الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

الإنسان فى القرآن الكريم

الإنسان فى القرآن الكريم

الكتاب: الموسوعة القرآنية المتخصصة
المؤلف: مجموعة من الأساتذة والعلماء المتخصصين
رئيس التحرير: أ.د. علي جمعة
الناشر: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، مصر
عام النشر: ١٤٢٣ هـ - ٢٠٠٢ م
عدد الصفحات: ٨٨٢
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
الموضوع: علوم القرأن
 

فهرس الموضوعات

  1. الإنسان فى القرآن الكريم
  2.     -تعريف
  3.     -استخلاف الإنسان
  4.     -تفضيل الإنسان
  5.     -الغاية من خلق الإنسان
  6.     -حرية الإنسان
  7.     -أنواع الإنسان
  8.     -العدل والمساواة بين الذكر والأنثى من الإنسان
  9. خلق الإنسان
  10.     -أولا: الماء:
  11.     -ثانيا: التراب:
  12.     -ثالثا: الطين:
  13.     -رابعا: نفخ الروح:
  14. -جسم الإنسان
  15. خصائص الإنسان
  16.     -* خير بطبيعته:
  17.     -* متدين:
  18.     -* ناطق:
  19.     -* لديه القدرة على النظر والتفكير:
  20.     -* مخلوق من طين:
  21. من صفات الإنسان
  22.     -* خلقه فى أحسن تقويم:
  23.     -* ضعفه:
  24.     -* تعجله:
  25.     -* جداله:
  26.     -* يأسه وقنوطه:
  27.     -* بخله:
  28.     -* طغيانه:
  29.     -* نكرانه للنعم:
  30.     -* فرحه وفخره:
  31.     -* خصومته لربه:
  32.     -* ظلمه:
  33.     -* مبالغته فى كفره:
  34. الإنسان والتربية
  35. أولا: الأسس التربوية للإنسان:
  36.     -الأساس الأول - التدرج فى البناء التربوى:
  37.     -الأساس الثانى - التوجيه والتحويل:
  38.     -الأساس الثالث: التصعيد:
  39.     الأساس الرابع - إيجاد الحافز الذاتى:
  40.         -١ - طريق الإيمان بالله واليوم الآخر وبقضاء الله وقدره:
  41.         -٢ - طريق الإقناع الفكرى:
  42.         -٣ - طريق الترغيب والترهيب:
  43.         -٤ - طريق تربية الوجدان الأخلاقى:
  44.     ثانيا: العناصر التكوينية للجيل الربانى:
  45.         -١ - التثقيف العقلى:
  46.         -٢ - الإيقاظ الروحى:
  47.         -٣ - الترابط الأخوى:
  48. علاقة الإنسان بالشيطان
  49.     -* العداوة:
  50.     -* الوسوسة:
  51.     -العلاج الدينى للتخلص من وساوس الشيطان:
  52.     نهاية الإنسان
  53.         -* تمهيد:
  54.         -* مواقف الناس من هذه النهاية:
  55.         -* حقيقة النهاية:
  56. العودة إلي كتاب الموسوعة القرآنية المتخصصة

 الإنسان فى القرآن الكريم
نقاط البحث

* تعريف
* استخلاف الإنسان.
* تفضيل الإنسان.
* الغاية من خلق الإنسان.
* حرية الإنسان.
* أنواع الإنسان.
* العدل والمساواة بين الذكر والأنثى من الإنسان.
* خلق الإنسان.
* جسم الإنسان.
* خصائص الإنسان.
* من صفات الإنسان.
* الإنسان والتربية.
* الإنسان وعلاقته بالشيطان.
* نهاية الإنسان.
تعريف
الإنسان: من الإنس، خلاف الجن، أو من الأنس .. خلاف النفور.
والإنسى: منسوب إلى الإنس، يقال ذلك لمن أكثر أنسه، ولكل ما يؤنس به (١).
وقد سمى الإنسان بذلك؛ لأنه خلق خلقة لا قوام له إلا بأنس بعضهم ببعض.
ولهذا قيل: الإنسان مدنى بالطبع؛ من حيث لا قوام لبعضهم إلا ببعض، ولا يمكنه أن يقوم بجميع أسبابه.
وقيل: سمى بذلك؛ لأنه يأنس بكل ما يألفه (١).
وروى ابن عباس، رضى الله عنهما، أنه قال: إنما سمى الإنسان إنسانا؛ لأنه عهد إليه فنسى (٢).
وذلك إشارة لقوله تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (طه: ١١٥).
وقد وردت هذه المادة (إنسان، خلاف الجان) فى القرآن الكريم تسعون مرة (٣).
كما ورد فى القرآن الكريم على عشرين وجها من وجوه الاستعمال والدلالات. (٤)
(١) الراغب الأصفهانى: مفردات القرآن (مادة: إنس).
(٢) ابن منظور: لسان العرب (مادة: أنس).
(٣) محمد فؤاد عبد الباقى: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.
(٤) الحسين بن محمد الدامغانى: قاموس القرآن، نشر دار العلم للملايين- بيروت.
 
١ ‏/ ٧٧٠
 
فوجه منها يراد به: آدم ﵇، كقوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (الرحمن: ١٤).
الثانى يراد به: سلالة آدم ﵇، كقوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ (ق: ١٦) إلى آخر هذه الوجوه. (٤)
والذى يعنينا فى بحثنا هذا، هما هذان الوجهان فقط من وجوه استعمالات القرآن للفظ الإنسان، وهما: آدم ﵇، وذريته.
وذلك من خلال تعرضنا بالإيجاز لبيان بعض الملامح القرآنية لهذا المخلوق الفريد.
وهذه الملامح تتعلق بمراحل خلقه، وبعض خصائصه، وعلاقته بغيره، إلى غير ذلك من الأمور الخاصة به.

استخلاف الإنسان
تعرض القرآن الكريم لهذه القضية فى آيات كثيرة.
منها: قوله تعالى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا
تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ
(البقرة ٣٠ - ٣٤).
وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ ... (الأنعام: ٦٥).
وقوله سبحانه: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ (الأعراف: ٦٩).
وقوله جل وعلا: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ (الأعراف: ٧٤).
وقوله ﵎: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
 
١ ‏/ ٧٧١
 
بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (يونس:
١٣ - ١٤).
وقوله ﷿: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ (النمل: ٦٢).
ويقول أيضا: هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ (فاطر: ٣٩).
ويقول ﷾: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ (ص: ٢٦).
ودون الدخول فى دائرة الخلاف حول تحديد هذا الإنسان، المراد فى هذه الآيات، أهو آدم ﵇، أو ذريته؟، كما تعرض لذلك العلماء والمفسرون (٥).
نقول- مع الشيخ محمد رشيد رضا- فى «تفسير المنار»: (٦).
(جرت سنة الله فى خلقه بأن تعلم أحكامه للناس وتنفذ فيهم على ألسنة أناس منهم يصطفيهم ليكونوا خلفاء عنه فى ذلك، وكما أن الإنسان أظهر أحكام الله وسننه الوضعية (أى الشرعية؛ لأن الشرع وضع إلهى) كذلك أظهر حكمه وسننه الخلقية الطبيعية، فيصح أن يكون معنى الخلافة عاما فى كل ما ميز الله به الإنسان على سائر المخلوقات، نطق الوحى ودل العيان والاختبار على أن الله تعالى خلق العالم أنواعا مختلفة، وخص كل نوع غير نوع الإنسان بشيء محدود معين لا يتعداه.
وأما الإنسان فقد خلقه الله ضعيفا، كما قال فى كتابه: وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفًا (النساء: ٢٨) وخلقه جاهلا كما قال تعالى:
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا (النحل: ٧٨) ولكنه على ضعفه وجهله عبرة لمن يعتبر، وموضع لعجب المتعجب؛ لأنه مع ضعفه يتصرف فى الأقوياء، ومع جهله فى نشأته يعلم جميع الأسماء، يولد الحيوان، عالما بالإلهام ما ينفعه وما يضره، وتكمل له قواه فى زمن قليل، ويولد الإنسان وليس له من الإلهام إلا الصراخ بالبكاء، ثم يحس ويشعر بالتدريج البطىء بالنسبة إلى غيره من الحيوان، ويعطى قوة أخرى تتصرف بشعوره وإحساسه تصرفا يكون له به السلطان على هذه الكائنات، فيسخرها ويذللها بعد ذلك كما تشاء تلك القوة الغريبة وهى التى يسمونها العقل، ولا يعقلون سرها، ولا يدركون حقيقتها وكنهها، فهى التى تغنى الإنسان عن كل ما وهب
(٥) الفخر الرازى: التفسير الكبير (سورة البقرة، تفسير الآية ٣٠).
(٦) انظر: (سورة البقرة، تفسير الآية ٣٠).
 
١ ‏/ ٧٧٢
 
للحيوان فى أصل الفطرة من الكساء الذى يقيه البرد والحر، والأعضاء التى يتناول بها غذاءه والتى يدافع بها عن نفسه ويسطو بها على عدوه، وغير ذلك من المواهب التى يعطاها الحيوان بلا كسب، حتى كان له بها من الاختراعات العجيبة ما كان، وسيكون له من ذلك ما لا يصل إليه التقدير والحسبان.
فالإنسان بهذه القوة غير محدود الاستعداد ولا محدود الرغائب ولا محدود العلم ولا محدود العمل، فهو على ضعف أفراده يتصرف بمجموعه فى الكون تصرفا لا حدّ له بإذن الله وتصريفه، وكما أعطاه الله تعالى هذه المواهب والأحكام الطبيعية ليظهر بها أسرار خليقته، وملكه الأرض وسخر له عوالمها، أعطاه أحكاما وشرائع حدّ فيها لأعماله وأخلاقه حدّا يحول دون بغى أفراده وطوائفه بعضهم على بعض، فهى تساعده على بلوغ كماله؛ لأنها مرشد ومربّ للعقل الذى كان له كل تلك المزايا؛ فلهذا كله جعله خليفة فى الأرض وهو أجدر المخلوقات بهذه الخلافة.
ظهرت آثار الإنسان فى هذه الخلافة على الأرض، ونحن نشاهد عجائب صنعه فى المعدن والنبات، وفى البر والبحر والهواء، فهو يتفنن ويبتدع ويكتشف ويخترع ويجدّ ويعمل، حتى غيّر شكل الأرض فجعل الحزن سهلا، والماحل خصبا. والخراب عمرانا، والبرارى بحارا أو خلجانا، وولّد بالتلقيح أزواجا من النبات لم تكن كالليمون المسمى «يوسف أفندى» فإن الله تعالى خلقه بيد الإنسان وأنشأه بكسبه. وقد تصرف فى أبناء جنسه من أنواع الحيوان كما يشاء بضروب التربية والتغذية والتوليد، حتى ظهر التغير فى خلقتها وخلائقها وأصنافها فصار منها الكبير والصغير، ومنها الأهلى والوحشى، وهو ينتفع بكل نوع منها ويسخره لخدمته كما سخر القوى الطبيعية وسائر المخلوقات، أليس من حكمة الله الذى أعطى كل شىء خلقه ثم هدى، أن جعل الإنسان بهذه المواهب خليفته فى الأرض، يقيم سننه، ويظهر عجائب صنعه، وأسرار خليقته، وبدائع حكمه، ومنافع أحكامه، وهل وجدت آية على كمال الله تعالى وسعة علمه أظهر من هذا الإنسان الذى خلقه الله فى أحسن تقويم؟ .. كلا!!

تفضيل الإنسان
لا غرابة فى أن يكون هذا المخلوق محفوفا بالعناية الربانية، التى ترفع من قدره، وتعلى منزلته بين الكائنات جميعها، وتفضله على ما عداه من مخلوقات الله تعالى الأخرى.
فهذه هى الملائكة، الذين أخبر الله عنهم
 
١ ‏/ ٧٧٣
 
فهذه هى الملائكة، الذين أخبر الله عنهم بأنهم: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (التحريم: ٦) والذين قال عنهم رب العزة: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ (الزمر: ٧٥).
نعم هذه الملائكة يأمرها الله تعالى بالسجود لهذا الإنسان (آدم ﵇ سجود تحية وتعظيم، وفى هذا من التكريم والإنعام على الإنسان والتفضيل ما فيه.
بل يصرح القرآن الكريم بهذا الإنعام الإلهى على الإنسان؛ حيث يفضله على كثير ممن خلق الله ﷾، يوضح ذلك قوله ﷿: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا (الإسراء: ٧٠).

الغاية من خلق الإنسان
إن عملية الخلق هذه- كما عرفنا- آية من آيات الله، لا يمكن أبدا أن تكون عارية عن غاية كبرى، ومقصد أسمى، فلم يخلق هملا ولا عبثا أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثًا (المؤمنون: (١١٥).
إنما يحدد الهدف من هذا الخلق قوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات: ٥٦).
ولأن عبادة الإنسان لله أمر محفوف بالمعوقات، والابتلاءات كان توضيح ذلك لتنبيه الإنسان، وتبصيره وزيادة وعيه، حتى يكون ثابت الخطو فى عبادة الله ﷿، حيث يقول ﵎: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (الإنسان: ٢ - ٣).
ومن هذا التوضيح الإلهى يظهر (٧):
أ- أن الابتلاء بظروف الحياة، وكثرة المعوقات أمر قدره الله تعالى على الإنسان، يكشف به قوة إرادته، ومضاء عزيمته، وثبات خطوه فى طريق العبادة.
ب- وأن الله- ﷿ منحه وسائل المعرفة التى يتعرف بها على الأدلة التى بثها الله فى كونه فيزداد بها إيمانا ويقينا بالله، كما يتعرف بها على وصايا الشرع وأحكامه فيعمل بها، ويلتزم بآدابها، ويتعرف على المعوقات التى تحول بينه وبين حسن العبادة، فيتغلب عليها ويتخلص منها.
وذلك فى قوله تعالى: فَجَعَلْناهُ سَمِيعًا بَصِيرًا.
(٧) عبد الرحمن حسن حبنكة الميدانى: الأخلاق الإسلامية وأسسها ١/ ٣٤٢ بتصرف.
 
١ ‏/ ٧٧٤
 
الغاية وتخلصه من المعوقات، ونجاته فى الابتلاءات موضوع تحت المراقبة، معرض للجزاء بالثواب أو بالعقاب.
وذلك فى قوله تعالى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا.
ولو لم يكن الأمر على ذلك لكان عبثا، وحاشا لله من ذلك.
يقول تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (المؤمنون: ١١٥: ١١٦)

حرية الإنسان
من القيم الهامة قيمة الحرية.
بها يغدو للإنسان كيان، ولوجوده معنى، ولحياته طعم ولون.
والحرية التى نعنيها ليست هى الحرية التى يفسد المرء بها نفسه، أو يحطم من خلالها كيانه، أو ينهى عن طريقها وجوده أو حياته.
وليست كذلك هى الحرية التى يفسد بها الآخرين، أو ينتقص من خلالها حرياتهم، أو يتسبب عن طريقها فى إيذائهم .. إلخ
بل هى الحرية التى تحقق إنسانيته، وتؤكد وجوده، وملكيته لقراره.
وليست هناك أرقى ولا أنقى ولا أعظم من أن يكون الإنسان حرا فيما يعتقده، وفيما يدين به ابتداء.
ولا يحجر عليه الإسلام فى ذلك أبدا، بل يصرح القرآن الكريم بهذه الحرية، وهذا الحق فى قوله تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ (البقرة: ٣٥٦).
ولكن: إذا اعتنق إنسان ما الإسلام، واختاره عقيدة، فليس له أن يعدل عنه إلى غيره، وإلا اعتبر مرتدا، وفى هذه الحالة يعامل معاملة المرتدين (٨).
ومن الواضح أنه فيما دون ذلك، فللإنسان كامل الحرية دون قيد أو شرط، إلا ما سبقت الإشارة إليه.
وهذه الحرية هى التى تحدد مسئوليته عما يفعل أو يترك، وهذا ما يقرره القرآن الكريم فى قوله تعالى: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (الطور: ٢١).
خاصة وأنه قد خلق صالحا لفعل هذا أو ترك ذاك وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها
وهذه الحرية قد وهبها الله لعباده من بنى
(٨) د. عبد الحى الفرماوى: صحوة فى عالم المرأة ص ١٠١.
 
١ ‏/ ٧٧٥
 
وهذه الحرية قد وهبها الله لعباده من بنى الإنسان؛ لأنه سبحانه عادل لا يظلم.
ومن هنا أهدر كل ما يأتيه الإنسان عن إكراه وقسر سواء فى جانب الإيمان أو الكفر.
فمن أكره على أن ينطق بكلمة الكفر فلا حرج عليه؛ حيث يقول ﵎: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ (النحل: ١٠٦).
وكذلك من آمن تحت ضغط الظروف القاهرة، ودون إرادة منه فإيمانه مردود عليه، وغير مقبول منه. ففرعون ظل سادرا فى غيه، ينادى: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (النازعات:
٢٤) حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (يونس: ٩٠) ولكن إيمانه رد عليه، وقيل له: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً (يونس: ٩١، ٩٢).
وإذا ارتد الإنسان فى ديار المسلمين بعد أن أسلم مختارا فإن الفقه الإسلامى يرى مجازاته بالقتل باعتبار ذلك الارتداد قادحا فى النظام العام ومهددا لكيان المجتمع، بما يعرف فى التشريعات الحديثة باسم الخيانة العظمى أو العمل على هدم الكيان الاجتماعى.
وبالجملة: فإن نتيجة حريته هذه، وثمرة أعماله التى اختارها ستعود عليه من نوع ما عمل (٩).
يقول تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (الشمس ٩، ١٠).

أنواع الإنسان
ويبين القرآن الكريم، أن الإنسان إذا بلغ مبلغ الرشد، وأصبح مسئولا عن تصرفاته ينقسم- بسبب اختياره وإرادته- إلى مهتد وضال، أو إلى طائع وعاص، أو بعبارة أوضح إلى مؤمن وكافر.
وتلك هى المرحلة التى تراها فى كثير من آيات الله البينات، وقد حكم على الإنسان فيها بأحد الوصفين (١٠).
إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (الإنسان: ٢، ٣).
ونلاحظ أن هذا التقسيم إلى مؤمن وكافر عادة ما يكون بعد ذكر ألوان من النعم تستوجب الشكر من جهة، وتتحقق بها المساواة بين الجميع من جهة أخرى، ولا دخل له فيها ولا إرادة، بل هى هبة من الله له من جهة ثالثة.
(٩) د. أحمد إبراهيم مهنا: مقومات الإنسانية فى القرآن الكريم ص ٩ بتصرف، نشر: مجمع البحوث الإسلامية.
(١٠) د. أحمد إبراهيم مهنا: مرجع سابق ص ١٩، الإنسان فى القرآن الكريم ص ٩٧.
 
١ ‏/ ٧٧٦
 
ولكن التفرقة تأتى بسبب موقفه منها ومن المنعم بها، إما شكرا وإما كفرانا إِمَّا شاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا.
يقول تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (طه: ١٢٣، ١٢٤).
ويقول ﷿: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (البقرة: ٢٥٣).
وتكون التفرقة- لذلك- فى الجزاء والنتيجة.
يقول سبحانه: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (الإسراء: ٧١، ٧٢).
وبهذا يتحدد نوع الإنسان حسب موقفه من الإيمان بالله تعالى، والاعتراف بنعمه، والعمل بشرعه، امتثالا أو امتناعا.
فهو: إما مؤمن وإما كافر.
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (التغابن: ٢).

العدل والمساواة بين الذكر والأنثى من الإنسان
وإذا كان ثمت تفرقة بين نوعى الإنسان من حيث الكفر والإيمان، فلا تجد تفرقة بين نوعيه من حيث الذكورة والأنوثة.
وقد تحدث القرآن الكريم عن الذكر والأنثى فى آياته الكريمة، مؤكدا على قيم العدل، والمساواة بينهما.
* فمن العدل بينهما:
أ- دخول الجنة لمن عمل صالحا، دون تفرقة بين الذكر والأنثى يقول تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (النساء: ١٢٤).
ب- أن يحيى الله من عمل صالحا حياة طيبة، دون تفرقة بين الذكر والأنثى.
يقول تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً (النحل:٩٧).
 
١ ‏/ ٧٧٧
 
ج- أن يجزى الله من عمل صالحا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون، دون تفرقة بين الذكر والأنثى.
يقول تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (النحل:
٩٧).
د- أن يعذب الله من يفتنون المؤمنين والمؤمنات عن دينهم ويعذبونهم، دون تفرقة بين أن يكون المفتون ذكرا أو أنثى.
يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (البروج: ١٠).
ويقول تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (الأحزاب: ٥٨).
هـ- أن يعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات، دون تفرقة بين الذكر والأنثى.
يقول تعالى: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ (الأحزاب: ٧٣).
ز- أن يتوب الله على المؤمنين والمؤمنات دون تفرقة بين الذكر والأنثى.
يقول تعالى: وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (الأحزاب: ٧٣).
* ومن المساواة بينهما:
أ- وعد الله بالرحمة للمؤمنين والمؤمنات، دون تفرقة بين الذكر والأنثى.
يقول تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (التوبة: ٧١).
ب- وعد الله للمؤمنين والمؤمنات بجنات تجرى من تحتها الأنهار .. إلخ، دون تفرقة بين الذكر والأنثى.
يقول تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ (التوبة: ٧٢).
ج- وجوب الطاعة عليهما لله ولرسوله، دون تفرقة بين الذكر والأنثى.
يقول تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا (الأحزاب: ٣٦).
 
١ ‏/ ٧٧٨
 
د- أن الله- ﷿ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا بسبب الصلاح دون تفرقة بين الذكر والأنثى.
يقول تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (الأحزاب: ٣٥).
هـ- أصل الخلقة:
يقول تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبًا وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا (الحجرات: ١٣).
والقيمة الإنسانية، حيث لا تفاضل إلا بميزان التقوى، دون تفرقة بين الذكر والأنثى.
يقول تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات: ١٣).
ز- المسئولية الجنائية:
يقول تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (المائدة: ٣٨).
ويقول تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ (النور: ٢).
ح- الثواب والعقاب الإلهى:
يقول تعالى: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (غافر: ٤٠).

خلق الإنسان
يعد خلق الإنسان آية من آيات الله العظيمة، خاصة إذا عرفنا أن عملية الخلق هذه مرت بمراحل عديدة وأطوار مختلفة كل مرحلة تعد فى ذاتها آية، وكل طور من هذه الأطوار يبرز عظمة الخالق ﷾.
ومما ينبغى أن يكون واضحا أنه قبل عملية الخلق هذه، قد أتى على الإنسان حين من الدهر لا يعلمه إلا الله- ﷿ لم يكن فيه هذا الإنسان شيئا مذكورا.
يوضح ذلك قوله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (الإنسان: ١).
وأما هذه المراحل التى مر بها خلق الإنسان فهى (١١):
(١١) عبد الرحمن حبنكة: مرجع سابق ١/ ٣٣٦. بتصرف يسير.
 
١ ‏/ ٧٧٩
 
أولا: الماء:
وهو العنصر الأول الذى خلق منه كل كائن حى حادث، يقول تعالى: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ (الأنبياء: ٣٠).
ويدخل فى قوله تعالى: كُلَّ شَيْءٍ:
جسم الإنسان، بل يمكن لنا أن نقول: إن قمة هذا المخلوقات جميعها هو الإنسان، وقد خلقه الله تعالى من الماء.
يقول ﵎: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (الفرقان: ٥٤).

ثانيا: التراب:
وهو العنصر الثانى الذى يتكون منه خلق الإنسان؛ حيث إن الإنسان الأول- وهو آدم ﵇ كان التراب عنصرا من عناصر تكوين خلقه.
يبين ذلك قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (آل عمران: ٥٩).
والتراب: عنصرا أساسى من عناصر تكوين كل إنسان بعد آدم ﵇. إذ من التراب النبات، ومن النبات الغذاء، ومن الغذاء الدم، ومن الدم النطفة، ومن النطفة الجنين.
يقول عز من قائل: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجًا (فاطر: ١١).
ويقول أيضا: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (غافر: ٦٧).
ويقول سبحانه: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (الروم:٢٠).

ثالثا: الطين:
وهو ناتج امتزاج عنصرى الماء والتراب، ولهذا فالطين هو المزيج الذى يتكون منه خلق جسد الإنسان.
يقول ﵎: ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (السجدة: ٦ - ٩).
ويلاحظ: أن هذا الطين بالنسبة للإنسان الأول، وهو آدم ﵇، كان: طينا لازبا، أى: لزجا لاصقا متماسكا بعضه ببعض، كما
 
١ ‏/ ٧٨٠
 
يصور ذلك قوله سبحانه: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (الصافات: ١١).
ثم: صار حمأ مسنونا، أى: أسودا منتنا حصورا، يقول رب العزة: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (الحجر: ٢٦).
وأخيرا: صار هذا الطين جافا يابسا، حتى أصبح صلصالا يشبه الفخار إلا أنه ليس بالفخار، يقول سبحانه: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (الرحمن: ١٤، ١٥).
وأما هذا الطين بالنسبة لذرية هذا الإنسان الأول، وهى السلالات البشرية فمن الطين إلى النبات، إلى الغذاء، إلى الدم، إلى النطفة، إلى العلقة، إلى المضغة ... إلخ.

رابعا: نفخ الروح:
ونفخ الروح هذا فى الإنسان الأول، وهو آدم- ﵇ كان بعد أن صار الطين صلصالا.
يقول تعالى: إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (ص: ٧١، ٧٢).
وأما بالنسبة لذرية آدم وهى السلالة البشرية فإن نفخ الروح يكون فى الجنين من بعد علوقه بنحو أربعة أشهر، كما فى الحديث الصحيح: «إن أحدكم يجمع خلقه فى بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون فى ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون فى ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقى أو سعيد» (١٢).
يقول جل وعلا: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظامًا فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (المؤمنون: ١٢ - ١٤).
وأخيرا: ينبغى أن يلاحظ جيدا أمران:
الأمر الأول: أن الله تعالى بعد أن خلق الإنسان الأول، وهو آدم- ﵇ خلق سبحانه من هذا الإنسان زوجته.
يقول تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها (الأعراف: ١٨٩).
الأمر الثانى: أن الله تعالى بعد أن خلق الإنسان الأول وهو آدم- ﵇ وزوجته خلق السلالات البشرية- بعد مرورها بمراحل: الماء، والتراب، والطين، والنبات،
(١٢) أخرجه البخارى: كتاب «بدء الخلق»، مسلم: كتاب «القدر».
 
١ ‏/ ٧٨١
 
والغذاء، والدم- بمرحلة النطفة الأمشاج، أى: الأخلاط والخصائص غير المتماثلة.
يقول عز من قائل: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (الإنسان: ٢، ٣).
وصدق الله تعالى إذ يقول: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (التغابن: ٣).

جسم الإنسان
وقد تحدث القرآن الكريم- خلال هدايته للناس وإرشاده لهم- عن جسم الإنسان بتفصيل دقيق حيث ذكر (١٣):
١ - النفس: فى مثل قوله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (النازعات: ٤٠، ٤١).
٢ - الجسم: فى مثل قوله تعالى: قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (البقرة: ٢٤٧).
٣ - الرأس: فى مثل قوله تعالى: وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ (الأعراف: ١٥٠).
٤ - الوجه: فى مثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ (المائدة: ٦).
٥ - الجبين: فى مثل قوله تعالى: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (الصافات: ١٠٣ - ١٠٥).
٦ - الناصية: فى مثل فى قوله تعالى: كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (العلق: ١٥، ١٦).
٧ - العين: فى مثل قوله تعالى: قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (الأنبياء: ٦١).
٨ - الخدّ: فى مثل قوله تعالى: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا (لقمان: ١٨).
٩ - الأنف: فى مثل قوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ (المائدة: ٤٥).
١٠ - الأذن فى مثل قوله تعالى: وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبارًا (نوح: ٧).
(١٣) محمد بسام رشدى الزين: المعجم المفهرس لمعانى القرآن العظيم.
 
١ ‏/ ٧٨٢
 
١١ - الفم: فى مثل قوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (آل عمران: ١٦٧).
١٢ - الشّفة فى قوله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِسانًا وَشَفَتَيْنِ؟ (البلد: ٨، ٩).
١٣ - السّن: فى قوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ (المائدة: ٤٥).
١٤ - اللسان: فى مثل قوله تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (النور: ٢٤).
١٥ - الحلق: فى قوله تعالى: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (الواقعة: ٨٣).
١٦ - الحنجرة: فى مثل قوله تعالى:
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (غافر: ١٨).
١٧ - الذقن: فى مثل قوله تعالى: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (الإسراء: ١٠٩).
١٨ - الرقبة: فى مثل قوله تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ (محمد: ٤).
١٩ - العنق: فى مثل قوله تعالى: وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ؟ (سبأ:٣٣).
٢٠ - التّرقوة: وهى العظام المحيطة بفقرة النحر فى مثل قوله تعالى: كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (القيامة: ٢٦) والتراقى: جمع ترقوة.
٢١ - الصدر فى مثل قوله تعالى: قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (طه: ٢٥، ٢٦).
٢٢ - القلب: فى مثل قوله تعالى: قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي (البقرة: ٢٦٠).
٢٣ - الجلد: فى مثل قوله تعالى: وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ (فصلت: ٢١).
٢٤ - العظم: فى مثل قوله تعالى: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظامًا فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (المؤمنون: ١٤).
 
١ ‏/ ٧٨٣
 
٢٥ - اللحم: فى مثل قوله تعالى: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا؟
(الحجرات: ١٢).
٢٦ - الجنب: فى مثل قوله تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيامًا وَقُعُودًا وَعَلى جُنُوبِهِمْ (آل عمران: ١٩١).
٢٧ - الظّهر: فى مثل قوله تعالى: يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (التوبة: ٣٥).
٢٨ - البطن: فى مثل قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ (النجم: ٣٢).
٢٩ - الأمعاء: فى قوله تعالى: وَسُقُوا ماءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (محمد: ١٥).
٣٠ - العضد: فى مثل قوله تعالى: قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما (القصص: ٣٥).
٣١ - المرفق: فى مثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ (المائدة: ٦).
٣٢ - اليد: فى مثل قوله تعالى: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (الحشر: ٢).
٣٣ - الأصابع: فى مثل قوله تعالى:
يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ (البقرة: ١٩).
٣٤ - البنان: فى مثل قوله تعالى: بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (القيامة: ٤).
٣٥ - الأنملة: فى مثل قوله تعالى: وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ (آل عمران: ١١٩).
٣٦ - الساق: فى مثل قوله تعالى: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (القيامة: ٢٩، ٣٠).
٣٧ - الأرجل: فى مثل قوله تعالى: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها (الأعراف: ١٩٥).
٣٨ - الكعبين: فى مثل قوله تعالى:
وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ (المائدة: ٦).
٣٩ - الأقدام: فى مثل قوله تعالى: وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (الأنفال: ١١).
 
١ ‏/ ٧٨٤
 
خصائص الإنسان
* خير بطبيعته:
طبيعة الإنسان: صالحة لفعل الخير، كما هى صالحة للركون إلى الشر.
يقول تعالى: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (الشمس: ٧ - ٨).
ومع ذلك فإن الدارس لكتاب الله- ﷿ يستطيع أن يستنتج أن الميل إلى الخير هو الجانب الأغلب فى هذه الطبيعة، وأنها لو تركت وشأنها دون أن تتكالب عليها عوامل الفساد لما حادت عن الطريق المستقيم.
يشير إلى ذلك قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ (الروم: ٣٠).
وعوامل الفساد والشر التى تخرج الإنسان عن طبيعته هذه كثيرة (١٤).
منها: ما يكمن فى نفس الإنسان، ويتمثل فى الميول التى تمكنت بفعل الزمن وتأثير البيئة، حتى صارت جزءا من طبيعته، يصدر عنها كثير من تصرفاته.
وفى الحديث الشريف الصحيح ما يوضح ذلك، يقول ﷺ: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه» (١٥).
ومنها: ما يأتيه من خارج نفسه، ويتزعمها إبليس وأعوانه، ذلك المخلوق، الذى أقسم أن يكرس حياته لإيقاع آدم وأبنائه فى معصية الله، والذى قال: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (الأعراف: ١٦ - ١٧).
والإنسان بين هذا وذاك يقاوم ويقاوم لتتغلب طبيعته الخيرة على هذه العوامل، إلا من خرج من رحمة الله، وعاش عبدا لهواه والشيطان.

* متدين:
بمعنى أنه يعرف ربه وخالقه، لا يغيب عنه ذلك، حتى وإن تغافل أو غفل أحيانا وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (الزخرف: ٩).
ولئن عبت على الكفار منهم عبادة الأصنام: أجابوك بلهجة المتدين؛ حيث يقولون: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى (الزمر: ٣).
والإنسان المؤمن: سعيد بتدينه، يعيش فى ظلاله، ويتمسك بأهدابه، ولسان حاله ومقاله يهتف بقوله تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي
(١٤) د. أحمد إبراهيم مهنا: مقومات الإنسانية ص ١٠.
(١٥) أخرجه البخارى: ك التفسير، باب سورة الروم، مسلم: ك القدر، باب معنى كل مولود .. إلخ.
 
١ ‏/ ٧٨٥
 
وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (الأنعام: ١٦١ - ١٦٣).
وأما غير المؤمن: فمن العجيب أنه لا يفر من تدينه، وإن كان لا يتمسك بأهدابه، بل ينكره فى سرائه، ولا يذكره إلا فى ضرائه، بل يهتف ساعتها بلسان حاله ومقاله: لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (يونس: ٢٣).
ذلك أنهم: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (العنكبوت: ٦٥).
وهكذا: لا تظهر فطرتهم، ولا يبرز تدينهم إلا عند الشدائد، وساعتها فقط، وأما قبل الشدائد وبعدها فهم جاحدون مستكبرون عبيد لأهوائهم وشياطينهم.
يقول ﷾: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ
عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
(يونس: ٢٢ - ٢٣).
وبهذا: فالتدين فطرة فى الإنسان، وخاصية من خصائصه يسعد به من هداه الله، فيظهر عليه، ويعيش فى رحابه، ويحيا على آدابه، ويخفيه، بل يقاومه من لم يهده الله، فلا يظهر عليه، ولا يعيش فى رحابه، ولا يعرف آدابه، ولا ينطق به إلا وقت الشدائد، يوم لا ينفع نفسا تدينها ولا إيمانها، ويصيرون كمن إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فيهزأ الله منه، ولا يقبل إيمانه؛ حيث يقول له: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (يونس: ٩١) بل يصيرون ضمن من قال- ﷿ عنهم:
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥) (غافر: ٨٤ - ٨٥).

* ناطق:
ميز الله- ﷿ الإنسان بخاصية النطق والتكلم دون باقى المخلوقات، حيث أقسم سبحانه بنفسه على أن أرزاق العباد فى السماء، ثم أكده بأمر واضح للإنسان، ونعمة خاصة به، وهى: النطق، إذ قال: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِ
 
١ ‏/ ٧٨٦
 
السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (الذاريات: ٢٢، ٢٣).
ويذكر ربنا- ﵎ هذه الخاصية فى معرض تشريفه للحبيب ﷺ ..
حينما يقول: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (النجم: ٢ - ٣).
هذه الخاصية تنتفى عنهم بعد الوفاة كما يوضح ذلك قوله- تعالى- عن الإنسان فى يوم القيامة: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (المرسلات: ٣٥ - ٣٨).

* لديه القدرة على النظر والتفكير:
كما منح الله- ﷿ الإنسان خاصية القدرة على النظر فى آيات الله المبثوثة فى النفس والكون والتاريخ، ودعاه إلى استعمالها والإفادة منها، فى تحقيق ذاته، وحسن عبادته لربه- ﷾، حيث أعطاه القدرة على النظر فى:
١ - كيف بدأ الخلق؟ وكيف يبعثهم؟ حاثا له على الإفادة من دلالة ذلك إذ يقول: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (العنكبوت: ٢٠).
٢ - ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شىء، حاثا له كذلك على الإفادة من ذلك إذ يقول: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ (الأعراف: ١٨٥).
٣ - آيات الله فى السماء والأرض .. حاثا له على الإفادة من دلالة ذلك إذ يقول أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكًا فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقًا لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذلِكَ الْخُرُوجُ (ق: ٦ - ١١).
٤ - آثار رحمة الله كيف يحيى الأرض بعد موتها، حاثا له على الإفادة من دلالة ذلك إذ يقول: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (الروم: ٥٠).

* مخلوق من طين:
وهذا واضح قبل خلق الإنسان حيث يقول رب العزة إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (ص: ٧١ - ٧٤).
 
١ ‏/ ٧٨٧
 
ثم يخاطب الإنسان موبخا له على جداله وشكّه فى وحدانية الله، مذكرا له بأصل خلقته، حيث يقول: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (الأنعام: ٢).
كما يقول سبحانه مصورا مراحل خلقه إذ يقول: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظامًا فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (المؤمنون: ١٢ - ١٤).
وقد امتنّ- ﷾ على الإنسان بالخلق من طين، وذلك فى قوله- ﷿:
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (السجدة: ٧).
وكان هذا الخلق للإنسان من طين سببا فى تكبر إبليس وعدم طاعته لله فى السجود لآدم؛ حيث قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (الأعراف: ١٢).

من صفات الإنسان
وصفات الإنسان التى ينفرد ويتميز بها عن غيره كثيرة جدا، ذكرها المولى- ﷾ فى كتابه الكريم؛ تسجيلا لها، ودعوة لتقييمها، ولفت الأنظار إلى المحافظة على الجيد منها، وعلاج الردىء تخلصا من أضراره، ليستطيع الإنسان أداء رسالته، وحسن القيام بخلافته.
ومن هذه الصفات (١٦):

* خلقه فى أحسن تقويم:
يقول ﵎: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (التين: ٤).

* ضعفه:
يقول سبحانه: وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفًا (النساء: ٢٨).
يقول سبحانه اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (الروم: ٥٤).

* تعجله:
يقول رب العزة: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا (الإسراء: ١١)، كما يقول ﷾: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ (الأنبياء: ٣٧).

* جداله:
يقول تعالى: وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (الكهف: ٥٤).

* يأسه وقنوطه:
يقول ﷿: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (الروم: ٣٦).
(١٦) انظر: عبد الرحمن حبنكة: مرجع سابق، محمد فؤاد عبد الباقى: مرجع سابق، محمد بسام رشدى: مرجع سابق.
 
١ ‏/ ٧٨٨
 
ويقول أيضا: لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (فصلت: ٤٩).

* بخله:
يقول جل وعلا: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُورًا (الإسراء: ١٠٠).
ويقول أيضا إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعًا (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (٢١) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (٢٢) (المعارج: ١٩ - ٢٢).

* طغيانه:
يقول ﷿: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (عبس: ٦ - ٧).

* نكرانه للنعم:
يقول ﵎: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِدًا أَوْ قائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (يونس: ١٢).
ويقول أيضا وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ (النحل:٥٣ - ٥٥).
ويقول سبحانه: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ (الزمر: ٨).
ويقول كذلك: فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ (الزمر: ٤٩).

* فرحه وفخره:
يقول ﷿: وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (هود: ١٠).

* خصومته لربه:
يقول عز من قائل: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (يس:٧٧).

* ظلمه:
يقول ﵎: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (إبراهيم: ٣٤).

* مبالغته فى كفره:
يقول سبحانه: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُورًا (الإسراء: ٦٧).
 
١ ‏/ ٧٨٩
 
ويقول تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (الحج: ٦٦).
ويقول أيضا: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (الزخرف: ١٥).
ويقول ﵎: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (عبس: ١٧).

الإنسان والتربية
لم يلجأ الإسلام فى تربية الإنسان إلى محاولة إلغاء أصل الطبائع الفطرية فيه، أو إلغاء شىء منها، ليضع بدلا منها طبائع جديدة مكتسبة لم تكن هى ولا الاستعداد إليها من الأمور الفطرية.
ولكن اتبع الأسس التربوية النافعة فى التقويم والتحويل والتنمية والتهذيب والتشذيب.
ومن هذه الأسس:
١ - التدرج فى التربية.
٢ - التوجيه والتحويل.
٣ - التصعيد.
٤ - إيجاد الحافز الذاتى.
وصولا بهذه الأسس إلى تربية الإنسان أولا، وتكوين الجيل الربانى الذى يقود الإنسانية إلى الخير والفلاح ثانيا.
ويتم ذلك التكوين لهذا الجيل الربانى على عدة عناصر منها:
١ - التثقيف العقلى.
٢ - اليقظة الروحية.
٣ - الترابط الأخوى.
وبيان هذا وذاك على النحو التالى:

أولا: الأسس التربوية للإنسان:
الأساس الأول- التدرج فى البناء التربوى:
إن العملية التربوية ليست عملية تحويل مفاجئ دفعة واحدة، أو خلق تام بمرة واحدة؛ حيث إن هذا لم يختره الله لنفسه فى سنة الخلق، مع أن من قدرته- جل وعلا- أنه إذا أراد شيئا أن يقول له: كن. فيكون؛ ولكنه ﵎ اختار لنفسه سنة الإنشاء المتدرج، كما أن رغبتنا بالإنجاز التام السريع على خلاف طبائع الأشياء معاكسة لسنة الله فى كونه.
ومكلّف الأشياء فوق طباعها ... متطلّب فى الماء جذوة نار
ومن صفات الله تعالى أنه رب العالمين، أى:
مربى العالمين، والتربية هى إنشاء متدرج لإبلاغ الشيء إلى مستوى كماله، وقد خلق الله الدنيا فى ستة أيام من أيامه- ﵎ وكان فى قدرته أن يخلقها بكلمة كن.
 
١ ‏/ ٧٩٠
 
الأساس الثانى- التوجيه والتحويل:
إنه ما من طبع من الطبائع الفطرية إلا يحتاج إليه فى جانب من جوانب الخير، أو فى طريق من طرق الخير، وعمليات التوجيه والتحويل تكون بتعليق رغبات المقصود بالتربية فى جانب من جوانب الخير، أو فى طريق من طرق الخير، وبمحاولة امتصاص شحنات هذا الطبع كلّها أو بعضها فيما وجهت إليه وعلقت به.
ومن أمثلة ذلك: أن نأخذ إنسانا ذا طمع مفرط فى متاع الحياة الدنيا وزينتها، ثم نملأ قلبه إيمانا بالله واليوم الآخر، وبما فى اليوم الآخر من جنة ونعيم مقيم، ثم نعمل على توجيه طمعه وتحويله إلى ما عند الله من أجر عظيم، ثم نجرى عمليات تعليق شحنات ما لديه من طمع بذلك، فتنصرف نفسه إليه انصرافا كليا أو جزئيا، وبذلك ينفك شيئا فشيئا عن التعلق بمطامع الحياة الدنيا، طلبا لما هو أجلّ وأعظم، وعندئذ فقد نجده زاهدا قنوعا، أو غير مفرط فى الطمع.
وبهذا التحويل الكلى أو الجزئى يعتدل طبعه، ويتكون لديه خلق فاضل، ومع ذلك نلاحظ أن الطمع لم تقتلع جذوره من نفسه، ولكن جرى فيه تحويل إلى ما هو خير.
وهكذا نستطيع أن نمارس خطة التوجيه والتحويل فى كثير من الطبائع الفطرية.

الأساس الثالث: التصعيد:
وهو نوع من تحويل الطبع، أو تحويل التطلع الإنسانى، عن الصغائر والدنايا، وتوجيهه لمعالى الأمور، ولما فيه سعادة خالدة أو مجد حقيقى، ولما فيه كمال، ورفعة بين الناس، وكمال ورفعة عند الله.
ومن وسائل التصعيد التشويق والتحبيب، والتحسين والتزيين، والممارسة، ووضع الإنسان فى خبرات عملية يذوق فيها حلاوة ما يراد تصعيده إليه، ولكن بدون إرهاق منفر، ولا تكاليف شاقة مضنية، باستثناء أفراد نادرين يستعذبون المشقات فى أصل طباعهم، ولا يميلون إلى الأمور السهلة الخفيفة.
ومن التربية بالتصعيد قول الله- ﷿ لرسوله ﷺ:
وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (طه: ٢٠). أزواجا منهم:
أصنافا منهم.
فأبان الله تعالى أن كل ما يتمتع به الناس فى الحياة الدنيا هو فى واقع حاله كالزهرة، ومن صفات الزهرة أنها تغرى ولكنها قصيرة العمر سريعة الذبول والفناء، فالعاقل يبحث عن نعيم حقيقى باق. وهو أيضا مادة
 
١ ‏/ ٧٩١
 
لامتحان الناس وابتلائهم، وليس لتكريمهم لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ.
بعد هذا التزهيد فى زهرة الحياة الدنيا قال تعالى: وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى.
وفى هذا توجيه صاعد لما هو خير حقيقى باق، وهو رزق الله للمتقين والأبرار والمحسنين، فى جنات النعيم، وفى الدنيا بسعادة الروح وراحة الفؤاد.

الأساس الرابع- إيجاد الحافز الذاتى:
الحافز الذاتى هو القوة الداخلية فى الإنسان، المحركة لعواطفه، والموجهة لإرادته، والدافعة له حتى يمارس سلوكا معينا داخليا أو خارجيا، وعن طريق تكرار ممارسة هذا السلوك تتكون العادة النفسية الباطنة، أو العادة الجسدية الظاهرة، فإذا كان هذا السلوك من نوع السلوك الخلقى كان خلقا مكتسبا، وكان المؤثر الأول فى اكتسابه هو إيجاد الحافز الذاتى لدى مكتسبه.
ولإيجاد الحافز الذاتى عدة طرق، منها الطرق التالية:

١ - طريق الإيمان بالله واليوم الآخر وبقضاء الله وقدره:
فمتى بنيت القاعدة الإيمانية الإسلامية فى أعماق كيان الإنسان استطاعت هذه القاعدة أن تهيمن على فكره وقلبه وعواطفه وإرادته، وأن تعمل على ربط إرادته بما يرضى الله تعالى، ولا يخفى ما للإرادة الحازمة فى الإنسان من تأثير على مراكز الخلق فى نفسه، وقدرة على التحكم فى أنواع سلوكه.
إن تركيز القاعدة الإيمانية الإسلامية فى الكيان الداخلى للإنسان يرتبط به اليقين المهيمن بأنه لا حكم إلا لله، وبأن الله لا يأمر إلا بالخير، ولا ينهى إلا عن الشر، وبأن مصلحة الإنسان مرتبطة بفعل ما يأمر الله به، وترك ما ينهى الله عنه. ويرتبط به أيضا اليقين بأن الله تعالى يجازى على الخير خيرا وعلى السوء سوءا، وفق قانون الحق والعدل والفضل الربانى، ويرتبط به أيضا اليقين بأن الله تعالى لا يجرى فى مقاديره لعباده إلا ما هو خير لهم، فالمؤمن يقابل مقادير الله بالرضا والتسليم فيصبر، ولا يغضب ولا يضجر، ولا يحسد ولا يستكبر، وهكذا.
فالحافز الذاتى الذى يولده الإيمان بالله واليوم الآخر وبقضاء الله وقدره حافز مؤثر وفعال جدا فى دفع كل فرد مؤمن إلى فعل الخير والالتزام به، إنه حافز محرك ودافع وحارس ورقيب ذاتى، يصاحب الإنسان الذى يملك وعيه مصاحبة دائمة، فهو معه فى جميع أوقاته، وفى جميع أحواله، إذا كان بين الناس وإذا كان فى خلواته، إذا كان منكشفا فى الأضواء وإذا كان مستترا فى الظلمات،
 
١ ‏/ ٧٩٢
 
وحيث يظن أنه لا يراقبه أحد، وحيث لا تراقبه رقابة قانونية بشرية، ولا تمتد إليه سلطة قضائية، ولا تردعه هيئة اجتماعية.
إن الحافز الذاتى الذى يولده الإيمان بالله واليوم الآخر قوة فوق كل القوى، إنه يقبض على زمام العقل بالحق والبرهان من الله، ويقبض على ناصية القلب بعاطفة محبة الله وابتغاء محبة الله وابتغاء رضاه والثقة بحكمته، ويقبض على زمام النفس بعاملى الخوف من عقاب الله والطمع بثوابه العظيم.
إنه يقود الإنسان ويسوقه من جميع أركانه الداخلية، فهو قوة عجيبة لا تدانيها قوة أخرى فى الوجود كله، ولكن مقدار قوتها فى داخل الفرد مناسب لمقدار قوة الإيمان فى قلبه زيادة ونقصانا، فكلما زادت نسبة قوة الإيمان زادت قوة هذا الحافز، وكلما نقصت هذه النسبة نقصت قوة الحافز فى نفس الفرد المسلم، وهذا الحافز فى مستواه الأعلى يوصل الإنسان إلى مرتبة الإحسان فى معظم أعماله، ويجعله من السابقين فى الخيرات بإذن الله.
إن الإيمان بالله واليوم الآخر وبقضاء الله وقدره يمثل الجذر الرئيسى لإصلاح الإنسان من أعمق كيانه الداخلى، وعليه تتجمع جذور النفس الإنسانية كلها، وذلك لأن الإنسان متى أيقن بالله حق اليقين، غدا متعطشا لبلوغ كمالاته بسرعة، ومطمئنا إلى أن الله هو العليم الحكيم، الذى يعلم أين يكون الخير، ويعلم أين يكون الشر، وهو بعباده رءوف رحيم، ينزل بهم ما يقتضيه خيرهم، ويرشدهم إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم، فيأخذ وصايا الله بالتسليم التام، ويلتزمها التزاما صادقا، قبل أن يعرف بالتفصيلات الجزئية والحجج والبراهين ما فى كل فرد من أفرادها من خيرات ومصالح وثمرات كريمة.
هذه الثقة بالله القائمة على اليقين به لا تعادلها ثقة أخرى فى الوجود، علما بأن الثقة من حيث ذاتها سائق يسوق الإنسان إلى الاتباع والطاعة والرضا والتسليم، دون شعور بعقبة من عقبات المعارضة النفسية.
نحن نلاحظ فى واقعنا الإنسانى، أننا متى وثقنا بإنسان- بعد أن خبرنا فيه نضج التفكير والتدبير وصدق النصيحة- سلّمنا له من غير أن نطالبه بالحجة، مع أن ثقتنا به- مهما عظمت- لا تبلغ درجة الاعتقاد بعصمته عن الخطأ، ولكننا نرجح أن صوابه أكثر من خطئه.
فكيف بمن نعتقد به كمال العصمة، ونحن موقنون بأنه رءوف رحيم، يحب لنا الخير ويكره لنا الشر؟
لذلك فالنفوذ إلى أعماق النفس الإنسانية بعناصر الإيمان الأساسية، يوجد فى الإنسان
 
١ ‏/ ٧٩٣
 
فاعليات ذاتية، تحرضه على التحلى بمكارم الأخلاق، وسلوك السبيل الأقوم فى الحياة.

٢ - طريق الإقناع الفكرى:
ويكون الإقناع الفكرى عن طريق التعليم المباشر أو غير المباشر، أو عن طريق الجدال بالتى هى أحسن.
فمن شأن المعرفة التى تدرك بها الفضائل والرذائل، وتعلم بها آثارها المحمودة والمذمومة، وثمراتها العاجلة والآجلة، أن تولد الحافز الذاتى على التطبيق، لا سيما إذا كان مضمون المعرفة يتعلق بما ينفع الإنسان أو يضره، كقضايا السلوك الإنسانى.
فمعرفة الفضائل الأخلاقية معرفة صحيحة لا بدّ أن تبرز ما فيها من كمال وجمال، ولا بدّ أن تورث اليقين بفوائدها وثمراتها الطيبات وخيراتها الحسان المادية والمعنوية، الدنيوية والأخروية، وذلك يولد فى النفس استحسانها، ثم الرغبة الصادقة بالتحلى بها، ومع هذه الرغبة الصادقة تكون النفس طيّعة للتخلق بالخلق الكريم المنشود.
ومعرفة الرذائل والنقائص الأخلاقية معرفة صحيحة لا بدّ أن تبرز ما فيها من نقص وقبح، ولا بدّ أن تورث اليقين بمضارها ونتائجها السيئة، وذلك يولد فى النفس استقباحها والنفور منها، ثم الرغبة الصادقة باجتنابها، ومع هذه الرغبة الصادقة تكون النفس طيّعة للكف عنها، والتخلق بالخلق الكريم المضاد لها.
وللإقناع الفكرى شروط من شأن الأخذ بها تخفيف العقبات النفسية، التى قد تقف دون بلوغ القناعة الحقيقية إلى داخل النفس.
ويمكن تلخيص أهم هذه الشروط بما لخصها به القرآن الكريم من الحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتى هى أحسن.
كما يعلم ذلك من قوله تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (النحل: ١٢٥).
ويندرج فى الحكمة كل الأساليب الفكرية المنطقية الهادئة السليمة، التى من شأنها أن توصل الحقيقة إلى موقع القناعة فى النفس.
وللناس مستويات فكرية وعلمية، وعلى من يريد الإقناع بحقيقة من الحقائق أن يخاطب كل فريق من الناس بما يناسب مستواه الفكرى والنفسى.
ويندرج فى الموعظة الحسنة كل الأساليب التى تؤثر فى النفس الإنسانية، والتى من شأنها أن توجه عوامل الأنفس فى جهة الاقتناع بالحقيقة.
والإقناع الفكرى من أول الطرائق التى سلكها القرآن وسلكها الرسول صلوات الله عليه فى معظم الحقائق التى اشتمل عليها الإسلام، ومنها موضوعات الأخلاق.
 
١ ‏/ ٧٩٤
 
٣ - طريق الترغيب والترهيب:
لا ينكر الأثر الكبير الذى يتم بتحريك محورى الطمع والخوف فى النفس الإنسانية، بالترغيب والترهيب، والتشجيع بالإكرام والمكافأة، والتقويم والزجر بالإهانة والعقوبة عند الضرورة.
إنه طريق مؤثر وفعال جدا، ومولد لحافز ذاتى داخل النفس الإنسانية.
وقد اعتمد الإسلام فى منهجه التربوى اعتمادا كبيرا على طريق الترغيب والترهيب، بعد اعتماده على الهداية للتى هى أقوم، بوسيلة التعليم والإقناع الفكرى ويدل على ذلك قوله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابًا أَلِيمًا (الإسراء: ١٧).
ونصوص الترغيب والترهيب كثيرة جدا فى الكتاب والسنّة.

٤ - طريق تربية الوجدان الأخلاقى:
وتكون هذه التربية بتعريض الوجدان لخبرات ومشاهد يحس فيها حلاوة الفضائل الأخلاقية، ومرارة الرذائل الأخلاقية.
إن الوجدان الأخلاقى ينمو ويتضخم بمختلف الخبرات والمشاهد التى تفجر فيه انفعالات استحسان الفضائل والكمالات الأخلاقية، عند تذوق حلاوتها والشعور بالمسرات التى تحصل بسببها، وتفجر فيه انفعالات استقباح الرذائل والنقائص الأخلاقية عند تذوق مرارتها والشعور بالآلام التى تحصل بسببها.
وعند ما ينمو الوجدان الأخلاقى ويتضخم يغدو قادرا على تحريك العواطف وتوجيه الإرادة، والدفع إلى السلوك الأخلاقى الكريم، إيجابيا كان أو سلبيا، فى داخل النفس والقلب، أو فى مجال السلوك العملى الظاهر.
فمن أمثلة ذلك ما يلى:
أ- إكرام الإنسان بالعطاء وهو راغب فيه أو عرض مشهد من مشاهد العطاء أمامه، حتى يشعر وجدانه بحلاوة العطاء، وبأنه فضيلة من الفضائل الأخلاقية، وحرمان الإنسان من العطاء مع حاجته إليه، أو عرض مشهد من مشاهد الشح أمامه، حتى يشعر بأن الشح رذيلة من الرذائل الأخلاقية.
ب- تعريض الإنسان لحادثة من حوادث الظلم، أو مشهد من مشاهده، حتى يشعر وجدانه بمرارة الظلم، وبأنه رذيلة من الرذائل الخلقية، وتعريضه لرائعة من روائع العدل، أو مشهد رائع من مشاهده، حتى يشعر وجدانه بحلاوة العدل وإكباره، وأنه فضيلة من الفضائل الخلقية.
 
١ ‏/ ٧٩٥
 
ج- تعريض الإنسان لمشهد من مشاهد الشجاعة المحمودة، أو معونته بحادثة من حوادث الشجاعة المحمودة، حتى يشعر وجدانه بإكبار الشجاعة وحلاوتها، وبأنها من الفضائل الأخلاقية، وتعريضه لمشهد من مشاهد الجبن، أو التخلى عن معونته بحادثة من حوادث الجبن، حتى يشعر وجدانه بحقارة الجبن ويتقزز منه، ويحس بأنه نقيصة من النقائص الخلقية.
وقد تقع القصة المحكية موقع المشهد المرئى، فتؤثر مثل أثره.
وهكذا يتربى الوجدان الأخلاقى ويكون باستطاعته أن يحرك ويوجه ويؤثر، ويكون أحد الحوافز الذاتية فى كيان الإنسان الداخلى (١٧).

ثانيا: العناصر التكوينية للجيل الربانى:
جعل الإسلام أكبر همه طوال العهد المكى هو تكوين الجيل الربانى، والرعيل القرآنى الأول، من خلال تعهد دائم، وصحبة مباركة، ومراقبة إيجابية، وكانت (دار الأرقم) فى مكة هى أشهر دار للتربية الأساسية التى خرّجت أول أجيال الإسلام وأفضلها، الذين وصفوا بأنهم (رهبان الليل وفرسان النهار).
وأنهم (يكثرون عند الفزع، ويقلون عند الطمع) (١٨).
وأعظم ما وصفوا به ما جاء فى كتاب الله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانًا سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ (الفتح: ٢٩).
وهذا التكوين يقوم على عناصر، أهمها ثلاثة:

١ - التثقيف العقلى:
العنصر الأول فى التكوين هو: ما يتعلق بتثقيف الفكر، وتنوير العقل، فالإسلام دين ينشئ (العقلية العلمية) ويرفض (العقلية الخرافية) أو (العامية) التى تعتمد على الظن فى موضع اليقين، أو تعتمد على الهوى والعواطف فى مقام لا يغنى فيه إلا الحقائق الموضوعية، وهو ما يرفضه القرآن الكريم، الذى يذم المشركين بقوله: وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (النجم: ٢٨) ويقول فى نفس السورة: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (النجم: ٢٣) وفى سورة أخرى يقول: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (محمد: ١٦).
(١٧) عبد الرحمن حبنكة: مرجع سابق ١/ ١٨٦ وما بعدها باختصار.
(١٨) د. يوسف القرضاوى: الإخوان المسلمون «سبعون عاما فى الدعوة والجهاد والتربية» ص ١٨٧ وما بعدها باختصار .. نشر مكتبة وهبة- القاهرة.
 
١ ‏/ ٧٩٦
 
والعقلية العلمية هى التى ترفض التقليد الأعمى، سواء أكان للأجداد والآباء، كما فى قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ (البقرة: ١٧٠) أم كان للسادة والكبراء كما قال تعالى: وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (الأحزاب: ٦٧، ٦٨).
وقد تكرر هذا المعنى فى جملة سور من القرآن الكريم.
والعقلية العلمية التى ينشئها الإسلام هى التى تؤمن بوجوب النظر والتفكير فى ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شىء، فالكون كله مسرح للفكر والتأمل، وكذلك التاريخ ومصاير الأمم. وكذلك الإنسان بكل آفاقه الروحية والمادية.
يقول تعالى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ (الأعراف: ١٨٥) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ (العنكبوت: ٢٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (الأنعام: ١١) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (الذاريات: ٢٠، ٢١).
ولا تقبل العقلية الإسلامية دعوى بلا بينة، فهى تعتمد البرهان فى العقليات، والتوثيق فى النقليات، والتجربة فى الحسيات.
يقول القرآن لأصحاب العقائد: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (البقرة: ١١١ والنمل: ٦٤) وفى مقام النقل:
ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (الأحقاف: ٤) وفى مقام آخر يقول: نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (الأنعام: ١٤٣).
ومن ثم كان بدء الوحى القرآنى بهذه الآيات: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (العلق: ١ - ٥) والقراءة باب العلم ومفتاحه.

٢ - الإيقاظ الروحى:
والعنصر الثانى هو (الإيقاظ الروحى) الذى يعنى بتجديد الإيمان بالله تعالى، واليقين بالآخرة، وتقوية المعانى الربانية فى القلب، من التوكل على الله، والإنابة إليه، والإخلاص له، والمحبة له ولأوليائه، والأنس بذكره، والرجاء فى رحمته، والخشية من عذابه، والاعتزاز بالانتماء إليه، والثقة بنصره وتأييده، والحياء معه، والشعور برقابته، والشكر لنعمائه، والصبر على بلائه، والرضا
 
١ ‏/ ٧٩٧
 
بقضائه، وحسن الأدب معه، واستشعار تقواه فى كل عمل وكل حال. إلى آخر ما يعنى به رجال التصوف الصادقون.
والوصول إلى هذا ليس بالأمر السهل، بل يحتاج إلى رياضة مستمرة، ومجاهدة طويلة، لهذه النفس الأمارة بالسوء، وتصميم على تزكية النفس بالتخلية والتحلية: التخلية من رذائل الشرك والنفاق والجاهلية، والتحلية بفضائل التوحيد والإيمان والإسلام والإحسان، وهذا هو أساس الفلاح فى الأولى والآخرة وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (الشمس: ٧ - ١٠).
ولا يتم هذا إلا فى مناخ يساعد عليه، يجد فيه المرء المرشد الموجه إلى الله، والبيئة النظيفة المعينة على الخير، كما يجد الأخ الصالح، الرفيق فى الدرب، حامل مسك الهدى، الذى يدل على الله منطقه، ويذكر بالآخرة حاله، ويرغب فى الخير سلوكه.

٣ - الترابط الأخوى:
والعنصر الثالث من عناصر (التكوين) الأساسية هو: الترابط الأخوى. يقول تعالى:
الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (الزخرف: ٦٧).
ويقول ﷺ: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يقذف فى الكفر كما يكره أن يقذف فى النار». متفق عليه عن أنس.
وقوله: «سبعة يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله- وذكر منهم- ورجلان تحابا فى الله- ﷿ اجتمعا عليه، وتفرقا عليه».
متفق عليه عن أبى هريرة.
ويقول ﷺ: «إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالى؟ اليوم أظلهم فى ظلى يوم لا ظل إلا ظلى». رواه مسلم عن أبى هريرة.
فإذا كان الناس تربطهم فى هذه الدنيا روابط شتى، رابطة الدم والنسب، أو رابطة الطين والأرض، أو رابطة اللغة واللسان، أو رابطة المصلحة المشتركة، أو غير ذلك من الروابط المادية والدنيوية الزائلة، أو المعرضة دوما للزوال. فإن رابطة الأخوة الإيمانية هى الأخلد والأبقى، وهى الأعز والأقوى، لأنها رابطة قامت لله وفى الله، وما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله، انقطع وانفصل.
لقد حث الإسلام المسلمين على العمل الجماعى لنصرة الدعوة الإسلامية، وتحرير الأرض الإسلامية، وتوحيد الأمة الإسلامية، وتحقيق آمالها الكبرى فى النهوض والبناء والترقى، وأداء دورها الربانى فى هداية العالم إلى نور الله.
 
١ ‏/ ٧٩٨
 
ولهذا كانت الأوامر والتوجيهات القرآنية والنبوية محرضة على التوحيد والتعاضد والتعاون والتضامن، فإن اليد وحدها لا تصفق، ويد الله مع الجماعة، والشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا.
يؤكد هذا: أن القوى المعادية للإسلام وأمته لا تعمل بصورة فردية، أو بقوى متناثرة أو مبعثرة، بل تعمل فى صورة جماعات وتكتلات منظمة، حددت غاياتها، وعينت طرائقها، واختير رجالها وقادتها، ورصدت لها مصادر التمويل الدائمة والطارئة.
فلا يجوز أن نقابل هذه القوى المتجمعة بأعمال فردية متفرقة، تعجز أن تنصر صديقا أو تقهر عدوا.
وما دامت الجماعة- على حد تعبيرنا- فريضة وضرورة، فريضة يوجبها الدين، وضرورة يحتمها الواقع: فلا بد لهذه الجماعة من رابط قوى يربط بين أفرادها، أشبه بما نسميه (المونة) أو (الإسمنت) الذى يربط (لبنات البناء) بعضها ببعض، حتى يكون كما جاء فى الحديث: «يشد بعضه بعضا»، أو كما قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (الصف: ٤).
وهذا الرباط هو الأخوة الصادقة، التى هى صنو الإيمان ودليله، كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ (الحجرات: ١٠). وكما فى الحديث الصحيح: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه (أى لا يتخلى عنه) ومن كان فى حاجة أخيه كان الله فى حاجته».
ولا تكون الأخوة صادقة إلا إذا تجردت عن أعراض الدنيا، وتمحضت للدين، وخلصت لوجه الله تعالى، وهذا هو الحب فى الله، الذى كثرت فى فضله الأحاديث.
ومن ذلك ما رواه أبو هريرة عن النبى ﷺ قال: «إن من عباد الله عبادا ليسوا بأنبياء، يغبطهم الأنبياء والشهداء! قيل: من هم لعلنا نحبهم؟ قال: هم قوم تحابوا بنور الله، من غير أرحام ولا أنساب (أى لا تجمعهم قرابة ولا نسب) وجوههم نور، على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، ثم قرأ أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (يونس: ٦٢)».
وقال رجل لمعاذ بن جبل: والله إنى لأحبك لله! فقال: الله؟ قال الرجل: قلت: لله، فأخذ بحبوة ردائى، فجذبنى إليه، وقال: أبشر، فإنى سمعت رسول الله ﷺ يقول: «قال الله ﵎: وجبت محبتى للمتحابين فىّ، والمتجالسين فىّ، والمتزاورين فىّ».
 
١ ‏/ ٧٩٩
 
علاقة الإنسان بالشيطان
* العداوة:
الشيطان: هو العدو الأول، اللدود، لبنى الإنسان. وعداوته: قديمة، حديثة.
قديمة جدا: منذ أن قال الله تعالى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (البقرة: ٣٤)
قديمة جدا: منذ أن قال له رب العزة: يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (الحجر: ٣٢ - ٤٤)
قديمة جدا: منذ أن عاقبه رب العزة، على هذا الإباء، والتكبر، وعدم الامتثال، إذ قال له: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (الحجر: ٣٤ - ٣٨)
قديمة جدا: منذ أن هدد وتوعد لبنى الإنسان، حينما قال: قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (الحجر: ٣٩: ٤٤).
وقد كان .. !!
زين الشيطان .. وما يزال. وأغوى الكثير، والكثير من بنى الإنسان وما يزال.
وأصبح للشيطان: أعوان، وإخوان، وأنصار، وأشياع، وأذناب: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (المجادلة: ١٩).
وما يزال الشيطان يغوى، ويزين، وينفذ وعيده القديم، وتهديده الدائم.
وما يزال حزبه الذى استحوذ عليه، يزداد كفرا وعصيانا ونسيانا وتناسيا لذكر الله تعالى.
ولنشاط الشيطان وأعوانه، القديم والحديث؛ نبه المولى- ﷾ وينبه دائما على هذه العداوة القديمة والحديثة، إذ يقول: إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِينًا (الإسراء: ٥٣).
ولنشاط الشيطان وأعوانه، القديم والحديث؛ نبه المولى- ﷾ وينبه دائما، أحبابه، وأولياءه الذين هم حزب الله، على هذه العداوة القديمة الحديثة:
 
١ ‏/ ٨٠٠
 
إذ يقول لهم: وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (الزخرف: ٦٢).
ولخطورة الشيطان على أولياء الله- تعالى- وحزبه؛ أمر المولى- ﷿: بالحيطة الشديدة منه، والتنبه الدائم له، واتخاذه عدوا، واليقظة الكاملة لمكر هذا العدو ودهائه، والاستعداد لمواجهة هذا العدو والانتصار عليه. إذ يقول لهم: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (فاطر: ٦)
ولخطورة حزب الشيطان- كذلك- على أولياء الله تعالى وحزبه؛ أمر المولى- ﷿ بقتالهم، بشتى أسلحة القتال. إذ يقول:
الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفًا (النساء: ٧٦)
ومع ذلك فالشيطان لا ينى، ولا يتخاذل، ولا يهدأ. فعن جابر: أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: «يبعث الشيطان سراياه، فيفتنون الناس؛ فأعظمهم عنده منزلة، أعظمهم فتنة». (مسلم: ك صفات المؤمنين، باب تحريش الشيطان)
وأعوانه كذلك لا يتخاذلون، ولا يهدءون.
وفوق ذلك: فهو: «يجرى من ابن آدم مجرى الدم». (١٩) فتنة، وغواية، وإضلالا.
ولوعورة هذه الحرب، بين الطائفتين- الشيطان وحزبه من جانب- وأولياء الله من الجانب الآخر: فقد علّمنا- ﷾ الاستعانة به، واللجوء إليه، فى هذه الحرب الدائمة، القديمة، الحديثة، حينما قال:
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (فصلت: ٣٦).
وحينما قال: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (المؤمنون: ٩٧، ٩٨).
وفوق هذا فقد تكفل بالوقوف فى صف أوليائه ونصرتهم فى هذه الحرب الدائمة، القديمة، الحديثة، حينما قال للشيطان: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (الحجر: ٤٢)
ولكل هذا: يجب على أولياء الله- ﷾ وأتباع محمد ﷺ، اليقظة الكاملة، والاستعداد الدءوب لهذا العدو، الذى حذر منه، وأمر بمعاداته.
وعلى ورثة الأنبياء- وهم أولى الناس بهذه اليقظة وأحق الناس لهذا الاستعداد، وأعلمهم وأقواهم على هذا العداء والانتصار فيه، تبصير الناس بسهام هذا العدو، وتحذيرهم- دائما- منها.
(١٩) أخرجه البخارى: كتاب «بدء الخلق»، باب «صفة إبليس».
 
١ ‏/ ٨٠١
 
* الوسوسة:
بيد أنه: لا يعدو الشيطان فى حياة الإنسان سوى أن يكون مخلوقا باستطاعته أن يوسوس فى صدر الإنسان بالشر، ويزين له ارتكاب الخطيئة فقط، ثم إن الإنسان هو
الذى يرتكب الخطيئة بإرادته، ويعتبر مسئولا عنها مسئولية تامة.
ففي المفاهيم الإسلامية عدة حقائق عن الشيطان تبين موقعه فى حياة الإنسان، وأثره على إرادته، والحكمة الربانية من وجوده:
الحقيقة الأولى: تتلخص فى أن الشيطان ليس له سلطان على إرادة الإنسان، إلا من سلّم قيادة نفسه له وتبعه مختارا لنفسه طريق الغواية.
ونجد الدليل على هذه الحقيقة فى عدة نصوص قرآنية:
منها: قول الله تعالى يخاطب إبليس رأس الشياطين: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (الحجر:
٤٢).
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (الإسراء: ٦٥).
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (النحل: ٩٨ - ١٠٠).
فمن الظاهر فى هذه النصوص أن الله ﵎ لم يجعل للشيطان سلطانا على الإنسان، وأن سلطانه لا يكون إلا على الذين يتولونه، ويجعلونه قائدا لهم، ويتبعونه مختارين لأنفسهم طريق الغواية.
ومن أجل ذلك فإن الشيطان سيعلن هذه الحقيقة يوم القيامة للذين استجابوا لوساوسه فى الدنيا، يدل على ذلك قول الله تعالى: وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (إبراهيم: ٢٢).
ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي: أى ما أنا بقادر على إغاثتكم وما أنتم بقادرين على إغاثتى، حينما يصرخ كل منا طالبا من صاحبه أن يغيثه فيرفع عنه عذاب الله.
الحقيقة الثانية: تتلخص فى أن وظيفة الشيطان فى حياة الإنسان إنما هى الوسوسة فى صدره وليس له قدرة على أكثر من ذلك،
 
١ ‏/ ٨٠٢
 
ويشعر الإنسان بهذه الوسوسة فى صورة خواطر تزين له الإثم والمعصية، وتزين له الانحراف عن سواء السبيل، وقد تصوغ له ذلك بحجج مغرية. قال الله تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلهِ النَّاسِ (٣) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (٤) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (٦) (الناس).
وقال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (محمد: ٢٥). أى:
غرهم بالأمانى والآمال فى وساوسه وتسويفاته، وهذا ما فعله مع آدم وحواء، إذ كانا فى الجنة فوسوس لهما فأخرجهما من الجنة.
فكيد الشيطان فى الإضلال كيد ضعيف، وبذلك وصفه الله بقوله إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفًا (النساء: ٧٦).
الحقيقة الثالثة: تتلخص فى أن الله- ﵎ جعل الشيطان فى حياة الإنسان لإقامة التوازن بين دوافع الخير ودوافع الشر والمحرضات عليهما، وليطرح الإنسان عليه قسما من مسئولية الخطيئة التى يقع بها، فيجد لنفسه عذرا بأن فعل الشر ليس من فطرته، وإنما كان بتأثير وساوس قرينه الشيطان الملازم له.
وبهذا لا تظل صورة الخطيئة القبيحة ماثلة فى نفس الإنسان، إذ يشعر بأن القبح فى العمل ليس من شأنه.
وهذا الشعور الذى يشعر به المخطئ، قد يساعده على تقويم نفسه، مستعيذا بالله من الشيطان، ساعيا فى التخلص مما علق به من أدناس المعاصى، كما يساعده على نسيان خطيئته إذا هو استغفر الله وتاب إليه؛ إذ من وسائل الإصلاح التربوى فتح باب العذر لمن نربيه إذا ارتكب الخطيئة، ولو عاقبناه عليها نظرا إلى مسئوليته، ذلك لنبقى له مجالا يحتفظ فيه بصورة الكمال التى يجب أن يتصورها الناس فيه، ولنبقى له مجالا للارتقاء فى مراتب الكمال الإنسانى.

العلاج الدينى للتخلص من وساوس الشيطان:
وللتخلص من وساوس الشيطان وتسويفاته علاج دينى أرشدنا القرآن إليه، وهو الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (الأعراف: ٢٠٠: ٢٠١).
 
١ ‏/ ٨٠٣
 
فمتى استعاذ الإنسان بالله من الشيطان ونزغته، قويت بالله إرادته، وخنس الشيطان وخاب وخسئ، وحينما يقع الإنسان فى الخطيئة ثم يستغفر الله فيغفر له، فإن الشيطان يصاب بالخزى والخيبة، وضياع الجهد فى الإغواء (٢٠).

نهاية الإنسان
* تمهيد:
نهاية الإنسان فى الدنيا: هى الموت.
والموت: موضوع كريه، مزعج، لا يشجع على التفكير، أو الحديث فيه.
وقد وصف القرآن حدوثه «بالمصيبة»، فى قوله تعالى: فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ (المائدة: ١٠٦).
وهو كريه مزعج، لأن الإنسان بطبيعته يخشى الموت، ويحب الحياة.
وفى الحديث الشريف: «قلب الشيخ شاب على حب اثنتين: طول الحياة، وحب المال» (٢١).
وفى أحاديث الفتن: «.. ينزع الله المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل فى قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت» (٢٢).
ولذلك ينفر الإنسان من سماع هذا الاسم، وينفر كذلك من دراسة هذا الموضوع.
ودليل بسيط على ذلك: أنك تجد من الناس من يشكو مرّ الشكوى مما فى هذه الحياة الدنيا من: ألم، ومعاناة، وبؤس، وشقاء .. إلخ، لكنه رغم ذلك كله يتشبث بها بقوة، حتى إنه يستعيذ بالله إذا طرقت أذنه كلمة الموت، بل إن المحتضر نفسه وهو على فراش الموت يكره أن يسمع كلمة الموت.
وهذا الكلام لا يصدق على الإنسان العادى فحسب، بل إنه يصدق- كذلك- على المفكرين والفلاسفة (٢٣).

* مواقف الناس من هذه النهاية:
اعلم أن المنهمك فى الدنيا المكب على غرورها المحب لشهواتها يغفل قلبه- لا محالة- عن ذكر الموت فلا يذكره. وإذ ذكّر به كرهه ونفر منه، أولئك هم الذين قال الله فيهم: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (الجمعة: ٨).
ثم الناس: إما منهمك، وإما تائب مبتدئ، أو عارف منته.
أما المنهمك: فلا يذكر الموت، وإن ذكره فيذكره للتأسف على دنياه ويشتغل بمذمته، وهذا يزيده ذكر الموت من الله بعدا.
وأما التائب: فإنه يكثر من ذكر الموت لينبعث به من قلبه الخوف والخشية فيفى
(٢٠) د. عبد الحى الفرماوى: المسلمون بين الأزمة والنهضة ص ٣٦ وما بعدها، نشر دار التوزيع والنشر الإسلامية.
(٢١) عبد الرحمن حبنكة: مرجع سابق ١/ ١٧٣ وما بعدها.
(٢٢) أخرجه مسلم: كتاب الزكاة، باب كراهية الحرص على الدنيا.
(٢٣) د. عبد الحى الفرماوى: الموت فى الفكر الإسلامى ص ١٩، نشر: دار الاعتصام- القاهرة.
 
١ ‏/ ٨٠٤
 
بتمام التوبة، وربما يكره الموت خيفة من أن يختطفه قبل تمام التوبة وقبل إصلاح الزاد، وهو معذور فى كراهة الموت، ولا يدخل هذا تحت قوله ﷺ: «من كره لقاء الله كره الله لقاءه» (٢٤). فإن هذا ليس يكره الموت ولقاء الله، وإنما يخاف فوت لقاء الله لقصوره وتقصيره، وهو كالذى يتأخر عن لقاء الحبيب مشتغلا بالاستعداد للقائه على وجه يرضاه، فلا يعد كارها للقائه، وعلامة هذا أن يكون دائم الاستعداد له، لا شغل له سواه وإلا التحق بالمنهمك فى الدنيا.
وأما العارف: فإنه يذكر الموت دائما لأنه موعد لقائه لحبيبه، والمحب لا ينسى قط موعد لقاء الحبيب، وهذا فى غالب الأمر يستبطئ مجىء الموت، ويحب مجيئه ليتخلص من دار العاصين وينتقل إلى جوار رب العالمين.
كما روى عن حذيفة: أنه لما حضرته الوفاة قال: حبيب جاء على فاقة لا أفلح من ندم؛ اللهم إن كنت تعلم أن الفقر أحب إلىّ من الغنى والسقم أحب إلىّ من الصحة، والموت أحب إلىّ من العيش فسهل علىّ الموت حتى ألقاك.
فإذن: التائب معذور فى كراهة الموت.
وهذا معذور فى حب الموت وتمنيه.
وأعلى منهما رتبة: من فوّض أمره إلى الله تعالى فصار لا يختار لنفسه موتا ولا حياة، بل يكون أحب الأشياء إليه أحبها إلى مولاه، فهذا قد انتهى بفرط الحب والولاء إلى مقام التسليم والرضا وهو الغاية والمنتهى (٢٥).

* حقيقة النهاية:
وقد ظن الملاحدة: أن الموت انتهاء مسار رحلة الإنسان، والخاتمة الأبدية له، حيث لا رحلة بعده، ولا حياة ولا بعثا ولا نشورا وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (الأنعام: ٢٩).
وأما الحقيقة التى غابت عنهم وغابوا عنها، والتى عرفها المسلمون من كتاب ربهم وسنة نبيهم ﷺ لهذه النهاية:
أنها انتقال من عالم من عوالم الله- ﷾ إلى عالم آخر من عوالمه- ﷿.
انتقال من دار الدنيا إلى دار البرزخ، تمهيدا للوصول إلى الدار الآخرة.
انتقال من دار الزرع إلى دار الحصاد، من دار الفناء إلى دار البقاء.
انتقال من دار التكليف والعمل الدنيوى، إلى دار الثواب والعقاب الأخروى (٢٦).
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (الزلزلة: ٧، ٨).
(٢٤) أخرجه البخارى: كتاب الرقاق باب ٤١، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء، والترمذى: كتاب الزهد باب ٤٠ وابن ماجة: كتاب الزهد، باب ذكر الموت.
(٢٥) الإمام الغزالى: الموت وأحوال القيامة ص ٢٢، ٢٣ (تحقيق د. عبد الحى الفرماوى نشر: دار الاعتصام- القاهرة).
(٢٦) د. عبد الحى الفرماوى: زاد الدعاة ٢/ ٢٨٥.
 
١ ‏/ ٨٠٥
 
يقول ابن القيم: جعل الله الدور ثلاثا: دار الدنيا، دار البرزخ، دار القرار. وجعل لكلّ أحكاما تختص بها (٢٧).
ومن هنا: فنهاية الإنسان الحقيقية ليست العدم المحض، بل انتقال من دار الدنيا إلى دار البرزخ، كما أخبر الحق، فى قوله تعالى:
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحًا فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (المؤمنون: ٩٩ - ١٠٠).
يقول ابن جرير الطبرى: أى مهلة يمكثون بها، حتى ينتقلون إلى الدار الآخرة (٢٨).
وهذه المهلة التى يمكث بها الإنسان- بعد نهاية رحلته فى الحياة الدنيا، حتى يوم البعث- هى الحياة البرزخية.
ومن بعدها: يكون البعث والانتقال إلى الحياة الأبدية.
والناس فيها: إما شقى، أو سعيد فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (هود ١٠٧، ١٠٨).
أ. د. عبد الحى الفرماوى
(٢٧) ابن القيم: الروح ص ٨٨.
(٢٨) محمد بن جرير الطبرى: جامع البيان عن تأويل آى القرآن (سورة المؤمنون، تفسير الآية ١٠٠).
 
١ ‏/ ٨٠٦
 

عن الكاتب

Tanya Ustadz

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية