الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

المبحث الثامن ـ صلاة الجنازة، وأحكام الجنائز والشهداء والقبور


المبحث الثامن ـ صلاة الجنازة، وأحكام الجنائز والشهداء والقبور

اسم الكتاب الفِقْهُ الإسلاميُّ وأدلَّتُهُ الشَّامل للأدلّة الشَّرعيَّة والآراء المذهبيَّة وأهمّ النَّظريَّات الفقهيَّة وتحقيق الأحاديث النَّبويَّة وتخريجها
اسم المؤلف: د. وَهْبَة بن مصطفى الزُّحَيْلِيّ
المهنة:أستاذ ورئيس قسم الفقه الإسلاميّ وأصوله بجامعة دمشق - كلّيَّة الشَّريعة
الوفاة 8 أغسطس 2015 الموافق 23 شوال 1436 هـ
التصنيف: الفقه المقارن

المحتويات

  1. المبحث الثامن ـ صلاة الجنازة، وأحكام الجنائز والشهداء والقبور
  2. المطلب الأول ـ مايطلب من المسلم قبل الموت، وما يستحب حالة الاحتضار وبعد الموت من التجهيز
  3. الاستعداد للموت
  4. عيادة المريض
  5. الرقية
  6. مجاملة المريض
  7. الشكوى والصبر وحسن الظن بالله تعالى
  8. كراهة تمني الموت
  9. التداوي
  10. عيادة الذمي
  11. توبة اليأس وإيمان اليأس
  12. موت الفجأة وهيئة البعث
  13. ما يستحب حال الاحتضار
  14. أ - إضجاعه على جنبه الأيمن إلى القبلة
  15. ب - تلقينه الشهادة مرة
  16. جـ ـ قراءة القرآن عند المحتضر
  17.  د -: إغماض عينيه، وشد لحييه
  18. هـ ـ النعي
  19. وـ الإسراع بالتجهيز
  20. المطلب الثاني ـ حقوق الميت
  21. الفرض الأول ـ تغسيل الميت
  22. أولا ـ حكم الغسل
  23. ثانيا ـ صفة الغاسل
  24. من هو الأولى بالغسل؟
  25. شروط الغاسل
  26. ما يستحب في الغاسل
  27. ثالثا ـ حالة المغسول
  28. رابعا ـ شروط إيجاب الغسل
  29. خامسا ـ هل يوضأ الميت؟
  30. سادسا ـ كيفية الغسل ومقداره ومندوباته
  31. هل يسرح شعر الميت ويؤخذ ظفره وشعره
  32. استعمال القطن
  33. خلاصة مندوبات الغسل
  34. الفرض الثاني ـ تكفين الميت
  35. أولا ـ حكم التكفين والملزم بالكفن
  36. ثانيا ـ صفة الكفن ومقداره وكيفيته
  37. قال الحنفية
  38. قال المالكية
  39. قال الشافعية
  40. قال الحنابلة
  41. ثالثا - ما يندب في الأكفان
  42. الفرض الثالث ـ الصلاة على الميت
  43. أولا ـ حكم الصلاة على الميت
  44. ثانيا ـ من الأولى بالصلاة على الجنازة؟
  45. ثالثا ـ حالة اجتماع الجنائز
  46. رابعا ـ أركان صلاة الجنازة وسننها وكيفيتها
  47. كيفيتها
  48. مندوباتها
  49. سننها
  50. كيفية الصلاة
  51. خامسا ـ مكان وقوف الإمام من الجنازة
  52. سادسا ـ حالة المسبوق في صلاة الجنازة
  53. سابعا ـ شروط الصلاة على الميت
  54. ثامنا ـ وقت الصلاة على الجنازة
  55. تاسعا ـ الصلاة على الميت بعد الدفن
  56. الصلاة على الميت بعد الدفن
  57. قال الحنفية
  58. قال المالكية
  59. قال الشافعية
  60. قال الحنابلة
  61. عاشرا ـ الصلاة على الغائب
  62. الحادي عشر ـ الصلاة على المولود
  63. الثاني عشر ـ مكان الصلاة
  64. الصلاة في المقبرة على الجنازة
  65. الصلاة على الجنازة في المسجد
  66. الفرض الرابع ـ دفن الميت
  67. أولا ـ حمل الميت لغير بلد موته
  68. ثانيا ـ حمل الجنازة وكيفيته
  69. ثالثا ـ سنن تشييع الجنازة
  70. ١ - الإسراع بالجنازة
  71. ٢ - اتباع الجنازة
  72. ٣ - الخشوع والتفكر بالموت
  73. ٤ - ستر نعش المرأة
  74. ٥ - المشي أمام الجنازة
  75. ٦ - القيام للجنازة
  76. ٧ - عدم جلوس المشيعين حتى توضع الجنازة
  77. رابعا ـ مكروهات الجنازة
  78. خامسا ـ حكم الدفن وتعجيله
  79. الدفن في البيوت
  80. الدفن في البقاع الشريفة
  81. جمع الأقارب في موضع واحد
  82. سادسا ـ صفة القبور واحترامها
  83. احترام القبور
  84. ١ - يكره الجلوس على القبر، والمشي عليه، والنوم وقضاء الحاجة من بول أوغائط،
  85.  ٢ - يحرم نبش القبر
  86.  ٣ - نقل الميت بعد الدفن
  87.  قال الشافعية: لا بأس بتطييب القبر،
  88.  ٥ - جمع أكثر من ميت في قبر واحد
  89. سابعا ـ أحكام الدفن
  90. ١ - كيفيته
  91. ٢ - مكان الدفن والدفن في البحر
  92. ٣ - زمان الدفن
  93. ٤ - ما يقال عند الدفن
  94. ٥ - التلقين بعد الدفن
  95. ٦ - ستر القبر
  96. ٧ - الدفن في تابوت أو صندوق
  97. ثامنا ـ زيارة القبور
  98. حكم زيارة القبور
  99. أـ رأي الحنفية
  100. ب ـ رأي الجمهور
  101. المطلب الثالث ـ التعزية وتوابعها
  102. أولا ـ تعريفها وحكمها
  103. ثانيا ـ البكاء والرثاء والنياحة واللطم والشق
  104. ثالثا ـ ما ينبغي للمصاب والثواب على المصيبة
  105. رابعا ـ ضيافة أهل الميت وصنع الطعام لهم
  106. خامسا ـ القراءة على الميت وإهداء الثواب له
  107. المطلب الرابع ـ الشهادة في سبيل الله
  108. فضل الشهادة في سبيل الله
  109. تعريف الشهيد
  110. أحكام الشهداء
  111. قال الحنفية
  112. قال الجمهور
  113. شهداء غير المعركة
  114. ١ - شهيد في حكم الدنيا والآخرة
  115. ٢ - وشهيد في حكم الدنيا فقط
  116. ٣ - شهيد في حكم الآخرة فقط
  117. المعصية والشهادة 
  118. العودة الي الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي 

المبحث الثامن - صلاة الجنازة، وأحكام الجنائز والشهداء والقبور
وفيه أربعةمطالب، علمًا بأن المراد بالجنازة - بفتح الجيم أو كسرها - الميت في النعش:
المطلب الأول - ما يطلب من المسلم قبل الموت، وما يستحب حالة الاحتضار وبعد الموت من التجهيز.
المطلب الثاني - حقوق الميت (الغسل، والتكفين، والصلاة عليه، وحمل الجنازة والدفن).
المطلب الثالث - التعزية والبكاء على الميت.
المطلب الرابع - الشهادة في سبيل الله.
وفي كل مطلب فروع كثيرة، أبحث كل مطلب منها على حدة.

المطلب الأول - مايطلب من المسلم قبل الموت، وما يستحب حالة الاحتضار وبعد الموت من التجهيز:
 
الاستعداد للموت: 
الموت جسر بين حياتين: حياة الدنيا الفانية، وحياة الآخرة الخالدة، والدنيا مزرعة للآخرة، فمن عمل صالحًا في دنياه، نجا من سوء الحساب والعذاب في الآخرة، وكان من الخالدين في جنان الله، ومن عمل سوءًا كان من المعذبين في نار جهنم إلا أن يعفو الله عنه.
 
والموت انتقال من عالم لآخر، وليس فناء، وإنما هو مفارقة الروح للبدن، والروح عند جمهور المتكلمين: جسم لطيف مشتبك بالبدن اشتباك الماء بالعود الأخضر، وهو باق لايفنى عند أهل السنة. وقوله تعالى: ﴿الله يتوفى الأنفس حين موتها﴾ [الزمر:٣٩/ ٤٢] تقديره عند موت أجسادها.
والمستحب لكل إنسان ذكر الموت والاستعداد له (١)، لقوله ﷺ: «أكثروا من ذكر هاذم اللذات» (٢) يعني الموت، والهاذم: القاطع. زاد البيهقي والنسائي: «فإنه ما ذكر في كثير إلا قلله، ولا قليل إلا كثره» أي كثير من الدنيا، وقليل من العمل. ولحديث ابن مسعود: «أن رسول الله ﷺ قال لأصحابه: استحيوا من الله حق الحياء، قالوا: نستحيي يانبي الله، والحمد لله، قال: ليس كذلك، ولكن من استحيا من الله حق الحياء، فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، ومن فعل ذلك، فقد استحيا من الله حق الحياء» (٣).
والاستعداد للموت: بالخروج من المظالم، والتوبة من المعاصي، والإقبال على الطاعات، لقوله تعالى: ﴿فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملًا صالحًا، ولايشرك بعبادة ربه أحدًا﴾ [الكهف:١٨/ ١١٠] ولما روى البراء بن عازب أن النبي ﷺ أبصر جماعة يحفرون قبرًا، فبكى حتى بلَّ الثرى بدموعه، وقال: «إخواني لمثل هذا فأعدوا» (٤) أي تأهبوا واتخذوا له عُدة، وهي ما يعد للحوادث.
(١) المهذب:١٢٦/ ١، مغني المحتاج:٣٢٩/ ١، كشاف القناع:٨٧/ ٢، المغني:٤٤٨/ ٢.
(٢) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو نعيم في الحلية عن ابن عمر بلفظ «أكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت» ورواه الحاكم والبيهقي عن أبي هريرة، ورواه آخرون عن أنس، وهو صحيح.
(٣) رواه الترمذي بإسناد حسن.
(٤) رواه ابن ماجه بإسناد حسن.
 
ويسن للمريض عند الاحتضار أن يحسن الظن بالله تعالى، متناسيًا آثامه وسيئاته، معتقدًا أنه مقبل على رب كريم غفار للذنوب كلها، ما دام مؤمنًا، للحديث القدسي الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم: «أنا عند ظن عبدي بي».

عيادة المريض: 
تسن عيادة المريض (١)، قال البراء: «أمرنا رسول الله ﷺ باتباع الجنائز وعيادة المريض» (٢)، وعن أبي هريرة مرفوعًا: «حق المسلم على المسلم ست، إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمِّته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتْبعه» (٣)، وعن علي ﵁: «أن النبي ﷺ قال: ما من مسلم يعود مسلمًا غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة» (٤).

الرقية: 
إذا دخل الرجل على مريض دعا له بالصلاح والعافية ورقاه، قال ثابت لأنس: يا أبا حمزة اشتكيت، قال أنس: أفلا أرقيك برقية رسول الله ﷺ؟ قال: بلى، قال: «اللهم رب الناس، مذهب الباس، اشف أنت الشافي، شفاء لا يغادر سقمًا»، وروى أبو سعيد قال: «بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس، وعين حاسدة، الله يشفيك» (٥).
(١) مغني المحتاج:٢٥٧/ ١، المهذب:١٢٦/ ١، المجموع:٩٤/ ٥ - ١٠٣، المغني:٤٤٩/ ٢، كشاف القناع:٨٥/ ٢ - ٩١.
(٢) رواه البخاري ومسلم.
(٣) رواه البخاري ومسلم وأبو داود.
(٤) قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
(٥) قال أبو زرعة: كلا هذين الحديثين صحيح
 
والمستحب أن يقول: (أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك) سبع مرات، لما روي أن النبي ﷺ قال: «من عاد مريضًا لم يحضره أجله، فقال عنده سبع مرات: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، عافاه الله تعالى من ذلك المرض» (١).
ويستحب أن يقرأ عنده فاتحة الكتاب، لقوله ﷺ في الحديث الصحيح: «وما يدريك أنها رقية؟»، وأن يقرأ عنده سورة الإخلاص والمعوذتين. فقد ثبت ذلك عنه ﷺ، وروى أبو داود: «أنه ﷺ قال: إذا جاء رجل يعود مريضًا، فليقل: اللهم اشف عبد ك ينكأ بك عدوًا، أو يمشي لك إلى صلاة»، وصح أن جبريل عاد النبي ﷺ فقال: «بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس، أو عين حاسد، الله يشفيك، باسمه أرقيك» وأنه ﷺ كان إذا دخل على من يعوده، قال: «لا بأس، طهور إن شاء الله».

مجاملة المريض: 
ويسأل العائد المريض عن حاله، وينفِّس له في الأجل بما يطيب نفسه، إدخالًا للسرور عليه، ولقولهصلّى الله عليه وسلم: «إذا دخلتم على المريض فنفِّسوا له في الأجل، فإنه لا يرد من قضاء الله شيئًا، وإنه يطيب نفس المريض» (٢) ويرغِّبه في التوبة والوصية، لحديث «ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يوصي فيه، إلا ووصيته مكتوبة عنده» (٣).
ولا يطيل العائد الجلوس عند المريض خوفًا من الضجر، وتكره العيادة وسط النهار، ويعاد بكرة أوعشيًا، ويعاد في رمضان ليلًا، لأنه ربما رأى من المريض مايضعفه.
(١) حديث صحيح رواه أبو داود والحاكم والترمذي والنسائي عن ابن عباس، قال الترمذي: هو حديث حسن، وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري.
(٢) رواه ابن ماجه، وهو ضعيف.
(٣) متفق عليه من حديث ابن عمر.
 
الشكوى والصبر وحسن الظن بالله تعالى: 
ويخبر المريض عن حاله من الوجع، ولو لغير طبيب بلا شكوى، بعد أن يحمد الله، لحديث ابن مسعود مرفوعًا: «إذا كان الشكر قبل الشكوى فليس بشاكٍ»
ويستحب أن يصبَّر المريض وكل مبتلى، للأمر به في قوله تعالى: ﴿واصبر وما صبرك إلا بالله﴾ [النحل:١٦/ ١٢٧] وقوله: ﴿إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب﴾ [الزمر:٣٩/ ١٠] وقوله ﷺ: «والصبر ضياء» (١)، وروي أن امرأة جاءت إلى رسول الله ﷺ فقالت: «يارسول الله، ادع الله أن يشفيني، فقال: إن شئت دعوت الله فشفاك، وإن شئت فاصبري ولا حساب عليك، فقالت: أصبر ولا حساب علي» (٢).
والصبر الجميل: صبر بلا شكوى إلى المخلوق، والشكوى إلى الخالق لا تنافي الصبر، بل هي مطلوبة، ومن الشكوى إلى الله قول أيوب: «رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين» وقول يعقوب: «إنما أشكو بثي وحزني إلى الله».
وينبغي كما تقدم أن يكون المريض حسن الظن بالله تعالى، لما روى جابر ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى» (٣) ومعناه: أن يظن أن الله تعالى يرحمه، ويرجو ذلك كرمًا ورحمة ومسامحة؛ لأنه أكرم الأكرمين يعفو عن السيئات، ويقيل العثرات، فيقدم الرجاء على الخوف، كما في الحديث الصحيح: «أنا عند حسن ظن عبدي بي» (٤).
(١) رواه مسلم عن أبي مالك الأشعري.
(٢) رواه البغوي بلفظه عن أبي هريرة، ورواه بلفظ آخر البخاري ومسلم عن ابن عباس.
(٣) رواه مسلم.
(٤) متفق عليه في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعًا، زاد أحمد: «إن ظن بي خيرًا فله، وإن ظن شرًا فله».
 
كراهة تمني الموت: 
يكره تمني الموت لضر نزل بالمرء في بدنه أو ضيق في دنياه أو نحو ذلك، جاء في الصحيحين: «لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه، فإن كان لا بد فاعلًا، فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيرًا لي.
» ولا يكره تمني الموت لضرر بدينه أو خوف فتنة، لقوله ﷺ: «وإذا أردت بعبادك فتنة، فاقبضني إليك غير مفتون».
وتمني الشهادة في سبيل الله ليس من تمني الموت المنهي عنه:

التداوي: 
قال الشافعية: ويسن للمريض التداوي، لخبر: «إن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء، غير المحرَّم» (١)، وخبر ابن مسعود: «ما أنزل الله داء إلا وأنزل له دواء، جهله من جهله، وعلمه من علمه، فعليكم بألبان البقر، فإنها تُرِمُّ من كل الشجر» (٢) أي تأكل. وخبر أبي الدرداء: «إن الله تعالى أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تداووا بالحرام» (٣) ويكره إكراه المريض على التداوي وعلى الطعام، لما في ذلك من التشويش عليه.
قال النووي في المجموع (٤): إن ترك التداوي توكلًا، فهو فضيلة.
وكذلك قال الحنابلة (٥): ترك الدواء أفضل؛ لأنه أقرب إلى التوكل. ولا يجب التداوي ولو ظن نفعه، لكن يجوز اتفاقًا، ولا ينافي التوكل، لخبر
(١) قال الترمذي: حسن صحيح.
(٢) رواه ابن حبان والحاكم عن ابن مسعود.
(٣) رواه أبو داود في سننه بإسناد فيه ضعف، ولم يضعفه هو، وما لم يضعفه فهو عنده صحيح أو حسن. وروى البخاري عن أبي هريرة «إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء».
(٤) المجموع:٩٥/ ٥.
(٥) كشاف القناع:٨٥/ ٢.
 
أبي الدرداء السابق. ويحرم التداوي بسُمْ لقوله تعالى: ﴿ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة﴾ [البقرة:١٩٥/ ٢].

عيادة الذمي: 
قال الحنابلة (١): تحرم عيادة الذمي كبداءته بالسلام.
وقال الشافعية (٢): لا تستحب عيادة الذمي، لكن تجوز إن كان هناك جوار أو قرابة أو نحوهما كرجاء إسلامه، وفاء بصلة الرحم وحق الجوار. جاء في صحيح البخاري عن أنس قال: «كان غلام يهودي يخدم النبي ﷺ فمرض، فأتاه النبي ﷺ يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: أسلم، فنظر إلى أبيه، وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم، فأسلم، فخرج النبي ﷺ وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار».

توبة اليأس وإيمان اليأس (٣): 
اتفق العلماء على أن إيمان اليأس لا يقبل، لقوله تعالى: ﴿فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا﴾ [غافر:٤٠/ ٨٥] واليأس: معاينة أسباب الموت بحيث يعلم قطعًا أن الموت يدركه لا محالة.
وقال الأشاعرة: إن توبة اليأس لا تقبل كإيمان اليأس، لعدم الاختيار، وعدم توافر ركن التوبة: وهو العزم بطريق التصميم على ألا يعود في المستقبل إلى ما ارتكب من المعاصي.
والمختار عند الحنفية: أن توبة اليأس مقبولة، لا إيمان اليأس؛ لأن الكافر غير عارف بالله تعالى، ويبدأ إيمانًا وعرفانًا جديدًا، والفاسق عارف، وحاله حال البقاء، والبقاء أسهل من الابتداء، ولقوله ﷺ: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم
(١) كشاف القناع:٨٨/ ٢.
(٢) المجموع:٩٩/ ١، مغني المحتاج:٣٢٩/ ١ - ٣٣٠.
(٣) رد المحتار والدر المختار:٧٩٦/ ١ ....
 
يغرغر» (١) والغرغرة تكون قرب كون الروح في الحلقوم، وحينئذ فلا يمكن النطق.

موت الفجأة وهيئة البعث: 
صح أن الميت يبعث بالحالة التي يموت فيها من الأعمال، لقوله ﷺ: «يبعث كل عبد على مامات عليه» (٢). وصح أن موت الفجأة أخذة أسف، وروي أنه ﷺ استعاذ من موت الفجأة. والتوفيق بين الأمرين: أن يحمل الأول على من له تعلقات يحتاج بسببها إلى الإيصاء والتوبة، أما المتيقظون فإنه تخفيف ورفق بهم، روي عن ابن مسعود وعائشة: أن موت الفجأة راحة للمؤمن، وأخذة غضب للكافر (٣).

ما يستحب حال الاحتضار: 
 يستحب للمحتضر وهو من حضره الموت ولم يمت ما يأتي (٤)، علمًا بأن علامة الاحتضار: استرخاء قدميه، واعوجاج منخره، وانخساف صد غيه، والاحتضار: هو ظهور دلائل الموت على المريض.

أ - إضجاعه على جنبه الأيمن إلى القبلة، 
اتباعًا للسنة، لقوله ﷺ عن البيت الحرام: «قبلتكم أحياء وأمواتًا» (٥)، ولقول حذيفة: «وجهوني» وقول فاطمة الزهراء لأم رافع: «استقبلي بي القبلة» (٦).
(١) أخرجه أبو داود وأحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم والبيهقي عن ابن عمر، وهو حديث حسن.
(٢) رواه مسلم وابن ماجه عن جابر.
(٣) مغني المحتاج:٣٦٨/ ١.
(٤) الدر المختار ورد المحتار:٧٩٥ - ٨٠٠، فتح القدير:٤٤٦/ ١ ومابعدها، مراقي الفلاح: ص٩٤ومابعدها، اللباب:١٢٧/ ١ ومابعدها، بداية المجتهد:٢١٨/ ١، القوانين الفقهية: ص٩١، الشرح الصغير:٥٦١/ ١ - ٥٦٣، الشرح الكبير:٤٢٣/ ١، مغني المحتاج:٣٣٠/ ١ - ٣٣٢، المهذب:١٢٦/ ١ ومابعدها، المغني:٤٤٩/ ٢ - ٤٥٣، كشاف القناع:٩٢/ ٢ - ٩٦.
(٥) رواه أبو داود، وقال ﵇: «خير المجالس ما استقبل به القبلة».
(٦) أخرجه أحمد (نصب الراية:٢٥٠/ ٢).
 
فإن تعذر ذلك لضيق المكان ونحوه يوضع مستلقيًا على قفاه ووجهه وقدماه نحو القبلة؛ لأنه أيسر لخروج روحه. وإن شق عليه ترك على حاله. ويسن تجريع المحتضر بماء بارد بملعقة أو قطنة مثلًا.

ب - تلقينه الشهادة مرة: 
وهي «لا إله إلا الله» بأن يقول القريب عنده ذلك، لقوله ﷺ: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله» (١) وزيد في رواية: «فإنه ليس مسلم يقولها عند الموت إلا أنجته من النار» وروى أبو داود والحاكم حديثًا عن معاذ: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله، دخل الجنة».
وقال الحنفية المالكية: يلقن ندبًا الشهادتين قبل الغرغرة، لأن الأولى لا تقبل بدون الثانية. وذلك عند الجميع في لطف ومداراة. من غير إلحاح عليه ولا تكرار ولا أمر، لئلا يضجر، فإن تكلم بشيء فيعيد تلقينه لتكون «لا إله إلا الله» آخر كلامه.
وأضاف الحنفية: لا يلقن بعد تلحيده: وضعه في القبر، وإن فعل فالتلقين مشروع عند أهل السنة، ويكفي أن يقال: «يا فلان ابن فلان، أو يا عبد الله بن عبد الله، اذكر دينك الذي كنت عليه في دار الدنيا، من شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وقل: رضيت بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا» (٢). ويغتفر في حق المحتضر ما ظهر منه من كلمات كفرية، ويعامل معاملة موتى المسلمين، حملًا على أنه في حال زوال عقله.
(١) أخرجه الجماعة إلا البخاري عن أبي سعيد الخدري، وروي أيضًا عن أبي هريرة وجابر بن عبد الله وعائشة وعبد الله بن جعفر وواثلة بن الأسقع، وابن عمر (نصب الراية:٢٥٣/ ٢).
(٢) روي عنه ﵊ أنه أمر بالتلقين بعد الدفن، فيقول: «يا فلان ابن فلان، اذكر دينك الذي كنت عليه، من شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن الجنة حق، والنار حق، وأن البعث حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأنك رضيت بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد ﷺ نبيًا، وبالقرآن إمامًا، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخوانًا»
 
وقد أجمع أهل السنة على أن سؤال الملكين في القبر حق، وأن كل ذي روح من بني آدم يسأل في القبر. والأرجح عند ابن عبد البر والسيوطي: أن الآثار دلت على أنه لا يكون السؤال إلا لمؤمن أو منافق، ممن يكون منسوبًا إلى أهل القبلة بظاهر الشهادة، دون الكافر الجاحد.
وذكر السيوطي أن من لايسأل ثمانية: الشهيد والمرابط، والمطعون، والميت زمن الطاعون إذا كان صابرًا محتسبًا، والصدِّيق، والأطفال، والميت يوم الجمعة أو ليلتها، والقارئ كل ليلة: تبارك الملك. وضم بعضهم إليها السجدة، والقارئ في مرض موته: قل هو الله أحد.

جـ - قراءة القرآن عند المحتضر: 
قال المالكية: تكره القراءة عند الموت إن فعله استنانًا كما يكره القراءة بعد الموت، وعلى القبر؛ لأنه ليس من عمل السلف، لكن المتأخرون على أنه لا بأس بقراءة القرآن والذكر وجعل ثوابه للميت، ويحصل له الأجر إن شاء الله. وقال الجمهور: يندب قراءة ﴿يس﴾ لحديث «اقرؤوا على موتاكم يس» (١) واستحسن بعض متأخري الحنفية والشافعية قراءة ﴿الرعد﴾ أيضا ً، لقولجابر: «إنها تهون عليه خروج روحه»
.والحكمة من قراءة ﴿يس﴾ أن أحوال القيامة والبعث مذكورة فيها، فإذا قرئت عنده، تجدد له ذكر تلك الأحوال.

د - إغماض عينيه، وشد لَحْييه 
أن يتولى أرفق أهل المريض به، وأعلمهم بسياسته، وأتقاهم لربه تعالى إذا مات لا قبل الموت: إغماض عينيه، وشد لَحْييه (الفك السفلي) بعصابة من أسفلهما، وتربط فوق رأسه، تحسينًا له، ويقول: «بسم الله، وعلى ملة رسول الله، اللهم يسِّر عليه أمره، وسهِّل عليه ما بعده، وأسعده بلقائك، واجعل ما خرج
(١) رواه أبو داود وابن حبان وصححه، وابن ماجه وأحمد (نيل الأوطار:٢٢/ ٤)
 
إليه خيرًا مما خرج عنه» قال الحنفية: ويخرج من عنده الحائض والنفساء والجنب، لامتناع حضور الملائكة بسببهم.
ويحضر عنده الطيب كبخور، وتلين مفاصله (١) من اليدين والرجلين، وتلين أصابعه، ويستر جميع بدنه بثوب خفيف كما فعل بالنبي ﷺ إذ سُجِّي (غطي) ببُرد حِبرة (ثوب في أعلام)، ويوضع على بطنه شيء ثقيل من أنواع الحديد، لئلا ينتفخ فيقبح منظره، ويوضع على سرير ونحوه مما هو مرتفع لئلا تسرع له هوام الأرض، وتنزع ثيابه عنه لئلا يسرع فساده، ويوجه للقبلة كمحتضر، كما تقدم، وتوضع يداه بجنبيه، ولا يجوز وضعهما على صدره؛ لأنه من عمل الكفار، وتكره عند الحنفية قراءة القرآن عنده حتى يغسل. وجاز تقبيل الميت تبركًا ومودة واحترامًا؛ لأن رسول الله ﷺ قبَّل عثمان بن مظعون، وقبل أبو بكر النبي بعد موته (٢) وإن أحب أهل الميت أن يروه لم يمنعوا، لقول جابر: لما قتل أبي جعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي.

هـ - النعي: 
 قال الجمهور غير الحنابلة (٣): لا بأس بإعلام الناس بموت إنسان للصلاة وغيرها، لما روى الشيخان: أنه ﷺ نعى لأصحابه النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وأنه نعى جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة. واستحسن بعض متأخري الحنفية وهو الأصح النداء في الأسواق لجنازة الشخص إن كان عالمًا أوزاهدًا، أو ممن يتبرك به.
(١) بأن يرد ساعده إلى عضده ثم يمده، ويرد ساقه إلى فخذيه، وفخذيه إلى بطنه، ويردهما.
(٢) الحديث الأول رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه عن عائشة، والحديث الثاني رواه البخاري والنسائي وابن ماجه عن عائشة (نيل الأوطار:٢٤/ ٤ - ٢٥).
(٣) الدر المختار:٨٤٠/ ١، مراقي الفلاح: ص٩٥، الشرح الصغير:٥٦٢/ ١، مغني المحتاج:٣٥٧/ ١.
 
وهذا هو الأولى لا سيما في عصرنا لتعلق حقوق معينة بالميت، والتزامه بالواجبات.
ويكره نعي الجاهلية: وهو النداء بذكر مفاخر الميت ومآثره، للنهي عنه، كما صححه الترمذي. وهو أمر يخالف مجرد الإعلام بالموت.
وقال الحنابلة (١): يكره النعي: وهو أن يبعث مناديًا ينادي في الناس: أن فلانًا قد مات، ليشهدوا جنازته، لما روى حذيفة قال: سمعت النبي ﷺ ينهى عن النعي (٢)، وقال حذيفة: إذا مت فلا تؤذنوا بي أحدًا، فإني أخاف أن يكون نعيًا، وقال ابن عمر: «الإيذان بالميت نعي الجاهلية». وقد قرر صاحب المهذب عند الشافعية كراهة نعي الميت، إلا أن المعتمد هو ما ذكره النووي أولًا.

وـ الإسراع بالتجهيز: 
 إذا تيقنا من الموت يستحب الإسراع في أمور ثلاثة: التجهيز، وقضاء الديون، وتفريق وصيته.
أما التجهيز: فيستحب المسارعة فيه، خوفًا من تغير الميت، قال الإمام أحمد: «كرامة الميت تعجيله» لما روي أن طلحة بن البراء مرض، فأتاه النبي ﷺ يعوده، فقال: «إني لا أرى طلحة إلا قد حدث فيه الموت، فآذنوني به وعجِّلوا، فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن يُحبَس بين ظهري أهله» (٣). وتؤيده أحاديث الإسراع بالجنازة، مثل حديث علي: «ثلاث يا علي لا يؤخرن: الصلاة إذا آنت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت كفؤًا» (٤).
(١) المغني:٥٧٠/ ٢، المهذب:١٣٢/ ١.
(٢) قال الترمذي: هذا حديث حسن.
(٣) رواه أبو داود عن الحصين بن وَحْوَح، وفي إسناده مجهولان (نيل الأوطار:٢٢/ ٤).
(٤) أخرجه أحمد والترمذي إلا أنه قال: «لا تؤخرها» مكان «لا يؤخرون» (نيل الأوطار:٢٣/ ٤).
 
ولا بأس أن ينتظر بالجنازة مقدار ما يجتمع لها جماعة، للدعاء له في الصلاة عليه، ما لم يخف عليه، أو يشق على الناس.
وأما الإسراع بقضاء الدين: فلتخفيف المسؤولية عن الميت، قال ﷺ: «نفس المؤمن معلّقة بدينه، حتى يقضى عنه» (١) هذا إذا كان له مال يقضى منه دينه. وأما من لا مال له، ومات عازمًا على القضاء، فقد ورد في الأحاديث ما يدل على أن الله تعالى يقضي عنه، مثل حديث أبي أمامة: «من دان بدين، في نفسه وفاؤه، ومات، تجاوز الله عنه، وأرضى غريمه بما شاء، ومن دان بدين وليس في نفسه وفاؤه، ومات، اقتص الله لغريمه منه يوم القيامة» (٢) وحديث ابن عمر: «الدين دينان، فمن مات وهو ينوي قضاءه، فأنا وليه، ومن مات ولا ينوي قضاءه، فذلك الذي يؤخذ من حسناته، ليس يومئذ دينار ولا درهم» (٣).
وأما المسارعة إلى تفريق وصيته: فذلك ليعجل له ثوابها، بانتفاع الموصى له بها، علمًا بأن الوصية بعد الدين، وقبل حقوق الورثة.

المطلب الثاني - حقوق الميت:
للميت على ذويه وإخوانه حقوق أربعة، هي فروض كفائية بالإضافة إلى حق أو واجب التجهيز السابق ذكره: وهي الغسل والتكفين والصلاة عليه، ودفنه وحمل جنازته واتباعه، لإجماع العلماء، وللأمر به في الأخبار الصحيحة في غير الدفن، إلا أن اتباعه سنة كما سيأتي، فلو دفن قبل غسله أو تكفينه لزم نبشه، ثم يتدارك ما حدث:
(١) رواه أحمد وابن ماجه والترمذي: وقال: حديث حسن، من حديث أبي هريرة.
(٢) أخرجه الطبراني عن أبي أمامة مرفوعًا.
(٣) أخرجه الطبراني أيضًا (راجع الأحاديث في نيل الأوطار:٢٣/ ٤).
 
الفرض الأول - تغسيل الميت:
حكم الغسل، وصفة الغاسل، وحالة المغسول وشروطه، وكيفية الغسل ومقداره ومندوباته، هل يوضأ الميت؟ (١).

أولًا - حكم الغسل: 
غسل الميت فرض كفاية، لقوله في الذي سقط من بعيره: «اغسلوه بماء وسِدْر، وكفنوه في ثوبيه» (٢). وتسن المبادرة لغسل الميت عند التيقن من موته، ولو دفن قبل الغسل، لزم نبشه ويغسل. فإن لم يوجد إلا بعض الميت يغسل ويصلى عليه عند الشافعية والحنابلة، لفعل الصحابة. وقال أبو حنيفة ومالك: إن وجد الأكثر، صلي عليه، وإلا فلا. ويقوم التيمم مقام غسل الميت عند فقد الماء أوتعذر الغسل، كما إذا خيف تقطع بدنه إذا غسل، وإلا فإنه يغسل بصب الماء عليه.

ثانيًا - صفة الغاسل: 
 
 ١ ً - من هو الأولى بالغسل؟ 
 يغسل الرجل الرجل، وتغسل المرأةُ المرأةَ، فكل منهما أولى بجنسه اتفاقًا، حتى لو حضر الميت الرجل كافر ومسلمة أجنبية غسله الكافر عند الجمهور، والمرأة الأجنبية أولى بالغسل من الزوج خروجًا من الخلاف. وهل يغسل الرجل زوجته وبالعكس؟
قال الحنفية: لا يجوز للرجل غسل زوجته ومسها لانقطاع النكاح، ويجوز
(١) الدر المختار:٨٠٠/ ١ - ٨٠٦، فتح القدير:٤٤٨/ ١ - ٤٥١، مراقي الفلاح: ص٩٦ ومابعدها، اللباب:١٢٨/ ١ - ١٣٠، الشرح الصغير:٥٤٢/ ١ - ٥٤٩، القوانين الفقهية: ص ٩٢، بداية المجتهد:٢١٨/ ١ - ٢٢٥، مغني المحتاج:٣٣٢/ ١ - ٣٣٦، المهذب:١٢٧/ ١ - ١٢٩، المغني:٤٥٣/ ٢ - ٤٦٤، ٥٢٣، ٥٣٧ - ٥٣٩، كشاف القناع:٩٦/ ٢ - ١١٢.
(٢) متفق عليه، والسدر: ورق النبق، لأن له رغوة كالصابون.
 
له النظر إليها في الأصح؛ لأن النظر أخف من المس، فجاز لشبهة الاختلاف. ويجوز للمرأة أن تغسل زوجها، ولو كانت معتدة من طلاق رجعي لبقاء العدة، أو كانت ذمية، بشرط بقاء الزوجية إلى وقت الغسل.
وقال الجمهور: يجوز لكل من الزوجين غسل الآخر بعد الموت، ويلفان خرقة على اليد، ولا مس، سواء أكانت المرأة مسلمة أم ذمية خلافًا للحنابلة في الذمية، إذا اتصلت الرابطة الزوجية إلى الموت، اتفاقًا، وكذا للمرأة غسل زوجها وإن انقطعت الرابطة الزوجية عند الشافعية بأن انقضت عدتها وتزوجت، عملًا بحديث عائشةالثاني الآتي. وقال غير الشافعية: المرأة البائنة كالأجنبية، والمطلقة الرجعية كالزوجة فعلًا. وينظر أحد الزوجين إذا غسل الآخر غير العورة.
ودليلهم على غسل أحد الزوجين الآخر: حديث عائشة: قالت: رجع إلي رسول الله ﷺ من جنازة بالبقيع، وأنا أجد صداعًا في رأسي، وأقول: وارأساه، فقال: بل أنا وارأساه، ما ضرَّك لو متِّ قبلي، فغسَّلتكِ وكفنتكِ، ثم صليت عليك ودفنتكِ (١).
وكانت عائشة تقول: «لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ، ما غسَّل رسولَ الله ﷺ إلا نساؤه» (٢).
وغسَّل علي فاطمة ﵄، وأوصى الصديق زوجته أسماء أن تغسله فغسلته.
ويغسل الرجل ذوات محارمه من فوق ثوب.
(١) رواه أحمد وابن ماجه.
(٢) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه (راجعهما في نيل الأوطار:٢٧/ ٤).
 
ويجوز اتفاقًا للرجل والمرأة تغسيل صبي وصبية لم يشتهيا؛ لحل النظر والمس له. ويصح عند الحنابلة مع الكراهة كون الغاسل صبيًا مميزًا.
وأولى الناس بغسل الميت الرجل: أولاهم بالصلاة عليه، وأولى الناس بالمرأة: قراباتها، ويقدّمن على زوج، في الأصح عند الشافعية والحنابلة. وقال المالكية: يقدم الزوجان على العصبة وعلى قرابة المرأة من المحارم، بحكم الحاكم عند التنازع.
فأولى الناس بالرجل: هم الرجال العصبات من النسب، فيقدم الأب ثم الجد، ثم الابن ثم ابن الابن، ثم الأخ ثم ابن الأخ، ثم العم ثم ابن العم؛ لأنهم أحق بالصلاة عليه، فكانوا أحق بالغسل، ويقدم الأفقه على الأسن، ثم الزوجة بعدهم في الأصح عند الشافعية والحنابلة، فالأجانب أولى من الزوجة خروجًا من الخلاف. ثم المرأة المحرم كأم وبنت وأخت وعمة وخالة عند المالكية، فإن لم توجد امرأة محرم ولو بمصاهرة يممته امرأة أجنبية.
وقدم الحنابلة على العصبات: وصي الميت إن كان عدلًا، فهو أولى الناس بغسل الميت؛ لأنه حق للميت، فقدم فيه وصيه على غيره، كباقي حقوقه، ولأن أبا بكر أوصى أن تغسله زوجته أسماء، وأوصى أنس أن يغسله محمد بن سيرين.
وأولى الناس بالمرأة: ذات القرابة المحرمية: وهي كل امرأة لو كانت رجلًا، لم يحل له نكاحها بسبب القرابة؛ لأنهن أشد في الشفقة، ثم ذوات الأرحام غير المحارم كبنت العم، ثم المرأة الأجنبية، ثم الزوج في الأصح عند الشافعية والحنابلة، فالأجنبية أولى من زوج، خروجًا من الخلاف، ثم رجال القرابة المحارم كترتيب أولويتهم في الصلاة، وابن العم كالأجنبي.
 
فإن ماتت امرأة بين رجال فقط، أو مات رجل بين نساء فقط، يممه المَحْرم، فإن لم يكن يممه الأجنبي عند الحنفية والحنابلة والشافعية بخرقة أو حائل، وقال المالكية: يمم الرجل المرأة الأجنبية إلى كوعيها، وتيممه إلى مرفقيه.

٢ً - شروط الغاسل: 
يشترط في الغاسل عند الحنابلة ما يأتي:
أ - الإسلام: فلا يصح كون الغاسل كافرًا؛ لأن الغسل عبادة، وليس الكافر من أهلها.
ب - النية: لحديث «إنما الأعمال بالنيات».
جـ - العقل: لأن غير العاقل ليس أهلًا للنية.
ولم يشترط الجمهور شرطي الإسلام والنية، فيصح غسل الكافر، ويجزئ الغسل بدون نية، لكن يجب غسل الغريق، فيحرك في الماء بنية الغسل ثلاثًا؛ لأنا مأمورون بغسل الميت. لكن قال الحنفية: النية ليست لصحة الطهارة، بل شرط لإسقاط الفرض عن المكلفين.

٣ً - ما يستحب في الغاسل: 
يستحب أن يكون الغاسل ثقة أمينًا عارفًا بأحكام الغسل، لقول ابن عمر: «لا يغسل موتاكم إلا المأمونون» (١).
وينبغي للغاسل ولمن حضر غض أبصارهم إلا من حاجة، وأن يستر ما يطلع عليه من عيب يحب الميت أن يستره ولا يحدث به، لقوله ﷺ: «من ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة» (٢) وقوله: «من غسَّل ميتًا، فأدى فيه الأمانة، ولم يُفْش عليه ما يكون منه عند ذلك، خرج من ذنوبه كيومَ ولدته أمه، وقال: ليله أقربكم إن كان
(١) ورواه ابن ماجه عن النبي ﷺ أنه قال: «ليغسل موتاكم المأمونون».
(٢) متفق عليه عن ابن عمر (نيل الأوطار:٢٥/ ٤).
 
يعلم، فإن لم يكن يعلم، فمن ترون عنده حظًا من ورع وأمانة» (١) وقوله: «من غسل ميتًا وكتم عليه، غفر الله له أربعين مرة» (٢)، وإن رأى الغاسل حسنًا، مثل أمارات الخير من وضاءة الوجه والتبسم ونحو ذلك، استحب إظهاره، ليكثر الترحم عليه، ويحصل الحث على مثل طريقته، والتشبه بجميل سيرته.
ويستحب أن يستر الميت عن العيون؛ لأنه قد يكون في بدنه عيب كان يكتمه، كما ذكرت، لحديث «اذكروا محاسن موتاكم، وكفوا عن مساويهم» (٣).
ويستحب ألا يغسل تحت السماء، ولايحضره إلا من يعين في أمره ما دام يغسل، فيغسل في بيت.
ويستحب ألا يستعين بغيره إن كان فيه كفاية، وإن احتاج إلى معين، استعان بمن لا بد له منه، ويكره حضور غير المعين للغسل.
ويستحب أن يكون بقربه مجمرة بخور، حتى إن كانت له رائحة لم تظهر ولا يجوز للغاسل أن ينظر إلى عورة الميت ابن سبع فأكثر، لقوله ﷺ لعلي: «لا تنظر إلى فخذ حي أو ميت» (٤) ولا يجوز أن يمس عورته؛ لأنه إذا لم يجز النظر، فالمس أولى.
ويستحب ألا ينظر إلى سائر بدنه إلا فيما لابد منه، ويستحب ألا يمس سائر بدنه؛ لأن عليًا ﵁ غسل النبي ﷺ وبيده خرقة يتبع بها ماتحت القميص. فالواجب استعمال خرقة أو نحوها حال غسل العورة، والمندوب استعمالها لغسل سائر الجسد.
(١) رواه أحمد عن عائشة، وفي إسناده جابر الجعفي وفيه كلام كثير (المصدر السابق).
(٢) رواه الحاكم عن أبي رافع وهو صحيح.
(٣) رواه أبو داود والترمذي والحاكم والبيهقي عن ابن عمر، وهو صحيح.
(٤) رواه أبو داود بلفظ «لا تبرز فخذك، ولاتنظر إلى فخذ حي أو ميت».
 
والأفضل أن يغسل الميت مجانًا، ويكره عند الحنابلة أخذ الأجرة على شيء من الغسل والتكفين والحمل والدفن. وأجاز الحنفية أخذ الأجر على تلك الأمور، فالحمال والحفار كالغاسل، إن وجد غيره، وإلا بأن لم يوجد غيره فلا يجوز أخذ الأجرة لتعينه عليه، أي لأنه صار واجبًا عليه عينًا، ولا يجوز أخذ الأجرة على الطاعة. وهذا رأي المتقدمين، وأجاز المتأخرون أخذ الأجرة على الطاعات للضرورة.
ويستحب عند الجمهور لمن غسل ميتًا أن يغتسل بعد فراغه من غسله، لما روى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: «من غسل ميتًا فليغتسل» (١).

ثالثًا - حالة المغسول (٢):
الأكمل وضع الميت بموضع خال عن الناس مستور على لوح، والأفضل أن يكون تحت سقف؛ لأنه أستر له.
وإن كان الميت مقطوع الرأس، أو كانت أعضاؤه مقطوعة، لفق أو ربط بعضها إلى بعض بالتقميط والطين الحر، حتى لايتبين تشويهه، فإن سقط من الميت شيء كأسنانه غسل وجعل معه في الكفن.
والمستحب أن يجلسه الغاسل إجلاسًا رفيقًا مائلًا إلى ورائه، واضعًا يمينه على كتفه، وإبهامه في نقرة قفاه، مسندًا ظهره إلى ركبته اليمنى، ويمسح بطنه
(١) رواه أبو داود وابن ماجه وابن حبان، وقال البيهقي: الصحيح أنه موقوف على أبي هريرة (المجموع:١٤١/ ٥).
(٢) الدر المختار:٨٠٠/ ١ ومابعدها، الشرح الصغير:٥٤٦/ ١ - ٥٤٨، المهذب:١٢٨/ ١، مغني المحتاج:٣٣٢/ ١ ومابعدها، كشاف القناع:١٠٣/ ٢، ١١١، المغني:٤٥٧/ ٢،٥٣٩، بداية المجتهد:٢٢٢/ ١
 
مسحًا بليغًا ليخرج ما فيه، وكلما أمرَّ اليد على البطن، صب عليه ماء كثيرًا، حتى لا تظهر رائحة ما قد يخرج منه، ثم يضجعه مستلقيًا إلى قفاه.
ويجب ستر عورة المغسول، إلا من له دون سبع سنين، فلا بأس بغسله مجردًا، كما ذكر الحنابلة، ثم يجرد عند الجمهور من ثيابه ندبًا، لأنه أمكن في تغسيله، وأبلغ في تطهيره، وأشبه بغسل الحي، وأصون له من التنجيس، إذ يحتمل خروج النجاسة منه.
ولو غسله في قميص خفيف واسع الكمين، جاز. وقال الشافعية: لا يجرد وإنما يغسل ندبًا في قميص؛ لأنه أستر له، وقد غسل ﷺ في قميص (١).

رابعًا - شروط إيجاب الغسل:
 أما شروط إيجاب غسل الميت فهي ما يلي (٢):
١ ً - أن يكون مسلمًا: فلا يجب غسل الميت الكافر: بل يحرم عند الجمهور، وأجاز الشافعية غسله؛ لأن غسل الميت للنظافة، ولأن النبي ﷺ «أمر عليًا، فغسل والده وكفنه» (٣)، والأصح عند الشافعية وجوب تكفين الميت ودفنه.
٢ ً - أحكام السِّقط: أن يكون معلوم الحياة: فلا يصلى عند المالكية على مولود ولا سِقْط (الولد الميت أو غير التام الأشهر) إلا أن علمت حياته بارتضاع أو حركة أو استهلال (صراخ) ولو لحظة، لحديث: «الطفل لا يصلى عليه ولا يرث
(١) رواه أبو داود وغيره بإسناد صحيح.
(٢) الدر المختار:٨٠٤/ ١،٨٢٩، الشرح الصغير:٥٤٢/ ١ ومابعدها، القوانين الفقهية: ص٩٣ ومابعدها، مغني المحتاج:٣٤٨/ ١ ومابعدها، المهذب:١٣٤/ ١، المغني:٥٢٢/ ٢،٥٣٩، كشاف القناع:١٢٦/ ٢،١٣٣.
(٣) رواه أبو داود والنسائي.
 
ولا يورث حتى يَستَهِلَّ» (١). وروى ابن ماجه عن جابر ﵁ عن النبي ﷺ: «إذا استهلّ السِّقْطَ صُلِّي عليه وورث».
وقال الحنفية: يغسل المولود ويصلى عليه ويرث ويورث إن استهل: أي وجد منه ما يدل على حياته بعد خروج أكثره. وإن لم يستهل يغسل ويسمى عند أبي يوسف وهو الأصح، فيفتى به على خلاف ظاهر الرواية، إكرامًا لبني آدم، أي أنه إذا نزل حيًا فهو كالكبير، وإن لم يظهر منه صراخ، فإن نزل ميتًا فيغسل إن كان تام الخَلْق، ولا يغسل إن لم يكن تام الخلق، بل ظهر بعض خلقه، وإنما يصب عليه الماء ويلف في خرقة ويدفن ويسمى، لأنه يحشر يوم القيامة.
وقال الشافعية: إن ظهرت أمارات الحياة كاختلاج، غُسِّل، وصلي عليه في الأظهر لاحتمال الحياة وللاحتياط، وإن لم تظهرعليه أمارات الحياة لم يُصَلَّ عليه وإن بلغ أربعة أشهر في الأظهر، لعدم ظهور حياته، ولكن يجب غسله وتكفينه ودفنه، في الحالة الأخيرة، ولا يغسل على المذهب قبل أربعة أشهر. وقال الحنابلة: إذا ولد السقط لأكثر من أربعة أشهر، غسل وصلي عليه. لحديث: «والسقط يصلى عليه» (٢).
والخلاصة: إن الفقهاء اتفقوا على وجوب غسل السقط إن خرج حيًا واستهل، ويصلى عليه. فإن لم تظهر عليه أمارات الحياة غسل وكفن ودفن مطلقًا عند الحنفية، وعند الشافعية إن بلغ أربعة أشهر، ولم يصل عليه. ويغسل ويصلى عليه عند الحنابلة إذا ولد لأكثر من أربعة أشهر، فالشافعية والحنابلة متفقون على عدم غسله قبل أربعة أشهر.
(١) رواه الترمذي. والاستهلال: الصياح أوالعطاس أو أي حركة تدل على الحياة.
(٢) رواه أبو داود والترمذي، وفي لفظ للترمذي: «والطفل يصلى عليه» وقال: هذا حديث حسن صحيح.
 
٣ ً - أن يوجد جسد الميت، أو أكثره عند الحنفية والمالكية، بأن وجد عند الحنفية أكثر البدن أو نصفه مع الرأس، وإن وجد عند المالكية ثلثا بدنه ولو مع الرأس، وإلا كان غسله مكروهًا. وقال الشافعية والحنابلة: إن لم يوجد إلا بعض الميت ولو كان قليلًا غسل وصلي عليه، لفعل الصحابة.
٤ ً - ألا يكون شهيدًا قتل في معركة لإعلاء كلمة الله: فالشهيد - كما سيأتي - لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه، ويدفن بثيابه وينزع عنه سلاحه عند الجمهور، وقال أبو حنيفة: لا يغسل ولكن يصلى عليه. والدليل على عدم الغسل قوله ﷺ في قتلى أحد: «لا تغسلوهم، فإن كل جرح أو كل دم يفوح مسكًا يوم القيامة، ولم يصل عليهم» (١).

خامسًا - هل يوضأ الميت؟ 
 اتفق أئمة المذاهب على أن الغاسل يوضئ الميت غير الصغير كالحي بعد إزالة ما به من نجس أو وسخ، بالسدر أو الصابون، وغسل سوأتيه بخرقة، لكن بدون مضمضة واستنشاق عند الحنفية والحنابلة، للحرج، لأنه إذا دخل الماء في الفم والأنف، فوصل إلى جوفه حرك النجاسة. وبهما قليلًا عند المالكية والشافعية بأن يضع الغاسل الماء في فمه عند إمالة رأسه. فإن كان الميت جنبًا أو حائضًا أو نفساء، فُعلا اتفاقًا، تتميمًا للطهارة.
وعلى هذا فيبدأ بالوضوء في غسل الميت، لقول رسول الله ﷺ للنساء اللاتي غسلن ابنته: «ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها» (٢) وفي حديث أم عطية:
«فإذا
(١) رواه أحمد.
(٢) متفق عليه.
 
فرغت من غسل سفلتها غسلًا نقيًا بماء وسدر، فوضئيها وضوء الصلاة، ثم اغسليها» (١).

سادسًا - كيفية الغسل ومقداره ومندوباته: 
غسل الميت كغسل الجنابة الواجب فيه كونه مرة واحدة، يعمم فيها الجسد، بعد إزالة النجس، بشرط كون الماء طهورًا، فيوضع الميت على سرير، وتستر عورته ما بين سرته وركبته، بعد تجريده عن ثيابه عند الجمهور، وبقميص عند الشافعية، وتغسل عورته بخرقة ملفوفة على يد الغاسل، ثم يوضأ، كما سبق بيانه.
ثم يغسل الرأس ثم اللحية بسدر (ورق النبق يستعمل في التنظيف) أو خطْمي، بأن يسحق ويضرب بماء قليل في إناء حتى تبدو له رغوة، ثم يعرك به الموضع، لإزالة الوسخ، ثم يصب عليه الماء الطهور، الذي هو شرط لصحة الغسل، فإن لم يوجد سدر فيستعمل الصابون أو نحوه من أشنان، أوغاسول يعرك به الموضع، ثم يفاض عليه الماء للتنظيف. ويدخل أصبعه في فيه، ويسوك بها أسنانه، ولا يفتح فاه، وينظف ما تحت أظفاره.
ثم يغسل الشق الأيمن إلى القدم بعد إضجاعه على شقه الأيسر، ثم الأيسر، بالصابون ونحوه، ثم يصب عليه الماء الخالص. فهذه هي الغسلة الأولى الواجبة.
ويندب تكرار الغسل ثلاثًا، فتزاد غسله ثانية وثالثة، ثم ينشف في ثوب، ويجعل الحنوط (وهو العطر المركب من الأشياء الطيبة غير زعفران وورس) على رأسه ولحيته، ويوضع الكافور على مواضع سجوده (٢). سواء فيه المحرم بالحج أو
(١) رواه الجماعة عن أم عطية (نيل الأوطار:٣٠/ ٤).
(٢) وهي الجبهة والأنف واليدان والركبتان والقدمان
 
العمرة وغيره عند الحنفية والمالكية، فيطيب المحرم ويغطى رأسه عندهم، لعموم الأمر بالغسل مطلقًا.
وقال الشافعية والحنابلة: لا يغطى رأس المحرم إذا مات، ولا يمس طيبًا، لحديث ابن عباس، قال: «أُتي النبي ﷺ برجل وقصته (رمته فكسرت عنقه) راحلته، فمات، وهو محرم، فقال: كفنوه في ثوبين، واغسلوه بماء وسدر، ولا تخمِّروا رأسه ولا تقربوه طيبًا،
فإنه يبعث يوم القيامة يلبي» (١) فالمحرم الميت كالمحرم الحي لبقاء إحرامه عندهم.
ويغسل بالماء البارد الخالص، مع قليل كافور لغير المحرم عند الشافعية والحنابلة لأمره ﷺ (٢)، ولأنه يقوي البدن ويدفع الهوام، لكن قال الحنفية: يسخن الماء إن تيسر؛ لأنه أبلغ في التنظيف، وقال الحنابلة: ولا بأس بغسله في حمام، بماء حار، إن احتيج إليه لشدة برد أو وسخ لا يزول إلا به، فإن لم تكن حاجة كره.
ويكون الغسل وترًا، لحديث «إن الله وتر يحب الوتر» (٣) من غير إعادة وضوء، فإن لم ينق الميت بالثلاث الغسلات، غسل إلى سبع، فإن لم ينق بسبع غسلات، فالأولى غسله حتى ينقى، لقوله ﷺ: «اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا أو أكثر من ذلك إن رأيتن» (٤).

هل يسرح شعر الميت ويؤخذ ظفره وشعره (٥):
قال الحنفية والمالكية: لا يسرح ولا يحلق شعره ولا يقص ظفره إلا المكسور،
(١) رواه الجماعة (نيل الأوطار:٤٠/ ٤).
(٢) وهو «واجعلن في الأخيرة كافورًا» متفق عليه من حديث أم عطية، أي في الغسلة الأخيرة.
(٣) رواه ابن نصر عن أبي هريرة وعن ابن عمر، ورواه الترمذي عن علي وابن ماجه عن ابن مسعود بلفظ «إن الله تعالى وتر يحب الوتر، فأوتروا يا أهل القرآن».
(٤) رواه الجماعة من حديث أم عطية (نيل الأوطار:٣٠/ ٤).
(٥) الدر المختار:٨٠٣/ ١، مراقي الفلاح: ص٩٦، القوانين الفقهية: ص٩٣، الشرح الصغير:٥٦٨/ ١، مغني المحتاج:٣٣٣/ ١،٣٣٦، المغني:٥٤١/ ٢ ومابعدها، كشاف القناع:١١٠/ ٢.
 
ولا شعره من رأسه ولحيته، ولا يختن، إذ لاحاجة إليه، لأنه للزينة وقد استغني عنها، فهذا مكروه، والكراهة عند الحنفية تحريمية. فلو قطع ظفره أو شعره، أدرج معه في الكفن. وهذا هو الرأي الأولى؛ لأن الميت يحتاج للستر بكل ماله وما عليه.
وقال الشافعية في الجديد: يسرح شعر رأسه ولحيته بمشط واسع الأسنان برفق، ويرد المنتوف إليه. والأظهر كراهة أخذ شعر رأسه، وظفره وشعر إبطه وعانته وشاربه؛ لأن أجزاء الميت محترمة، ولم يثبت فيه شيء فهو محدث، وصح النهي عن محدثات الأمور، ولا يختن الميت إذا كان أقلف.
وقال الحنابلة في أرجح الروايتين عن أحمد: ويقص شارب غير مَحْرم، ويقلم أظفاره إن طالا، ويؤخذ شعر إبطيه؛ لأن ذلك تنظيف لا يتعلق بقطع عضو، فأشبه إزالة الأوساخ والأدران، ويعضد ذلك العمومات في سنن الفطرة، ويجعل ما أخذ من الشارب والأظفار وشعر الإبطين مع الميت، كعضو ساقط، لما روى أحمد من حديث أم عطية قالت: «يغسل رأس الميتة، فما سقط من شعرها في أيديهم، غسلوه، ثم ردوه في رأسها». ولأن دفن الشعر والظفر مستحب في حق الحي، ففي حق الميت أولى. ويعاد غسل ما أخذ من الميت من شعر وظفر، لقول أم عطية: «غسلوه ثم ردوه»، ولأنه جزء من الميت كعضو من أعضائه.
أما المرأة فالمعتمد عن المالكية والحنفية وباقي المذاهب: أنه يندب ضَفْر شعرها.

استعمال القطن: 
قال الحنفية: ليس في الغسل استعمال القطن في الروايات الظاهرة، لكن قال الزيلعي وصاحب الدر المختار: لا بأس بأن يجعل القطن على وجه الميت وأن يحشى به مخارقه كالدبر والقبل والأذنين والأنف والفم.
 
وكذلك قال فقهاء المذاهب الأخرى: لا بأس أن يحشى بقطن مخرجه وغيره، حتى لا يخرج منه شيء من نجاسة أو دم، ويجعل على رأسه قطن عند الحنابلة.

خلاصة مندوبات الغسل: 
 يندب في غسل الميت ما يأتي:
١ - أن يوضأ كوضوء الحي في أول الغسلات، بعد إزالة ما عليه من نجاسة أو وسخ بالسدر أو الصابون.
٢ - ستر العورة لأحد الزوجين بغسل صاحبه، أي إذا غسل أحدهما الآخر .....
٣ - تجريد الميت من ثيابه بعد ستر عورته عند الجمهور، وعند الشافعي: يغسل بقميص ونحوه. ويسن ستر الميت حالة الغسل عن العيون، منعًا من الاطلاع على عورته أو عيب فيه، ويكره النظر إلى الميت ولو من غاسل، لغير حاجة، لأن جميعه صار عورة إكرامًا له.
٤ - استعمال السدر أو الصابون في الغسلات، والكافور في الغسلة الأخيرة، وعند الشافعية: أن يجعل في كل غسلة قليل كافور، وذلك إن تيسر وإلا فماء خالص بارد، أو ساخن عند الحاجة.
٥ - إيتار الغسل: أي جعله وترًا ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا، ولا يتكرر الوضوء بتكرر الغسل، ويستحب كون الغسل ثلاثًا، والواجب فيه مرة واحدة. وإن خرج من الميت شيء من أحد السبيلين أو غيرهما بعد الغسلات الثلاث أعيد وضوءه وغسله عند الحنابلة، ويكتفى بإزالة النجس عند غيرهم.
٦ - عصر بطنه حال الغسل برفق، لإخراج ما في بطنه من النجاسة.
٧ - كثرة صب الماء في حال غسل مخرجيه لإزالة النجاسة، وتقليل العفونة؛ لأن الشأن في الأموات كثرة ذلك، ثم ينشف لئلا تبتل الأكفان.
 
٨ - لف خرقة كثيفة على يد الغاسل حال غسل العورة من تحت السرة، ويستحب للغاسل ألا يمس سائر بدن الميت إلا بخرقة.
٩ - تعهد أسنانه وأنفه بخرقة نظيفة عند المضمضة والاستنشاق في رأي المالكية والشافعية، وكذلك عند الحنابلة: تنظف أسنانه ومنخراه بخرقة مبلولة، دون أن يدخل الماء في الفم والأنف. وينظف ما تحت أظفاره أيضًا.
١٠ - إمالة رأسه برفق للتمكن من غسل الفم والأنف في حال المضمضة والاستنشاق، لئلا يدخل الماء في جوفه. وندب تنشيق الميت بخرقة طاهرة قبل التكفين.
١١ - عدم حضور غير مساعد أو معين للغاسل.
١٢ - التيامن في الغسل: بأن يغسل الشق الأيمن ثم الأيسر، ثم يحرّفه الغاسل إلى شقه الأيسر فيغسل شقه الأيمن من القفا والظهر إلى القدم، ثم يفعل كذلك بشقه الأيمن. ويصب عليه الماء عند كل إضجاع ثلاث مرات، أو أكثر بحسب الحاجة، كما أبنت .....
١٣ - يستحب عند الحنابلة خضب لحية رجل ورأس امرأة، ولو غير شائبين بحناء، لقول أنس: «اصنعوا بموتاكم ما تصنعون بعرائسكم».
١٤ - يجعل الحَنُوط (العطر المركب من الأشياء الطيبة) على رأسه ولحيته، والكافور على مساجده (وهي مواضع سجوده وهي الجبهة والأنف واليدان والركبتان والقدمان) كرامة لها، سواء فيه عند المالكية والحنفية وغيره، فيطيب ويغطى رأسه. ويبخر (يجمر) سريره وترًا، إخفاء لكريه الرائحة، وتعظيمًا للميت.
 
الفرض الثاني - تكفين الميت:
حكمه والملزم بالكفن، ومقدار الكفن وصفته وكيفيته، وما يندب فيه (١):

أولًا - حكم التكفين والملزم بالكفن: 
تكفين الميت فرض كفاية على جماعة المسلمين، لقوله ﷺ في المحرم «كفِّنوه في ثوبيه» (٢).
ونفقات التكفين ومؤنة التجهيز من حمل للمقبرة ودفن ونحوه: من تركة الميت، أي ماله الخاص الذي لم يتعلق به حق الغير كالمرهون، ويقدم على الدين والوصية، فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته في حال الحياة، وعلى الزوج تكفين زوجته عند الحنفية، والشافعية في الأصح؛ لأنها في نفقته في الحياة، أما عند المالكية والحنابلة فلا يلزم الزوج كفن امرأته ولا مؤنة تجهيزها؛ لأن النفقة والكسوة وجبا في حال الزواج للتمكين من الاستمتاع، بدليل سقوطها بالنشوز والبينونة، وقد انقطع ذلك بالموت، فأشبهت غير الزوجة (الأجنبية). ولا شك أن المقبول هو الرأي الأول إذ لا يعقل التفريق في هذا بين الموت والحياة، وأما سقوط النفقة بالنشوز ونحوه فلحملها على العودة لبيت الزوجية.
فإن لم يوجد أحد تلزمه نفقة الميت، فنفقة تكفينه وتجهيزه من بيت المال إن وجد، وإلا فعلى جماعة المسلمين المستطيعين.
(١) اللباب:١٣٠/ ١ ومابعدها، مراقي الفلاح: ص٩٧، فتح القدير:٤٥٢/ ١ - ٤٥٥، الدر المختار ورد المحتار:٨٠٦/ ١ - ٨١٠، القوانين الفقهية: ص ٩٣، الشرح الصغير:٥٥١/ ١ومابعدها، بداية المجتهد:٢٢٤ ومابعدها، مغني المحتاج:٣٣٦/ ١ - ٣٤٠، المهذب:١٢٩/ ١ - ١٣١، المغني:٤٦٤/ ٢ - ٤٧٢،٥٣٧، كشاف القناع:١١٨/ ٢ - ١٢٦.
(٢) رواه الجماعة عن ابن عباس (نيل الأوطار:٤٠/ ٤).
 
ثانيًا - صفة الكفن ومقداره وكيفيته: 
يكفن الميت بعد غسله بما يحل له لبسه في حال الحياة (١) فيكفن في الجائز من اللباس، ولا يكفن الرجل بالحرير، وتكفن المرأة به عند الجمهور، ولا تكفن به عند الحنابلة. ويشترط في الكفن ألا يصف البشرة؛ لأن ما يصفها غير ساتر، فوجوده كعدمه. ويجب أن يكون الكفن طاهرًا، فلا يجوز تكفينه بالمتنجس مع القدرة على الطاهر.
ويجب أن يكفن الميت عند الحنابلة، وندبًا عند المالكية والحنفية في ملبوس مثله في الجمع والأعياد مالم يوص بدونه فتتبع وصيته، لأمر الشارع بتحسينه.
قال رسول الله ﷺ: «إذا كفن أحدكم أخاه، فليُحْسن كفنه» (٢) وتحسين الكفن واجب عند الحنابلة، مستحب عند غيرهم.
وأقل الكفن: ثوب واحد يستر جميع البدن، إلا رأس المحرم عند الشافعية والحنابلة، ولا تُنفَّذ وصيته بإسقاطه. وأكثره سبع. والأفضل للرجل ثلاثة، وللمرأة خمسة. أما الرجل فلقول عائشة ﵂: «كُفِّن رسول الله ﷺ في ثلاثة أثواب بيض سَحُولية (٣) جُدَد يمانية، ليس فيها قميص ولا عمامة، أُدرج فيها إدراجًا» (٤).
وأما المرأة: فلزيادة الستر في حقها، ولحديث ليلى الثقفية الآتي. وللفقهاء تفصيلات في ذلك:
(١) مغني المحتاج:٣٣٦/ ١.
(٢) رواه أحمد ومسلم وأبو داود عن جابر، ورواه ابن ماجه والترمذي عن أبي قتادة بلفظ: «إذا ولي أحدكم أخاه فليحسن كفنه».
(٣) نسبة إلى سحول: قرية باليمن.
(٤) رواه الجماعة عن عائشة (نيل الأوطار:٣٦/ ٤).
 
قال الحنفية: 
الكفن ثلاثة أنواع: كفن الضرورة، وكفن الكفاية، وكفن السنة، كل منها إما للرجل أو للمرأة، فأقل ما يكفن فيه الرجل عادة ثوبان، والسنة فيه ثلاثة أثواب، وأقل ما تكفن فيه المرأة ثلاثة أثواب، والسنة خمسة أثواب.
١ - كفن الضرورة للرجل والمرأة: هو مقدار ما يوجد حال الضرورة أو العجز، أما الذي يسقط به الفرض عن المكلفين فهو أقل الكفن، وأقله ما يعم البدن؛ لأن مصعب بن عمير ﵁ حين استشهد، كفن في ثوب واحد (١).
٢ - كفن الكفاية: وهو أدنى ما يلبس حال الحياة، وكفنه: كسوته بعد الوفاة. وهو ثوبان للرجل: إزار ولفافة، في الأصح، وللمرأة: ثوبان وخمار، ويكره أقل من ذلك.
أما الرجل: فلقول أبي بكر حين حضره الموت: «كفنوني في ثوبيّ هذين اللذين كنت أصلي فيهما، واغسلوهما، فإنهما للمُهل والتراب» (٢)،ولأنه أدنى لباس الأحياء.
والإزار: خلاف إزار الحي من الفَرْق (أعلى الرأس) إلى القدم، واللِّفافة مثله: من القَرْن (الخُصلة من الشعر) إلى القدم أي من الرأس إلى القدم. وقال ابن الهمام: أنا لا أعلم وجه مخالفة إزار الميت إزا ر الحي من السنة.
وأما المرأة: فلسترها بالخمار: وهو غطاء الوجه والرأس.
٣ - وكفن السنة: هو أكمل الأكفان، وهو للرجل: ثلاثة أثواب: إزار،
(١) رواه الجماعة إلا ابن ماجه عن خبّاب بن الأرت (نيل الأوطار:٣٣/ ٤).
(٢) رواه ابن سعد في الطبقات، وذكره محمد بن الحسن في الآثار بلاغًا. والمهل: القيح والصديد (نصب الراية:٢٦٣/ ٢) ورواه البخاري بمعناه.
 
وقميص، ولِفافة. والقميص: من أصل العُنُق إلى القدمين بلا دِخْرِيص (ما يضاف لتوسعة القميص من الجانبين) ولا كمين.
وللمرأة خمسة أثواب: إزار، وقميص (درع)، وخمار، وخِرْقة يُربط بها ثَدْياها، وعرضها من الثدي إلى السرة، ولفافة.
أما الرجل: فلحديث ابن عباس: «أن رسول الله ﷺ كُفِّن في ثلاثة أثواب: قميصه الذي مات فيه، وحُلَّة نجرانية، الحلة: ثوبان» (١) وهذا دليل للحنفية والمالكية الذين قالوا باستحباب القميص. وذهب الجمهور إلى أنه غير مستحب، لحديث عائشة السابق: «ليس فيها قميص ولاعمامة».
وتكره العِمَامة للميت عند الحنفية في الأصح، وهي ما يلف على الرأس، لحديث عائشة المذكور. واستحسنها المتأخرون للعلماء والأشراف.
ولا بأس بالزيادة على الثلاثة، إلى خمسة.
وأما المرأة: فلحديث ليلى بنت قانف الثقفية، المتضمن تكفين أم كُلْثوم بنت الرسول ﷺ عند وفاتها بخمسة أثواب (٢).
ويكره التكفين للرجال بالحرير والمعصفر والمزعفر ونحوها إلا إذا لم يوجد غيرها، ويجوز ذلك للنساء.
وكيفية التكفين: أن يبسط للرجل اللفافة أولًا، ثم يبسط عليها الإزار، ثم يقمص، ثم يطوى الإزار عليه، ويبتدأ بالجانب الأيسر، فيلقى عليه، ثم بالأيمن ليكون على الأيسر، كما في حالة الحياة، ثم اللفافة.
(١) رواه أحمد وأبو داود، وفي سنده يزيد بن أبي زياد، وهو مجمع على ضعفه (نيل الأوطار:٣٦/ ٤).
(٢) رواه أحمد وأبو داود، وفي بعض رجاله كلام عند البعض (نصب الراية:٢٦٣/ ٢، نيل الأوطار:٣٩/ ٤).
 
وأما المرأة: فتبسط لها اللفافة والإزار، ثم توضع على الإزار وتلبس القميص، ويجعل شعرها ضفيرتين على صدرها فوق القميص، ثم يجعل الخمار فوق الشعر، تحت اللفافة، ثم يطوى الإزار واللفافة، ثم تربط الخرقة فوق الأكفان، وفوق القدمين.

وقال المالكية:
 أقله ثوب واحد، وأكثره سبع، ويستحب الوتر في الكفن، فالثلاثة أفضل من الاثنين، ومن الأربعة، والواجب من الكفن للذكر ما يستر العورة، والباقي سنة، ومازاد عن ذلك مندوب. وأما المرأة فيجب ستر جميع بدنها.
والأفضل في مشهور المذهب أن يكفن الرجل بخمسة أثواب: إزار (من سرته لركبته) وقميص له أكمام، وعمامة، ولفافتان؛ لأن المقصود بحديث عائشة: هو الإباحة لا التقدير.
والأفضل أن تكفن المرأة بسبعة أثواب: بزيادة لفافتين، فتكون اللفائف أربعة؛ لأن المقصود من حديث ليلى الثقفية بيان الإباحة لا التقدير، كما في الرجل.
وندب خمار (١) يلف على رأس المرأة ووجهها، بدل العمامة للرجل.
وندب عَذَبة قدر ذراع تجعل على وجه الرجل. ويكره التكفين بالحرير والخز (٢) والنجس إن وجد غيره، وإلا فلا يكره.

وقال الشافعية: 
 أقل الكفن ثوب ساتر للعورة، وهي في الرجل: ما بين السرة
(١) سمي خمارًا لتخمير الرأس والعنق، أي تغطيتها به.
(٢) الخز: هو مانسج من صوف وحرير، أو هو الحرير.
 
والركبة، وفي المرأة: غير الوجه والكفين. أما بالنسبة لحق الميت، فيجب ثوب يعم به جميع البدن، إلا رأس المحرم، ووجه المحرمة، تكريمًا له، وسترًا لما يعرض له من التغير.
ويحرم تكفين الرجل بالحرير والمزعفر إذا وجد غيرهما، ويجوز مع الكراهة تكفين المرأة بهما.
والأفضل للرجل ثلاث لفائف عملًا بحديث عائشة المتقدم، وكما قال الحنفية، والأفضل ألا يكون فيه قميص ولا عمامة، لحديث عائشة المذكور، ويجوز بلا كراهة رابع وخامس بزيادة قميص وعمامة تحتهن؛ لأن ابن عمر كفن ابنًا له في خمسة أثواب:
قميص وعمامة، وثلاث لفائف (١).
والأفضل للمرأة والخنثى خمس لفائف: إزار، ثم قميص، ثم خمار، ثم لفافتان، لزيادة الستر في حقها، وتكره الزيادة على ذلك. وكيفية التكفين: أن يبسط أحسن اللفائف وأوسعها، وتوضع الثانية فوقها، وكذا الثالثة، ويوضع على كل واحدة حنوط وكافور (٢)، ويوضع الميت فوقها مستلقيًا، وعليه حنوط وكافور، ويُشد ألياه، ويجعل على منافذ بطنه قطن، ويلف عليه اللفائف وتشد، فإذا وضع في قبره نزعت الأربطة ولا يلبس المحرم الذكر مخيطًا، ولا يستر رأسه ولا وجه المحرمة.

وقال الحنابلة:
 الكفن الواجب: ثوب يستر جميع بدن الميت، رجلًا أو امرأة. والأفضل - كما قال الشافعية - أن يكفن الرجل في ثلاثة أثواب بيض، يدرج فيها إدراجًا، ويجعل الحنوط (الطيب) فيما بينهما، وليس فيها قميص ولا عمامة
(١) رواه البيهقي.
(٢) هو أيضًا نوع من الطيب، فهو من عطف الجزء على الكل، ولأنه يستحب الإكثار منه.
 
لا يزاد عليها، ولا ينقص، لحديث عائشة السابق. ويجوز التكفين في ثوبين، لقول النبي ﷺ في المحرم الذي وقصته دابته: «اغسلوه بماء وسِدْر، وكفنوه في ثوبين» (١) وتكره الزيادة على الثلاث، لما فيه من إضاعة المال المنهي عنه.
والمحرم بناء على هذا الحديث يغسل بماء وسدر، ولا يقرب طيبًا، ويكفن في ثوبيه، ولا يغطى رأسه ولا رجلاه.
ويكفن الصبي في خرقة، وإن كفن في ثلاثة فلا بأس. فإن لم يجد الرجل ثوبًا يستر جميعه، ستر رأسه، وجعل على رجليه حشيشًا أو ورقًا.
والأفضل أن تكفن المرأة في خمسة أثواب: قميص، ومئزر، ولفافة، وقناع (أي خمار للرأس والوجه)، وخامسة تشد بها فخذاها، لحديث ليلى الثقفية، ولما روت أم عطية أن النبي ﷺ ناولها إزارًا، ودرعًا (قميصًا) وخمارًا، وثوبين.
وكيفية التكفين: كما تقدم عند الشافعية، علمًا بأن الخمار يجعل على الرأس والإزار في الوسط، والقميص يلبس، وتبخر الأكفان، ولا يوضع شيء من الحنوط على ظهر اللفافة العليا، لكراهة عمر وابنه وأبي هريرة ذلك، ولا يوضع الحنوط أيضًا على الثوب الذي يجعل على النعش؛ لأنه ليس من الكفن، ويوضع الطيب على مواضع سجوده كجبهته وأنفه وركبتيه وأطراف قدميه، تشريفًا لها، لكنها مختصة بالسجود، وعلى مغابنه كطي ركبتيه، وتحت إبطيه، وكذا سرته؛ لأن ابن عمر كان يُتبع مغابن الميت ومرافقه بالمسك. ويطيب رأسه ولحيته، ويكره أن يطيب داخل عينيه؛ لأنه يفسدهما.
ويرد طرف اللفافة العليا من الجانب الأيسر على شقه الأيمن، ثم يرد طرفها
(١) رواه البخاري.
 
الأيمن على شقه الأيسر؛ لأنه عادة لبس الحي في قباء ورداء ونحوهما. ثم ترد اللفافة الثانية والثالثة كذلك. ويجعل ما عند رأس الميت من فاضل الكفن أكثر مما عند رجليه لشرفه، ولأنه أحق بالستر. ويجعل الفاضل عن وجهه ورجليه عليهما، ليصير الكفن كالكيس فلا ينتشر، ثم تعقد اللفائف إن خف انتشارها، ثم تحل العُقَد في القبر؛ لقول ابن مسعود: «إذا أدخلتم الميت اللحد، فحلوا العُقَد» (١).
وإن كفن الميت في قميص كقميص الحي بكمين ودخاريص، وفي إزار ولفافة، جاز من غير كراهة؛ لأنه ﷺ «ألبس عبد الله بن أبي قميصه لما مات» (٢)،ولا يزرُّ القميص على الميت، لعدم الحاجة.
ويحرم التكفين للرجل والمرأة بحرير ومنسوج بذهب أو فضة إلا عند الضرورة، بأن لم يوجد غيره، والتحريم للمرأة لأنه إنما أبيح لها في حال الحياة، لأنه محل الزينة والشهوة، وقد زال ذلك بموتها.

ثالثًا - ما يندب في الأكفان: 
يندب ما يأتي، مع ما ذكر من صفة الكفن ومقداره في البحث السابق:
١ً - بياض الكفن من كتان، أو قطن وهو أولى، لقوله ﷺ: «البَسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم» (٣).
(١) رواه الأثرم.
(٢) رواه البخاري.
(٣) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن الأربعة) إلا النسائي وصححه الترمذي عن ابن عباس، ورواه أيضًا الشافعي وابن حبان والحاكم والبيهقي، وصححه ابن القطان (نيل الأوطار:٣٨/ ٤).
 
٢ً - تجمير الكفن (أي تبخيره بالعود ونحوه) وترًا: أي ثلاثًا، لقوله ﷺ: «إذا أجمرتم الميت - أي بخرتموه - فأجمروه ثلاثًا» (١).
إلا المحرم فلا يُطيَّب عند الشافعية والحنابلة، لقوله ﷺ في الرجل الذي وقصته ناقته بعرفة: «اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تحنِّطوه، ولا تجمروا رأسه، فإن الله تعالى يبعثه يوم القيامة ملبيًا» (٢).
وخالف المالكية والحنفية في ذلك، وقالوا: إن قصة هذا الرجل واقعة عين لا عموم لها، فتختص به. واعتذر الداودي عن مالك فقال: إنه لم يبلغه الحديث. وأجيب بأن الحديث ظاهر في أن العلة كونه في النسك، وهي عامة في كل محرم، والأصل أن كل ما ثبت لواحد في زمن النبي ﷺ ثبت لغيره، حتى يثبت التخصيص.
ويندب أيضًا وضع الحنوط (الطيب) من كافور أو غيره داخل كل لفافة من الكفن، ويجعل على قطن يلصق بمنافذه (عينيه وأنفه وفمه وأذنيه ومخرجه) ويجعل أيضًا على مساجده (جبهته وكفيه وركبتيه وأصابع رجليه) ومغابنه (إبطيه وباطن ركبتيه ومنخره وخلف أذنيه).
٣ً - الزيادة على الكفن الواحد: فالاثنان أفضل من الواحد، وإن كان وترًا، تكريمًا وسترًا للميت.
٤ً - كون الكفن وترًا: فالثلاثة أفضل من الاثنين ومن الأربعة.
٥ً - تحسين الكفن من غير مغالاة، لقوله ﷺ: «إذا ولي أحدكم أخاه فليحسن
(١) رواه أحمد والبيهقي والبزار، قيل: ورجاله رجال الصحيح (نيل الأوطار:٤٠/ ٤).
(٢) رواه الجماعة عن ابن عباس (المصدر السابق).
 
كفنه» (١) وتحسين الكفن عند المالكية والحنفية بأن يكون ندبًا، بثياب كالثياب الشرعية التي يلبسها في الجمعة، لحصول البركة بثياب مشاهد الخير.
وعند الحنابلة يجب أن يكفن في ملبوس مثله في الجمع والأعياد، لأمر الشارع بتحسينه.
وعند الشافعية: المستحب أن يبسط أحسن الأكفان وأوسعها، لأن المراد بإحسان الكفن: بياضه ونظافته وسبوغه وكثافته، لا ارتفاعه، إذ تكره المبالغة فيه للنهي عنه، فيكون المغسول أفضل من الجديد؛ لأن مآله للبلا، والقطن أفضل من غيره؛ لأنه كفنه كان كذلك.
واتفق الكل على عدم المغالاة في الكفن، لقوله ﷺ: «لاتغلوا في الكفن، فإنه يسلب سلبًا سريعًا» (٢).

الفرض الثالث - الصلاة على الميت:
حكمها، من الأولى بها، حالة اجتماع الجنائز، أركانها، مكان وقوف الإمام من الجنازة، حالة المسبوق، شروطها، كيفيتها وسننها، وقتها، الصلاة على الميت بعد الدفن، الصلاة على الغائب، الصلاة على الميت في المسجد والمقبرة، الصلاة على المولود.
(١) رواه ابن ماجه والترمذي، وسبق ذكر رواية أخرى عن جابر عند أحمد ومسلم والترمذي (نيل الأوطار:٣٤/ ٤ ومابعدها).
(٢) رواه أبو داود عن علي، وهو حديث حسن.
 
أولًا - حكم الصلاة على الميت: 
 الصلاة على الميت غير الشهيد فرض كفاية على الأحياء بالإجماع، كالتجهيز والغسل والتكفين والدفن (١)، إذا فعلها البعض ولو واحدًا سقط الإثم عن الباقين، وهي من خصائص هذه الأمة، كالإيصاء بالثلث. وقد صلى الصحابة على النبي، وأمر النبي بالصلاة على السقط والطفل، وصلى النبي على النجاشي (٢).
وإذا أريدت الصلاة، نودي «الصلاة على الميت».
وهي عند الحنفية (٣) فرض على مسلم مات إلا أربعة: هم البغاة وقطاع الطرق، إذا قتلوا في الحرب، وأهل العُصْبة، أو أهل العصبية، والمكابر في مصر ليلًا بسلاح، أو بخناق (وهو من تكرر منه الخنِق في المصر).
أما البغاة: وهم قوم مسلمون خرجوا على طاعة الإمام بغير حق، فلا يغسلون ولا يصلى عليهم، إهانة لهم، وزجرًا لغيرهم عن فعلهم، وذلك إذا قتلوا في أثناء حربهم. أما إذا قتلوا بعد استيلاء السلطة الحاكمة عليهم، فإنهم يغسلون ويصلى عليهم؛ لأن قتلهم حينئذ للسياسة أو لكسر شوكتهم، فهو في حكم الحد، لعود نفعه إلى الجماعة.
وأما قطاع الطرق: وهم جماعة من المسلمين خرجوا على المارة بقصد أخذ
(١) الدر المختار ورد المحتار:٨١١/ ١،٨١٤، مراقي الفلاح: ص٩٨، العناية بهامش فتح القدير: ٤٥٥/ ١، المهذب:١٣٢/ ١.
(٢) روى الصلاة على النبي ابن ماجه عن ابن عباس، وروى أحمد وأبو داود الصلاة على السقط عن المغيرة، وروى أحمد والنسائي والترمذي الصلاة على الطفل، وروى أحمد والشيخان الصلاة على النجاشي (نيل الأوطار:٤١/ ٤،٤٥،٤٨).
(٣) الدر المختار:٨١٤/ ١ ومابعدها، مغني المحتاج:٣٦١/ ١.
 
أموالهم، فلايغسلون ولا يصلى عليهم كالبغاة إذا قتلوا في الحرب، ويغسلون ويصلى عليهم إذا قتلوا بعد ثبوت يد الإمام عليهم؛ لأن قتل قاطع الطريق في هذه الحالة حد أو قصاص، ومن قتل بذلك يغسل ويصلى عليه. ويكون قتله قصاصًا في حالة سقوط الحد كقطع الطريق على قريب محرم.
فلو مات واحد من البغاة أو القطاع حتف أنفه قبل الأخذ أو بعده، يصلى عليه.
وأما أهل العُصْبة أو العصبية: وهم الذين يتعاونون على الظلم، ويغضبون للقوم أو القبيلة (١)، فحكم المقتولين منهم في العصبية كحكم أهل البغي على التفصيل السابق. ومنهم الواقفون الناظرون إليهم إن أصابهم حجر أو غيره، وماتوا في تلك الحالة. أما لو ماتوا بعد تفريقهم فيصلى عليهم.
وأما المكابر في مصر بسلاح أو خنق: فهو قاطع طريق على الرأي المفتى به عند الحنفية، وهو قول أبي يوسف، إذا كان في المصر ليلًا مطلقًا، أو نهارًا بسلاح أو بتكرر الخنق منه، يقتل سياسة لسعيه بالفساد، ولدفع شره. وحكمه كقاطع الطريق، أو البغاة، لا يغسل ولا يصلى عليه.
ولا يصلى على قاتل أحد أبويه إهانة له إذا قتله الإمام قصاصًا، فإن مات حتف أنفه يصلى عليه.
ومن قتل نفسه عمدًا يغسل ويصلى عليه، على المفتى به عند الحنفية، وعند الشافعية، وإن كان أعظم وزرًا من قاتل غيره؛ لأنه فاسق غير ساع في الأرض بالفساد، وإن كان باغيًا على نفسه كسائر فساق المسلمين.
(١) العصبي: من يعين قومه على الظلم، ويغضب لعصبته، ومنه الحديث «ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية» حديث حسن رواه أبو داود عن جبير بن مطعم.
 
ورأى قوم كأبي يوسف وابن الهمام أنه لا يصلى عليه، لما في صحيح مسلم أنه ﵇ أتي برجل قتل نفسه، فلم يصل عليه (١).
وقال المالكية (٢): ولا يصلي الإمام على من قتله في حد أو قصاص، ويصلي عليه غيره، لأن رسول الله ﷺ لم يصل على ماعز، ولم ينه عن الصلاة عليه (٣).
وقال المالكية أيضًا: وينبغي لأهل الفضل أن يجتنبوا الصلاة على المبتدعة، ومظهري الكبائر، ردعًا لأمثالهم.
واستثنى الحنابلة من فرضية صلاة الجنازة الشهيد والمقتول ظلمًا، كما استثنى الجمهور غير الحنفية الشهيد كما سيأتي. وقد ثبت أنه ﷺ ترك الصلاة على الغالّ (الخائن) من الغنيمة، وقاتل نفسه (٤).

ثانيًا - من الأولى بالصلاة على الجنازة؟ للفقهاء آراء ثلاثة (٥):
الرأي الأول - للحنفية: السلطان إن حضر أو نائبه أحق بالصلاة على الميت بسبب السلطنة، ولأن في التقدم عليه ازدراء به، فإن لم يحضر فالقاضي؛ لأنه
(١) رواه مسلم عن جابر بن سمرة.
(٢) بداية المجتهد:٢٣١/ ١ ومابعدها، القوانين الفقهية: ص٩٤، شرح الرسالة:٢٧٦/ ١.
(٣) أخرجه أبو داود.
(٤) الأول رواه أحمد وأصحاب السنن إلا الترمذي عن زيد بن خالد الجهني، والثاني رواه الجماعة إلا البخاري عن جابر بن سمرة (نيل الأوطار:٤٦/ ٤ - ٤٧).
(٥) فتح القدير:٤٥٧/ ١،٤٦٣، الدر المختار:٨٢٣/ ١ ومابعدها، اللباب:١٣١/ ١ ومابعدها، مراقي الفلاح: ص٩٨، بداية المجتهد:٢٣٣/ ١، القوانين الفقهية: ص٩٤، الشرح الصغير:٥٥٨/ ١، مغني المحتاج:٣٤٦/ ١ ومابعدها، المغني:٤٨٠/ ٢ - ٤٨٥، كشاف القناع:١٢٧/ ٢.
 
صاحب ولاية، فإن لم يحضر فيقدم إمام الحي؛ لأنه رضيه في حياته، فكان أولى بالصلاة عليه في مماته، ثم يقدم الولي الذكر المكلف بترتيب عصوبة أو أولياء النكاح إلا الأب فيقدم على الابن، ويقدم الأقرب فالأقرب كترتيبهم في ولاية الزواج. ولمن له حق التقدم أن يأذن لغيره. ومن له ولاية التقدم أحق ممن أوصى له الميت بالصلاة عليه على المفتى به؛ لأن الوصية باطلة.
فإن صلى عليه غير الولي والسلطان ونائبه، فللولي إعادة الصلاة، ولو على قبره إن شاء، لأجل حقه، لا لإسقاط الفرض. وإن صلى الولي لم يجز لأحد أن يُصلي عليه بعده؛ لأن الفرض تأدى بالأول، والتنفل بالصلاة على الجنازة غير مشروع.
فإن دفن ولم يُصَلَّ عليه، صلِّي على قبره، ما لم يغلب على الظن تفسخه، لاختلاف الحال والزمان والمكان.
الرأي الثاني - للمالكية والحنابلة: أحق الناس بالصلاة على الميت: من أوصى الميت أن يصلي عليه، عملًا بفعل الصحابة، فقد أوصى أبو بكر أن يصلي عليه عمر، وعمر أوصى أن يصلي عليه صهيب، وعائشة أوصت أن يصلي عليها أبو هريرة، وأم سلمة أوصت أن يصلي عليها سعيد بن زيد ... إلخ، ثم الوالي أو الأمير، للحديث السابق: «لا يؤم الرجل الرجل في سلطانه»، ثم الأولياء العصبات على ترتيب ولايتهم في النكاح، فيقدم الأب وإن علا، ثم الابن وإن سفل، ثم الأقرب فالأقرب من العصبات، فيقدم الأخ، ثم العم ثم ابن العم، وهكذا.
لكن يقدم الأخ وابنه عند المالكية على الجد؛ لأنه يدلي بالبنوة، والجد يدلي
 
بالأبوة. ويصلي النساء في المذهب المالكية عند عدم الرجال دفعة واحدة أفذاذًا، إذ لا تصح إمامتهن لديهم.
ويقدم الأفضل فالأفضل، فيقدم الرجال على النساء، والكبار على الصغار، ومن له مزية دينية، فإن استووا قدم بالسن، فإن استووا قدم بالقرعة أو التراضي. هذا قول المالكية. وعبارة الحنابلة: يقدم الأحق بالإمامة في المكتوبات، لعموم قول النبي ﷺ: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله».
الرأي الثالث - للشافعية في الجديد: أن الولي أولى بالإمامة من الوالي، وإن أوصى الميت لغير الولي، لأن الصلاة حقه، فلا تنفذ وصيته بإسقاطها كالإرث، لأن المقصود من الصلاة على الجنازة هو الدعاء للميت، ودعاء القريب أقرب إلى الإجابة لتألمه وانكسار قلبه. وأما وصايا الصحابة بالصلاة عليهم، فمحمولة على أن أولياءهم أجازوا الوصية. فيقدم الأب، ثم الجد وإن علا، ثم الابن، ثم ابنه وإن سفل، ثم الأخ، والأظهر تقدم الأخ الشقيق على الأخ لأب، ثم ابن الأخ الشقيق، ثم لأب، ثم بقية العصبة النسبية على ترتيب الإرث، فيقدم عم شقيق ثم لأب، ثم ابن عم شقيق ثم لأب.
ثم ذوو الأرحام، يقدم الأقرب فالأقرب، فيقدم أبو الأم، ثم الأخ لأم، ثم الخال، ثم العم لأم.
ولو اجتمع وليان في درجة كابنين أو أخوين، وكلاهما صالح للإمامة، فالأسن في الإسلام العدل أولى من الأفقه ونحوه.
 
ثالثًا - حالة اجتماع الجنائز: 
اتفقت المذاهب (١) على جواز الصلاة على الجنائز المتعددة دفعة واحدة، وعلى أن إفراد كل جنازة بصلاة أفضل، ويقدم الأفضل فالأفضل؛ لأن الإفراد أكثر عملًا وأرجى قبولًا.
وفي حال اجتماع الجنائز قال الحنفية: تصف صفًا عريضًا، ويقوم الإمام عند أفضلهم، أو تصف صفًا طويلًا مما يلي القبلة، بحيث يكون صدر كل واحد منهم قدام الإمام، محاذيًا له.

رابعًا - أركان صلاة الجنازة وسننها وكيفيتها:
  لصلاة الجنازة ركنان عند الحنفية، وخمسة عند المالكية، وسبعة عند الشافعية والحنابلة.
أما مذهب الحنفية (٢): فللصلاة عندهم ركنان: التكبيرات الأربع، والقيام. والتكبيرة الأولى - تكبيرة الإحرام ركن لا شرط، فلم يجز بناء تكبيرة أخرى عليها. والتكبيرات أربع، كل تكبيرة قائمة مقام ركعة. ويجب السلام مرتين بعد التكبيرة الرابعة. فالواجب عندهم شيء واحد هو السلام، والركن: اثنان: التكبير والقيام. والنية شرط لا ركن، ولا تجوز الصلاة على الجنازة راكبًا ولا قاعدًا عذر استحسانًا.
وسنن الصلاة: ثلاث: التحميد والثناء، والدعاء فيها، والصلاة على النبي
(١) مراقي الفلاح: ص٩٩، الدر المختار:٨٢١/ ١ - ٨٢٢، القوانين الفقهية: ص٩٥، مغني المحتاج: ٣٤٨/ ١، المغني:٥٦٢/ ٢.
(٢) الدر المختار:٨١٣/ ١،٨١٦، مراقي الفلاح: ص٩٨، فتح القدير:٤٥٩/ ١ ومابعدها.
 
ﷺ، أما التحميد والثناء: فهو (سبحانك اللهم وبحمدك) بعد التكبيرة الأولى، والصلاة على النبي بعد الثانية، والدعاء للميت بعد الثالثة. ويندب أن تكون صفوف المصلين ثلاثة للحديث الآتي: «من صلى عليه ثلاثة صفوف غفر له».

وكيفيتها: 
 أن يرفع المصلي يديه في التكبيرة الأولى فقط، ويدعو بعدها بدعاء الثناء: وهو (سبحانك اللهم وبحمدك)، ثم يصلي على النبي ﷺ، كما في التشهد بعد التكبيرة الثانية؛ لأن تقديمها سنة الدعاء (١)، ثم يكبر تكبيرة يدعو فيها لنفسه وللميت وللمسلمين، ثم يكبر الرابعة ويسلم؛ لأن النبي ﷺ كبر أربعًا في آخر صلاة صلاها (٢)، فنسخت ما قبلها، فكان ما بعد التكبيرة الرابعة أوان التحلل، وذلك بالسلام. وليس بعد هذه التكبيرة دعاء إلا السلام في ظاهر الرواية. واختار بعض مشايخ الحنفية أن يقال: ﴿ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار﴾ [البقرة:٢/ ٢٠١] أو ﴿ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا .. الآية﴾ [آل عمران:٣/ ٨].
ولا قراءة ولا تشهد فيها، ولو كبر الإمام خمسًا، لم يتبع، فيمكث المؤتم حتى يسلم معه إذا سلم. ولا يتعين للدعاء شيء معين، والدعاء بالمأثور بعد التكبيرة الثالثة أحسن وأبلغ لرجاء قبوله، ومنه: «اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نُزُله، ووسِّع مَدْخله، واغسله بالماء والثلج والبَرَد، ونقِّه من الخطايا كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الدَّنَس، وأبدله دارًا خيرًا من داره،
وأهلًا خيرًا
(١) قال رسول الله ﷺ: «إذا أراد أحدكم أن يدعو فليحمد الله، وليصل على النبي، ثم يدعو».
(٢) روي من حديث ابن عباس عند الحاكم، ومن حديث عمر بن الخطاب عند البيهقي والطبراني، ومن حديث ابن أبي حثمة عند ابن عبد البر، ومن حديث أنس عند الحارث بن أبي أسامة في مسنده (نصب الراية:٢٦٧/ ٢).
 
من أهله (١) وأدخله الجنة، وقه فتنة القبر وعذاب النار» (٢).
ومن المأثور أيضًا: «اللهم اغفر لحيِّنا وميتنا وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا (٣) وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفَّيته منا، فتوفَّه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلَّنا بعده» (٤).
ولا يستغفر لمجنون وصبي، إذ لا ذنب لهما، ويقول في الدعاء: «اللهم اجعله لنا فَرَطًا، واجعله لنا أجرًا وذخرًا، واجعله لنا شافعًا ومشفعًا» (٥).
وأما مذهب المالكية (٦): فلصلاة الجنازة عندهم خمسة أركان:
أولها - النية: بأن يقصد الصلاة على هذا الميت، أو على من حضر من أموات المسلمين، ولا يشترط معرفة كونه ذكرًا أو أنثى، ولا يضر عدم استحضار أنها فرض كفاية، ولا اعتقاد الذكورة أو الأنوثة، إذ المقصود هذا الميت.
وثانيها - أربع تكبيرات، لا يزاد عليها ولاينقص عن الأربعة، كل تكبيرة بمنزلة ركعة في الجملة.
(١) المراد إبدال الأوصاف لا إبدال الذوات.
(٢) رواه مسلم والترمذي والنسائي عن عوف بن مالك، وقال: «حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت» (سبل السلام:١٠٤/ ٢).
(٣) أي ثبته عند التكليف للأفعال الصالحة، وإلا فلا ذنب له، والمراد: استيعاب الدعاء، فالمعنى: اغفر للمسلمين كلهم.
(٤) رواه مسلم وأصحاب السنن الأربعة (سبل السلام:١٠٥/ ٢) والمراد بكلمة «الإسلام» المعنى اللغوي وهو الاستسلام والانقياد لله تعالى، والمراد بكلمة «الإيمان» المعنى الشرعي وهو التصديق القلبي، والإسلام مناسب لحال الحياة: وهو الانقياد بالأعمال الظاهرة، والإيمان مناسب لحال الوفاة لأن العمل غير موجود.
(٥) فرطًا: أي أجرًا متقدمًا، والفرط: هو الذي يتقدم الإنسان من ولده، وذخرًا: ذخيرة، وشافعًا مشفعًا أي مقبول الشفاعة.
(٦) الشرح الصغير:٥٥٣/ ١ ومابعدها، القوانين الفقهية: ص٩٤، شرح الرسالة:٢٨٠/ ١ - ٢٨٤، الشرح الكبير:٤١/ ١ - ٤١٣، بداية المجتهد:٢٢٦/ ١ ومابعدها.
 
فإن زاد الإمام خامسة عمدًا أو سهوًا لم ينتظر، بل يسلّمون قبله، وصحت لهم وله أيضًا، إذ التكبير ليس كالركعات من كل وجه. فإن انتظروا سلموا معه وصحت الصلاة.
وإن نقص عن الأربع سبِّح له، فإن رجع، وكبر الرابعة كبروا معه وسلموا بسلامه، وإلا يرجع كبروا لأنفسهم وسلموا وصحت.
وإنما خالفت صلاة الجنازة غيرها؛ لأن بعض السلف كان يرى أنها أكثر من أربع تكبيرات، وبعضهم يرى أنها أقل.
ويرى الشيعة الإمامية (١) أنها خمس تكبيرات بينها أربعة أدعية، ولا يتعين دعاء. ودليل القائلين بالزيادة على أربع حديث حذيفة: أنه صلى على جنازة فكبر خمسًا، ثم التفت، فقال: ما نسيت ولاوَهِمت، ولكن كبرت كما كبر النبي ﷺ، صلى على جنازة فكبر خمسًا (٢).
ورجح جمهور أهل السنة كون التكبير أربعًا بمرجحات منها: أنها في الصحيحين، ولإجماع الصحابة على العمل بها، وأنها آخر ما وقع منه ﷺ (٣).
وثالثها: الدعاء للميت بين التكبيرات بما تيسر، ولو: «اللهم اغفر له» ويدعو بعد التكبيرة الرابعة إن أحب، وإن أحب لم يدع وسلم، والمشهور عدم وجوب الدعاء، والمختار عند الدردير: وجوب الدعاء بعد هذه التكبيرة، وليس في الصلاة قراءة الفاتحة، لكن من الورع مراعاة الخلاف.
(١) المختصر النافع في فقه الإمامية: ص٦٤.
(٢) رواه أحمد، وفي إسناده يحيى بن عبد الله الجابري، وهو متكلم عليه. وروى البخاري عن علي أنه كبر على سهل بن حنيف ستًا، وقال: إنه شهد بدرًا (نيل الأوطار:٥٩/ ٤).
(٣) أخرج الحاكم عن ابن عباس: «آخر ما كبر رسول الله ﷺ على الجنائز أربع» (نيل الأوطار:٥٨/ ٤).
 
ويثنِّي إن كان الميت اثنين، ويجمع إن كانوا جماعة، فيقول في حال التثنية: «اللهم إنهما عبداك وابنا عبيدك، وابنا أمتيك كانا يشهدان» ويقول للجماعة: «اللهم إنهم عبيدك، وأبناء عبيدك، وأبناء إمائك كانوا يشهدون» ويغلَّب الذكر على الأنثى إن اجتمع ذكور وإناث.
ودليل مشروعية الدعاء للميت حديث: «إذا صليتم على الميت، فأخلصوا له الدعاء» (١). والدعاء من الإمام والمأموم بعد كل تكبيرة، وأقله: «اللهم اغفر له» أو ارحمه وما في معناه.
وأحسنه دعاء أبي هريرة ﵁ وهو أن يقول بعد الثناء على الله تعالى، والصلاة على نبيه: «اللهم إنه عبدك وابن عبادك، وابن أمتك، كان يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبدك ورسولك، وأنت أعلم به، اللهم إن كان محسنًا فزد في إحسانه، وإن كان مسيئًا فتجاوز عن سيئاته، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده» (٢).
ويقول في المرأة: «اللهم إنها أمتك وبنت عبدك، وبنت أمتك» وفي الطفل الذكر: «اللهم إنه عبدك وابن عبدك، أنت خلقته ورزقته وأنت أمتَّه وأنت تحييه، اللهم اجعله لوالديه سلفًا وذخرًا وفرطًا (٣)، وأجرًا، وثقِّل به موازينهما، وأعظم به أجورهما، ولا تفتنا وإياهما بعده، اللهم ألحقه بصالح سلف المؤمنين في كفالة إبراهيم، وأبدله دارًا خيرًا من داره، وأهلًا خيرًا من أهله، وعافه من فتنة القبر، وعذاب جهنم».
(١) رواه أبو داود وابن حبان وابن ماجه وفيه ابن إسحاق، وقد عنعن (نيل الأوطار:٦٣/ ٤).
(٢) وروي أيضًا عن أبي قتادة، رواه أحمد والبيهقي وذكره الشافعي، وسنده ضعيف (المجموع:١٩٣/ ٥ - ١٩٥).
(٣) أي أجرًا يتقدمهما حتى يردا عليه، كما سبق بيانه. ورابعها: تسليمة واحدة يجهر بها الإمام بقدر التسميع، وندب لغير الإمام إسرارها.
 
وخامسها: قيام لها لقادر على القيام، لا لعاجز عنه.

ومندوباتها:
١ - رفع اليدين حذو المنكبين عند التكبيرة الأولى فقط.
٢ - وابتداء الدعاء بحمد الله والصلاة على نبيه ﷺ، بأن يقول: «الحمد لله الذي أمات وأحيا، والحمد لله الذي يحيي الموتى، وهو على كل شيء قدير، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم، وعلى آل براهيم، في العالمين إنك حميد مجيد».
٣ - وإسرار الدعاء.
٤ - ووقوف إمام وسط الميت الذكر، وحذو منكبي غيره من أنثى أو خنثى، جاعلًا رأس الميت عن يمين الإمام، إلا في الروضة الشريفة، فتجعل رأسه على يسار الإمام تجاه رأس النبي ﷺ، وإلا لزم قلة الأدب.
ودليلهم حديث سمرة: «أن النبي ﷺ صلى على امرأة ماتت في نفاسها، فقام عليها وسطها» (١) قال الحافظ ابن حجر في الفتح: أورد المصنف (البخاري) الترجمة، وأراد عدم التفرقة بين الرجل والمرأة، وأشار إلى تضعيف ما رواه أبو داود والترمذي عن أنس بن مالك أنه صلى على رجل، فقام عند رأسه، وصلى على امرأة فقام عند عجيزتها.
(١) رواه الجماعة وحسنه الترمذي (نيل الأوطار:٦٦/ ٤).
 
وكيفية الصلاة على المشهور:
  أن يكبر، ثم يبتدئ بحمد الله والصلاة على رسوله - الصلاة الإبراهيمية، ويدعو للميت، يقول هذا إثر كل تكبيرة، ويقول بعد الرابعة: اللهم اغفر لحينا وميتنا وحاضرنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانًا، إنك تعلم متقلبنا ومثوانا، ولوالدينا ولمن سبقنا بالإيمان وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات. اللهم من أحييته منا فأحيه على الإيمان، ومن توفيته منا، فتوفه على الإسلام، وأسعدنا بلقائك، وطيبنا للموت وطيبه لنا، واجعل فيه راحتنا ومسرتنا. ثم يسلّم.
وقال الشافعية والحنابلة (١): لصلاة الجنازة أركان سبعة إلا أن النية عند الحنابلة شرط لا ركن، كما قال الحنفية.
١ً - النية كسائر الصلوات، لقوله ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات» وصفة النية: أن ينوي الصلاة على هذا الميت، أو هؤلاء الموتى إن كانوا جماعة. وتكفي نية مطلق الفرض. ولا يجب تعيين الميت، فإن عين وأخطأ، بطلت الصلاة عند الشافعية.
ويضع يمينه على شماله بعد حطهما، أوفراغ التكبير، ويجعلهما عند الحنابلة تحت سرته، وعند الشافعية: ما بين سرته وصدره. ويتعوذ ويبسمل قبل الفاتحة، ولايستفتح أي لا يقرأ دعاء الافتتاح؛ لأنها صلاة مبنية على التخفيف، ولذلك لم يشرع فيها قراءة سورة بعد الفاتحة.
٢ً - أربع تكبيرات بتكبيرة الإحرام: لما في الصحيحين عن أنس وغيره: «أن النبي ﷺ كبر على الجنازة أربعًا» وفي صحيح مسلم: «أن النبي ﷺ نعى النجاشي
(١) مغني المحتاج:-٣٤٠/ ١ - ٣٤٢، ٣٦١، المهذب:١٣٣/ ١ ومابعدها، المجموع:١٨٤/ ٥ - ١٩٨، المغني:٤٨٥/ ٢ - ٤٩٢، ٥١٤ - ٥١٦، كشاف القناع:١٣٠/ ٢ - ١٣٥.
 
في اليوم الذي مات فيه، فخرج إلى المصلى، وكبر أربع تكبيرات» وفي مسلم أيضًا عن ابن عباس: «أنه ﷺ صلى على قبر بعدما دفن، وكبر أربعًا» (١) وقد قال ﷺ: «صلوا كما رأيتموني أصلي» فإن خمَّس الإمام لم تبطل الصلاة، في الأصح عند الشافعية، ولا يتابعه المأموم، بل يسلِّم أو ينتظره ليسلم معه.
وقال الحنابلة: إن كبر الإمام خمسًا كبر المقتدي بتكبيره، ولا تجوز الزيادة على سبع تكبيرات، ولا أنقص من أربع، والأفضل ألا يزيد على أربع خروجًا من الخلاف.
٣ً - قراءة الفاتحة بعد التكبيرة الأولى: كغيرها من الصلوات، ولخبر البخاري وغيره: «أن ابن عباس قرأ بها في صلاة الجنازة، وقال: لتعلموا أنها سنة». ومحلها بعد التكبيرة الأولى، كما روى البيهقي. والمعتمد لدى الشافعية أنه تجزئ الفاتحة بعد غير التكبيرة الأولى من الثانية والثالثة والرابعة.
٤ً - الصلاة على رسول الله ﷺ (الصلاة الإبراهيمية) بعد الثانية، لفعل السلف، والصحيح عند الشافعية أن الصلاة على الآل لا تجب. وتجب عند الحنابلة وتكون كما في التشهد، ولا يزاد عليه.
٥ً - الدعاء للميت بعد الثالثة بخصوصه؛ لأنه المقصود الأعظم من الصلاة، وما قبله مقدمة له، للحديث السابق: «إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء» وأقله: «اللهم ارحمه، واللهم اغفر له» والأكمل ما سيأتي. ولا يكفي الدعاء للمؤمنين والمؤمنات. ويجب أن يكون الدعاء بعد التكبيرة الثالثة، اتباعًا للسنة، ولا يجب بعد الرابعة.
(١) قد ثبت الأربع في رواية أبي هريرة وابن عباس وجابر (نيل الأوطار: ٤٨/ ٤ ومابعدها،٥٧).
 
٦ً - السلام بعد التكبيرات وهو في صلاة الجنازة تسليمتان كغيرها من الصلوات في كيفيته وتعدده. روى البيهقي بإسناد جيد عن ابن مسعود ﵁ قال: «كان النبي ﷺ يفعل التسليم على الجنازة مثل التسليم في الصلاة».
٧ً - القيام إن قدر عليه، كغيرها من الفرائض، ولا خلاف بين العلماء في أنه لا يجوز لأحد أن يصلي على الجنازة، وهو راكب؛ لأنه يفوت القيام الواجب.

وسننها: 
 رفع اليدين في التكبيرات حذو المنكبين، ووضعهما بعد كل تكبيرة تحت صدره عند الشافعية، وتحت سرته عند الحنابلة.
وإسرار القراءة. والأصح عند الشافعية، والحنابلة: ندب التعوذ دون الافتتاح، والتأمين بعد الفاتحة. وتسوية الصف في الصلاة على الجنازة، كما فعل النبي ﷺ في الصلاة على النجاشي، وأضاف الشافعية: التحميد قبل الصلاة على النبي ﷺ، والدعاء للمؤمنين والمؤمنات بعد الصلاة على النبي، والتسليمة الثانية. وأضاف الحنابلة: ويسن وقوف المصلي مكانه حتى ترفع الجنازة، كما روي عن ابن عمر ومجاهد، ويستحب في المذهبين ثلاثة صفوف، لحديث: «من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب» (١).
واتفق الفقهاء على أنه تسن صلاة الجنازة جماعة، لحديث «ما من مسلم يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا وجبت» (٢) وتجوز فرادى لأن النبي ﷺ مات فصلى عليه الناس فوجًا فوجًا.

كيفية الصلاة: 
يقرأ بعد التكبيرة الأولى الفاتحة فقط من غير سورة سرًا ولو
(١) رواه الخلال بإسناده، وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
(٢) حديث حسن رواه أبو داود والترمذي.
 
ليلًا، لفعل النبي ﷺ (١)، كما تقدم، ثم يصلي سرًا على النبي ﷺ بعد التكبيرة الثانية، لما روى الشافعي والأثرم بإسنادهما عن أبي أمامة بن سهل أنه أخبره رجل من أصحاب النبي ﷺ «أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سرًا في نفسه، ثم يصلي على النبي ﷺ، ويخلص الدعاء للميت، ثم يسلم» (٢).
وتكون الصلاة على النبي ﷺ، كما في التشهد؛ لأنه ﷺ لما سألوه: «كيف نصلي عليك؟ علمهم ذلك» كما تقدم، ولا يزيد على ما في التشهد.
ويدعو للميت في التكبيرة الثالثة سرًا بأحسن ما يحضره، لقوله ﷺ: «إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء» ولا تحديد في الدعاء للميت، ويسن الدعاء بالمأثور، فيقول: «اللهم اغفر لحينا وميتنا ...» و«اللهم اغفر له وارحمه ..» الخ مما سبق ذكره عند الحنفية، و«اللهم هذا عبدك وابن عبدك، خرج من روح الدنيا وسعتها، ومحبوبه وأحباؤه فيها، إلى ظلمة القبر وما هو لا قيه، كان يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبدك ورسولك وأنت أعلم به، اللهم إنه نزل بك، وأنت خير منزول به، وأصبح فقيرًا إلى رحمتك، وأنت غني عن عذابه، وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له، اللهم إن كان محسنًا فزد في إحسانه، وإن كان مسيئًا فتجاوز عن سيئاته، ولقه برحمتك رضاك، وقه فتنة القبر وعذابه، وافسح له قبره، وجاف الأرض عن جنبيه، ولقه برحمتك الأمن من عذابك، حتى تبعثه إلى جنتك يا أرحم الراحمين» (٣).
(١) رواه البخاري وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي عن ابن عباس، ورواه الشافعي في مسنده عن أبي أمامة بن سهل (نيل الأوطار:٦٠/ ٤).
(٢) نيل الأوطار:٦٠/ ٤، وفي إسناده مطرف، وقد قواه البيهقي في المعرفة من حديث الزهري، وأخرج نحوه الحاكم من وجه آخر، وأخرجه أيضًا النسائي وعبد الرزاق، قال في الفتح: وإسناده صحيح.
(٣) جمع ذلك الشافعي ﵁ من الأخبار، واستحسنه الأصحاب.
 
ويقول في الطفل: «اللهم اجعله فَرَطاَ لأبويه، وسلفًا وذخرًا، وعظة واعتبارًا، وشفيعًا، وثقِّل به موازينَهما، وأفرغ الصبر على قلوبهما» لأن ذلك مناسب للحال.
ويقول عند الشافعية بعد التكبيرة الرابعة: «اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنَّا بعده، واغفر لنا وله» ويسن أن يطول الدعاء بعد هذه التكبيرة الرابعة، لثبوته عنه ﷺ (١) ويقرأ آية: ﴿الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ..﴾ [غافر:٧/ ٤٠] الآية.
ويقف عند الحنابلة بعد التكبيرة الرابعة قليلًا. لما روى الجوزجاني عن زيد بن أرقم أن النبي «كان يكبر أربعًا، ثم يقف ما شاء الله، فكنت أحسب هذه الوقفة لتكبير آخر الصفوف» ولا يشرع بعدها دعاء.
والخلاصة: إن صلاة الجنازة تبدأ بالنية وتشتمل على أربع تكبيرات ودعاء للميت حال القيام، وصلاة على النبي ﷺ وفاتحة وسلام إلا أن النية شرط لا ركن عند الحنفية والحنابلة، ومحل الدعاء عند الجمهور بعد التكبيرة الثالثة، وعقب كل تكبيرة حتى الرابعة على المعتمد عند المالكية، والصلاة على النبي مسنونة عند الحنفية، مندوبة عند المالكية، ركن عند الآخرين، والسلام واجب عند الحنفية ركن عند الجمهور، وقراءة الفاتحة مكروهة تحريمًا بنية التلاوة جائزة بنية الدعاء عند الحنفية، ومكروهة تنزيهًا عند المالكية وركن عند الآخرين. ولو زاد الإمام عن أربع تكبيرات لا يتابعه المقتدي في الزيادة، وإنما ينتظره ليسلم معه عند الحنفية والشافعية، ويسلم عند المالكية، ويتابعه إلى سبع تكبيرات عند الحنابلة.
(١) رواه الحاكم وصححه.
 
خامسًا - مكان وقوف الإمام من الجنازة:
  اختلف الفقهاء في تحديد مكان وقوف الإمام أمام الجنازة على آراء (١):
فقال الحنفية: يندب أن يقوم الإمام بحذاء الصدر مطلقًا للرجل والمرأة؛ لأنه محل الإيمان، والشفاعة لأجل إيمانه، وعملًا بما روي عن ابن مسعود.
وقال المالكية: يقف الإمام عند وسط الرجل، وعند منكبي المرأة.
وقال الشافعية: يندب أن يقف المصلي إمامًا أو منفردًا عند رأس الرجل، وعند عجز الأنثى، أي ألياها، اتباعًا للسنة، كما روى الترمذي وحسنه، وحكمة المخالفة: المبالغة في ستر الأنثى. أما المأموم فيقف في الصف حيث كان.
وقال الحنابلة: يقوم الإمام عند صدر الرجل ووسط المرأة. ومنشأ الخلاف: اختلاف الآثار في ذلك: ففي حديث سمرة بن جندب قال: «صليت وراء رسول الله ﷺ على امرأة ماتت في نفاسها، فقام عليها رسول الله ﷺ في الصلاة وسطها» (٢) وفي حديث أبي غالب الحنَّاط قال: «شهدت أنس بن مالك صلى على جنازة رجل، فقام عند رأسه، فلما رُفِعت أُتي بجنازة امرأة، فصلى عليها، فقام وسطها، وفينا العلاء بن زياد العلوي، فلما رأى اختلاف قيامه على الرجل والمرأة، قال: يا أبا حمزة: هكذا كان رسول الله ﷺ يقوم من الرجل حيث قمتُ، ومن المرأة حيث قمتُ، قال: نعم» (٣) وفي لفظ لأبي داود: «فقال العلاء بن زياد: هكذا كان رسول الله ﷺ يصلي على الجنازة كصلاتك يكبر عليها أربعًا، ويقوم عند رأس الرجل، وعَجيزة المرأة، قال: نعم».
(١) الدر المختار:٨١٩/ ١، بداية المجتهد:٢٢٨/ ١ومابعدها، القوانين الفقهية: ص٩٥، مغني المحتاج:٣٤٨/ ١، المغني:٥١٧/ ٢، فتح القدير:٤٦٢/ ١، الشرح الكبير مع الدسوقي:٤١٨/ ١.
(٢) رواه الجماعة (نيل الأوطار:٦٦/ ٤).
(٣) رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وأبو داود (المصدر السابق).
 
فمنهم من أخذ بحديث سمرة للاتفاق على صحته، وقال: المرأة في ذلك والرجل سواء؛ لأن الأصل أن حكمهما واحد، إلا أن يثبت في ذلك فارق شرعي.
ومنهم من صحح حديث أبي غالب، وقال: فيه زيادة على حديث سمرة، فيجب المصير إليها، وليس بينهما تعارض أصلًا.

سادسًا - حالة المسبوق في صلاة الجنازة:
  اتفق الفقهاء على أن المسبوق يتابع الإمام فيما لحقه، ويتم ما فاته، ولكن لهم تفصيلات في كيفية الإتمام (١).
فقال الحنفية: المسبوق ببعض التكبيرات يكبر للتحريمة ثم لا يكبر في الحال، بل ينتظر تكبير الإمام ليكبر معه للافتتاح؛ لأن كل تكبيرة ركعة، كما سبق، ثم يكبر ما فاته كالمدرك الحاضر، بعد فراغ الإمام، تكبيرًا متتابعًا، بلا دعاء إن خشي رفع الميت على الأعناق.
أما لو جاء المسبوق بعد تكبيرة الإمام الرابعة فقد فاتته الصلاة، لتعذر الدخول في تكبيرة الإمام.
وكذلك قال المالكية: يكبر المسبوق للتحريمة، ثم يصبر وجوبًا إلى أن يكبر الإمام، فإن كبر صحت صلاته، ولا يعتد بها عند أكثر المشايخ، ثم يدعو المسبوق بعذ فراغ الإمام إن تركت الجنازة، وإلا بأن رفعت والى التكبير بلا دعاء وسلم. فالمالكية كالحنفية تمامًا.
(١) الدر المختار:٨١٩/ ١ - ٨٢١، الشرح الصغير:٥٥٦/ ١، مغني المحتاج:٣٤٤/ ١، المغني:٤٩٤/ ٢ مابعدها، كشاف القناع: ١٣٩/ ٢، القوانين الفقهية: ص٩٥، بداية المجتهد:٢٣٠/ ١.
 
وقال الشافعية: يكبر المسبوق ويقرأ الفاتحة، وإن كان الإمام في تكبيرة أخرى غير الأولى، فإن كبر الإمام تكبيرة أخرى قبل شروع المأموم في الفاتحة بأن كبر عقب تكبيره، كبر معه، وسقطت القراءة، وتابعه في الأصح، كما لو ركع الإمام عقب تكبير المسبوق، فإنه يركع معه، ويتحملها عنه. وإذا سلم الإمام وجب على المسبوق تدارك باقي التكبيرات بأذكارها.
وقال الحنابلة: من فاته شيء من التكبير قضاه متتابعًا، فإن سلم مع الإمام ولم يقض، فلا بأس وصحت صلاته، أي أن المسبوق بتكبير الصلاة في الجنازة يسن له قضاء ما فاته منها على صفته، عملًا بقول ابن عمر: إنه لا يقضي.
ولما روي عن عائشة أنها قالت: «يا رسول الله، إني أصلي على الجنازة، ويخفى علي بعض التكبير؟ قال: ما سمعت فكبري، وما فاتك فلا قضاء عليك» (١).
فإن خشي المسبوق رفع الجنازة، تابع بين التكبير من غير قراءة ولا صلاة على النبي ﷺ ولا دعاء للميت، سواء رفعت الجنازة أم لا.
ومتى رفعت الجنازة بعد الصلاة عليها لم توضع لأحد يريد أن يصلي عليها، تحقيقًا للمبادرة إلى مواراة الميت، أي يكره ذلك.

سابعًا - شروط الصلاة على الميت: 
 يشترط في المصلي لصحة صلاة الجنازة شروط الصلاة (٢) من إسلام وعقل وتمييز وطهارة وستر عورة (مع أحد العاتقين عند الحنابلة) وطهارة أو اجتناب نجاسة في البدن والثوب والمكان، واستقبال القبلة، والنية، وغيرها من الشروط إلا
(١) ذكر الحديث في المغني وكشاف القناع، المكان السابق.
(٢) رد المحتار:٨١١/ ١، القوانين الفقهية: ص٩٥، مغني المحتاج:٣٤٤/ ١، كشاف القناع:١٣٤/ ٢،١٣٦، المهذب:١٣٢/ ١،١٣٥، بداية المجتهد:٢٣٥/ ١، الشرح الصغير:٥٧٤/ ١.
 
الوقت، لأنها صلاة، فهي كغيرها من الصلوات، سوى الوقت، والجماعة فلا يشترطان فيها، أما الوقت فمطلق غير مقيد بزمن معين، وأما الجماعة فلا تشترط فيها كالمكتوبة، بل تسن لخبر مسلم: «ما من رجل مسلم يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلًا لا يشركون بالله شيئًا، إلا شفعهم الله فيه» ويسقط فرض الصلاة بواحد؛ لأن الجماعة لا تشترط فيها، ولا يسقط الفرض بالنساء، وهناك رجال، في الأصح عند الشافعية؛ لأن فيه استهانة بالميت.
وإنما صلت الصحابة على النبي ﷺ فرادى (١) - كما رواه البيهقي وغيره - لعظم أمره، وتنافسهم في ألا يتولى الإمامة في الصلاة عليه أحد، أو لأنه لم يكن قد تعين إمام يؤم القوم، فلو تقدم واحد في الصلاة، لصار مقدمًا في كل شيء وتعين للخلافة.
ويشترط على المذهب عند الشافعية ألا يتقدم المصلي على الجنازة الحاضرة، ولا على القبر إذا صلي عليه، اتباعًا لفعل السلف، ولأن الميت كالإمام.
ويشترط في الميت لفرضية الصلاة عليه ما يأتي (٢):
١ً - أن يكون الميت مسلمًا: ولو بطريق التبعية لأحد أبويه، أو للدار، فلا يصلى على كافر أصلًا لقوله تعالى: ﴿ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا﴾ [التوبة:٩/ ٨٤]، ويصلى على سائر المسلمين من أهل الكبائر والمرجوم في الزنا وغيرهم.
٢َ - أن يكون جسده هو أو أكثره موجودًا، وهذا شرط عند الحنفية والمالكية. فلا يصلى على عضو.
(١) أي جماعات بعد جماعات.
(٢) الدر المختار ورد المحتار:٨١١/ ١ - ٨١٣، القوانين الفقهية: ص ٩٣ ومابعدها، مراقي الفلاح: ص٩٨، المهذب:١٣٢/ ١، المجموع:١٦٥/ ٥، كشاف القناع:١٢٦/ ٢، المغني:٥٥٨/ ٢ وما بعدها.
 
٣ً - أن يكون حاضرًا موضوعًا على الأرض أمام المصلي، في اتجاه القبلة: وهذا شرط عند الحنفية، فلا يصلى على غائب، محمول على نحو دابة، وموضوع خلف الإمام، ووافقهم المالكية على اشتراط كون الميت حاضرًا.
وأما الصلاة على النجاشي فهي خصوصية له. وأما وضع الميت أمام المصلي فمندوب عند المالكية. وتجوز الصلاة عند الشافعية والمالكية على الميت المحمول على دابة أو أيدي الناس أو أعناقهم.
٤ً - أن يكون قبل الصلاة عليه معلوم الحياة: وهذا شرط عند الجمهور خلافًا للحنابلة، فلا يصلى على مولود ولا سِقْط، إلا إن علمت حياته بارتضاع أو حركة، أو يستهل صارخًا، كما سأبين.
٥ً - طهارة الميت: فلا تجوز الصلاة عليه قبل الغسل أو التيمم.
٦ً - ألا يكون شهيدًا: وهو من مات في معترك الجهاد، وهذا شرط عند الجمهور، فلايغسل ولا يكفن، ولا يصلى عليه، ويدفن بثيابه، وينزع عنه السلاح. وقال الحنفية: يكفن الشهيد ويصلى عليه، ولا يغسل. فإن قتل المسلم في غير الجهاد ظلمًا أو أخرج من المعترك حيًا، ولم تنفذ مقاتله، ثم مات، غسل، وصلي عليه في المشهور عند المالكية، ولدى بقية الفقهاء.
ومن قتل في المعترك في قتال المسلمين غسل وصلي عليه عند المالكية والشافعية، وقال الحنفية كما أبنت: لا يغسل ولا يصلى عليه. وقال الحنابلة: يغسل الباغي ويكفن ويصلى عليه، وأما أهل العدل فلا يغسلون ولا يكفنون ولا يصلى عليهم؛ لأنهم كالشهداء في معركة المشركين (١).
(١) الكتاب مع اللباب:١٣٦/ ١، القوانين الفقهية: ص٩٤، مغني المحتاج:٣٥٠/ ١، المغني:٥٣٤/ ٢.
 
ثامنًا - وقت الصلاة على الجنازة: 
 سبق الكلام عن ذلك في بحث الأوقات التي تكره فيها الصلاة، وملخصه (١):
قال الحنفية: يكره تحريمًا ولا يصلى على الجنازة في الأوقات الخمسة التي ورد النهي عن الصلاة فيها، وهي عند طلوع الشمس، وغروبها، واستوائها في منتصف النهار، ومابعد صلاة الصبح حتى الطلوع، وما بعد صلاة العصر حتى الغروب.
وقال المالكية والحنابلة: تحرم ولا يصلى على الجنازة في الأوقات الثلاثة التي ورد النهي عن الصلاة فيها، وهي وقت الطلوع والغروب وزوال الشمس لظاهر حديث عقبة بن عامر: «ثلاث ساعات كان رسول الله ﷺ ينهانا أن نصلي فيها وأن نقبر موتانا ..» الحديث. وتجوز الصلاة في الوقتين الآخرين وهما ما بعد صلاتي الصبح والعصر إلى الطلوع والغروب.
وقال الشافعية: يجوز فعل صلاة الجنازة في جميع الأوقات؛ لأنها صلاة لها سبب، فجاز فعلها في كل وقت.
وأرى الأخذ بمذهب الشافعية في حال الضرورة أو الحاجة، ويمتنع من الصلاة في الأحوال الأخرى، رعاية للخلاف.

تاسعًا ـ الصلاة على الميت بعد الدفن وتكرار الصلاة عليه قبل الدفن:

يكره عند الحنفية والمالكية تكرار الصلاة على الجنازة حيث كانت الأولى في
(١) انظر بداية المجتهد:٢٣٤/ ١، المهذب:١٣٢/ ١، المغني:٥٥٤/ ٢ ومابعدها.
 
جماعة، فإن لم تكن في جماعة أعيدت ندبًا بجماعة قبل الدفن (١).
وأجاز الشافعية والحنابلة تكرار الصلاة على الجنازة مرة أخرى، لمن لم يصل عليها أولًا، ولو بعد الدفن (٢)، بل يسن ذلك عند الشافعية، فقد فعله عدد من الصحابة، وفي حديث متفق عليه عن ابن عباس قال: «انتهى النبي ﷺ إلى قبر رطب، فصفوا خلفه، وكبرأربعًا».

أما الصلاة على الميت بعد الدفن: 
فجائزة باتفاق الفقهاء إذا لم يكن صلي عليه؛ لأن النبي ﷺ صلى على قبر امرأة من الأنصار (٣). ويحسن ذكر عبارات الفقهاء لمعرفة القيود الشرعية للصلاة:

قال الحنفية (٤):
  إن دفن الميت ولم يصل عليه، صلي على قبره، استحسانًا ما لم يغلب على الظن تفسخه، والمعتبر في معرفة عدم التفسخ أكبر الرأي من غير تقدير في الأصح، لاختلاف الحال والزمان والمكان.

وقال المالكية (٥): 
 إن كان لم يصل على الميت، أخرج للصلاة عليه مالم يفرغ من دفنه، فإن دفن صلي على القبر، ما لم يتغير.
(١) الشرح الصغير:٥٩٦/ ١.
(٢) المغني:٥١١/ ٢ - ٥١٢، مغني المحتاج:٣٦١/ ١.
(٣) رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك من حديث خارجة بن زيد بن ثابت (نصب الراية:٢٦٥/ ٢).
(٤) فتح القدير:٤٥٨/ ١ ومابعدها، الكتاب مع اللباب:١٣٢/ ١، مراقي الفلاح: ص٩٩، الدر المختار:٨٢٦/ ١ ومابعدها.
(٥) الشرح الكبير مع الدسوقي:٤١٢/ ١، القوانين الفقهية: ص٩٥، بداية المجتهد:٢٣٠/ ١ ومابعدها.
 
وقال الشافعية (١): 
 إذا دفن الميت قبل الصلاة، صلي على القبر؛ لأن الصلاة تصل إليه في القبر. وإن دفن من غير غسل أو إلى غير القبلة، ولم يخش عليه الفساد في نبشه، نبش وغسل ووجه إلى القبلة؛ لأنه واجب مقدور على فعله، فوجب فعله. وإن خشي عليه الفساد، لم ينبش؛ لأنه تعذر فعله، فسقط كما يسقط وضوء الحي واستقبال القبلة في الصلاة إذا تعذر.
وإن أدخل القبر ولم يهل التراب عليه، يخرج ويصلى عليه.

وقال الحنابلة (٢): 
 إذا دفن الميت غير متوجه إلى القبلة، أو قبل الصلاة عليه، نبش ووجه إليها، تداركًا لذلك الواجب، وصلي عليه، ليوجد شرط الصلاة. كذلك يخرج ليكفن إن دفن قبل تكفينه.
ودليلهم على الصلاة: أن النبي ﷺ ذكر رجلًا مات، فقال: «فدلوني على قبره، فأتى قبره، فصلى عليه» (٣).
لكن لا يصلى على القبر بعد شهر، لما روى سعيد بن المسيب «أن أم سعد ماتت والنبي ﷺ غائب، فلما قدم صلى عليها، وقد مضى لذلك شهر» (٤) قال أحمد: أكثر ما سمعنا أن النبي ﷺ صلى على قبر أم سعد بن عبادة بعد شهر. ولأنها مدة يغلب على الظن بقاء الميت فيها، فجازت الصلاة عليه فيها كما قبل الثلاث، وكالغالب.
وقبر النبي ﷺ لا يصلى عليه؛ لأنه لا يصلى على القبر بعد شهر (٥).
(١) المهذب:١٣٨/ ١، المجموع:٢٦٤/ ٥.
(٢) كشاف القناع:٩٧/ ٢، المغني:٥١١/ ٢،٥١٩.
(٣) متفق عليه (نيل الأوطار: ٥١/ ٤).
(٤) أخرجه الترمذي (المصدر السابق).
(٥) عن ابن عباس: «أن النبي ﷺ صلى على قبر بعد شهر». وعنه «أن النبي ﷺ صلى على ميت بعد ثلاث» رواهما الدارقطني (نيل الأوطار:٥١/ ٤).
 
عاشرًا - الصلاة على الغائب: 
 للفقهاء رأيان في الصلاة على الغائب عن البلد (١):
رأي الحنفية والمالكية: عدم جواز الصلاة على الغائب، وصلاة النبي على النجاشي لغوية أو خصوصية، وتكون الصلاة حينئذ مكروهة.
ورأى الشافعية والحنابلة: جواز الصلاة على الميت الغائب عن البلد، وإن قربت المسافة، ولم يكن في جهة القبلة، لكن المصلي يستقبل القبلة، لما روى جابر: «أن النبي ﷺ صلى على أصحمة النجاشي، فكبر عليه أربعًا» (٢).
وتتوقت الصلاة على الغائب عند الحنابلة بشهر، كالصلاة على القبر؛ لأنه لا يعلم بقاؤه من غير تلاش أكثر من ذلك.

الحادي عشر - الصلاة على المولود:
يصلى على المولود أو السقط عند الحنابلة (٣) إذا ولد لأكثر من أربعة أشهر، ويغسل أيضًا، والسقط: الولد تضعه المرأة ميتًا، أو لغير تمام، فأما إن خرج حيًا واستهل فإنه يغسل ويصلى عليه بغير خلاف.
واستدلوا بقول النبي ﷺ: «والسقط يصلى عليه، ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة» (٤) وفي لفظ رواية النسائي والترمذي: «والطفل يصلى عليه» وقال
(١) الدر المختار:٨١٣/ ٤١، القوانين الفقهية: ص٩٤، الشرح الصغير:٥٧١/ ١، المجموع:٢٠٩/ ٥، المهذب:١٣٤/ ١، مغني المحتاج:٣٤٥/ ١، المغني:٥١٢/ ٢ ومابعدها، كشاف القناع:١٢٦/ ٢.
(٢) متفق عليه، وروى أحمد مثله عن أبي هريرة، كما روى ذلك أحمد والنسائي والترمذي وصححه (نيل الأوطار:٤٨/ ٤ ومابعدها).
(٣) المغني:٥٢٢/ ٢، كشاف القناع:١١٦/ ٢ ومابعدها.
(٤) رواه أحمد والنسائي وأبو داود والترمذي، وقال عن حديثه: هذا حديث حسن صحيح.
 
أبو بكر الصديق ﵁: «ما أحد أحق أن يصلى عليه من الطفل»، ولأنه نسمة نفخ فيه الروح، فيصلي عليه كالمستهل، فإن النبي ﷺ أخبر في حديثه الصادق المصدوق أنه ينفخ فيه الروح لأربعة أشهر.
وقال الجمهور (١): يصلى على المولود إن ظهرت عليه أمارات الحياة. وعباراتهم ما يأتي:
قال الحنفية: إن استهل المولود سمي وغسل وصلي عليه، واستهلال الصبي: أن يرفع صوته بالبكاء عند الولادة، أو أن يوجد منه ما يدل على حياته بعد خروج أكثره. وإن لم يستهل غسل وسمي في الأصح المفتى به على خلاف ظاهر الرواية، ويدرج في خرقة إكرامًا لبني آدم، ولم يصل عليه.
ودليلهم حديث علي: أنه سمع سمع رسول الله ﷺ يقول في السقط: «لا يصلى عليه حتى يستهل، فإذا استهل صلي عليه، وعُقل، وورِّث، وإن لم يستهل لم يصل عليه، ولم يورث ولم يُعقل» (٢) أي لادية له وهي خمسون دينارًا.
وقال الشافعية: السقط إن استهل أو بكى ككبير، فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن لتيقن موته بعد حياته. وإن لم يستهل أو لم يبك: فإن ظهرت أمارة الحياة كاختلاج صلِّي عليه في الأظهر، لاحتمال الحياة بهذه القرينة الدالة عليها وللاحتياط. وإن لم تظهر لم يصل عليه، وإن بلغ أربعة أشهر في الأظهر.
(١) فتح القدير:٤٦٥/ ١، الدر المختار:٨٢٨/ ١ - ٨٣٠، مراقي الفلاح: ص٩٩ ومابعدها، الشرح الصغير:٥٧٤/ ١، القوانين الفقهية: ص٩٣ ومابعدها، مغني المحتاج:٣٤٩/ ١، المهذب:١٣٤/ ١، بداية المجتهد: ٢٣٢/ ١ ومابعدها.
(٢) رواه ابن عدي، وروى أيضًا مثله عن ابن عباس بلفظ «إذا استهل الصبي صلي عليه، وورث» وروى الترمذي والنسائي وابن ماجه عن جابر موقوفًا عليه في الأصح: «الطفل لا يصلى عليه، ولا يرث، ولا يورث حتى يستهل» (نصب الراية:٢٧٧/ ٢ - ٢٧٨).
 
والسقط: هو الذي لم يبلغ تمام أشهره، أما من بلغها فيصلى عليه مطلقًا. ودليلهم حديث المغيرة بن شعبة عن النبي ﷺ قال: «السقط يصلى عليه، ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة» (١) وحديث «صلوا على أطفالكم فإنها من أفراطكم» (٢).
وقال المالكية: يصلى على المولود أو السقط إن علمت حياته بارتضاع أو حركة أو يستهل صارخًا. ويكره غسله والصلاة عليه إن لم يستهل صارخًا، ولو تحرك أو بال أو عطس إن لم تتحقق حياته. ويغسل دم السقط ويلف بخرقة ويوارى وجوبًا فيهما، وندبًا في الأول: وهو الغسل.

الثاني عشر - مكان الصلاة:
يصلى على الميت في المصلى، كما فعل النبي ﷺ حينما برز للمصلى في صلاته على النجاشي.

وأما الصلاة في المقبرة على الجنازة
 فهي - كما بينا في مكروهات الصلاة - مكروهة عند الحنفية والشافعية للنهي الوارد عن الصلاة فيها: «نهي ﷺ عن الصلاة في سبعة مواطن: في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق، وفي الحمام، وفي معاطن الإبل، وفوق بيت الله العتيق» ولقول النبي ﷺ: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام» (٣).
وأجاز المالكية والحنابلة الصلاة على الجنازة في المقبرة، لعموم قوله ﵊: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا».
(١) أخرجه أصحاب السنن الأربعة، وقال عنه الترمذي: حديث حسن صحيح، ورواه الحاكم، وقال: على شرط البخاري، وفي سنده اضطراب (نصب الراية:٢٧٩/ ٢).
(٢) حديث ضعيف أخرجه ابن ماجه عن أبي هريرة (المصدر السابق).
(٣) الحديث الأول رواه الترمذي، وقال: إسناده ليس بالقوي، والحديث الثاني رواه أحمد وابن حبان والترمذي وأبو داود وابن ماجه عن أبي سعيد.
 
واستثنى الشافعية من الكراهة مقابر الأنبياء وشهداء المعركة لأنهم أحياء في قبورهم (١). ويكره استقبال القبر في الصلاة لخبر مسلم: «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها» ويحرم استقبال قبره ﷺ وقبور سائر الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام (٢). ورأي المالكية والحنابلة أقوى في تقديري لعدم صحة حديث النهي عن الصلاة في الأماكن السبعة. وأما الحديث الثاني فيحتمل تخصيص صلاة الجنازة منه.

وأما الصلاة على الجنازة في المسجد:
ففيها رأيان: الكراهة عند الحنفية والمالكية، والجواز عند الشافعية والحنابلة (٣).
أما الاتجاه الأول وهو كراهة الصلاة، سواء أكانت الجنازة في المسجد أم خارجه، فلحديث أبي هريرة: «من صلى على ميت في المسجد، فلا شيء له» (٤)، ولأن المسجد بني لأداء المكتوبات وتوابعها كنافلة وأذكار وتدريس علم، ولأنه يحتمل تلويث المسجد، والكراهة تحريمية عند الحنفية، تنزيهية عند المالكية.
وكما تكره الصلاة على الجنازة في المسجد، يكره إدخالها فيه.
وأما الاتجاه الثاني: وهو إباحة الصلاة على الجنازة في المسجد، بل إنه
(١) البدائع:١١٥/ ١، بداية المجتهد:٢٣٥/ ١، مغني المحتاج:٢٠٣/ ١، المغني:٢٩٤/ ٢.
(٢) مغني المحتاج: المكان السابق.
(٣) الدر المختار:٨٩/ ١، فتح القدير:٤٦٣/ ١ ومابعدها، اللباب:١٣٣/ ١، مراقي الفلاح: ص ٩٩، بداية المجتهد:٢٣٤/ ١، القوانين الفقهية: ص٩٥، الشرح الصغير:٥٦٨/ ١، مغني المحتاج:٣٦١/ ١، المهذب:١٣٢/ ١، المغني:٤٩٣/ ٢.
(٤) رواه أبو داود وابن ماجه وابن عدي، وابن أبي شيبة، ولفظ الأخير «فلا صلاة له» وهو ضعيف (نصب الراية:٢٧٥/ ٢، نيل الأوطار:٦٨/ ٤ ومابعدها).
 
يستحب ذلك عند الشافعية إن لم يخش تلويثه، فلأن المسجد أشرف، وعملًا بما ثبت في السنة عن عائشة: «والله لقد صلى رسول الله ﷺ على ابني بيضاء في المسجد: سهيل وأخيه» وفي رواية: «ما صلى رسول الله ﷺ على سهيل بن البيضاء إلا في جوف المسجد» (١)، وصلي على أبي بكر وعمر في المسجد» (٢).
ويظهر لي أن الاتجاه الثاني أقوى؛ لأن حديث أبي هريرة غير ثابت، أو غير متفق على ثبوته، قال النووي: إنه ضعيف لا يصح الاحتجاج به. وقال أحمد بن حنبل: حديث ضعيف تفرد به صالح مولى التوءمة، وهو ضعيف.

الفرض الرابع - دفن الميت:

وفيه بحث ما يأتي:

أولًا - حمل الميت لغير بلد موته، ثانيًا - حمل الجنازة، ثالثًا - سنن الجنازة، رابعًا - وجوب الدفن وندب تعجيله، خامسًا - مكروهات الجنازة، سادسًا - صفة القبور واحترامها والجلوس عليها والاتكاء عليها، وما يوضع على القبر من آس ونحوه، وما يكتب عليه وعلى الكفن، سابعًا - أحكام الدفن (كيفيته، مكانه، زمنه، ما يقال عند الدفن، التلقين بعد الدفن، ستر القبر، الدفن في تابوت)، ثامنًا - زيارة القبور للرجال والنساء والسلام على الميت، واجتماع الأرواح.

أولًا - حمل الميت لغير بلد موته:
  للفقهاء آراء ثلاثة في نقل الميت لغير بلد موته: الكراهة لغير غرض صحيح، والإباحة، والتحريم (٣):
(١) اللفظ الأول رواه مسلم، والثاني رواه الجماعة إلا البخاري (نيل الأوطار:٦٨/ ٤، نصب الراية:٢٧٦/ ٢).
(٢) رواه سعيد وروى الثاني مالك (نيل الأوطار، المكان السابق).
(٣) كشاف القناع:٩٧/ ٢ - ٩٨، المغني:٥١٠/ ٢ ومابعدها، القوانين الفقهية: ص٩٦، مراقي الفلاح: ص١٠٢، رد المحتار والدر المختار:٨٤٠/ ١، مغني المحتاج:٣٦٥/ ١.
 
فقال الحنابلة: السنة دفن الميت في مكان صرعه أو موته، لقوله ﷺ: «تدفن الأجساد حيث تفيض الأرواح» (١)، وحمل الميت إلى غير بلده لغير حاجة مكروه، لما نقل عن عائشة أنه «لما مات عبد الرحمن بن أبي بكر بالحبَش - وهو مكان بينه وبين المدينة اثنا عشر ميلًا - ونقل إلى مكة، أتت قبره، وقالت: والله لو حضرتك مادفنتك إلا حيث مت، ولو شهدتك ما زرتك» (٢) وهو محمول على أنها لم تر غرضًا في نقله، وأنه تأذى به.
فإن كان النقل لغرض صحيح فلا كراهة، لما في الموطأ عن مالك أنه سمع غير واحد يقول: «إن سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد ماتا بالعقيق، فحملا إلى المدينة، ودفنا بها» وقال سفيان بن عيينة: مات ابن عمر ههنا، وأوصى أن لا يدفن ههنا، وأن يدفن بسَرَف (٣).
وقال الحنفية والمالكية: لا بأس بنقل الميت من بلد إلى آخر إن كان لم يدفن، والنقل عند الحنفية جائز قدر ميل أو ميلين، لكن يندب دفنه في جهة موته، أي في مقابر أهل المكان الذي مات فيه أو قتل، للحديث السابق أنه ﷺ أمر بدفن قتلى أُحد في مضاجعهم، مع أن مقبرة المدينة قريبة، ودفنت الصحابة الذين فتحوا دمشق عند أبوابها، ولم يدفنوا كلهم في محل واحد.
وقال الشافعية: يحرم نقل الميت قبل دفنه إلى بلد آخر، ليدفن فيه، وإن لم يتغير، لما فيه من تأخير دفنه، ومن التعريض لهتك حرمته.
(١) روى الخمسة (أحمد وأصحاب السنن الأربعة) وصححه الترمذي عن جابر قال: «أمر رسول الله ﷺ بقتلى أحد أن يردوا إلى مصارعهم، وكانوا نقلوا إلى المدينة» وروى البزار بإسناد حسن عن أبي سعيد مثله (نيل الأوطار: ١١٢/ ٤، مجمع الزوائد:٤٣/ ٣).
(٢) رواه الترمذي.
(٣) ذكره ابن المنذر.
 
ثانيًا - حمل الجنازة وكيفيته: 
حمل الجنازة فرض كفاية بلا خلاف، وهو بر وطاعة وإكرام للميت. وقال الشافعية: لا بأس باتباع المسلم جنازة قريبه الكافر، لأنه ﵊ فيما رواه أبو داود - أمر عليًا ﵁ أن يواري أبا طالب.
وقالوا أيضًا: يحرم حمل الجنازة على هيئة مزرية كحمله في قفة أو غِرارة (جوالق) ونحو ذلك، ويحمل على سرير أو لوح أو محمل، ولا خلاف في أنه لا يحمل الجنازة إلا الرجال، سواء أكان الميت ذكرًا أم أنثى؛ لأن النساء يضعفن عن الحمل، وربما انكشف منهن شيء لو حملن.
وللفقهاء آراء ثلاثة في كيفية حمل الميت: التربيع عند الحنفية والحنابلة، وما بين العمودين عند الشافعية، وعدم ترتيب وضع معين على المشهور عند المالكية (١).
أما الحنفية والحنابلة فقالوا: يوضع الميت على النعش بعد أن يغسل ويكفن، مستلقيًا على ظهره؛ لأنه أمكن، ويسن أن يحمله أربع؛ لأنه يسن التربيع في حمله، والتربيع أفضل من الحمل بين العمودين، لحديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، قال: «من اتبع جنازة فليحمل بجوانب السرير كلها، فإنها من السنة، ثم إن شاء فليطَّوَعْ، وإن شاء فليدع» (٢).
(١) الدر المختار:٨٣٣/ ١، فتح القدير:٤٦٧/ ١،٤٦٩،الكتاب مع اللباب:١٣٣/ ١ وما بعدها، مراقي الفلاح: ص١٠٠، القوانين الفقهية: ص٩٦، الشرح الصغير:٥٦٥/ ١، المهذب:١٣٥/ ١، كشاف القناع:١٤٦/ ٢ ومابعدها، المجموع:٢٣٣/ ٥، المغني:٤٧٨/ ٢، مغني المحتاج:٣٥٩/ ١.
(٢) رواه سعيد بن منصور وابن ماجه، وإسناده ثقات، إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه.
 
وصفة التربيع: أن يضع النعش اليسرى على كتفه اليمنى، ثم ينتقل إلى قائمة السرير المؤخرة، فيضعها على كتفه اليمنى أيضًا، ثم يدعها لغيره، ثم يضع قائمته اليمنى على كتفه اليسرى، ثم يدعها لغيره، وينتقل إلى قائمة السرير اليمنى، فيضعها على كتفه اليسرى. فتكون البداءة من الجانبين بالرأس، والختام من الجانبين بالرجلين، لما فيها من الموافقة لكيفية غسله.
ويمشي في كل مرة عشر خطوات، لحديث: «من حمل جنازة أربعين خطوة، كفرت عنه أربعين كبيرة» (١).
وإن حمل الميت بين العمودين وهما القائمتان، كل عمود على عاتق رجل كره عند الحنفية، وكان حسنًا، ولم يكره عند الحنابلة، لرواية ابن منصور، ولأنه ﷺ «حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين» (٢)، وروي عن عثمان وابن الزبير وابن عمر وأبي هريرة «أنهم فعلوا ذلك» (٣).
وقال الشافعية: الحمل بين العمودين أفضل من التربيع، وهو أن يجعل الحامل رأسه بين عمودي مقدمة النعش، ويجعلهما على كاهله.
ويجوز الحمل من الجوانب الأربعة، لكن الأول أفضل؛ لأن النبي ﷺ حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين، ولفعل الصحابة المذكورين.
وقال المالكية: ليس في حمل الجنازة ترتيب معين على المشهور، فيجوز البدء في حمل السرير بأي ناحية بلا تعيين، قال خليل: والمعين مبتدع؛ لأنه عين ما لا أصل له في الشرع، ويجوز أن يحمل النعش اثنان أو ثلاثة أو أربعة.
(١) ذكره الزيلعي والكاساني في البدائع. وذكر ابن عباس عن واثلة: «من حمل بجوانب السرير الأربع، غفر له أربعون كبيرة» وهو ضعيف.
(٢) ذكره الشافعي في المختصر والبيهقي في كتاب المعرفة، وأشار إلى تضعيفه.
(٣) رواها الشافعي والبيهقي بأسانيد ضعيفة إلا أثر سعد فصحيح.
 
ثالثًا - سنن تشييع الجنازة: يسن في حمل الجنازة ما يأتي:
 
١ - الإسراع بالجنازة: 
يستحب الإسراع بالجنازة (أي فوق المشي المعتاد، ودون الخَبَب - أي العَدْو السريع - لكراهته) بحيث لا يضطرب الميت على الجنازة، لما روى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: «أسرعوا بالجنازة، فإن تكن صالحة فخير تقدمونها، وإن تكن سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم» (١)، وكراهة الخبب لما روى عبد الله بن مسعود، قال: «سألنا رسول الله ﷺ عن السير بالجنازة، فقال: دون الخبب، فإن يكن خيرًا يعجل إليه، وإن يكن شرًا، فبعدًا لأصحاب النار» (٢).
واستحباب الإسراع باتفاق العلماء إلا أن يخاف من الإسراع انفجار الميت أو تغيره ونحوه، فيتأنى (٣).

٢ - اتباع الجنازة: 
 يستحب اتباع الجنازة اتفاقًا (٤)، لما روى البراء قال: «أمرنا رسول الله ﷺ باتباع الجنازة، وعيادة المريض، وتشميت العاطس، وإجابة الداعي، ونصر المظلوم» (٥). واتباع الجنازة سنة للرجال، كما في الحديث المتقدم، مكروه للنساء، لما رواه البخاري ومسلم عن أم عطية ﵂ قالت: «نهينا عن اتباع الجنائز ولم يُعزَم علينا» أي لم يشدد علينا في النهي، ولم يحرم علينا
(١) رواه البخاري وهذا لفظه، ومسلم أيضًا ولفظه «فخيرًا تقدمونها عليه».
(٢) رواه أبو داود والترمذي والبيهقي وغيرهم، واتفقوا على تضعيفه، وروى أحمد عن أبي موسى حديث «عليكم القصد» وهو ضد الإفراط (نيل الأوطار:٧٠/ ٤).
(٣) اللباب:١٣٤/ ١، الشرح الكبير:٤١٨/ ١، المهذب:١٣٥/ ١، المغني:٤٧٢/ ٢ - ٤٧٣.
(٤) الدر المختار:٨٣٣/ ١، الشرح الكبير:٤١٨/ ١، المهذب:١٣٦/ ١، مغني المحتاج:٣٦٧/ ١، المجموع:٢٨٦/ ٥، المغني:٤٧٣/ ٢.
(٥) رواه الجماعة، منهم البخاري ومسلم (نيل الأوطار:٧٠/ ٤).
 
الاتباع.
وروى ابن ماجه عن علي ﵁ قال: «خرج علينا رسول الله ﷺ، فإذا نسوة جلوس، فقال: ما يجلسكن؟ قلن: ننتظر الجنازة، قال: هل تغَسِّلن؟ قلن: لا، قال: هل تَحمِلْنَ؟ قلن: لا، قال: هل تُدْلينَ فيمن يُدْلي؟ أي هل تنزلن الميت في القبر - قلن: لا، قال: فارجِعْن مأزورات غير مأجورات» أي عليكن الإثم، ولا أجر لكنّ.
ويتطلب اتباع الجنازة أمورًا ثلاثة:
أـ أن يصلي عليها: قال زيد بن ثابت: إذا صليت فقد قضيت الذي عليك.
ب - أن يتبعها إلى القبر، ثم يقف حتى تدفن، لحديث أبي هريرة: «من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط، وإن شهد دفنها فله قيراطان، القيراط مثل أحد» (١).
جـ - أن يقف بعد الدفن، فيستغفر له، ويسأل الله له التثبيت، ويدعو له بالرحمة، فإنه روي عن النبي ﷺ أنه كان إذا دفن ميتًا، وقف، وقال: «استغفروا له، واسألوا الله له التثبيت، فإنه الآن يسأل» (٢) وروي عن ابن عمر أنه كان يقرأ عنده بعد الدفن أول البقرة وخاتمتها.
وروى مسلم عن عمرو بن العاص أنه قال: «إذا دفنتموني، فأقيموا بعد ذلك حول قبري ساعة قدر ما تنحر جزور، ويفرّق لحمها حتى أستأنس بكم، وأعلم ماذا أراجع رسل ربي».

٣ - الخشوع والتفكر بالموت: 
 يستحب لمتبع الجنازة (٣) أن يكون متخشعًا، متفكرًا في مآله، متعظًا بالموت، وبما يصير إليه الميت، ولا يتحدث بأحاديث
(١) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لهما: «القيراطان مثل الجبلين العظيمين».
(٢) رواه أبو داود والبزار، وقال الحاكم: إنه صحيح الإسناد.
(٣) المغني:٤٧٤/ ٢.
 
الدنيا، ولا يضحك. قال سعد بن معاذ: «ما تبعت جنازة فحدثت نفسي بغير ما هو مفعول بها» ورأى بعض السلف رجلًا يضحك في جنازة، فقال: أتضحك وأنت تتبع الجنازة؟ لا كلمتك أبدًا.

٤ - ستر نعش المرأة: 
يندب عند المالكية والشافعية والحنابلة (١) ستر نعش المرأة بقُبَّة تجعل فوق ظهر النعش، تعمل من خشب أو جريد نخل أو قصب، لأنه أبلغ في الستر، قال بعضهم: أول من اتخذ له ذلك زينب بنت جحش أم المؤمنين، وقال ابن عبد البر: فاطمة بنت رسول الله ﷺ أول من غُطِّي نعشها في الإسلام، ثم زينب بنت جحش.

٥ - المشي أمام الجنازة:
 يسن عند فقهاء الحديث (مالك والشافعي وأحمد) (٢) المشي أمام الجنازة، وبقربها بحيث يراها إن التفت لأنه إذا بعد لم يكن معها، والمشي أمامها، لما روى ابن عمر: «أنه رأى النبي ﷺ وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة» (٣) ولأن المشيع شفيع للميت، والشفيع يتقدم على المشفوع له.
وأضاف الحنابلة: ولا يكره كون المشاة خلف الجنازة؛ لأنها متبوعة، ولا أن يمشوا حيث شاؤوا عن يمينها أو يسارها بحيث يعدّون تابعين لها. وذكر المالكية على المشهور: أن الراكب يسير خلف الجنازة.
وقال فقهاء الرأي منهم الحنفية (٤): يندب المشي خلف الجنازة؛ لأنها
(١) الشرح الكبير:٤١٨/ ١، كشاف القناع:١٤٦/ ٢، مغني المحتاج:٣٥٩/ ١.
(٢) بداية المجتهد:٢٢٥/ ١، المهذب:١٣٦/ ١، المغني:٤٧٤/ ٢، كشاف القناع:١٤٩/ ٢، المجموع:٢٣٨/ ٥، القوانين الفقهية: ص٩٦.
(٣) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) واحتج به أحمد (نيل الأوطار:٧١/ ٤).
(٤) الدر المختار:٨٣٤/ ١، مراقي الفلاح: ص ١٠١.
 
متبوعة (١)، إلا أن يكون خلفها نساء فالمشي أمامها حسن، ولو مشى أمامها جاز، وفيه فضيلة أيضًا، لكن إن تباعد عنها أو تقدم الكل أو ركب أمامها، أو فيها كره.
ودليلهم حديث ابن مسعود المتقدم: «سألنا النبي ﷺ عن المشي خلف الجنازة، فقال: ما دون الخبب» فقرر قولهم: خلف الجنازة، ولم ينكره، وحديث طاوس أنه قال: «ما مشى رسول اصلّى الله عليه وسلم حتى مات خلف الجنازة» (٢).
ويظهر أن كلًا من المشي أمام الجنازة أو خلفها جائز، لحديث المغيرة بن شعبة: عن النبي ﷺ قال: «الراكب خلف الجنازة، والماشي أمامها قريبًا منها عن يمينها أو عن يسارها، والسِقْط يُصلَّى عليه، ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة» (٣).

- القيام للجنازة: 
 قال النووي وجماعة: يخير المسلم بين القيام والقعود (٤)، روى ابن عمر عن عامر بن ربيعة عن النبي ﷺ قال: «إذا رأيتم الجنازة، فقوموا لها حتى يُخلّفكَم أو توضع» (٥).
وقال الجمهور منهم أئمة المذاهب الأربعة (٦): لا يقام للجنازة؛ لأن القيام منسوخ، بدليل قول علي ﵁: «كان رسول الله ﷺ أمرنا بالقيام في الجنازة، ثم جلس بعد ذلك، وأمرنا بالجلوس» (٧) وسبب القعود مخالفة اليهود،
(١) هذا إشارة لحديث البراء بن عازب المتقدم: «أمرنا رسول الله ﷺ باتباع الجنائز».
(٢) قال الشوكاني: وهذا مع كونه مرسلًا، لم أقف عليه في شيء من كتب الحديث (نيل الأوطار:٧٢/ ٤).
(٣) رواه أحمد وأصحاب السنن، وصححه ابن حبان والحاكم (نيل الأوطار:٤٥/ ٤،٧٢).
(٤) المجموع:٢٣٩/ ٥.
(٥) رواه الجماعة (نيل الأوطار:٧٥/ ٤).
(٦) القوانين الفقهية: ص ٩٦، المغني:٤٧٩/ ٢، الشرح الصغير:٥٧٠/ ١، الدر المختار:٨٣٤/ ١، المجموع، المكان السابق، نيل الأوطار:٧٦/ ٤.
(٧) رواه أحمد وأبو داود، وابن ماجه بنحوه (نيل الأوطار: المكان السابق).
 
قال عبادة بن الصامت: «كان رسول الله ﷺ يقوم في الجنازة حتى توضع في اللحد، فمر حَبْر (عالم) من اليهود، فقال: هكذا نفعل، فجلس رسول الله ﷺ، وقال: اجلسوا خالفوهم» (١)، وصرح المالكية بكراهة القيام للجنازة؛ لأنه ليس من عمل السلف.

٧ - عدم جلوس المشيعين حتى توضع الجنازة: 
 المستحب لمن يتبع الجنازة ألا يجلس حتى توضع عن أعناق الرجال؛ لأنه قد تقع الحاجة إلى التعاون، والقيام أمكن منه (٢)، ولحديث: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها، فمن اتَّبعها فلا يجلس حتى توضع» (٣) أي في الأرض، كما في رواية أبي داود.
ولا مانع ولا كراهة من تشييع المسلم جنازة قريبه الكافر.

رابعًا - مكروهات الجنازة: 
 ذكر الفقهاء طائفة من مكروهات الجنازة، أهمها ما يأتي (٤):
١ - تأخير الصلاة والدفن، لزيادة المصلين أو ليصلي عليه جمع عظيم بعد صلاة الجمعة، إلا إذا خيف فوتها بسبب دفنه، للخبر الصحيح: «أسرعوا بالجنازة» ولا بأس بانتظار الولي عن قرب ما لم يخش تغير الميت، وقال المالكية: ويكره
(١) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والبيهقي، وإسناده ضعيف.
(٢) فتح القدير:٤٦٩/ ١، المغني:٤٨٠/ ٢، المهذب:١٣٦/ ١.
(٣) رواه الجماعة إلا ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري (نيل الأوطار:٧٤/ ٤).
(٤) الدر المختار:٨٣٣/ ١ - ٨٣٥، الكتاب مع اللباب:١٣٤/ ١، فتح القدير:٤٦٩/ ١، الشرح الصغير:٥٦٦/ ١،٥٦٨ - ٥٧٤، المهذب:١٣٦/ ١، المجموع:٢٣٧/ ٥ - ٢٤٠، مغني المحتاج:٣٥٩/ ١ ومابعدها، المغني:٤٧٥/ ٢ - ٤٧٧،٤٨٠، كشاف القناع:١٤٩/ ٢ ومابعدها، الشرح الكبير:٤٢١/ ١ - ٤٢٤.
 
للمشيعين الانصراف عن الجنازة بلا صلاة عليها ولو بإذن أهلها، والانصراف بعد الصلاة بلا إذن من أهلها إن لم يطولوا، فإن أذنوا أو طولوا جاز الانصراف.
٢ - الجلوس قبل وضع الجنازة على الأرض، والقيام بعده. ولايقوم أحد في المصلى إذا رأى الجنازة، ولا من مرت عليه، كما بينت في البحث السابق.
٣ - الركوب: السنة ألا يركب؛ لأن النبي ﷺ «ما ركب في عيد، ولاجنازة» (١) وقال ثوبان: «خرجنا مع النبي ﷺ في جنازة، فرأى ناسًا رُكبانًا، فقال: ألا تستحيون، إن ملائكة الله على أقدامهم، وأنتم على ظهور الدواب» (٢).
أما الركوب في الرجوع فلا بأس به، لحديث جابر بن سمرة أن «النبي ﷺ أُتي بفرس مُعْرَوْر (أي عريان)، فركبه حين انصرفنا من جنازة ابن الدحداح، ونحن نمشي حوله» (٣).
٤ - اللَّغَط أي رفع الصوت بذكر أو قراءة والصياح خلف الجنازة، كقول: «استغفروا لها» ونحوه، لما روى البيهقي أن الصحابة كرهوا رفع الصوت عند الجنائز عند القتال وعند الذكر، وسمع ابن عمر قائلًا يقول: «استغفروا له غفر الله لكم، فقال: لا غفر الله لك» (٤) وكره الحسن وغيره قولهم: «استغفروا لأخيكم».
والصواب ما كان عليه السلف من السكوت في حال السير مع الجنازة والاشتغال بالتفكر في الموت وما يتعلق به، كما أبنت. وما يفعله جهلة القراء بالتمطيط وإخراج الكلام عن موضوعه، فحرام يجب إنكاره.
(١) قال النووي: غريب (المجموع:٢٣٧/ ٥).
(٢) رواه ابن ماجه والترمذي (نيل الأوطار:٧٢/ ٤).
(٣) رواه أحمد ومسلم والنسائي، وروى أبو داود عن ثوبان مثله (نيل الأوطار:٧٢/ ٤).
(٤) رواه سعيد بن منصور في سننه.
 
٥ - اتباع الجنازة بنار في مجمرة بخور أو غيرها، لما فيه من التشاؤم القبيح بأنه من أهل النار، ولخبر أبي داود: «لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار».
ويكره أيضًا اتباعها بنائحة وتزجر، لما روى عمرو بن العاص قال: «إذا أنا مت، فلا تصحبني نار ولا نائحة» (١) وعن أبي موسى ﵁ أنه وصى: لاتتبعوني بصارخة ولا بمجمرة، ولا تجعلوا بيني وبين الأرض شيئًا (٢). ويكره اجتماع نساء لبكاء سرًا، ومنع جهرًا، كالقول القبيح مطلقًا.
٦ - اتباع النساء الجنائز، الكراهةعند الجمهور تنزيهية، لما روي عن أم عطية قالت: «نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا» (٣) أي أنه نهي تنزيه، وعند الحنفية الكراهة تحريمية، لحديث «ارجعن مأزورات غير مأجورات» (٤) ويعضده المعنى الحادث باختلاف الزمان الذي أشارت إليه عائشة بقولها: «لو أن رسول الله ﷺ رأى ما أحدث النساء بعده، لمنعهن كما منعت نساء بني إسرائيل».
وأجاز المالكية خروج امرأة متجالَّة: عجوز لا أرب للرجل فيها، أو شابة لم يخش فتنتها في جنازة من عظُمت مصيبته عليها كأب وأم وزوج وابن وبنت وأخ وأخت. وحرم على مخشيَّة الفتنة مطلقًا. وخروج الزوجة المتجالة وغير مخشية الفتنة مستثنى من أحكام العدة والإحداد.
٧ - قال المالكية: يكره تكبير نعش لميت صغير، لما فيه من المباهاة والنفاق، ويكره فرش النعش بحرير أو خز، أي منسوج من الصوف والحرير.
(١) رواه مسلم في صحيحه في جملة حديث طويل فيه أحكام كثيرة في كتاب الإيمان.
(٢) رواه البيهقي.
(٣) رواه البخاري ومسلم في الصحيحين.
(٤) رواه ابن ماجه بسند ضعيف، أوله «أن النبي ﷺ خرج، فإذا نسوة جلوس، قال: ما يجلسكن؟ قلن: ننتظر الجنازة، قال: هل تغسلن؟ قلن: لا، قال: هل تحملن؟ قلن: لا، قال: هل تدلين فيمن يدلي؟ قلن: لا، قال: فارجعن ...».
 
٨ - قال الحنابلة: مس الجنازة بالأيدي والأكمام والمناديل محدث مكروه، وقد منع العلماء مس القبر، فمس الجسد مع خوف الأذى أولى بالمنع.
ويكره تقليد غير المسلمين في حمل أكاليل الورد لما فيه من إتلاف المال والمفاخرة والمباهاة.

خامسًا - حكم الدفن وتعجيله: 
أجمع الفقهاء على أن دفن الميت فرض على الكفاية (١)؛ لأن في تركه على وجه الأرض هتكًا لحرمته، ويتأذى الناس من رائحته، والأصل فيه قوله تعالى: ﴿ألم نجعل الأرض كفاتًا، أحياء وأمواتًا﴾ [المرسلات:٧٧/ ٢٥ - ٢٦] والكفت: الجمع، وقوله سبحانه في دفن هابيل: ﴿فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض، ليريه كيف يواري سوأة أخيه﴾ [المائدة:٥/ ٣١]، وقوله: ﴿ثم أماته فأقبره﴾ [عبس:٢١/ ٨٠] ٠
والأفضل أن يعجل بتجهيز الميت ودفنه من حين موته، للحديث المتقدم: «أسرعوا بالجنازة، فإن كانت صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن كانت غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم» واستثنى المالكية الغريق فإنه يستحب عندهم تأخير دفنه مخافة بقاء حياته.
والدفن في المقبرة أفضل؛ لأن النبي ﷺ كان يدفن الموتى بالبقيع (٢)، ولأنه يكثر الدعاء له ممن يزوره، ولأنه أقل ضررًا على الأحياء من ورثته، وأشبه بمساكن الآخرة (٣).
(١) رد المحتار والدر المختار:٨٣٣/ ١، بداية المجتهد:٢١٨/ ١،٢٣٥، المجموع:٢٤١/ ٥، كشاف القناع:٩٦/ ٢،١٤٦،١٥٢.
(٢) حديث صحيح متواتر.
(٣) مراقي الفلاح: ص١٠٢، الدر المختار:٨٣٦/ ١، الشرح الصغير:٥٧٤/ ١، المجموع:٢٤١/ ٥، المغني:٥٠٨/ ٢ ومابعدها.
 
الدفن في البيوت:
 يجوز ولا يحرم الدفن في البيت؛ لأن النبي ﷺ دفن في حجرة عائشة ﵂ (١).
لكن الدفن في البيوت لغير النبي ولو للسقط مكروه، لاختصاصه بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ويكره الدفن في القباب ونحوها من البيوت المعقودة لجماعة، لمخالفته السنة.

الدفن في البقاع الشريفة:
 يستحب الدفن في أفضل مقبرة: وهي التي يكثر فيها الصالحون والشهداء لتناله بركتهم، وكذلك في البقاع الشريفة، روى البخاري ومسلم أن موسى ﵇ لما حضره الموت، سأل الله تعالى أن يدنيه إلى الأرض المقدسة رمية بحجر، قال النبي ﷺ: «لو كنتم ثَمَّ لأريتكم قبره عند الكثيب الأحمر»، ولأن عمر ﵁ استأذن عائشة ﵂ أن يدفن مع صاحبيه (٢): أي النبي ﷺ وأبي بكر.

جمع الأقارب في موضع واحد:  
يستحب أن يجمع الأقارب في موضع واحد، لأن النبي ﷺ «ترك عند رأس عثمان بن مظعون صخرة، وقال: أتعلم بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي» (٣)، ولأن ذلك أسهل لزيارتهم، وأكثر للترحم عليهم.
(١) حديث صحيح متواتر.
(٢) حديث صحيح رواه البخاري وغيره.
(٣) رواه أبو داود والبيهقي عن المطلب بن عبد الله بن حَنْطَب، وهو من التابعين، عمن أخبره عن النبي ﷺ فهو مسند لا مرسل، لأن الصحابة كلهم عدول.
 
سادسًا - صفة القبور واحترامها: 
 للقبور صفات مستمدة من السنة النبوية ومما تقتضيه الحاجة وهي ما يلي (١):
١ً - أقل القبر حفرة تمنع الرائحة والسبع عن نبش تلك الحفرة لأكل الميت؛ لأن الحكمة في وجوب الدفن عدم انتهاك حرمته بانتشار رائحته، واستقذار جيفته وأكل السباع له.
٢ً - ويندب عند الجمهور غير المالكية أن يوسع طولًا وعرضًا ويعمَّق بأن يزاد في نزوله، لقوله ﷺ في قتلى أحد: «احفروا وأوسعوا وأعمقوا» (٢)، ولأن تعميق القبر أنفى لظهور الرائحة التي تستضر بها الأحياء، وأبعد لقدرة الوحش على نبشه، وآكد لستر الميت، وروى البيهقي أن النبي ﷺ قال لحفار: «أوسع من قبل الرأس، ومن قبل الرجلين».
والتعميق عند الشافعية وأكثر الحنابلة: قدر قامة وبسطة من رجل معتدل، يأن يقوم باسطًا يديه مرفوعتين؛ لأن عمر ﵁ وصى بذلك، ولم ينكر عليه أحد، وهما أربعة أذرع ونصف. وقال أحمد ﵀: يعمق القبر إلى الصدر، الرجل والمرأة في ذلك سواء.
وعند الحنفية: مقدار نصف قامة، أو إلى حد الصدر، وإن زاد مقدار قامة فهو أحسن. فالأدنى نصف القامة، والأعلى القامة. وطوله: على قدر طول الميت، وعرضه: على قدر نصف طوله.
(١) الدر المختار:٨٣٥/ ١ - ٨٣٩،٨٤٧، فتح القدير:٤٦٩/ ١ - ٤٧٢، مراقي الفلاح: ص١٠١ ومابعدها، الكتاب:١٣٤/ ١ ومابعدها، بداية المجتهد:٢٣٥/ ١ ومابعدها، القوانين الفقهية: ص٩٦،٩٧، الشرح الكبير:٤١٩/ ١، الشرح الصغير:٥٥٨/ ١،٥٦٠،٥٧٢،٥٧٨، مغني المحتاج:٣٥١/ ١،٣٦٤، المهذب:١٣٩/ ١، المغني:٤٩٧/ ٢ - ٤٩٩،٥٠٤ - ٥٠٨، كشاف القناع:١٥٤/ ٢ - ١٦٣، شرح الرسالة:٢٧٧/ ١ - ٢٨٠، المجموع:٢٨٤/ ٥.
(٢) رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح.
 
وقال المالكية: وندب عدم تعميق القبر جدًا، بل قدر الذراع فقط إذا كان لحدًا.
٣ً - واللَّحْد باتفاق الفقهاء أفضل من الشَّق: والمراد باللحد: أن يحفر في جانب القبر القبلي مكان يوضع فيه الميت بقدر ما يسعه ويستره. أما الشق: فهو أن يحفر قعر القبر كالنهر، أو يبنى جانباه بلبن أو غيره غير ما مسته النار، ويجعل بينهما شق يوضع فيه الميت، ويسقف عليه ببلاط أو حجارة أو لبن أو خشب ونحوها، ويرفع السقف قليلًا بحيث لا يمس الميت. ويكره الشق عند الحنابلة، لقوله ﷺ: «اللحد لنا والشق لغيرنا» (١).
وفصل الحنفية والمالكية والشافعية فقالوا: إن اللحد أفضل إن كانت الأرض صلبة، لقول سعد بن أبي وقاص في مرض موته: «الحدوا لي لحدًا، وانصبوا على اللبِن نصبًا، كما فعل برسول الله ﷺ» (٢). فإن كانت الأرض رخوة فالشق أفضل خشية الانهيار.
ويجب عند الشافعية والحنابلة ويندب عند المالكية والحنفية أن يوضع الميت في القبر مستقبل القبلة، ويسند وجهه إلى جدار القبر ويسند ظهره بلبنة ونحوها ليمنعه من الاستلقاء على قفاه، لقوله ﷺ: «قبلتكم أحياء وأمواتًا» ولأن ذلك طريقة المسلمين، بنقل الخلف عن السلف، ولأن النبي ﷺ هكذا دفن.
ويسن - كما سأبين - أن يسلَّ الميت من قبل رأسه، بعد أن يوضع عند أسفل القبر، ويمدد برفق في القبر. ويسن أن ينزله في القبر أقرب الناس إليه من الذكور، وأن يقول الذي يلحده: «بسم الله وعلى سنة رسول الله» اتباعًا لأمر الرسول ﷺ فيما رواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر.
(١) رواه أبو داود والترمذي وغيرهما، لكنه ضعيف.
(٢) رواه مسلم.
 
ويوضع اللبِن (الطوب النيء) على اللحد، بأن يسد من جهة القبر، ويقام اللبن فيه، اتقاءً لوجهه، عن التراب، لقول سعد: «وانصبوا علي اللبن نصبًا». ويكره الآجُرّ (الطوب المُحرَق) والخشب؛ لأنهما لإحكام البناء، وهو لا يليق بالميت؛ لأن القبر موضع اللبِن. ولا بأس بالقصب مع اللبِن.
ثم يهال التراب على القبر، سَتْرًا له وصيانة.
٤ً - يسن لكل من حضر عند القبر أن يحثو التراب في القبر من قبل رأسه أو غيره ثلاث حَثَيات باليد، قبل إهالة التراب عليه، لحديث أبي هريرة: «أن النبي ﷺ صلى على جنازة، ثم أتى قبر الميت، فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثًا» (١)، وعن عامر بن ربيعة أن النبي ﷺ «صلى على عثمان بن مظعون، فكبر عليه أربعًا، وأتى القبر، فحثى عليه ثلاث حثيات، وهو قائم عند رأسه» (٢)، ولأن مواراته فرض كفاية، وبالحثي يصير ممن شارك فيها، وفي ذلك أقوى عبرة وتذكار، فاستحب لذلك.
٥ً - يرفع القبر قدر شبر فقط، ليعرف أنه قبر، فيتوقى، ويترحم على صاحبه، ولأن قبره ﷺ رفع نحو شبر (٣)، وروى الشافعي عن جابر «أن النبي ﷺ رفع قبره عن الأرض قدر شبر» وعن القاسم بن محمد قال: «قلت لعائشة: يا أماه، اكشفي لي عن قبر النبي ﷺ وصاحبيه، فكشفت لي عن ثلاثة قبور، لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء» (٤).
٦ً - تسنيم القبر عند الجمهور أفضل من تسطيحه أي تربيعه، لقول سفيان
(١) رواه ابن ماجه.
(٢) رواه الدارقطني.
(٣) رواه ابن حبان في صحيحه.
(٤) رواه أبو داود (نيل الأوطار:٨٢/ ٤).
 
التَّمار: «رأيت قبر النبي ﷺ مسنمًا» (١) وكذلك قبور الصحابة من بعده، ولأن التسطيح أشبه بأبنية أهل الدنيا، واستثنى الحنابلة دار الحرب إذا تعذر نقل الميت، فالأولى تسوية القبر بالأرض وإخفاؤه، خوفًا من أن ينبش، فيمثل به.
وقال الشافعية: الصحيح أن تسطيح القبر أولى من تسنيمه، كما فعل بقبره ﷺ وقبري صاحبيه رضي الله تعالى عنهما (٢).
٧ً - يكره تجصيص القبر والبناء، والكتابة عليه والمبيت عنده، واتخاذ مسجد عليه، وتقبيله والطواف به وتبخيره، والاستشفاء بالتربةمن الأسقام، وكذا يكره التطيين عند الحنفية والمالكية.
أما التجصيص: أي التبييض أي الطلاء بالجص وهوا لجبس، ومثله تزويقه ونقشه، والبناءعليه كقبة أو بيت، فمكروه للنهي عنهما في صحيح مسلم الآتي. وإن كان البناء على القبر للمباهاة أو في أرض مسبلة (مخصصة للدفن بحسب العادة) أو موقوفة، فيحرم ويهدم، لأنه في حالة المباهاة من الإعجاب والكبر المنهي عنهما، وفي الموقوفة والمسبلة، فلما في ذلك من التضييق والتحجير على الناس.
وذكر ابن عبد الحكم تلميذ مالك أنه لا تنفذ وصية من أوصى بالبناء على قبره، أي بناء بيوت، وعليه يجب هدم ما بني على القبور من القباب والسقائف والروضات. لكن لا بأس عند اللخمي من المالكية ببناء حاجز بين القبور ليعرف به. وقيل عند الحنفية: لابأس بتطيين القبر، واليوم اعتاد الناس التسنيم باللبن
(١) رواه البخاري في صحيحه (المصدر السابق) وروى الجماعة إلا البخاري وابن ماجه أن عليًا بعث أبا الهياج الأسدي وقال: «أبعثك على ما بعثني رسول الله ﷺ: لا تدع تمثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته» (نيل الأوطار:٨٣/ ٤).
(٢) رواه أبو داود بإسناد صحيح.
 
صيانة للقبر عن النبش، ورأوا ذلك حسنًا، وفي الأثر: «ما رآه المسلمون حسنًا فهوعند الله حسن». ولا بأس عند الحنابلة أيضًا من تطيين القبر. وكره أحمد الفسطاط والخيمة على القبر، عملًا بوصية أبي هريرة كما روى أحمد في مسنده، وبأمر ابن عمر بنزع فسطاط على قبر عبد الرحمن.
وأما الكتابة على القبر فمكروهة عند الجمهور، سواء اسم صاحبه أوغيره، عند رأسه أم في غيره، أو كتابة الرقاع إليه ودسها في الأنقاب، وتحرم عند المالكية كتابة القرآن على القبر، ودليلهم: ما روى جابر: «نهى رسول الله ﷺ عن تجصيص القبور، وأن يكتب عليها، وأن يبنى عليها» (١).
وقال الحنفية: لا بأس بالكتابة على القبر إن احتيج إليها حتى لا يذهب الأثر ولا يمتهن؛ لأن النهي عنها وإن صح، فقد وجد الإجماع العملي بها (٢)، فقد أخرج الحاكم النهي عنها من طرق، ثم قال: هذه الأسانيد صحيحة، وليس العمل عليها، فإن أئمة المسلمين من المشرق إلى المغرب مكتوب على قبورهم، وهو عمل أخذ به الخلف عن السلف، ويتقوى بما أخرجه أبو داود بإسناد جيد أن رسول الله ﷺ «حمل حجرًا، فوضعها عند رأس عثمان بن مظعون، وقال: أتعلم بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي»، فإن الكتابة طريق تعرف القبر بها. ويباح عندهم أيضًا أن يكتب على الكفن «بسم الله الرحمن الرحيم» أو «يرجى أن يغفر الله للميت».
والخلاصة: إن النهي عن الكتابة محمول على عدم الحاجة،، وأن الكتابة بغير عذر، أو كتابة شيء من القرآن أو الشعر أو إطراء مدح له ونحو ذلك فهو مكروه.
(١) رواه مسلم وغيره.
(٢) رد المحتار لابن عابدين:٨٣٩/ ١.
 
وأما اتخاذ المساجد على القبور فهو مكروه، حرام عند بعض المحدثين والحنابلة لقوله ﷺ: «قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (١) ظاهره أنهم كانوا يجعلونها مساجد يصلون فيها، لكن ذكر ابن القاسم تلميذ مالك أنه لابأ س بالمسجد على القبور العافية (المندرسة) ويكره على غير العافية. وتكره أيضًا الصلاة إلى القبر، لحديث «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها» (٢).
وأما التقبيل والاستشفاء بالتربة ونحوه فلأن ذلك كله من البدع، لكن لا بأس كما ذكر الشافعية على الصحيح من تطييب القبر.
٨ً - يوضع على القبر حصى، وعند رأسه حجر أو خشبة: أما وضع الحصى فلما رواه الشافعي مرسلًا «أنه وضعه على قبر ابنه إبراهيم» وروي أنه رأى على قبره فرجة فأمر بها فسدت، وقال: «إنها لا تضر ولا تنفع، وإن العبد إذا عمل شيئًا، أحب الله منه أن يتقنه». وأما وضع الحجر ونحوه لتعليم القبر، فللحديث المتقدم: «أنه ﷺ وضع عند رأس عثمان بن مظعون صخرة، وقال: أتعلم بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي».
٩ً - لا يجوز اتخاذ السرج على القبور، لقول النبي ﷺ: «لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها السرج» (٣).
(١) متفق عليه عن أبي هريرة، وروى الخمسة إلا ابن ماجه عن ابن عباس، قال: «لعن رسول الله ﷺ زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج» (نيل الأوطار:٩٠/ ٤) وفيه دليل على تحريم زيارة القبور للنساء كما سيأتي.
(٢) رواه مسلم عن أبي مرثد الغنوي.
(٣) رواه الخمسة إلا ابن ماجه عن ابن عباس، كما تقدم.
 
احترام القبور: 
أما احترام القبور فهو أمر مقرر في السنة ولدى جميع الفقهاء (١)، ومظاهر الاحترام ما يأتي:

١ - يكره الجلوس على القبر، والمشي عليه، والنوم وقضاء الحاجة من بول أوغائط، 
لقوله ﷺ: «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها» (٢)، وقوله: «لأن يجلس أحدكم على جمرة، فتخلص إلى جلده، خير له من أن يجلس على قبر» (٣)، والكراهة عند الحنفية تحريمية إذا كان الجلوس لقضاء الحاجة، تنزيهية لغير ذلك، إلا أنهم قالوا على المختار: لا يكره الجلوس على القبر للقراءة، لتأدية القراءة بالسكينة والتدبر والاتعاظ، ولم يجز الشافعية والحنابلة الجلوس إلا لضرورة، وجعلوا الاتكاء أو الاستناد إلى القبر مكروهًا كالجلوس.
وأما المالكية فقالوا: يكره المشي على القبر بشرطين: إن كان مسنمًا أو مسطبًا، والحال أن الطريق بجانبه، فإن زال تسنيمه أو لم تكن هناك طريق، جاز المشي عليه. أما الجلوس على القبر لغير بول أو غائط فيجوز، وحملوا حديث النهي عن الجلوس على المقابر على التخلي (قضاء الحاجة). وعن علي كرم الله وجهه أنه كان يجلس على المقابر ويتوسدها.

٢ - يحرم نبش القبر ما دام يظن فيه شيء من عظام الميت فيه:  
فلا تنبش عظام الموتى عند حفر القبور، ولا تزال عن موضعها، ويتقى كسر عظامها، لقوله ﷺ: «كسر عظم الميت ككسر عظم الحي في الإثم» أو «كسر عظم الميت ككسره
(١) مراقي الفلاح: ص١٠٣، رد المحتار:٨٤٦/ ١، الشرح الصغير:٥٥٩/ ١،٥٧٣، الشرح الكبير:٤٢٨/ ١ ومابعدها، القوانين الفقهية: ص٩٧، المجموع:٢٦٤/ ٥، مغني المحتاج:٣٥٤/ ١، المهذب:١٣٩/ ١،كشاف القناع:١٦٢/ ٢،١٦٤،١٦٥،١٦٦، المغني:٥٠٧/ ٣،٥٥١،٥٦٥.
(٢) رواه مسلم عن أبي مرثد الغنوي.
(٣) رواه الجماعة، وفسر فيه الجلوس بالحدث، وهو حرام بالإجماع.
 
حيًا» (١) ويستثنى من ذلك حالات تقتضيها الضرورة أو الحاجة والغرض الصحيح وأهمها ما يأتي (٢):
أـ إذا دفن من غير كفن أو غير غسل أو إلى غير القبلة، ولم يتغير حاله أو لم يخش عليه الفساد في نبش وكفن وغسل ووجه إلى القبلة؛ لأنه واجب مقدور على فعله، فوجب عليه، وروى سعيد في سننه أن رجالًا قبروا صاحبًا لهم، لم يغسلوه ولم يجدوا له كفنًا، ثم لقوا معاذ بن جبل، فأمرهم أن يخرجوه فأخرجوه من قبره، ثم غسِّل وكفِّن، وحُنِّط، ثم صلي عليه (٣).
ولم يجز الشافعية في الأصح نبش القبر لتكفين الميت؛ لأن المقصود حصل وهو ستره بالتراب.
فإن خشي عليه الفساد أو التغير، لم ينبش؛ لأنه تعذر فعله، فسقط كما يسقط وضوء الحي واستقبال القبلة في الصلاة إذا تعذر.
أما الصلاة على الميت إذا دفن قبلها، فتصلى على القبر؛ لأنها تصل إليه في القبر. وينبش عند المالكية، وعند الحنابلة، ويصلى عليه في رواية عن أحمد، ولاينبش عند الحنفية لوضعه لغير القبلة أوعلى يساره، وينبش لغير ذلك مما سيأتي.
(١) الأول رواه ابن ماجه عن أم سلمة، وهو حديث حسن، والثاني رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عائشة، وهو حسن أيضًا.
(٢) الدر المختار:٨٣٩/ ١،٨٤٠، مراقي الفلاح: ص١٠٢، الشرح الصغير:٥٧٧/ ١، القوانين الفقهية: ص٩٣،٩٧، المهذب:١٣٨/ ١، المجموع:٢٦٦/ ٥ - ٢٦٨، المغني:٥١١/ ٢،٥٥١ - ٥٥٤، كشاف القناع:٩٧/ ٢،٩٨.
(٣) نيل الأوطار: ٤/ ٢١١ ومابعدها، وفيه أيضًا أن النبي ﷺ أخرج عبد الله بن أُبي من قبره فنفث فيه من ريقه وألبسه قميصه، رواه البخاري.
 
ب - إذا كان الكفن مغصوبًا وأبى صاحبه أن يأخذ القيمة، أو كانت الأرض مغصوبة، ولم يرض مالكها ببقائه.
جـ - لضيق المسجد الجامع، أو دفن معه آخر عند الضيق. وإذا نبش للدفن أو اتخاذ مسجد محل القبر جاز، ولا يجوز عند المالكية للزرع والبناء، وأجاز الحنفية الزرع والبناء في محل قبر إذا بلي وصار ترابًا.
د - إذا دفن معه مال من حلي أوغيره، أو وقع في القبر مال لآدمي قليل أو كثير، وطالب به صاحبه، لما روي أن المغيرة بن شعبة طرح خاتمه في قبر رسول الله ﷺ، فقال: خاتمي، ففتح موضعًا فيه، فأخذه (١).
ولم يجز المالكية نبش القبر لمال قليل للميت، أو إذا تغير الميت، ويعطى صاحبه مثله أو قيمته من التركة (المثل في المثلي، والقيمة في القيمي).
هـ - إذا بلع الشخص جوهرة لغيره، ومات وطالب صاحبها، شق جوفه، وردت الجوهرة. فإن كانت الجوهرة للميت شق أيضًا عند الحنفية وسحنون المالكي وفي الأصح عند الشافعية، ولم يشق عند أحمد وابن حبيب المالكي وفي وجه آخر عند الشافعية.
شق بطن الحامل:
وـ إذا ماتت الحبلى، وفي بطنها جنين حي يضطرب، شق جوفها عند أكثر الفقهاء؛ لأنه استبقاء حي، بإتلاف جزء من الميت، فأشبه إذا اضطر إلى أكل الميت.
(١) حديث المغيرة ضعيف غريب، قال الحاكم أبو أحمد شيخ الحاكم أبي عبد الله: لا يصح هذا الحديث (المجموع:٢٦٦/ ٥).
 
والمذهب عند الحنابلة: أنه لا يشق بطن الميتة لإخراج ولدها، مسلمة كانت أو ذمية، وتخرجه القوابل إن علمت حياته بحركة.

٣ - نقل الميت بعد الدفن:
للفقهاء رأيان:
 رأي المالكية والحنابلة بالجواز لمصلحة، ورأي الشافعية بعدم الجواز إلا لضرورة، وعدم الجواز مطلقًا عند الحنفية، على التفصيل الآتي (١):
قال المالكية: يجوز نقل الميت من مكان إلى آخر، أو من بلد إلى آخر، أو من حضر لبدو، بشرط ألا ينفجر حال نقله، وألا تنتهك حرمته، وأن يكون لمصلحة كأن يخاف عليه أن يأكله البحر أو السبع، أو ترجى بركة الموضع المنقول إليه، أو ليدفن بين أهله، أو لأجل قرب زيارة أهله.
وقال الحنابلة: يجوز نقل الميت لغرض صحيح كدفنه في بقعةخير من بقعته التي دفن فيها، ولمجاورة صالح لتعود عليه بركته، إلا الشهيد إذا دفن بمصرعه، فلا ينقل عنه لغيره، حتى لو نقل منه رد إليه ندبًا؛ لأن دفنه في مصرعه (مكان قتله) سنة، فقد أمر النبي ﷺ بقتلى أحد أن يردوا إلى مصارعهم، وكانوا نقلوا إلى المدينة (٢).
وقال الشافعية: نبش الميت بعد دفنه للنقل وغيره حرام إلا لضرورة بأن دفن بلا غسل ولا تيمم. أو في أرض أو ثوب مغصوبين، ووقع فيه مال، أو دفن لغير القبلة، لا للتكفين في الأصح؛ لأن غرض التكفين الستر، وقد حصل بالتراب، مع ما في النبش من هتك حرمته، كما أبنت.
(١) الدر المختار ورد المحتار:٨٤٠/ ١، الشرح الصغير:٥٦٦/ ١، الشرح الكبير:٤٢١/ ١، المجموع:٢٧٠/ ٥، مغني المحتاج:٣٦٦/ ١، كشاف القناع:٩٧/ ٢.
(٢) رواه الخمسة وصححه الترمذي عن جابر (نيل الأوطار:١١٢/ ٤).
 
وقال الحنفية: لا يجوز النقل بعد الدفن مطلقًا، وأما نقل يعقوب ويوسف ﵉ من مصر إلى الشام ليكونا مع آبائهما الكرام، فهو شرع من قبلنا، ولم يتوافر فيه شروط كونه شرعًا لنا، وعليه: لا يجوز كسر عظامه ولا تحويلها ولو كان الميت ذميًا، ولا ينبش وإن طال الزمان.
وفي الجملة: تلتقي هذه الأقوال في ضرورة احترام الميت، وتحرص على إبقائه في مكانه، فهو الأصل، ويجوز النقل عند الجمهور لضرورة أو مصلحة أو غرض صحيح، ولا يجوز عند الحنفية مطلقًا.

٤ - قال الشافعية (١): لا بأس بتطييب القبر، 
وقالوا أيضًا مع الحنابلة والحنفية: ويندب أن يرش القبر بماء، ويسن وضع الجريد الأخضر والريحان ونحوه من الشيء الرطب على القبر حفظًا لترابه من الاندراس، ولا يجوز للغير أخذه من على القبر قبل يبسه؛ لأن صاحبه لم يعرض عنه إلا عند يبسه، لزوال نفعه الذي كان فيه وقت رطوبته، وهو الاستغفار.
ودليلهم على رش الماء: «أن رسول الله ﷺ رش على قبر ابنه إبراهيم ووضع عليه حصباء (٢)».
وكذلك قال الحنفية (٣): يكره قطع النبات الرطب والحشيش من المقبرة، دون اليابس؛ لأنه مادام رطبًا يسبح الله تعالى، فيؤنس الميت، وتنزل بذكره الرحمة. ويندب وضع الجريد والآس ونحوهما على القبور. والدليل: ما ورد في الحديث الصحيح من وضعه ﵊ الجريدة الخضراء، بعد شقها نصفين على
(١) مغني المحتاج:٣٦٤/ ١، المغني:٥٠٤/ ٢، الدر المختار:٨٣٨/ ١، كشاف القناع:١٩١/ ٢.
(٢) رواه الشافعي (نيل الأوطار:٨٤/ ٤).
(٣) رد المحتار:٨٤٦/ ١، مراقي الفلاح: ص١٠٣.
 
القبرين اللذين يعذبان، وتعليله بالتخفيف عنهما ما لم ييبسا أي يخفف عنهما ببركة تسبيحهما؛ إذ هو أكمل من تسبيح اليابس، لما في الأخضر من نوع حياة.
فكراهة قطع ذلك وإن نبت بنفسه، لما فيه من تفويت حق الميت.

٥ - جمع أكثر من ميت في قبر واحد: 
 اتفقت كلمة الفقهاء على أنه لا يجوز أن يدفن اثنان في قبر واحد إلا لضرورة (١) قال جابر: دفن مع أبي رجل، فلم تطب نفسي حتى أخرجتُه، فجعلته في قبر على حدة (٢) ولأن النبي ﷺ لم يدفن في كل قبر إلا واحدًا.
والضرورة: كأن كثر الأموات وعسر إفراد كل ميت بقبر، أو لضيق المكان أو تعذر الحافر، ولو كانوا ذكورًا وإناثًا أجانب.
ويقدم حينئذ الأفضل كترتيبهم في الإمامة، فيقدم الأحق بالإمامة إلى جدار القبر القبلي، فيكون الرجل مما يلي القبلة، والمرأة خلفه، والصبي خلفهما؛ لأنه ﷺ كان يسأل في قتلى أحد عن أكثرهم قرآنًا، فيقدمه إلى اللحد، لكن لا يقدم فرع على أصله من جنسه، وإن علا، حتى يقدم الجد ولو من قبل الأم، وكذا الجد، فيقدم الأب على الابن وإن كان أفضل منه لحرمة الأبوة، وتقدم الأم على البنت وإن كانت أفضل.
ويجعل بين كل اثنين حاجز من التراب، كما أمر النبي ﷺ في بعض الغزوات.
(١) مراقي الفلاح: ص١٠٢، الشرح الصغير:٥٦٧/ ١، الشرح الكبير:٤١٩/ ١،٤٢٢، القوانين الفقهية: ص٩٧، مغني المحتاج:٣٥٤/ ١، المغني:٥٦٢/ ٢ - ٥٦٣، المجموع:٢٤٤/ ٥ ومابعدها.
(٢) رواه البخاري والنسائي (نيل الأوطار:١١٢/ ٤).
 
ولو بلي الميت وصار ترابًا، جاز دفن غيره في قبره، ويرجع فيه إلى أهل الخبرة بتلك الأرض. ولا ينبش قبر ميت باق.

سابعًا - أحكام الدفن: 
 
 ١ - كيفيته: 
 للفقهاء آراء ثلاثة في كيفية إنزال الميت القبر (١).
فقال الحنفية: يُدخل الميت مما يلي القبلة إن أمكن كما أدخل النبي ﷺ، وهو أن توضع الجنازة في جانب القبلة من القبر، ويحمل الميت، فيوضع في اللحد، فيكون الآخذ له مستقبل القبلة لشرف القبلة، وهذا إذا لم يُخشَ على القبر أن ينهار، وإلا فيسل من قبل رأسه أو رِجْليه.
وقال المالكية: لا بأس أن يدخل الميت في قبره من أي ناحية كان، والقبلة أولى.
وقال الشافعية والحنابلة: يستحب أن يدخل القبر من عند رجليه، إن كان أسهل عليهم، ثم يسل سلًا إلى القبر، لما روى ابن عباس ﵁ أن النبي ﷺ سُلَّ من قبل رأسه سلًا (٢)، ولأن ذلك أسهل.
وتحل عُقد الأكفان من عند رأسه ورجليه؛ لأن عقدها كان لخوف الانتشار،
(١) اللباب:١٣٤/ ١، مراقي الفلاح: ص١٠١، الدر المختار:٨٣٦/ ١، ٨٣٨، الشرح الكبير:٤٢٢/ ١، القوانين الفقهية: ص٩٦، الشرح الصغير:٥٥٩/ ١، المهذب:١٣٧/ ١، المغني:٤٩٦/ ٢،٤٩٩،٥٠١ - ٥٠٥، المجموع:٢٥٤/ ٥ - ٢٦٠، مغني المحتاج:٣٦٣/ ١.
(٢) رواه الشافعي في الأم والبيهقي بإسناد صحيح.
 
وقد أمن من ذلك بدفنه، وقد روي أن النبي ﷺ لما أدخل نعيم بن مسعود الأشجعي القبر، نزع الأخلّة (١) بفيه، وعن ابن مسعود وسمرة بن جندب نحو ذلك.
ويوجه الميت إلى القبلة على جنبه الأيمن.
ويضع الرجل في قبره الرجال، بدون تقدير عدد معين، وأولى الناس بدفنه أولاهم بالصلاة عليه من أقاربه، والمرأة يُدخلها زوجها أو محرمها: وهو من كان يحل له النظر إليها في حياتها، ولها السفر معه، فإن لم يكن فالنساء فإن لم يكن فصالحو المؤمنين من الشيوخ القادرين على الدفن.
وتمد يده اليمنى مع جسده، قال المالكية: ويعدل رأسه ورجلاه بالتراب حتى يستوي، وقال الشافعية: يستحب أن يوسد رأسه لبنة أو حجر أو نحوهما، واتفقوا على أنه لا يفرش تحته شيء، ويكره أن يجعل تحته فرش أو مضربة أو مخدة، أو ثوب، أو حصير، لما روي عن عمر ﵁ أنه قال: «إذا أنزلتموني في اللحد، فأفضوا بخدي إلى الأرض» وعن أبي موسى: «لا تجعلوا بيني وبين الأرض شيئًا» وينصب اللبن على اللحد نصبًا، لما روي عن سعد بن أبي وقاص قال: «اصنعوا بي كما صنعتم برسول الله ﷺ، انصبوا عليَّ اللبن، وأهيلوا علي التراب» (٢)، ويكره الآجر (الطوب المحرق) والخشب، فلا يدخل القبر آجرًا ولا خشبًا ولا شيئًا مسته النار (٣)، ولا بأس عند الحنفية والحنابلة بالقصب ثم يهال التراب عليه.
ويستحب لكل من دنا على شفير القبر - كما أوضحت - أن يحثو ثلاث
(١) الأخلة جمع خلال: وهو ما يخل أو يشبك به الثوب.
(٢) رواه مسلم بلفظه إلا قوله: «وأهيلوا علي التراب».
(٣) عللوا ذلك بأنه من بناء المترفين، وأما ما مسته النار فللتشاؤم بأنه من أهل النار.
 
حثيات من التراب؛
لأن النبي ﷺ حثا في قبر ثلاث حثيات من التراب (١).
ويستحب كما تقدم أن يقف جماعة على القبر بعد الدفن بساعة يدعون للميت بعد دفنه، ويقرؤون بقدر ما ينحر الجزور ويفرق لحمه، لما روى عثمان ﵁ قال: «كان النبي ﷺ إذا فرغ من دفن الميت، يقف عليه، وقال: «استغفروا لأخيكم، واسألوا الله له التثبيت، فإنه الآن يسأل» (٢).

٢ - مكان الدفن والدفن في البحر:
الدفن في المقبرة أفضل منه في غيرها، لما يلحقه من دعاء الزوار والمارين (٣)، ولأنه ﷺ كان يدفن أهله وأصحابه بالبقيع، ولا بأس بشرائه موضع قبره، ويوصي بدفنه فيه، كما فعل عثمان وعائشة.
ولا يدفن كافر في مقبرة المسلمين، ولا مسلم في مقبرة الكفار (٤).
ولو ماتت ذمية (يهودية أو نصرانية) وهي حامل من مسلم، ومات جنينها في جوفها، فالصحيح عند الشافعية، والحنابلة (٥): أنها تدفن بين مقابر المسلمين والكفار، ويكون ظهرها إلى القبلة؛ لأن وجه الجنين إلى ظهر أمه، فتدفن منفردة، لأن ولدها مسلم، فيتأذى بعذابهم، ولا تدفن في مقابر المسلمين؛ لأنها كافرة.
أما لو مات إنسان في سفينة في البحر: فاتفق الفقهاء (٦) على أنه يغسل
(١) رواه البيهقي من حديث عامر بن ربيعة، وإسناده ضعيف، إلا أن له شاهدًا رواه ابن ماجه عن أبي هريرة.
(٢) رواه أبو داود والبيهقي بإسناد جيد (نيل الأوطار:٨٩/ ٤).
(٣) مغني المحتاج:٣٦٢/ ١، كشاف القناع:١٦٧/ ٢، المغني:٥٠٨/ ٢.
(٤) المجموع:٢٤٦/ ٥.
(٥) المجموع:٢٤٦/ ٥، المغني:٥٦٣/ ٢.
(٦) الدر المختار ورد المحتار:٨٣٦/ ١، الشرح الكبير:٤٢٩/ ١، الشرح الصغير:٥٧٩، القوانين الفقهية: ص٩٦، المجموع:٢٤٧/ ٥، المغني:٥٠٠/ ٢.
 
ويكفن ويصلى عليه، وينتظر به الوصول إلى البر إن رجوا الوصول في يوم أو يومين ليدفنوه فيه، ما لم يخافوا عليه الفساد.
فإن كان البر بعيدًا أو خيف عليه التغير، شدت عليه أكفانه، ويوضع بتابوت عند الحنفية، ويثقل بشيء كحجر ليرسب عند الحنابلة، ولا يثقل عند المالكية، ويلقى في الماء مستقبل القبلة على الشق الأيمن. وقال الشافعية: يجعل بين لوحين ويلقى في البحر، لأنه ربما وقع في ساحل فيدفن، فإن كان أهل الساحل كفارًا، ألقي في البحر.
ورأي الجمهور أولى؛ لأنه يحصل به الستر المقصود من دفنه، والقاؤه بين لوحين تعريض له للتغير والهتك، وربما بقي على الساحل مهتوكًا عريانًا.

٣ - زمان الدفن:
الأفضل الدفن نهارًا، وفي غير الأوقات التي تكره صلاة النوافل فيها، ويجوز ولايكره الدفن ليلًا، وهو المختار عند الحنفية، والشافعية والحنابلة، وأجاز الشافعية الدفن في وقت كراهة الصلاة ما لم يتحرَّه، فإن تحراه وتعمده كره (١).
ودليل جواز الدفن ليلًا: أن رسول الله ﷺ دفن ليلًا، كما ذكر أحمد عن عائشة، ودفن أبو بكر بالليل، كما ذكر البخاري تعليقًا في باب الدفن بالليل (٢)، ودفن الصحابة إنسانًا بالليل في حال حياة الرسول ﵇ (٣).
(١) الدر المختار:٨٤٧/ ١، المجموع:٢٦٩/ ٥، مغني المحتاج:٣٦٣/ ١، المغني:٥٥٥/ ٢ ومابعدها.
(٢) راجع نيل الأوطار:٨٨/ ٤، وقد وصل البخاري حديث دفن أبي بكر في آخر كتاب الجنائز في باب موت يوم الاثنين من حديث عائشة.
(٣) رواه البخاري وابن ماجه عن ابن عباس، قال البخاري: ودفن أبو بكر ليلًا، وروى أبو داود عن جابر أن النبي دفن رجلًا ليلًا (نيل الأوطار:٨٨/ ٤).
 
٤ - ما يقال عند الدفن:
يندب لواضع الميت في القبر أن يقول حين يضعه في قبره (١): «بسم الله، وعلى ملة رسول الله ﷺ»، اتباعًا للسنة (٢)، وفي رواية «سنة» بدل «ملة».
ويسن أن يزيد في الدعاء ما يناسب الحال. روى ابن ماجه عن ابن عمر أنه كان يقول أثناء تسوية اللبن على اللحد: «اللهم أجرها - أي الجنازة - من الشيطان، ومن عذاب القبر، اللهم جافِ الأرض عن جنبيها، وصعد روحها، ولقها منك رضوانًا» وروى ابن المنذر أن عمر كان إذا سوى على الميت قال: «اللهم، أَسْلَمه إليك الأهل والمال والعشيرة، وذنبه عظيم فاغفر له».

٥ - التلقين بعد الدفن:
يستحب عند الشافعية والحنابلة (٣) تلقين الميت المكلف بعد الدفن، ويقعد الملقن عند رأس القبر، فيقال له: «يا عبد الله ابن أمة الله، اذكر ما خرجت عليه من دار الدنيا: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن الجنة حق، والنار حق، وأن البعث حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأنك رضيت بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد ﷺ نبيًا، وبالقرآن إمامًا، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخوانًا» لحديث ورد فيه (٤). قال النووي في الروضة: والحديث وإن كان ضعيفًا، لكنه اعتضد بشواهد من الأحاديث الصحيحة، ولم
(١) مراقي الفلاح: ص١٠١، مغني المحتاج:٣٦٢/ ١، المغني:٥٠٠/ ٢، الدر المختار:٨٣٧/ ١.
(٢) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب، وصححه ابن حبان والحاكم.
(٣) مغني المحتاج:٣٦٧/ ١، كشاف القناع:١٥٧/ ٢، المغني: ٥٠٦/ ٢.
(٤) رواه الطبراني في الكبير، قال الهيثمي في (مجمع الزوائد:٤٣/ ٣): وفي إسناده جماعة لم أعرفهم. وقال عنه الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير: وإسناده صالح، وقد قواه الضياء في أحكامه (نيل الأوطار:٨٩/ ٤ ومابعدها).
 
تزل الناس على العمل به من العصر الأول في زمن من يقتدى به، وقد قال تعالى: ﴿وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين﴾ [الذاريات:٥٥/ ٥١]، وأحوج ما يكون العبد إلى التذكير في هذه الحالة.
والحق - في تقديري - مع القائلين بعدم سنية التلقين، والظاهر أن المستحب لذلك هم الصحابة، بدليل ما روي عن راشد بن سعد، وضَمْرة بن حبيب، وحكيم ابن عمر قالوا: «إذا سوِّي على الميت قبره، وانصرف الناس عنه، كانوا يستحبون أن يقال للميت عند قبره: يا فلان، قل: لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، ثلاث مرات، يا فلان قل: ربيَ الله، ودينيَ الإسلام، ونبيّي محمد ﷺ، ثم ينصرف» (١).
وقد عرفنا أنه يندب عند الحنفية والمالكية تلقين المحتضر الشهادتين ولا يلقن بعد الدفن.

٦ - ستر القبر:
لا خلاف بين أهل العلم في استحباب ستر قبر المرأة بغطاء؛ لأن المرأة عورة، ولا يؤمن أن يبدو منها شيء، فيراه الحاضرون، فإن كان الميت رجلًا كره ستره عند الحنابلة، ولا يستر عند المالكية والحنفية إلا لعذر، ودليل الستر للمرأة فعل عمر وعلي وغيرهما (٢).
واستحب الشافعية ستر القبر مطلقًا عند إدخال الميت فيه، وإن كان الميت رجلًا؛ لأنه ﷺ ستر قبر سعد بن معاذ، ولأنه أستر لما عساه أن ينكشف مما كان يجب ستره، وهو للأنثى آكد منه لغيرها (٣).
(١) رواه سعيد بن منصور في سننه (نيل الأوطار:٨٩/ ٤).
(٢) المغني:٥٠٠/ ٢، الشرح الصغير:٥٥٣/ ١، الدر المختار:٨٣٨/ ١.
(٣) مغني المحتاج:٣٦٢/ ١.
 
٧ - الدفن في تابوت أو صندوق:

الدفن في التابوت (أي السِحْلية: وهو أن يجعل في وعاء كالصندوق) هو من سنة النصارى لدفن أمواتهم، ويستعمل عندنا لحالة العذر فقط، كما يبين من كلام فقهائنا (١).
قال الحنفية: لا بأس باتخاذ التابوت ولو من حجر أو حديد للميت عند الحاجة كرخاوة الأرض، وكونها ندية، أو لميت البحر، أو للمرأة مطلقًا، ويسن أن يفرش فيه التراب.
وقال المالكية: الأولى عدم الدفن في التابوت، وإنما يندب سد اللحد بلبن (طوب نيء)، فلوح خشب، فقَرْمود (طوب على صورة وجوه الخيل)، فآجر (طوب محروق)، فتراب يلتُّ بالماء ليتماسك.
وقال الشافعية: يكره دفن الميت في تابوت إلا في أرض ندية أو رخوة، أو كان في الميت تهرية بحريق، أو لذع، بحيث لا يضبطه إلا التابوت، أو كانت امرأة لامحرم لها، لئلا يمسها الأجانب عند الدفن أو غيره.
وقال الحنابلة: لا يستحب الدفن في تابوت؛ لأنه لم ينقل عن النبي ﷺ ولاأصحابه، وفيه تشبه بأهل الدنيا، والأرض أنشف لفضلاته.

ثامنًا - زيارة القبور: 
مذهب أهل السنة: أن الروح: هي النفس الناطقة المستعدة للبيان، وفهم الخطاب، ولا تفنى بفناء الجسد، وأنه جوهر لا عَرَض. وتجتمع أرواح الموتى،
(١) الدر المختار:٨٣٦/ ١، الشرح الصغير:٥٦٠/ ١، مغني المحتاج:٣٦٣/ ١، المهذب:١٣٧/ ١، المغني:٥٠٣/ ٢.
 
فينزل الأعلى إلى الأدنى، لا العكس. ومذهب سلف الأمة وأئمتها: أن العذاب أو النعيم يحصل لروح الميت وبدنه، وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة، وتتصل أيضًا بالبدن أحيانًا، فيحصل له معها النعيم أو العذاب.
وهناك لأهل السنة قول آخر: أن النعيم والعذاب يكون للبدن دون الروح.
واستفاضت الآثار بمعرفة الميت بأحوال أهله وأصحابه في الدنيا، وأن ذلك يعرض عليه، وجاءت الآثار بأنه يرى أيضًا، وبأنه يدري بما فعل عنده، ويسر بما كان حسنًا، ويتألم بما كان قبيحًا.
ويعرف الميت زائره يوم الجمعة قبل طلوع الشمس. وهذا الوقت آكد، وينتفع بالخير، ويتأذى بالمنكر عنده (١).

أما حكم زيارة القبور 
فللفقهاء فيه رأيان (٢) بالنسبة للنساء. أما الرجال فلا خلاف بين أهل العلم في إباحة زيارتهم القبور:

أـ رأي الحنفية: 
تندب زيارة القبور، للرجال والنساء على الأصح، لما روى ابن أبي شيبة أن رسول الله ﷺ «كان يأتي قبور الشهداء بأحد، على رأس كل حول، فيقول: السلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار» وقد كان رسول الله ﷺ يخرج إلى البقيع لزيارة الموتى، ويقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لا حقون، أسأل الله لي ولكم العافية» وقال ﵊:
(١) كشاف القناع:١٩٠/ ٢ ومابعدها.
(٢) الدر المختار ورد المحتار:٨٤٣/ ١ ومابعدها، مراقي الفلاح: ص١٠٣، الشرح الكبير:٤٢٢/ ١، الشرح الصغير:٥٦٣/ ١، شرح الرسالة:٢٨٨/ ١، مغني المحتاج:٣٦٤/ ١ - ٣٦٥، المغني:٥٦٤/ ٢، ٥٦٥،٥٧٠، كشاف القناع:١٦٤/ ٢،١٧٣ ومابعدها.
 
«كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، فإنها تذكركم الموت» (١) وفي لفظ «فإنها تذكِّر الآخرة».
والأفضل أن تكون الزيارة يوم الجمعة والسبت والاثنين والخميس. والسنة زيارتها قائمًا، والدعاء عندها قائمًا، كما كان يفعل رسول الله ﷺ في الخروج إلى البقيع.
ويستحب للزائر أن يقرأ سورة ﴿يس﴾ لما ورد عن أنس أنه قال: قال رسول الله ﷺ: «من دخل المقابر فقرأ يس - أي وأهدى ثوابها للأموات - خفف الله عنهم يومئذ، وكان له بعدد ما فيها حسنات» (٢) وقال ﵇: «اقرؤوا على موتاكم يس» (٣).
ويقرأ أيضًا من القرآن ما تيسر له من الفاتحة، وأول البقرة إلى «المفلحون» وآية الكرسي، وآمن الرسول، وتبارك الملك، وسورة التكاثر، والإخلاص اثنتي عشرة مرة أو إحدى عشرة مرة، أو سبعًا أو ثلاثًا، والمعوذتين ثلاث مرات، ثم يقول: «اللهم أوصل ثواب ما قرأناه إلى فلان أو إليهم». وروى الدارقطني: «من مر على المقابر، فقرأ: قل هو الله إحدى عشرة مرة، ثم وهب أجرها للأموات، أعطي من الأجر بعدد الأموات».
(١) رواه مسلم عن أبي بريدة، ورواه أيضًا أصحاب السنن إلا الترمذي بأسانيد صحيحة، وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة ﵁ قال: «زار رسول الله ﷺ قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، ثم قال: إني استأذنت ربي ﷿ أن أستغفر لها، فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها، فأذن لي، فزوروا القبور، فإنها تذكركم الموت».
(٢) ذكره في البحر الرائق، ورواية الزيلعي: «وكان له - أي للقارئ - بعدد من فيها من الأموات» والظاهر أنه ضعيف.
(٣) رواه أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم عن معقل بن يسار، وهو حديث حسن.
 
وزيارة النساء إن كانت لتجديد الحزن والبكاء والندب على ما جرت به عادتهن لا تجوز، وعليه حمل حديث «لعن الله زائرات القبور» فإن كانت للاعتبار والترحم من غير بكاء، فلا بأس.
والأفضل لمن يتصدق نفلًا أن ينوي لجميع المؤمنين والمؤمنات؛ لأنها تصل إليهم، ولا ينقص من أجره شيء. ويستحب إهداء ثواب القراءة للنبي ﷺ، لأنه أنقذنا من الضلالة، ففي ذلك نوع شكر، وإسداء جميل له.

ب - رأي الجمهور: 
 تندب زيارة القبور للرجال للاعتبار والتذكر وتكره للنساء، وكانت زيارتها منهيًا عنها، ثم نسخت، لقوله ﷺ: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها» وفي رواية: «ولا تقولوا هُجْرًا» أي كلامًا قبيحًا، ولا تدخل النساء في ضمير الرجال على المختار. وزيارة قبور الكفار مباحة. وأما وقت الزيارة فقال مالك: بلغني أن الأرواح بفناء المقابر، فلا تختص زيارتها بيوم بعينه، وإنما يختص يوم الجمعة لفضله والفراغ فيه.
وسبب كراهتها للنساءلأنها مظنة لطلب بكائهن ورفع أصواتهن، لما فيهن من رقة القلب، وكثرة الجزع، وقلة احتمال المصائب، وإنما لم تحرم لما روى مسلم عن أم عطية: «نهينا عن زيارة القبور، ولم يعزم علينا» وكراهة زيارتهن لحديث: «لعن الله زوَّارات القبور» (١). ولكن يسن لهن زيارة قبر رسول الله ﷺ، ويلحق بذلك قبور بقية الأنبياء والصالحين، بشرط عدم التبرج والاختلاط ورفع الأصوات.
لكن قال المالكية: هذا في حق الشابة، أما المتجالة التي لا أرب للرجال بها فكالرجال. ويكره الأكل والشرب والضحك وكثرة الكلام، وكذا قراءة القرآن بالأصوات المرتفعة، واتخاذ ذلك عادة لهم.
(١) قال الترمذي: هذ احديث صحيح، رواه الخمسة إلا النسائي.
 
ويندب أن يسلِّم الزائر على قبور المسلمين، ويقرأ، ويدعو.
أما السلام فيكون مستقبلًا وجه الميت، قائلًا ما علَّمه النبي ﷺ لأصحابه إذا خرجوا للمقابر: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله (١) بكم لاحقون». أو «السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله تعالى بكم لا حقون، أسأل الله لنا ولكم العافية» رواهما مسلم، زاد أبو داود: «اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم» لكن بسند ضعيف.
ويقرأ عنده ما تيسر من القرآن، وهو سنة في المقابر، فإن الثواب للحاضرين، والميت كحاضر يرجى له الرحمة.
ويدعو للميت عقب القراءة، رجاء الإجابة؛ لأن الدعاء ينفع الميت، وهو عقب القراءة أقرب إلى الإجابة. وعند الدعاء يستقبل القبلة.
وكان النبي ﷺ يقول: «اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد» والغرقد: شجر له شوك، والبقيع: مدفن أهل المدينة.
ويستحب - كما ذكر الشافعية - الإكثار من الزيارة، وأن يكثر الوقوف عند قبور أهل الخير والفضل، ويقف الزائر أمام القبر كما يقف أمام الحي.
ويكره تقبيل التابوت الذي يجعل على القبر، وتقبيل القبر واستلامه، وتقبيل الأعتاب عند الدخول لزيارة الأولياء، فإن هذا كله من البدع التي ارتكبها الناس: ﴿أفمن زين له سوء عمله، فرآه حسنًا﴾ [فاطر:٨/ ٣٥].
ويستحب عند الحنابلة خلع النعال إذا دخل المقابر، للأمر به في حديث بُشَير
(١) قوله: «إن شاء الله»: الصحيح أنه للتبرك وامتثال قوله تعالى: ﴿ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدًا إلا أن يشاء الله﴾ [الكهف:٢٣/ ١٨ - ٢٤] (المجموع:٢٨٠/ ٥).
 
ابن الخَصَّاصية (١)، ولم ير أكثر العلماء بذلك بأسًا لإقرار النبي ﷺ ذلك، في حديث رواه البخاري.

المطلب الثالث - التعزية وتوابعها:
 
أولًا - تعريفها وحكمها (٢):
هي أن يسلِّي أهل الميت ويحملهم على الصبر بوعد الأجر، ويرغبهم في الرضا بالقضاء والقدر، ويدعو للميت المسلم وتكون إلى ثلاث ليال بأيامها، وتكره بعدها إلا لغائب، حتى لا يجدد له الحزن، ولإذن الشارع في الإحداد في الثلاث، بقوله ﷺ: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحدَّ على ميت فوق ثلاثة أيام، إلا على زوجها أربعة أشهر وعشرًا» (٣). ويكره عند غير المالكية تكرار التعزية، فلا يعزي عند القبر من عزى قبل ذلك، وهي بعد الدفن أفضل منها قبله؛ لأن أهل الميت مشغولون بتجهيزه، ووحشتهم بعد الدفن لفراقه أكثر.
ويكره عند الشافعية والحنابلة الجلوس للتعزية بأن يجلس المصاب في مكان أو في السرادقات على الطريق ليعزوه، أو يجلس المعزي عند المصاب للتعزية، لما في ذلك من استدامة الحزن. وقال الحنفية: لا بأس بالجلوس للتعزية في غير المسجد ثلاثة أيام، وأولها أفضلها، وقال في الفتاوى الظهيرية: لا بأس بها لأهل الميت في البيت أو المسجد، والناس يأتونهم ويعزونهم. ويكره المبيت عند أهل
(١) رواه أبو داود، وإسناده جيد.
(٢) الدر المختار ورد المحتار:٨٤١/ ١ وما بعدها، تبيين الحقائق:٢٤٦/ ١، شرح الرسالة:٢٨٣/ ١، الشرح الكبير:٤١٩/ ١، الشرح الصغير:٥٦٠/ ١، المهذب:١٣٨/ ١ ومابعدها، كشاف القناع:١٨٥/ ٢ ومابعدها، المغني:٥٤٣/ ٢ ومابعدها، المجموع:٢٧٣/ ٥ - ٢٧٦.
(٣) رواه البخاري ومسلم عن أم سلمة، وعن أم حبيبة بنت أبي سفيان (نيل الأوطار:٢٩٢/ ٦).
 
الميت وتكون التعزية في بيت المصاب، وليس في ألفاظ التعزية شيء محدد، فيقول المعزي للمسلم: «أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك، وغفر لميتك» وإن عزى مسلمًا بكافر يقول: «أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك» ويمسك عن الدعاء للميت؛ لأن الدعاء والاستغفار له منهي عنه. وإن عزى كافرًا بمسلم قال: «أحسن الله عزاءك، وغفر لميتك» وإن عزى كافرًا بكافر قال: «أخلف الله علينا وعليك، ولانقص عددك».
وقال الحنابلة: تحرم تعزية الكافر؛ لأن فيها تعظيمًا للكافر كبداءته بالسلام، ويقول المعزَّى: «استجاب الله دعاءك، ورحمنا وإياك» ولا تكره المصافحة أو أخذ المعزي بيد من عزاه.
والتعزية تستحب للرجال والنساء اللاتي لا يفتن، في الصغير والكبير، والذكر والأنثى، بلا خلاف بين العلماء، إلا أن الثوري قال: لا تستحب التعزية بعد الدفن، لأنه خاتمة أمره. وتكره تعزية الرجل لامرأة حسناء أجنبية غير محرم له، خشية الفتنة.
ودليل استحباب التعزية أحاديث، منها: «من عزى مصابًا فله مثل أجره» (١) ومنها: «من عزى أخاه بمصيبة، كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة» (٢).

ثانيًا - البكاء والرثاء والنياحة واللطم والشق:
  يجوز بالاتفاق البكاء على الميت قبل الدفن وبعده؛ بلا رفع صوت أوقول قبيح، أو ندب أو نواح (٣)، لما روى جابر: أن رسول الله ﷺ قال: «يا إبراهيم، إنا
(١) رواه الترمذي وابن ماجه، قال الترمذي: غريب، وقال ابن الجوزي: موضوع.
(٢) رواه ابن ماجه.
(٣) الدر المختار:٨٤١/ ١، الشرح الصغير:٥٦٦/ ١،٥٧٩، الشرح الكبير:٤٢١/ ١، مغني المحتاج:٣٥٥/ ١ ومابعدها، المهذب:١٣٩/ ١، المغني:٥٤٥/ ٢ - ٥٤٧، كشاف القناع:١٨٨/ ٢ ومابعدها، المجموع:٢٧٦/ ٥ - ٢٨٠.
 
لا نغني عنك من الله شيئًا، ثم ذرفت عيناه، فقال له عبد الرحمن بن عوف: يارسول الله، أتبكي، أو لم تنه عن البكاء؟ قال: لا، ولكن نهيت عن النوح» (١). وورد في الصحيحين: «أنه ﷺ لما فاضت عيناه، لما رفع إليه ابن بنته، ونفسه تقعقع كأنها في شَنَّة (٢) - أي لها صوت وحشرجة كصوت ما ألقي في قربة بالية - قال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: هذه رحمة، جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء».
والبكاء لا ينافي الرضا، بخلاف البكاء عليه لفوات حظه منه.
وأما حديث «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه» (٣) فمؤول عند جمهور العلماء على من وصى أهله أن يبكى عليه، ويناح بعد موته، فنفذت وصيته، فهذا يعذب ببكاء أهله عليه، ونوحهم؛ لأنه بسببه ومنسوب إليه، وكان من عادة العرب الوصية بذلك، ومنه قول طَرَفة بن العبد:
إذا متّ فانعيني بما أنا أهله وشقي علي الجيب ياابنة معبد
أما من بكى عليه أهله وناحوا عليه من غير وصية منه، فلا يعذب ببكائهم ونوحهم، لقوله تعالى: ﴿ولا تزر وازرة وزر أخرى﴾ [الأنعام:١٦٤/ ٦].
ولا بأس - كما ذكر الحنفية - برثاء الميت بشعر أو غيره، لكن يكره الإفراط في مدحه، لا سيما عند جنازته، لحديث «من تعزى بعزاء الجاهلية،
فأعضّوه بهَنِ أبيه
(١) رواه الترمذي، وهو حديث حسن، ومعناه في الصحيحين من رواية غير جابر.
(٢) الشنة: القربة الخلق أي البالية.
(٣) رواه البخاري ومسلم عن عمر، وعن عائشة أن ابن عمر يقول: «الميت يعذب ببكاء الحي» وردته بآية ﴿ولا تزر وازرة وزر أخرى﴾ [الأنعام:١٦٤/ ٦].
 
ولا تكْنوا» (١) وهذا أمر تأديب ومبالغة في الزجر عن دعوى الجاهلية.
ويحرم الندب بتعديد شمائله، والنوح، والجزع بضرب صدر أو رأس وشق جيب ونحوهما.
أما الندب: فهو تعداد محاسن الميت، وما يَلْقون بفقده بلفظـ النداء، بالواو بدل الياء، مثل قولهم: وارجلاه، واجبلاه، وانقطاع ظهراه، واكهفاه، ياعزي، ياسندي ونحوه، لحديث: «ما من ميت يموت فيقدم باكيهم، فيقول: واجبلاه، واسنداه، أو نحو ذلك، إلا وكل به ملكان يلهَزانه، أهكذا كنت» (٢) وذلك إن أوصى بما ذكر، أو كان كافرًا.
وأما النوح: فهو رفع الصوت بالندب، لخبر «النائحة إذا لم تتب تقام يوم القيامة، وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب» (٣) وخبر «لعن الله النائحة والمستمعة» (٤).
وأما الجزع: بضرب الصدر ونحوه كشق جيب ونشر شعر، وتسويد وجه، وإلقاء رماد على رأس، ورفع صوت بإفراط في البكاء، فهو حرام أيضًا، لخبر الشيخين: «ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية» وفي الصحيحين «أنه ﷺ برئ من الصالقة، والحالقة، والشاقة» فالصالقة: التي ترفع صوتها عند المصيبة، والحالقة: التي تحلق شعرها عند المصيبة، والشاقة: التي تشق ثيابها.
(١) المراد به قولهم في الاستغاثة: يالفلان، وقولوا له: اعضض بذكر أبيك، ولا تكنوا عن الذكر بالهن، رواه أحمد والنسائي وابن حبان عن أبي بن كعب (كشف الخفا:٣٣٢/ ٢).
(٢) رواه الترمذي وحسنه، واللهز: الدفع في الصدر باليد، وهي مقبوضة. والفعل لهز يلهز على وزن فتح يفتح.
(٣) رواه مسلم، والسربال: القميص.
(٤) رواه أحمد وأبو داود عن أبي سعيد، وهو صحيح.
 
ثالثًا - ما ينبغي للمصاب والثواب على المصيبة (١):
ينبغي للمصاب أن يستعين بالله تعالى ويتعزى بعزائه، ويمتثل أمره في الاستعانة بالصبر والصلاة، ويتنجز ما وعد الله به الصابرين حيث يقول سبحانه: ﴿وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات﴾ - أي مغفرة - ﴿من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون﴾ [البقرة:١٥٥/ ٢ - ١٥٦ - ١٥٧].
وعليه يسن للمصاب أن يسترجع، فيقول: ﴿إنا لله وإنا إليه راجعون﴾ [البقرة:١٥٦] (أي نحن عبيده يفعل بنا ما يشاء، ونحن مقرّون بالبعث والجزاء على أعمالنا) و«اللهم أْجُرْني في مصيبتي، وأخلف لي خيرًا منها»، ويصلي ركعتين، كما فعل ابن عباس، وقرأ ﴿واستعينوا بالصبر والصلاة﴾ [البقرة:٤٥/ ٢]، وقال حذيفة: «كان النبي ﷺ إذا حَزَ به أمر صبر» (٢) وروى مسلم عن أم سلمة مرفوعًا: «إذا حضرتم المريض أو الميت، فقولوا خيرًا، فإن الملائكة يؤمِّنون على ما تقولون» فلما مات أبو سلمة قال: «قولي: اللهم اغفر لي وله، وأعقبني عقبة حسنة» (٣).
ويسن للمصاب أن يصبر، والصبر: الحبس، قال تعالى: ﴿واصبروا إن الله مع الصابرين﴾ [الأنفال:٤٦/ ٨]، وقال ﷺ: «والصبر ضياء» (٤).
(١) الدر المختار:٨٤١/ ١، الشرح الصغير:٥٦١/ ١، المجموع:٢٧٤/ ٥، كشاف القناع:١٨٧/ ٢.
(٢) رواه أحمد وأبو داود. وحز به الأمر: نابه واشتد عليه، أو ضغطه.
(٣) روى مسلم في صحيحه عن أم سلمة ﵂ قالت: «سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما من عبد تصيبه مصيبة، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أْجُرْني في مصيبتي، وأخلف لي خيرًا منها، إلا أجره الله في مصيبته، وأخلف له خيرًا منها، قالت: فلما مات أبو سلمة: قلت كما أمرني رسول الله ﷺ، فأخلف لي خيرًا منه رسول الله ﷺ».
(٤) رواه مسلم من حديث أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري ﵁ بلفظ: «الطُّهور شطر الإيمان ..».
 
وفي الصبر على موت الولد أجر كبير، لأخبار، منها ما في الصحيحين: أنه ﷺ قال: «لايموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار، إلا تحلَّة القسم» يشير إلى قوله تعالى: ﴿وإن منكم إلا واردها﴾ [مريم:٧١/ ١٩] والصحيح: أن المراد به المرور على الصراط.
وأخرج البخاري أنه ﷺ قال: «يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن من جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا، ثم احتسبه، إلا الجنة».
وثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد ﵄، قال: «أرسلت إحدى بنات النبي ﷺ إليه تدعوه وتخبره أن صبيًا لها أو ابنًا في الموت، فقال للرسول: ارجع إليها، فأخبرها أن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب» (١).
والثواب على المصيبة: في الصبر عليها، لا على المصيبة نفسها، فالمصائب نفسها لا ثواب فيها، لأنها ليست من كسب العبد وإرادته، وإنما يثاب على كسبه، والصبر من كسبه أو فعله. وهذا قول الحنابلة والعز بن عبد السلام.
والرضا بالقضاء والقدر فوق الصبر، فإنه يوجب رضا الله ﷾.
وصرح الشافعي ﵀ بأن كلًا من المجنون والمريض المغلوب على عقله مأجور، مثاب، مكفر عنه بالمرض، فحكم بالأجر مع انتفاء العقل المستلزم لانتفاء الصبر،
ويؤيده خبر الصحيحين: «ما يصيب المسلم من نَصَب - تعب - ولا
(١) وروى الترمذي عن أبي موسى أن رسول الله ﷺ قال: «إذا مات ولد العبد، قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده: فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة، وسموه بيت الحمد» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
 
وَصَب - مرض - ولا همّ ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفَّر الله بها من خطاياه» والحديث الصحيح: «إذا مرض العبد أو سافر، كتب له مثل ما كان يعمله صحيحًا مقيمًا».
فمن أصيب وصبر يحصل له ثوابان: لنفس المصيبة، وللصبر عليها. ومن انتفى صبره، فإن كان لعذر كجنون فكذلك، أو لنحو جزع لم يحصل من ذينك الثوابين شيء.

رابعًا - ضيافة أهل الميت وصنع الطعام لهم: 
يستحب لأقرباء الميت وجيرانه أن يصنعوا طعامًا لأهل الميت (١)، لما روي أنه لما قتل جعفر بن أبي طالب كرم الله وجهه، قال النبي ﷺ: «اصنعوا لآل جعفر طعامًا، فإنه قد جاءهم أمر يشغلهم عنه» (٢). ويبعث بهم إليهم إعانة لهم، وجبرًا لقلوبهم، فإنهم ربما اشتغلوا بمصيبتهم، وبمن يأتي إليهم عن إصلاح طعام لأنفسهم، ويكون الطعام بحيث يشبعهم في يومهم وليلتهم.
أما صنع أهل البيت طعامًا للناس، فمكروه وبدعة لا أصل لها؛ لأن فيه زيادة على مصيبتهم، وشغلًا لهم إلى شغلهم، وتشبهًا بصنع أهل الجاهلية. وإن كان في الورثة قاصر دون البلوغ، فيحرم إعداد الطعام وتقديمه، قال جرير بن عبد الله: «كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام من النياحة» وإن دعت الحاجة إلى
(١) فتح القدير:٤٧٣/ ١، الدر المختار:٨٤١/ ١، الشرح الصغير:٥٦١/ ١، المجموع:٢٨٥/ ٥ وما بعدها، المهذب:١٤٠/ ١، المغني:٥٥٠/ ٢، شرح الرسالة:٢٨٩/ ١.
(٢) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والبيهقي وغيرهم من رواية عبد الله بن جعفر، قال الترمذي: حديث حسن. ورواه أحمد وابن ماجه أيضًا من رواية أسماء بنت عميس. وقد قتل جعفر في غزوة مؤتة سنة ثمان من الهجرة في جمادى.
 
ذلك، جاز، فإنه ربما جاءهم من يحضر ميتهم من القرى والأماكن البعيدة، ويبيت عندهم ولا يمكنهم إلا أن يضيفوه.

خامسًا - القراءة على الميت وإهداء الثواب له: ههنا مسائل للفقهاء (١):
أـ أجمع العلماء على انتفاع الميت بالدعاء والاستغفار بنحو «اللهم اغفر له، اللهم ارحمه»، والصدقة، وأداء الواجبات البدنية - المالية التي تدخلها النيابة كالحج، لقوله تعالى: ﴿والذين جاءوا من بعدهم يقولون: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان﴾ [الحشر:١٠/ ٥٩] وقوله سبحانه: ﴿واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات﴾ [محمد:١٩/ ٤٧]، ودعا النبي ﷺ لأبي سلمة حين مات، وللميت الذي صلى عليه في حديث عوف بن مالك، ولكل ميت صلى عليه. وسأل رجل النبي ﷺ فقال: «يا رسول الله، إن أمي ماتت، فينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم» (٢)، وجاءت امرأة إلى النبي ﷺ فقالت: «يا رسول الله، إن فريضة الله في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى» (٣) وقال للذي سأله: «إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأصوم عنها؟ قال: نعم».
(١) الدر المختار ورد المحتار:٨٤٤/ ١ ومابعدها، فتح القدير:٤٧٣/ ١، شرح الرسالة:٢٨٩/ ١، الشرح الكبير:٤٢٣/ ١، الشرح الصغير:٥٦٨/ ١،٥٨٠، مغني المحتاج:٦٩/ ٣ - ٧٠، المغني:٥٦٦/ ٢ - ٥٧٠، كشاف القناع:١٩١/ ٢، المهذب:٤٦٤/ ١.
(٢) رواه أبو داود، وروي ذلك عن سعد بن عبادة.
(٣) رواه أحمد والنسائي عن عبد الله بن الزبير (نيل الأوطار:٢٨٥/ ٤ومابعدها).
 
قال ابن قدامة: وهذه أحاديث صحاح، وفيها دلالة على انتفاع الميت بسائر القرب؛ لأن الصوم والدعاء والاستغفار عبادات بدنية، وقد أوصل الله نفعها إلى الميت، فكذلك ما سواها.
ب - اختلف العلماء في وصول ثواب العبادات البدنية المحضة كالصلاة وتلاوة القرآن إلى غير فاعلها على رأيين: رأي الحنفية والحنابلة ومتأخري الشافعية والمالكية بوصول القراءة للميت إذا كان بحضرته، أو دعا له عقبها، ولو غائبًا؛ لأن محل القراءة تنزل فيه الرحمة والبركة، والدعاء عقبها أرجى للقبول.
ورأي متقدمي المالكية والمشهور عند الشافعية الأوائل: عدم وصول ثواب العبادات المحضة لغير فاعلها.
قال الحنفية: المختار عدم كراهة إجلاس القارئين ليقرؤوا عند القبر، وقالوا في باب الحج عن الغير: للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره: صلاة كان عمله، أو صومًا أو صدقة أوغيرها، وأن ذلك لا ينقص من أجره شيئًا.
وقال الحنابلة: لا بأس بالقراءة عند القبر، للحديث المتقدم: «من دخل المقابر، فقرأ سورة يس، خفف عنهم يومئذ، وكان له بعدد من فيها حسنات» وحديث «من زار قبر والديه، فقرأ عنده أو عندهما يس، غفر له» (١).
وقال المالكية: تكره القراءة على الميت بعد موته وعلى قبره؛ لأنه ليس من عمل السلف، لكن المتأخرون على أنه لا بأس بقراءة القرآن والذكر وجعل ثوابه للميت، ويحصل له الأجر إن شاء الله.
وقال متقدمو الشافعية: المشهور أنه لا ينفغ الميت ثواب غير عمله، كالصلاة
(١) كلاهما ضعيف، والأول أضعف من الثاني، كما أشار السيوطي في جامعه.
 
عنه قضاء أو غيرها وقراءة القرآن. وحقق المتأخرون منهم وصول ثواب القراءة للميت، كالفاتحة وغيرها. وعليه عمل الناس، وما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن. وإذا ثبت أن الفاتحة تنفع الحي الملدوغ، وأقر النبي ﷺ ذلك بقوله: «وما يدريك أنها رقية؟» كان نفع الميت بها أولى.
وبذلك يكون مذهب متأخري الشافعية كمذاهب الأئمة الثلاثة: أن ثواب القراءة يصل إلى الميت، قال السبكي: والذي دل عليه الخبر بالاستنباط أن بعض القرآن إذا قصد به نفع الميت وتخفيف ما هو فيه، نفعه، إذ ثبت أن الفاتحة لما قصد بها القارئ نفع الملدوغ نفعته، وأقره النبي ﷺ بقوله: «وما يدريك أنها رقية» وإذا نفعت الحي بالقصد، كان نفع الميت بها أولى. وقد جوز القاضي حسين الاستئجار على قراءة القرآن عند الميت. قال ابن الصلاح: وينبغي أن يقول: «اللهم أوصل ثواب ما قرأنا لفلان» فيجعله دعاء، ولا يختلف في ذلك القريب والبعيد، وينبغي الجزم بنفع هذا؛ لأنه إذا نفع الدعاء وجاز بما ليس للداعي، فلأن يجوز بما له أولى، وهذا لا يختص بالقراءة، بل يجري في سائر الأعمال.

المطلب الرابع - الشهادة في سبيل الله:
 
فضل الشهادة في سبيل الله، تعريف الشهيد، أحكامه، شهداء غير المعركة.

فضل الشهادة في سبيل الله:
التضحية بالنفس أسمى درجات الإخلاص والتفاني في سبيل المبدأ والعقيدة، وأصدق برهان على صحة الإيمان، وطريق الخلود في جنان الله والفوز برضوان الله تعالى، والأمة أو الجماعة بأمس الحاجة في كل زمان إلى تضحيات العديد من أبنائها دفاعًا عن النفس والبلاد، وحفاظًا على المقدسات والحرمات،
 
ولا يكتب لها العزة والكرامة والهيبة إلا بجسور من الضحايا في سبيل تحقيق غاياتها، ودماء تضرج من أجل كرامتها ووجودها.
لهذا كتب الله الحياة والخلود للشهداء، وغفر للشهيد كل ذنوبه إلا الدين لتعلقه بحقوق الناس المادية، وبوأه المنزلة العالية في الجنة مع الأنبياء والمرسلين، كما دلت عليه النصوص الشرعية. فقال تعالى: ﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا، بل أحياء عند ربهم يُرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين﴾ [آل عمران:١٦٩/ ٣ - ١٧١] عن مسروق ﵁، قال: سأل عبد الله - أي ابن مسعود - عن هذه الآية: ﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا، بل أحياء عند ربهم يُرزقون؟﴾ [آل عمران:١٦٩/ ٣] فقال: أما أنا فقد سألت عن ذلك رسول الله ﷺ، فقال: «أرواحهم في جوف طير خُضْر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل ...» الحديث (١).
والمعنى أن الله تعالى أحياهم وأعطاهم القدرة على التمتع بثمار الجنة، والتفكه بها والتنقل في أرجائها، قال تعالى: ﴿ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات، بل أحياء، ولكن لا تشعرون﴾ [البقرة:١٥٤/ ٢] إلا أن حياتهم ليست بالجسد، وإنما هي من نوع خاص لا يدرك بالعقل، بل بالوحي.
وقال النبي ﷺ: «ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا، وإن له ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا، فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة» (٢).
(١) رواه مسلم والترمذي وغيرهما (الترغيب والترهيب:٣٢٦/ ٢ومابعدها).
(٢) رواه البخاري ومسلم والترمذي عن أنس (المصدر السابق:٣١٠/ ٢ وما بعدها).
 
وقال ﵊: «والذي نفس محمد بيده: لودِدْت أن أغزو في سبيل الله فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل» (١)، «يُغفر للشهيد كلُ ذنب إلا الدَّيْن» (٢).

تعريف الشهيد:
سمي الشهيد شهيدًا؛ لأنه مشهود له بالجنة، أو لأنه حي عند ربه حاضر شاهد، أو تشهد موته الملائكة (٣). والشهيد الذي يستحق الفضائل السابقة ونحوها هو شهيد المعركة مع العدو. وقد أورد الفقهاء تعريفات متقاربة له بحسب رأيهم في بعض المسائل المتعلقة به.
فقال الحنفية (٤): الشهيد من قتله أهل الحرب، أو أهل البغي، أو قطاع الطريق، أو اللصوص في منزله ليلًا أو نهارًا بأي آلة: مثقل أو محدد، أو وجد في المعركة وبه أثر كجرح وكسر وحرق وخروج دم من أذن أو عين، أو قتله مسلم ظلمًا عمدًا بمحدد، وكان مسلمًا مكلفًا (بالغًا عاقلًا) طاهرًا (خاليًا من حيض أو نفاس أو جنابة)، ولم يرتث بعد انقضاء الحرب، أي لا يموت عقب الإصابة.
والارتثاث: أن يأكل أو يشرب أو يُداوى، أو يبقى حيًا حتى يمضي عليه وقت صلاة وهو يعقل، أو ينقل من المعركة حيًا، أي وهو يعقل.
أما المقتول حدًا أو قصاصًا، فإنه يغسل ويصلى عليه، لأنه لم يقتل ظلمًا، وإنما قتل بحق، وأما من قتل من البغاة أو قطاع الطرق فلا يغسل ولا يصلى عليه.
وبه يتبين أن شروط تحقيق الشهادة عندهم: هي الإسلام والعقل والبلوغ، والطهارة من الحدث الأكبر، وأن يموت عقب الإصابة.
(١) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة (المصدر السابق).
(٢) رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص (المصدر السابق).
(٣) الدر المختار:٨٤٨/ ١، اللباب:١٣٥/ ١، مغني المحتاج:٣٥٠/ ١.
(٤) الدر المختار ورد المحتار:٨٤٨/ ١، مراقي الفلاح: ص١٠٣ومابعدها، اللباب:١٣٥/ ١ - ١٣٧.
 
وأن كل مقتول في المعركة مع العدو، أو قتل ظلمًا، أو دفاعًا عن النفس أو المال فهو شهيد. أما من خرج حيًا من المعركة، أو كان جنبًا فلا تطبق عليه أحكام الشهيد.
ويلاحظ أن هذا المذهب ومذهب الحنابلة أوسع الآراء في تحديد المقصود من الشهيد ماعدا اشتراط الطهارة من الحدث الأكبر.
وقال المالكية (١): الشهيد: من مات في معترك المشركين، ومن أخرج من المعركة في حكم الأموات وهو من رفع من المعركة حيًا منفوذ المقاتل، أو مغمورًا (أي يعاني غمرات الموت: شدائده): وهو من لم يأكل ولم يشرب ولم يتكلم إلى أن مات، فإن قتل في غير المعركة ظلمًا، أو أخرج من المعترك حيًا، ولم تنفذ مقاتله، ثم مات، غسل وصلي عليه في المشهور، كما أن من قتل في المعترك في قتال المسلمين غسل وصلي عليه، ويغسل الجنب.
وقال الشافعية (٢): الشهيد: هو من مات من المسلمين في جهاد الكفار بسبب من أسباب قتالهم قبل انقضاء الحرب، كأن قتله كافر، أو أصابه سلاح مسلم خطأ، أو عاد إليه سلاحه، أو تردى في بئر أو وهدة، أو رفسته دابته فمات، أو قتله مسلم باغٍ استعان به أهل الحرب.
فإن مات لا بسبب القتال، أو بعد انقضاء المعركة، أو في حال قتال البغاة، فغير شهيد في الأظهر.
ولا تشترط الطهارة من الحدث الأكبر عند المالكية والشافعية، فمن مات جنبًا فإنه لا يغسل.
(١) الشرح الكبير:٤٢٥/ ١ ومابعدها، الشرح الصغير:٥٧٥/ ١ ومابعدها، القوانين الفقهية: ص٩٤، بداية المجتهد:٢١٩/ ١، ٢٣٢.
(٢) مغني المحتاج:٣٥٠/ ١،٣٦١، المهذب:١٣٥/ ١.
 
فالشهيد عند المالكية والشافعية: هو من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا (١).
وقاتل نفسه كغيره في الغسل والصلاة عليه، لحديث: «الصلاة واجبة على كل مسلم برًا كان أو فاجرًا، وإن عمل الكبائر» (٢). هذا رأي الجماهير، لكن مذهب عمر بن عبد العزيز والأوزاعي: لا يصلى على قاتل نفسه لعصيانه، بدليل ماروى مسلم عن جابر بن سمرة قال: أتي النبي ﷺ برجل قتل نفسه بمشاقِص - سهام عراض - فلم يصل عليه.
وقال الحنابلة (٣): الشهيد: هو من مات بسبب القتال مع الكفار وقت قيام القتال، أو هو المقتول بأيدي العدو من الكفار، أو البغاة، أو المقتول ظلمًا، ولو كان غير مكلف رجلًا أو امرأة. أو كان غالًاّ (خائنًا): كتم من الغنيمة شيئًا. ومن عاد إليه سلاحه فقتله فهو كالمقتول بأيدي العدو، لكن تشترط الطهارة من الحدث الأكبر كالحنفية، فمن قتل جنبًا غسل. كذلك يغسل ويصلى عليه من حمل وبه رمق أي حياة مستقرة، وإن كان شهيدًا.
ودليلهم على غير المكلف: عموم حديث جابر أن النبي ﷺ «أمر بدفن قتلى أحد في دمائهم، ولم يغسلهم، ولم يصل عليهم» (٤)، وقد كان في شهداء أحد حارثة بن النعمان، وهو صغير، وليس هذا خاصًا بهم؛ لأن النبي ﷺ علل ذلك
(١) روى البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي عن أبي موسى الأشعري ﵁ قال: «سئل رسول الله ﷺ عن الرجل: يقاتل شجاعة، ويقاتل حميّة، ويقاتل رياءً، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله ﷺ: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا» (جامع الأصول:١٩٤/ ٣).
(٢) رواه البيهقي، وقال: هو أصح ما في الباب إلا أن فيه إرسالًا والمرسل حجة إذا اعتضد بأحد أمور، منها قول أكثر أهل العلم، وهو موجود هنا.
(٣) المغني:٥٢٨/ ٢ - ٥٣٥، كشاف القناع:١١٣/ ٢ - ١١٥.
(٤) رواه البخاري.
 
بعلة توجد في سائر الشهداء، فقال: «والذي نفسي بيده لا يُكلَم أحد في سبيل الله - والله أعلم بمن يكلم في سبيله - إلا جاء يوم القيامة، اللون لون الدم، والريح ريح المسك» (١).
ودليلهم على أن من قتل مظلومًا ملحق بشهيد المعركة: حديث: «من قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد» (٢)، ولأن هؤلاء مقتولون بغير حق، فأشبهوا قتلى الكفار، فلا يغسلون.
وأما من قتل من أهل العدل في المعركة مع البغاة: فحكمه في الغسل والصلاة عليه حكم من قتل في معركة المشركين؛ لأن عليًا ﵁ لم يغسل من قتل معه، وعمار أوصى ألا يغسل، وقال: ادفنوني في ثيابي، فإني مخاصم. قال أحمد: قد أوصى أصحاب الجمل، إنا مستشهدون غدًا، فلا تنزعوا عنا ثوبًا، ولا تغسلوا عنا دمًا، ولأنه شهيد المعركة، فأشبه قتيل الكفار.
أما الباغي: فقال الخرقي: من قتل منهم غسل وكفن وصلي عليه، ويحتمل إلحاقه بأهل العدل؛ لأنه لم ينقل إلينا غسل أهل الجمل وصفين من الجانبين، ولأنهم يكثرون في المعترك، فيشق غسلهم، فأشبهوا أهل العدل.

أحكام الشهداء:
للشهداء أحكام استثنائية من الدفن والغسل والتكفين والصلاة عليهم كما يتبين من آراء الفقهاء الآتية (٣)، علمًا بأن للحنفية رأيًا، وللجمهور رأيًا آخر.

قال الحنفية: 
يكفن الشهيد بثيابه، ويصلي عليه، ولا يغسل إذا كان مكلفًا
(١) متفق عليه من حديث أبي هريرة.
(٢) رواه أبو داود والترمذي وصححه من حديث سعيد بن زيد.
(٣) المراجع السابقة.
 
طاهرًا، وأما الجنب والحائض والنفساء إذا استشهد، فيغسل عند أبي حنيفة، كما يغسل الصبي والمجنون. وقال الصاحبان: لا يغسَّلان.
استدل أبو حنيفة على وجوب غسل الجنب ونحوه بما صح عنه ﷺ أنه لما قتل حنظلة بن أبي عامر الثقفي، قال: إن صاحبكم حنظلة تُغسِّله الملائكة، فسألوا زوجته، فقالت: خرج وهو جنب،
فقال ﵊: لذلك غسلته الملائكة (١).
وأورد الصاحبان: أنه لو كان الغسل واجبًا، لوجب على بني آدم، ولما اكتفي بفعل الملائكة. ورد عليهما بالمنع بأنه يحصل بفعلهم؛ لأن الواجب نفس الغسل، أما الغاسل فيجوز أن يكون أيًا كان.
ولا يغسل عن الشهيد دمه، ولا ينزع عنه ثيابه، وإنما يدفن بدمه وثيابه بعد نزع الفرو والحشو والخف والسلاح مما لا يصلح للكفن، لقوله ﷺ: «زمّلوهم بدمائهم» (٢).

وقال الجمهور: 
 لا يغسل الشهيد ولا يكفن ولا يصلى عليه إبقاء لأثر الشهادة عليهم وتعظيمهم باستغنائهم عن دعاء الناس لهم. ولكن تزال النجاسة الحاصلة من غير الدم؛ لأنها ليست من أثر الشهادة، بدليل حديث جابر: «أن النبي ﷺ أمر بدفن شهداء أحد في دمائهم، ولم يغسلهم، ولم يصل عليهم» (٣) وروى البخاري ومسلم أن رسول الله ﷺ قال: «والذي نفس محمد بيده، ما من كَلْم يُكْلَم في سبيل الله إلا جاء كهيئته حين كُلِم: اللون لون الدم، والريح ريح مسك».
(١) رواه محمد بن إسحاق في المغازي عن محمود بن لبيد (نيل الأوطار:٢٩/ ٤).
(٢) رواه الشافعي وأحمد والبيهقي والنسائي.
(٣) متفق عليه.
 
ويدفن الشهيد بثيابه بعد تنحية الجلود والسلاح عنه، لقول النبي ﷺ: «ادفنوهم بثيابهم» (١)، لكن ليس هذا عند الحنابلة بحتم، ولكنه الأولى.
ويستحب دفن الشهيد في مصرعه الذي قتل فيه، للحديث المتقدم المتضمن أمر النبي ﷺ بدفن شهداء أحد في مصارعهم.
والبالغ وغيره سواء؛ لأنه مسلم قتل في معترك المشركين بقتالهم، فأشبه البالغ، وهذا ما يقتضيه العدل، وتؤيده السنة في فعل النبي ﷺ بشهداء أحد، وفيهم صغير، وهو حارثة بن النعمان. ولكن لا يغسل الجنب ونحوه عند المالكية والشافعية؛ لأن حنظلة بن الراهب قتل يوم أحد، وهو جنب، ولم يغسله النبي ﷺ، وقال: «رأيت الملائكة تغسله» (٢) وهذا هو الحق؛ إذ لو كان الغسل واجبًا لم يسقط إلا بفعلنا، ولأنه طهر عن حدث، فسقط بالشهادة كغسل الميت، فيحرم.

شهداء غير المعركة:
الشهيد الذي تكلمنا عنه: هو المختص بثواب خاص، وهو شهيد الدنيا والآخرة. وهناك شهداء آخرون في حكم الآخرة، وفي حكم الدنيا فقط، فالشهداء ثلاثة:

١ - شهيد في حكم الدنيا والآخرة:
 
 وهو شهيد المعركة، أما حكم الدنيا فلا يغسل ولا يصلى عليه عند الجمهور كما أبنت، وأما حكم الآخرة فله ثواب خاص وهو الشهيد الكامل الشهادة.
(١) روى أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس «أن رسول الله ﷺ أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم».
(٢) رواه ابن حبان والحاكم في صحيحهما.
 
٢ - وشهيد في حكم الدنيا فقط: 
 وهو عند الشافعية: من قتل في قتال الكفار بسببه، وقد غل من الغنيمة، أو قتل مدبرًا، أو قاتل رياء أو نحوه، أي لايغسل ولايصلى عليه، ولا ثواب له في الآخرة.

٣ - شهيد في حكم الآخرة فقط: 
كالمقتول ظلمًا من غير قتال، والمبطون إذا مات بالبطن، والمطعون إذا مات بالطاعون، والغريق إذا مات بالغرق، والغريب إذا مات بالغربة، وطالب العلم إذا مات على طلبه، أو مات عشقًا (١) أو بالطلق أو بدار الحرب أو نحو ذلك (٢).
قال الحنابلة (٣): الشهداء غير شهيد المعركة بضعة وعشرون، وعدهم السيوطي نحو الثلاثين: المطعون أي الميت بالطاعون، والمبطون، والغريق، والشريق، والحريق، وصاحب الهدم، أي من مات بانهدام شيء عليه، كمن ألقي عليه حائط ونحوه، لقول ﷺ: «والشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهَدْم، والشهيد في سبيل الله» (٤) وصاحب ذات الجنب، وصاحب السِّل، وصاحب داء في الوجه، والصابر في الطاعون، والمتردي من رؤوس الجبال بغير فعل الكفار، ومن مات في سبيل الله كمن مات في الحج ومن مات في طلب العلم، ومن طلب الشهادة بنية صادقة، وموت المرابط (حارس الحدود والثغور)، وأمناء الله في الأرض وهم العلماء، والمجنون والنفساء واللديغ، ومن قتل دون دينه أو دمه، أو ماله، أو أهله، أو مظلِمته، وفريس
(١) قال ابن عباس: «من عشق وعف وكتم، مات شهيدًا» الأصح وقفه عليه، فشرطه العفة والكتمان.
(٢) مغني المحتاج:٣٥٠/ ١، الدر المختار ورد المحتار:٨٥٢/ ١ وما بعدها.
(٣) كشاف القناع:١١٥/ ٢ ومابعدها، المغني:٥٣٦/ ٢.
(٤) رواه أحمد والترمذي، وقال: حسن صحيح. وفي حديث آخر: «الشهادة سبع سوى القتل» وزاد على ما ذكر في هذا الخبر: صاحب الحريق، وصاحب ذات الجنب، والمرأة في حالة النفاس.
 
السبع، ومن خر عن دابته، والغريب (١)، والعاشق إذا عف وكتم، والميت ليلة الجمعة، والمرتث: وهو من نقل من المعركة حيًا، أو من أكل أو شرب أو نام أو تداوى بعد طعنه، وبقي حيًا وقت صلاة.
والخلاصة: إن كل من مات. بسبب مرض أو حادث أو دفاع عن النفس، أو نقل من قلب المعركة حيًا، أو مات في أثناء الغربة، أو طلب العلم، أو ليلة الجمعة، فهو شهيد آخرة.
وحكم هؤلاء الشهداء في الدنيا، أي شهداء الآخرة: أن الواحد منهم يغسل ويكفن ويصلى عليه اتفاقًا كغيره من الموتى. أما في الآخرة فله ثواب الآخرة فقط، وله أجر الشهداء يوم القيامة.

المعصية والشهادة: 
 المعصية لا تمنع الاتصاف بالشهادة، فيكون الميت شهيدًا عاصيًا؛ لأن الطاعة لا تلغي المعصية إلا في الصغائر، قال تعالى: ﴿إن الحسنات يذهبن السيئات﴾ [هود:١١٤/ ١١] أي إن الحسنات بامتثال الأوامر، خصوصًا في العبادات التي أهمها الصلاة يذهبن السيئات، قال ﷺ: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» (٢).
قال بعض الفقهاء: من غرق في قطع الطريق فهو شهيد، وعليه إثم معصيته، وكل من مات بسبب معصيته فليس بشهيد، وإن مات في معصية بسبب من أسباب الشهادة، فله أجر شهادته، وعليه إثم معصيته.،ولو قاتل على فرس مغصوب أو كان قوم في معصية فوقع عليهم البيت، فلهم الشهادة، وعليهم إثم المعصية.
(١) لما رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف، والدارقطني وصححه عن ابن عباس مرفوعًا: «موت الغريب شهيد».
(٢) حديث حسن رواه الترمذي عن أبي ذر جُندُب بن جُنادة، وأبي عبد الرحمن معاذ بن جبل ﵄.
 
وهذا يعني أنه إذا مات في حالة من حالات الشهادة أثناء معصية فهو شهيد عاص، وإذا مات بسبب المعصية فليس بشهيد. فالمرأة التي تموت بالولادة من الزنا الظاهر أنها شهيدة، أما لو تسببت امرأة في إلقاء حملها فليست بشهيدة للعصيان بالسبب. ومن ركب البحرلمعصية أو سافر آبقًا (هاربًا) أو ناشزة، فمات فليس بشهيد (١).
انتهى الجزء الثاني ويتبعه الجزء الثالث
(الصيام، الاعتكاف، الزكاة، الحج والعمرة)
(١) رد المحتار لابن عابدين:٨٥٤/ ١.

عن الكاتب

Tanya Ustadz

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية