الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

الباب الخامس تَصحيح الأفكار عن التصوف




محتويات

الباب الخامس : تَصحيح الأفكار عن التصوف

مقدمة

تبين لنا في الباب السابق أهمية التصوف ومنزلته في تكوين الشخصية المسلمة المتكاملة، وأنه التطبيق العملي للإسلام، وأنه يهتم بإصلاح ظاهر العبد وعمارة باطنه، وتقويم خلقه، وتصحيح عباداته ومعاملاته.

وإن السادة الصوفية لا يكتفون بأن يوضحوا للناس أحكام الشرع وآدابه بمجرد الكلام النظري، ولكنهم بالإضافة إلى ذلك يأخذون بيد تلميذهم ويسيرون به في مدارج الترقي، ويرافقونه في جميع مراحل سيره إلى الله تعالى، يحيطونه برعايتهم وعنايتهم، ويشملونه بعطفهم وحنانهم، ويوجهونه بحالهم وقالهم، وينهضون به بعلو همتهم وعظيم صدقهم ؛ يذكرونه إذا نسي، ويقوِّمونه إذا انحرف، ويتفقدونه إذا غاب، وينشطونه إذا فتر... وهكذا يرسمون له المنهج العملي الذي يمكنه به أن يتحقق بأركان الدين الثلاثة: الإيمان والإسلام والإحسان.
إن الصوفية أرباب أعمال وأحوال لا أرباب دعاوي وأقوال، فما أسهل الكلام والتعليم، وما أصعب العمل والتطبيق!

وها نحن نعرض في هذا الباب أهم الطرق العملية التي يطبقها رجال التصوف للوصول إلى رضاء الله تعالى ومعرفته، وما هذا المنهج العملي إلا تطبيقاً لكتاب الله تعالى، واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأصحابه الكرام رضوان الله عليهم.
إن الصوفية لم يبتدعوا منهجاً، ولم يبتكروا أسلوباً، ولكنهم ساروا متبعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً وأخلاقاً.

1 - بين الحقيقة والشريعة

تمهيد وتعريف:

لقد ورد في حديث جبريل المشهور الذي يرويه عمر بن الخطاب رضي الله عنه تقسيمُ الدين إِلى ثلاثة أركان، بدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر: “فإِنه جبريل أتاكم يعلمُكُمْ دينَكمْ” [أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الإِيمان. والإِمام أحمد في مسنده في باب الإِيمان والإِسلام والإِحسان ج1. ص64].

1 - فركن الإِسلام: هو الجانب العملي؛ من عبادات ومعاملات وأُمور تعبدية، ومحله الأعضاء الظاهرة الجسمانية. وقد اصطلح العلماء على تسميته بالشريعة، واختص بدراسته السادة الفقهاء.

2 - وركن الإِيمان: وهو الجانب الاعتقادي القلبي؛ من إِيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاء والقدر.. وقد اختص بدراسته السادة علماء التوحيد.

3 - وركن الإِحسان: وهو الجانب الروحي القلبي؛ وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإِن لم تكن تراه فإِنه يراك، وما ينتج عن ذلك من أحوال وأذواق وجدانية، ومقامات عرفانية، وعلوم وهبية، وقد اصطلح العلماء على تسميته بالحقيقة، واختص ببحثه السادة الصوفية.
ولتوضيح الصلة بين الشريعة والحقيقة نضرب لذلك مثلاً الصلاة، فالإِتيان بحركاتها وأعمالها الظاهرة، والتزام أركانها وشروطها، وغير ذلك مما ذكره علماء الفقه، يمثل جانب الشريعة، وهو جسد الصلاة. وحضور القلب مع الله تعالى في الصلاة يمثل جانب الحقيقة، وهو روح الصلاة.

فأعمال الصلاة البدنية هي جسدها، والخشوع روحها. وما فائدة الجسد بلا روح؟! وكما أن الروح تحتاج إِلى جسد تقوم فيه، فكذلك الجسد يحتاج إِلى روح يقوم بها، ولهذا قال الله تعالى: {أقيمُوا الصلاةَ وآتوا الزكاةَ} [البقرة: 110]. ولا تكون الإِقامة إِلا بجسد وروح، ولذا لم يقل: أوجدوا الصلاة.

ومن هذا ندرك التلازم الوثيق بين الشريعة والحقيقة كتلازم الروح والجسد. والمؤمن الكامل هو الذي يجمع بين الشريعة والحقيقة، وهذا هو توجيه الصوفية للناس، مقتفين بذلك أثر الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام.

وللوصول إِلى هذا المقام الرفيع، والإِيمان الكامل، لابد من سلوك الطريقة، وهي مجاهدة النفس، وتصعيد صفاتها الناقصة إِلى صفات كاملة، والترقي في مقامات الكمال بصحبة المرشدين، فهي الجسر الموصل من الشريعة إِلى الحقيقة.
قال السيد رحمه الله تعالى في تعريفاته: (الطريقة هي السيرة المختصة بالسالكين إِلى الله تعالى، من قطع المنازل والترقي في المقامات) [تعريفات السيد ص94].

فالشريعة هي الأساس، والطريقة هي الوسيلة، والحقيقة هي الثمرة وهذه الأشياء الثلاثة متكاملة منسجمة، فَمَنْ تمسَّك بالأولى منها سلك الثانية فوصل إِلى الثالثة، وليس بينها تعارض ولا تناقض. ولذلك يقول الصوفية في قواعدهم المشهورة: (كل حقيقة خالفت الشريعة فهي زندقة). وكيف تخالف الحقيقةُ الشريعةَ وهي إِنما نتجت من تطبيقها.

يقول إِمام الصوفية أحمد زروق رحمه الله تعالى: (لا تصوف إِلا بفقه، إِذ لا تعرف أحكام الله الظاهرة إِلا منه. ولا فقه إِلا بتصوف، إِذ لا عمل إِلا بصدق وتوجه لله تعالى. ولا هما [التصوف والفقه] إِلا بإِيمان، إِذ لا يصح واحد منهما دونه. فلزم الجميع لتلازمها في الحكم، كتلازم الأجسام للأرواح، ولا وجود لها إِلا فيها، كما لا حياة لها إِلا بها، فافهم) [“قواعد التصوف” للشيخ أحمد زروق قاعدة 3. ص3].
ويقول الإِمام مالك رحمه الله تعالى: (مَنْ تصوف ولم يتفقه فقد تزندق، ومن تفقه ولم يتصوف فقد تفسق، ومن جمع بينهما فقد تحقق) [“شرح عين العلم وزين الحلم” للإِمام مُلا علي القاري ج1. ص33].

تزندق الأول لأنه نظر إِلى الحقيقة مجردة عن الشريعة، فقال بالجبر وأن الإِنسان لا خيار له في أمر من الأمور، فهو يتمثل قول القائل:
ألقاهُ في اليمِّ مكتوفاً وقال لهإِياك إِياك أنْ تبتلَّ بالماءِ فعطَّل بذلك أحكام الشريعة والعمل بها، وأبطل حكمتها والنظر إِليها.
وتفسَّق الثاني لأنه لم يدخل قلبه نورُ التقوى، وسرُ الإِخلاص وواعظ المراقبة، وطريقة المحاسبة، حتى يحجب عن المعصية، ويتمسك بأهداب السنة.

وتحقق الثالث لأنه جمع كل أركان الدين: الإِيمان، والإِسلام، والإِحسان، التي اجتمعت في حديث جبريل عليه السلام.
وكما حفظ علماء الظاهر حدود الشريعة، كذلك حفظ علماء التصوف آدابها وروحها، وكما أبيح لعلماء الظاهر الاجتهاد في استنباط الأدلة واستخراج الحدود والفروع، والحكم بالتحليل والتحريم على ما لم يَرِدْ فيه نص، فكذلك للعارفين أن يستنبطوا آداباً ومناهج لتربية المريدين وتهذيب السالكين.

ولقد تحقق السلف الصالح والصوفية الصادقون بالعبودية الحقة والإِسلام الصحيح، إِذ جمعوا بين الشريعة والطريقة والحقيقة، فكانوا متشرِّعين متحققين، يهدون الناس إِلى الصراط المستقيم.

فالدين إِن خلا من حقيقته جفَّت أصولُه، وذوت أغصانه، وفسدت ثمرته.

عن الكاتب

A. Fatih Syuhud

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية