الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

حجية السنن الإلهية في القرأن

حجية السنن الإلهية في القرأن

ا لكتاب: الموسوعة القرآنية المتخصصة
المؤلف: مجموعة من الأساتذة والعلماء المتخصصين
رئيس التحرير: أ.د. علي جمعة
الناشر: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، مصر
عام النشر: ١٤٢٣ هـ - ٢٠٠٢ م
عدد الصفحات: ٨٨٢
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
الموضوع: علوم القرأن
 

فهرس الموضوعات

  1. حجية السنن الإلهية
  2.     -(١) فى رحاب القرآن الكريم
  3.     -(٢) مفهوم السنن الإلهية لغة ومصطلحا
  4.     -(٣) سنن الإيمان بوحدانية الله وتنزيهه سبحانه
  5.     -(٤) جزاء الإيمان بالله وثوابه
  6.     -(٥) سنة الله مع الكفر والكافرين
  7.     -(٦) توصيف القرآن لطوائف الكافرين
  8.     -(٧) تتابع سنتى الإيمان والعصيان فى آية واحدة أو أكثر
  9. (٨) سنن الخلق
  10.     -سنن الله فى الآيات الكونية:
  11.     -اتساع الكون وزيادته بغير حدود.
  12.     (٩) السنن الإلهية فى خلق الأرض
  13.         -السير فى الأرض:
  14.         -منحة إلهية مقرونة بمعجزات ربانية:
  15.         -نهاية الحياة الدنيا، وقيام الساعة 
  16. العودة إلي كتاب الموسوعة القرآنية المتخصصة

 حجية السنن الإلهية (١) فى رحاب القرآن الكريم
القرآن كلام الله ﷾ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ١ ومنه تستمد الأحكام فى نطاق العقيدة والشريعة، وفى أعطافه تنظيم أحوال الخلق فى دنياهم وأخراهم، لأنه سبيل الهداية ومنهج الرشد، وقد جعله الله تعالى آية على صدق رسوله ﷺ فى الرسالة الخاتمة التى حمّلها الله إياه فى كمال صدقها وإعجاز وسطيتها، وتمام إبلاغها عن رسالات الله إلى من سبقه من الأنبياء والمرسلين، وكتبهم التى أنزلها الله عليهم، وأخبارهم مع من آمنوا معهم ومن كفروا برسالة
خالقهم وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا. (٢)
والقرآن الكريم هو المعجزة الكبرى التى عليها بنيت رسالة محمد ﷺ، وهى الرسالة الخالدة الخاتمة طبقا لنص الآية الكريمة إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ. (٣)
هذا المعنى يردده عدد من العلماء الذين عنوا بالدراسات القرآنية- ونعنى به المعجزة الكبرى أو الوحيدة- ويضيفون القول: بأن الرسول ﷺ قد أيّد بمعجزات كثيرة إلا أن تلك المعجزات قامت فى أوقات وأحوال ومناسبات خاصة، ونقل بعضها متواترا وبعضها نقل نقلا خاصا (هكذا)، ثم يضيف هذا الفريق قائلا: وأما القرآن فهو معجزة عامة، ولزوم الحجة به باق من أول ورودها إلى يوم القيامة. (٤)
وهذا القول فيما يتصل بمعجزة القرآن الكريم صواب لا يحتمل الجدل أو النقاش، ولكن ثمة خشية فيما يتصل بالمعجزات الأخرى الكثيرة، أن يؤدى ذلك إلى التقليل من شأنها أو التهوين من قيمتها مثل معجزات النصر، ومعجزة الإسراء والمعراج خصها المولى بسورتين كاملتين هما سورة الإسراء وسورة النجم، على النحو الذى سوف نعرض له فى الفصول القادمة من هذه الدراسة بإذن الله.
إن الله- ﷾ والقرآن وحيه وكلامه- يزكى كتابه العزيز فى كثير من الآيات، ويرفع من قدره مع التسليم بتلك
(١) سورة فصلت الآية ٤٢.
(٢) البقرة الآية ١٤٣.
(٣) سورة الحجر الآية ٩.
(٤) تفسير التحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر بن عاشور، المقدمة العاشرة صفحة ١٠٢.
 
١ ‏/ ٨٠٨
 
الحقيقة من رفعة القدر فى آيات أخرى كثيرة، ويجعل منه قسما- بفتح السين- على صدقه فى مواقع عدة، ثم يتحدى الذين لم يؤمنوا به بآيات تخذلهم وتسفه كفرهم به، الأمر الذى يفحمهم ويؤدى إلى إيمان فريق كبير منهم بصدقه وقدسيته، وأنه كلام منزل من رب العالمين.
وإن كل من يمسك المصحف بيديه يقع بصره أول ما يقع على قول الله جل وعز:
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. (٥)
فى هذه الآيات الأربع القصيرة شحنة نفسية من تكريم رب العالمين وتعزيزه وتقديسه لكتاب رب العالمين، فلا يمسه إلا المطهرون، الأمر الذى نزه الله به كتابه العزيز من أن يمسه بيديه إنسان على غير طهارة لأنه تنزيل منه نفيس كريم.
ولما كان القرآن الكريم كتابا ربانيا يهدى من الضلال إلى الإيمان ومن الشك إلى اليقين، فإن هذه القيم تجىء واضحة جلية فى قول الحق سبحانه: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا. (٦)
وفى السورة نفسها تتكرر النفحات الإلهية فى تعزيز القرآن الكريم ووصفه بأعز وصف وأكرم توصيف فى قوله جلّ وعزّ:
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسارًا (٧)
ويتولى التعزيز الإلهى فى بلاغة إعجازية؛ لتثبيت النفحات الربانية التى تضمنها الكتاب العزيز حاملة الإنذار لسكان مكة ومن حولها، لأن القرآن الكريم نزل أول ما نزل على محمد ﷺ فى غار حراء فى جبل النور فى الطرف الشمالى لمكة، فيقول الحكيم الخبير سبحانه:
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ. (٨)
إن أهل مكة ومن حولها عرب خلّص ذوو بلاغة، وأصحاب فصاحة وأرباب بيان، يتذوقون حسن القول، ويتعشقون بديع الكلام، فقد شاءت إرادة الخالق منزل الكتاب أن يغلق على أهل مكة كل باب ينكرون من خلاله صدق القرآن، وأن يسقط كل حجة يتذرعون بها للشك فى جلالة هذا الوحى، الذى يسمعونه من محمد الذى أجمعوا على وصفه بالأمين، فجاءت الآية الكريمة ملبّية لملكاتهم البليغة فيما لو صدقوا النية، ولسجيتهم الفصيحة متى أخلصوا العزم قال ﷿:
كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
(٥) سورة الواقعة الآيات ٧٧ - ٨٠.
(٦) سورة الإسراء الآية ٩.
(٧) الإسراء الآية ٨٢.
(٨) سورة الأنعام الآية ٩٢.
 
١ ‏/ ٨٠٩
 
(٣) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ، وقد شاءت الإرادة الإلهية أن تكون هذه الآيات الثلاث مسبوقة بتوكيد إلهى بأن هذا الكلام منزل من عند الله، وذلك فى قوله تعالى: تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. (٩)
ولتمكين هذه الحقائق فى أسماع كفار قريش، المعروفة بالفصاحة وذلك بشهادة رسول الله ﷺ حين قال له أبو بكر الصديق متسائلا: ما رأينا الذى هو أفصح منك يا رسول الله!! فكانت إجابة الرسول ﷺ على تساؤل أبى بكر: «لأنى ولدت فى قريش وربيت فى بنى سعد» والمعنى النبوى: أن كلا من قريش وبنى سعد أفصح القبائل وكانت نشأة رسول الله فيهما طفلا وصبيا فى الأولى وشابا ويافعا ثم كهلا فى الثانية، ومن هنا كان وصف القرآن فى الآية الكريمة قُرْآنًا عَرَبِيًّا حجة على قريش وتحديا غير مباشر لفصحائهم بخاصة، ولجمهرتهم بعامة.
ويتكرر فى الكتاب العزيز التوصيف الإلهى للقرآن الكريم بأنه منزل بالعربية فى قول الله جل وعز: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٠) وقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١١) وقد استهلت سورة الزخرف التى وردت فيها هذه الآية بقسم عظيم هو قوله تعالى: حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ ثم كانت الآية التالية: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ والآيتان الأخيرتان: آية يوسف وآية الزخرف متشابهتان شكلا وصوغا، متباينتان هدفا وغرضا، فآية يوسف إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ فيها تحدّ غير مباشر لكفار قريش، وأما آية الزخرف فهى إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ولفظ جعلناه يحمل تحديا مباشرا لمنكرى أن الكتاب
العزيز منزل من عند الله رغم القسم الإلهى ب الْكِتابِ الْمُبِينِ.
أما وقد استبد المخاطبون من العرب بفساد الرأى وقبح الإنكار فقد تحداهم منزل الكتاب- سبحانه- أن يعارضوه بما يماثله بلاغة أو يعدله حكمة وبيانا، فنزل قوله ﷿: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. (١٢)
فلم يستجيبوا بطبيعة الحال، ليس عنادا وعصبية هذه المرة، ولكن عجزا وقصورا وخذلانا، فيعطيهم منزل الكتاب العلىّ الكبير مزيدا من التيسير بعد أن يعطيهم مزيدا من التأكيد على أن الكتاب كتابه، وأن الكلام
(٩) فصلت الآيات ٢ - ٤.
(١٠) يوسف الآية ٢.
(١١) الزخرف الآية ٣.
(١٢) سورة هود الآيتان ١٣، ١٤.
 
١ ‏/ ٨١٠
 
كلامه فيوحى إلى رسوله ﷺ قوله تعالى:
وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. (١٣)
ثم يتبع المولى هذه الحجة البالغة بحجة أخرى تخرس الكفار فيما يخرصون وتلجم ألسنتهم عما يكذبون فينزل قوله تعالى:
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. ثم تتم الآية التالية كمال صيغة التحدى بقوله ﷿:
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٤).
ويجتهد القاضى عياض- إمام المغرب- فى تعليل إنكار المنكرين بقوله: «فلم يزل يقرعهم النبى ﷺ أشد التقريع ويوبخهم غاية التوبيخ ويسفه أحلامهم ويحط أعلامهم وهم فى كل هذا ناكصون عن معارضته محجومون عن مماثلته، يخادعون أنفسهم بالتكذيب والإغراء والافتراء وقولهم: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ وسِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ وإِفْكٌ افْتَراهُ وأَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وقد قال تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فما فعلوا وما قدروا. ومن تعاطى ذلك من سخفائهم كمسيلمة كشف عواره لجميعهم، ولما سمع الوليد بن المغيرة- وهو من فصحائهم- قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ النحل: ٩٠ قال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وما هو بكلام بشر. وذكر أبو عبيدة أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ الحجر: ٩٤ فسجد، وقال: سجدت لفصاحة هذا الكلام، وكان موضع التأثير فى هذه الجملة هو كلمة «اصدع» فى إبانتها عن الدعوة والجهد بها والشجاعة فيها، وكلمة «بما تؤمر» فى إيجازها وجمعها. وسمع آخر رجلا يقرأ:
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا (١٥). قال:
«أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام» (١٦).
وفى مقام إعجاز القرآن وحقيقة كونه لا يماثله كلام بشر، وأنه كلام رب العالمين الذى لا يجاريه كلام مخلوق، الحديث الذى تمثل به الشيخ ابن عاشور فى المقدمة العاشرة:
ما رواه مسلم عن أبى هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «قال الله تعالى: قسمت الصلاة- أى سورة الفاتحة- بينى وبين عبدى نصفين، ولعبدى ما سأل، فإذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، قال الله تعالى: حمدنى عبدى. وإذا قال: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، قال الله تعالى: أثنى علىّ عبدى، وإذا قال:
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، قال: مجّدنى عبدى
(١٣) سورة يونس الآيتان ٣٧، ٣٨.
(١٤) سورة البقرة الآيتان ٢٣، ٢٤.
(١٥) الضمير فى استيأسوا يعود على أخوة يوسف.
(١٦) كتاب الشفا للقاضى عياض صفحة ٥٦.
 
١ ‏/ ٨١١
 
(وقال مرّة: فوّض إلىّ عبدى) فإذا قال:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، قال: هذا بينى وبين عبدى ولعبدى ما سأل، فإذا قال:
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، قال: هذا لعبدى ولعبدى ما سأل» (١٧).
وفى تلك الدراسة القيمة التى أعدها الشيخ الطاهر بن عاشور عن إعجاز القرآن وعن كونه كلام الله وليس كلام بشر، يضرب أمثلة عديدة لشهادة بعض عتاة الكفر قبل أن يسلموا مثل الوليد بن المغيرة- وقد أوردنا له فيما سلف وصفا للقرآن- ومثل عتبة بن ربيعة والنضر بن الحارث وغيرهم. وكان الوليد بن المغيرة يذهب متخفيا بليل إلى بيت النبى ﷺ ليتسمع تلاوة الرسول للقرآن الكريم- وكذلك يفعل أقرانه دون أن يخبر أحدهم زميله للغرض نفسه- فلما استمع الوليد إلى قراءة النبى ﷺ قال: «والله ما هو بكاهن، وما هو بزمزمته ولا سجعه، وقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه، وقريضه ومبسوطه ومقبوضه، ما هو بشاعر».
وكذلك فعل أنيس بن جنادة الغفارى أخو أبى ذر حين اتجه إلى مكة ليسمع من النبى ﷺ ليخبر أخاه أبا ذرّ بما سمع، وكان أبو ذر مشوقا إلى سماع خبر عن القرآن من مصدر يثق به، وعن محمد الذى يتنزل عليه هذا القرآن، فعاد أنيس إلى أخيه ليخبره بما سمع فقال: «لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعته على أقراء الشعر- أى طرقه- فلم يلتئم، وما يلتئم على لسان واحد بعدى أنه شعر». فأسلم أنيس وأبو ذر (١٨)، وكان من شأن أبى ذر ما كان من اقترابه من رسول الله، ومن
حب رسول الله له ما قد امتلأت به كتب السيرة والصحاح من كتب الحديث.
لقد برع العرب حين نزول القرآن فى فنون الأدب التى كان الشعر أهمها شأنا وأخطرها أثرا، كانت لهم الفصاحة فى الخطب والأمثال والمحاورات، فجاء القرآن بأسلوب جديد صوغا ومحتوى صالحا لأغراض الحياة كلها تضمن الجديد من أغراض فنون القول جميعا: الخطابة والحوار والجدل والقصص والرواية والأخبار عن الأولين وضرب الأمثال وتربية المجتمع الإسلامى تربية رفيعة تصلح شأنه فى الدنيا وتسعد مصيره فى الآخرة.
لقد آمن العرب جميعا بإعجاز القرآن لأنه كلام الله، كما اعترفوا بعجزهم من محاكاته أو الإتيان بآية واحدة من مثله على النحو الذى فصلناه فيما سلف من قول؛ ولكن فريقا ممن دخلوا فى الإسلام، أكثرهم من غير العرب- وإن كان الإسلام لا يفرق بين عربى وأعجمى- أطلقوا على أنفسهم «أهل العدل» وعرفوا بالمعتزلة، اخترعوا فرية حول إعجاز القرآن الكريم أطلقوا عليها «الصّرفة» ومعناها أن القرآن ليس معجزا بذاته ولكن سبب إعجازه أن الله صرف العرب عن أن ينشئوا مثله، وهو رأى فاسد، ومذهب قبيح،
(١٧) تفسير التحرير والتنوير: المقدمة العاشرة صفحة ١٠٨.
(١٨) المصدر السابق صفحة ١١٤.
 
١ ‏/ ٨١٢
 
فيه تطاول على القرآن الكريم ومنزل القرآن الكريم- ﷾ وذهبت هذه الفرقة من القرآن مذاهب شتى، وابتدعوا فتنة عذّب بسببها عدد كبير من كبار علماء المسلمين ومات بعضهم فى السجن، وهذه الفتنة عرفت بفتنة «خلق القرآن» وتبناها ثلاثة من خلفاء بنى العباس وبعض من شايعهم، ولكن الله لطف بكتابه وبالمؤمنين من عباده، والمتقين من علماء دينه، فلم تستمر بفتنة طويلا، بل إن المذهب نفسه أصابه الانحلال وانفضّ المؤمنون عن المنادين به، ولم يبق منه إلا القليل فى فكر عدد محدود من علماء المسلمين المعاصرين. فالقرآن إذن هو كلام الله الذى جعله آية على صدق محمد ﷺ فى حمل الرسالة الخاتمة التى حمّلها المولى إياه والقيام بتبليغها إلى الخلق كافة.
إن القرآن معجز للبشر كافة إعجازا مستمرا موصولا على مر العصور وكرّ الدهور؛ ومن جملة ما شمله قول أئمة الدين:
أن القرآن هو المعجزة المستمرة على تعاقب السنين، لأنه قد يدرك إعجازه العقلاء من غير الأمة العربية بواسطة ترجمة معانيه التشريعية والحكمية والعلمية والأخلاقية. (١٩)
ولقد تحقق ذلك فى زماننا هذا بقدر ملحوظ، ذلك أن عددا غير قليل ممن قرءوا ترجمات معانى القرآن إلى لغاتهم قد آمنوا بقدسيته وأعلنوا إسلامهم وعملوا فى بلدانهم فى مجال التبشير بالإسلام، ويشاركوننا فى مؤتمراتنا وندواتنا الإسلامية مشاركة فاعلة ولهم الأجر من الله على دعوة قومهم إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
وما أطيب أن نختم هذا الفصل من الحديث عن بعض معالم القرآن الكريم بقول الله- منزل القرآن- ﷿: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجًا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. (٢٠)
أ. د. مصطفى الشكعة
(١٩) تفسير الشيخ الطاهر بن عاشور المقدمة العاشرة صفحة ١٠٥.
(٢٠) المائدة الآية ٤٨.
 
١ ‏/ ٨١٣
 
(٢) مفهوم السنن الإلهية لغة ومصطلحا
إن مادة «سنن» وردت فى القواميس والمعاجم متعددة المعانى وافرة المدلولات، متقاربة حينا ومتباعدة أحيانا أخرى كثيرة، وإن استعراضها على النحو المفصل الذى ورد فى المعاجم ليس من الفائدة فى شىء فى هذا المقام، أو بالأحرى فى هذه الدراسة التى ينحصر البحث فيها فى السنن الإلهية.
يقول الفيروزآبادى: السنة- بضم السين- السيرة والطبيعة، ومن الله حكمه وأمره ونهيه، ويجيء صاحب المعجم بشاهد من الآية ٥٥ من سورة الكهف فى قوله تعالى:
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ الكهف: ٥٥ أى معاينة العذاب. وسنن الطريق- مثلثة وبضمتين- نهجه ووجهته (١).
ويقول الراغب الأصفهانى: السنن جمع سنة، وسنة الوجه طريقته، وسنة الله تعالى قد تقال لطريق حكمته نحو: اسْتِكْبارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (الآية ٤٣ من سورة فاطر) وهو تنبيه أن فروع الشرائع وإن اختلفت صورها، فالغرض المقصود منها لا يختلف ولا يتبدل- وهو تطهير النفس وترشيحها للوصول إلى ثواب الله تعالى وجواره. (٢)
ويعرض معجم ألفاظ القرآن الكريم المادة على النحو الآتى:
سنة الأولين: طريقهم وسيرتهم ويردف قوله بالشاهد من القرآن الكريم فى قوله تعالى فى الآية ٣٨ من سورة الأنفال: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ.
وسنة الله نظامه يجريه فى خلقه كما يريد:
ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (٣) (الأحزاب: ٣٨).
وسنة من قد أرسلنا: طريق الله فيمن أرسلهم سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا. (٤)
(١) القاموس المحيط مادة سنن الجزء الثالث طبعة مصطفى البابى الحلبى.
(٢) المفردات فى غريب القرآن من مادة السين مع النون طبعة الأنجلو المصرية.
(٣) سورة الأحزاب الآية ٣٨.
(٤) سورة الإسراء الآية ٧٧.
 
١ ‏/ ٨١٤
 
سنن: جمع سنة: سير وطرق: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (آل عمران:
١٣٧) (٥) (٦)
هذا عرض موجز لمعنى السنن الإلهية طبقا لما أوردته أهم المعاجم التى عنيت بالمصطلحات القرآنية ومن بينها بطبيعة الحال السنن الإلهية.
وبرغم وصفنا لما عرضناه- مستمدا من المعاجم بإيجاز- فإن ما أوردته المعاجم نفسها فى هذه القضية كان بدوره شديد الإيجاز، وقد كان من المأمول أن يكون تناول المعاجم لمثل هذه المصطلحات القرآنية الهامة أكثر تفصيلا وأوفر تمثيلا، ذلك أن بعض المعاجم بل أكثرها كان يكتفى بذكر جزء مقتطع من الآية القرآنية الخاص بالمصطلح.
من ذلك على سبيل المثال: ما أورده معجم ألفاظ القرآن حين تمثل بالآية رقم ١٣٧ من سورة آل عمران، ظنا من مؤلفيه أن مجرد ذكر الآية كافيا للوفاء ببيان المصطلح، مع أن التناول الذى يفى بالغرض هو التمثيل بالآية وما تلاها من آيات أخر، وذلك فى قول الله جل ثناؤه: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ثم يكمل: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. (٧)
إن الآيات الأربع تشمل عدة سنن إلهية وليس سنة واحدة، ومثلما أن الآيات اللاحقة تحقق استكمالا لنوعية السنن الإلهية وأغراضها فكذلك الحال- لمن يريد استيفاء هدفه فى هذا الشأن- أن يهتم بالآيات السابقة على آية «السنة» فى مثل قوله تعالى:
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨) فالآية مسبوقة بآيات ثلاث طوال فى النكاح ومواطن تحريمه وهى الآيات رقم ٢٣ - ٢٥ وفيها يقول المولى سبحانه: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُورًا رَحِيمًا (٢٣) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
(٥) سورة آل عمران آية ١٣٧.
(٦) معجم ألفاظ القرآن الكريم، مجمع اللغة العربية ط، مادة س ن ن صفحة ٦٠١.
(٧) آل عمران الآيات ٣٧ - ٤٠.
(٨) النساء الآية ٢٦.
 
١ ‏/ ٨١٥
 
النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (٢٤) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
بهذا المنهج يتحقق بيان السنة أو السنن التى ذكرت فى الآية ٢٦ السالف ذكرها.
وفى مجال دراسة لبعض السنن وإيضاح بعض ما يثار حولها من حوار أو نقاش (٩) فقد حسمها المرحوم سيد قطب بقوله: «قد تأخذنا فى بعض الأحيان مظاهر خادعة لافتراق السنن الإلهية حتى نرى أن اتّباع القوانين الطبيعية يؤدى إلى النجاح مع مخالفة القيم الإيمانية، هذا الافتراق قد لا تظهر نتائجه فى أول الطريق، ولكنها تظهر حتما فى نهايته؛ وهذا ما وقع للمجتمع الإسلامى نفسه، لقد بدأ خط صعوده من نقطة التقاء القوانين الطبيعية فى حياته مع القيم الإيمانية، وبدأ خط هبوطه من نقطة افتراقها، وظل يهبط كلما انفرجت زاوية الافتراق حتى وصل إلى الحضيض عند ما أهمل السنن الطبيعية والقيم الإيمانية جميعا». (١٠) ويضيف المصنف قائلا: «إن الوجود ليس موجودا لقوانين إلهية صماء عمياء فهناك دائما- وراء السنن- الإرادة المدبرة والمشيئة المطلقة».
ومجمل القول عندنا: أن السنن الإلهية إجبارية تجرى على المخلوقات جميعا من أفراد وكائنات، وأن منهجنا فى هذا البحث محدد بمفهوم «السنن الإلهية» طبقا لتعريفها الذى أوردناه فيما سلف من سطور.
أ. د/ مصطفى الشكعة
(٩) يراجع فصل هل للتاريخ البشرى سنن فى مفهوم القرآن فى كتاب «المدرسة القرآنية» للسيد محمد باقر الصدر صفحة ٤٣ وما بعدها طبعة بيروت سنة ١٤٠٠ هـ.
(١٠) فى ظلال القرآن الكريم ١/ ١٧.
 
١ ‏/ ٨١٦
 
(٣) سنن الإيمان بوحدانية الله وتنزيهه سبحانه
إن الإيمان بالله- سبحانه- ربا واحدا لا شريك له، وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر هو روح الوجود وسنام العقيدة التى على مكوناتها تستقيم شئون الكون كله، والبشرية جزء منه.
وقد تكفّل كتاب الله ببيان ذلك فى كثير من السور ما كان مكيا فيها وما كان مدنيا، وتكتمل الوحدانية والتنزيه فى قوله- ﷿ فى سورة الإخلاص: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١) اللَّهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (٤)
وكذلك يتجلى التوحيد والتنزيه فى الآية الكريمة من سورة البقرة الآية ٢٥٥ التى اصطلح على تسميتها بآية الكرسى وهو قوله ﷿: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ.
وفى الساحة الإيمانية التنزيهية الموحدة يأتى قول الله- جل وعز- فى سورة الحشر الآية ٢٤: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. فالآية تجمع بين التوحيد وعلم الغيب والشهادة، والتنزيه بذكر خمسة عشر اسما من الأسماء الحسنى التسعة والتسعين، ويستطيع المتأمل الراشد أن يتبين كم من صيغ التوحيد والتنزيه مفردة ومجتمعة حفلت بها الآية الكريمة من كتاب الله.
ثم يعظّم من شأن الألوهية وحتمية وجودها: شهادة الخالق- ﷻ مقرونة بشهادة ملائكته وعلماء بنى الإنسان الذين كرّمهم بذكر شهادتهم تالية لشهادته تباركت أسماؤه، مؤكدة وحدانيته، وأن الدين عند الله هو الإسلام. يقول الحق ﵎ فى
 
١ ‏/ ٨١٧
 
هذا الشأن: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١).
ثمت بيان آخر فى الآية حول أهل الكتاب وإصرارهم على كفرهم بعد ما جاءهم من صريح العلم بأن الدين عند الله هو الإسلام وهذا الإصرار مصدره الإصرار على مقام السيادة والرئاسة على قومهم وحسدهم بعضهم بعضا.
وتجىء هذه السنة الإلهية فى صيغة إيمانية فيها مزيد من الشمول وكثير من التفصيل فى قول الله تعالى: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢).
ومن الآيات القرآنية التى تحمل سنن الله فى كمال الإيمان غير المشوب بما يعكر صفوه وينزهه عن الشوائب «آية البر» التى تتجمع فى أعطافها جواهر الإيمان وعناصره الأصيلة التى تجعل ممن يعمل بها مؤمنا بمفرداتها ممارسا لسائرها، قول الله جل ثناؤه: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣).
إن لهذه الآية طبيعة خاصة فى أنها تنبه إلى فعل الخير وأنه ليس مقصورا على إقامة الصلوات، وأداء الفرائض وحسب، وبذلك يظهر المؤمن أنه قد أدى واجبه نحو ربه وأنه أدى ما عليه من دين، ولكن الأمر أوسع من ذلك بكثير، إن الأمر يتمثل فى تلك التوجيهات الربانية والتوجيهات الإيمانية التى قدمها القرآن الكريم واضحة المعالم والقسمات ظاهرة المعانى والتفصيلات فى نص تلك الآية الكريمة من سورة البقرة.
أ. د/ مصطفى الشكعة
(١) سورة آل عمران الآيتان ١٨، ١٩.
(٢) سورة آل عمران الآيتان ٨٤، ٨٥.
(٣) سورة البقرة ١٧٧.
 
١ ‏/ ٨١٨
 
(٤) جزاء الإيمان بالله وثوابه
إن الإيمان بالله نعمة كبرى ونفخة مباركة عظمى فإن للمؤمنين حسن الجزاء من الله، وهو جزاء جميل فى الدنيا وجليل فى الآخرة، فهو فى الدنيا شعور بحلاوة الإيمان التى تقود إلى العيش فى حياة راضية ونفس مطمئنة، وسعادة أخرى برضى الناس عنهم والثقة فيهم والتقرب إليهم، هذا فضلا عن ذلك السياج الصالح الذى تعيش فى إطاره أسرهم من أزواج وأبناء وحفدة وكونهم عنوانا للخير ومثالا للصلاح، وأما جزاؤهم فى الآخرة فجنات عرضها السموات والأرض أعدها الله لهم ولأمثالهم من المتقين.
ويضرب الله الأمثال لهؤلاء المؤمنين المتقين فى الكثير من آيات كتابه العزيز كما فى قوله ﷿: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحًا وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (١).
إن هذه الآيات المباركات بسلاسة أسلوبها، وعبق نفحاتها، وصدق كلماتها، وإعجاز بيانها ونفاسة محتواها، وقداسة وعودها، وجلاء لفظها، ونضرة وقعها فى الأسماع والقلوب، كيف لم تطرق أسماع من تليت عليهم طرق المستجيب ووقع المستنير؟ ولكنهم بسبب عمق كفرهم وشراسة إعراضهم خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢).
وفى سورة أخرى من سور سنن مكافأة المؤمنين وحسن جزائهم يقول جل وعز:
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١)
(١) سورة فصلت الآيات ٣٠ - ٣٥.
(٢) سورة البقرة الآية ٧.
 
١ ‏/ ٨١٩
 
وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٣).
إن مجموعات الآيات التى تحمل سنن الله فى حسن الجزاء يمكن أن نعدها آيات مبشرة معلّمة؛ لأنها دائما تبشر بعمل الخير، وتدعو إلى كمال الإيمان والتقوى وصالح الأعمال، وقد شاءت الإرادة الإلهية أن تكون صياغتها وألفاظها ذات إلف وإيقاع وحسن تقبل فى الأسماع والقلوب.
ويضم القرآن الكريم عشرات من الآيات المفردة المبشرة بحسن الجزاء بحيث لا تكاد تخلو سورة من آية أو أكثر من هذه الآيات المباركات، والله- سبحانه- فضلا منه وكرما- يضفى على صياغتها الإلهية ما يجعل لها القبول نفسه الذى تحظى به مجموعات الآيات المتتالية التى نزلت فى هذا الغرض والتى منها على سبيل المثال قوله جل وعز:
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٤).
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٥).
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (٦).
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٧).
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨).
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٩).
أ. د/ مصطفى الشكعة
(٣) سورة الرعد الآيات ١٩ - ٢٢.
(٤) سورة التوبة الآية ٧٢.
(٥) البقرة الآية ٢٥.
(٦) سورة النساء ١٢٢.
(٧) سورة إبراهيم الآية ٢٣.
(٨) سورة الحديد الآية ١١.
(٩) سورة القمر الآيتان ٥٤، ٥٥.
 
١ ‏/ ٨٢٠
 
(٥) سنة الله مع الكفر والكافرين
لقد أوضحنا السنة الإلهية مع المؤمنين، ولما كان فريق كبير من الناس أرسل الله إليهم رسله ليؤمنوا به ربّا واحدا لا شريك له وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فلم يستجيبوا لدعوة الإيمان وظلوا يتخبطون فى سراديب الكفر وظلام الضلالة، فقد عنى القرآن الكريم بوصف حالهم وتصوير عصيانهم وكشف كيدهم عدوانا على الأنبياء وإيذاء للمؤمنين، مع تكرار دعوة الإيمان المكللة بالعفو والغفران، وترك لهم الخيار فاختاروا طريق جهنم وانحازوا إلى سبيل الغواية الذى يؤدى بهم إلى نار الجحيم.
إن هذا الفريق من الذين اختاروا الكفر عنادا واستكبارا واستسلموا لشياطينهم الذين أضلوهم- ونعنى هنا كفار قريش- قد استمعوا- بين ما قد استمعوا إليه من الكتاب الذى أنزل على محمد ﷺ قول الله ﷿:
إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئًا اتَّخَذَها هُزُوًا أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. (١)
إن الذين استمعوا إلى تلك الآيات من كتاب الله المنزل على محمد ﷺ المتلو على أسماعهم مبينا سنن الله فى شئون حياتهم مما احتوته الآيات من دعوة إلى الإيمان مؤيدة بالبرهان ثم ما تلاها من نذير لا يحول بينه وبينهم ما اتخذوه من أولياء من دون الله: ثم لم يؤمنوا، مستحقون للعذاب الذى هو أشد أنواع العقاب، إنه جهنم التى أعدها الله للكافرين.
ولقد عنى الكتاب العزيز بوصف أحوالهم وإصرارهم على كفرهم وكشف كيدهم ولؤمهم، وبيان كذبهم على الله ورسوله
(١) سورة الجاثية الآيات ٣ - ١٠.
 
١ ‏/ ٨٢١
 
والمؤمنين، ودحض حججهم وتسفيه عللهم؛ وذلك لأن الشرك والكفر هما أسوإ سبيل لعصيان رب الكون وخالقه، وذلك فى قوله ﷿:
إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (لقمان آية ١٣).
يقول الله ﷿ فى شأن هؤلاء: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (١٦٨) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَدًا وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا. (٢)
إن هؤلاء الكفار لم يقف الأمر بهم عند رفض الإيمان ولكنهم كانوا يصدّون الناس عن الإيمان بالترغيب تارة وبالترهيب والأذى تارات أخرى، وإن ما كان يصنعه طغاة مشركى قريش من إيقاع أشد أنواع الأذى بالذين آمنوا من المستضعفين مسطور فى كتاب الله ومسجل فى كتب السيرة.
وفى هؤلاء أيضا يقول الله ﷿: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (٣).
وإن دائرة الكفر لا يقف الأمر بها عند إنكار الإيمان بالله، وإنما تتسع تلك الدائرة لتشمل من كفر بالملائكة أى أنكر وجودهم ومن كفر بكتب الله ورسله واليوم الآخر، وتلك ظاهرة عند بعض المعاصرين ممن يظهرون الإيمان، لكن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر كلّ لا يتجزأ، وإن إنكار ركن من هذه الأركان الخمسة يخرج بصاحبه عن دائرة الإيمان، وفى ذلك يقول الله ﷿ فى محكم كتابه وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا (٤) ثم تتضمن الآية التالية صورة أخرى للكفر هى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ثم تجىء الآية التالية لتكمل صورة الكفار بالمنافقين وذلك فى قول الله ﷿: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذابًا أَلِيمًا (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (٥).
والمنافقون من أشد الكفار خطرا على المؤمنين؛ لأنهم يعمدون إلى الخديعة حين يتظاهرون بالإيمان ويبطنون أشد أنواع الكفر حقدا على المؤمنين وتضليلا لهم، ومن ثمّ كان مكانهم فى الآخرة هو الدرك الأسفل من النار تصديقا لقوله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (٦) وفى وصف تضليل هؤلاء المنافقين وخداعهم يقول المولى ﷿: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ
(٢) النساء الآيات ١٦٧ - ١٦٩.
(٣) سورة محمد الآية ٣٤.
(٤) النساء من الآية ١٣٦.
(٥) النساء الآيات ١٣٧ - ١٣٩.
(٦) سورة النساء الآية ١٤٥.
 
١ ‏/ ٨٢٢
 
بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ. (٧)
لقد حفل الكتاب العزيز بآيات كثيرة مبثوثة فى مكانها الملائم لها فى عدد كبير من سوره، ولكن لما كان لهؤلاء المنافقين من خطر على دعوة الإيمان ومن زرع بذور الفتنة بين جموع المؤمنين فقد شاءت الإرادة الإلهية أن تفضحهم، وتستهزئ بهم بصورة متكاملة، دقة وصف وكمال بيان، وجمال عرض، وإعجاز أسلوب، فى هذه المجموعة المتفردة من آيات كتاب الله الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فخلفت عارا لكل منافق، وسبة لكل مخادع عند كل من وقعت عيناه عليها من الذين يتلون كتاب الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ويوم يبعثون.
أ. د/ مصطفى الشكعة
(٧) سورة البقرة الآيات ٨ - ١٦.
 
١ ‏/ ٨٢٣
 
(٦) توصيف القرآن لطوائف الكافرين
إن القرآن الكريم حين تناول الكافرين بالحديث عنهم فإن منزّله- ﷿ لم يترك كبيرة ولا صغيرة عن هذه الطوائف إلا وقد سجل ألوان الضلال التى اتصفت به، وأنواع الشرك الذى مارسته، وفنون الإفك التى اقترفتها، وحيل النفاق التى خاضت فى مزالقها، وأكاذيب الخداع التى أصرّت على الاستمساك بها، والضلالات التى تروت فى أعماقها.
لم يكن ذلك- وحاشا لله- افتراء عليهم أو افتئاتا على فضائل صنعوها أو خيرات قدموها؛ ولذلك وصفتهم آيات الكتاب العزيز بالمشركين، والكفار، وأهل الضلالة، والمنافقين، وأتباع الشيطان، والخاسرين، وغير ذلك من صفات أهل النار، ومن ثم كانت الأمثال التى ضربت لحماقاتهم وكفرهم من السمو والإعجاز بمكان يقول الله سبحانه فى تقبيح فكرهم والاستخفاف بعجزهم: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ. (١)
إن هؤلاء الكفار من الغباء والعجز بحيث لا يستطيعون خلق ذبابة وهى من أضعف مخلوقات الله وأقلها شأنا، بل إن تلك المخلوقة الضعيفة لو سلبتهم شيئا فإنهم يعجزون عن استرداده، ومع ذلك فإنهم يكفرون بعبادة الله، ثم تقرع الآية التالية أسماعهم لعلهم يعقلون، وهى قوله جل وعزّ:
ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ.
ولكن لقد ضلت أفئدتهم وقست قلوبهم وعميت أبصارهم وبصائرهم فلم يؤمنوا.
ويضرب الله مثلا آخر لجمود هؤلاء المكابرين وعناد أولئك الضالين الذين هم على شاكلة سابقيهم فى المثل السابق، وفى هذا المثال ييسر على هؤلاء الضالين طريق الإيمان فى آيتين، ويردف بآية توصيف حال هؤلاء الكافرين بآية ثالثة تظهر إصرارهم على الضلال، ثم يختم بآية رابعة لعلها توقظ حسّ الإيمان فى قلوبهم ونور اليقين فى أفئدتهم ولكنهم لا يهتدون: لقد قدّت قلوبهم من صخر، وسلبت بصائرهم فطرة الإيمان.
(١) سورة الحج الآية ٧٣.
 
١ ‏/ ٨٢٤
 
يقول الله ﷿: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ. (٢)
يقول ابن عباس (٣) فى يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا أى: خوفا من الصواعق وطمعا فى الغيث الذى يعقب البرق فيحيى الأرض وينبت الزرع. وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ أنه تعالى شديد القوة والبطش والنكال، القادر على الانتقام ممن عصاه.
بعد هاتين الآيتين اللتين تجمعان بين الوعد والوعيد وإظهار نعم الله الخالق وقدرته على البطش بالكافرين، تجىء الآية التى تصف من لا يستجيبون لدعوته- سبحانه- وهى دعوة الحق لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ (١٤) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٤).
لقد ضلت أفئدتهم، وقست قلوبهم، وعميت أبصارهم وبصائرهم فلم يؤمنوا.
ومثل آخر يضربه الله سبحانه لأعمال الكفار التى قد يكونون قصدوا بفعلها الخير فى الدنيا؛ من صدقة مبذولة أو صلة ذى رحم وبيان أنه لا فائدة منها ما دام فاعلها أو فاعلوها عاشوا على الكفر والإشراك بالله، فمثلها مثل الرماد فى يوم عاصف ذهبت ريحه به فى الهواء، ومن ثم فإن أعمال الكفار لا يقبلها الله بل يمحقها كما تمحق الريح الرماد فى يوم اشتدت رياحه وهاجت عواصفه، يقول رب العزة جلّ ثناؤه: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (٥).
ومن لطف الله ورحمته يتبع سبحانه هذه الآية- مثلما حدث مع مثيلات لها فى مثل هذا الموقف سبق لنا التمثل بها- بآية تحمل التوجيه الحميد وتهدى إلى الإيمان لو كانوا يعقلون، فيقول جل من قائل: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ.
ولكن القوم ضلت قلوبهم وقست أفئدتهم وعميت أبصارهم وبصائرهم فأصروا على الكفر ولم يهتدوا.
وفى سورة النور يضرب الله مثلين فى آيتين متتابعتين لأعمال الكفار التى لا طائل من وراء
(٢) سورة الرعد الآيتان ١٢، ١٣.
(٣) صفوة التفاسير ٣/ ٧٦.
(٤) سورة الرعد الآية ١٤، ١٥.
(٥) سورة إبراهيم الآية ١٨.
 
١ ‏/ ٨٢٥
 
بذلها ما داموا على كفرهم- إذ لا ثواب للكافرين- والآيتان هما قوله ﷿: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٦).
وهذان المثالان من آيتى النور لهما مكانة خاصة ومقام متميز بين مثيلتهما من الآيات التى تمثل أعمال الكفار وطبيعتهم- أستغفر الله فكلام الله جميعه على أوفى صورة من التميز- ولكن هاتين الآيتين مسبوقتان بأربع آيات جليلة ترشح للدخول إليهما، ثم تتبع الآيتين موضع التمثيل آيتان أخريان تمثلان خاتمتين إيمانيتين تمجدان الذات الإلهية وتحملان من يقرأها إلى مقاصد الرشاد وسبل الإيمان.
فأما الآيات الأربع السابقة على آيتى توصيف أعمال الكفار فهى قول الله- ﷿ عن ذاته العلية فى أولاها: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٧).
إن الآية الأولى من هذه الآيات الأربع لو قرئت على شخص أمّى قد تغيب عنه معانى بعض ألفاظها فإن قلبه ينفتح لذكر نور الله إيمانا وطهرا، فما بالنا لو قرأها عالم بمعانيها وما تضمنته من إعجاز نورانى وبهاء إلهىّ، وأما الآيات الثلاث الأخرى فتجمع ثلة من عناصر الإيمان جمعها الله سبحانه فيها، مثل بيوت الله وهى المساجد ذات المقام الأسمى عند المؤمنين فيها يؤدون الصلوات ويسبحون بحمد ربهم، وهم الذين يسعون فى طلب الرزق حلالا عن طريق التجارة التى لا تلهيهم عن ذكر الله وأداء شعائره: إقامة صلاة وإيتاء زكاة وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر يَخافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ.
(٦) سورة النور الآيتان ٣٩ - ٤٠.
(٧) سورة النور الآيات ٣٥ - ٣٨.
 
١ ‏/ ٨٢٦
 
ثم بعد هذه الآيات المضيئة يضرب الله المثلين لأعمال الكفار فى آيتين: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً إلى آخر الآية. والمعنى: أن أعمال الكفار التى يعملونها فى الدنيا بحسبانها أعمالا صالحة نافعة لهم فى الآخرة، لن تجدى فتيلا، فهى كالسراب الذى يظنه الظمآن ماء وهو ليس بماء بل ليس بشيء حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ أى حسابه على كفره بربه.
والآية الثانية أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها والمعنى، أن أعمال الكفار لا تنفعهم، بل إنها كظلمات كثيفة فى بحر عميق مائج هائج يعلوه سحاب، فإن تراكم طبقات الموج مع طبقات السحاب يحجب الضياء، حتى إن الكافر لا يكاد يرى كفه إذا أخرجها. وليس أشد ظلمة من ظلمة الموج لمن مارس الأسفار فى البحار والمحيطات، وهذا التشبيه العجيب فى نظر الإنسان، وبخاصة إنسان عصر المبعث، حقيقة مخيفة، وأما فى العصر الحديث فقد حملت بحارا غير مسلم إلى الإيمان بالله بعد أن قرأ الآية الكريمة فى ترجمة لمعانى القرآن خاصة بعد أن عرف أن محمدا لم يجرب ارتياد البحار القريبة فضلا عن عبور المحيطات التى تحدث فيها هذه الظاهرة.
لقد ختم الله الآية الكريمة- وعمادها وصف كلمة البحار والمحيطات- بقوله ﷿: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَما لَهُ مِنْ نُورٍ وذلك تعقيبا على ظلام عمل الكفار.
وفى اجتهاد بعض المفسرين لهاتين الآيتين:
أن الله ضرب المثل الأول لعمل صالح قام به الكافر فمثل له بالسراب الخادع، وضرب الثانى ومثل له بالظلمات المتراكمة بعضها فوق بعض لاعتقاده السيئ وذلك فى الختام الرائع وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٨)
إن من المبهر فى السنن الإلهية فى المثلين المتتاليين سالفى الذكر حيال تصوير أعمال الكفار أنهما قد سبقا بآيتى اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وفِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وأنهما أتبعتا بثلاث آيات إيمانية تسبح له فى أولاها- السموات والأرض، والطير السابحات الصافات بين السماء والأرض- وتفرد الآية الثانية أن لله ملك السموات والأرض، وتشرح الآية الثالثة قدرة الخالق على خلق السحاب ومراحل تكوينه حتى يصير ركاما ينزّل الغيث
(٨) صفوة التفاسير ٢/ ٣٤٨ - سورة النور آية ٤٠.
 
١ ‏/ ٨٢٧
 
من خلاله كما ينزل مع الغيث جبالا من البرد مقرونة بسنا برقه الذى يكاد يذهب بالأبصار، وذلك فى قوله جل وعزّ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٤٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٩).
تلك أمثلة قليلة عن توصيف المولى- جل وعلا- لأعمال الكفار، وهو- ﷻ لا يقدم توصيفا لعمل من أعمال الكافرين إلا ويقدم قبله آية أو آيتين إيمانيتين ترشح قارئها للإيمان رحمة منه وعدلا، وتنبيها للقلوب المغلقة، وإيقاظا للنفوس النائمة فى ظلام الضلال.
فأما المثال الأخير المكون من عملين وتوصيفين متتابعين لأعمال الفئات الضالة فقد قدم- ﷻ قبلهما آيتين باهرتين، إحداهما: يوضح فيها نور ذات، ويذكر بيوته المأهولة بمرتاديها من عباده المؤمنين الصالحين. ثم يختم الآيتين- موضع التوصيف والمؤاخذة- بثلاث آيات باهرات هادية إلى اليقين داعية إلى الإيمان.
ولكن القوم ضلت قلوبهم وقست أفئدتهم، ويبست مشاعرهم وعميت بصائرهم فأصروا على الكفر وباءوا بخسران مبين.
أ. د/ مصطفى الشكعة
(٩) سورة النور الآيات ٤١ - ٤٤.
 
١ ‏/ ٨٢٨
 
(٧) تتابع سنّتى الإيمان والعصيان فى آية واحدة أو أكثر
ومن السنن الإلهية الإيمانية فى القرآن الكريم أن تأتى سنة الإيمان وجريرة العصيان فى الآية الواحدة أو فى آيتين متجاورتين رحمة من الرحمن الرحيم بخلقه من بنى الإنسان، حيث يضع الحسن والقبيح متجاورين، وينزل الإيمان والكفر متتاليين حتى يكون العبد على بيّنة من أمره، من آمن بالخير اتخذه طريقا، ومن ارتضى العصيان فهو المسئول عن سوء ما ارتضى، والآيات فى هذه السنّة كثيرة شأنها فى ذلك شأن آيات الإيمان وشأن آيات فضل الله على العباد، ولأن هذا النوع من الآيات يبين رحمة الله بخلقه وعدله بين عباده، فقد رأينا أن نقدم نماذج منها، وهذه النماذج وإن تكن قليلة بالقياس إلى ما حفل به الكتاب العزيز منها، فإن قليلا من الخير فى أحيان كثيرة يغنى عن كثيره، وإن كانت هذه القاعدة لا يجمل بنا أن نجعلها مقياسا ونحن نتعامل مع القرآن الكريم، كلام الله الذى أنزل على سيد خلقه وخاتم رسله وأنبيائه.
يقول الله ﷿: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ. (١)
ويقول الله- ﷿ فيمن استجابوا لربهم والذين لم يستجيبوا: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ. (٢)
وفى الفرق بين طلاب الدنيا وطلاب الآخرة يقول ﷿: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ
(١) سورة الحشر الآيات ١٨ - ٢٠.
(٢) سورة الرعد الآية ١٨.
 
١ ‏/ ٨٢٩
 
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣).
والذى يستوقف القارئ المتمعن فى هذه الآيات هو أن منزل الكتاب جلت قدرته حسم القضية فى آية واحدة هى أولى الآيات الثلاث فى إيجاز وإعجاز، ثم يتبع فى الآية الثانية بقصر الكلام على طلاب الدنيا فى إطار من التوبيخ والوعيد، وتكمل أولى كلمات الآية الثالثة وصف حال الظالمين بما يشبه الإشفاق؛ ثم تكون بقية الآية تتويجا لحال من أرادوا حرث الآخرة بأنهم فى روضات الجنات لهم ما يشتهون عند ربهم ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ فشتان- فى القول الإلهى- بين حال الفريقين: لطلاب حرث الآخرة روضات الجنات، وللآخرين عذاب عظيم.
ولمن يسلم وجهه إلى الله، وعن من يكفر، يقول رب العزة: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٤).
ولا ينبغى لنا ونحن بسبيل العيش فى رحاب كلام الله ألا نشير إلى أن هنا خطابا من العزيز الحميد موجها إلى حبيبه ورسوله يخفف عنه بعض ما يمكن أن يكون قد لحقه من حزن ألمّ به لإصرار بعض أهل الكتاب على شركهم، يجادلون فى توحيد الله وصفاته بغير علم أو برهان. إنّ أحد أكابر المفسرين (القرطبى) قال: إن الآية نزلت فى يهودى جاء إلى النبى ﷺ فقال: يا محمد، أخبرنى عن ربك من أى شىء هو؟ فجاءت صاعقة فأخذته (٥). وهنا ينبغى أن نذكر أن الآيتين موضع الاستشهاد مسبوقتان بآيتين كاشفتين هما قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ. (٦)
ومن السنن الحسنة والسيئة التى مثل الله لها فى آيتين متجاورتين الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة، فالأولى دالة على الخير والإيمان، والثانية دالة على الخبث والكفران، وفى ذلك يقول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ
(٣) سورة الشورى الآيات ٢٠ - ٢٢.
(٤) سورة لقمان الآيات ٢٢ - ٢٤.
(٥) القرطبى ١٤/ ٧٤.
(٦) الآيتان ٢٠، ٢١ من لقمان.
 
١ ‏/ ٨٣٠
 
الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ. (٧)
وإن ما قد عود الله عباده عليه من قارئى كتابه العزيز، أن هذا القبيل من الآيات التى تتجاور فيها آيات الإيمان مع آيات الكفران تكون مسبوقة حينا بمدخل إيمانى يتمثل
فى آية كريمة، وحينا آخر تكون مسبوقة بآية أو آيات إيمانية متسقة مع روح الآية التالية لها ثم متبوعة بآية أو آيات تعزيزية كما هو الحال فى آيات سورة النور التى سبق التمثيل بها، وكما هو الحال هنا فى آيات الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة، فآية الكلمة الطيبة مسبوقة بآية يقول الله سبحانه فيها:
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ. وآية الكلمة الخبيثة جاءت تالية لها آية فى إطراء وتثبيت للمؤمنين وإنذار ووعيد للظالمين فى قوله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (٢٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ. (٨)
إن خير ما نختتم به هذا الفصل هو قول الله تعالى: مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا.
أ. د. مصطفى الشكعة
(٧) سورة إبراهيم الآيات ٢٤ - ٢٧.
(٨) سورة إبراهيم الآيات ٢٧، ٢٩.
 
١ ‏/ ٨٣١
 
(٨) سنن الخلق
الله- ﷾ هو الخالق البارئ المصور، إنه خالق كل شىء بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) (١).
لقد أكرمنا الله- سبحانه- ونحن نستعرض فى القرآن الكريم الآيات التى تحمل سنن الخلق وهى كثيرة وخصيبة وهادية ومرشدة وكافية وشافية ومقنعة ومعجزة، ووقفنا أمامها كما ينبغى للعبد أن يقف أمام كلمات خالقه، خالق الكون بكل ما فيه، وتحيرنا بأى الآيات نبدأ هذه الشريحة من آيات سنن الخلق، فإذا بنا ونحن نقرأ سورة الأنعام وما حفلت به من سنن الخلق تقع أعيننا على الآيتين سالفتى الذكر وفيهما تتكرر عبارة خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ففي الآية الأولى يقول جل وعز: أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وفى الآية الثانية يقول ﷿: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ فاستخرنا الله وجعلنا الآيتين استهلالا للحديث عن سنن الخلق.
وإنه بسبب وفرة آيات سنن الخلق وثرائها فى نطاق القداسة الربانية رأينا أن نتناول ما يتيسر تناوله منها فى نطاقين: نطاق الآيات التى يمكن أن نطلق عليها الآيات الكونية، والجانب الآخر هو نطاق الإنسان وما يتصل به باعتبار أن الله- سبحانه- كرمه بين خلقه واستخلفه فى أرضه، وسخر له كل شىء.

سنن الله فى الآيات الكونية:
إن كلّ الآيات الكونية متضمنة «خلق السموات والأرض» إذ منهما يتشكل الكون الذى عرف الإنسان منه النزر اليسير، وغاب عنه الكثير الوفير، وبمضى الأزمنة يكتشف الإنسان ما يتيسر له اكتشافه بالعقل الذى وهبه الله إياه والعلم الذى فرض الله عليه طلبه.
والذى يلاحظه قارئ آيات الكتاب العزيز:
أن الآيات الكونية بعد أن يذكر فيها خلق السموات والأرض، يجدها مليئة بعد
(١) الأنعام الآيتان ١٠١، ١٠٢.
 
١ ‏/ ٨٣٢
 
ذلك بالعديد المتباين من سنن الله خلقا وإبداعا.
يقول الله جل شأنه: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٢).
بعد استهلال الآية بذكر الله للسماوات والأرض، نجد فيضا من نعم الله التى أنعم بها على خلقه من نزول الغيث وإخراج الثمرات وتسخير الفلك للإنسان تجرى به فى البحار، بل وسخر لهم الشمس والقمر دائبين، وسخر الليل والنهار فلكل منهما شأن ثم أجابهم الله إلى كل ما سألوه من نعمه التى يعجزون عن إحصائها.
وعلى النسق نفسه من ذكر سنن الله فى خلقه، وإسباغ نعمه عليهم يقول الله ﷿: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤) (٣).
إن هذه الآية من سورة البقرة، تحمل من الألفاظ والمسميات كثيرا مما تحمله الآيات السابقة من سورة إبراهيم، ومن ثم يذهب الظن بل اليقين عند بعض من لا يعرفون العربية وبخاصة من المستشرقين، أن فى القرآن الكريم ما يطلقون عليه ظاهرة التكرار، وقد وقع فى الخطأ نفسه بعض أبناء المسلمين ممن درسوا على تلك الطائفة من المستشرقين، وغاب عنهم أن اللفظ الذى تكرر فى آيات سورة إبراهيم وآية البقرة، يؤدى وظيفة تختلف من حيث الهدف والمنهج عن تلك الوظيفة التى أدتها هناك، فالماء فى الآيات الأولى نزل على أرض خصبة فأخرج من الثمرات رزقا، والماء فى الآية الأخرى نزل على أرض ميتة فأحياها لتكون صالحة للغرس والإثمار، والفلك فى الآية الأولى مسخرة بأمر الله لنفع الناس، والفلك فى الآية الثانية تجرى أيضا بما ينفع الناس.
ولكن الهدف من ذكرها هنا كونها آية لبرهان على قدرة الله عند القوم الذين يعقلون، وكذلك الشأن فيما يتعلق بذكر الليل والنهار، فإن ذكرهما فى الآيات من سورة إبراهيم نعمة سخرها الله للناس على النحو الذى بيناه هناك، وأما ذكرهما فى آية البقرة فإنما
(٢) سورة إبراهيم الآيات ٣٢ - ٣٤.
(٣) سورة البقرة الآية ٦٤.
 
١ ‏/ ٨٣٣
 
جاء على سبيل الإقناع إذ الهدف من ذكرهما هو أن كلا من الليل والنهار يخلف أحدهما الآخر بصورة دائمة لا تتبدل ولا تتوقف، ومثل ذلك كثير فى آيات الكتاب العزيز التى لا يفقهها إلا من توفرت لديه أدوات فهم اللغة العربية، فضلا عن أن ثمة شروطا كثيرة حددها علماء الأمة ينبغى توفرها عند من يعرض لتفسير القرآن الكريم.
نعود مرة أخرى إلى المنهج الذى سرنا عليه فى ارتباط ذكر خلق السموات والأرض فى آيات كتاب الله الكونية لتتمثل بقول الله ﷿: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤) (٤).
وإن وقفة التدبر هنا موقعها معجزة خلق الكون، ممثلا فى السموات والأرض فى ستة أيام، ثم الاستواء على العرش، وفى تتابع الليل والنهار بصورة أكثر تفصيلا، وهى كون الليل والنهار يغشى أحدهما الآخر حثيثا؛ أى أن الليل يغطى على النهار فيذهب بضوئه ويطلبه سريعا حتى يدركه. (٥)
وإذا كان الكون كله من إبداع الخالق الأعظم، فمن المقطوع به أن الشمس والقمر والنجوم مسخرة جميعا بأمر الله، والآية جميعها موقوفة على الجزء السماوى من سنن الله الكونية؛ إعجازا وإدراكا لجميع البشر، ومن ثم كان ختامها متسقا مع مدلولاتها وذلك بقول الله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ.
ومعجزة الخلق فى ستة أيام يراها القرطبى أنها مثيلة لأيام الدنيا ويقول: «لو أراد لخلقها فى لحظة، ولكنه سبحانه أراد أن يعلّم العباد التثبّت فى الأمور» (٦).
وفى آية أخرى يقول- جل وعزّ- لتأكيد فترة الخلق فى ستة أيام: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) (٧).
وموقع التدبر هنا أن عرش الله كان على الماء، ويرى الزمخشرى أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل السموات والأرض (٨)، فإذا عدنا إلى الماء موضع التدبر وجدنا فى الآية توبيخا لكفار مكة لأنهم ينكرون البعث والنشور.
ومن الآيات الكونية المترعة بالسنن الإلهية- بدون ذكر خلق السموات والأرض- قول الله ﷿: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي
(٤) الأعراف الآية ٥٤.
(٥) صفوة التفاسير المجلد الأول صفحة ٤٥٠ الطبعة الرابعة.
(٦) تفسير القرطبى المجلد السابع صفحة ٢١٧.
(٧) سورة هود الآية ٧.
(٨) الكشاف المجلد الثانى صفحة ٣٨٠.
 
١ ‏/ ٨٣٤
 
لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠) (٩).
تضم هذه الآية أربعة عناصر تمثل سننا إلهية، وهى موضوع اهتمام الخلق جميعا، إنها الليل والنهار والشمس والقمر، وليس عجبا أن كل اثنين من هذه المعالم الأربعة مرتبط بقرين له، فالليل والقمر مرتبط أحدهما بالآخر، وكذلك النهار والشمس مرتبط كلاهما بالآخر، وهى جميعا تمثل سننا إلهية ذكرت كل واحدة منها فى القرآن الكريم عشرات المرات.
وفيما يتعلق بذكر الليل والنهار، فإن ثمة نوعا من التكافؤ حادث بينهما إذ لا غنى للعيش بدونهما، وإذا كانت آية الأعراف تضمنت قوله تعالى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا حسبما مرّ بنا قبل قليل، فإن الأمر يختلف هنا، إذ يقول المولى ﷿:
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ، وليس ذلك من قبيل التضاد، وإنما هو من قبيل الموازنة والمساواة بين قيمة كل من الليل والنهار.
وأما ذكر الشمس والقمر مقترنين أحدهما بالآخر، فتلك من سنن الله الخالدة الباقية إلى أن تقوم الساعة، ويتجلى ذلك فى قوله ﷿: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩).
وإذا كان بعض المفسرين لم يصل اجتهاده إلى المعنى القرآنى، فإن المفسرين المحدثين قد وفقوا إلى المراد من الآية؛ وهو أن الشمس تدور حول نفسها، وكان المظنون أنها ثابتة فى موضعها ولكن عرف أخيرا أنها ليست مستقرة فى مكانها، وإنما هى تجرى فى اتجاه واحد فى الفضاء الكونى الهائل، ولا بأس بهذا التفسير، وإنما نحن
نوضح أنها فى سيرها محكومة بالمجرة التى تضم ملايين الشموس الأخرى، ولعل شمسنا التى أطلعنا الله عليها، والتى جعلها مصدرا من مصادر حياتنا هى- على ضخامتها الهائلة- من أصغر شموس المجرة التى تحتويها وتعرف بمجرة سكة اللبان، وهذه المجرة التى لا تعرف بدايتها من نهايتها، هى واحدة من ملايين المجرات التى يضمها الكون الذى خلقه الله جلت قدرته بغير حدود.
هذا وإن الشمس فى جريانها تتحرك بقدرة السميع العليم. ولا يفوتنا فى هذا المقام الذى جرى فيه توصيف الشمس، أنها مسخرة هى والقمر لعوامل أرادها لهما الخلاق
(٩) سورة يس الآيات ٣٨ - ٤٠.
 
١ ‏/ ٨٣٥
 
العظيم وذلك فى قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (١٠).
ولعل من خير ما جاء به المفسرون من قدامى ومحدثين فى هذا المقام، هو ما قال به أخونا فى الله الشيخ محمد على الصابونى برغم إيجازه الشديد: «أن الله- ﷾ ذلل الشمس لمصالح العباد، كل يسير بقدرته- تعالى- إلى زمن معين هو زمن فناء الأرض» (١١).
على أن أحدث ما كتب فى شأن سنة الله فى تسخير الشمس والقمر، وأقربه إلى المراد القرآنى هو ما سطره أخونا فى الله الدكتور زغلول النجار بقوله: «من معانى تسخير كل من الشمس والقمر ضبط حركة كل منهما لما فيه صلاح الكون واستقامة الحياة على وجه الأرض، ومن معانى أن كلا منهما يجرى إلى أجل مسمى أن الكون ليس بأزلى ولا بأبدى، بل كانت له فى الأصل بداية تحاول العلوم المكتسبة تحديدها، وكل ما له بداية لا بدّ وأن تكون له فى يوم من الأيام نهاية، لها من الشواهد الحسية فى كل من الشمس والقمر ما يؤكد على حتميتها، والحقائق القاطعة بتسخير الشمس عديدة جدا منها:
(١) الاتزان الشديد بين تجاذب مكونات الشمس وتمددها ... وقد بقيت الشمس مستمرة فى الوجود تحت هذا التوازن العجيب على مدى عشرة بلايين من السنين على أقل تقدير وإلى أن يرث الله- تعالى- الكون ومن فيه، ولولا هذا التوازن الدقيق لانفجرت الشمس كقنبلة نووية عملاقة أو لانهارت على ذاتها تحت ضغط جاذبيتها خاصة وأنها مجرد كرة ضخمة من الغازات.
(٢) تسخير طاقة الشمس من أجل ضبط حركة الحياة على الأرض، ذلك أن الشمس تطلق من مختلف صور الطاقة ما يقدّر بحوالى خمسمائة ألف مليون مليون مليون (ثلاث مرات) حصان فى كل ثانية من ثوانى عمرها، ويصل إلى الأرض من هذا الكمّ الهائل من الطاقة حوالى الواحد فى الألف، وبدون هذه الطاقة الشمسية تستحيل الحياة على كوكبنا؛ لأن كلا من النبات والحيوان والإنسان يعتمد فى وجوده بعد إرادة الله الخالق- ﷾ على قدر الطاقة الذى يصله من أشعة الشمس، كذلك وإن كل الظواهر الفطرية التى تحدث على الأرض وما حولها تعتمد على الطاقة القادمة إلينا من الشمس، فتصريف الرياح وإرسال السحاب وإنزال المطر وبقية دورة الماء حول
(١٠) سورة الرعد الآية الثانية.
(١١) صفوة التفاسير المجلد الثانى صفحة ٧٣.
 
١ ‏/ ٨٣٦
 
الأرض، وما يصاحب ذلك من تسوية وتمهيد لسطح الأرض، وشق الفجاج والسبل فيها وتفجير للأنهار والجداول من حجارتها، وخزن الماء تحت سطح الأرض، وتكوين التربة والصخور الرسوبية، وحركات الأمواج فى البحار والمحيطات، وعمليات المد والجزر، وغير ذلك من عمليات وظواهر، تحركها طاقة الشمس بإرادة الله.
(٣) تكوين نطق الحماية المختلفة للأرض بفعل طاقة الشمس، ذلك أن إرادة الله شاءت أن يحمى الحياة على سطح الأرض بعدد من نطق الحماية التى لعبت أشعة الشمس- ولا تزال- الدور الأول فى تكوينها بعد إرادة الله، منها النطاق المغناطيسى للأرض وأحزمة الإشعاع ونطاق الأوزون، وهذه النطق تتعاون فى حماية الأرض من كل من الأشعة فوق البنفسجية والكونية، ومن الجسيمات الكونية الدقيقة والكبيرة التى منها النيازك والشهب، ولو لم تكن هذه النطق موجودة لاستحالت الحياة على الأرض، وإن وجود هذه النطق صورة من صور التسخير التى لم تكن معروفة فى زمن الوحى بالقرآن الكريم، ولا بعد قرون متطاولة من تنزيله حتى نهايات القرن العشرين الميلادى.
(٤) تحديد الزمن، إذ أنه يتحدد كل من الليل والنهار ويوم الأرض وشهورها وفصولها وسنيها بدورة الأرض حول محورها، وبسبحها فى مدارها حول الشمس، وبذلك يستطيع الإنسان إدراك الزمن وتحديد الأوقات والتاريخ للأحداث، فبدورة الأرض حول محورها أمام الشمس يتبادل الليل والنهار ويتحدد يوم الأرض.
وبسبح الأرض فى مدارها حول الشمس بمحور مائل على الأفق تتحدد الفصول المناخية من الربيع والصيف والخريف والشتاء، كما تتحدد سنة الأرض التى يتقاسمها اثنا عشر شهرا شمسيا تحددها بروج السماء الاثنا عشر المتتابعة» (١٢).
هذا بيان بتفسير سنة الله فى تسخير الشمس، ثم نعود إلى سورة يس مرة أخرى وننعم النظر فى قوله تعالى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ.
يقول ابن كثير فى تفسير هذه الظاهرة الكونية الإلهية: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ؛ أى جعلناه يسير سيرا آخر- غير سير الشمس- يستدل به على معنى الشهور كما أن الشمس يعرف بها الليل والنهار كما قال ﷿: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ، وقال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ. ويمضى
(١٢) بحث عنوانه «وسخر الشمس والقمر كل يجرى لأجل مسمى» جريدة الأهرام اليومية المصرية صفحة ١٢ بتاريخ ٣٠ سبتمبر ٢٠٠٢.
 
١ ‏/ ٨٣٧
 
المفسر فى حديثه عن كل من الشمس والقمر إلى أن يقول: أما القمر فقدره منازل يطلع فى أول ليلة من الشهر ضئيلا قليل النور ثم يزداد نورا فى الليلة الثانية ويرتفع منزله، ثم كلما ارتفع ازداد ضياء، وإن كان مقتبسا من الشمس حتى يتكامل نوره فى الليلة الرابعة عشرة، ثم يشرع فى النقص إلى آخر الشهر حتى يصير «كالعرجون
القديم». قال ابن عباس: هو أصل العذق، وقال مجاهد:
العرجون القديم أى: العذق اليابس. يعنى أصل العنقود من الرطب إذا عتق ويبس وانحنى (١٣).
ويجيء تفسير الجلالين- بالرغم من منهجه إيجازا فيزيد الظاهرة تفصيلا فيقول:
قدرناه من حيث سيره منازل ثمانية وعشرين ليلة من كل شهر ويستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين يوما، وليلة إن كان تسعة وعشرين يوما، حتى عاد فى آخر منزله «كالعرجون القديم»، تعود الشماريخ جمع شمراخ وهو عيدان عنقود النخيل الذى عليه الرطب إذا عتق فإنه يرق ويتقوس ويصغر (١٤). ويقول مثل ذلك صاحب صفوة التفاسير (١٥).
ثم يعرض الأستاذ الدكتور زغلول النجار لتفسير هذه الآية فى ضوء التقدم الكبير فى علم الفلك فى السنوات الأخيرة، فيتحدث عن منازل القمر فى علم الفلك حديثا مسهبا ويزيد الأمر وضوحا فى إيضاح الإعجاز العلمى فى الآية الكريمة فيقول: «نظرا للارتباط الشديد بين مراحل أشكال القمر المتتالية من الهلال الوليد إلى التربيع الأول إلى الأحدب الأول إلى البدر، ثم إلى الأحدب الثانى ثم الهلال الثانى ثم المحاق إلى الهلال الجديد فى الشهر القمرى الجديد وبين منازل القمر الثمانية والعشرين وهى مواقعه اليومية المتتالية فى السماء بالنسبة إلى نجوم تبدو مواقعها قريبة ظاهريا، فإن التعبير بمنازل القمر يمكن إطلاقه على مراحل القمر المتتالية وعلى منازله المتواقعة مع تلك المراحل- أى مواقعه المتتالية فى السماء- باعتبار المنازل- جمع منزل- وهو المنهل والدار. وإن تقدير هذه المنازل القمرية فيه من الدلالة على طلاقة القدرة الإلهية ما فيه لأهميته فى معرفة الزمن وتقديره وحسابه باليوم والأسبوع والشهر والسنة، وفى التأريخ للعبادات والأحداث والمعاملات والحقوق، ولما فيه من تأكيد على ضبط سرعة القمر ضبطا دقيقا؛ من أجل الحيلولة دون ارتطامه بالأرض فيفنيها وتفنيه، أو انفلاته من عقال جاذبيتها فينتهى إلى نهاية لا يعلمها إلا الله وفى الوقت نفسه الارتباط الدقيق بين سرعة دوران كل منهما حول محوره، فإذا زادت
(١٣) انظر تفسير ابن كثير المجلد ٣ صفحة ٥٤٩، ٥٥٠.
(١٤) تفسير الجلالين المجلد الثانى.
(١٥) المجلد الثالث صفحة ١٥.
 
١ ‏/ ٨٣٨
 
إحداهما قلّت الأخرى بنفس المعدل. ويمضى الأستاذ العالم الدكتور زغلول النجار قائلا:
ولما كانت سرعة دوران الأرض فى تناقص مستمر بمعدل جزء من الثانية فى كل قرن من الزمن، فإن سرعة دوران القمر فى تزايد مستمر بنفس المعدل تقريبا، مما يؤدى إلى تباعد القمر عن الأرض بمقدار ثلاثة سنتيمترات فى كل سنة، وهذا التباعد سوف يخرج القمر فى يوم من الأيام من إسار جاذبية الأرض ليدخله فى نطاق جاذبية الشمس فتبتلعه تحقيقا للنبوءة القرآنية التى يقول فيها الحق ﵎: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ. (١٦) ومن هنا كانت هذه الإشارة القرآنية المعجزة إلى وصف مراحل القمر المتتالية فى كل شهر، والتى يقول فيها ربنا ﷾: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ. ويمضى الأستاذ الدكتور زغلول قائلا: ويضاف إلى هذه المعجزات القرآنية التى لا تنتهى أبدا، وصف المرحلة الأخيرة من مراحل الدورة الشهرية للقمر؛ بالعرجون القديم: وهو العنقود من الرطب (العذق) إذا يبس وانحنى واصفر لونه، وهو عند يبوسه على النخلة ينحنى تجاهها، فكذلك الهلال الثانى ينحنى بطرفيه تجاه الأرض، بينما الهلال الوليد ينحنى بهما بعيدا عنها فما أروع هذا التشبيه القرآنى.
ويختم الدكتور زغلول بقوله: هذه الحقائق عن القمر لم يدركها العلم الكسبى إلا بعد مجاهدة استغرقت آلاف العلماء وعشرات القرون، وورودها فى آية واحدة من كتاب الله الذى أنزل على نبى أمىّ وفى أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين، ومن قبل ألف وأربعمائة سنة، مما يقطع بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق الذى أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله وتعهد بحفظه حفظا كاملا. (١٧)
وقوله تعالى: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ «يس: ٤٠» هو سنة إلهية عظمى من سنن الله فى خلقه، ذلك أن الشمس والقمر إذا اجتمعا محا ضياء الشمس نور القمر، لأن القمر يستمد نوره من ضوء الشمس فتكون الأوقات كلها نهارا لا ليل فيها، والحال نفسها تحدث إذا سبق الليل النهار، ولكن نتيجة ذلك تكون مضادة لنتيجة اجتماع الشمس والقمر، إذ الحال فى سبق الليل النهار أن تكون الأوقات ليلا وحينئذ يختل نظام الحياة على الأرض؛ لأن إرادة الله جعلت طبيعة الحال على كوكب الأرض ينقسم اليوم فيها إلى ليل ونهار، ولليل
(١٦) القيامة الآيات ٧ - ٩.
(١٧) جريدة الأهرام المصرية، مقال بعنوان «والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم» الصفحة الثانية عشرة بتاريخ ٢ سبتمبر ٢٠٠٢ م.
 
١ ‏/ ٨٣٩
 
طبيعته ووظيفته، وللنهار طبيعته ووظيفته، وقد بينا ذلك تفصيلا فى تفسير آية تسخير الشمس والقمر، والله سبحانه هو الذى سخرهما لصالح الحياة على الأرض، فالشمس لها مدار لا تتجاوزه، والقمر له مدار ومنازل لا يحيد عنها ولا يطغى أحدهما على الآخر، ولا يكون الجمع بينهما إلا يوم القيامة تبعا لقوله- ﷿ فى سورة القيامة:
فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلَّا لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) (الآيات: ٧ - ١٢).

اتساع الكون وزيادته بغير حدود.
قبل أن ننهى الحديث عن الكون والسماوات وسنن الله فيهن، ننبه إلى ما يقوله علماء الفلك والباحثون فى شئون الكون المعاصرين وأحاديثهم عن المجرات التى لا يعرفون مداها، وأن كل مجرة من هذه المجرات الملايين لا يستطاع تحديد سعتها، حتى إنهم قالوا: إن المجرة التى توجد فيها شمسنا وما يسير فى مدارها من كواكب تضم ملايين الشموس التى تعد شمسنا وما يتبعها من كواكب هى أصغر الشموس حجما ومن أقلها شأنا، وأن هذا الكون الذى يضم ملايين المجرات دائم الاتساع بغير حدود، والجدير بالذكر أن هؤلاء العلماء ليسوا من المسلمين بل إن أكثرهم من الماديين، وما عرفوا أن القرآن الكريم قد سجل الله فيه ما توصلوا إليه بعد طول البحث
والتفانى فى بذل الجهد لمعرفة شىء يعلل ما قد توصلوا إليه من أن الكون يزيد اتساعا.
يقول الله- جل وعز- فى سورة الذاريات: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ وموضع الدهشة يكمن فى الآية الأولى، فقد فهمها المفسرون القدامى على النحو الذى توصل إليه دارسو الكون من العلماء المعاصرين، ولو أنهم أو بعضهم قرأ القرآن لسارع إلى الإيمان واعتناقه، مثلما فعل عدد غير قليل من غير المسلمين الذين قرءوا القرآن ووقعت أعينهم على الكثير من السنن الإلهية التى يحفل بها الكتاب العزيز، وقد عرفنا كثيرا من هؤلاء العلماء والمستنيرين الذين أسلموا طوعا واقتناعا بعد قراءتهم القرآن الكريم مترجما إلى لغاتهم.
يقول المفسرون فى قوله تعالى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ أى شيدنا السماء وأحكمنا خلقها بقوة وقدرة. وقال ابن عباس: بأيد:
يعنى بقوة. ويقولون فى وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ أى لموسعون فى خلق الملائكة (١٨) وتلك
(١٨)،
 
١ ‏/ ٨٤٠
 
تفسيرات غريبة «أغرب منها ما قاله قتادة من زيادة الخلق الملاحة فى العينين والحسن فى الأنف والحلاوة فى الفم (١٩).
ومن المحدثين من المفسرين تنبه الشهيد الأستاذ سيد قطب إلى أن الأيدى هى القوة، والقوة أوضح ما ينبئ عنها بناء السماء الهائل التناسق بأى مدلول من مدلولات كلمة السماء سواء أكانت تعنى مدارات النجوم والكواكب أم تعنى مجموعة من المجموعات النجمية التى يطلق عليها اسم المجرة، وتحوى مئات الملايين من النجوم (٢٠).
ولو أن المرحوم سيد قطب نسئ له فى أجله الذى مضى على انقضائه نحو سبع وثلاثين سنة، واطلع على الاكتشافات العلمية الحديثة لأكمل الصورة كاملة لمداومة اتساع الكون بحول من الله خالقه ﷾.
وفى حقيقة اتساع الخلق والزيادة فيه، يستفتح المولى- ﷾ سورة فاطر بقوله ﷿: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
إن دليل الحسم على ما تعبر عنه الآية هنا هو ذلك الشطر من الآية بقوله تعالى: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ- ومعنى الخلق هنا هو عملية الخلق.
والأمر العجيب: إن عددا من المفسرين لم يوفق إلى مدلول الآية ومن ثم كان الخطأ الذى وقعوا فيه، فابن الجوزى على سبيل المثال يرى أن زيادة الخلق مقصود به الملائكة، والفهم نفسه يقول به القرطبى الذى يفسر يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ أى: يزيد فى خلق الملائكة كيف يشاء. وغير ذلك كثير من سوء الفهم الذى أدى إلى خطأ التفسير، وإن الذى يقرأ الآية بعمق وإمعان حتى من المحدثين- وإن كان بعض مشهورى المفسرين المحدثين وقعوا فى الخطأ نفسه- ينتهى إلى الفهم الذى هو أقرب إلى الصواب، ومرة أخرى نعرض لنص الآية وهى قوله تعالى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ فقصر المفسرون الزيادة فى الخلق على الملائكة دون السموات والأرض اللذين تتلاءم زيادة الخلق فيهما أكثر من ملاءمتها لزيادة الملائكة.
ومن ثم تكون جملة يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ الأقرب إلى الصواب الذى يعنى اتساع الكون منه إلى قصر زيادة الخلق على الملائكة، والسموات بالذات هى ما نراه أرجح قصدا لانسجامها مع بنية الآية، ولقول الله ﷿ فى سورة النازعات: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ
(١٩) آراء بعض المفسرين التى أوردها صاحب صفوة التفاسير المجلد الثانى صفحة ٥٦٤، ٥٦٦.
(٢٠) فى ظلال القرآن المجلد السادس صفحة ٣٣٨٥.
 
١ ‏/ ٨٤١
 
خَلْقًا أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٢١).
والحق أن الحديث عن السنن الإلهية فى خلق السموات حديث طويل يحوى من نعم الله- سبحانه- ما لا يتسع له المقام فى هذا البحث، الذى روعى فيه الإيجاز، لأسباب اقتضتها طبيعة الموضوع الكبير الذى يشكل بحثنا هذا جزءا منه.
أ. د. مصطفى الشكعة
(٢١) سورة النازعات الآيات ٢٧ - ٣١.
 
١ ‏/ ٨٤٢
 
(٩) السنن الإلهية فى خلق الأرض
الأرض هى الكوكب الوحيد الذى خصه الله- ﷾ بعنايته وفضله بين ملايين الكواكب والنجوم، فى ملايين المجرات التى يضمها الكون، الذى لا يعرف حقيقته إلا الله الذى خلقه.
لقد هيأ الله الأرض للحياة بكل أنواعها لجميع من منّ عليهم بالحياة فيها برا وبحرا وجوا وظاهرا وباطنا، وشرفها بما لم يشرف به كوكبا آخر مع قدرته غير المتناهية على خلق ما يشاء، وذلك طبقا لمعلوماتنا المحدودة كبشر، المستمدة من كتابه العزيز وسنة رسوله وخاتم أنبيائه ﷺ.
لقد أراد الله- ﷾ أن تكون الأرض مستقرا لآدم وذريته من البشر، بعد أن وسوس الشيطان لكل من آدم وزوجته أن يقربا الشجرة التى حرّمها الله عليهما وذلك فى قول الله ﷿: وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (١).
ولما كانت قصة آدم وخروجه وزوجته من الجنة وهبوطهما إلى الأرض من الأهمية بمكان، فقد وردت مرة أخرى فى سياقها من سورة البقرة فى قول الله ﷿: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ (٢).
لقد اقتضت المناسبة والإرادة الإلهية تذكيرا للبشرية بوجودها فى الأرض، ذلك
(١) سورة الأعراف: الآيات ١٩ - ٢٥.
(٢) سورة البقرة: الآية ٣٠.
 
١ ‏/ ٨٤٣
 
الحوار الذى أجراه المولى مع ملائكته على النحو الذى ذكرنا فقال جل ثناؤه: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣).
وإذا كانت الآيات السابقة قد اقتصر الخبر فيها على نزول آدم إلى الأرض واستقراره وزوجته فيها إلى حين، فإن الآيات الأخرى من الكتاب العزيز قد أوضحت أن الله- سبحانه- قد خلق البشر من الأرض، ثم يعيدهم إليها بعد الموت، ثم يخرجهم منها مرة أخرى يوم النشور، جاء ذلك فى الحوار الذى جرى بين موسى وهارون من ناحية وفرعون من ناحية أخرى فى قوله ﷿:
قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجًا مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٤).
ذلك خبر نزول آدم وزوجته إلى الأرض، ومن وجود البشر جميعا فيها: مولدا ومستقرا وبعثا ونشورا، وإذا كان بعض البشر يرون فى خروج آدم من الجنة وإنزاله إلى الأرض حرمانا لهم من البقاء فى الجنة التى أخرج آدم منها وشرا أصابهم، فإنهم بذلك يكونون قد ارتكبوا خطأ وإثما كبيرا، لأن تلك إرادة الله والإرادة الإلهية لا يصدر عنها إلا ما فيه صالح البشرية، وصالح البشرية يقتضى- وقد وهبهم الله العقل وأرسل إليهم النبيين والمرسلين- أن يعملوا بتعاليمه التى حملها إليهم المرسلون،
فمن آمن فقد استحق الجنة ومن لم يؤمن فحسابه عند ربه، وربنا لا يظلم مثقال ذرة مَنْ عَمِلَ صالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٥).
أما وقد جعل الله الأرض سكنا ومستقرا لعباده من الجن والإنس فقد جرت مشيئته بتحصينها وكمال السيطرة عليها وعلى ساكنيها، فلا يستطيعون العبث بها أو النفاذ منها أو الانعتاق من بقائهم بين ظهرانيها إلا بسلطان هو باعثه ومسيطر عليه، جاء ذلك فى صيغة التحدى من القول والحسم فى الخطاب، حيث يقول جل شأنه: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦).
(٣) سورة البقرة: الآية ٣٦.
(٤) سورة طه: الآيات ٤٩ - ٥٥.
(٥) سورة فصلت: الآية ٤٦.
(٦) سورة الرحمن: الآيات ٣٣ - ٣٦.
 
١ ‏/ ٨٤٤
 
ويتبع المولى- سبحانه- هذا التحدى الحاسم بتسجيل ألوهيته المكينة فى تثبيت قدرته المتينة فى أن كل شىء فى السموات والأرض يسجد له، من شمس وقمر ونجوم وجبال ودواب وأناس إلا من انحرف من البشر عن الصراط القويم فيقول عز من قائل: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٧).
وفى إطار من مزيد تأكيد قدرته وتمكين إرادته إزاء خلقه الذين منهم المؤمن الطائع والمنكر، فيسجل قدرته العظمى فى خلق السموات وبنائها وبسط الأرض وإثرائها وذلك فى قوله جل وعز: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٨).
بهذا الخطاب القرآنى المعجز الحاسم يبدى منزل القرآن آياته الحاسمة حكما، القاطعة مشيئة، المترعة بفضله وكرمه، وبيان مننه الإلهية ليس على الإنسان وحده، وإنما هى للإنسان وما يملك من أنعام وحيوان.
هذه الأرض التى خلقها ومنّ بها على الإنسان خلقا من طينها ومستقرا فى بيوتها ومساكنها واستمتاعا بخيرها من زرع وضرع، ثم بعد ذلك استخلافا فيها وثواء فى ثراها، قد غمره تكريما وأنعم عليه بالمنة العظمى، بأن جعل لذاته العلية بيتا فيها يؤمه الناس حجا وعمرة وصلاة وعكوفا، وينزل الآيات البينات فى تكريم بيته وتأمين من يعيشون حوله، رزقا فى الدنيا وثوابا فى الآخرة.
لقد كرم الله الأرض وساكنيها بأن جعل لذاته العلية أول بيت بنى فيها، إنه كما وصفه الله مبارك وهدى للعالمين، وأن فيه مقام إبراهيم، وأن من دخله كان آمنا، وأن على كل مسلم مستطيع أن يحج إليه، وكيف لا يكون آمنا من دخله وهو بيت الرحمن، وأن كل من حج إليه أو طاف به فهو ضيف الرحمن، فهل هناك منة إلهية فى هذا المجال أعظم وأجلّ من تلك المنة التى سجلها القرآن الكريم بقول الله ﷿: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكًا وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩).
ويؤكد المولى- سبحانه- أن الكعبة هى البيت الحرام- وجعلها قياما للناس وصلاحا
(٧) سورة الحج: الآية ١٨.
(٨) سورة النازعات: الآيات ٢٧ - ٣٣.
(٩) سورة آل عمران: الآيتان ٩٦، ٩٧.
 
١ ‏/ ٨٤٥
 
لحالهم واطمئنانا لمعاشهم، وفى هذا البيت يلوذ الخائف ويأمن المطارد ويربح التاجر، وكذلك جعل الله الشهر الحرام- وهو شهر ذى الحجة وتلحق به ثلاثة شهور أخرى- حرمة وأمنا وهى ذو القعدة والمحرم ورجب، يقول الله ﷾: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِيامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠).
ومرة أخرى يزيد الله بيته تكريما، وهو دعاء يدعو به المسلم أول ما يقع بصره على الكعبة، فيدعوا الله كما كان يدعوه رسول الله ﷺ: «اللهم زد بيتك هذا تعظيما وإجلالا وتكريما».
يقول الله ﷿: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١١).
فى الآية السابقة يذكر المولى- سبحانه- أنه- تكريما لإبراهيم وإسماعيل- أمرهما بتطهير بيته- جل وعلا- من الأصنام والأوثان حتى تقر أعين الطائفين حول البيت والمعتكفين فيه والراكعين والساجدين من أن تقع على علامات الشرك وذرائع الكفر، ثم تكون بعد ذلك منة ما يعرف عند المسلمين بدعوة إبراهيم التى سأل فيها رب العزة قائلا: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تلك الدعوة التى استجاب الله لها، وهذه الاستجابة ماثلة إلى يومنا هذا وإلى يوم تقوم الساعة، واستجابة المولى لدعوة إبراهيم هذه من المنن العظمى لأن هذا البلد- مكة- آمن إلى يوم الدين، وأهله مرزوقون رزقا موسعا بإذنه تعالى إلى يوم الدين.
وتتجلى عظمة الخالق وفيض كرمه بألا يقف أثر دعوة إبراهيم على من آمن منهم بالله واليوم الآخر، بل يقول رب العزة: وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا أى فى الدنيا، لأن هؤلاء الكافرين يسرى عليهم كرم الله لأنهم يعيشون فى كنف بيته الآمن، ولأنه تعالى يرزق المؤمن والكافر فى الدنيا فهو الرزاق الكريم، فإذا ما حلت الآخرة كان جزاء الكافرين متكافئا مع كفرهم، أما المؤمنون فجزاؤهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا.
(١٠) سورة المائدة: الآيتان ٩٧، ٩٨.
(١١) سورة البقرة: الآيتان ١٢٥، ١٢٦.
 
١ ‏/ ٨٤٦
 
ثم تتواكب الآية التالية مع أخواتها الآيات السالفات الذكر من كلام رب العالمين، وهى ليست آيات متواكبة متتابعة وحسب، وإنما هى منن عظمى متتالية متزاحمة يجود به رب العزة على إبراهيم وذريته- ونحن جميعا وقراء هذه الكلمات منهم بإذن الله- وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢).
إن ضمن هذه الآيات المتواكبة بل المنن المتوالية دعوة عظمى أخرى لسيدنا إبراهيم، ذلك أنه دعا ربنا أن يبعث فيهم- أى فى ذريته- رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم كتابك والحكمة ويزكيهم، فاستجاب له ربنا وبعث فينا محمدا ﷺ فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ووضعنا على المحجة البيضاء:
تلا علينا آياتك وعلمنا كتابك ووجهنا إلى صراطك المستقيم، وهو الرسول الخاتم الذى اخترته مبلغا لأسمى رسالة: خاتمة الرسالات التى سوف تظل تحرسها بهدى من كتابك العظيم، ويسهم فى التذكير بها والعمل على حفظها ونشرها من اخترته من أتباع دينك المستقيم، إلى أن ترث اللهم الدنيا ومن عليها وأنت أكرم الأكرمين وخير الوارثين.

السير فى الأرض:
إن الأرض التى خلقها الله للإنسان لكى تستقر حياته فيها مليئة بمنن الله على خلقه، مكتظة بآيات خالقها التى ما إن يتفكر الإنسان فيها وفيما تقع عليه عيناه فى أرجائها الواسعة لن يملك إلا أن يؤمن بالله ربا واحدا خالقا مبدعا، هذا فضلا عن آيات أخرى كثيرة، ومنن ربانية لا حصر لها، فيكون بين أمرين لا ثالث لهما: إيمان، وحسن جزاء، أو نكران وسوء عقاب، وإذن فلا مفر له من أن يطيع أمر خالقه بالسير فى أكناف الأرض حتى لا يكون له عند الله حجة إذا لم يستجب لأمره ويذعن إلى الاتجاه إلى الخالق الأعظم.
يقول جل شأنه وتباركت مشيئة، (الخطاب هنا موجه إلى الرسول ﷺ:
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (١٣).
(١٢) سورة البقرة الآيات: ١٢٧ - ١٢٩.
(١٣) سورة الروم الآيات: ٤٢ - ٤٤.
 
١ ‏/ ٨٤٧
 
هكذا يكون مصير الخلق، من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فقد وطأ لنفسه مكانا فى الجنة، وهو ما تشير إليه الآية المعقبة على الآيتين السابقتين، وذلك فى قول الله تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (الروم: ٤٥).
ويقول المولى موجها الخطاب مرة أخرى وفى نفس الغرض إلى عبده ورسوله ومبلغ رسالته، أن يطلب إلى الذين لا يؤمنون أن يسيروا فى الأرض ليتفكروا كيف بدأ الله الخلق، وكيف أن الله يميتهم ثم يحييهم مرة أخرى أو ينشئهم نشأة أخرى، وأنهم جميعا إليه ينقلبون قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٤).
ويظل التوجيه الإلهى بصيغة الخطاب الموجه من الله إلى عبده ورسوله، فى إطار من التشجيع والمواساة وذلك فى قوله تعالى:
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (الأنعام: ١٠). ويتكرر الخطاب إلى الرسول ﷺ أن يظل على صيغة أمر الكفار بالسير فى الأرض لتتسع آفاق المعرفة عندهم فيعرفوا عاقبة المكذبين قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (الأنعام: ١١) ويظل النهج القرآنى العظيم على رسله فى خطاب الرسول ولكن بصيغة «قل» وذلك فى قوله تعالى: قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٥).
وتتخذ آيات الكتاب العزيز نهجا متغايرا فى السير فى الأرض، فبعد أن كان «السير» أمرا صار خبرا استنكاريا؛ ذلك أن عقاب الله حاق بالكافرين لأنهم ساروا فى الأرض وعلموا خبر الذين كفروا وخبر الذين آمنوا، ومع ذلك ظلوا مستمسكين بكفرهم، فدمر الله عليهم أسباب حياتهم، وذلك فى قوله تعالى فى سورة محمد:
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٦).
(١٤) سورة العنكبوت: ٢٠ - ٢٢.
(١٥) سورة الأنعام: الآية ١٢.
(١٦) سورة محمد: الآيات ١٠ - ١٢.
 
١ ‏/ ٨٤٨
 
إن الأمر الإلهى للناس بالسير فى الأرض ليؤمنوا منّة كبرى، لأن الذين يسيرون فى الأرض فينظرون حكمة الله فى خلقه وعظم آياته فى الكون يسارعون إلى الإيمان، والذين يفعلون ذلك ثم لا يؤمنون لا يكون لهم على الله حجة فى كفرهم، فقد رأوا مفاتيح الإيمان وبدائع صنع الله وظلوا على نكرانهم، وإن من فضل الله على الأمة الإسلامية أن جعل طلب العلم فريضة على المسلمين دون سائر الأمم السابقة، والعلم عند المسلمين لا تكتمل أسبابه إلا بالرحلة أو السير فى الأرض بلغة القرآن الكريم، وإن كبار علماء المسلمين لم تكتمل لهم أسباب النبوغ العلمى- سواء أكان علما دينيا أو علما دنيويا- وكلاهما مطلوب- إلا بالرحلة، وإن حديث العلم والعلماء فى الإسلام وما قاموا
به من رحلات وأسفار وسير فى الأرض سوف يكون له مكانة فى هذا البحث بمشيئة الله بعد قليل.

منحة إلهية مقرونة بمعجزات ربانية:
إن معجزات الخالق- ﷾ كلها منن على خلقه، منها ما تفضل ربنا علينا مقرونا بمعجزة، ومنها ما جاء فضلا منه ورزقا وكرما منه ولطفا.
فمن المعجزات المقرونة بمننه ﷾ قوله جل وعز: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقًا فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (١٧).
أما المعجزة فهى أن السماوات والأرض كانتا جسما واحدا ضخما متماسكا ففصل الله بقدرته بينهما، وجعل السماوات مستقلة والأرض كذلك، وتدخل معجزة «الرتق والفتق» فى سلك معجزات الخلق الأولى، وبمعجزة الفتق يسّر الله الأرض للناس وأنعم عليها بالماء الذى لا حياة فيها إلا به، وبغير الماء لا تكون حياة، وإتماما لمننه على الأرض وساكنيها ثبت أركان الأرض، وثبت كيانها بالجبال الضخمة التى جاء المصطلح القرآنى فسماها «رواسى»؛ لأنها تجعل الأرض فى ثبات واتزان، وجعل فى هذه الجبال سبلا وفجاجا يسلكها الناس فى تحركاتهم وتنقلاتهم وأسفارهم، وذلك فضل الله يلمسه كل من عاش أو زار أقطارا فى الأرض جبلية.
ومن المعجزات المقرونة بالمنن الإلهية أيضا قول الله ﷿: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨).
(١٧) سورة الأنبياء: الآيتان ٣٠ - ٣١.
(١٨) سورة النحل: الآيات ١٥ - ١٨.
 
١ ‏/ ٨٤٩
 
الله- سبحانه- يذكّر الناس بالرواسى التى ألقاها فى الأرض، للسبب الذى سلف ذكره فى الآية السابقة، وكذلك السبل التى شقها فيها تيسيرا على الناس، ثم يضيف المولى- سبحانه- منة خلق الأنهار التى يرتوى منها البشر والحيوان والنبات، وخلق النجوم التى يهتدون بها فى سفرهم ليلا برا وبحرا.
ثم يوبخ المولى- سبحانه- الذين لم يؤمنوا به فى كل من الآيتين، ففي معجزة «الرتق والفتق» تكون مؤاخذة الله للكفار فى صيغة السخرية بهم وبعقولهم، وفى الآية التى نحن بصددها تكون السخرية أيضا فى صيغة الاستفهام الاستنكارى فى قوله ﷿:
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ثم تكون الإضافة القرآنية الشريفة تقريعا للكافرين وتذكيرا للمؤمنين فى قوله جل وعز:
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.
صدق ربى جلت قدرته فمن الذى يستطيع إحصاء نعمه وأفضاله ومننه وعطاياه.
وفى المقام نفسه يلفت المولى- سبحانه- عباده عن معجزة خلق السماوات، وما ميزها به من نجوم وكواكب جعلها زينة لها، ومعجزة خلق الأرض وتثبيتها بالجبال الرواسى وما منّ به من خلالها على الناس من الغيث يتنزل من السماء، فأنبت فيها كل ما تشتهيه الأنفس من حدائق ونخيل، وبعث الحياة فى الأرض الميتة، وتلك من المعجزات الكبرى، ويجعل ذلك مثالا للبعث الذى كذب به الكافرون، هذا فضلا عن بلاغة الإعجاز فى وصف مننه سبحانه على تعدد أنواعها تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ وفى ذلك كله يقول جل من قائل: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكًا فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقًا لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١٩).
ويتمثل الإعجاز القرآنى المعبر عن المنن الإلهية فضلا عن خلق الأرض وإنبات الثمر والزرع فى جنات وأعناب وزرع ونخيل، أنها جميعا تسقى من ماء واحد مع أنها تختلف طعما وتتفاوت حسن مذاق، وهى قدرة لا يستطيع إنجازها إلا الله القادر الخلاق العظيم، لقد أنعم الله على خلقه بتلك المنن لتكون آيات للعاقلين على أن الله هو- وحده- الخلاق العظيم. يقول جلت قدرته فى كتابه
(١٩) سورة ق: الآيات ٦ - ١١.
 
١ ‏/ ٨٥٠
 
العزيز: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٠).
ويزيد المولى من الإنعام بمننه الكثيرة بالتذكير ببعض ما ورد فى آيات سابقات وبالجديد منها ما يمثل عبرا للعباد مثل عبرة الأنعام فى إخراج لبنها من بين فرث ودم، ومثل معجزة النحل التى أوحى فيها إلى تلك الحشرة البديعة السخية بالعطاء أن تتخذ بيوتها فى الجبال والشجر الكثيف، وأن تسلك سبيل ربها فى جمع طعامها من كل الثمرات والأزهار، وإن سبيل خالقها فى ذلك لا يكون إلا الطعام الطاهر النظيف الذى ينتهى بإخراج شراب مختلف ألوانه من بطونها فيه شفاء للناس، إنه النعمة الكبرى المتمثلة فى العسل المختلف الألوان والنكهة والتى تسهم فى شفاء الأجسام وإبراء السقام. يقول جل شأنه: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خالِصًا سائِغًا لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١).
إن الله- سبحانه- لطيف بعباده يغمرهم بفضله وينعم عليهم بمننه، ولا يحب لهم إلا الطيب من الطعام، وينأى بهم عن الأطعمة المحرمة لأنها من دس الشيطان ووسوسته، إن الشيطان لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء، وإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا.
يقول جلت قدرته وتباركت أسماؤه ودامت نعمه ومننه: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٢).
ومن المنن الكبرى التى أنعم الله بها على الإنسان تلك الأنعام التى نتخذ من جلودها بيوتا، ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا، يقول الله- ﷿: وَاللَّهُ جَعَلَ
(٢٠) سورة الرعد: الآيتان ٣، ٤.
(٢١) سورة النحل: الآيات ٦٥ - ٦٩.
(٢٢) سورة البقرة: الآيات ١٦٨، ١٦٩.
 
١ ‏/ ٨٥١
 
لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثًا وَمَتاعًا إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْنانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٢٣).
ومن آيات الله العظمى، ومننه الكبرى:
الرواسى؛ التى هى الجبال التى تشكّل ميزانا للأرض فى حركتها وثباتها؛ فضلا عما تضمه هذه الجبال من نعم يتأمل العابد أمرها، وذلك فى قول الله ﷾: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨) (٢٤).
إلى هذه النعم الكبرى التى احتوتها الآيتان سالفتى الذكر الدواب والأنعام التى خلقها المولى ورزقها، وجعل منها رزقا لعباده فى مختلف بقاع الأرض، وتصديقا لهذا القول فإن الله- ﷾ يقول فى سورة هود وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦) (٢٥).
وقد يعرف الإنسان مكان الدواب التى ينتفع بها ويتملكها، ولكن ثمة دواب أخرى لا يعلم مستقرها ومستودعها إلا الله، فتلك المخلوقات التى تعيش فى باطن الأرض وبين الأحجار، وبعضها لا يعيش إلا داخل الحجر نفسه، وتلك آية من آيات الله التى لا يقدر عليها إلا الخالق الأعظم الذى خلق كل شىء، ورزق كل شىء.
ومنن الله- ﷾ فى الأرض لا حدود لها، ففيها ألقى الرواسى، وفيها أنبت كل شىء مما يحتاجه العباد فى معاشهم؛ بل إن الله- ﷾ أرسل الرياح لتعمل عملها بين السحاب الذى ينزله الله من السماء ماء لسقيا خلقه من إنسان، وحيوان، ونبات؛ بل إنه- سبحانه، يخزن بعضا من هذا الماء فى جوف الأرض لكى يتفجر من بين الأحجار ماء عذبا ذلالا يجرى فيصنع أنهارا يستقى منها الإنسان والحيوان والنبات، ويتمثل ذلك فى قول الله- ﷿:
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠)
(٢٣) سورة النحل: الآيات ٨٠ - ٨٢.
(٢٤) سورة فاطر: الآيتان ٢٧، ٢٨.
(٢٥) سورة هود: الآية ٦.
 
١ ‏/ ٨٥٢
 
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) (٢٦).
وفى فضل الجبال التى تعد معلما خالدا من معالم الأرض، يقول الله- ﷾:
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتًا (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتًا (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتًا (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨) (٢٧).
ولا يغيب عن فطنة القارئ لكتاب الله، الربط بين الجبال والمياه، لأن الجبال يتفجر منها المياه العذبة كما أوضحنا فى الآيات السابقة.
وفى تسخير الخالق الأعظم ومننه التى منّ بها على عباده؛ خلقه البحار والمحيطات التى تجرى فيها الفلك كالأعلام، وأنه من فضله يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، رأفة منه بخلقه، ورحمة منه لعباده، وفى ذلك يقول- جل وعز:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥) (٢٨).
وإن الأرض على الرغم من مساحتها الواسعة التى يتخذ الناس منها معاشا، وسكنا، ومستقرا، يغلب عليها فى ساحاتها الواسعة عنصر الماء، بحيث أن هذا الماء يغطى نحو ثلاثة أرباع الأرض، وإن النعم التى تزخر بها البحار لمما يستعصى على الإنسان حتى اليوم إحصاؤه والتعرف عليه، وقد أخبرنا الله- ﷾ ببعضه، وذلك فى قوله- ﷿:
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) (٢٩).
والماء الذى فى البحار أكثره مالح وأقله عذب، وفى ذلك يقول- جل وعلا:
وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) (٣٠).
وهكذا كل من البحرين العذب الفرات والملح الأجاج يسوق المولى من كل منهما لخلقه، يأكلون أنواع الأسماك والأطعمة الأخرى؛ فضلا عن الحلى التى تستخرج من كل من البحرين، وبخاصة اللؤلؤ الذى يعيش فى الماء العذب مثلما يعيش فى الماء الملح.
(٢٦) سورة الحجر: ١٩ - ٢٣.
(٢٧) سورة المرسلات: ٢٥ - ٢٨.
(٢٨) سورة الحج: ٦٥.
(٢٩) سورة النحل: ١٤.
(٣٠) سورة فاطر: ١٢.
 
١ ‏/ ٨٥٣
 
ومن المنن الكبرى التى ضمنها الله- ﷾ كتابه العزيز قوله- سبحانه:
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (٥٣) (٣١).
وتلك الحقيقة من آيات الله العظمى، ومننه الكبرى بحيث يتدفق الماء العذب الفرات، ويموج الملح الأجاج، ويخلق بينهما فاصلا قد لا يكون من الأرض، بل كثيرا ما يكون من الماء نفسه، وهذه الحقيقة تتبدى بوضوح عند مصبات الأنهار الكبرى، مثل نهر الأمازون فى أمريكا الجنوبية، الذى يندفع الماء العذب بين أحضان الماء المالح لمسافة تمتد لنحو ثلاثمائة كيلومتر فى قلب المحيط، يستطيع الإنسان فى أى موقع من هذه المسافة الطويلة أن يشرب ماء عذبا سائغا، دون أن يختلط به قطرة واحدة من الماء المالح، وكنا نحن قبل ثلاثة عقود من الزمان نرى ذلك فى نهر النيل أيام فيضانه الذى كان يستطيع صائدو الأسماك أن يشربوا مياه عذبة داخل البحر الأبيض المتوسط لعديد من الكيلومترات داخل البحر المالح الذى يغذوه الماء العذب، ويشكل برزخا وحجرا محجورا.
بل إن هذا الأمر- أمر الماء العذب الفرات والملح الأجاج- لا يقتصر عليهما مرج البحرين- العذب والمالح- وإنما يحدث ذلك بين البحار الملحة، ويتضح ذلك فى قول الله تعالى فى سورة الرحمن:
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) (٣٢).
وهذه الحقيقة تتضح فى لقاء البحر الأحمر ببحر العرب الذى هو جزء من المحيط الهندى، ذلك أن مياه البحر الأحمر أشد ملوحة، وأكثر حرارة من تلك التى فى بحر العرب، فلا يمتزج ماؤهما عند اللقاء، وإنما يجلف ماء البحر الأحمر- لطبيعته السالف ذكرها- إلى أسفل مياه بحر العرب، كما قرر العلماء المختصون بعلوم البحار.
والظاهرة نفسها تتكرر عند لقاء مياه البحر الأبيض المتوسط عند خليج جبل طارق بمياه المحيط الأطلنطى الكبير.
على أن هذه الحقيقة الكبرى تتمثل بشكل ظاهر للعيان عند رأس الرجاء الصالح فى جنوب إفريقيا حيث تلتقى مياه المحيط الأطلنطى بمياه المحيط الهندى فتشكل حاجزا مائيا ضخما ممتدا جنوبا إلى مرمى البصر، ولقد قام بمحاولة مشاهدة هذه الظاهرة الفذة كاتب هذه السطور، حينما زار مدينة الكاب ممثلا لفضيلة الإمام الأكبر شيخ
(٣١) سورة الفرقان: ٥٣.
(٣٢) سورة الرحمن: ١٩ - ٢١.
 
١ ‏/ ٨٥٤
 
الأزهر، فى احتفال المسلمين هناك بمضى مائة عام على بناء أول مسجد فى جنوب إفريقيا، وكان تفسير العلماء هناك لهذه الظاهرة أن ماء المحيط الأطلنطى بارد بمقدار ثلاث درجات عن مثيلاتها من مياه المحيط الهندى فيتخلق هذا البرزخ المائى العظيم بسبب هذا الفرق الواضح بين درجتى حرارة المحيطين العظيمين.
إن منن الله العظمى فى المياه التى تكسو وجه الأرض لا يمكن أن تحصى أو تستقصى.
ومن خير ما نختتم به منة الله فى كتابه العزيز بالمياه عامة، وبالعذبة منها خاصة.
تلك المنة العظمى من الخالق الأعظم الذى يجعل المياه العذبة تتفجر من الحجارة الصلدة عذبة ذلالا سائغة للشاربين تروى الظمأ، وتحيى الأرض الميتة، وذلك فى قوله- ﷿ فى وصف قسوة قلوب اليهود:
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ (٣٣).
وهذه المنة الكبرى متعددة الظهور خاصة فى المناطق الجبلية فى جبال الشام، وجبال أوروبا وأمريكا، ولقد أنعم الله على كاتب هذه السطور بأن رأى كميات المياه العظيمة العذبة الباردة تتفجر من جبل فى سهل البقاع بلبنان من أرض الشام، فتصنع نهرا كبيرا مشهور ومعروفا، يشق سطح الأرض المنبسطة حينا، والجبلية حينا لمسافة مئات من الكيلومترات حتى تصل إلى الأراضى التركية فى شمال بلاد الشام، فتصنع الخضرة والرّى والنماء فى تلك البقعة المباركة من أرض المسلمين.

نهاية الحياة الدنيا، وقيام الساعة
إن الله- ﷾ هو خالق الموت والحياة، ولقد قدّم الموت على الحياة لارتباطه بالحياة الآخرة وهى الدار الباقية، ومثابة الخلود، وفيها ينال المحسن إحسانه فيكون من أهل الجنة، ويلقى المسيء جزاءه بما قدّمت يداه عدلا من الله وحقا، ومن هنا كان على المرء من عباد الله أن يتدبر هذا اليوم تدبرا موصولا حتى يكثر من الخير، ويبتعد عن الشر، وأن يظل مؤمنا بأن للكون خالقا قادرا بيده مقاليد الدنيا والآخرة، ومن ثم كان من منن الله الكبرى فى كتابه العزيز أن نبّه الناس إلى ذلك اليوم الذى تنتهى فيه الحياة الأولى، ويكون البعث، والنشور، والحساب، والمصير إلى جنة عرضها السموات والأرض، أو إلى جهنم التى أعدت للكافرين.
(٣٣) سورة البقرة: ٧٤.
 
١ ‏/ ٨٥٥
 
ولقد نبهنا الله- ﷾ إلى أن للآخرة علامات، وأن لنهاية الدنيا معالم، ذكرت فى آيات كثيرة من كتاب الله العزيز، وفى ذلك يقول الحق- ﷻ:
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (البقرة: ٢٥١).
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهارًا فَجَعَلْناها حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣٤).
وتبصيرا للعباد بذلك اليوم العصيب التى تزلزل فيه أركان الأرض إيذانا بنهايتها وانتهاء الحياة على وجهها، تحدث الزلزلة الكبرى التى يتزلزل معها الكيان الإنسانى وذلك فى قول الله- جل وعز- فى سورة الزلزلة: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتًا لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨). (٣٥)
ويصف الله- خالق الخلق- وبارئ الأرض والسماء، وملك يوم الدين، هذا اليوم بيوم الفصل، ويفصّل- ﷻ أحداث ذلك اليوم، وما يمن به على المحسنين من عباده من حسن الجزاء، وعلى العاصين أتباع الشيطان وما يقع عليهم من عقاب، فيقول جلت قدرته، وتباركت أسماؤه: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتًا (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجًا (١٨) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْوابًا (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَرابًا إلى نهاية الآية رقم ٣٠ من سورة النبأ.
ومن الصور القرآنية التى تناول المولى فيها- جلت قدرته- وصف فزع الكون ممن فى السموات والأرض، والجبال الراسيات وهى تمر مر السحاب فى قوله تعالى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (سورة النحل: ٨٧، ٨٨).
وفى موضع آخر من الكتاب العزيز يتجلى المولى على خلقه بمزيد من المنن فى وصفه خطر هذا اليوم تذكيرا للغافلين، وتنبيها للمنكرين، وتفزيعا للكافرين فهو يوم الفزع الأكبر الذى مقداره خمسون ألف سنة فيقول- جلت قدرته: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤)
(٣٤) سورة يونس: ٢٤.
(٣٥) سورة الزلزلة: السورة كاملة.
 
١ ‏/ ٨٥٦
 
فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (٦) وَنَراهُ قَرِيبًا (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤) كَلَّا إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى (٣٦).
وفى صورة جليلة من سور القرآن الكريم يجرى إطلاق اسم «الواقعة» على هذا اليوم الرهيب الذى ترجّ فيه الأرض رجّا، وتبث فيه الجبال بثا، ويصنّف الخلق فيه تصنيفا يتسق مع أعمالهم: إن شرا فهم من أصحاب المشأمة، وإن خيرا فهم المقربون فى جنات النعيم، وذلك فى قوله- ﷿: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجًا ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٧).
ومن آيات الله العظمى وآياته الكبرى أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ فإذا دعاهم دعوة من الأرض أسرعوا خارجين. فهو الذى يبدأ الخلق ثم يعيده، وهو القاهر فوق عباده فيقول تباركت أسماؤه: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٨).
والله- ﷾ عدلا منه وإنصافا يصف المقصر بتقصيره، والمفسد بفساده تذكيرا بذلك اليوم العظيم، وتنبيها إلى القيامة، ومجىء الآخرة ونهاية الدنيا، ثم ينبه إلى النفس المطمئنة التى عملت أعمالا صالحة فيزيل عنها الروع، ويبعث فى أعطافها الاطمئنان كل ذلك يتضمنه قوله الكريم: كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠) كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠) (٣٩).
أ. د. مصطفى الشكعة
(٣٦) سورة المعارج: الآيات ٤ - ١٨.
(٣٧) سورة الواقعة: الآيات ١ - ١٢.
(٣٨) سورة الروم: الآيات ٢٥ - ٢٧.
(٣٩) سورة الفجر: الآيات ١٧: ٣٠.
 
١ ‏/ ٨٥٧
 

عن الكاتب

Tanya Ustadz

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية