنى معظم المفسرين- ولا سيما أصحاب التفاسير المبسوطة منهم- بهذا النوع من مقاصد القرآن كل حسب مشربه ومذهبه، بل أفرده بالتصنيف جماعة كثيرة فى القديم والحديث. قال الزركشى فى «البرهان»: (أولهم: الشافعى، ثم تلاه من أصحابنا الكيا الهراس، ومن الحنيفة أبو بكر الرازى، ومن المالكية القاضى إسماعيل، وبكر ابن العلاء القشيرى، وابن بكر، ومكى، وابن العربى، ومن الحنابلة القاضى أبو يعلى الكبير) (١)، بل إن من المفسرين من جعل من أعظم غاياته فى تصنيف تفسيره العناية بهذا النوع حتى سمى كتابه «بالجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآى الفرقان» فصدر العنوان عن كتابه كما ترى بالجامع لأحكام القرآن، وذلكم هو أبو عبد الله القرطبى فى تفسيره الضخم المشهور بين أيدى الناس حتى صار كل من يريد التوسع فى معرفة حكم من أحكام القرآن يرجع إلى هذا التفسير باعتباره أعظم مصدر للوفاء بهذه الطلبة.

منهج القرآن العظيم فى سياق أحكامه
بيّن العلماء منهج القرآن فى سياق أحكامه ويتلخص هذا المنهج فى نظرتين هما:
إحداهما: أن القرآن أتى جامعا للأحكام بطريقة كلية إجمالية دون النظر إلى واحد من أقسام الأحكام الشرعية. هذا ما نصّ عليه الشاطبى فى «الموافقات»، وذكر أن السنة جاءت مفسرة لأحكامه الكلية؛ ولذا تضمن القرآن الكليات المعنوية على الكمال، وهى الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وكذلك أتى بأصول العبادات والمعاملات، فكل ما استنبط من الأحكام بالسنة أو الإجماع أو القياس فإنما نشأ عن القرآن، واستدل الشاطبى لذلك، ثم ذكر أنه لا ينبغى فى الاستنباط الاقتصار على القرآن دون النظر فى شرحه وهو السنة (٢).
ولولا كلية التناول للأحكام لتضخم القرآن وعسر على الأمة حفظه. ولولا هذه الكلية ما اتصف القرآن بالمرونة والصلاحية لكل عصر، وكذلك لولاها ما حصل علماء المسلمين هذه الرتب العلية بالاجتهاد. هذه أولى النظرتين.
(١) البرهان فى علوم القرآن: (ج ٢ ص ٣).
(٢) الموافقات، للشاطبى: (ج ٤ ص ١٨٠ - ١٨٣).
 
١ ‏/ ١٧٤
 
أما ثانيتهما: هى أن القرآن أتى بأحكام مفصلة، وهذا هو القليل فى تناوله للأحكام، وتتمثل هذه النظرة فى مقولة السيوطى ونقله عن العز بن عبد السلام، قال: «قال عز الدين ابن عبد السلام فى كتاب «الإمام فى أدلة الأحكام»: (معظم آى القرآن لا يخلو عن أحكام مشتملة على آداب حسنة، وأخلاق جميلة، ثم من الآيات ما صرح فيه بالأحكام، ومنها ما يؤخذ بطريق الاستنباط، إما بلا ضم إلى آية أخرى كاستنباط صحة أنكحة الكفار من قوله: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٣)، وصحة صوم الجنب من قوله: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ إلى قوله: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ (٤) الآية، وإما به كاستنباط أن أقل الحمل ستة أشهر من قوله: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا، مع قوله: وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ (٥».
قال: (ويستدل على الأحكام تارة بالصيغة وهو ظاهر، وتارة بالإخبار مثل: أُحِلَّ لَكُمْ (٦) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ (٧)، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ (٨)، وتارة بما رتب عليها فى العاجل أو الآجل من خير أو شر، أو نفع أو ضر، وقد نوّع الشارع ذلك أنواعا كثيرة، ترغيبا لعباده وترهيبا، وتقريبا إلى أفهامهم، فكل فعل عظمه الشرع أو مدحه أو مدح فاعله لأجله أو أحبه أو أحب فاعله، أو رضى به أو رضى عن فاعله، أو وصفه بالاستقامة أو البركة أو الطيب، أو أقسم به أو بفاعله كالإقسام بالشفع والوتر، وبخيل المجاهدين، وبالنفس اللوامة، أو نصبه سببا لذكره لعبده أو لمحبته أو لثواب عاجل أو آجل، أو لشكره له، أو لهدايته إياه، أو لإرضاء فاعله، أو لمغفرة ذنبه وتكفير سيئاته، أو لقبوله، أو لنصرة فاعله، أو بشارته، أو وصف فاعله بالطيب، أو وصف الفعل بكونه معروفا، أو نفى الحزن والخوف عن فاعله، أو وعده بالأمن، أو نصب سببا لولايته، أو أخبر عن دعاء الرسول بحصوله، أو وصفه بكونه قربة، أو بصفة مدح كالحياة والنور والشفاء، فهو دليل على مشروعيته المشتركة بين الوجوب والندب، وكل فعل طلب الشارع تركه، أو ذمه أو ذم فاعله، أو عتب عليه أو مقت فاعله أو لعنه، أو نفى محبته أو محبة فاعله، أو الرضا به أو عن فاعله، أو شبه فاعله بالبهائم أو بالشياطين، أو جعله مانعا من الهدى، أو من القبول، أو وصفه بسوء أو كراهية، أو استعاذة الأنبياء منه أو أبغضوه، أو جعله سببا لنفى الفلاح، أو لعذاب عاجل أو آجل، أو لذم أو لوم أو ضلالة أو معصية، أو وصف بخبث أو
(٣) سورة المسد: ٤.
(٤) سورة البقرة: ١٨٧.
(٥) سورة لقمان: ١٤.
(٦) سورة البقرة: ١٨٧.
(٧) سورة المائدة: ٣.
(٨) سورة البقرة: ١٨٣.
 
١ ‏/ ١٧٥
 
رجس، أو لعن أو غضب، أو زوال نعمة، أو حلول نقمة، أو حد من الحدود، أو قسوة أو خزى أو ارتهان نفس، أو لعداوة الله ومحاربته، أو لاستهزائه أو سخريته، أو جعله الله سببا لنسيانه فاعله، أو وصفه نفسه بالصبر عليه أو بالحلم، أو بالصفح عنه، أو دعاء إلى التوبة منه، أو وصف فاعله بخبث أو احتقار، أو نسبه إلى عمل الشيطان أو تزيينه، أو تولى الشيطان لفاعله، أو وصفه بصفة ذم ككونه ظلما أو بغيا أو عدوانا أو إثما أو مرضا، أو تبرأ الأنبياء منه أو من فاعله، أو شكوا إلى الله من فاعله، أو جاهروا فاعله بالعداوة، أو نهوا عن الأسى والحزن عليه، أو نصب سببا لخيبة فاعله عاجلا أو آجلا، أو رتب عليه حرمان الجنة وما فيها، أو وصف فاعله بأنه عدو لله، أو بأن الله عدوه، أو أعلم فاعله بحرب من الله ورسوله، أو حمّل فاعله إثما، أو قيل فيه:
لا ينبغى هذا أو لا يكون، أو أمر بالتقوى عند السؤال عنه، أو أمر بفعل مضاده أو بهجر فاعله، أو تلاعن فاعلوه فى الآخرة أو تبرأ بعضهم من بعض، أو دعا بعضهم على بعض أو وصف فاعله بالضلالة وأنه ليس من الله فى شىء أو ليس من الرسول وأصحابه، أو جعل اجتنابه سببا للفلاح، أو جعله سببا لإيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين، أو قيل: هل أنت منته، أو نهى الأنبياء عن الدعاء لفاعله، أو رتب عليه إبعادا أو طردا أو لفظة «قتل من فعله» أو «قاتله الله»، أو أخبر أن فاعله لا يكلمه الله يوم القيامة، ولا ينظر إليه ولا يزكيه، ولا يصلح عمله ولا يهدى كيده أو لا يفلح، أو قيض له الشيطان، أو جعل سببا لإزاغة قلب فاعله، أو صرفه عن آيات الله وسؤاله عن علة الفعل. فهو دليل على المنع من الفعل ودلالته على التحريم أظهر من دلالته على مجرد الكراهة. وتستفاد الإباحة من لفظ الإحلال ونفى الجناح والحرج والإثم والمؤاخذة، ومن الإذن فيه والعفو عنه، ومن الامتنان بما فى الأعيان من المنافع ومن السكوت عن التحريم ومن الإنكار على من حرم الشيء مع الإخبار بأنه خلق أو جعل لنا، والإخبار عن فعل من قبلنا من غير ذم لهم عليه، فإن اقترن بإخباره مدح دل على مشروعيته وجوبا أو استحبابا). انتهى كلام الشيخ عز الدين (٩).

الأحكام الشرعية بين القطعية والظنية:
إن الأحكام الشرعية منها ما هو قطعى ومنها ما هو ظنى. فالقطعى قسمان: قسم يكفر جاحده وهو المعلوم من الدين بالضرورة؛ كوجوب الصلاة والزكاة وحرمة الزنا. وقسم
(٩) الإتقان فى علوم القرآن: (ج ٤ ص ٤٠ - ٤٣).
 
١ ‏/ ١٧٦
 
لا يكفر جاحده، وتتحقق القطعية فيه بأحد أمرين: بالإجماع، ويكون لا سند له غيره كإجماعهم على أن الرق من موانع الإرث، ولم يكفر جاحده للاختلاف الشديد فى مسائل الإجماع (وقوعه- وجوازه)، أو بالتواتر عند قوم وعدمه عند آخرين كالبسملة آية من أول كل سورة.
والظنى: وهو كل حكم دلّ عليه الظنى الثبوت أو الدلالة، وهو كثير جدا فى الفروع، وله أثر عظيم فى اجتهاد الأمة، ومن فوائده العظيمة:
١ - تحقيق رحمة الأمة بتوسيع الأمر على أفرادها من خلال الفقهاء، حتى يأخذ كل فرد ما يلائمه، ما لم يكن بلغ درجة الاجتهاد.
وقد عنى عدد من العلماء بهذه الفائدة فصنف فيها أبو عبد الله الدمشقى (رحمة الأمة فى اختلاف الأئمة)، والشيخ عبد الوهاب الشعرانى (الميزان الكبرى).
٢ - ما قدمه علماء الأمة من مسائل فقهية فرضية تفيد بشدة فى واقعنا المعاصر سواء بأحكام أم بطرق معالجة الفقهاء فيها لعملية استنباط الأحكام. والله أعلم.
أ. د/ إبراهيم عبد الرحمن خليفة
مصادر البحث والاستزادة فى الموضوع
(١) الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى.
(٢) البرهان فى علوم القرآن للزركشى.
(٣) الجامع الصحيح للبخارى.
(٤) جمع الجوامع لابن السبكى.
(٥) حاشية الشيخ بخيت المطيعى على نهاية السول للأسنوى، ط السلفية.
(٦) شرح الكوكب المنير لابن النجار تحقيق الدكتور محمد الزحيلى والدكتور نزيه حماد، مكتبة العبيكان الرياض السعودية.
(٧) مختصر ابن الحاجب.
(٨) منهاج الوصول إلى علم الأصول للبيضاوى.
(٩) الموافقات لأبى اسحاق الشاطبى، تحقيق أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، الطبعة الأولى، نشر دار ابن عفان، الخبر، العقربية، السعودية.
 
١ ‏/ ١٧٧
 
قصص القرآن
القصص: مصدر كالقص أو اسم مصدر منه. وقصّ فلان الشيء- من باب قتل- إذا تتبع أثره، وفى التنزيل: وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ (١)، وخرج فلان فى إثر فلان قصصا ومنه:
فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصًا
(٢)، وقصّ الخبر: حدث به على وجهه، والقصة- بالكسر- الشأن والأمر، ولم يأت فى القرآن لفظ القصة ولكن أتى لفظ (القصص): إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ (٣)، وسواء كان هذا اللفظ مصدرا أو اسم مصدر فهو بمعنى المفعول أى: الخبر المقصوص المحدّث به على وجهه. وقد أخطأ بعض الباحثين عند ما يطلبون فى القصص القرآنى أن يستكمل أركان القصة بالمعنى المحدث التى هى مستمدة من الخيال ومبنية على قواعد فنون الكتابة (٤)؛ وذلك لأنهم لم يفرقوا بين القصة بمعنى الحكاية والقصة بمعنى الخبر المحدث به على وجهه، والثانى هو المراد فى القصص القرآنى؛ لأن الأشخاص والزمان والمكان ليست بالضرورة أركانا للخبر المحدث به، فقد يبهم المكان والزمان كما فى قوله تعالى:
وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (٥)، وقد يبهم الزمان كما فى قوله تعالى: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (٦)، وقد يبهم الشخص أو الأشخاص كما فى قوله تعالى: إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (٧)، فالذى يجب وجوده فى القصص القرآنى هو الحدث والعبرة، أما بقية عناصر القصة المحدثة فإنما توجد بحسب الحاجة إليها وأهميتها فى القصة (الخبر)، فلو كان للشخصية مدخل كبير فى الحدث فإنها تذكر كمريم- ﵍ فى قصتها، والهدهد فى قصة سبأ، وكثيرا ما تأتى الشخصية بصورة التنكير كما فى قصة النملة، لأن الحدث مبناه منطق النملة وسماع سليمان ﵇ لها. وقد يهتم بإبراز الزمان كما فى قصة أهل الكهف فى قوله تعالى: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (٨) وكذلك فى قوله تعالى:
فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ (٩) فالزمان المذكور إنما يذكر بمقدار ما يحتاجه الحدث.
(١) سورة القصص (١١).
(٢) سورة الكهف: (٦٤).
(٣) سورة آل عمران (٦٢).
(٤) انظر: تاج العروس واللسان والمصباح المنير والمعجم الوسيط فى هذه المادة.
(٥) سورة يوسف (١٦).
(٦) سورة يوسف (٩٩).
(٧) سورة القلم (١٧).
(٨) سورة الكهف (٢٥).
(٩) سورة البقرة (٢٥٩).
 
١ ‏/ ١٧٨
 
وكذلك المكان كمصر والأحقاف والكهف، وهذه تعدّ الميزة الأولى فى القصص القرآنى التى تميزه عن سائر القصص.
أما الميزة الثانية للقصص القرآنى فهى الواقعية الصادقة الحقة، فليس فيه شىء من نسج الخيال والأساطير، أو ما يكذبه الواقع أو التاريخ، وسواء فى هذا الصدق ما جاء لضرب المثل أو لم يكن كذلك، وإن جوّز بعض علمائنا التقدير فى الأول فى المثل مع احتمال التحقيق، منهم: العلامة أبو السعود العمادى فى قصة القرية الآمنة فى سورة النحل (١٠) وفى قصة الرجلين (١١)، ولكن هذا لا يصح، فإن مجرد القراءة بدون تأمل تكشف زيف احتمال التقدير فى القصتين. ولكنّ العلامة أبا السعود لم يكن يعلم أن خبث الطوية سيدفع بعضهم إلى ادعاء تبنى الإسلام للأساطير متبعين فى ذلك خطوات أعداء الإسلام.
وثالثة هذه الميزات تغيى القرآن فى قصصه أسمى الغايات، فلا يستهدف كغيره من القصص الترويح ولا الإيناس حتى ولو طلب بعض أصحاب النبىّ ﷺ ذلك منه، فيردهم القرآن عن ذلك بقوله تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ (١٢). وكذلك عند ما قالوا له ﷺ: لولا حدثتنا. فنزل قوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتابًا مُتَشابِهًا (١٣) ورويت روايات أخرى فى سبب نزول الآية- مع التسليم بفرض صحتها- نجد أن الصحابة إنما سألت ذلك لدفع الملال، فدلهم- سبحانه- على أحسن القصص.
وكذلك لا يقصد القصص القرآنى سرد الأحداث التاريخية لمجرد ذكر التاريخ أو المساهمة فى دراسات العمران البشرى، بل يقصد ما هو أسمى، وهو وضع المعيار لما يجب أن يكون وكيف تكون عاقبة من يخالفه.
ولقد استوفى صاحب «التحرير والتنوير» المزيد مما ذكرنا من ميزات القصص القرآنى، فقد ذكر أن القصص القرآنى لا تقف أهدافه عند العبرة والعظة مما يقع لأهل الصلاح وأهل الفساد وعاقبة كل، بل يتعدى ذلك ليأخذ من كل قصة أشرفها وأسماها ليكون منزها عن التفكه؛ ولذا تأتى القصص متفرقة على غير سنن كتب التاريخ لمناسبة الفوائد العظيمة في كل موضع، وهذا يجعل القصة القرآنية تكتسب صفتين هما: صفة البرهان، وصفة البيان.
وذكر من ميزات القصص القرآنى نسجه على أسلوب الإيجاز يجعله شبيها بالتذكير أقوى، مثال ذلك قوله تعالى: فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (١٤) فجاء قوله لهم موجزا ليناسب مقام التذكير.
(١٠) انظر: تفسيره (إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم) أول آيات هذه القصة (ج ٥ ص ١٤٤).
(١١) السابق نفسه فى أولى آيات هذه القصة (ص ٢٢١).
(١٢) سورة يوسف (٣).
(١٣) سورة الزمر (٢٣).
(١٤) سورة القلم (٢٦ - ٢٨).
 
١ ‏/ ١٧٩
 
ومن ميزاته أيضا التى ذكرها: طىّ ما يقتضيه الكلام الوارد فى قوله تعالى:
وَاسْتَبَقَا الْبابَ (١٥) فقد طوى حضور سيدها وطرقه للباب وإسراعهما إليه لفتحه.
ومن ميزاته أيضا: أنه- القصص- مثبت بأسلوب بديع إذ ساقها فى مظان الإيقاظ مع المحافظة على الغرض الأصلى من تشريع، فتوفرت فى ذلك عشر فوائد:
الأولى: كانت غاية علم أهل الكتاب نقل أخبار الأولين، فلما جاء القرآن بقصصه متحديا ومعجزا لهم؛ لأن هذه الأخبار كان لا يعلمها إلا الراسخون فى العلم منهم فقال تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا (١٦) فنفى عن المسلمين صفة الأمية التى ادعتها اليهود، وصفة الجهل التى ادعتها النصارى.
الثانية: تكليل هامة التشريع الإسلامى بذكر تاريخ المتشرعين وذلك من أدب الشريعة؛ لأنه لا يتعرض لقصص السابقين إلا لذكر ثبات إيمانهم وصبرهم، كما ذكر فى قصة أهل الكهف، ولا يذكر نسبهم ولا حسبهم.
الثالثة: فائدة ظهور المثل العليا فى الفضيلة وزكاء النفوس كفائدة من التاريخ وترتب الأحداث والعلاقة بين التعمير والتخريب والشر والخير.
الرابعة: عظة المشركين بإعلام ما حدث لأسلافهم ليعودوا لربهم فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧).
الخامسة: استخدام القصص القرآنى لأسلوب التوصيف والمحاورة الذى لم يعتده العرب، فهم يعترفون بأنه أسلوب بديع، ولكنهم لا يستطيعون الإتيان بمثله.
السادسة: توسيع علم العرب الذين كانوا يتصفون بالجهل والأمية باطلاعهم على أحوال الأمم السابقة ليساعدهم ذلك فى تطهير أخلاقهم وتهذيبها.
السابعة: تعويد المسلمين على سعة العالم وعظمة الأمم، والاعتراف لكل ذى حق بحقه؛ فإذا علمت الأمة ذلك جمعت ميزات هذه الأمم وما يلائم حياتها.
الثامنة: إنشاء همة السعى إلى سيادة العالم فى نفوس المسلمين كما سعى إلى ذلك أمم سابقة.
التاسعة: معرفة أن قوة الله فوق كل قوة، فيساعد ذلك المسلمين على التمسك بوسيلتى البقاء: الاستعداد، والاعتماد، وهما وسيلتا السلامة.
(١٥) سورة يوسف (٢٥).
(١٦) سورة هود (٤٩).
(١٧) سورة الأعراف (١٧٦).
 
١ ‏/ ١٨٠
 
العاشرة: تحصيل الفوائد التبعية مثل معرفة تاريخ التشريعات والحضارات الذى يفيد فى الإلمام بفوائد المدنية. كعلمنا بأن الشريعة القبطية كان يسترق فيها السارق من قصة يوسف فى قوله تعالى: ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ (١٨).
ثم أجاب عن تساؤل: لماذا لم يكتف بالقصة الواحدة فى تحصيل المقصود منها، وما فائدة التكرار فى سور كثيرة؟
فذكر أن هذا الهاجس قد يكون تطرق من المناهج الإلحادية فى نظرتها للقرآن. ولكننا نقول: إن القرآن أقرب إلى الوعظ منه إلى التأليف، فالخطيب لو قام يعظ لو أعاد المعانى لم يعد الألفاظ، فالقرآن تارة تأتى القصة للبرهان وتارة للتبيان فيحصل بها مقاصد الخطبة والوعظ وتحصل معه مقاصد أخرى:
أحدها: الرسوخ فى الأذهان.
الثانى: إظهار البلاغة بتعدد الأساليب البديعة فى التعبير عن الغرض الواحد، فذلك وجه من وجوه الإعجاز.
الثالث: أن يسمع من تأخر إسلامه القصة التى نزلت فى وقت سبق إسلامه؛ لأن سماعه للقصة عند نزولها أوقع فى نفسه.
الرابع: لم يكن المسلمون كلهم يحفظون القرآن بأكمله، بل يحفظ البعض بعض السور، وعليه يكون من حفظ سورة فيها القصة لم يفت الآخر الذى حفظ سورة أخرى معرفة نفس القصة؛ لأنها مكررة فى السورة التى حفظها.
الخامس: أن فى كل مرة تكرر فيها القصة يذكر فيها ما لم يذكر فى غيرها؛ وذلك تجنبا للتطويل ومناسبة للحالة المقصودة من سامعيها، فتارة تساق للمؤمنين، وتارة تساق للكافرين، وبذلك يتفاوت الأسلوب بين الإطناب والإيجاز على حسب المقام، فقصة موسى ﵇ التى بسطت فى سورة طه والشعراء أوجزت فى سورة الفرقان فى آيتين هما: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيرًا (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيرًا (١٩) انتهى. تحرير الطاهر بن عاشور.
ولا شك أن الفوائد التى ذكرها بعضها أعظم من بعض، وإن لاحظنا العموم عليها بحيث تشمل جميع القصص القرآنى، ولكن هذا لا يمنع أن يكون لكل قصة فائدتها الخاصة بها. ومن أراد ذلك فليطالع على سبيل المثال ما ذكره القاسمى فى تفسيره لسورة يوسف فى الآية الأخيرة منها.
أ. د./ إبراهيم عبد الرحمن خليفة
(١٨) سورة يوسف (٧٦).
(١٩) سورة الفرقان: (٣٥ - ٣٦).
 
١ ‏/ ١٨١
 
مصادر البحث والاستزادة فى الموضوع
(١) إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم للعلامة أبى السعود العمادى، ط القاهرة.
(٢) التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور.
(٣) تقريب التهذيب للحافظ ابن حجر العسقلانى، تحقيق الشيخ محمد عوامة- نشر دار الرشيد- سوريا، حلب.
(٤) جامع البيان عن تأويل آى القرآن، لابن جرير الطبرى.
(٥) الفن القصصى فى القرآن، للدكتور محمد خلف الله. طبع القاهرة.
(٦) القاموس المحيط للفيروزآبادى وشرحه، تاج العروس للزبيدى.
(٧) القصص القرآنى فى مفهومه ومنطوقه للأستاذ عبد الكريم الخطيب، ط دار المعرفة، بيروت.
(٨) المستدرك على الصحيحين لأبى عبد الله الحاكم وتلخيصه للحافظ الذهبى.
(٩) محاسن التأويل للقاسمى ط مؤسسة التاريخ العربى بيروت، لبنان.
(١٠) المعجم الوسيط، وضع مجمع اللغة العربية- القاهرة.
 
١ ‏/ ١٨٢
 
محاورات القرآن وجدله
المحاورة: مصدر من (حاور) بمعنى تراجعا الكلام تقول: حاور الرجل صاحبه أى:
راجعه الكلام. كذا فى «المصباح».
وفيه أيضا: جدل الرجل جدلا، من باب تعب: إذا اشتدت خصومته، وجادل مجادلة وجدالا: إذا خاصم بما يشغل عن ظهور الحق ووضوح الصواب. وفى لسان حملة الشرع:
مقابلة الأدلة لظهور أرجحها، وهو محمود إن كان للوقوف على الحق وإلّا فمذموم.
والمحاورة: تكون خصومة أو لا، وكذلك تكون فى مقابلة دليل أو لا. أما الجدل فعلى خلاف المحاورة فى الاثنين. فكل جدل حوار لا العكس. ومن استعمال الحوار فى الخصومة قوله تعالى: قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ (١)، ومن مقابلة الدليل قصة المجادلة لزوجها فى الظهار، فى قوله تعالى:
وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما (٢). ولم يأت الحوار الخالى من الخصومة ومن مقابلة الدليل فى القرآن.
والمحاورة المستعملة فى لغة الكاتبين فى عصرنا لا يكادون يستعملونها فى معنى الجدل، وكأن الجدل ليس فردا من أفرادها؛ لأنهم يقصرونه على اللدد فى الخصومة، مع أن الجدل منه ما هو محمود حسن، ومنه ما هو مذموم قبيح، فمن المذموم: جدال الكفار بغير علم وهم أتباع للشيطان فيه؛ لأنه هو الذى بدأه فى استكبار السجود لآدم قال تعالى فى هذا النوع: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ (٣) ومن الجدل المحمود الحسن: ما كان مبعثه الرحمة والشفقة، كما فى قوله تعالى: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٤)، والجدال فى نصفة النفس كما فى قصة المرأة المجادلة عن نفسها.
وأعظم الجدل المحمود هو ما كان فى نصرة الحق ودحض الباطل كما فى أمره ﷾ لنبيه: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (٥)، إذا كان الخصم ليس لددا مصرا، أما إذا كان كذلك فيكون الصواب قوله تعالى: وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦).
(١) سورة الكهف (٣٧).
(٢) سورة المجادلة (١).
(٣) سورة الحج (٨).
(٤) سورة هود (٧٤) والآيات حتى (٧٦).
(٥) سورة النحل (١٢٥).
(٦) سورة الحج (٦٨).
 
١ ‏/ ١٨٣
 
ومن الكاتبين من خصوا هذا النوع السابق باسم الجدل فى القرآن. ولقد أجاد الإمام السيوطى فى كلامه عن هذا النوع من علوم القرآن فذكر ما ملخصه: أن نجم الدين الطوفي أفرد الجدل فى القرآن بالتصنيف، ونقل عن العلماء: أن القرآن اشتمل على جميع أنواع البراهين والأدلة، ولكن أوردها على عادة العرب مبتعدا عن دقائق طرق المتكلمين لأمرين هما: قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ (٧)، وأن مخاطبته فى محجة خلقه جاءت فى أجلى صورة ليفهمها العامة لا القليلون، فتلزم الجميع الحجة. ونقل عن ابن أبى الأصبع أن الجاحظ زعم أن المذهب الكلامى لا يوجد منه شىء فى القرآن. ورد عليه بأنه مشحون به.
ثم عرف الجدل بأنه: (احتجاج المتكلم على ما يريد إثباته بحجة تقطع المعاند له فيه على طريقة أرباب الكلام). ومنه نوع منطقى تستنتج منه النتائج الصحيحة من المقدمات الصادقة، فالإسلاميون ذكروا أن أول سورة الحج إلى قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٨) خمس نتائج تستنتج من عشر مقدمات: قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ (٩)؛ لأنه قد ثبت عندنا بالخبر المتواتر أنه تعالى أخبر بزلزلة الساعة معظما لها، وذلك مقطوع بصحته، لأنه خبر أخبر به من ثبت صدقه عمن ثبتت قدرته، منقول إلينا بالتواتر، فهو حق، ولا يخبر بالحق عما سيكون إلا الحق، فالله هو الحق. وأخبر تعالى أنه يحيى الموتى؛ لأنه أخبر عن أهوال الساعة بما أخبر، وحصول فائدة هذا الخبر موقوفة على إحياء الموتى، ليشاهدوا تلك الأهوال التى يعملها الله من أجلهم؛ وقد ثبت أنه قادر على كل شىء، ومن الأشياء إحياء الموتى، فهو يحيى الموتى، وأخبر أنه على كل شىء قدير، لأنه أخبر أنه من يتبع الشياطين، ومن يجادل فيه بغير علم يذقه عذاب السعير، ولا يقدر على ذلك إلا من هو على كل شىء قدير، فهو على كل شىء قدير، وأخبر أن الساعة آتية لا ريب فيها، لأنه أخبر بالخبر الصادق أنه خلق الإنسان من تراب إلى قوله: لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا (١٠)، وضرب لذلك مثلا بالأرض الهامدة التى ينزل عليها الماء، فتهتز وتربو، وتنبت من كل زوج بهيج، ومن خلق الإنسان على ما أخبر به فأوجده بالخلق ثم أعدمه بالموت، ثم يعيده بالبعث، وأوجد الأرض بعد العدم فأحياها بالخلق، ثم أماتها بالجدب، ثم أحياها بالخصب، وصدق خبره فى ذلك كله بدلالة الواقع المشاهد على المتوقع الغائب؛ حتى انقلب الخبر عيانا صدق خبره فى الإتيان بالساعة، ولا يأتى بالساعة إلا من
(٧) سورة إبراهيم (٤).
(٨) سورة الحج (٧).
(٩) سورة الحج (٦).
(١٠) سورة الحج (٥).
 
١ ‏/ ١٨٤
 
يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ لأنها عبارة عن مدة تقوم فيها الأموات للمجازاة، فهى آتية لا ريب فيها، وهو- سبحان وتعالى- يبعث من فى القبور (١١).
وقال: وقال غيره: استدل- سبحانه- على المعاد الجسمانى بضروب أحدها: قياس الإعادة على الابتداء كما فى قوله تعالى:
كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ (١٢)، وثانيها:
قياس الإعادة على خلق السموات والأرض بطريق الأولى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ (١٣)، وثالثها: قياس الإعادة على إحياء الأرض بعد موتها بالمطر والنبات، ورابعها: قياس الإعادة على إخراج النار من الشجر الأخضر، وخامسها: أن الاختلاف جبلة فى الدنيا، فلا بد من حياة أخرى غير هذه الحياة، يرتفع فيها الخلاف والعناد، وهذا ما وعد الله به فى قوله تعالى:
وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ (١٤).
ثم ذكر استدلالهم على أن الله صانع العالم، وهو واحد بدليل التمانع فى قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا (١٥).
ثم أخذ السيوطى يبين طرفا من المصطلحات المعروفة فى علم الجدل، فذكر منها: السبر والتقسيم، ومن أمثلته فى القرآن قوله تعالى: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ (١٦) الآيتين، فقد ردّ الله- سبحانه- فى الآيتين على الكفار فى تحريمهم ذكور الأنعام بالسبر والتقسيم، وكأنه يبين لهم أنه لا تصح أى علة للتحريم، فإما أن تكون العلة الأنوثة، أو الذكورة، أو اشتمال الرحم لهما، أو لا تدرى لها علة، فهو التعبدى، وهم لا يتلقون عن الله ليزعموا ذلك.
ومنها- أى المصطلحات: القول بالموجب.
ونقل عن ابن أبى الأصبع تعريفه: بأنه رد كلام الخصم من فحوى كلامه.
وقال غيره هو قسمان: أحدهما: أن تقع صفة فى كلام الغير كناية عن شىء أثبت له حكما، فيثبتها لغير ذلك الشيء كقوله تعالى:
يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ (١٧)، فالأعز فى كلام المنافقين كناية عنهم، فنثبتها لغير ذلك وهو الله ورسوله (فالأعز) الله رسوله ﷺ و(الأذل) المنافقون.
ثانيهما: حمل لفظ وقع فى كلام الغير على خلاف مراده مما يحتمله بذكر متعلقه.
وذكر له مثالا ظفر به فى قوله تعالى:
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ (١٨) فحمل لفظ (أذن) التى للسبب، على (الأذن) الحاسة.
(١١) بديع القرآن: (ص ٣٧، ٤٨).
(١٢) سورة الأنبياء (١٠٤).
(١٣) سورة يس (٨١).
(١٤) سورة الأعراف (٤٣).
(١٥) سورة الأنبياء (٢٢).
(١٦) سورة الأنعام (١٤٣).
(١٧) سورة المنافقون (٨).
(١٨) سورة التوبة (٦١).
 
١ ‏/ ١٨٥
 
ومنها: التسليم وهو قبول وقوع المحال افتراضا ثم التدليل على عدم فائدته وإن وقع كما فى قوله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ (١٩).
فلما كان الواقع على خلاف ذلك- مع التسليم فرضا بوقوعه- فلا يصح وجود إلهين لما يلزم منه المحال.
ومنها: الإسجال وهو: الإتيان بألفاظ تسجل على المخاطب وقوع ما خوطب به، كما فى قوله تعالى: رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ (٢٠).
ومنها: الانتقال وهو: أن ينتقل من استدلال لآخر لعدم فهم الخصم له كما فى قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ (٢١)، بعد عدم فهمه لقوله: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، فقال وهو لا يفهم: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ.
ومنها: المناقضة وهو: تعليقه على مستحيل إشارة لاستحالته، كما فى قوله تعالى: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ (٢٢).
ومنها: مجاراة الخصم، كما فى قوله تعالى: قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ (٢٣). وبها يعسر عليهم بعد هذا التبكيت والإلزام المجاراة فى الجدل (٢٤).
أ. د/ إبراهيم عبد الرحمن خليفة
(١٩) سورة المؤمنون (٩١).
(٢٠) سورة آل عمران (١٩٤).
(٢١) سورة البقرة (٢٥٨).
(٢٢) سورة الأعراف (٤٠).
(٢٣) سورة إبراهيم (١٠، ١١).
(٢٤) الإتقان فى علوم القرآن: (ج ٤ ص ٦٠: ٦٦).
 
١ ‏/ ١٨٦
 
أقسام القرآن
القسم: الحلف، اسم مصدر من أقسم إقساما: إذا حلف. كذا فى «المصباح» - وهو الغاية القصوى فى الكلام، ولذا لا يخاطب به خالى الذهن، وإنما يخاطب به المكذب والمنكر. وعلماء المعانى يجعلونه من الإنشاء الذى ليس لنسبته مدلول فى الخارج بل معناه قائم بنفس المتكلم.
وأركانه أربعة: (مقسم- ومقسم به- مقسم عليه- وأداة القسم). وقد أورد بعضهم شبهة مفاداها ما حكمة قسمه- سبحانه- أو قسم نبيه ﷺ؛ لأن قسمه- سبحانه- وقسم نبيه ﷺ لمؤمن فلا حاجة له، أو لكافر فلا ينفعه بل ينفعه الدليل؟ وقد أجاب السيوطى عن هذه الشبهة بأن لغة العرب من عادتها القسم عند التأكيد، والقرآن نزل بلغتهم، ونقل جواب القشيرى بأن ذكر القسم لكمال الحجة والتأكيد؛ لأن الحكم يفصل فيه بالشهادة أو القسم، وقد جاء بهما- سبحانه- فى كتابه فقال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ (١)، وقال ﷾: قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ (٢).
وأرى أن أمثل ما يجاب به: أن القسم إنما جاء لفرط أهمية المقسم عليه عند المقسم، وهذه فائدة يجدر بك أن تبينها للمؤمن والكافر على حد سواء.
وجواب آخر أعظم من السابق: أن القسم منه دليل وبرهان على قدرته على فعل المقسم عليه.

أركان القسم:
أولا: المقسم: المقسم فى القرآن أربعة:
(أ) الله تعالى نفسه، وهو كثير ولب موضوعنا كقوله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٣).
(ب) رسول الله ﷺ أو غيره من الرسل كقوله تعالى: قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ (٤)، وقول إبراهيم: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥).
(ج) غير الرسل كما فى قوله تعالى: إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (٦).
(د) غير البشر، كالذى جاء عن رأس الكفر
(١) سورة آل عمران (١٨).
(٢) سورة يونس (٥٣).
(٣) سورة الحجر (٩٢، ٩٣).
(٤) سورة يونس: (٥٣).
(٥) سورة الأنبياء (٥٧).
(٦) سورة القلم (١٧).
 
١ ‏/ ١٨٧
 
إبليس فى قوله تعالى: قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٧).
ثانيا: المقسم به: جاء القسم فى القرآن بالله- سبحانه- أو أحد صفاته، أو بصفة فعله كبناء السماء وطحو الأرض، وبالمخلوقات كالصافات والذاريات والطور، وحياة النبى ﷺ خاصة فى قوله تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٨). فالحلف به- ﷾ أو بصفته أو صفة فعله لا إشكال فيها، وينعقد اليمين بها، ولزمته الكفارة فى الحنث، ولكن الكلام فى حلفه بمخلوقاته- سبحانه. والجواب ذكره السيوطى فذكر أوجها له:
أحدها: أنه على حلف مضاف تقديره (ورب التين).
والثانى: العرب تعظم الأشياء وتقسم بها، فنزل بلغة العرب.
والثالث: أن القسم بما يعظمه المقسم، وعليه فالقسم بالمخلوق هو قسم بالخالق.
ونقل السيوطى مثل هذا المعنى عن ابن أبى الأصبع فى (أسرار الفواتح) - ثم ذكر آثارا عن الصحابة والتابعين فى القسم بالنبى ﷺ، وأنه كان لبيان مكانته عند ربه- سبحانه.
وأرى: أن ثانى الأجوبة التى ذكرها السيوطى لا معنى له؛ ولذا لم يذكره الحافظ ابن حجر مع استيفائه لأحاديث هذه المسألة فأورد الجواب الأول وهو حذف المضاف، والثالث: وهو أنه خاص بالله لتعظيم المقسم به. ونقل الحافظ عن ابن عبد البر جعل لفظ (أفلح وأبيه) من الحديث غير محفوظة، وتردها الأحاديث الصحيحة. وقد ورد فى غير حديث مرفوع القسم بقوله: (وأبيك) فى مثل إجابته عن أى الصدقة أفضل؟ فقال:
«وأبيك لتنبأن». فإذا ثبت ذلك، فالجواب عليه بأجوبة:
الأول: أنه كان يجرى على ألسنتهم دون قصد القسم والمنهى عنه قصد القسم بها.
وإليه مال البيهقى وارتضاه النووى.
والثانى: أنه يقع فى كلامهم للتعظيم والتأكيد، والنهى كان عن التعظيم. فمن أمثلة ما وقع فى كلامهم للتأكيد لا للتعظيم قول الشاعر:
فإن تلك ليلى استودعتنى أمانة ... فلا وأبى أعدائها لا أذيعها
فلا يمكن أن يكون معظما لأبى أعدائها، بل قصد تأكيد كلامه.
والثالث: أن هذا كان جائزا ثم نسخ، قاله الماوردى، وحكاه البيهقى، وقال السبكى: أكثر الشّراح عليه. وقال ابن العربى: وروى أن
(٧) سورة ص (٨٢).
(٨) سورة الحجر (٧٢).
 
١ ‏/ ١٨٨
 
النبى ﷺ كان يحلف بأبيه ثم نهى عن ذلك.
وقال المنذرى: دعوى النسخ ضعيفة لعدم تحقق التاريخ.
والرابع: أن فى الجواب حذفا تقديره (أفلح ورب أبيه). قاله البيهقى.
والخامس: أنه للتعجب. قاله السهيلى.
والسادس: أنه خاص بالشارع دون أمته.
ورد بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال.
ثم تكلم الحافظ ابن حجر عن القسم بغير الله، وذهب إلى أنه لا ينعقد، ونقل عن بعض الحنابلة استثناءهم للحلف بالنبىّ ﷺ القول بالانعقاد فى الحلف به ﷺ ووجوب الكفارة فى الحنث، لأنه أحد ركنى الشهادة. وأطلق ابن العربى النسبة لمذهب أحمد ورد هذا.
ثم استنبط من الحديث المشروح- (أفلح وأبيه) - أن من قال: إن فعلت كذا فهو يهودى أو نصرانى. انعقد يمينه. ثم ذكر عن ابن المنذر أنه نقل الخلاف فى الحلف بغير الله، فنقل عن طائفة أن النهى خاص بأيمان الجاهلية لتعظيمهم فيها الأوثان، فهذه يأثم صاحبها ولا تنعقد.
وأما ما كان يؤول إلى تعظيمه- ﷾ والقربة إليه ليس داخلا فى النهى، ومن قال به أبو عبيد وطائفة، ودليله إيجاب الصحابة على الحالف بالهدى والصدقة والعتق، وهذا يعنى أنهم فهموا النهى ليس عاما، وتعقبه ابن عبد البر بأنه ليس حلفا.
ونقل عن الطبرى عدم انعقاد الحلف بغير الله، وأن ابن عباس علل قسمه- سبحانه- بالمخلوقات ليعجب بها المخلوقين ويعرفهم قدرته لعظم شأنها عندهم. ونقل الإجماع عن ابن هبيرة على انعقاد الحلف بالله- والاتفاق على عدم جواز الحلف بمعظم، ونقل انفراد أحمد بانعقاد الحلف بالنبى ﷺ، ونقل عن عياض عدم الخلاف بين الفقهاء من انعقاد الحلف بالله أو بصفاته إلا ما روى عن الشافعى باشتراط نية الحالف بالصفات.
وهذا النقل عن الشافعى غير صحيح؛ لأن الشافعى يشترط النية فى ما يصح إطلاقه عليه- ﷾ وعلى غيره. ونقل عن وجه للشافعية أن اليمين الصريح عندهم بلفظ (الله)، وعن المالكية التعميم، وكذلك الحنابلة (٩).
ثالثا: أداة القسم: الغالب فيها أن تكون فعلا كأقسم، ويجب حذف هذا الفعل من الواو القسمية ك (والله)؛ لأن هذه الواو لا تدخل إلّا على الاسم الظاهر، وكذلك يجب حذفه مع التاء، وهى مختصة بلفظ الجلالة (تالله) وتفيد مع القسم معنى التعجب كقول أخوة يوسف: تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ (١٠)، وغالبا يذكر الفعل مع الباء القسمية ك (أقسم
(٩) فتح البارى: (ج ١١ ص ٥٣٣ - ٥٣٥).
(١٠) سورة يوسف (٨٥).
 
١ ‏/ ١٨٩
 
بالله لأفعلن كذا).، وقلما يحذف كما فى قوله تعالى: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (١١).
ولقد ذكر جار الله الزمخشرى الفرق بين الباء والتاء: أن الباء الأصل، والتاء مبدلة من الواو التى مبدلة منها، وفى التاء زيادة معنى التعجب (١٢). فالغالب فى أداة القسم ائتلافها من فعل وحرف على ما وصفنا.
وقد يكون القسم جملة اسمية، فيحذف خبرها وجوبا إذا كان المبتدأ نصا فى اليمين كقولهم: (لعمر الله لأفعلن كذا)، وقوله تعالى:
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٣) وتقدير المحذوف: يمينى أو قسمى، فإن لم يكن نصا فى اليمين أو القسم جاز حذف الخبر وذكره، كما فى قولهم: (عهد الله لأفعلن كذا). نصّ على ذلك ابن عقيل فى شرحه «لألفية ابن مالك».
و«فى حاشية الخضرى» شرح معنى قولهم: (نصا فى القسم) بأن يكثر ويغلب استعماله فى القسم. وبيّن أن (عهد الله) يعتبرها بعضهم (نصا فى القسم)، فلا إشكال فى تسوية الفقهاء بينها وبين (العمر)؛ لأنهما كناية يمين، ولا ينعقد بهما إلّا مع النية (١٤) وقد تحذف أداة القسم والمقسم به معا ويدلّ عليهما باللام الموطئة للقسم كقوله تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيرًا (١٥)، وقد يحذفان فلا يدلّ عليهما إلّا المعنى، قال السيوطى نحو: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها (١٦).
رابعا: المقسم عليه: الأصل فيه وهو جواب القسم، أن يذكر كما سبق فى الأمثلة، وقد يحذف، فقد ذكر أبو على الفارسى أن الألفاظ الجارية مجرى القسم قسمان:
أولهما: التى كغيرها من الأخبار وليست بقسم، فلا تجاب بجواب، كما فى قوله:
وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا (١٧). فتجوز أن تكون قسما أو حالا للخلو من الجواب.
وثانيهما: ما يتلقى بجواب القسم كقوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ (١٨). بل يحذف جواب القسم مع هذا الثانى لحكمة. وقد بيّن شمس الدين ابن القيم فى (التبيان فى أقسام القرآن) أن القسم فى القرآن بأمور: على أمور، فيقسم- سبحانه- بذاته وصفاته، وآياته المستلزمة لذاته وصفاته، وبعض المخلوقات ليدل على عظيم آياته، ثم بين أن الغالب على القسم الجملة الخبرية، وقد تكون طلبية كقوله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩)، وقد
(١١) سورة ص (٨٢).
(١٢) الكشاف (ج ٣ ص ١٤).
(١٣) سورة الحجر (٧٢).
(١٤) حاشية الخضرى على شرح ابن عقيل (ج ١ ص ١٠٧).
(١٥) سورة آل عمران (١٨٦).
(١٦) سورة مريم (٧١).
(١٧) سورة البقرة (٩٣).
(١٨) سورة النور (٥٣).
(١٩) سورة الحجر (٩٢، ٩٣).
 
١ ‏/ ١٩٠
 
يراد تحقيق المقسم عليه، فيكون من باب الخبر، وقد يراد به تحقيق القسم.
والأشياء الواضحة الجلية يقسم بها لا عليها، ويجوز ذلك فى القرآن. وذكر أن فى القرآن تارة يذكر جواب القسم، وتارة يحذف، والأول الغالب. والحالف لا يعيد المقسم عليه ولو كرر القسم، ولما كان القسم يكثر فى الكلام حذف فعله واكتفى بالباء، ثم حذفت وعوض عنها بالواو فى الأسماء الظاهرة والتاء فى أسماء الله. فسبحانه وتعالى يقسم على أصول الإيمان وأن الرسول حق، وأن الجزاء والوعد والوعيد حق، وحال الإنسان.
فمن الأول: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (٢٠) إلى قوله: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٢١)، ومن الثانى:
يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٢)، ومن الثالث: وَالذَّارِياتِ ذَرْوًا (٢٣) إلى قوله تعالى: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٢٤)، ومن الرابع: وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (٢٥).
ثم ذكر أن الجواب يحذف تارة ولا يراد ذكره، بل يراد تعظيم المقسم به، وهذا يذكر معه الفعل مع حرف القسم كقولك: (فلان يحلف بالله وحده)، وقد يكون بحرف القسم فقط كقوله ﷺ: «لا، ومقلب القلوب»، وتارة بحذف الجواب، وهو مراده لظهوره بدلالة الحال، أو بدلالة السياق، ويكثر إذا كان فى نفس المقسم به ما يدلّ عليه، وهى طريقة القرآن؛ لأن المقصود يحصل بذكر المقسم به، فيكون حذف المقسم عليه أبلغ، كمن أراد أن يقسم على أن الرسول حق فقال: والذى أرسل محمدا بالهدى ودين الحق وأيده بالآيات البينات ... فلا يكون فى حاجة إلى جواب.
ومن ذلك قوله تعالى: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (٢٦). انتهى ملخصه.
تنبيهات: أحدها: قد تقع (لا) قبل فعل القسم كقوله تعالى: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (٢٧) واختلف العلماء فى تفسير المراد عندئذ على ثلاثة أقوال مبناها اختلاف فى (لا):
١ - أن (لا) نافية فهو نفى للجملة، وليس نفيا لاستحقاقها القسم بها.
٢ - أن (لا) نافية نفت الكلام السابق وجملة القسم مثبتة وهو أضعفها.
٣ - أن (لا) زائدة لمجرد التأكيد، وجملة القسم مثبتة.
وعليه يكون القسم حاصلا على قولين وغير حاصل على قول.
(٢٠) سورة الصافات (١).
(٢١) سورة الصافات (٣).
(٢٢) سورة يس (١ - ٣).
(٢٣) سورة الذاريات (١).
(٢٤) سورة الذاريات (٥، ٦).
(٢٥) سورة العصر (١ - ٣).
(٢٦) سورة ص (١).
(٢٧) سورة القيامة (١).
 
١ ‏/ ١٩١
 
ثانيها: (المسميات الإيمانية والتربوية للقسم):
جعل الله من مقتضى الإيمان الكامل عدم جعل اسم الله عرضة للقسم، فقال تعالى:
وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٨)، والجعل متعلق بالاسم لا بالذات كما نصّ عليه الطاهر بن عاشور.
والعرضة: على وزن الفعلة وزن دالّ على المفعول. وهو مشتق من عرضه إذا وضعه على العرض أى الجانب. والمقصود جعل الشيء حاجزا. فالعرضة تطلق على المعنيين، ويمكن حمل الآية على المعنيين. والمعنى الثانى شاع حتى ساوى الحقيقة. واللام فى (لأيمانكم) لتعدية الفعل. أى تحلفوا بالله على الامتناع عن التقوى والبر والإصلاح. وسمّى الحلف يمينا؛ لأن العرب كانت من عادتهم أن يمسك المتحالفان كل واحد منهما يمين الآخر.
ثم اختصروا فقالوا: صدرت منه يمين أو حلف يمينا، فهى من تسمية الشيء بما يقارنه ويلازمه، فلما كان أغلب حلفهم معاهدة بحيث يضع المتعاهدون أيديهم بعضا على بعض، فشاع إطلاق اليمين على الحلف. وهو يرجع إلى إشهاد الله على صدق الحالف.
ومعنى الآية- لو كانت العرضة بمعنى الحائل- أى لا تجعلوا اسم الله حائلا معنويا بينكم وبين فعل البر والتقوى والإصلاح. كما وقع من أبى بكر عند ما أقسم ألّا ينال مسطحا بخير بعد أن خاض فى الإفك. وأما على تقدير أن تكون العرضة بمعنى الشيء المعرّض، فالمعنى: لا تجعلوا اسم الله معرضا لأن تحلفوا به فى الامتناع عن البر والتقوى والإصلاح.
وقدّرت (لا) بعد (أن) فصار المعنى أن لا تبروا كما فى قوله تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا (٢٩) لأن تعظيم الله يجب أن لا يكون سببا فى قطع ما أمر به ونهى عن عدم البر والتقوى والإصلاح. وهذا النهى يستلزم أن الحلف لو وقع على ترك البر فلا حرج من تركه. وعليه يكون قوله: أَنْ تَبَرُّوا مفعولا لأجله فهو علة النهى أى إنما نهيتكم لتكونوا أتقياء أبرارا مصلحين. فعلى التقدير الأول يكون هناك عذر فى الحنث، وعلى التقدير الثانى يكون هناك تحذير من الحلف. ومن تمام ما يتعلق بالآية السابقة من آداب سامية فى الحلف معالجة المشقة التى تقع على الذين جرت الأيمان على ألسنتهم، فما حكم أيمانه؟ ويظهر الحاجة إلى فهم قوله تعالى لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ
(٢٨) سورة البقرة (٢٢٤).
(٢٩) سورة النساء (١٧٦).
 
١ ‏/ ١٩٢
 
يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٣٠).
وقد ذكر الطاهر بن عاشور فى تفسير هذه الآية ما ملخصه: أن النفوس بعد سماع الآية السابقة تزداد الهواجس من كثرة تردد الأيمان على الألسنة. فجاء قوله تعالى لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ (٣١) الآية.
والمؤاخذة مفاعلة من الأخذ بمعنى المحاسبة.
فالمفاعلة للمبالغة فى الأخذ والمحاسبة، واللغو مصدر من لغا: إذا قال كلاما باطلا.
ويقال: لغا يلغو لغوا، كدعا، ولغا يلغى لغيا كسعى. ولغة القرآن بالواو، وفى اللسان «أنه لا نظير له إلّا قولهم أسوته أسوا وأسى».
ويطلق اللغو أيضا على الكلام الساقط الذى لا يعتد به وهو الخطأ وهو إطلاق شائع.
واقتصر عليه الزمخشرى فى «الأساس» وفى «الكشاف». و(فى) للظرفية المجازية يراد بها الملابسة، وهى صفة للغو أو حال منه، وكذلك قدره الكواشى فيكون المعنى: لا يؤاخذكم الله بأن تلغوا لغوا ملابسا للأيمان.
هذا إن جعلت اللغو مصدرا، أما إذا جعلته اسما للكلام الساقط فيكون المعنى: لا يؤاخذكم الله فى أيمانكم باللغو. فكثرة جريان الحلف على الألسنة جعلته يشبه اللغو فى الكلام.
وقد اختلف العلماء فى مراد اليمين فى الآية: الجمهور على أنها الأيمان الجارية على الألسنة بغير قصد الحلف، وهذا قول عائشة والشعبى وأبى قلابة، وعكرمة، ومجاهد، وأبى صالح وبه أخذ الشافعى. ودليله أن اللغو وردت فى الآية فى مقابلة المنعقدة، فلا بد أن هذه التى لا قصد فيها أى غير منعقدة فلا إثم ولا كفارة عليها، وفى غيرها الكفارة المذكورة فى سورة المائدة: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ (٣٢) فيكون فى الغموس، والمعلق، وعلى الظن الذى يتبين خلافه.
وذهب مالك إلى أن اللغو هو الذى يقسم فيه على شىء يظنه كذلك، أو يتبين خلافه ظنه، وهو مروى فى غير «الموطأ» عن أبى هريرة، وقال به الحسن، وإبراهيم، وقتادة والسدى، ومكحول، وابن أبى نجيح، ودليله من الآية المؤاخذة على كسب القلب لا على أصل القسم، فعلم أن المراد بكسبه كسب الحنث أى تعمده، فالحالف على ظن يظهر خطؤه لا يتعمد الحنث، فهو الملغو ولا مؤاخذة فيه.
ومن قال: لا والله. وهو كاذب فهو قسم عنده، وجاءت عليه الكفارة؛ لأنه حلف حين حلف وهو حانث، وإنما جعلنا تفسير (ما كسبت قلوبكم) كسب الحنث، لأن مساق الآية للحنث، لأن قوله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ
(٣٠) سورة البقرة (٢٢٥).
(٣١) سورة البقرة (٢٢٥).
(٣٢) سورة المائدة (٨٩).
 
١ ‏/ ١٩٣
 
عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ (٣٣) إما إذن فى الحنث، أو نهى عن الحلف خشية الحنث.
وقال جماعة: اللغو لم يقصد به الكذب، فشمل القسمين: ما كان بلا قصد، وما كان بقصد مع اعتقاد الصدق، وممن قال به ابن عباس، والشعبى، وأبو حنيفة وعلله بمثل ما سبق ذكره من عدم تعلق المؤاخذة بأصل الحلف.
والمنعقدة من العقد، وهو فى اللغة بمعنى:
الربط- فهى يمين فيه تعليق، ومقابل اللغو؛ المنعقدة والغموس، فالمنعقدة والغموس نوعان، وفى الحنث بالمنعقدة الكفارة. وقوله: وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٣٤) تدليل لحكم
نفى المؤاخذة.
ثالثها: كما وقع القسم فى الدنيا يقع فى الآخرة، ومن ذلك قول أهل الجنة: تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٣٥). وكذلك يقع من الكافرين فى قولهم: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٣٦). والله أعلم.
أ. د/ إبراهيم عبد الرحمن خليفة
مصادر هذ الموضوع
(١) الإتقان فى علوم القرآن، للسيوطى.
(٢) التبيان فى أقسام القرآن، لشمس الدين ابن القيم، ط دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان.
(٣) التحرير والتنوير، للطاهر بن عاشور.
(٤) تفسير القرآن العظيم، للحافظ ابن كثير.
(٥) الجامع الصحيح، للبخارى.
(٦) شرح ابن عقيل لألفية بن مالك وحاشية الخضرى عليه، ط عيسى الحلبى.
(٧) صحيح مسلم.
(٨) فتح البارى شرح صحيح البخارى، للحافظ ابن حجر العسقلانى.
(٩) الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل فى وجوه التأويل، لجار الله الزمخشرى.
(٣٣) سورة البقرة (٢٢٤).
(٣٤) سورة المائدة (١٠١).
(٣٥) سورة الصافات (٥٦).
(٣٦) سورة الأنعام (٢٣).
 
١ ‏/ ١٩٤
 
الأسماء والكنى والألقاب فى القرآن
فى هذا النوع من علوم القرآن، حفل كلام السيوطى بالكثير من الأخبار المنكرة والباطلة، وما لا أصل له، وما هو من الإسرائيليات التى لا أصل لها فى الكتاب والسنة؛ ولذا فإنا نطرح كل ذلك، ونكتفى بمجرد المس الخفيف لما عرض له القرآن من هذه الأنواع الثلاثة، دون الدخول فى الشرح التفصيلى لمعنى أى منها، فضلا عما وراء ذلك من سبب التسمية وذكر الأنساب وغيرهما، على ما وقع من السيوطى فى الكثير من هذا.

أولا: الأسماء:
ذكر الله- تعالى- من الأسماء فى القرآن العظيم أعلاما وأسماء أجناس، فمن الأعلام:
وأشرفها، أسماء القرآن، وقد مرت، وأسماء الكتب المتقدمة (التوراة كتاب موسى، والزبور كتاب داود، والإنجيل كتاب عيسى، ﵈، ويلى ذلك فى الشرف أسماء الأنبياء وبعض الملائكة ﵈.
فأما أسماء الأنبياء، فقد ذكر الله منها ستة وعشرين اسما لخمسة وعشرين نبيا، منهم ثمانية عشر اسما فى قوله: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحًا هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (١) ويبقى سبعة وهم إدريس وهود وشعيب وذو الكفل وصالح وآدم، وقد نظمهم بعضهم فقال:
فى تلك حجتنا منهم ثمانية ... من بعد عشر ويبقى سبعة وهمو
إدريس هود شعيب صالح وكذا ... ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا
وإنما كانت الأسماء ستة وعشرين مع كون المسمين- ﵈ خمسة وعشرين، لأن لنبينا ﷺ اسمين مذكورين فى القرآن «محمد» فى أربع سور (آل عمران- والأحزاب
(١) الأنعام الآيات من ٨٣ إلى ٨٦.
 
١ ‏/ ١٩٥
 
- ومحمد- والفتح) «وأحمد» فى (سورة الصف).
وأما ما جاء من أسماء بعض الملائكة فجبريل، وميكال أو ميكائيل- وقرئ بهما- ﵉.
ومنها أعلام لبشر غير أنبياء، كلقمان فى سورته على القول بأنه غير نبى، «وكزيد» أى ابن حارثة مولى النبى ﷺ وقع التنصيص على اسمه ليكون واقعة عين مشهودة فى قاعدة إبطال التبنى، وهدم ما كان معروفا فى الجاهلية من توريث المتبنى وتحريم زواج من تبناه بامرأته، على ما جاء فى سورة الأحزاب من تزويج الله تعالى نبيه بزينب امرأة زيد الذى كان متبناه.
ومن تلك الأعلام: «مريم» أم عيسى ﵉ ولها سورة فى القرآن مسماة باسمها، ولم يذكر علم لأحد من النساء سواها؛ لكونها وابنها آية للعالمين. وهؤلاء جميعا من البشر المؤمنين.
ومن أعلام كفار البشر: «آزر» أبو إبراهيم- ﵇ خلفه حقا وحقيقة، لا مجازا على ما يدعيه البعض.
ومنهم: «قارون وهامان» وقد ذكرا فى «القصص» و«غافر».
ومنهم: «جالوت» الذى قتله داود- ﵇ على ما جاء فى قصة طالوت وجنوده من سورة البقرة.
ومن غير البشر والملائكة جاء علم لجنى واحد هو إبليس رأس الكفر- لعنه الله.
ومن أعلام القبائل: (عاد، وثمود، ومدين) فى مواضع عديدة من القرآن.
و(يأجوج ومأجوج) فى الكهف. والأنبياء و(سبأ) فى سورتها. و(قريش) فى سورتها.
وكما رأى القارئ الكريم، فإن ما ذكر إلى الآن أعلام أشخاص للعقلاء أفرادا كانوا أو جماعات.
ومن الأعلام المذكورة فى القرآن لغير العاقل:
(أ) أعلام للأصنام- وقد جاء من هذا:
ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، أصنام قوم نوح على ما جاء فى سورة نوح- ﵇.
واللات، والعزى، ومناة. أصنام مشركى قريش والعرب، وذكرت فى سورة النجم.
(ب) ومنها أعلام الأمكنة والبلدان والأنهار والوديان وما إلى ذلك. فمن البلدان: مكة وبكة، بالميم والباء. والمدينة لمدينة النبى ﷺ، وهو علم بالغلبة، ويثرب لها أيضا. ومصر الممنوعة من الصرف فى أربعة مواضع من القرآن: موضع فى يونس، واثنان فى يوسف، ورابع فى الزخرف. وبابل فى قصة هاروت وماروت من سورة البقرة.
ومن الأمكنة: بدر، وحنين، والمشعر الحرام- وهو علم بالغلبة على المزدلفة، أو على جبل
 
١ ‏/ ١٩٦
 
بها، والصواب الأول. والحجر: مساكن قوم صالح- ﵇ وفى التنزيل سورة باسمه. والأحقاف: مساكن عاد قوم هود، وفى القرآن سورة بهذا الاسم كذلك. والكهف:
علم بالغلبة على الذى أوى إليه الفتية وله سورة باسمه كذلك. وعرفات: اسم للمكان المخصوص أو للجبل والصواب الأول.
ومن الجبال: «طور سيناء».
ومن أسماء الأنهار: «الكوثر»: نهر فى الجنة.
وسلسبيل وتسنيم عينان فى الجنة كذلك.
ومن الأودية: «ويل»: اسم واد فى جهنم، على ما أخرج الترمذى بسند حسن من حديث أبى سعيد الخدرى مرفوعا.
وأشرف أعلام الأمكنة على الإطلاق- (العرش العظيم)، ثم الفردوس: اسم لأعلى الجنة وأوسطها، وفوقها- بالضم أى سقفها- عرش الرحمن. ثم مكة، فالمدينة. فهذه هى الأعلام.
وأما أسماء الأجناس فهى كثيرة جدا كالإنس، والجان، والملائكة، والطير، والشمس، والقمر، والنجوم، والكواكب، والجبال، والشجر، والدواب إلى غير ذلك مما يطول ذكره ولا يفيد استقصاؤه.

ثانيا: الكنى:
ولم يأت منها فى القرآن إلا واحدة فى قوله تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ لعم النبى ﷺ واسمه عبد العزى على ما هو معروف مشهور فى السير والمغازى.

ثالثا: الألقاب:
وأما الألقاب فكثيرة منها: النبى، والرسول، والخليل لإبراهيم ﵇، وإسرائيل بمعنى عبد الله ليعقوب ﵇، والمسيح لعيسى ﵇.
ومنها: فرعون لقب لمن ملك مصر قديما ومنهم فرعون موسى، وتبّع لمن ملك اليمن.
ومن ألقاب غير البشر وشرها على الإطلاق: الشيطان: لقب لإبليس- لعنه الله- ثم استعمل فى كل من بلغ من الشر أقصى غاية- كشياطين الجن والإنس، وكذلك الوسواس الخناس مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ.
والله أعلم
أ. د/ إبراهيم عبد الرحمن خليفة
 
١ ‏/ ١٩٧
 
الموصول لفظا المفصول معنى
أفرد السيوطى نوعا وذكر أنه جدير بالإفراد بالتصنيف، وبه تحصل فوائد وحل إشكالات، وحاصل هذا النوع فى أمرين:
أحدهما: أن يتبادر معنى لا يصلح أن يكون مرادا ويندفع الإشكال بحمله على آخر.
ثانيهما: أن يتوهم أن صاحب الكلام واحد فيندفع هذا التوهم ببيان قائله. والمعنى الجامع لهما هو: قطع آخر الكلام عن أوله لحكمة، ومن مثل الأمر الأول التى صدّر بها السيوطى بحثه قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها حتى قوله: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ. فالحديث فى قصة آدم كما جاء التصريح
بذلك، أخرجه ابن أبى حاتم وغيره عن ابن عباس بسند صحيح، وعند أحمد والترمذى وحسنه، والحاكم وصححه من طريق الحسن عن سمرة مرفوعا.
ولكن آخر الآية مشكل لما فيه من نسبة الإشراك لآدم. وهناك من حمل الآية على غير آدم، وعلّل الحديث- أى جعله معلولا- وحكم بنكارته، وحاصل ما دفع به السيوطى الإشكال مستندا إلى قولى السدى وأبى مالك أن قوله تعالى: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ مفصول عما قبله وهو مختص بمشركى العرب.
ثم نقل السيوطى ثلاث روايات عند ابن أبى حاتم بهذا المعنى فاتضحت المعضلة.
ويوضح ذلك تحول الضمير من التثنية العائد لآدم وحواء فى قوله تعالى: آتاهُما إلى الجمع فى قوله تعالى: يُشْرِكُونَ.
وأرى أن الإشكال ما زال قائما لقوله تعالى:
جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما. ومن خير ما وقفت عليه فى تفسير هذه الآية ما قاله جمال الدين القاسمى فى تفسيرها حيث ذكر تنبيها: بأن هذه الآية سيقت لتوبيخ المشركين فى جنايتهم بالشرك، وذلك أن الله أنعم عليهم بالخلق، وجعل الزوج للسكينة، فتتدرج فى الخلق من العدم إلى الوجود، ومن الضعف إلى القوة، ثم أخذ المواثيق عليهم إن آتاهم ما يطلبون أن يشكروه ولا يكفروا. ونقل عن المفسرين أحاديث وآثارا تشير إلى أن المراد من القصة آدم وحواء، وحكم على هذه
 
١ ‏/ ١٩٨
 
الروايات بأنها واهية معللة، ونقل ذلك عن الحافظ ابن كثير، وقال: إنها من أقاصيص مسلمة أهل الكتاب. ثم بين ما ارتضاه فى تفسير الآية الذى قاله غير واحد، منهم الحسن وهو: أن المعنى به: ذرية آدم ومن أشرك بعدهم، ونقل تحسين ابن كثير لهذه الروايات عن الحسن، ونقل عن القفال أن القصة على جهة ضرب المثل، ونقل عن الناصر فى (الانتصاف) متعقبا على الزمخشرى: الأسلم أن يكون المراد جنس الذكر والأنثى، وإنما نسب هذه المقالة إلى الجنس، وإن كان فيهم موحدون من باب (بنو فلان قتلوا قتيلا) فالنسبة للبعض (١).
والحاصل: أنه إن أريد بالنفس الواحدة الأب وزوجها الأم بما يشمل كل أم وأب فلا إشكال. وإن أريد آدم وحواء فالوجه أن فى الكلام استخدام (٢) - وهو محسن بديعى- بأن يعود الضمير فى (يسكن) على آدم وفى (إليها) إلى حواء، ثم يعود فى أول الضميرين فى (يغشاها) للذكر وثانيهما للأنثى. فينحل الإشكال بالكلية.
ثم إن السيوطى نقل مثلا لمثل ما قاله ولكنه لا يسلم فى سورة يوسف فى قول امرأة العزيز: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٣).
والصحيح الذى نذهب إليه: أن الجميع كلام امرأة العزيز، وإن كان الأكثرون على أن كلامها انتهى عند قوله: وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ فليس فى الكلام وصل وفصل فى آية يوسف (٤).
أ. د./ إبراهيم عبد الرحمن خليفة
(١) محاسن التأويل (ح ٣ ص ٦٧٨: ٦٨٠).
(٢) انظر: التحرير والتنوير (ح ٩ ص ٢١٠) فما بعدها.
(٣) سورة يوسف: ٥١: ٥٣.
(٤) انظر: هذا النوع فى الإتقان (ح ١ ص ٣٠٩: ٣١٢).
 
١ ‏/ ١٩٩
 
خواص القرآن
أفرد الإمام الغزالى بالتصنيف (خواص القرآن)، ويقصد بها ما لآى القرآن من خواص مادية فى الشفاء من الأمراض، وإبطال السحر، والنجاة من العدو، وكل هذا توصل إليه العلماء من تجاربهم الشخصية؛ لأنهم يعتقدون البركة فى القرآن، وهذا لا ينفع إلا من اعتقد اعتقادهم، وإن كان فعل هؤلاء العلماء له أصل فى السنة، فى حديث رقية أبى سعيد لديغا بالفاتحة فبرأ، فأقره النبى ﷺ وقال: «ما يدريك أنها رقية»، على ما فى البخارى من فضائل الفاتحة. وثبت أن آية الكرسى تحرز من الشيطان، على ما فى نفس المصدر، وكذلك أن سور الإخلاص والمعوذتين تشفى من الوجع على وجه مخصوص، هذا ما ذكره الكاتبون فى هذا المعنى من أمثال الزركشى فى «برهانه» والسيوطى فى «إتقانه»، ولو عمم المسلمون ذلك ليشمل القرآن بخواصه جميع مناحى الحياة- لأن القرآن كتاب جميع أصول الخيرات من أصول اعتقاد وتشريع، كما جمع محاسن الأخلاق- لدفعهم إلى التقدم والرقى الحضارى.
أ. د./ إبراهيم عبد الرحمن خليفة
 
١ ‏/ ٢٠٠
 
جمع القرآن
ذكر الشيخ غزلان فى كتابه (البيان فى مباحث القرآن) أن جمع الشيء فى اللغة هو:
استقصاؤه والإحاطة به. فجمع القرآن معناه:
استيعابه والإحاطة به. وذلك بطريقتين هما:
حفظه كله، أو كتابته كله، فالأولى فى الصدور، والثانية فى السطور.
وقد وردت الروايات الصحيحة باستخدام لفظ (الجمع) فى التعبير عن الطريقتين: فقد روى عن أنس أنه سئل عمّن جمع القرآن فى عهد رسول الله ﷺ أى: أتم حفظه. وقول عبد الله بن عمرو: جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة.
ومن الثانى: قول أبى بكر لزيد بن ثابت ﵁: (تتبع القرآن فاجمعه) أى اكتبه. وقد توفر للقرآن الجمع بنوعيه منذ أول عهده إلى الآن تحقيقا لقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١).

أوّلا: جمع القرآن بمعنى حفظه:
بدأ هذا الجمع من أول نزول القرآن، وبالطبع كان رسول الله ﷺ أول الحفاظ وسيدهم، وقد تكفل الله- ﷾ بجمعه له فى صدره قال تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ الآيات الثلاث (٢). فكان يمليه ويقرأ به ﷺ فى قيامه، وكان يعارضه به جبريل فى كل عام مرة.
أما صحابته- رضى الله عنهم- فكانوا أهل حفظ، وعربا خلصا، لهم من صفاء القريحة ما ساعدهم على حفظه، هذا بجانب حرصهم الشديد على القرآن؛ لأنه معجزة الله الباهرة، ومصدر الشريعة، وحفظه وقراءته وتلاوته لها الثواب والأجر العظيم، وقد وعد الله- سبحانه- النبى ﷺ بأن يكون الكتاب المنزل عليه لا يغسله الماء، ففي صحيح مسلم فى كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها فيه:
«وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلى بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرأه نائما ويقظان». الحديث؛ ولذا قال الحافظ ابن الجزرى: «إن الاعتماد فى نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور لا على خط المصاحف والكتب، وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة». (٣) ثم بيّن أن أهل الكتب السابقة لم تكن لهم نفس الخصيصة،
(١) البيان فى مباحث القرآن: (ص ١٤٥) وما بعدها.
(٢) سورة القيامة: ١٧ - ١٩.
(٣) النشر فى القراءات العشر (ص ٦).
 
١ ‏/ ٢٠١
 
فكل قراءتهم كانت من الكتب، ولكن هذه الأمة تحفظ كتابها بحركاته وسكناته. ونقل عن أبى عبيد القاسم بن سلام أنه فى أول كتابه «القراءات» ذكر كثيرا من الصحابة الذين رويت عنهم القراءة. وذكر ابن الجزرى أن هذه الكثرة التى ذكرها أبو عبيد كانت على جهة المثال فقط لا الحصر. فلا شك أن عددا كبيرا من الصحابة كان يحفظ القرآن.
أما ما روى من أحاديث فى حصر من جمع القرآن فى أربعة هم: أبىّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد.
الحديث فى صحيح البخارى عن أنس (٤).
وفى رواية أخرى: استبدال أبىّ بأبى الدرداء، وفى الرواية الثانية: حصر الجامعين بالنفى فى الأربعة فقال: مات رسول الله ﷺ ولم يجمع القرآن غير أربعة. فقد ذهب بعض العلماء إلى اضطراب هذه الروايات وتضعيفها، مع ملاحظة كونها موقوفة على الصحابى. وهذا ما مال إليه القاضى الباقلانى فى «الانتصار» ولكنه ذكر أوجها متكلفة فى تأويله.
ومن أمثل ما قيل فى توجيه روايتى أنس، ما ذكره الحافظ ابن حجر وملخصه: أن أول الحديث كان فيه نوع تفاخر بين الأوس والخزرج، فتفاخر الأوس بأربعة، وتفاخر الخزرج بأربعة جمعوا القرآن. ثم ذكر أنه قد يراد هذا الحصر فى الخزرج فقط، فلا ينفى ذلك عن غيرهم من الصحابة. ونقل احتمال التوجيه بأن أنسا اقتصر عليهم لتعلق غرضه بهم، وحكم عليه بالبعد. ثم ذكر أن الظاهر من أحاديث كثيرة حفظ أبى بكر الصديق للقرآن فى حياة النبى ﷺ، وقد قدّمه رسول الله ﷺ للصلاة بالناس وكان قد قال: «يؤم الناس أقرؤهم لكتاب الله».
وذكر عن علىّ أنه جمع القرآن على ترتيب النزول بعد وفاته ﷺ. وعبد الله بن عمر، وابن مسعود، وسالم مولى أبى حذيفة روى عنهم جمعهم للقرآن. وقد ذكر ابن أبى داود فى كتاب «الشريعة» تميم بن أوس الدارى، وعقبة بن عامر أنهما جمعاه. وعدّ معهم أبو عمرو الدانى: عمرو بن العاص، وسعد بن عبادة، وأم ورقة.

ثانيا: جمع القرآن بمعنى كتابته:
لكتابة القرآن ثلاثة عهود: أحدها: عهد النبى ﷺ، ثانيها: عهد أبى بكر الصديق ﵁، ثالثها: عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان ﵁.

(أ) عهد النبى ﷺ:
وقعت الكتابة للقرآن رسميا وشخصيا، فقد كتب القرآن بأمر رسول الله ﷺ على
(٤) الجامع الصحيح (كتاب فضائل القرآن باب القراء من أصحاب النبى ﷺ.
 
١ ‏/ ٢٠٢
 
المستوى الرسمى بكتابة القرآن، واتخذ كتابا للوحى، وقد بوب البخارى بابا سماه (كاتب النبى ﷺ لم يذكر فيه إلّا زيد بن ثابت، وذكر الحافظ أربعة عشر. وما يدلّ على الكتابة الرسمية ما رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن حبان من حديث ابن عباس عن عثمان بن عفان قال: «كان رسول الله ﷺ مما يأتى عليه الزمان ينزل عليه من السور ذوات العدد، فكان إذا نزل يدعو بعض من يكتب عنده فيقول: ضعوا هذه فى السورة التى فيها كذا» (٥).
وما أخرجه الحاكم عن زيد بن ثابت ﵁ قال: «كنا عند رسول الله ﷺ نؤلف القرآن من الرقاع» (٦) الحديث. قال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبى.
فهذان الحديثان فوق دلالتهما على الكتابة الرسمية يدلان على التوقيف فى ترتيب آيات السور.
وتأليف القرآن المقصود: جمعه وترتيبه كما صرح بذلك الحافظ فى «الفتح». (٧)
أما الكتابة على المستوى الشخصى، فلا شك أن الصحابى الذى كان يعرف الكتابة كان يكتب لنفسه، ويدلّ على وقوع تلك الكتابة حديث أبى سعيد عند مسلم فى (كتاب الزهد باب التثبت وحكم كتابة العلم)، أن النبىّ ﷺ قال: «لا تكتبوا عنى، ومن كتب عنى غير القرآن فليمحه». وسواء كان النهى لعدم اختلاف الكتاب بالسنة، أم كان النهى بخصوص كتابة السنة مع القرآن، أم لتوجيه الهمة للقرآن وحده سواء علينا أكان هذا أم ذاك، فإن الحديث صريح فى كتابة القرآن، بل فيه حض عليه. فالكتابة على المستويين تمت ووقعت فى عهده ﷺ.
والسؤال: على أى شىء كانوا يكتبون؟
يقول زيد بن ثابت فى حديثه فى جمع القرآن: «فتتبعت القرآن أجمعه من العسب، واللخاف، وصدور الرجال». وقد شرح الحافظ بعض هذه الألفاظ فذكر: أن العسب- بضمتين ثم موحدة- جمع عسيب، وهو جريد النخل كانوا يكشطون الخوص ويكتبون فى الطرف العريض. وقيل: العسيب طرف الجريدة العريض الذى لم ينبت عليه الخوص، والذى ينبت عليه الخوص هو السعف.
ووقع فى رواية ابن عيينة عن ابن شهاب:
«القصب، والعسب، والكرانيف، وجرائد النخل». ووقع فى رواية شعيب «من الرقاع جمع رقعة، وقد تكون من جلد أو ورق أو كاغد». وفى رواية عمار بن غزية: «وقطع الأديم» وفى رواية ابن أبى داود من طريق أبى داود الطيالسى عن إبراهيم بن سعد:
«والصحف».
(٥) انظر: فتح البارى: (ح ٩ ص ٢٢).
(٦) انظر: كتاب التفسير من المستدرك على الصحيحين تحت عنوان: جمع القرآن لم يكن مرة واحدة.
(٧) انظر: الفتح (ح ٩ ص ٣٩).
 
١ ‏/ ٢٠٣
 
قوله: «واللخاف» بكسر اللام ثم خاء معجمة خفيفة وآخره فاء، جمع لخفة، بفتح اللام وسكون المعجمة، ووقع فى رواية أبى داود الطيالسى فى روايته: هى «الحجارة الرقاق» وقال الخطابى: صفائح الحجارة الرقاق. قال الأصمعى: فيها عرض ودقة. وسيأتى للمصنف فى الأحكام عن أبى ثابت أحد شيوخه أنه فسره بالخزف- بفتح المعجمة والزاى ثم فاء- وهى الآنية التى تصنع من الطين المشوى، ووقع فى رواية شعيب:
«والأكتاف» جمع كتف وهو العظم الذى للبعير أو الشاة، كانوا إذا جف كتبوا فيه. وفى رواية عمارة «وكسر الأكتاف»، وفى رواية ابن مجمع عن ابن شهاب عند ابن أبى داود «والأضلاع»، وعنده من وجه آخر «والأقتاب» - بقاف ومثناة وآخره موحدة- جمع قتب- بفتحتين «وهو الخشب الذى يوضع على ظهر البعير ليركب عليه، وعند ابن أبى داود أيضا فى «المصاحف» من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: «قام عمر فقال: من كان تلقى من رسول الله ﷺ شيئا من القرآن فليأت به.
وكانوا يكتبون ذلك فى الصحف والألواح والعسب». (٨) انتهى المقصود منه.
وترك الحافظ- ﵀ مما يستحق الشرح كلمتى «الكرانيف، والقصب»، أما الكرانيف: ففي اللسان: (الكرناف والكرناف «أى بكسر الكاف وضمها»، أصول الكرب التى تبقى فى جذع السعف وما قطع من السعف فهو الكرب- الواحدة كرنافة- وفيه قول ابن سيده: الكرنافة والكرنوفة- أصل السعفة الغليظ الملتزق بجذع النخلة، وقيل: الكرانيف:
أصول السعف الغلاظ العراض التى إذا يبست صارت أمثال الأكتاف. وفى حديث الزهرى: والقرآن فى الكرانيف، يعنى: أنه كان مكتوبا عليها قبل جمعه فى الصحف).
وأما القصب فإنما يصلح من معانيه هنا ما فى اللسان وغيره من كونه ثياب الكتان الرقاق الناعمة. فيحتمل أنهم كانوا يكتبون أيضا على قطع من قماش الكتان الرقيق الناعم.
كيف كانت كتابتهم؟: لا نعرف للقوم كيفية معينة يومئذ فى الكتابة. كما لا نعرف هذه الكيفية فى كتابتهم للصحف البكرية.
والظاهر أنها كانت مماثلة أو عين الكيفية التى كتبوا بها المصاحف العثمانية، فإن أحدا لم ينقل فرقا فى كيفية الكتابة بين العهود الثلاثة فيما أعلم.

الباعث على كتابة القرآن فى هذا العهد:
على الرغم من أن القرآن كان محفوظا بأكمله للنبى ﷺ ومحفوظا بالتواتر عند أصحابه، فقد كتب القرآن فى هذا العهد، وذكر الشيخ غزلان لهذه الكتابة أسبابا ثلاثة:
(٨) فتح البارى: (ح ٩ ص ١٤).
 
١ ‏/ ٢٠٤
 
أحدها: المحافظة على النص القرآنى من أن يطرأ عليه تغير؛ لأن الكتابة تظاهر الحفظ.
ثانيها: تمام العناية به وزيادة التوثق له فلا يكون لخوف الضياع عليه أدنى شائبة.
ثالثها: الفائدة العظيمة التى ظهرت بعد وفاته ﷺ عند جمع القرآن فى العصر البكرى، حيث كان للصحابة فى هذا الجمع مصدران اعتمدوا عليهما.
لماذا لم يجمع النبىّ ﷺ القرآن فى مصحف واحد؟ السؤال: لم لم يتحد نوع ما كتب عليه ليسهل الرجوع إليه؟ أول جواب على ذلك: أن فى عهده ﷺ كان على التيسير ورفع الحرج؛ فمن ثم اختلف النوع؛ لأن المهم هو سرعة التدوين والكتابة، بخلاف ما كان عليه الأمر فى عهد الصديق أبى بكر.
وقد جلّى الجواب الشيخ غزلان فذكر: أن القرآن كان يتتابع نزوله، فكان صعبا أن نجعله فى كتاب واحد، وأن القرآن فى عهده ﷺ كان عرضة للنسخ، وعليه يكون عرضة لتغيير الكتابة بعد الجمع والترتيب.
وكانت الآيات الكثيرة تنزل ثم يعلم الترتيب فلو وضعت فى مصحف واحد لكان فى المشقة ما فيه.

(ب) ما وقع من الجمع الكتابى فى عهد أبى بكر للقرآن:
قتل أثناء حروب الردة سبعون من حفاظ القرآن الكريم فى يوم اليمامة خاصة، فخشى على القرآن أن يضيع منه شىء، وخاصة أن ما كتب فى عهد النبىّ ﷺ كان أشتاتا فيمكن أن يضيع منه شىء مع من مات، فمن ثم كان الجمع فى العهد البكرى. فقد أخرج البخارى من صحيحه فى كتاب فضائل القرآن باب جمع القرآن عن زيد بن ثابت قال: «أرسل إلىّ أبو بكر الصديق بعد مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر ﵁: إن عمر أتانى فقال إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإنى أخشى إن استحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإنى أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله ﷺ؟ قال عمر: هذا والله خير. فلم يزل عمر يراجعنى حتى شرح الله صدرى لذلك، ورأيت فى ذلك الذى رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحى لرسول الله ﷺ، فتتبع القرآن فاجمعه. فو الله لو كلفونى نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علىّ مما أمرنى به من جمع القرآن قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله ﷺ؟ قال: هو والله خير.
 
١ ‏/ ٢٠٥
 
فلم يزل أبو بكر يراجعنى حتى شرح الله صدرى للذى شرح له صدر أبى بكر وعمر رضى الله عنهما. فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللّخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبى خزيمة الأنصارى لم أجدها مع أحد غيره: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ، حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبى بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر ﵁».
ويستفاد من هذا الحديث أمور:
أولها: إعطاء كل حال حكمها اللائق بها؛ ولذا عملوا على جمع القرآن؛ لأن الحال تغير عنه فى عهد النبى ﷺ؛ فخوفا من ضياع شىء من القرآن جمع أبو بكر الصديق القرآن بعد أن شرح الله صدره وصدر عمر وزيد بن ثابت لذلك.
ثانيها: اختيار الأكفاء فى المهام الصعبة كاختيار أبى بكر زيد بن ثابت لجمع القرآن لتوفر العقل والأمانة والديانة والشباب فيه.
والممارسة والخبرة التى لها دخل عظيم فى إنجاح الأعمال.
ثالثها: الشعور عند العمل العظيم بالمسئولية الجسيمة.
رابعها: دفع شبهة كيف لم يجد زيد بن ثابت هاتين الآيتين، وكيف اكتفى برجل واحد فى نقل قرآنيتهما؟
وقد دفع شيخنا غزلان هذه الشبهة بأن بدأ بذكر ما يجب مراعاته عند التعرض لهذه الشبهة:
١ - عدم إمكان أن يكون النبى ﷺ خصّ أبا خزيمة لتبليغ هاتين الآيتين؛ لأن القرآن لا يحل روايته بالمعنى، فلا يمكن الاطمئنان إلى روايته بلفظه دون تغيير حرف منه إلا تبليغ جماعة كبيرة.
٢ - أن إجماع الصحابة على أن كتابتهما فى المصحف لا تكون برواية الواحد؛ ولذا لا بدّ أن الصحابة كتبوهما بعد روايتهما عن جماعة كثيرة، ويكون معنى كلام زيد: «لم أجدهما مع أحد غيره» دائرا بين أمرين: إما أن يكون مراده أنه لم يجدهما مكتوبتين عند أحد غير أبى خزيمة، فهو انفراد بكتابتهما فقط.
وإما أن يكون مراده أنه انفرد بكتابتهما وحفظهما، فلم يجدهما عند غير أبى خزيمة، فظل أبو خزيمة لمّا علم ذلك يحدث بهما ويحدث بهما أيضا زيد بن ثابت، حتى حفظها من لم يحفظها وتذكرها من نسيها حتى تواتر نقلها، فتوفر شرط القرآنية لهاتين الآيتين فأثبتهما زيد فى المصحف.
 
١ ‏/ ٢٠٦
 
وقد نقل الحافظ أن هناك روايات عن الصحابة تكشف عن أن منهم من كانت معه هاتان الآيتان، منها عن خزيمة بن ثابت، وعثمان، وأبى بن كعب- رضى الله عنهم (٩).
فأبو خزيمة لم ينفرد بتلقيهما، بل تلقاهما الكثير. وقد ذهب إلى ذلك أيضا أبو حيان.
وأرى: أن نفى زيد بن ثابت لوجود الآيتين كان نفيا لوجودهما من كل وجه. ولكن من المعقول أن يكون زيد بن ثابت قد اقتصر فى بحثه على أهل المدينة، ولا يعقل أنه ذهب لكل الأماكن لتقصى ذلك، والصحابة فى المدينة كانوا قليلين. ونحن لا نوافق شيخنا غزلان فى افتراض ذهول الأكثرين مع اشتراطه فى أول الكلام أن يكون النقلة من حيث العدد ممن تحيل العادة عليهم النسيان.
وخلاصة القول: أن هاتين الآيتين توفر لهما من شروط النقل ما توفر لسائر آى القرآن. ولقد حققت الكتابة غايتها المقصودة.
والظاهر أن زيد بن ثابت لم ينفرد بمهمة الجمع وحده، بل عاونه غيره كأبى بكر وعمر وأبى كما تفيده الروايات المتعددة كما ذكر الحافظ فى «الفتح». ولقد تم الجمع فى العهد البكرى على أمثل ما يكون فى الاحتياط والعناية اللائقين بجلال القرآن.
ولقد عرف الصحابة لأبى بكر الصديق فضله حتى قال فيه علىّ: «أعظم الناس فى المصاحف أجرا أبو بكر، هو أول من جمع كتاب الله».
ومن أعظم فوائد الجمع فوق ما هو مقصود من حكمته الرئيسية الداعية إليه، اتصال السند الكتابى بالأخذ عن الصحف التى كتبت بين يدى النبىّ ﷺ كاتصال السند المتواتر فى الرواية والتلقى على الشيوخ.

(ج) الجمع العثمانى للقرآن:
إذا كان الجمع الكتابى فى الصحف للقرآن قد تمّ فى العصر البكرى ليكون مرجعا للحفاظ عند إرادة العودة إليه، فقد كان الجمع العثمانى لغرض وداع آخر هو: تجريد
جميع المصاحف والصحف مما ليس بقرآن كالدعوات المأثورة، والتفسير، وما نسخت تلاوته، وحاشا أن يلبسوا على من بعدهم، ولكن ذلك كان بغرض حفظ القرآن وذلك بعد تفرق الصحابة الذين تلقيت القراءات على أيديهم فى الأمصار، وربما فسر صحابى لفظا غريبا أو معنى وألحقه تلامذته على مصاحفهم فوجدت فى المصاحف أشياء مذكورة ودعوات مثل دعاء الحفد والخلع، حتى استفحل الأمر، واتسع الخرق؛ فرأى الخليفة الراشد عثمان تدارك هذا الأمر، وجمع الناس على مصحف واحد جرده من كل هذه المصاحف، ونفى عنه كل ما ليس بقرآن، فى مصحف واحد يجرده من عين المصاحف البكرية التى لم يكن فيها إلا القرآن فحسب، على ما أخرج البخارى ﵁ فى جمع القرآن
(٩) انظر: فتح البارى: (ح ٩ ص ١١ - ١٢).
 
١ ‏/ ٢٠٧
 
من «صحيحه» من حديث ابن شهاب- يعنى الزهرى أن أنس بن مالك حدثه «أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازى أهل الشام فى فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم فى القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا فى الكتاب اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلى إلينا بالصحف ننسخها فى المصاحف ثم نردها إليك. فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها فى المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فى شىء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا. حتى إذا نسخوا الصحف فى المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن فى كل صحيفة أو مصحف أن يحرق».
هذا هو الباعث على جمع عثمان للمصاحف فى مصحف واحد، وليس كما قال بعضهم: من أن السبب فى الاختلاف كانت الأحرف السبعة. وقد فندنا هذه الدعوى فى مبحث الأحرف السبعة. ولا نريد أن نعيد استدلالا، ولكن لو كانت الأحرف قد أخذ عثمان بحرف واحد منها فكيف وصلت القراءات إلينا بالتواتر. ودعوى أن هذا كله حرف قريش مكابرة. ولو كان كذلك لجمعهم على حرف واحد بدون اختلاف فى أدائه، وإلا لكان بقاء القراءات مانعا من الوصول لدرء الخلاف على زعمهم، والمصحف العثمانى كالمصحف البكرى فى جمعه للأحرف السبعة.
فخبرنى بربك إذا كان من القراءات التى تركها عثمان ما قد يختلف معناه اختلافا بينا عن القراءة الأخرى، إلى حد يصل إلى عدم جواز اجتماع المعنيين أحيانا فى شىء واحد؛ لكونهما نفيا وإثباتا مثلا، وإنما تتفق القراءتان إذ ذاك من وجه آخر لا يقتضى التضاد، وذلك كقراءة وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (١٠) بكسر اللام الأولى من (لتزول) وفتح الثانية على أن «إن» نافية نفت إزالة مكرهم للجبال، وقرئت بفتح اللام الأولى ورفع الأخرى على أن «إن» مخففة من الثقيلة واللام الأولى المفتوحة هى الفارقة بين «إن» النافية و«إن» المخففة المهملة. والمعنى على هذه القراءة: «إن مكرهم يزيل الجبال».
والقراءتان سبعيتان متواترتان بلا شبهة ومعناهما لا يمكن أن يجتمع فى شىء واحد كما ترى. وإن اتفقا من وجه آخر لا يقتضى التضاد، بل تكون معه الآية على غاية من الاستقامة والسداد، فيراد من الجبال على
(١٠) سورة إبراهيم ٤٦.
 
١ ‏/ ٢٠٨
 
قراءة النفى أمر محمد ﷺ ودين الإسلام، ويراد منها على قراءة الإثبات الجبال الحقيقية- والمسألة مبسوطة فى كتب التفسير وفى «النشر» لابن الجزرى.
نقول: إذا كان من القراءات ما قد يختلف فأيهما كان أدعى للخلاف على النحو الذى زعموا، وأيهما كان أرفع له؟. أهو اختلاف المعنى البالغ هذا الحد. أم هو مجرد اختلاف الألفاظ المترادفة المتفقة المعنى تماما على ما زعموا فى المراد من الأحرف؟ أفيقع الخلاف بسبب تعدد تلك الألفاظ المترادفة ليرفعه عثمان بإبقاء واحد فقط من تلك الألفاظ؟ أم يقع بسبب مثل هذا الاختلاف البالغ فى المعنى ويكون أجدر بدرجات أن يرفع لأجله عثمان إحدى القراءتين؟. فإذا أبقى عثمان ﵁ هاتين القراءتين جميعا- مع أن الأمر فيهما هو على الاختيار لأى منهما- فما ذاك إلا لكونه لا يستجيز، بل لا يجرؤ هو ولا غيره حتى لو كان رسول الله ﷺ نفسه على حذف شىء مما أنزله الله ولم يأذن برفعه. وهكذا كان رضى الأصحاب أيضا، إذن- معالجة عثمان للخلاف هو على النحو الذى وصفنا من هذا الخلاف، ودفعه- أعنى تجريد عثمان للمصحف- من كل ما ليس بقرآن، وإحراق كل ما يشتمل مع القرآن على غيره من الصحف أو المصاحف، أخرج ابن أبى داود فى «المصاحف» بسند صحيح- كما قال الحافظ- من طريق سويد ابن غفلة قال: «قال علىّ: لا تقولوا فى عثمان إلا خيرا، فو الله ما فعل الذى فعل فى المصاحف إلا عن ملأ منا، قال: ما تقولون فى هذه القراءة، فقد بلغنى أن بعضهم يقول: إن قراءتى خير من قراءتك، وهذا يكاد أن يكون كفرا، قلنا: فما ترى؟ قال: أرى أن نجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة ولا اختلاف. قلنا: فنعم ما رأيت».
وهكذا تم لعثمان ما أراد من هذا الجمع بمرضاة من الصحابة.
مشكلة عرضت فى هذا الجمع شبيهة بأختها فى الجمع البكرى والحل هو نفس الحل:
أخرج البخارى فى سورة الأحزاب من كتاب التفسير عن زيد بن ثابت أنه قال: «لما نسخنا المصحف فى المصاحف، فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله ﷺ يقرؤها، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصارى الذى جعل رسول الله ﷺ شهادته شهادة رجلين: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ. قال الحافظ فى «الفتح»:
«هذا يدل على أن زيدا لم يكن يعتمد فى جمع القرآن على علمه ولا يقتصر على حفظه، لكن فيه إشكال، لأن ظاهره أنه اكتفى مع ذلك بخزيمة وحده والقرآن إنما يثبت
 
١ ‏/ ٢٠٩
 
بالتواتر، والذى يظهر فى الجواب أن الذى أشار إليه أن فقده فقد وجودها مكتوبة لا فقد وجودها محفوظة، بل كانت محفوظة عنده وعند غيره، و«يدل على هذا قوله فى حديث جمع القرآن: فأخذت أتتبعه من الرقاع والعسب».
كم مصحفا نسخ عثمان من الصحف البكرية؟ اختلف الناس فى عدد المصاحف التى نسخها عثمان من الصحف، وأقل ما قيل فى العدد: أربعة، وأكثر ما قيل تسعة، والظاهر الذى يتفق مع طبيعة الأمور هو وفرة العدد ولا سيما مع قول أنس بن مالك فى حديث البخارى الذى نقلناه لك فى هذا الجمع:
«وأرسل إلى كل أفق بمصحف»، فإنه صريح فى أن المصاحف كانت بعدد الأقطار التى انتشر فيها الإسلام، وإنما كان هذا متفقا مع طبيعة الأمور لأن الغرض هو القضاء على خلاف المختلفين وجمع الكل على مصحف واحد، ولا يتحقق هذا على الوجه الصحيح إلا بأن يرسل إلى كل أفق بمصحف كما قال أنس ﵁.
أين ذهبت الصحف البكرية؟ تبين من حديث زيد بن ثابت فى الجمع البكرى أن الصحف التى جمع فيها القرآن ظلت عند أبى بكر حتى مات، ثم عند عمر حتى مات، ثم عند حفصة. كما تبين من حديث أنس فى الجمع العثمانى أنهم لما نسخوا الصحف فى المصاحف ردها عثمان إلى حفصة. فبقيت عند حفصة طول حياتها دون أن تبالى- رضى الله عنها- بطلب مروان بن الحكم- الذى ولى المدينة بعد وفاة علىّ من قبل معاوية بعد أن آل الأمر إليه- المتكرر لتلك الصحف، فلما ماتت أرسل إلى أخيها عبد الله ابن عمر بالعزيمة أن يرسل إليه بالصحف ففعل، فشققها مروان ثم غسلها بعد ذلك، أو حرقها، أو فعل الأمرين على ما تفيده الروايات التى ذكر الحافظ فى «الفتح» فى هذا المقام.
والله أعلم.
أ. د./ إبراهيم عبد الرحمن خليفة
 
١ ‏/ ٢١٠
 
كتابة القرآن
لا يعرف بالضبط والتحديد الدقيق متى بدأت الكتابة عند العرب الذين هم أمة أمية لا تكتب ولا تحسب كما وصفهم النبى ﷺ فى صحيح سننه، بل وصفهم بذلك القرآن العظيم فى غير ما موضع منه، وجميع الروايات التى يذكر الناس فى هذا المقام لا تقوم على قدم أو تعتمد على ساق، والمهم أنه حين نزول القرآن كان من العرب من يكتبون، حتى اتخذ النبى ﷺ من المؤمنين به كتابا للوحى، أولهم: فى مكة- عبد الله بن سعد بن أبى سرح، وأولهم بالمدينة أبىّ بن كعب، كما قال الحافظ فى «الفتح». ومن أبرزهم: زيد بن ثابت الذى قال أبو بكر فى حديث البخارى الذى نقلناه لك فى الجمع البكرى: «وقد كنت تكتب الوحى للنبى ﷺ».
ولكون الكتابة عند العرب كانت محدثة وفى الأقلين منهم، فإنهم حين كتبوا القرآن كتبوه على ما تيسر لهم من تعلم الخط، ولم تكن هذه الصناعة محكمة لديهم إذ ذاك، فخالفوا فى رسم القرآن أصل قاعدة الكتابة المعروفة الآن أحيانا أو فى الكثير من الأحيان، فتارة كانت مخالفتهم بحذف ما حقه أن يثبت وأخرى بإثبات ما حقه أن يحذف، وثالثة بإبدال حرف مكان آخر، ورابعة بقطع الحرف عما بعده حينا ووصله به آخر، والحرفان هما هما فى الموضعين أو المواضع، إلى غير ذلك من المخالفات لقاعدة الكتابة.
ومن هنا فقد اختلف الناس فى رسم المصحف: أهو توقيفى واجب الاتباع بحيث تحرم مخالفته؟، وهو قول مالك وأحمد كما صرح به السيوطى فى «الإتقان» فى النوع الذى تحدث فيه عن مرسوم الخط. ولا حجة لأصحاب هذا المقام البتة، فإنه لم يثبت أن النبى ﷺ أمرهم بكيفية مخصوصة فى الكتابة، بل وكلّهم فى ذلك إلى ما يحسنون ويطيقون. وما زعم من نحو قوله لبعض كتابه فى كتابة بسم الله الرحمن الرحيم: «ألق الدواة وحرف القلم، وأقم الباء، وفرق السين، ولا تقور الميم» فحديث خرافة من نقلته. وعلى الجملة فقد ضعف الحافظ ابن حجر فى شرحه لحديث عمرة القضاء من «الفتح» جميع الأحاديث الواردة فى تعلم النبى ﷺ
 
١ ‏/ ٢١١
 
الكتابة (١)، وما زعموا من تقرير النبى ﷺ لكتابه على هذا الرسم، فيكون حجة على توقيفيته، فخلط فاحش فى قواعد الأصول، فإن التقرير إن كان لقول
كان حجة على ما تضمنه ذلك القول، فإن كان ما تضمنه القول واجبا كأن قال قائل أمام النبى ﷺ:
هذا واجب. فلم ينكره النبى عليه، دل على وجوبه، وإن كان حراما فكذلك إلى آخر ما تعرف من أقسام الحكم الشرعى. وإن كان التقرير على فعل لم يدل على أكثر من إباحة ذلك الفعل. فكيف لو كان الفعل مجرد صناعة كالكتابة هنا، وقال الكثير من المحققين بعدم توقيفية هذا الرسم، وأنه مجرد صناعة، وتكليف المرء ما لا يحسنه فيها من التكليف بما لا يطاق، ومن هؤلاء المحققين القاضى أبو بكر الباقلانى فى «الانتصار» وابن خلدون فى «مقدمته» والكرمانى فى «عجائبه» والنيسابورى فى مقدمة تفسيره، وإليه مال الحافظ ابن كثير فى «فضائل القرآن» والعز بن عبد السلام حتى إن الأخير قال بحرمة اتباعه فى أيامه لما يؤدى إليه من اللبس على غير حافظ القرآن حين يقرأه من المصحف، ومنهم الزركشى فى «البرهان» الذى فصل بين الخاصة والعامة، فاستحب للخاصة اتباع هذا الرسم، وللعامة كتابته على حسب القواعد المعروفة التى توافق حالهم (٢).
والتحقيق الذى لا محيد عنه لمنصف هو:
أن الرسم مجرد صناعة لا أثر فيها للتوقيف، وما يذكر أصحاب هذا العلم من نكات اختيار الصحابة لكذا دون كذا فى هذا الرسم فسراب. وليت الناس ما شغلوا أنفسهم بهذا فضلا عن أن يجعلوا منه علما حيث لا مبنى لهذا العلم ولا أساس.
أ. د./ إبراهيم عبد الرحمن خليفة
(١) فتح البارى ح ٧ ص ٥٠٤.
(٢) انظر: البرهان فى علوم القرآن، للزركشى ح ١، ص ٣٧٩.
 
١ ‏/ ٢١٢
 
المصحف نقطه وشكله

رسم المصحف أول ما رسم دون نقط أو شكل لسبب يسير جدا هو: أنه لم يكن شىء من ذلك معروفا فى الكتابة عندئذ، وكانت سليقة العربى الخالص وفطرته النقية أمانا له من الالتباس والنطق بغير ما يصح فى العربية، فلما اتسعت الفتوحات واختلط العرب بالعجم سرت اللكنة إلى ألسنة البعض وخفى ما كان بدهى الظهور، فاحتاج الناس إلى ما يؤمنهم اللبس ولا سيما فى قراءة القرآن من المصحف. (١) ولسنا نعرف بالضبط والتحديد الدقيق متى تم هذا النقط والشكل، ولا أول من وقع على يديه. قال السيوطى فيما ذكر من مسائل مرسوم الخط، وفيه أيضا حكم النقط والشكل وحكم ما أضيف من غيرهما إلى المصاحف: (مسألة: اختلف فى نقط المصحف وشكله. ويقال: أول من فعل ذلك: أبو الأسود الدؤلى بأمر عبد الملك بن مروان، وقيل: الحسن البصرى ويحيى بن يعمر، وقيل: نصر بن عاصم الليثى. وأول من وضع الهمز والتشديد والروم والإشمام الخليل. وقال قتادة: بدءوا فنقطوا، ثم خمسوا، ثم عشروا. وقال غيره: أول ما أحدثوا النقط عند آخر الآى، ثم الفواتح والخواتم. وقال يحيى بن أبى كثير: ما كانوا يعرفون شيئا مما أحدث فى المصاحف إلا النقط الثلاث على رءوس الآى. أخرجه ابن أبى داود. وقد أخرج أبو عبيد وغيره عن ابن مسعود، قال: جردوا القرآن ولا تخلطوه بشيء. وأخرج عن النخعى أنه كره نقط المصاحف. وعن ابن مسعود ومجاهد أنهما كرها التعشير. وأخرج ابن أبى داود عن النخعى أنه كان يكره العواشر والفواتح وتصغير المصحف، وأن يكتب فيه سورة كذا وكذا. وأخرج عنه أنه أتى بمصحف مكتوب فيه سورة كذا وكذا آية، فقال: امح هذا فإن ابن مسعود كان يكرهه. وأخرج عن أبى العالية أنه كان يكره الجمل فى المصحف، وسورة كذا، وفاتحة سورة كذا، وقال مالك:
لا بأس بالنقط فى المصاحف التى يتعلم فيها الغلمان، أما الأمهات فلا. وقال الحليمى-
(١) انظر: البرهان فى علوم القرآن، للزركشى، ح ١، ص ٣٧٩.
 
١ ‏/ ٢١٣
 
تكره كتابة الأعشار والأخماس (٢) وأسماء السور وعدد الآيات فيه، لقوله: «جردوا القرآن». وأما النقط فيجوز، لأنه ليس له صورة فلا يتوهم لأجلها ما ليس بقرآن قرآنا.
وإنما هى دلالات على هيئة المقروء فلا يضر إثباتها لمن يحتاج إليها. وقال البيهقى: من آداب القرآن: أن يفخم، فيكتب مفرجا بأحسن خط فلا يصغر ولا تقرمط (٣) حروفه، ولا يخلط به ما ليس منه- كعدد الآيات والسجدات والعشرات والوقوف واختلاف القراءات ومعانى الآيات.
وقد أخرج ابن أبى داود عن الحسن وابن سيرين أنهما قالا: لا بأس بنقط المصاحف.
وأخرج عن ربيعة بن أبى عبد الرحمن أنه قال: لا بأس بشكله.
وقال النووى: نقط المصحف وشكله يستحب؛ لأنه صيانة له من اللحن والتحريف.
وقال ابن مجاهد: ينبغى ألا يشكّل إلا ما يشكل. وقال الدانى: لا أستجيز النقط بالسواد؛ لما فيه من التغيير لصورة الرسم، ولا أستجيز جمع قراءات شتى فى مصحف واحد بألوان مختلفة؛ لأنه من أعظم التخليط والتغيير للمرسوم، وأرى أن تكون الحركات والتنوين والتشديد والسكون والمد بالحمرة، والهمزات بالصفرة. وقال الجرجانى من أصحابنا فى «الشافعى»: من المذموم كتابة تفسير كلمات القرآن بين أسطره.
ثم قال السيوطى: «فائدة»: كان الشكل فى الصور الأول نقطا، فالفتحة نقطة على أول الحرف، والضمة على آخره، والكسرة تحت أوله، وعليه مشى الدانى. والذى اشتهر الآن الضبط بالحركات المأخوذة من الحروف، وهو الذى أخرجه الخليل، وهو أكثر وأوضح، وعليه العمل، فالفتح شكلة مستطيلة فوق الحرف، والكسر كذلك تحته،
والضم واو صغرى فوقه، والتنوين زيادة مثلها؛ فإن كان مظهرا- وذلك قبل حرف حلق ركبت فوقها، وإلا جعلت بينهما، وتكتب الألف المحذوفة والمبدل والتنوين قبل الباء علامة الإقلاب «م» حمراء، وقبل الحلق سكون، وتعرى عند الإدغام والإخفاء، ويسكن كل مسكن، ويعرى المدغم، ويشدد ما بعده إلا الطاء قبل التاء، فيكتب عليها السكون نحو: «فرطت»، ومطة الممدود لا تجاوزه. أه.
على أن الأمر قد صار بعد أمد محل تساهل شريطة أمن اللبس، حتى كتب الناس فى مصاحفهم أسماء السور وعدد آيها، وكونها مكية أو مدنية، بل قسموا القرآن إلى ثلاثين جزءا، والجزء إلى حزبين، والحزب إلى أربعة أرباع، وكل ذلك وضعوا له عناوين فى
(٢) الأعشار هى أن يكتبوا بعد كل عشر آيات كلمة عشر، أو الرمز إليها بحرف «ع»، ويسمى هذا العمل تعشيرا. والأخماس: أن يكتبوا بعد كل خمس آيات كلمة خمس، أو الرمز إليها بحرف «خ»، ويسمى هذا العمل تخميسا.
(٣) يقال: قرمط الكاتب فى الكتابة: جعلها دقيقة متقاربة الحروف والسطور. كما فى المعجم الوسيط.
 
١ ‏/ ٢١٤
 
المصاحف دون نكير من الأوساط العلمية ذات الشأن ما دام اللبس مأمونا والقرآن مميزا لا يختلط بشيء من تلك الإضافات.
أحكام أخرى تتعلق بالمصحف ذكرها صاحب «الإتقان»: قال السيوطى- ﵀: «فصل فى آداب كتابته:» يستحب كتابة المصحف وتحسين كتابته وتبيينها وإيضاحها وتحقيق الخط دون مشقة، وأما تعليقه فيكره. وكذا كتابته فى الشيء الصغير. أخرج أبو عبيد فى «فضائله» عن عمر أنه وجد مع رجل مصحفا قد كتبه بقلم دقيق، فكره ذلك وضربه، وقال:
عظموا كتاب الله.
وكان عمر إذا رأى مصحفا عظيما سرّ به.
وأخرج عبد الرزاق عن علىّ: أنه كان يكره أن تتخذ المصاحف صغارا وأخرج أبو عبيد عنه أنه كره أن يكتب القرآن فى الشيء الصغير.
وأخرج هو والبيهقى فى «الشّعب» عن أبى حكيم العبدى، قال: مر بى علىّ وأنا أكتب مصحفا، فقال: أجل قلمك، فقضمت من قلمي قضمة، ثم جعلت أكتب فقال: نعم، هكذا نوره كما نوره الله. وأخرج البيهقى عن علىّ موقوفا، قال: تنوق رجل فى «بسم الله الرحمن الرحيم» فغفر له. وأخرج أبو نعيم فى تاريخ «أصبهان» وابن أشتة فى «المصاحف» من طريق أبان، عن أنس مرفوعا: «من كتب بسم الله الرحمن الرحيم مجودة غفر الله له». وأخرج ابن أشتة عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى عماله: إذا كتب أحدكم بسم الله الرحمن الرحيم، فليمد «الرحمن». وأخرج عن زيد بن ثابت: أنه كان يكره أن تكتب «بسم الله الرحمن الرحيم» ليس لها سين. وأخرج عن يزيد بن أبى حبيب أن كاتب عمرو بن العاص كتب إلى عمر فكتب: «بسم الله» ولم يكتب لها سينا، فضربه عمر، فقيل له: فيم ضربك أمير المؤمنين؟
قال: ضربنى فى سين. وأخرج عن ابن سيرين: أنه كان يكره أن تمد الباء إلى الميم حتى تكتب السين. وأخرج ابن أبى داود فى «المصاحف» عن ابن سيرين: أنه كره أن يكتب المصحف مشقا (٤)؛ قيل: لم؟ قال: لأن فيه نقصا.
وتحرم كتابته بشيء نجس، وأما بالذهب فهو حسن، كما قاله الغزالى. وأخرج أبو عبيد عن ابن عباس وأبى ذر وأبى الدرداء أنهم كرهوا ذلك. وأخرج عن ابن مسعود: أنه مر عليه مصحف زين بالذهب. فقال: إن أحسن ما زين به المصحف تلاوته بالحق. قال أصحابنا: وتكره كتابته على الحيطان
(٤) فى المصباح: «ومشقت الكتاب مشقا، من باب قتل: أسرعت فى فعله» أه. أى فهو يؤدى بما فيه من العجلة إلى إمكان وقوع نقص فى كلمة أو حرف، وهذا هو ما قصده ابن سيرين ﵀ فيما ذكر من علة كراهته.
 
١ ‏/ ٢١٥
 
والجدران وعلى السقوف أشد كراهة: لأنه يوطأ. وأخرج أبو عبيد عن عمر بن العزيز قال: (لا تكتبوا القرآن حيث يوطأ).
وهل تجوز كتابته بقلم غير العربى (٥)؟ قال الزركشى: لم أر فيه كلاما لأحد من العلماء.
قال: ويحتمل الجواز، لأنه قد يحسنه من لا يقرأ بالعربية، والأقرب المنع كما تحرم بغير لسان العرب، ولقولهم: القلم أحد اللسانين.
والعرب لا تعرف قلما غير العربى، وقد قال تعالى: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ انتهى.
وقد كفانا الله هذا كله بما أتاح لنا من المطابع التى بلغت من الجودة مبلغا عظيما.
ثم قال السيوطى بعد مسألة النقط والشكل:
(فرع): أخرج ابن أبى داود فى كتاب المصاحف عن ابن عباس، أنه كره أخذ الأجرة على كتابة المصحف. وأخرج مثله عن أيوب السّختيانى، وأخرج عن ابن عمر وابن مسعود أنهما كرها بيع المصاحف وشراءها وأن يستأجر على كتابتها، وأخرج عن محمد ابن سيرين: أنه كره بيع المصاحف وشراءها وأن يستأجر على كتابتها، وأخرج عن مجاهد وابن المسيب والحسن أنهم قالوا: لا بأس بالثلاثة. وأخرج عن سعيد بن جبير أنه سئل عن بيع المصاحف فقال: لا بأس، إنما يأخذون أجور أيديهم. وأخرج عن ابن الحنفية أنه سئل عن بيع المصحف قال:
لا بأس، إنما تبيع الورق.
وأخرج عن عبد الله بن شفيق قال: كان أصحاب رسول الله ﷺ يشددون فى بيع المصاحف. وأخرج عن النخعى قال: المصحف لا يباع ولا يورث. وأخرج عن ابن المسيب: أنه كره بيع المصاحف، وقال: أعن أخاك بالكتاب أو هب له. وأخرج عن عطاء عن ابن عباس، قال: اشتر المصاحف ولا تبعها. وأخرج عن مجاهد أنه نهى عن بيع المصاحف ورخص فى شرائها.
وقد حصل من ذلك ثلاثة أقوال للسلف ثالثها: كراهة البيع دون الشراء، وهو أصح الأوجه عندنا، كما صححه فى «شرح المهذب»، ونقله فى «زوائد الروضة» عن نص الشافعى، قال الرافعى: وقد قيل: إن الثمن متوجه إلى الدفتين، لأن كلام الله لا يباع، وقيل: إنه بدل من أجرة النسخ. انتهى.
وقد تقدم إسناد القولين إلى ابن الحنفية وابن جبير، وفيه قول ثالث: أنه بدل منهما معا. أخرج ابن أبى داود عن الشعبى، قال: لا بأس ببيع المصاحف، إنما يبيع الورق
وعمل يديه. أ. هـ. قلت: الصواب مع المجوزين.
ثم قال السيوطى: «فرع»: قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام فى «القواعد»: القيام
(٥) يريد كتابة كلمات القرآن العربية بحروف غير عربية كاللاتينية فى هذه الأيام مثلا. أى مع نطقها بالعربية كما هى. فتنبه.
 
١ ‏/ ٢١٦
 
للمصحف بدعة لم تعهد فى الصدر الأول.
والصواب ما قاله النووى فى التبيان من استحباب ذلك لما فيه من التعظيم وعدم التهاون به.
ثم قال السيوطى: «فرع»: يستحب تقبيل المصحف؛ لأن عكرمة بن أبى جهل- رضى الله عنه- كان يفعله. وبالقياس على تقبيل الحجر الأسود. ذكره بعضهم؛ ولأنه هدية من الله تعالى، فشرع تقبيله كما يستحب تقبيل الولد الصغير. وعن أحمد ثلاث روايات:
الجواز، والاستحباب، والتوقف، وإن كان فيه رفعة وإكرام لأنه لا يدخله قياس، ولهذا قال عمر فى الحجر: لولا أنى رأيت رسول الله ﷺ يقبلك ما قبلتك.
ثم قال السيوطى: «فرع»: يستحب تطييب المصحف، وجعله على كرسى، ويحرم توسده، لأن فيه إذلالا وامتهانا. قال الزركشى: وكذا مد الرجلين إليه. وأخرج ابن أبى داود فى «المصاحف» عن سفيان، أنه كره أن تعلق المصاحف. وأخرج عن الضحاك، قال:
لا تتخذوا للحديث كراسى ككراسى المصاحف.
ثم قال السيوطى: (فرع): يجوز تحليته بالفضة إكراما له على الصحيح، أخرج البيهقى عن الوليد بن مسلم قال: سألت مالكا عن تفضيض المصاحف. فأخرج إلينا مصحفا فقال: حدثنى أبى عن جدى: أنهم جمعوا القرآن فى عهد عثمان، وأنهم فضضوا المصاحف على هذا أو نحوه.
وأما بالذهب فالأصح جوازه للمرأة دون الرجل، وخص بعضهم الجواز بنفس المصحف، دون غلافه المنفصل عنه، والأظهر التسوية.
ثم قال السيوطى: (فرع): إذا احتيج إلى تعطيل بعض أوراق المصحف لبلى ونحوه، فلا يجوز وضعها فى شق أو غيره؛ لأنه قد يسقط ويوطأ، ولا يجوز تمزيقها لما فيه من تقطيع الحروف وتفرقة الكلم، وفى ذلك إزراء بالمكتوب. كذا قال الحليمى. قال: وله غسلها بالماء؛ وإن أحرقها بالنار فلا بأس؛ أحرق عثمان مصاحف كان فيها آيات وقراءات منسوخة، ولم ينكر عليه. وذكر غيره أن الإحراق أولى من الغسل. لأن الغسالة قد تقع على الأرض. وجزم القاضى حسين فى «تعليقه» بامتناع الإحراق، لأنه خلاف الاحترام، والنووى بالكراهة.
وفي بعض كتب الحنفية: أن المصحف إذا بلى لا يحرق، بل يحفر له فى الأرض ويدفن.
وفيه وقفة لتعرضه للوطء بالأقدام.
ثم قال السيوطى: (فرع): روى ابن أبى داود عن ابن المسيب، قال: لا يقول أحدكم:
 
١ ‏/ ٢١٧
 
مصيحف ولا مسيجد؛ ما كان لله تعالى فهو عظيم.
ثم قال السيوطى: (فرع): مذهبنا ومذهب جمهور العلماء تحريم مس المصحف للمحدث، سواء كان أصغر أم أكبر، لقوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (٦).
وحديث الترمذى وغيره: «لا يمس القرآن إلا طاهر».
ثم قال السيوطى: «خاتمة» روى ابن ماجة وغيره عن أنس مرفوعا: «سبع يجرى للعبد أجرهن بعد موته وهو فى قبره: من علّم علما، أو أجرى نهرا، أو حفر بئرا، أو غرس نخلا، أو بنى مسجدا، أو ترك ولدا يستغفر له من بعد موته، أو ورث مصحفا». والله أعلم.
أ. د./ إبراهيم عبد الرحمن خليفة
(بعض مصادر هذا البحث مرتبة على حروف المعجم):
(١) الإتقان فى علوم القرآن، للسيوطى.
(٢) البرهان فى علوم القرآن، للزركشى.
(٣) البيان فى مباحث من علوم القرآن، للأستاذ الدكتور عبد الوهاب عبد المجيد غزلان.
(٤) تفسير النيسابورى بهامش تفسير الطبرى، ط ١ مصطفى الحلبى.
(٥) الجامع الصحيح، للبخارى.
(٦) صحيح مسلم.
(٧) فتح البارى بشرح صحيح البخارى، للحافظ ابن حجر العسقلانى.
(٨) فضائل القرآن، للحافظ ابن كثير.
(٩) المستدرك على الصحيحين، لأبى عبد الله الحاكم.
(١٠) مقدمة ابن خلدون.
(١١) مناهل العرفان فى علوم القرآن، للشيخ محمد عبد العظيم الزرقانى.
(١٢) الانتصار للقرآن، للقاضى أبى بكر الباقلانى.
(١٣) النشر فى القراءات العشر، لابن الجزرى.
(٦) سورة الواقعة: ٧٩.
 
١ ‏/ ٢١٨
 

عن الكاتب

Tanya Ustadz

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية