الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

التفسير العلمى | التفسير والمفسرون

التفسير العلمى | التفسير والمفسرون

 عنوان الكتاب: التفسير والمفسرون
 المؤلف: الذهبي، محمد حسين
 حالة الفهرسة: غير مفهرس
 الناشر: مكتبة وهبة
 سنة النشر: 2000
 عدد المجلدات: 3
 رقم الطبعة: 7
 تاريخ إضافته: 15 / 10 / 2008

 

 فهرس الموضوعات

  1. التفسير العلمى
    1. معنى التفسير العلمى
    2. التوسع فى هذا النوع من التفسير وكثرة القائلين به
    3. الإمام الغزالى والتفسير العلمى
    4. الجلال السيوطى والتفسير العلمى
    5. أبو الفضل المرسى والتفسير العلمى
    6. إنكار التفسير العلمى
    7. إنكار الشاطبى للتفسير العلمى
    8. اختيارنا فى هذا الموضوع
  2. الخاتمة.. كلمة عامة عن التفسير وألوانه فى العصر الحديث
    1. التفسير بين ماضيه وحاضره
    2. مميزات التفسير فى العصر الحديث
    3. ألوان التفسير فى العصر الحديث
    4. اللون العلمى للتفسير فى عصرنا الحاضر
    5. الجواهر فى تفسير القرآن الكريم (للشيخ طنطاوى جوهرى)
    6. اللون المذهبى للتفسير فى عصرنا الحاضر
    7. اللون الإلحادى للتفسير فى عصرنا الحاضر
    8. اللون الأدبى الاجتماعى للتفسير فى عصرنا الحاضر
    9. ١- الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده
    10. ٢- السيد محمد رشيد رضا
    11. ٣- الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغى
    12. رجاء واعتذار
  3. العودة الي كتاب التفسير والمفسرون

 

 التفسير العلمى


معنى التفسير العلمى

نريد بالتفسير العلمى: التفسير الذى يُحَكِّم الاصطلاحات العلمية فى عبارات القرآن، ويجتهد فى استخراج مختلف العلوم والآراء الفلسفية منها.
* *

التوسع فى هذا النوع من التفسير وكثرة القائلين به

وقد وقع هذا النوع من التفسير، واتسع القول فى احتواء القرآن كل العلوم ما كان منها وما يكون، فالقرآن فى نظر أصحاب هذه الطريقة يشمل - إلى جانب العلوم الدينية الاعتقادية والعملية - سائر علوم الدنيا على اختلاف أنواعها، وتعدد ألوانها.
* *

الإمام الغزالى والتفسير العلمى


ويظهر لنا - على حسب ما قرأنا - أن الإمام الغزالى كان - إلى عهده - أكثر من استوفى بيان هذا القول فى تفسير القرآن، وأهم مَن أيده وعمل على ترويجه فى الأوساط العلمية الإسلامية، على رغم ما قرر فيها من قواعد فهم عبارات القرآن.
وبين أيدينا كتاب «الإحياء» للغزالى نتصفحه فنجده يعقد الباب الرابع من أبواب آداب تلاوة القرآن، فى فهم القرآن وتفسيره بالرأى من غير نقل. وفيه ينقل عن بعض العلماء «أن القرآن يحوى سبعة وسبعين ألف علم ومائتى علم، إذ كل كلمة علم، ثم يتضاعف ذلك أربعة أضعاف، إذ لكل كلمة ظاهر وباطن، وحد ومطلع»، ثم يروى عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه قال: «مَن أراد علم الأوَّلين والآخرين فليتدبر القرآن»، ثم يقول بعد ذلك كله: «وبالجملة فالعلوم كلها داخلة فى أفعال الله ﷿ وصفاته، وفى القرآن شرح ذاته وأفعاله وصفاته، وهذه العلوم لا نهاية لها، وفى القرآن إشارة إلى مجامعها»، ثم يزيد على ذلك فيقول: «بل كل ما أشكل فهمه على النُظَّار، واختلف فيه الخلائق فى النظريات، والمعقولات، فى القرآن إليه رمز ودلالات عليه، يختص أهل الفهم بدركها».
ثم إننا نتصفح كتابه «جواهر القرآن» الذى ألَّفه بعد الإحياء كما يظهر لنا من مقدمته، فنجده يزيد هذا الذى قرره فى الإحياء بيانًا وتفصيلًا، فيعقد الفصل الرابع منه لكيفية انشعاب العلوم الدينية كلها وما يتصل بها من القرآن عن تقسيمات وتفصيلات تولاها لا نطيل بذكرها، ويكفى أن نقول: إنه قسم علوم القرآن إلى قسمين:
 
٢ ‏/ ٣٤٩
 
الأول: علم الصدف والقشر، وجعل من مشتملاته: علم اللُّغة. وعلم النحو: وعلم القراءات، وعلم مخارج الحروف. وعلم التفسير الظاهر.
والثانى: علم اللُّباب. وجعل من مشتملاته: علم قصص الأوَّلين، وعلم الكلام، وعلم الفقه، وعلم أُصول الفقه، والعلم بالله واليوم الآخر، والعلم بالصراط المستقيم، وطريق السلوك.
ثم يعقد الفصل الخامس منه لكيفية انشعاب سائر العلوم من القرآن، فيذكر علم الطب والنجوم، وهيئة العالَم، وهيئة بدن الحيوان، وتشريح أعضائه، وعلم السحر، وعلم الطلسمات ... وغير ذلك، ثم يقول: «ووراء ما عددته علوم أُخرى، يُعلم تراجمها ولا يخلو العالَم عمن يعرفها، ولا حاجة إلى ذكرها بل أقول: ظهر لنا بالبصيرة الواضحة التى لا يُتمارى فيها أن فى الإمكان والقوة أصنافًا من العلوم بعد لم تخرج من الوجود، وإن كان فى قوة الآدمى الوصول إليها، وعلوم كانت قد خرجت من الوجود واندرست الآن، فلن يوجد فى هذه الأعصار على بسيط الأرض مَن يعرفها، وعلوم أُخر ليس فى قوة البشر أصلًا إدراكها والإحاطة بها، ويحظى بها بعض الملائكة المقرَّبين، فإن الإمكان فى حق الآدمى محدود، والإمكان فى حق المَلَك محدود إلى غاية من النقصان، وإنما الله سبحانه هو الذى لا يتناهى العلم فى حقه».
ثم يقول بعد ذلك: "ثم هذه العلوم ما عددنا وما لم نعددها، ليست أوائلها خارجة من القرآن، فإن جميعها مغترفة من بحر واحد من بحار معرفة الله تعالى، وهو بحر الأفعال، وقد ذكرنا أنه بحر لا ساحل له، وأن البحر لو كان مِدَادًا لكلماته لنَفِدَ البحر قبل أن تنفد، فمن أفعال الله تعالى وهو بحر الأفعال - مثلًا - الشفاء والمرض كما قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: ٨٠]، وهذا الفعل الواحد لا يعرفه إلا مَن عرف الطب بكماله، إذ لا معنى للطب إلا معرفة المرض بكماله وعلاماته، ومعرفة الشفاء وأسبابه، ومن أفعاله تقدير معرفة الشمس والقمر ومنازلهما بُحسْبان، وقد قال الله تعالى: ﴿الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ﴾ [الرحمن: ٥]، وقال: ﴿وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب﴾ [يونس: ٥]، وقال: ﴿وَخَسَفَ القمر * وَجُمِعَ الشمس والقمر﴾ [القيامة: ٨-٩]، وقال: ﴿يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل﴾ [الحج: ٦١، لقمان: ٢٩] وقال: ﴿والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم﴾ [يس: ٣٨] .. ولا يعرف حقيقة سير الشمس والقمر بحسبان وخسوفهما، وولوج الليل فى النهار، وكيفية تكور أحدهما
 
٢ ‏/ ٣٥٠
 
على الآخر إلا من عرف هيئات تركيب السموات والأرض، وهو علم برأسه، ولا يعرف كمال معنى قوله: ﴿ياأيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم * الذي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * في أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ﴾ [الانفطار: ٦-٨] إلا مَن عرف تشريح الأعضاء من الإنسان ظاهرًا وباطنًا، وعددها وأنواعها، وحكمتها ومنافعها، وقد أشار فى القرآن فى مواضع إليها، وهى من علوم الأوَّلين والآخرين، وفى القرآن مجامع علم الأوَّلين والآخرين. وكذلك لا يعرف معنى قوله: ﴿سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾ [الحجر: ٢٩، وسورة ص: ٧٢] ما لم يعلم التسوية، والنفخ، والروح، ووراءها علوم غامضة يغفل عن طلبها أكثر الخلق، وربما لا يفهمونها إن سمعوها من العالِم بها، ولو ذهبت أُفَصِّل ما تدل عليه آيات القرآن من تفاصيل الأفعال لطال، ولا يمكن الإشارة إلا إلى مجامعها.. فتفكر فى
القرآن، والتمس غرائبه لتصادف فيه مجامع علم الأوَّلين والآخرين».
* *

الجلال السيوطى والتفسير العلمى

كذلك نجد العلامة جلال الدين السيوطى ينحو منحى الغزالى فى القول بالتفسير العلمى، ويقرر ذلك بوضوح وتوسع فى كتابه «الإتقان» فى النوع الخامس والستين منه، كما يقرر ذلك أيضًا بمثل هذا الوضوح والتوسع فى كتابه «الإكليل فى استنباط التنزيل» ونجده يسوق من الآيات والأحاديث والآثار ما يستدل به على أن القرآن مشتمل على كل العلوم.
فمن الآيات: قوله تعالى فى الآية [٣٨] من سورة الأنعام: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ﴾، وقوله فى الآية [٨٩] من سورة النحل: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾ .
ومن الأحاديث: ما أخرجه الترمذى وغيره: أن رسول الله ﷺ قال: «ستكون فتن»، قيل: وما المخرج منها؟ قال: «كتاب الله.. فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما يعدكم، وحكم ما بينكم».
وما أخرجه أبو الشيخ عن أبى هريرة أنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله لو أغفل شيئًا لأغفل الذّرَّة والخردلة والبعوضة».
ومن الآثار: ما أخرجه سعيد بن منصور عن ابن مسعود أنه قال: «مَن أراد العلم فعليه بالقرآن، فإن فيه خبر الأوَّلين والآخرين».
وما أخرجه ابن أبى حاتم عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه قال: «أَنْزلَ فى القرآن كل علم، وبَيَّنَ لنا فيه كل شىء، لكن علمنا يقصر عما بَيَّنَ لنا فى القرآن».
 
٢ ‏/ ٣٥١
 
ثم نجده بعد أن يسوق هذه الأدلة وغيرها يذكر لنا عن بعض العلماء أنه استنبط أن عمر النبى ﷺ ثلاث وستون سنة من قوله تعالى فى الآية [١١] من سورة المنافقون: ﴿وَلَن يُؤَخِّرَ الله نَفْسًا إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ﴾، فإنها رأس ثلاث وستين سورة، وعقَّبها بـ «التغابن» ليُظهر التغابن فى فقده«.
* *

أبو الفضل المرسى والتفسير العلمى
ثم ذكر عن أبى الفضل المرسى أنه قال فى تفسيره:»جمع القرآن علوم الأوَّلين والآخرين، بحيث لم يحط بها علمًا حقيقة إلا المتكلم به، ثم رسول الله ﷺ، خلا ما استأثر به ﷾، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم، مثل الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس حتى قال: لو ضاع لى عقال بعير لوجدته فى كتاب الله تعالى، ثم ورث عنهم التابعون بإحسان، ثم تقاصرت الهمم، وفترت العزائم، وتضاءل أهل العلم وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه، فنوَّعوا علومه، وقامت كل طائفة بفن من فنونه، فاعتنى قوم بضبط لغاته، وتحرير كلماته، ومعرفة مخارج حروفه، وعددها، وعدد كلماته، وآياته، وسوره، وأحزابه، وأنصافه، وأرباعه، وعدد سجداته، والتعليم عند كل عشر آيات ... إلى غير ذلك من حصر الكلمات المتشابهة، والآيات المتماثلة، من غير تعرض لمعانيه، ولا تدبر لما أُودع فيه، فسُمُّوا القُرَّاء.
واعتنى النحاة بالمعرب منه والمبنى من الأسماء والأفعال، والحروف العاملة، وغيرها، وأوسعوا الكلام فى الأسماء وتوابعها، وضروب الأفعال. واللازم، والمتعدى، ورسوم خط الكلمات، وجميع ما يتعلق به، حتى إن بعضهم أعرب مشكله، وبعضهم أعربه كلمة كلمة.
واعتنى المفسِّرون بألفاظه، فوجدوا منه لفظًا يدل على معنى واحد، ولفظًا يدل على معنيين، ولفظًا يدل على أكثر، فأجروا الأول على حكمه، وأوضحوا معنى الخفى منه، وخاضوا فى ترجيح أحد محتملات ذى المعنيين والمعانى، وأعمل كل منهم فكره، وقال بما اقتضاه نظره.
واعتنى الأُصوليون بما فيه من الأدلة القطعية، والشواهد الأصلية والنظرية، مثل قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا﴾ ... إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، فاستنبطوا منها أدلة على وحدانية الله، ووجوده، وبقائه، وقِدَمه، وقُدرته، وعلمه، وتنزيهه عما لا يليق به، وسموا هذا العلم بأُصول الدين.
وتأملت طائفة منهم معانى خطابه، فرأت منها ما يقتضى العموم، ومنها ما يقتضى
 
٢ ‏/ ٣٥٢
 
الخصوص، إلى غير ذلك، فاستنبطوا منه أحكام اللُّغة من الحقيقة والمجاز، وتكلموا فى التخصيص، والإضمار، والنص، والظاهر، والمُجمَل، والمُحْكَم، والمتشابه، والأمر، والنهى، والنسخ ... إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة، واستصحاب الحال، والاستقراء، وسموا هذا الفن أصول الفقه.
وأحكمت طائفة صحيح النظر، وصادق الفكر فيما فيه من الحلال والحرام، وسائر الأحكام، فأسسوا أُصوله، وفرَّعوا فروعه، وبسطوا القول فى ذلك بسطًا حسنًا، وسموه بعلم الفروع، وبالفقه أيضًا.
وتلمحت طائفة ما فيه من قصص القرون السابقة، والأُمم الخالية، ونقلوا أخبارهم، ودوَّنوا آثارهم ووقائعهم، حتى ذكروا بدء الدنيا، وأول الأشياء، وسموا ذلك بالتاريخ.
وتنبَّه آخرون لما فيه من الحِكَم، والأمثال، والمواعظ التى تقلقل قلوب الرجال، وتكاد تدكدك الجبال، فاستنبطوا مما فيه من الوعد، والوعيد، والتحذير، والتبشير، وذكر الموت، والمعاد، والنشر، والحشر، والحساب، والعقاب، والجنَّة، والنار، فصولًا من المواعظ، وأُصولًا من الزواجر، فسُمُّوا بذلك الخطباء والوُعَّاظ.
واستنبط قوم مما فيه من أصول التعبير، مثل ما ورد فى قصة يوسف فى البقرات السمان، وفى منامى صاحبى السجن، وفى رؤياه الشمس والقمر والنجوم ساجدة، وسَمُّوه تعبير الرؤيا، واستنبطوا تأويل كل رؤيا من الكتاب، فإن عَزَّ عليهم إخراجها منه فمن السُّنَّة التى هى شارحة للكتاب، فإن عَزَّ فمن الحِكَم والأمثال، ثم نظروا إلى اصطلاح العوام فى مخاطباتهم وعُرف عاداتهم، الذى أشار إليه القرآن بقوله: ﴿وَأْمُرْ بالمعروف﴾ [لقمان: ١٧] .. وأخذ قوم مما فى آية المواريث من ذكر السهام وأربابها وغير ذلك، علم الفرائض، واستنبطوا منها من ذكر النِصْف، والثُّلُث، والرُّبُع، والسُّدُس، والثُّمُن، حساب الفرائض، ومسائل العدل، واستخرجوا منه أحكام الوصايا.
ونظر قوم إلى ما فيه من الآيات الدالات على الحِكَم الباهرة، فى الليل، والنهار، والشمس، والقمر، ومنازله، والبروج، وغير ذلك فاستخرجوا منه علم المواقيت.
ونظر الكُتَّاب والشعراء إلى ما فيه من جزالة اللَّفظ، وبديع النظم، وحُسن السياق، والمبادىء، والمقاطع، والمخالص، والتلوين فى الخطاب، والإطناب، والإيجاز، وغير ذلك واستنبطوا منه المعانى، والبيان، والبديع.
ونظر فيه أرباب الإشارات، وأصحاب الحقيقة، فلاح لهم من ألفاظه معانٍ ودقائق، جعلوا لها أعلامًا اصطلحوا عليها، مثل: الفناء، والبقاء، والحضور. والخوف، والهيبة، والأُنس، والوحشة، والقبض، والبسط، وما أشبه ذلك.
هذه الفنون أخذتها المِلَّة الإسلامية منه، وقد أحتوى على علوم أُخَر من علوم
 
٢ ‏/ ٣٥٣
 
الأوائل مثل: الطّب، والجدل، والهيئة، والهندسة، والجبر، والمقابلة، والنجامة، وغير ذلك من العلوم.
أما الطب: فمداره على نظام الصحة واستحكام القوة، وذلك إنما يكون باعتدال المزاج بتفاعل الكيفيات المتضادة، وقد جمع ذلك فى آية واحدة وهى قوله تعالى: ﴿وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾، [الفرقان: ٦٧] وعرفنا فيه بما يفيد نظام الصحة بعد اختلاله، وحدوث الشفاء للبدن بعد اعتلاله فى قوله تعالى: ﴿شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ﴾ [النحل: ٦٩] .. ثم زاد على طب الأجسام بطب القلوب، وشفاء الصدور.
وأما الهيئة: ففى تضاعيف سوره من الآيات التى ذكر فيها ملكوت السموات والأرض، وما بث فى العالم العلوى والسفلى من المخلوقات.
وأما الهندسة: ففى قوله تعالى: ﴿انطلقوا إلى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ * لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللهب﴾ [المرسلات: ٣٠-٣١] .. فإن فيه قاعدة هندسية، وهو أن الشكل المثلث لا ظل له.
وأما الجدل: فقد حوت آياته من البراهين، والمقدمات، والنتائج، والقول بالموجب، والمعارضة، وغير ذلك شيئًا كثيرًا، ومناظرة إبراهيم نمرود، ومحاجته قومه أصل فى ذلك عظيم.
وأما الجبر والمقابلة فقد قيل: إن أوائل السور فيها ذكر مدد وأعوام وأيام التواريخ لأُمم سالفة. وإن فيها بقاء هذه الأمة، وتاريخ مدة أيام الدنيا، وما مضى وما بقى، مضروب بعضها فى بعض.
وأما النجامة: ففى قوله تعالى: ﴿أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ﴾ [الأحقاف: ٤]، فقد فسَّره بذلك ابن عباس.
وفيه أُصول الصنائع وأسماء الآلات التى تدعو الضرورة إليه، كالخياطة فى قوله: ﴿وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ﴾ [الأعراف: ٢٢، طه: ١٢١]، والحدادة: ﴿آتُونِي زُبَرَ الحديد﴾ [الكهف: ٩٦] والبناء فى آيات، والنجارة: ﴿واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا﴾ [هود: ٣٧]، والغزل: ﴿نَقَضَتْ غَزْلَهَا﴾ [النحل: ٩٢]، والنسج: ﴿كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتًا﴾ [العنكبوت: ٤١]، والفلاحة: ﴿أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ﴾ [الواقعة: ٦٣ وما بعدها] ... الآيات، والصيد فى آيات، والغوص: ﴿والشياطين كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ﴾ [ص: ٣٧]، ﴿وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً﴾ [النحل: ١٤]، والصياغة: ﴿واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ﴾ [الأعراف: ١٤٨]، والزجاجة: ﴿المصباح فِي
 
٢ ‏/ ٣٥٤
 
زُجَاجَةٍ﴾، ﴿مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ﴾ [النمل: ٤٤]، والفخارة: ﴿فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين﴾ [القصص: ٣٨]، والملاحة: ﴿أَمَّا السفينة﴾ [الكهف: ٧٩] ... . الآية، والكتابة ﴿عَلَّمَ بالقلم﴾ [العلق: ٤] وفى آيات أُخَر. والخَبْز: ﴿أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا﴾ [يوسف: ٣٦]، والطبخ: ﴿بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾ [هود: ٦٩]، والقصارة: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر: ٤]، ﴿قَالَ الحواريون﴾ [آل عمران: ٥٢، المائدة: ١١٢، الصف: ١٤] وهم القصَّارون، والجزارة: ﴿إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ [المائدة: ٣]، والبيع والشراء فى آيات، والصبغ: ﴿صِبْغَةَ الله﴾ [البقرة: ١٣٨] ﴿جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ﴾، [فاطر: ٢٧] والحجارة: ﴿وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتًا﴾ [الشعراء: ١٤٩]، والكيالة والوزن فى آيات كثيرة، والرمى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ﴾ [الأنفال: ١٧] ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: ٦٠] .
وفيه من أسماء الآلات وضروب المأكولات، والمشروبات، والمنكوحات، وجميع ما وقع ويقع فى الكائنات ما يحقق معنى قوله: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٣٨] .. قال السيوطى: انتهى كلام المرسى ملخصًا مع زيادات.
ثم بعد روايته لهذه المقالة الطويلة، نجده يذكر عن أبى بكر بن العربى أنه قال فى كتابه «قانون التأويل»: «علوم القرآن خمسين علمًا، وأربعمائة علم، وسبعة آلاف علم، وسبعون ألف علم، على عدد كلم القرآن مضروبة فى أربعة، إذ لكل كلمة ظهر وبطن، وحد ومطلع، وهذا مطلق دون اعتبار التركيب وما بينها من روابط، وهذا ما لا يُحصى، وما لا يعمله إلا الله».
وأخيرًا عقَّب السيوطى على هذه النقول وغيرها فقال: «وأنا أقول: قد اشتمل كتاب الله العزيز على كل شىء، أما أنواع فليس منها باب ولا مسألة هى أصلًا إلا وفى القرآن ما يدل عليها، وفيه عجائب المخلوقات، وملكوت السموات والأرض، وما فى الأفق الأعلى وما تحت الثرى و.. و... إلى غير ذلك مما يحتاج شرحه إلى مجلدات».
ومن هذا يتبين لك كيف ظهرت آثار الثقافات العلمية للمسلمين فى تفسير القرآن الكريم، وكيف حاول هؤلاء العلماء المتقدمون أن يجعلوا القرآن منبع العلوم كلها، ما جَدَّ وما يَجِدّ إلى يوم القيامة.
ولو أنَّا تتبعنا سلسلة البحوث التفسيرية للقرآن الكريم، لوجدنا أن هذه النزعة - نزعة التفسير العلمى - تمتد من عهد النهضة العلمية العباسية إلى يومنا هذا، ولوجدنا أنها كانت فى أول الأمر عبارة عن محاولات، يُقصد منها التوفيق بين القرآن،
 
٢ ‏/ ٣٥٥
 
وما جَدَّ من العلوم، ثم وُجِدت الفكرة مركَّزة وصريحة على لسان الغزالى، وابن العربى، والمرسى، والسيوطى، ولوجدنا أيضًا أن هذه الفكرة قد طُبِّقت علميًا، وظهرت فى مثل محاولات الفخر الرازى، ضمن تفسيره للقرآن.
ثم وُجِدت بعد ذلك كتب مستقلة فى استخراج العلوم من القرآن، وتتبع الآيات الخاصة بمختلف العلوم، وراجت هذه الفكرة فى العصر المتأخر رواجًا كبيرًا بين جماعة من أهل العلم، ونتج عن ذلك مؤلفات كثيرة تعالج هذا الموضوع، كما أُلِّفت بعض التفاسير التى تسير على ضوء هذه الفكرة. ونرى أن نؤجل البحث عن التفسير العلمى فى هذه المرحلة الأخيرة إلى خاتم الرسالة، حيث نعرض لألوان التفسير فى العصر الحديث إن شاء الله تعالى.
* * *

إنكار التفسير العلمى
إذا كانت فكرة التفسير العلمى قد راجت عند بعض المتقدمين، وازدادت رواجًا عند بعض المتأخرين، فإنها لم تلق رواجًا عند بعض العلماء الأقدمين، كما أنها لم تلق رواجًا عند بعض المتأخرينم منهم أيضًا.
* *

إنكار الشاطبى للتفسير العلمى
ويظهر لنا على حسب ما قرأنا أن زعيم المعارضة لهذه الفكرة فى العصور المتقدمة هو الفقيه الأصولى: أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبى، الأندلسى، المتوفى سننة ٧٩٠ هـ (تسعين وسبعمائة من الهجرة)، وذلك أنَّا نجده فى كتابه «الموافقات» يعقد بحثًا خاصًا لمقاصد الشارع، وينوِّع هذه المقاصد إلى أنواع تولى شرحها وبيانها، والذى يهمنا هنا النوع الثانى منها وهو «بيان قصد الشارع فى وضع الشريعة للأفهام» وفى المسألة الثالثة من مسائل هذا النوع نجده يقرر أن «هذه الشريعة المباركة أُمِّية، لأن أهلها كذلك فهو أجرى على اعبتار المصالح».. ثم دلَّل على ذلك بأُمور ثلاثة لا نطيل بذكرها، ثم عقَّب بفصل ذكر فيه: «إن العرب كان لها اعتناء بعلوم ذكرها الناس، وكان لعقلائهم اعتناء بمكارم الأخلاق، واتصاف بمحاسن الشيم، فصححت الشريعة منها ما هو صحيح وزادت عليه، وأبطلت ما هو باطل، وبيَّنت منافع ما ينفع من ذلك، ومضار ما يضر منه»، ثم ذكر من العلوم الصحيحة التى كان للعرب اعتناء بها: علم النجوم وما يختص به من الاهتداء فى البر والبحر، واختلاف الأزمان باختلاف سيرها، وما يتعلق بهذا المعنى. ثم قال: "وهو معنى مقرر فى أثناء القرآن
 
٢ ‏/ ٣٥٦
 
فى مواضع كثيرة كقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ النجوم لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر﴾ [الأنعام: ٩٧]، وقوله: ﴿وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ [النحل: ١٦]، وقوله: ﴿والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حتى عَادَ كالعرجون القديم * لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ الليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس: ٣٩-٤٠]، وقوله: ﴿هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب﴾ [يونس: ٥]، وقوله: ﴿وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ الليل وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً﴾ [الإسراء: ١٢] ... الآية، وقوله: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ﴾ [الملك: ٥]، وقوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج﴾ [البقرة: ١٨٩] ...
وما أشبه ذلك من الآيات.
وذكر علم الأنواء، وأوقات نزول الأمطار، وإنشاء السحاب، وهبوب الرياح المثيرة لها، وعرض لما ورد فى ذلك من القرآن مثل قوله تعالى: ﴿هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال * وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ﴾ [الرعد: ١٢-١٣] ... الاية، وقوله: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ المآء الذي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن أَمْ نَحْنُ المنزلون﴾ [الواقعة: ٦٨-٦٩]، وقوله: ﴿والله الذي أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [فاطر: ٩] ... وغير ذلك من الآيات.
وذكر علم التاريخ وأخبار الأُمم الماضية، وفى القرآن من ذلك ما هو كثير ... قال تعالى: ﴿ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ [آل عمران: ٤٤] ... الاية، وقال تعالى: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هاذا﴾ [هود: ٤٩] .
وذكر علم الطب، وبيَّن أنه كان فى العرب منه شىء مبنى على تجارب الأُميين، لا على قواعد الأقدمين. قال: «وعلى ذلك المساق جاء فى الشريعة لكن على وجه جامع، شاف، قليل يطلع منه على كثير، فقال تعالى: ﴿وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا﴾ [الأعراف: ٣١] .
وذكر التفنن فى علم فنون البلاغة، والخوض فى وجوه الفصاحة، والتصرف فى أساليب الكلام.. قال:»وهو أعظم منتحلاتهم، فجاءهم بما أعجزهم من القرآن، قال تعالى: ﴿قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هاذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء: ٨٨] ..
وذكر ضرب الأمثال، واستشهد بقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هاذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ﴾ [الروم: ٥٨] .
 
٢ ‏/ ٣٥٧
 
وذكر من العلوم التى عنى بها العرب وأكثرها باطل أو جميعها: علم العيافة، والزجر، والكهانة، وخط الرمل، والضرب بالحصى، والطَيْرة، قال: «فأبطلت الشريعة من ذلك الباطل، ونهت عنه كالكهانة، والزجر، وخط الرمل. وأقرت الفأل لا من جهة تَطلُّب الغيب، فإن الكهانة والزجر كذلك، وأكثر هذه الأمور تَخرُّص على علم الغيب من غير دليل، فجاء النبى ﷺ بجهة من تعرف علم الغيب مما هو حق محض، وهو الوحى والإلهام، وبقى للناس من ذلك بعد موته ﵇ جزء من النبوة وهو الرؤيا الصالحة، وأنموذج من غيره لبعض الخاصة وهو الإلهام والفراسة».
ثم بعد هذا البيان الذى أوضح فيه الشاطبى أن الشريعة فى تصحيح ما صححت وإبطال ما أبطلت قد عرضت من ذلك إلى ما تعرفه العرب من العلوم، ولم تخرج عما ألفوه، نراه يزيد هذا البيان إسهابًا وإيضاحًا، ويتوجه باللَّوم إلى مَن أضافوا للقرآن كل علوم الأوَّلين والآخرين، مفندًا هذا الزعم، الذى اعتقد أن قائليه قد تجاوزوا به الحد فى دعواهم على القرآن. وذلك حيث يقول فى المسألة الرابعة من مسائل النوع الثانى من المقاصد - أعنى مقاصد وضع الشريعة للإفهام - «ما تقرر من أُمِّية الشريعة وأنها جارية على مذاهب أهلها - وهم العرب - ينبنى عليه قواعد: منها: أن كثيرًا من الناس تجاوزوا فى الدعوى على القرآن الحد، فأضافوا إليه لك علم يُذكر للمتقدمين والمتأخرين من علوم الطبعيات والتعاليم كالهندسة وغيرها من الرياضيات، والمنطق وعلم الحروف، وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها، وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح».
ثم يصحح الشاطبى رأيه هذا ويحتج له بما عُرِف عن السَلَف من نظرهم فى القرآن فيقول: «... إن السَلَف الصالح - من الصحابة والتابعين ومن يليهم - كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه وما أُودع فيه، ولم تبلغنا أنه تكلم أحد منهم فى شىء من هذا المدَّعى سوى ما تقدم، وما ثبت فيه من أحكام التكاليف، وأحكام الآخرة، وما يلى ذلك، ولو كان لهم فى ذلك خوض ونظر لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة، إلا أن ذلك لم يكن فدل على أنه غير موجود عندهم، وذلك دليل على أن القرآن لم يُقصد فيه تقرير لشىء مما زعموا. نعم تضمن علومًا من جنس علوم العرب أو ما ينبنى على معهودها مما يتعجب منه أُولوا الألباب، ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة، دون الاهتداء بأعلامه، والاستنارة بنوره، وأما أن فيه ما ليس من ذلك فلا».
ثم أخذ الشاطبى بعد هذا فى ذكر ما استند إليه أرباب التفسير العلمى من الأدلة فقال: "وربما استدلوا على دعواهم بقوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَانًا لِّكُلِّ
 
٢ ‏/ ٣٥٨
 
شَيْءٍ﴾ [النحل: ٨٩]، وقوله: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٣٨] ... ونحو ذلك، وبفواتح السور - وهى مما لم يُعهد عند العرب - وبما نُقِل عن الناس فيها، وربما حكى من ذلك عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه وغيره أشياء»
ثم أخذ الشاطبى ﵀ يفند هذه الأدلة فقال:
«فأما الآيات: فالمراد بها عند المفسِّرين ما يتعلق بحال التكليف والتعبد، أو المراد بالكتاب فى قوله: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ﴾: اللَّوح المحفوظ، ولم يذكروا فيها ما يقتضى تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية.
وأما فواتح السور.. فقد تكلم الناس فيها بما يقتضى أن للعرب بها عهدًا، كعدد الجُمَّل الذى تَعرَّفوه من أهل الكتاب، حسبما ذكره أصحاب السير، أو هى من المتشابهات التى لا يعلم تأويلها إلى الله تعالى، وغير ذلك. وأما تفسيرها بما لا عهد به فلا يكون ولم يدعه أحد ممن تقدم، فلا دليل فيها على ما ادعوا، وما يُنقل عن علىّ أو غيره فى هذا لا يثبت، فليس بجائز أن يُضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه، كما أنه لا يصح أن يُنكر منه ما يقتضيه، ويجب الاقتصار فى الاستعانة على فهمه على كل ما يُضاف علمه إلى العرب خاصة، فبه يوصل إلى علم ما أُودع من الأحكام الشرعية، فمَن طلبه بغير ما هو أداة له ضَلَّ عن فهمه، وتَقوَّل على الله ورسوله فيه، والله أعلم، وبه التوفيق».
هذه هى الخلاصة الشاملة لمقالة الشاطبى فى هذا الموضوع، وذلك هو رأيه فى التفسير العلمى الذى شغف به بعض العلماء المتقدمين والمتأخرين، وأحسب أنى - وقد وضعت بين يدى القارىء مقالة كل فريق وما يستند إليه من أدلة - قد أنرتُ له الطريق، وأوضحتُ له السبيل، ليختار لنفسه ما يحلو، بعد أن يحكم على أحدهما بأنه خير مقالة وأحسن دليلًا.
* *



اختيارنا فى هذا الموضوع

أما أنا فاعتقادى أن الحق مع الشاطبى ﵀، لأن الأدلة التى ساقها لتصحيح مُدَّعاه أدلة قوية، لا يعتريها الضعف، ولا يتطرق إليها الخلل، ولأن ما أجاب به على أدلة مخالفيه أجوبة سديدة دامغة لا تثبت أمامها حججهم، ولا يبقى معها مُدَّعاهم.
وهناك أُمور أُخرى يتقوى بها اعتقادنا أن الحق فى جانب الشاطبى ومَن لَفَّ لفه، فمن ذلك ما يأتى:
أولا - الناحية اللُّغوية:
وذلك أن الألفاظ اللُّغوية لم تقف عند معنى واحد من لدن استعمالها إلى اليوم،
 
٢ ‏/ ٣٥٩
 
بل تدرجت حياة الألفاظ وتدرجت دلالاتها، فكان لكثير من الألفاظ دلالات مختلفة، ونحن وإن كنا لا نعرف شيئًا عن تحديد هذا التدرج وتاريخ ظهور المعانى المختلفة للكلمة الواحدة، نستطيع أن نقطع بأن بعض المعانى للكلمة الواحدة حادث باصطلاح أرباب العلوم والفنون، فهناك معان لُغوية، وهناك معان شرعية، وهناك معان عُرْفية، وهذه المعانى كلها تقوم بلفظ واحد، بعضها عرفته العرب وقت نزول القرآن، وبعضها لا علم للعرب به وقت نزول القرآن، نظرًا لحدوثه وطروه على اللَّفظ، فهل يعقل بعد ذلك أن نتوسع هذا التوسع العجيب فى فهم ألفاظ القرآن، وجعلها تدل على معان جدَّت باصطلاح حادث، ولم تُعرف للعرب الذين نزل القرآن عليهم؟ وهل يعقل أن الله تعالى إنما أراد بهذه الألفاظ القرآنية هذه المعانى التى حدثت بعد نزول القرآن بأجيال، فى الوقت الذى نزلت فيه هذه الألفاظ من عند الله، وتُليت أول ما تُليت على مَن كان حول النبى ﷺ؟. أعتقد أن هذا أمر لا يعقله إلا مَن سفه نفسه، وأنكر عقله.
*
ثانيًا - الناحية البلاغية:
عُرِّفت البلاغة بأنها مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ومعلوم أن القرآن فى أعلى درجات البلاغة، فإذا نحن ذهبنا مذهب أرباب التفسير العلمى وقلنا بأن القرآن متضمن لكل العلوم، وألفاظه متحملة لهذه المعانى المستحدّثة، لأوقعنا أنفسنا فى ورطة لا خلاص لنا منها إلا بما يخدش بلاغة القرآن، أو يذهب بفطانة العرب، وذلك لأن مَن خوطبوا بالقرآن فى وقت نزوله أن كانوا يجهلون هذه المعانى وكان الله يريدها من خطابه إياهم لزم على ذلك أن يكون القرآن غير بليغ، لأنه لم يراع حال المخاطب وهذا سلب لأهم خصائص القرآن الكريم. وإن كانوا يعرفون هذه المعانى فلِمَ لَمْ تظهر نهضة العرب العلمية من لدن نزول القرآن الذى حوى علوم الأوَّلين والآخرين؟ ولِمَ لَمْ تقم نهضتهم على هذه الآيات الشارحة لمختلف العلوم وسائر الفنون؟.. وهذا أيضًا سلب لأهم خصائص العرب ومميزاتهم.
*
ثالثًا: الناحية الاعتقادية:
القرآن الكريم باق ما تعاقب الملوان، ونظامه نافع لكل عصر وزمان، فهو يتحدث إلى عقول الناس جميعًا من لدن نزوله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو يساير حياتهم فى كل ما يمرون به من مراحل الزمن، وهذا كله بحكم كونه كتاب الشريعة العامة الشاملة، وقانون الدين الذى جعله الله خاتم شرائع السموات إلى أهل الأرض.
هذا ما يجب على كل مسلم أن يعتقده ويدين به، حتى يسلم له دينه، ولا يرتاب
 
٢ ‏/ ٣٦٠
 
فيه، فإذا نحن ذهبنا مذهب مَن يُحمِّل القرآن كل شىء، وجعلناه مصدرًا لجوامع الطب، وضوابط الفلك، ونظريات الهندسة، وقوانين الكيمياء، وما إلى ذلك من العلوم المختلفة، لكُنا بذلك قد أوقعنا الشك فى عقائد المسلمين نحو القرآن الكريم، وذلك لأن قواعد العلوم وما تقوم عليه من نظريات، لا قرار لها ولا بقاء، فرُبَّ نظرية علمية قال بها عالِمٌ اليوم، ثم رجع عنها بعد زمن قليل أو كثير، لأنه ظهر له خطؤها. وأمام سمعنا وبصرنا من المثل ما يشهد بأن كثيرًا من جوامع العلم لا يضبطها اليوم أحد إلا تغير ضبطه لها بعد ذلك، وكم بين نظريات العلم قديمة وحديثة من تناف وتضاد، فهل يعقل أن يكون القرآن محتملًا لجميع هذه النظريات والقواعد العلمية على ما بينها من التنافى والتضاد؟ وإذا كان هذا معقولًا، فهل يعقل أن يُصدِّق مسلم بالقرآن بعد هذا، ويكون على يقين بأنه كتاب الله الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟؟
الحق أن القرآن لا يعنى بهذا اللَّون من حياة الناس، ولا يتعهده بالشرح ولا يتولاه بالبيان، حتى يكون مصدرهم الذى يرجعون إليه فى تعرف حياتهم العلمية الدنيوية.
ويبدو لنا أن أنصار هذه الفكرة - فكرة التفسير العلمى - لم يقولوا بها، ولم يعملوا على تأييدها إلا بعد أن نظروا إليها كوجه من وجوه إعجاز القرآن الكريم. وبيان صلاحيته للحياة، وتمشيه معها على اختلاف أحوالها وتطور أزمانها. ولكن «ما هكذا يا سعد تورد الإبل» فإن إعجاز القرآن غنى عن أن يُسلك فى بيانه هذا المسلك المتكلف، الذى قد يُذهب بالإعجاز، وهناك من ألوان الإعجاز غير هذا ما يشهد للقرآن بأنه كتاب الله المنزَّل على محمد ﷺ.
وإذا كان أرباب هذا المسلك فى التفسير يستندون إلى ما تناولته بعض آيات القرآن من حقائق الكون ومشاهده، ودعوة الله لهم بالنظر فى كتاب الكون وآياته التى بثًَّها فى الآفاق وفى أنفسهم، إذا كانوا يستندون إلى مثل هذا فى دعواهم أن القرآن قد جمع علوم الأوَّلين والآخرين، فهم مخطئون ولا شك، وذلك لأن تناول القرآن لحقائق الكون ومشاهده، ودعوته إلى النظر فى ملكوت السموات والأرض وفى أنفسهم، لا يُراد منه إلا رياضة وجدانات الناس، وتوجيه عامتهم وخاصتهم إلى مكان العظة والعبرة، ولفتهم إلى آيات قدرة الله ودلائل وحدانيته، من جهة ما لهذه الآيات والمشاهد من روعة فى النفس وجلال فى القلب، لا من جهة ما لها من دقائق النظريات وضوابط القوانين، فليس القرآن كتاب فلسفة أو طب أو هندسة.
وليعلم أصحاب هذه الفكرة أن القرآن غنى عن أن يعتز بمثل هذا التكلف، الذى
 
٢ ‏/ ٣٦١
 
يوشك أن يخرج به عن هدفه الإنسانى الاجتماعى، فى إصلاح الحياة، ورياضة النفس، والرجوع بها إلى الله تعالى.
وليعلم أصحاب هذه الفكرة أيضًا، أن من الخير لهم ولكتابهم أن لا ينحوا بالقرآن هذا المنحى فى تفسيرهم، رغبة منهم فى إظهار إعجاز القرآن وصلاحيته للتمشبى مع التطور الزمنى، وحسبهم أن لا يكون فى القرآن نص صريح يصادم حقيقة علمية ثابتة، وحسب القرآن أنه يمكن التوفيق بينه وبين ما جَدَّ ويَجِدّ من نظريات وقوانين علمية، تقوم على أساس من الحق، وتستند إلى أصل من الصحة.
* * *
 
٢ ‏/ ٣٦٢
 
الخاتمة.. كلمة عامة عن التفسير وألوانه فى العصر الحديث

 
التفسير بين ماضيه وحاضره

لم يترك الأوائل للأواخر كبير جهد فى تفسير كتاب الله، والكشف عن معانيه ومراميه، إذ أنهم نظروا إلى القرآن باعتباره دستورهم الذى جمع لهم بين سعادة الدنيا والآخرة، فتناولوه من أول نزوله بدراستهم التفسيرية التحليلية، دراسة سارت مع الزمن على تدرج ملحوظ، وتلون بألوان مختلفة مرَّت بك كلها. أو مرَّ بك على التحقيق ما وصلنا إليه فى دراستنا وقراءتنا الواسعة المستفيضة.
والذى يقرأ كتب التفسير على اختلاف ألوانها، لا يدخله شك فى أن كل ما يتعلق بالتفسير من الدراسات المختلفة قد وفاه هؤلاء المفسِّرون الأقدمون حقه من البحث والتحقيق، فالناحية اللُّغوية، والناحية البلاغية، والناحية الأدبية، والناحية النحوية، والناحية الفقهية، والناحية المذهبية، والناحية الكونية الفلسفية. كل هذه النواحى وغيرها تناولها المفسِّرون الأُوَل بتوسع ظاهر ملموس، لم يترك لمن جاء بعدهم - إلى ما قبل عصرنا بقيل - من عمل جديد، أو أثر مبتكر يقومون به فى تفاسيرهم التى ألَّفوها، اللَّهم إلا عملًا ضئيلًا لا يعدو أن يكون جمعًا لأقوال لمتقدمين، أو شرحًا لغامضها، أو نقدًا وتفنيدًا لما يعتوره الضعف منها، أو ترجيحًا لرأى على رأى، مما جعل التفسير يقف وقفة طويلة مليئة بالركود، خالية من التجديد والابتكار.
* *

مميزات التفسير فى العصر الحديث
ولقد ظل الأمر على هذا، وبقى التفسير واقفًا عند هذه المرحلة - مرحلة الركود والجمود - لا يتعداها، ولا يحاول التخلص منها. حتى جاء عصر النهضة العلمية الحديثة، فاتجهت أنظار العلماء الذين لهم عناية بدراسة التفسير إلى أن يتحرروا من قيد هذا الركود، ويتخلصوا من نطاق هذا الجمود، فنظروا فى كتاب الله نظرة - وإن كان لها اعتماد كبير على ما دوَّنه الأوائل فى التفسير - أثَّرت فى الاتجاه التفسيرى للقرآن تأثيرًا لا يسعنا إنكاره، ذلك هو العمل على التخلص من كل هذه الاستطرادات العلمية، التى حُشِرت فى التفسير حشرًا ومُزِجت به على غير ضرورة لازمة، والعمل على تنقية التفسير من القصص الإسرائيلى الذى كاد يذهب بجمال القرآن وجلاله، وتمحيص ما جاء فيه من الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة على رسول الله ﷺ، أو على أصحابه عليهم رضوان الله تعالى، وإلباس التفسير ثوابًا أدبيًا اجتماعيًا،
 
٢ ‏/ ٣٦٣
 
يُظهر روعة القرآن، ويكشف عن مراميه الدقيقة وأهدافه السامية، والتوفيق بجد بالغ وجهد ظاهر بين القرآن وما جَدَّ من نظريات علمية صحيحة، على تفاوت بين الموفقين فى الغلو والاعتدال، وكان ذلك من أجل أن يعرف المسلمون وغير المسلمين أن القرآن هو الكتاب الخالد، الذى يتمشى مع الزمن فى جميع أطواره ومراحله ... وهناك غير هذه الآثار آثار أخرى ظهرت فى الاتجاه التفسيرى فى هذا العصر الحديث، نشأت عن عوامل مختلفة، أهمها: التوسع العلمى، والتأثر بالمذهب والعقيدة، والإلحاد الذى قام على حرية الرأى الفاسد.
* *

ألوان التفسير فى العصر الحديث

وعلى ضوء ما تقدّم، نستطيع أن نُجمل ألوان التفسير فى العصر الحديث فى الألوان الأربعة الآتية وهى أهمها:
أولًا: اللّون العلمى. ثانيًا: اللَّون المذهبى.
ثالثًا: اللَّون الإلحادى. رابعًا: اللَّون الأدبى الاجتماعى.
وسأتكلم عن هذه الألوان الأربعة للتفسير فى العصر الحديث، على حسب ترتيبها، وبمقدار ما استفدت من قراءتى فى كتب التفسير وما يتصل به من مؤلفات جَدَّت فى هذا العصر، والله ولى التوفيق.

اللَّون العلمى للتفسير فى عصرنا الحاضر
 
٢ ‏/ ٣٦٤
 
الجواهر فى تفسير القرآن الكريم (للشيخ طنطاوى جوهرى)

* الدوافع التى حملت المؤلف على كتابة هذا التفسير:
خُلِق الفيلسوف الإسلامى المرحوم الشيخ طنطاوى جوهرى - كما يقول هو عن نفسه -: «مغرمًا بالعجائب الكونية معجبًا بالبدائع الطبيعية، مشوقًا إلى ما فى السماء من جمال، وما فى الأرض من بهاء وكمال»، ثم كان منه - كما يقول - أنه لما تأمل الأُمة الإسلامية وتعاليمها الدينية، ألفى أكثر العقلاء وبعض أجِلَّة العلماء عن تلك المعانى معرضين، وعن التفرج عليها ساهين لاهين، فقليل منهم مَن فَكَّر فى خلق العوالِم وما أُودع فيها من الغرائب، فدفعه ذلك إلى أن ألَّف كتبًا كثيرة مزج فيها الآيات القرآنية بالعجائب الكونية، وجعل آيات الوحى مطابقة لعجائب الصنع، وحكم الخلق، وكان من أهْم هذه الكتب كتاب «نظام العالَم والأمم» و«جواهر العلوم» و«التاج المرصع» و«جمال العالَم» و«النظام والإسلام» و«الأُمة وحياتها» ولكنه وجد أن هذه الكتب - رغم كثرتها، وانتشارها، وترجمتها إلى اللُّغات الأجنبية - لم تشف غليله، فتوجَّه إلى ذى العِزَّة والجلال، أن يُوفقه إلى أن يُفسِّر القرآن تفسيرًا ينطوى على كل ما وصل إليه البشر من علوم، فاستجاب الله دعاءه، وتم له ما أراد.
* *
* متى وكيف شرع المؤلف فى كتابة هذا التفسير؟
ابتدأ المؤلف هذا التفسير أيام أن كان مدرسًا بمدرسة دار العلوم، فكان يلقى تفسير بعض آيات على طلبتها. وبعضها كان يكتب فى مجلة الملاجىء العباسية، ثم وإلى سيره فى التفسير حتى أخرج لنا هذه الموسوعة الكبيرة.
* *
*غرض المؤلف من تفسيره:
ولقد أمل المؤلف ﵀ من وراء هذا التفسير - كما يقول - «أن يشرح الله به قلوبًا، ويهدى به أُممًا، وتنقشع به الغشاوة عن أعين عامة المسلمين، فيفهموا العلوم الكونية»، وقال: "وإنى لعلى رجاء أن يؤيد الله هذه الأُمة بهذا الدين، وينسج على منوال هذا التفسير المسلمون، وليُقرَأنّ فى مشارق الأرض ومغاربها مقرونًا بالقبول، وليولعن بالعجائب السماوية والبدائع الأرضية الشبان الموحِّدون، وليرفعن الله مدنيتهم إلى العلا، وليكونن داعيًا حثيثًا إلى درس العوالم العلوية والسفلية،
 
٢ ‏/ ٣٧٠
 
وليقومن من هذه الأمة مَن يفوقون الفرنجة فى الزراعة، والطب، والمعادن، والحساب، والهندسة، والفلك، وغيرها من العلوم والصناعات».
* *
* مسلك المؤلف فى تفسيره:
ولقد وضع المؤلف فى تفسيره هذا ما يحتاجه المسلم من الأحكام، والأخلاق، وعجائب الكون، وأثبت فيه غرائب العلوم وعجائب الخلق، مما يَشوِّق المسلمين والمسلمات - كما يقول - إلى الوقوف على حقائق معانى الآيات البيِّنات فى الحيوان والنبات، والأرض والسموات.
هذا.. وإن المؤلف ﵀ ليقرر فى تفسيره أن فى القرآن من آيات العلوم ما يربو على سبعمائة وخمسين آية، فى حين أن علم الفقه لا تزيد آياته الصريحة على مائة وخمسين آية، كما يقرر «أن الإسلام جاء لأُمم كثيرة، وأن سور القرآن متممات لأُمور أظهرها العلم الحديث».
وكثيرًا ما نجد المؤلف ﵀ فى تفسيره يهيب بالمسلمين أن يتأملوا فى آيات القرآن التى ترشد إلى علوم الكون، ويحثهم على العمل بما فيها، ويندد بمن يُغفل هذه الآيات على كثرتها، وينعى على مَن أغفلها من السابقين الأوَّلين، ووقف عند آيات الأحكام وغيرها مما يتعلق بأُمور العقيدة.
نجد المؤلف يكرر هذه النغمة فى كثير من مواضع الكتاب فيقول فى موضع منه: «يا أمة الإسلام؛ آيات معدودات فى الفرائض اجتذبت فرعًا من علم الرياضيات، فما بالكم أيها الناس بسبعمائة آية فيها عجائب الدنيا كلها.. هذا زمان العلوم، وهذا زمان ظهور نور الإسلام، هذا زمان رقيه، يا ليت شعرى.. لماذا لا نعمل فى آيات العلوم الكونية ما فعله آباؤنا فى آيات الميراث؟ ولكنى أقول: الحمد لله ... الحمد لله، إنك تقرأ فى هذا التفسير خلاصات من العلوم، ودراستها أفضل من دراسة علم الفرائض، لأنه فرض كفاية، فأما هذه فإنها للازدياد فى معرفة الله وهى فرض عَيْن على كل قادر ... إن هذه العلوم التى أدخلناها فى تفسير القرآن، هى التى أغفلها الجهلاء المغرورون من صغار الفقهاء فى الإسلام، فهذا زمان الانقلاب، وظهور الحقائق، والله يهدى مَن يشاء إلى صراط مستقيم».
ويقول فى موضع آخر: "إن نظام التعليم الإسلامى لا بد من ارتقائه، فعلوم البلاغة ليست هى نهاية علوم القرآن، بل هى علوم لفظه، وما نكتبه اليوم علوم معناه، وانطباقها على العلوم التى أظهرها الله فى الأرض، ولعل هذا الزمان سيظهر فيه آثار من
 
٢ ‏/ ٣٧١
 
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة: ١٩]، فإن البيان المذكور فى سورة القيامة فُسِّر بمعنى أننا نبينه بلسانك فتقرأه كما أقرأك جبريل، وبمعنى أنِه إذا أشكل شىء من معانيه فنحن نبينه لك، وعلينا بيان ما فيه من الأحكام والعجائب ولا جَرَم أن ما يتجدد اليوم من العلوم مما ذُكِر فى هذا التفسير وما لم يُذكر، من البيان الذى أكد الله أنه يُظهره لأُمة الإسلام، فالحمد لله الذى وفق فى هذا التفسير لبعض العرفان تصديقًا لما ذكر الله من أن عليه البيان».
ويقول فى موضع آخر: «لماذا ألَّف علماء الإسلام عشرات الأُلوف من الكتب الإسلامية فى علم الفقه ... وعلم الفقه ليس له فى القرآن إلا آيات قلائل لا تصل مائة وخمسين آية؟ فلماذا كثر التأليف فى علم الفقه، وقَلَّ جدًا فى علوم الكائنات التى لا تخلو منها سورة؟ بل هى تبلغ سبعمائة وخمسين آية صريحة، وهناك آيات أخرى دلالتها تقرب من الصراحة. فهل يجوز فى عقل أو شرع أن يبرع المسلمون فى علم آياته قليلة. ويجهلوا علمًا آياته كثيرة جدًا؟ إن آباءنا برعوا فى الفقه، فلنبرع نحن الآن فى علم الكائنات.. لنقم به لترقى الأُمة».
* *
* لم يلق تفسير الجواهر قبولًا لدى كثير من المثقفين:
هذه المقالات - وغيرها كثير فى تفسير الجواهر - نجد أغلبها قد صدر من المؤلف فى مقام الرد على مَن كان يوجه إليه اللَّوم والاعتراض على ما كان منه من تحميل القرآن الكريم علومًا ونظريات مستحدَثة لا عهد للعرب بها، ولا صلة للقرآن بشىء منها.
ويظهر لمن يتصفح هذا التفسير أن المؤلف ﵀ لاقى الكثير من لوم العلماء على مسلكه الذى سلكه فى تفسيره، مما يدل على أن هذه النزعة التفسيرية لم تلق قبولًا لدى كثير من المثقفين.
* *
* مصادرة المملكة السعودية لتفسير الجواهر:
ولعل هذا المنزع فى تفسير القرآن الكريم هو السر الذى من أجله صادرت المملكة العربية السعودية هذا الكتاب، ولم تسمح بدخوله إلى بلادها، كما يجد القارئ ذلك فى نص الكتاب المرسل من المؤلف إلى الملك عبد العزيز آل سعود، ملك نجد والحجاز (ص ٢٣٨ من الجزء الخامس والعشرين) .
* *
* طريقة المؤلف فى هذا التفسير:
هذا وإنى - بعد أن قرأت الكثير من هذا التفسير - أستطيع أن أعطيك صورة
 
٢ ‏/ ٣٧٢
 
واضحة عن منهج المؤلف وطريقته التى سلكها فيه، وذلك أن المؤلف ﵀ يفسر الآيات القرآنية تفسيرًا لفظيًا مختصرًا، لا يكاد يخرج عما فى كتب التفسير المألوفة لنا والمتداولة بين أيدينا، ولكنه سرعان ما يخلص من هذا التفسير الذى يسميه لفظيًا، ويدخل فى أبحاث علمية مستفيضة يسميها هو «لطائف» أو «جواهر».. هذه الأبحاث عبارة عن مجموعة كبيرة من أفكار علماء الشرق والغرب فى العصر الحديث، أتى بها المؤلف، ليبين للمسلمين ولغير المسلمين أن القرآن الكريم قد سبق إلى هذه الأبحاث ونبَّه على تلك العلوم قبل أن يصل إليها هؤلاء العلماء بقرون متطاولة.
ثم إننا نجد المؤلف ﵀ يضع لنا فى تفسيره هذا كثيرًا من صور النباتات، والحيوانات، ومناظر الطبيعة، وتجارب العلوم، بقصد أن يوضح للقارئ ما يقول توضيحًا يجعل الحقيقة أمامه كالأمر المشاهَد المحسوس.
كذلك نجد المؤلف ﵀ يستشهد أحيانًا على ما يقول بما جاء فى الإنجيل، واعتماده فيما ينقل على إنجيل «برنابا» لأنه - كما يرى - أصح الأناجيل، بل هو الإنجيل الوحيد الذى لم تصل إليه يد التحريف والتبديل كما قيل.
وكثيرًا ما نرى المؤلف ﵀ يشرح بعض الحقائق الدينية بما جاء عن أفلاطون فى جمهوريته، أو بما جاء عن إخوان الصفا فى رسائلهم، وهو حين ينقهلا يُبدى لنا رضاه عنها، وتصديقه بها، مع أنها تخالف الثابت عن رسول الله ﷺ.
كما أنه يستخرج كثيرًا من علوم القرآن بواسطة حساب الجُمَّل الذى لا نُصدَّق أنه يوصل إلى حقيقة ثابتة، وإنما هى عدوى تسربت من اليهود إلى المسلمين، فتسلَّطت على عقول الكثير منهم.
هذا.. وإنَّا لنجد المؤلف ﵀ يُفسِّر آيات القرآن تفسيرًا علميًا يقوم على نظريات حديثة، وعلوم جديدة، لم يكن للعرب عهد بها من قبل، ولست أرى هذا المسلك فى التفسير إلا ضربًا من التكلف، إن لم يذهب بغرض القرآن، فلا أقل من أن يُذهب بجلاله وجماله.
وإليك بعض ما جاء فى هذا التفسير:
* نماذج من هذا التفسير:
فمثلًا عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٦١] من سورة البقرة: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ﴾ ...
 
٢ ‏/ ٣٧٣
 
الآية، نجده يقول: «الفوائد الطيبة فى هذه الآية» ثم يأخذ فى بيان ما أثبته الطب الحديث من نظريات طبية، ويذكر مناهج أطباء أوروبا فى الطب، ثم يقول: «أَوَ ليست هذه المناهج هى التى نحا نحوها القرآن؟ أَوَ ليس قوله: ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ﴾ رمزًا لذلك؟ كأنه يقول: العيشة البدوية على المن والسلوى ... وهما الطعامان الخفيفان اللذان لا مرض يتبعهما، مع الهواء النقى والحياة الحرة، أفضل من حياة شقية فى المدن بأكل التوابل، واللحم، والإكثار من ألوان الطعام، مع الذلة، وجور الحكام، والجبن، وطمع الجيران من الممالك، فتختطفكم فى حين غفلة وأنتم لا تشعرون. بمثل هذا تُفسِّر هذه الآيات. بمثل هذا فليفهم المسلمون كتاب الله».
ومثلًا عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآيات [٦٧] وما بعدها من سورة البقرة: ﴿وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً﴾ ... . الآيات إلى آخر القصة، نجده يعقد بحثًا فى عجائب القرآن وغرائبه، فيذكر ما انطوت عليه هذه الآيات من عجائب، ويذكر - فيما يذكر - علم تحضير الأرواح فيقول: «.. وأما علم تحضير الأرواح فإنه من هذه الآية استخراجه، إن هذه الآية تُتلى، والمسلمون يؤمنون بها، حتى ظهر علم الأرواح بأمريكا أولًا، ثم بسائر أوروبا ثانيًا».. ثم ذكر نُبذة طويلة عن مبدأ ظهور هذا العلم، وكيف كان انتشاره بين الأمم، وفائدة هذا العلم، ثم قال أخيرًا: «ولما كانت السورة التى نحن بصددها قد جاء فيها حياة للعزير بعد موته، وكذلك حماره، ومسألة الطير وإبراهيم الخليل، ومسألة الذين خرجوا من ديارهم فرارًا من الطاعون، فماتوا ثم أحياهم.. وعلم الله أننا نعجز عن ذلك، جعل قبل ذكر تلك الثلاثة فى السورة ما يرمز إلى استحضار الأرواح فى مسألة البقرة، كأنه يقول: إذا قرأتم ما جاء عن بنى إسرائيل فى إحياء الموتى فى هذه السورة عند أواخرها. فلا تيأسوا من ذلك، فإنى قد بدأت بذكر استحضار الأرواح، فاستحضروها بطرقها المعروفة، واسألوا أهل الذِكر إن كنتم لا تعلمون، ولكن ليكن المُحَضِّر ذا قلب نفى خالص على قدم الأنبياء والمرسلين، كالعزير، وإبراهيم، وموسى، فهؤلاء لعلو نفوسهم أريتهم بالمعاينة، وأنا أمرت نبيكم أن يقتدى بهم فقلت: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقتده﴾ . [الأنعام: ٩٠] . ومثلًا عندما تعرَّض لقوله تعالى فى أول سورة آل عمران: ﴿آلم﴾ نجده يعقد بحثًا طويلًا عنوانه:»الأسرار الكيميائية، فى الحروف الهجائية، للأمم الإسلامية، فى أوائل السور القرآنية«وفيه يقول:»انظر رعاك الله - تأمل - يقول الله: ﴿ألم﴾، ﴿طس﴾، ﴿حم﴾ .. وهكذا يقول لنا: أيها الناس؛ إن الحروف الهجائية، إليها تحلل
 
٢ ‏/ ٣٧٤
 
الكلمات اللُّغوية، فما من لغة فى الأرض إلا وأرجعها أهلها إلى حروفها الأصلية، سواء أكانت اللُّغة العربية أم اللُّغات الأعجمية، شرقية وغربية، فلا صرف، ولا إملاء، ولا اشتقاق إلا بتحليل الكلمات إلى حروفها، ولا سبيل لتعليم لغة وفهمها
إلا بتحليلها، وهذا هو القانون المسنون فى سائر العلوم والفنون.
ولا جرَمَ أن العلوم قسمان: لُغوية وغير لُغوية، فالعلوم اللُّغوية مقدمة فى التعليم، لأنها وسيلة إلى معرفة الحقائق العلمية من رياضية وطبيعية وإلهية، فإذا كانت العلوم التى هى آلة لغيرها لا تُعرف حقائقها إلا بتحليلها إلى أصولها، فكيف إذن تكون العلوم المقصودة لنتائجها المادية والمعنوية؟ فهى أولى بالتحليل وأجدر بإرجاعها إلى أُصولها الأوَّلية التى لا تعرف الحساب إلا بمعرفة بسائط الأعداد، ولا الهندسة إلا بعد علم البسائط والمقدمات، ولا علوم الكيمياء إلا بمعرفة العناصر وتحليل المركبات إليها، فرجع الأمر إلى تحليل العلوم».
ومثلًا نراه يعرض لقوله تعالى فى الآية [٢٤] من سورة النور: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ ..
وقوله فى الآيات [٢٠ - ٢٢] من سورة فُصِّلت: ﴿حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ ولاكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾ .
وقوله فى الآية [٦٥] من سورة يس: ﴿اليوم نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ .
ثم يقول: «أو ليس الاستدلال بآثار الأقدام، وآثار أصابع الأيدى فى أيامنا حاضرة، هو نفس الذى صرَّح به القرآن، وإذا كان الله يعلم ما فى المواطن بل هو القائل للإنسان: ﴿كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء: ١٤]، والقائل: ﴿بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ [القيامة: ١٤]، أفلا يكون ذكر الأيدى والأرجل والجلود وشهادتها يوم القيامة ليلفت عقولنا إلى أن من الدلائل ما ليس بالبيِّنات المشهورة عند المسلمين؟ وأن هناك ما هو أفضل منها؟ ... وهى التى يحكم بها الله فاحكموا بها. ويكون ذلك القول لينبهنا ويفهمنا أن الأيدى فيها أسرار، وفى الأرجل أسرار، وفى النفوس أسرار: فالأيدى لا تشتبه، والأرجل لا تشتبه، فاحكموا على الجانين والسارقين بآثارهم.. أوَ ليس فى الحق أن أقول: إن هذا من معجزات القرآن وغرائبه؟ وإلا فلماذا هذه المسائل التى ظهرت فى هذا العصر تظهر فى القرآن بنصها وفصها».
 
٢ ‏/ ٣٧٥
 
ومثلًا عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآيتين [٥، ٦] من سورة طه: ﴿الرحمان عَلَى العرش استوى * لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثرى﴾ .. نجده يقول: «.. قوله: ﴿وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ دخل فى ذلك عوالم السحاب والكهرباء وجميع العالم المسمى»الآثار العلوية«وهو من علوم الطبيعة قديمًا وحديثًا، وقوله: ﴿وَمَا تَحْتَ الثرى﴾ يشير لعلمين لم يُعرفا إلا فى زماننا، وهما علم طبقات الأرض، المتقدم مرارًا فى هذا التفسير، وعلم الآثار، المتقدم بعضه فى سورة يونس.. فالله هنا يقول: ﴿وَمَا تَحْتَ الثرى﴾ ليحرص المسلمون على دراسة علوم المصريين التى تظهر الآن تحت الثرى».
ومثلًا عند قوله تعالى فى الآية [٣٠] من سورة الأنبياء: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا رَتْقًا﴾ ... . الآية، يقول: «ها أنت قد اطلعت على ما أبرزه القرآن قبل مئات السنين، من أن السموات والأرض - أي الشمس والكواكب وما هى فيه من العوالم - كانت ملتحمة ففصلها الله تعالى، وقلنا: إن هذه معجزة، لأن هذا العلم لم يعرفه الناس إلا فى هذه العصور، ألا ترى أن كثيرًا من المفسِّرين قالوا: إن الكفار فى ذلك الوقت ليس لديهم هذا العلم. فكان جوابهم على ذلك أنهم أخبروا به فى نفس هذه الآية، فكأن الآية تستدل عليهم بنفس ما نزلت به، وذلك أن هذه الأمور لم تُخلق. وقد أخذ العلماء يُؤوِّلون تأويلات شتَّى لفرط ذكائهم وحرصهم ﵏، وها نحن أُولاء نجد هذه العلوم المكنونة المخزونة قد أبرزها الله على أيدى الفرنجة، كما نطق القرآن هنا، كأنه يقول: سيرى الذين كفروا أن السموات والأرض كانت مرتوقة ففصلنا بينهما، فهو وإن ذكرها بلفظ الماضى فقد قصد منه المستقبل كقوله تعالى: ﴿أتى أَمْرُ الله﴾ .. وهذه معجزة تامة للقرآن، وعجيبة من أعجب ما يسمعه الناس فى هذه الحياة الدنيا»..
ومثلًا عند قوله تعالى فى الآية [١٥] من سورة الرحمن: ﴿وَخَلَقَ الجآن مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ﴾ .. نجده يقول: "والمارج المختلط بعضه ببعض، فيكون اللَّهب الأحمر والأصفر والأخضر مختلطات، وكما أن الإنسان من عناصر مختلفات هكذا الجان من أنواع من اللَّهب مختلطات، ولقد ظهر فى الكشف الحديث أن الضوء مركّب من ألوان سبعة غير ما لم يعلموه. فلفظ المارج يشير إلى تركيب الأضواء من ألوانها السبعة، وإلى أن اللهب مضطرب دائمًا، وإنما خُلِق الجن من ذلك المارج المضطرب، إشارة إلى أن نفوس الجان لا تزال فى حاجة إلى التهذيب والتكميل. تأمل فى مقال علماء الأرواح الذين
 
٢ ‏/ ٣٧٦
 
استحضروها إذ أفادتهم أن الروح الكاملة تكون عند استحضارها ساكنة هادئة، أما الروح الناقصة فإنها تكون قلقة مضطربة».
وعند قوله تعالى فى الآية [٣٥] من السورة نفسها: ﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ﴾ .. يقول: «إنه عبَّر هنا بـ ﴿شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ﴾ وفيما تقدم بقوله: ﴿مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ﴾، والشواظ والمارج كلاهما اللَّهب الخالص، فلماذا جعل الجان مخلوقًا من مارج ولم يقل من شواظ؟ فاعلم أن المارج فيه معنى الاضطراب كما تقدم.
وقد أنبت ذلك هناك، وهذا الاضطراب يفيد اضطراب الروح كما تقدم فى علم الأرواح، وأيضًا اختلاط الألوان الآن معروف فى التحليل فهو من هذا القبيل.. وهذه الفكرة لم تُعرف قط إلا فى زماننا هذا، فإن تحليل الضوء والعلم بأنه مختلط، والاطلاع على عالم الأرواح الناقصة وأنها مضطربة، لم يكن إلا فى زماننا، وهذا من أعاجيب القرآن التى لا تُدرك إلا بقراءة العلوم، وليس يعقلها الناس بفن البلاغة المعروف، فلا أصحاب المعلقات يدركونها، ولا الذين بعدهم يعلمونها، فهل لمثل امرىء القيس، أو لأبى العلاء، أو المتنبى أن يتناولوا هذه المعانى فى أقوالهم؟ كلا.. فهذه البلاغة لا تخطر ببالهم، وأنَّى لهم علم الروح حتى يخصصوها بلفظ مارج؟ وعند إنزال العذاب يذكرون الشواظ».
ومثلًا فى سورة الزلزلة نجده يُفسِّرها تفسيرًا لفظيًا مختصرًا، ثم يذكر ما فيها من لطائف، مستعرضًا ما وقع من حوادث الزلزال فى إيطاليا، وما وصل إليه العلم الحديث من استخراج الفحم والبترول من الأرض، وما كثر فى هذا الزمان من استخراج الدفائن من الأرض، مثل ما كُشِف فى مصر من آثار قدمائها، ثم يقول - بعد ما يفيض فى هذا وغيره: «ألست ترى أن هذه السورة - وإن كانت واردة لأحوال الآخرة - تشير من طرف خفى إلى ما ذكرنا فى الدنيا؟ فالأرض الآن كأنها فى حالة زلزلة، وقد أخرجت أثقالها، كنوزها وموتاها وغيرها، والناس الآن يتساءلون، وها هم أُولاء يُلهمون الاختراع، وها هم أُولاء مقبلون على زمان تنسيق الأعمال بحيث تكون كل أمة فى عمل يناسبها، وكل إنسان فى عمله الخاص به وينتفع به».
ومثلًا نجده بعد أن يفرغ من تفسير سورة الكوثر، وسورة الكافرون، وسورة النصر، يذكر لنا بحثًا مستفيضًا عنوانه: «تطبيق عام على سورة الكوثر والنصر وما بينهما» وفيه نجده يتأثر بنزعته التفسيرية العلمية إلى درجة جعلته يُحَمِّل نصوص الشارع من
 
٢ ‏/ ٣٧٧
 
المعانى الرمزية ما يُستبعد أن يكون مرادًا لها. وذلك أنه يقرر أولًا أن هذه السور لم تكن خاصة بزمان النبوة، ولا بفتح مكة ونصر جيشها، لأن هذه الأمة كانت عند نزول هذه السور فى أول عمرها، وسيطول إن شاء الله، وكم سيكون لها من فتوح وانتصارات.
ثم قال: «وإذا كان الأمر كما وصفنا ونحن أبناء العرب، وورثة النبى الذى جاء منا ﷺ، ولغتنا فى مصر، والشام، والعراق، وشمال إفريقيا، هى لغة القرآن فلنبين للناس بعدنا سر هذه السور، فقد كان العلماء قبلنا يكتمونها، خوفًا من أهل زمانهم، ولكنَّا الآن يجب علينا إبرازه وإظهاره، لتأخذ هذه الأمة بعدنا حظها من الحياة، وقسطها من الإصلاح».
ثم أخذ يُبيِّن لنا الكوثر، وأوصاف كيزانه، وطيره، وأوصاف مَن سيرد عليه من المسلمين، بما جاء فى الأحاديث عن رسول الله ﷺ.. ثم قال - بعد هذا كله: «اعلم أن هذه الأحاديث وردت لغاية أرقى مما يراها الذين لا يفكرون، كم أُمم جاءت قبلنا وجاء فيهم مصلحون، فماذا فعلوا؟ ألقوا إليهم العلم بهيئة جميلة، وصورة مفرحة، وبهجة وجمال. ولا نزال نرى كل أمة حاضرة كفائتة. جميعهم يصيغون ما يريدون من الجمال، والحكمة، والعلم، ورقى الأُمة بهيئة تسر الجمهور».
ثم يقول: «الجاهل يسمع الدُّر والياقوت، وشرابًا أحلى من العسل، فيفرح ويعبد الله ليصل إلى هذه اللَّذت التى تقر بها عينه.. والعالم ينظر فيقول: إن هذا القول وراءه حكمة ووراءه علم، لأنى أرى فى خلال القول عجائب. فلماذا يذكر أن الكيزان أو الأباريق أو نحو ذلك عدد نجوم السماء! وأى دخل لنجوم السماء هنا؟ ولماذا عبَّر به»؟.. ثم يقول: "لماذا ذكر أن الذين يردون الحوض عليهم آثار الوضوء؟ ولِمَ؟ ... ولِمَ؟.. الحق أن نبينا محمدًا ﷺ يريد أمرين: أمرًا واضحًا جليًا يفرح به جميع الناس، وأمرًا يختص بالقُوَّاد والعظماء.
إن النبوة بأمر الله، والله جعل فى أهل الأرض فلاحين لا يعرفون إلا ظواهر الزرع، وجعل أطباء يستخرجون منافع من الحب والشجر، وحكماء يستخرجون علومًا، وكُلٌ لا يعرف إلا علمه، فالطبيب يشارك الفلاح فى أنه يأكل، ولكنه يمتاز عنه بإدراك المنافع الطبية. هكذا حكماء الأمة الإسلامية يشاركون الجهلاء فى أنهم يفهمون الحوض كما فهموه، ويردونه معهم كما يردونه، ولكن هؤلاء يمتازون بأنهم قُوَّاد الأُمة الذين يقودونها. فماذا يقولون؟ يقولون إن النبى ﷺ يريد معانى أرقى. إن الجنة فيها ما لا عَيْن رأت، ولا أذن سمعت، ولا خَطَرَ على قلب بشر، فليس الماء الذى هو أحلى من العسل وأبيض من الثلج كل شئ هناك، ثم إن الجنة لا ظمأ فيها، وأى شىء عدد
 
٢ ‏/ ٣٧٨
 
نجوم السماء؟ ولماذا اختُصَّت النجوم بالعدد والوضوء بالأثر؟ والذى نقوله: إن الحوض يُرمز به للعلم مع بقائه على ظاهره، فلا المسك الإذفر، ولا أنواع الجواهر النفيسة من دُّرٍّ وياقوت، ولا حلاوة العسل الذى فى ذلك الماء، ولا اتساع الحوض إلا أفانين العلم ومناظر بدائعه المختلفة المناهج، العذبة المشارب، السارة للناظرين ...»، ثم يخلص من هذا كله إلى الاستدلال على أن ما ذهب إليه من قبيل الكناية التى هى لفظ أُطلق وأُريد به لازم معناه مع جواز إرادة المعنى الأصلى، ثم يقول - بعد بيان هذه الكناية: «.. هنا يكون النصر ولا يكون إلا بعد أن يتجافى الناس عن أفعال الملحدين والكافرين، وجعل العلوم مرتبطة بالربوبية كما تشير إليه سورة الكافرون. هنا يكون نصر الله والفتح، ويدخل الناس فى هذه العلوم الحقيقية أفواجًا. وعلى حكماء المسلمين الذين بعدنا متى نشروا هذه الآراء العلمية وأمثالها، ورأوا المسلمين تقدَّموا ونصروا العلم على الجهل فى العالَم الإنسانى، وأصبح المسلمون قائمين بما وعدهم ربهم من أنهم خير أمة أخرجت للناس، وأنهم رحمة للعالمين، متى رأى العلماء ذلك فيعلموا أن هذا هو النصر فى زماننا، وهو الفتح، وإذن فعلى القائمين بذلك أن يحمدوا ربهم ويستغفروه».. إلخ.
هذا هو تفسير الجواهر، وهذه نماذج منه وضعتها أمام القارئ، ليقف على مقدار تسلط هذه النزعة التفسيرية على قلم مؤلفه وقلبه.
والكتاب - كما ترى - موسوعة علمية، ضربت فى كل فن من فنون العلم بسهم وافر، مما جعل هذا التفسير يُوصف بما وُصِف به تفسير الفخر الرازى، فقيل عنه: «فيه كل شىء إلا التفسير» بل هو أحق من تفسير الفخر بهذا الوصف وأولى به، وإذا دلَّ الكتاب على شىء، فهو أن المؤلف ﵀ كان كثيرًا ما يسبح فى ملكوت السموات والأرض بفكره، ويطوف فى نواح شتَّى من العلم بعقله وقلبه، ليُجلى للناس آيات الله فى الآفاق وفى أنفسهم، ثم ليُظهر لهم بعد هذا كله أن القرآن قد جاء متضمنًا لكل ما جاء ويجىء به الإنسان من علوم ونظريات، ولكل ما اشتمل عليه الكون من دلائل وأحداث، تحقيقًا لقول الله تعالى فى كتابه: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٣٨] .. ولكن هذا خروج بالقرآن عن قصده، وانحراف به عن هدفه، وقد عرفت رأينا في المسألة فلا نعيده.
* *
* إنكار بعض العلماء المعاصرين لهذا اللَّون من التفسير:
لم يقف العلماء فى هذا العصر موقف الإجماع على قبول هذا اللَّون من التفسير،
 
٢ ‏/ ٣٧٩
 
بل نراهم مختلفين فى قبوله والقول به، كما كان الشأن بين مَن سبقهم من العلماء الأقدمين..
وإذا كنا قد وجدنا من العلماء المحدَثين مَن انحاز إلى هذه الفكرة فى التفسير وتأثر بها فى مؤلفاته، فإنَّا نجد بجوار هؤلاء أيضًا كثرة من العلماء لم ترض عن هذا اللَّون من التفسير، ولم تستسغ أن تشرح به كتاب الله تعالى، ولم تغمض عينها أو تمسك قلمها عن رد هذه الفكرة على أهلها وتناولهم إياها بالنقد والتفنيد.
نجد هذه المعارضة فى كثير من المحاورات والاعتراضات التى وُجِّهَت إلى صاحب الجواهر، وذكرها لنا فى تفسيره.
كما نجد بعض أساتذتنا المعاصرين ينعون على مَن يأخذ بهذه الفكرة ويقول بها، ومن بين هؤلاء أستاذنا الشيخ محمود شلتوت. فقد تناول هذا الموضوع بالبحث فى العدد (٤٠٧)، (٤٠٨) من السنة التاسعة لمجلة الرسالة. - إبريل سنة ١٩٤١ - وفيه يرد على من يذهب إلى هذا اللَّون من التفسير بحجج قوية واضحة.
وهذا هو الأستاذ الشيخ أمين الخولى يتناول هذا الموضوع فى كتابه «التفسير: معالم حياته. منهجه اليوم»، وفيه يرد على أنصار هذا المذهب فى التفسير بحجج قوية واضحة، استفدنا منها كثيرًا فى تأييد ما اخترنا من المذهبين.
وهذا هو المرحوم السيد محمد رشيد رضا. نجده فى مقدمة تفسيره ينعى على مَن تأثروا فى تفسيرهم بنزعاتهم العلمية، فشغلوا تفاسيرهم بمباحث النحو، والفقه، ونكت المعانى، والبيان، والإسرائيليات ... وغير ذلك، ويعد هذا صارفًا يصرف الناس عن القرآن وهَدْيه، ثم ينعى على الفخر الرازى ما أورده فى تفسيره من العلوم الحادثة فى المِلَّة، ويعد هذا صارفًا يصرف الإنسان عن القرآن وهَدْيه، كما يتوجه بمثل هذا اللوم على مَن قلَّد الفخر الرازى فى مسلكه من المعاصرين، وأظنه أراد صاحب الجواهر، وذلك حيث يقول: «.. وقد زاد الفخر الرازى صارفًا آخر عن القرآن، هو ما يورده فى تفسيره من العلوم الرياضية والطبيعية وغيرها، وقلَّده بعض المعاصرين بإيراد مثل هذا من علوم هذا العصر وفنونه الكثيرة الواسعة، فهو يذكر فيما يسميه تفسير الآية فصولًا طويلة - بمناسبة كلمة مفردة كالسماء والأرض -، من علوم الفلك والنبات والحيوان، تصد قارئها عما أنزل الله لأجله القرآن».
وأخيرًا.. فهذا هو شيخنا العلامة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغى ﵀ رحمة واسعة - نجده فى تفريظه لكتاب «الإسلام والطب الحديث» لا يرضى عن هذا المسلك فى التفسير، رغم أنه مدح الكتاب وأشاد بمجهود مؤلفه،
 
٢ ‏/ ٣٨٠
 
وذلك حيث يقول: «لست أريد من هذا - يعنى ثناءه على الكتاب ومؤلفه - أن أقول: إن الكتاب الكريم اشتمل على جميع العلوم جملة وتفصيلًا بالأسلوب التعليمى المعروف، وإنما أريد أن أقول إنه أتى بأُصول عامة لكل ما يهم الإنسان معرفته به، ليبلغ درجة الكمال جسدًا وروحًا، وترك الباب مفتوحًا لأهل الذِكر من المشتغلين بالعلوم المختلفة، ليبينوا للناس جزئياتها بقدر ما أُوتوا منها فى الزمان الذى هم عائشون فيه».
وفى موضع آخر يقول: «يجب أن لا نجر الآية إلى العلوم كى نُفسِّرها، ولا العلوم إلى الآية، ولكن إن اتفق ظاهر الآية مع حقيقة علمية ثابتة فسرناها بها».
ومن هذا كله يتبين أن التفسير العلمى فى العصر الحديث إن كان قد لقى قبولًا ورواجًا عند بعض العلماء، فإنه لم يلق مثل هذا القبول والرواج عند كثير منهم، وقد علمتَ فيما سبق أى الرأيين أقرب إلى الحق وأحرى بالقبول.

اللون المذهبى للتفسير فى عصرنا الحاضر

لم يبق من الفِرَق المنسوبة إلى الإسلام فى هذا العصر الحديث مَن له كيان، أو شىء من الكيان - حسبما نعلم - إلا أهل السُّنَّة، والإمامية الإثنا عشرية، والإمامية الإسماعيلية، والزيدية، والإباضية من الخوارج، والبهائية من الباطنية ... هذه هى الفرق التى لا تزال فى اعتبارنا قائمة إلى يومنا هذا، محتفظة بتعاليمها وعقائدها التى تسير عليها من أول عهدها ومبدأ ظهورها.
وإذا كنا قد وقفنا لكل فِرْقة من هذه الفِرَق فى عصورها السابقة على عمل ظاهر فى تفسير كتاب الله، وشرحه على حسب ما تمليه عقيدة المفسِّر، وما يوحى به إليه، فإنَّا لا نعدم هذا اللَّون المذهبى لتفسير القرآن الكريم فى هذا العصر الحديث، ولكن بمقدار ما بقى من هذه المذاهب قائمًا إلى هذا العصر الذى نتكلم عنه، ونتحدث عن ألوان التفسير فيه.
نعم.. بقى اللَّون المذهبى لتفسير القرآن الكريم قائمًا فى هذا العصر الحديث، بمقدار ما بقى قائمًا من المذاهب الإسلامية.
فأهل السُّنَّة فسَّروا القرآن، وألَّفوا الكتب فيه بما يتفق وعقيدتهم، كما نرى ذلك واضحًا فيما خلَّفته لنا مدرسة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده من كتب فى التفسير.
والإمامية الإثنا عشرية فسَّروا القرآن وألَّفوا الكتب فيه بما يتمشى مع مذهبهم، ويتفق مع أهوائهم ومشاربهم، ومن أحدث كتبهم التى اطلعنا عليها فى التفسير:
 
٢ ‏/ ٣٨١
 
كتاب «بيان السعادة فى مقامات العبادة» للشيخ سلطان محمد الخراسانى، من أهل القرن الرابع عشر الهجرى، وقد سبق لنا الكلام عنه مفصَّلًا، وكتاب «آلاء الرحمن فى تفسير القرآن» للشيخ محمد جواد النجفى، المتوفى سنة ١٣٥٢ هـ، وقد سبق الكلام عنه بإيجاز عند الكلام على أهم كتب التفسير عند الإمامية الإثنا عشرية.
والإباضية من الخوراج فسَّروا القرآن وألَّفوا فيه الكتب بما يناسب عقيدتهم، ويساير مذهبهم، كما نجد ذلك فى كتاب «هميان الزاد إلى دار المعاد» للشيخ محمد بن يوسف إطفيش، المتوفى سنة ١٣٢٢هـ، وقد مَرَّ الكلام عنه أيضًا.
والبهائية من الباطنية نظروا إلى القرآن من خلال عقيدتهم، فأوَّلوا وحرَّفوا، كما نجد ذلك جليًا فى رسائل أبى الفضائل الجرفادقانى، أحد رجال البهائية فى هذا العصر.
أما الزيدية ... فهى وإن كانت لا تزال قائمة إلى يومنا هذا، إلا أنَّا لم نقف لها على شىء فى التفسير فى هذا العصر الحديث.
وأما المعتزلة ... فنحن وإن كنا لا نسمع عن قيامها فى هذا العصر كفِرقَة لها كيان، ووحدة، ومقوِّمات، إلا إنَّا نرى أثرًا كبيرًا لتعاليمها فى تفسير القرآن فى العصر الحديث، كما يظهر ذلك جليًا فى تفاسير الإمامية الإثنا عشرية، والإباضية، ومقالات بعض المحدثين من المفسِّرين.
كل هذه الفِرَق الموجودة فى هذا العصر، أضفت على التفسير لونًا مذهبيًا، يقوم على تأييد العقيدة، وخدمتها على حساب القرآن الكريم، ولا أريد أن أطيل بذكر نماذج من هذا اللَّون التفسيرى، إذ قد سبق لنا الكلام عن هذه الكتب التى ذكرتها، وذكرت لك منها ما يعطيك صورة واضحة عن اللَّون المذهبى فى هذا العصر.
* * *
 
٢ ‏/ ٣٨٢
 
اللَّون الإلحادى للتفسير فى عصرنا الحاضر

منى الإسلام من زمن بعيد بأناس يكيدون له، ويعملون على هدمه بكل ما يستطيعون من وسائل الكيد، وطرق الهدم، وكان من أهم الأبواب التى طرقوها ليصلوا منها إلى نواياهم السيئة: تأويلهم للقرآن الكريم على وجوه غير صحيحة، تتنافى مع ما فى القرآن من هداية، وتناقض ما هو عليه من محجة بيضاء، وتهدف إلى ما سوَّلته لهم نفوسهم من نِحَلٍ خاسرة وأهواء!!
منى الإسلام بهذا من أيامه الأولى، ومنى بمثل هذا فى أحدث عصوره، فظهر فى هذا العصر أشخاص يتأوَّلون القرآن على غير تأويله، ويلوونه إلى ما يوافق شهواتهم، ويقضى حاجات فى نفوسهم، فأدخلوا فى تفسير القرآن آراء سخيفة، ومزاعم منبوذة، تقبَّلها بعض المخدوعين من العامة وأشباه العامة، ورفضها بكل إباء مَن حفظ الله عليهم دينهم وعقولهم.
* *
* الباعث على هذا اللَّون من التفسير:
اندفع هؤلاء النفر من المؤولة إلى ما ذهبوا إليه من أفهام زائغة فى القرآن بعوامل مختلفة، فمنهم مَن حسب أن التجديد ولو بتحريف كتاب الله سبب لظهوره وشهرته، فأخذ يثور على قدماء المفسِّرين ويرميهم جميعًا بالسفه والغفلة ثم طلع على الناس بجديده فى تفسير كتاب الله ... جديد لا تقره لغة القرآن، ولا يقوم على أصل من الدين.
ومنهم مَن تلقَّى من العلم حظًا يسيرًا، ونصيبًا قليلًا، لا يرقى به إلى مصاف العلماء، ولكنه اغتر بما لديه، فحسب أنه بلغ مبلغ الراسخين فى العلم، ونسى أنه قَلَّ فى علم اللُّغة نصيبه، وخف فى علم الشريعة وزنه، فراح ينظر فى كتاب الله نظرة حُرَّة لا تتقيد بأى أصل من أصول التفسير، ثم أخذ يهذى بأفهام فاسدة، تتنافى مع ما قرره أئمة اللُّغة وأئمة الدين، ولأول نظرة يتضح لمن يطلع عليها أنها لا تستند إلى حُجَّة، ولا تتكئ على دليل.
ومنهم من لم يرسم لنفسه نِحْلَة دينية، ولم يسر على عقيدة معروفة، ولكنه لعبت برأسه الغواية، وتسلَّطت على قلبه وعقله أفكار وآراء من نِحَلٍ مختلفة، فانطلق إلى القرآن وهو يحمل فى قلبه ورأسه هذه الأمشاج من الآراء، فأخذ يُؤوِّله بما يتفق معها، تأويلًا لا يقرره العقل ولا يرضاه الدين.
هؤلاء جميعًا خاضوا فى القرآن على عماية، فلم يراعوا فى فهمه قوانين البلاغة، ولم يدخلوا إلى تفسيره من باب السُّنَّة الصحيحة، وحسبوا أنهم أرضوا ضمائرهم، وأنصفوا البحث الحر، والرأى الطليق.
ولولا أن الله قيَّض لهذا الدين رجالًا يدرسونه ببصائر تنفذ إلى لُبابه، ويدفعهم الإيمان والإخلاص إلى أن يبعدوا عنه هذه الخبائث، التى يُراد أن تُلصق به أو تنزل فى
 
٢ ‏/ ٣٨٣
 
رحابه.. لولا هذا لأصاب المسلمين من هؤلاء المضللين شر مستطير، ولنتج عن أفكارهم وأهوائهم فتنة فى الأرض وفساد كبير.
وأنا إذ أعرض لهذا اللَّون من التفسير، لا أريد أن أذكر أحدًا من أصحابه باسمه ولقبه، إذ ربما كان هذا سببًا للفتنة، وباعثًا على العداوة، وكثير منهم أحياء يُرزقون، ويكفى أن أضع يد القارئ على المراجع التى أنقل عنها تفسير هؤلاء القوم، وآراءهم فى القرآن الكريم، وهى مراجع ميسورة لكل من يريد أن يرجع إليها ويطلع عليها.
وجدنا من أصحاب هذا اللًَّون من ألوان التفسير، رجلًا يكتب بحثًا طويلًا تحت عنوان: «القرآن والمفسِّرون» وفيه يعرض لنواحى التقصير فى تفسير كافة المفسِّرين لكتاب الله تعالى، ويحمل عليهم حملة شديدة نكراء، ويوجه إليهم جميعًا نقده الساخر، ولومه اللاذع، بدون أن يستثنى منهم مفسِّرًا واحدًا على كثرتهم، وكثرة المعتدلين منهم.
رأيناه يتهم المُفسِّرين جميعًا بأنهم تأثروا فى تفاسيرهم بعقائدهم، فأمالوا آيات القرآن نحو آرائهم، فى تعسف ظاهر، وتكلف غير مقبول. ورأيناه يرميهم جميعًا بأنهم كثيرًا ما يكتفون بذكر إسرائيليات ليس لها سند أصلًا، فضلًا عن طمعهم فى تصحيح هذه الأسانيد المكذوبة، ونراه يذكر لهذا الاتهام الأخير مثلًا من أقوالهم فى تفسير قصة أيوب ﵇، ثم يأخذ فى تفنيد ما ذهبوا إليه، وإبطال ما قالوا به، بأدلة كثيرة ذكرها، وبعد هذا كله تناول هو قوله تعالى فى الآيات [٤١-٤٤] من سورة (ص): ﴿واذكر عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * اركض بِرِجْلِكَ هاذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وذكرى لأُوْلِي الألباب * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ .
تناول الكاتب هذه الآيات، فشرحها شرحًا يخالف ما ذهب إليه المفسِّرون جميعًا، مدَّعيًا أن ما ذهب إليه هو الذى يساير كل ما ورد من آيات القصص فى القرآن، ومؤكدًا أنه هو الذى يتفق مع بلاغة القرآن، وقدسية الأنبياء، فقال: "يجب أن ننظر فى الآية نظرة أُخرى - يعنى خلاف ما عليه المفسِّرون - تساير بها نظائرها من آيات القصص، ونحن إذا التفتنا إلى ما فى هذه الآية من أن أيوب ﵇ قد عَزَى النُصْب والعذاب للشيطان فقال: ﴿مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ كان ذلك مانعًا كل المنع من أن يُراد بالنُصْب والعذاب داء أصاب أيوب، وكان من نتائجه ما ذكره المفسِّرون.. إذ الشيطان لا يملك للإنسان إلا أن ينزغه، ويوسوس إليه، فيلويه عن الخير إلى الشر، وعن العزم فى سبيل الغاية إلى التردد والهزيمة، وإنه ما من نبى ولا رسول إلا وقد نزل به هذا المصاب.. مصاب إعراض الناس واستهوائهم بالدعوة والداعين، وصد
 
٢ ‏/ ٣٨٤
 
الشيطان لهم عن سبيل الله: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ﴾ [الحج: ٥٢] ... الآية، وما كانت شكوى الأنبياء إلا من إعراض أممهم عن الاستجابة، ولا كان حزنهم الذى كان يبلغ أحيانًا حد الإهلاك للنفس إلا لبطء فى سير الدعوة إلى الله تعالى، انظر قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ﴾ [النحل: ١٢٧]، وقوله تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهاذا الحديث أَسَفًا﴾ [الكهف: ٦] ..
ولما كانت الشكوى تُشعر بوهن فى العزيمة، وضعف فى الثقة، وعدم القوة فى السير إلى الغاية، كان جواب تلك الشكاية أن قيل له: ﴿ارْكُض بِرِجْلِكَ﴾ فالمراد بالركض هنا، عقد العزيمة وتأكيدها، واستتمام الثقة وإكمالها، والمضاء بقوة وبغير تردد ولا توان إلى الغاية، فهى كناية من أعذب الكنايات وأروعها، وهى من وادى - شَمِّر عن ساعد الجد. شمِّر عن ساقيك - غير أنها أوفر منها صياغة وترفعًا. إذ من المعروف المشاهَد أن السائر إلى جهة بغير تردد، بل بقوة وعزيمة، ترى لرجليه ضربًا، وتسمع لقدميه على الأرض وقعًا. ولما كان تردد المرء فى غايته، ووهن عزيمته إليها. وضعف ثقته بها، صدأ يغشى الأرواح، ومرضًا يتعب النفوس ويضايق الصدور، كان عقد العزيمة واستكمال الثقة غسلًا للروح من صدئها، وشفاءً للنفس من مرضها، ونفعًا لغلة الصدور، لذلك قال الله لرسوله أيوب: ﴿هَذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾، والآية كما ترى ليس فيها مرجع لاسم الإشارة إلا الركض المفهوم من قوله: ﴿ارْكُض﴾ المكنى به عن توثيق العزم، والأخذ بالحزم، كما هو مقتضى النظم الكريم، الجارى لقواعد اللُّغة، التى تأبى أن يكون لاسم الإشارة مرجع غير هذا من الماء والعين، كما يقتضيه تفسير المفسرين، إذ ليس فى النظم ما يدل عليهما بأى وجه من وجوه الدلالة. ولما كان أيوب ﵇ باعتباره رسولًا لا بد أن يأتمر فى إخلاص الأنبياء بأمر ربه، بيَّن الله ثمرة جهاده وصبره، ومضاء عزمه، فقال: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ﴾ أى هدينا له أهله فآمنوا به واستجابوا لدعوته، وهدينا له مثلهم من غير أهله، فليس المراد بالهبة ها هبة الخلق والإيجاد، بل هبة الهداية والإرشاد، بدليل تعبيره بالأهل دون التعبير بالذُرِّية والولد، كما فى قوله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا﴾ [مريم: ٥٣]، إذ كل ما يهتم له الأنبياء إنما هو أن يهدى الله بهم، لا أن يُولَد لهم. ولم يتحدث القرآن عن هبة يحيى لزكريا، وإسحاق لإبراهيم إلا لأن هبة الإيجاد فيهما قد تضمنت أمرين عظيمين؛ الأول: أنه قد وُلِد لإبراهيم ولزكريا عن كبر وشيخوخة ويأس وقنوط.
والثانى: أن الموهوب لكل منهما رسول لا ولد عادى.
فموضع المنة فى هذا: كونهما رسولين لا كونهما ولدين».
"ثم بيَّن الله بعد ذلك سيرة أيوب التى أمره أن يسير بها فى قومه، وهى اللين فى القول، والرفق فى الدعوة، والعظة بالحسنى، وتلك هى الخطة التى رسمها الله لجميع
 
٢ ‏/ ٣٨٥
 
أنبيائه، انظر كيف يقول لموسى وهارون: ﴿اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى * فَقُولاَ لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى﴾ [طه: ٤٣-٤٤]، ويقول لرسوله الكريم: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: ١٥٩]، ﴿واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين﴾ [الشعراء: ٢١٥] .. وبيَّن الله ذلك فقال: ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ﴾ [ص: ٤٤]، أى لا ترفع فى وجوه قومك رمحًا ولا عصًا، ولا تُغلظ لهم القول، ولا تخاشنهم فى الطلب، بل لوِّح فى وجوههم بالرياحين والأزهار، ولا تأثم بالغلظة والجفوة، فإنك بخفض الجناح والجدال بالتى هى أحسن تبلغ منهم ما لا تبلغه بالسيف، والعصا، والخشونة، والغلظة.. فانظر إلى ما فى الآية من كناية ما أجملها وأعلاها. وما أخصبها وأرواها، وانظر كم تعطيك على هذا الوجه من فنون البلاغة، وكم تمنحك من جزالة فى الأسلوب، ثم هم - يريد المفسِّرين - بعد ذلك يمسخونها ويشوهونها، فيجعلونها منقطعة عما قبلها، وما بعدها، فتقلق فى مرقدها، وتنبو فى مضجعها، إذ يجعلونها متوقفة فى فهمها على معونة أجنبية من الكلام الذى هى فيه، وذل من أدعى الدواعى لانحطاط الكلام عن المستوى العالى لكلام البَشر، فضلًا عن مستوى الإعجاز الذى يجب أن يكون عليه القرآن الكريم».
«هذا ما رأيت أن تؤول به تلك الآيات، استنادًا إلى ما جرى عليه قصص القرآن، وتحاميًا لما يترتب على ما فسَّر به المفسِّرون تلك الآيات من خدش قدس أيوب ﵇، باعتباره نبيًا رسولًا، ومن منافاة ذلك لحكمته السامية، وتفاديًا من أن يُحدِّثنا القرآن عن أمر عادى، وهو أن شخصًا مرض ثم دعا ربه فشفاه من مرضه.. ذلك الحديث الذى لا يتحدث به عظيم من الناس فضلًا عن الله تعالى، ولا يُحَدِّث به عن رجل عادى فضلًا عن أيوب الرسول الكريم».
هذا هو التفسير الصحيح فى نظر صاحبه، وأحسب أن القارئ الكريم سوف لا يتردد فى الحكم عليه بأنه تفسير منابذ لبلاغة القرآن، ومخالف لظاهره الذى عُرِف منذ عهد الصحابة والتابعين، وأى شىء يقف فى سبيل المعنى الظاهر حتى نعدل عنه إلى مجاز أو كناية فيها تعسف ظاهر وتكلف غير مقبول؟ اللَّهم لا شىء إلا دعوى التجديد، والثورة على القديم، والعمل على هدم آراء العلماء الذين عرف الناس مبلغ خدماتهم للعلم، ودفاعهم عن الدين.
ولا أُطيل بذكر ما أُفَنِّد به هذا الرأى الشاذ وما يحمله من دعاوى غير صحيحة على المفسِّرين جميعًا، فقد سبقنى إلى هذا أحد أساتذتى الأجلاء، ولست ببالغ مبلغه من العلم، ولا بآت بأكثر مما أتى به فى الرد على صاحب هذا الرأى.
* *
 
٢ ‏/ ٣٨٦
 
ووجدنا من أصحاب هذا اللَّون رجلًا آخر دفعه حب التجديد المزيف إلى أن يساير روح الإلحاد ويجارى من يتهمون الشريعة الإسلامية بالقسوة فى أحكامها وحدودها. فراح يتأوَّل آيات الحدود بما يوافق هواه وهوى أصحابه، فحمل الأمر فيها على الإباحة.. وجعل الأمر فى ذلك مُفوَّضًا إلى رأى ولى الأمر وحده، وهو وإن كان قد استعمل الأسلوب اللَّولبى فيما أبداه، وطرح الموضوع الذى عالجه فى صورة سؤال ألقاه شخص خالى الذهن ليتعرف وجه الحق فى المسألة، هو وإن كان قد فعل ذلك مفضوح أمره فصدر المقال يكشف لنا عن نية صاحبه، ويفيدنا بكل صراحة أن الكاتب يريد أن يتأوَّل آيات الحدود بحمل الأوامر الواردة فيها على الإباحة، وإليك ما جاء فى هذه المقالة لتقف على حقيقة الأمر، ولتعرف نية الكاتب وما يهدف إليه فى مقاله..
قال هذا الكاتب تحت عنوان «التشريع المصرى وصلته بالفقه الإسلامى»: «قرأت فى السياسة الأسبوعية الغرَّاء مقالًا بهذا العنوان، حوى أفكارًا أثارت فى نفسى من الرأى ما كنت أريد أن أُرجئه إلى حين، فإن النفوس لم تتهيأ بعد لفتح باب الاجتهاد، حتى إذا ظهر المجتهد فى هذا العصر برأى جديد، كتلك الآراء التى كان يذهب إليها الأئمة المجتهدون فى عصور الاجتهاد، قابلها الناس بمثل ما كانت تُقابَل به تلك الآراء من الهدوء والسكون، وإن بدا عليها ما بدا من الغرابة والشذوذ، لأن الناس فى تلك العصور كانوا يألفون الاجتهاد وكانوا يألفون شذوذه وخطأه، إلفهم لصوابه وتوفيقه، أما فى هذا العصر، فإن الناس قد بَعُد بهم العهد بالاجتهاد، حتى صار كل جديد يظهر فيه شاذًا فى نظرهم، وإن كان فى الواقع صوابًا وما أسرعهم فى ذلك إلى التشنيع والطعن فى الدين، والمحاربة فى الرزق، فلا يجد من يرى شيئًا من ذلك إلا أن يكتمه أو يُظهره بين أخصائه، ممن يأمن شرهم ولا يخاف كيدهم، وتضيع بهذا على الأمة آراء نافعة فى دينها ودنياها، ولكنى سأقدم على ما كنت أريد إخفاءه من ذلك إلى حين، وسأجتهد ما أمكننى فى أن لا أدع لأحد مجالًا فى ذلك التشنيع الذى يقف عقبة فى سبيل كل جديد».
ثم أشاد بما كتبه صاحب المقال المشار إليه ثم قال: "ولكن يبقى بعد هذا فى تلك الحدود ذلك الأمر الذى سنثيره فيها، ليُبحث فى هدوء وسكون. فقد نصل فيه إلى تذليل تلك العقبة التى تقوم فى سبيل الأخذ بالتشريع الإسلامى من ناحية تلك الحدود بوجه آخر جديد.. وسيكون هذا بإعادة النظر فى النصوص التى وردت فيها تلك الحدود، لبحثها من جديد بعد هذه الأحداث الطارئة، وسأقتصر فى ذلك - الآن - على ذكر ما ورد فى تلك الحدود من
 
٢ ‏/ ٣٨٧
 
النصوص القرآنية، وذلك قوله تعالى فى حد السرقة: ﴿والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ الله والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ * فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [المائدة: ٣٨-٣٩]، وقوله تعالى فى حد الزنا: ﴿الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين﴾ [النور: ٢] .. فهْل لنا أن نجتهد فى الأمر الوارد فى حد السرقة وهو قوله تعالى: ﴿فاقطعوا﴾، والأمر الوارد فى حد الزنا وهو قوله تعالى: ﴿فاجلدوا﴾ فنجعل كلًا منهما للإباحة لا للوجوب، ويكون الأمر فيهما مثل الأمر فى قوله تعالى: ﴿يابنيءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين﴾ [الأعراف: ٣١]، فلا يكون قطع يد السارق حدًا مفروضًا، لا يجوز العدول عنه فى جميع حالات السرقة، بل يكون القطع فى السرقة هو أقصى عقوبة فيها، ويجوز العدول عنه فى بعض الحالات إلى عقوبات أُخرى رادعة، ويكون شأنه فى ذلك شأن كل المباحات التى تخضع لتصرفات ولى الأمر، وتقبل التأثر بظروف كل زمان ومكان. وهكذا فى حد الزنا سواء أكان رجمًا أم جَلْدًا، مع مراعاة أن الرجم فى الزنا لا يقول به فقهاء الخوارج، لعدم النص عليه فى القرآن الكريم، وهل لنا أن نذلل بهذا عقبة من العقبات التى تقوم فى سبيل الأخذ بالتشريع الإسلامى، مع أنَّا فى هذه الحالة لا نكون قد أبطلنا نصًا
ولا ألغينا حدًا، وإنما وسَّعنا الأمر توسيعًا يليق بما امتازت به الشريعة الإسلامية من المرونة والصلاحية لكل زمان ومكان، وبما عُرِف عنها من إيثار التيسير على التعسير. والتخفيف على التشديد».
فأنت ترى من هذا المقال مقدار ما وصل إليه الكاتب من الجرأة على كتاب الله، إذ أوَّل آية السرقة وآية الزنا تأويلًا غير مقبول بأى حال من الأحوال، ومَن ينظر إلى آية السرقة وآية الزنا لا يفهم منهما إلا أن الأمر فيهما للوجوب، فليس لأحد أن يعدل عنه مطلقًا، وذلك الأمر فى قوله تعالى: ﴿فاقطعوا﴾، وقوله: ﴿فاجلدوا﴾ وارد فى الوجوب القاطع، فإن بناء الأمر بالقطع فى آية السرقة على قوله: ﴿والسارق والسارقة﴾، وبناء الأمر بالجلد فى آية الزنا على قوله: ﴿الزانية والزاني﴾ يصرفه عن احتمال الإباحة إلى الوجوب، وهذا لأن تعليق الحكم على شخص، موصوف بوصف يؤذن بأن المقتضى للحكم هو ذلك الوصف الذى قام بالشخص، وإذا كان ذلك الوصف جناية مثل السرقة والزنا ووضع الشارع لهما حكمًا فى صيغة الأمر ولم يذكر حكمًا غيره، لا يصح أن يُقال: إن هذا الأمر محتمل للإباحة كما احتملها الأمر فى قوله: ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ ... الآية.
 
٢ ‏/ ٣٨٨
 
ثم إن قوله تعالى فى آية السرقة: ﴿جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ الله والله﴾، وقوله فى آية الزنا، ﴿وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله﴾، وقوله: ﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين﴾ يؤكد أن الأمر فى الآيتين للوجوب لا للإباحة.
ثم إن هناك من سُنَّة رسول الله ﷺ القولية والعملية ما يؤكد كون الأمر للوجوب فى الآيتين.
فهل يجوز للكاتب بعد هذا كله أن يتهجم على آيات الحود بمعول ذلك التأويل الذى تنكره اللُّغة. ولا تقره السُّنَّة ولا يتفق وحكمة التشريع؟ اللَّهم إن هذا التأويل لا يجوز، ولهذا فإنه لم يصادف غفلة من عقول العلماء وأقلامهم، فقام كثير منهم بالرد على صاحبه، وتفنيد ما ذهب إليه، ولقد تنبه القائمون على أمر الأزهر حينئذ إلى خطر هذا الرأى وما يجره على الدين من بلاء. فجوزى صاحب المقال على ما كان منه جزاءً إن كان بسيطًا فى حد ذاته، فهو يدل على أن أفكار الكاتب لم تلق قبولًا ولم تجد رواجًا فى محيط العلماء.
* *
ووجدنا غير هذا وذاك مَن تأثر ببعض الآراء الفلسفية فراح ينكر بعض الحقائق الدينية الثابتة، ويتأوَّل ما ورد منها فى القرآن بما يتمشى مع مذاهب الفلاسفة، فأنكر حقيقة الشيطان، وتأوَّل ما جاء من لفظ الشيطان فى قوله تعالى فى الاية [١١٧] من سورة النساء: ﴿إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا﴾، فقال ما نصه: «والمعنى أن هؤلاء لم يجيبوا حين أشركوا بالله داعى العقل أو داعى الفِطْرة، وإنما أجابوا نزعات الشر المنبثة فى العالَم على مقتضى سُنَّة الله من الابتلاء بعوامل الخير وعوامل الشر، فهم بذلك يتبعون قوة خفية أُطلق عليها كلمة»شيطان«جريًا على عادة العرب المألوفة، إذا كانوا يتصورون قوى الشر شياطين تتحدث وتناجى وتغرى وتدفع إلى ما تريد»..
ثم قال: «هذا هو الشيطان الذى يُلَبِّى المشرك بإشراكه أمره. ويتخذه وليًا بأمره وينهاه».
وفى موضع آخر نجد صاحب هذا الرأى يعود إليه فيؤكده، ولست أدرى ماذا يفعل فى سياق الآية. وفى القرائن التى احتفت بها، والصفات التى انتظمتها مما يؤكد أن المراد هو إبليس، ذلك الكائن الخارجيى المستقل المستتر عن أعين الناس، كما
 
٢ ‏/ ٣٨٩
 
لا أدرى كيف يفعل بالأحاديث الثابتة عن الرسول ﷺ، والتى تقرر أن الشيطان حقيقة لها وجود خارجى.
* *
وأنكر بعضهم وجود عالَم الجن، وتأوَّل ما جاء من ذلك صريحًا فى آيات القرآن الكريم، ففسَّر قوله تعالى فى أول سورة الجن: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن﴾ ... . الآية، بأن الجن قبيلة من العرب.
وهذا تأويل ينافى صريح القرآن فى مواضع كثيرة، فضلًا عن أنه لا يقوم على دليل يصححه.
* *
ووجدنا غير هؤلاء جميعًا رجلاُ نُكِس على رأسه، فطوَّعت له نفسه أن يخوض فى تفسير كتاب الله على ما به من غواية وعماية، وأخيرًا طلع على الناس بكتاب مختصر فى تفسير القرآن الكريم، تفسيرًا جمع فيه الكثير من وساوسه وأوهامه، ثم سوَّل له الغرور أن يسميه «الهداية والعرفان فى تفسير القرآن بالقرآن».
أحدث هذا التفسير ضجة كبرى فى المحيط العلمى، وقام رجال الأزهر وقعدوا من أجله، ثم أُلِّفت لجنة من بعض العلماء لتنظر فى هذا الكتاب، ثم لتحكم عليه بما ترى فيه، ثم رفعت اللّجنة تقريرها لشيخ الأزهر إذ ذاك، وفيه تفنيد لآراء الرجل وحكم عليه بأنه «أفَّاك خرَّاص، اشتهى أن يُعرف فلم ير وسيلة أهون عليه وأوفى بغرضه من الإلحاد فى الدين بتحريف كلام الله عن مواضعه، ليستفز الكثير من الناس إلى الحديث فى شأنه وترديد سيرته».
ثم صودر الكتاب واختفى عن أعين الناس ﴿فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض﴾ .
قرأت ما جاء فى تقرير اللَّجنة الأزهرية، ولكننى أردت أن أطلع على الكتاب نفسه، فعملت كل ما أستطيع حتى استصدرت تصريحًا من دار الكتب المصرية بالاطلاع على هذا الكتاب الذى مُنِع من التداول بين الناس.
* *
* حملته على جميع المفسِّرين:
جاءنى الكتاب وقرأت فيه، فوجدت مؤلِّفه قد قدَّم له بمقدمة عاب فيها المفسِّرين وكتب التفسير جميعًا فقال: «وقد بلغ الدس والحشو فى التفاسير أنك لا تجد أصلًا من أصول القرآن إلا وتجد بجانبه رواية موضوعة، لهدمه وتبديله، والمفسِّرون قد وضعوا هذا فى كتبهم من حيث لا يشعرون».
* *
* طريقته فى التفسير:
ثم قال بعد ذلك: "فهذا كله - يعنى الدس والحشو فى التفاسير - دعانى إلى
 
٢ ‏/ ٣٩٠
 
تفسيرى، وأن تكون طريقتى فيه كشف الآية وألفاظها بما ورد فى موضوعها من الآيات والسور فيكون من ذلك العلم بكل مواضع القرآن، ويكون القرآن هو الذى ينطبق عليه ويؤيده من سنن الله فى الكون ونظامه فى الاجتماع، وقد اخترت أن تكون على عدد الآيات فى المصحف لتبقى الهداية بالترتيب الذى اختاره الله، وليمكن الباحث عن معنى الآية أن يلاحظ سياقها فيقرأ ما سبقها وما لحقها من الآيات ليكون على علم تام وهداية واعظة».
ولعل القارئ الكريم يلحظ كما ألحظ أن المؤلف يرمى من وراء قوله: «... ويكون القرآن هو الذى يُفسِّر نفسه كما أخبر الله. ولا يحتاج إلى شىء من الخارج غير الواقع الذى ينطبق عليه ويؤيده من سنن الله فى الكون ونظامه فى الاجتماع». أنه يريد أن يَهدر صلة السُّنَّة بالقرآن الكريم، وينفى أن منزلتها منه منزلة المبيِّن من المبيَّن. والله تعالى يقول: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: ٤٤] .
ويظهر لنا أن المؤلف قد ركب رأسه فراح يهدم سُنَّة رسول الله ﷺ، ولا يعترف بما لها من مكانة فى تفسير القرآن الكريم، فقال مقالته السابقة، كما أنه راح يهدم ما للسُّنَّة من المكانة فى التشريع الإسلامى فقال فى قوله تعالى فى الآية [٦٣] من سورة النور: ﴿فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾: «يفيدك أن المخالفة المحذورة هى التى تكون للإعراض عن أمره، وأما التى تكون للرأى والمصلحة فلا مانع منها بل هى من حكمة الشورى».. فأنت ترى أنه يجيز مخالفة أمر الرسول للمصلحة، وهذا عناد ومكابرة ومخالفة صريحة لقوله تعالى: ﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا﴾ [الحشر: ٧] ولغير هذا من الآيات التى وردت فى وجوب طاعته ﵇ وهى كثيرة. ثم أى مصلحة تخالف ما جاء به رسول الله ﷺ؟
هذا.. ولا أريد أن أطيل بذكر ما جاء فى هذا الكتاب من أباطيل وأضاليل ويكفى أن أذكر طرفًا مما حواه من ذلك ليتبين القارئ أن الرجل «جامد على المحسوسات، جاحد لكثير مما أخبر به القرآن، منكر لأحكام قررها القرآن والسُّنَّة وأجمع عليها الصحابة وأئمة المسلمين من بعدهم».
* إنكاره لمعجزات الأنبياء ﵈:
وقف هذا الرجل من معجزات الأنبياء ﵈ موقفًا شاذًا غريبًا. يقوم على إنكارها وجحدها والذهاب بها - عن طريق التأويل الفاسد - إلى أن تكون من قبيل الممكن الذى يدخل تحت مقدور كل إنسان، رسول أو غير رسول، وهو يُصرِّح بهذا
 
٢ ‏/ ٣٩١
 
فى كثير من المواضع، فيقول فى بعض المواضع: «وبعد هذا تعلم أن الله ينادى الناس بأنهم لا ينبغى أن ينتظروا من الرسول آية على صدقه فى دعوته غير ما فى سيرته ورسالته».
وفى موضع آخر يقول: «واعلم أن آيات الله فى نصر أنبيائه لا تناقض سُنَّته فى خلقه وكونه».
وفى موضع ثالث يقول: «وقد كانت كل آياتهم حججًا وبراهين من سيرتهم ورسالتهم. فلا يمكن أن يأتوا بدليل على صدقهم من غير الدعوة نفسها، فتكون هناك علاقة بين الدعوة ودليلها فتدبر».
وفي موضع رابع يقول: «وإن آيتهم على صدق دعوتهم لا تخرج عن حسن سيرتهم، وصلاح رسالتهم، وأنهم لا يأتون بغير المعقول، ولا بما يبدِّل سُنَّته ونظامه فى كونه».
على هذا الأساس تناول الرجل آيات المعجزات فخرج بها عن مدلولها الحقيقى الذى أراده الله تعالى.
*
* موقفه من معجزات عيسى ﵇:
فمثلًا عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٤٩] من سورة آل عمران فى شأن عيسى ﵇: ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أني أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ الله وَأُبْرِىءُ الأكمه والأبرص وَأُحْيِ الموتى بِإِذْنِ الله وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ .. نجده يقول ما نصه: ﴿كَهَيْئَةِ الطير﴾ يفيدك التمثيل لإخراج الناس من ثقل الجهل وظلماته إلى خفة العلم ونوره، ﴿الأكمه﴾ من ليس عنده النظر، ﴿الأبرص﴾ المتلون بما يُشوِّه الفطرة، فهل عيسى يُبرئ هذا بمعنى أنه يُكمل التكوين الجسمانى بالأعمال الطيبة؟ أم بمعنى أنه يكل التكوين الروحى والفكرى بالهداية الدينية؟ ﴿فِي بُيُوتِكُمْ﴾ يعلمهم التدبير المنزلى".
وإذا كان المؤلف قد تردد فى معنى إبراء الأكمه والأبرص هنا بين تكميل التكوين الجسمانى بالأعمال الطيبة، وبين تكميل التكوين الروحى بالهداية الدينية، فإنه ليس تردد الشاك فى أى الأمرين كان. وإنما هو تردد يبدو منه فى صراحة ووضوح ميله إلى أن المراد هو التكوين الروحى لا غير، وإنك لتجده يُصَرِّح فى موضع آخر بأن المراد هو تكميل التكوين الروحى بالهداية الدينية، وذلك عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية
 
٢ ‏/ ٣٩٢
 
[١١٠] من سورة المائدة: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأكمه والأبرص بِإِذْنِي﴾: «من هذا تعرف أن عيسى نبى أرسله الله إلى بنى إسرائيل ليشفى نفوسهم، ويحيى موت قلوبهم، فآيته فى دعوته وسيرته وهدايته. عاش ومات كغيره من الأنبياء فى بِشريته، فلم يكن خارقًا فى سُنَّته، ولا ممتازًا بما يدعو إلى أُلوهيته وعبادته».
كذلك تجده ينكر أن يكون عيسى ﵇ قد تكلَّم فى المهد وذلك حيث يُؤوِّل قوله تعالى فى الآية [٤٦] من سورة آل عمرران: ﴿وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلًا﴾ ما نصه: «فى المهد: فى دور التمهيد للحياة وهو دور الصبا، علامة على الجرأة وقوة الاستعداد فى الصغر. وكهلًا: علامة على أنه لا يفل عزمه بالشيخوخة والكبر - ويصح أن يكون المعنى: يكلم الناس الصغير منهم والكبير، علامة على تواضعه ومباشرة دعوته بنفسه».
وتأوَّل أيضًا قوله فى الآية [٢٩] من سورة مريم: ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيًّا﴾ فقال: «أى كان ذاك النهار ولدًا صغيرًا فكيف يأمرنا وينهانا ونحن كبار القوم فهذا ابن حرام».
ولما رأى أن قوله تعالى قبل ذلك فى الآية [٢٧]: ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ﴾ لا يتفق مع تأويله السابق تأوَّله أيضًا فقال: «تحمله على ما يحمل عليه المسافر، ومنه تفهم أنه كان فى سياحة طويلة».
*
* موقفه من معجزات موسى ﵇:
وعندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [١٦٠] من سورة الأعراف: ﴿وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى إِذِ استسقاه قَوْمُهُ أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانبجست مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْنًا﴾ .. قال: «ويصح أن يكون الحجر اسم مكان، واضرب بعصاك الحجر، معناه: اطرقه واذهب إليه، والغرض أن الله هداه إلى محل الماء وعيونه».
وعندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٦٣] من سورة الشعراء: ﴿فَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم﴾ قال ما نصه: ﴿البحر﴾ الماء الواسع، ﴿اضرب بِّعَصَاكَ البحر﴾ اطرقه واذهب إليه، ﴿فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم﴾ هذا بيان لحالة البحر، يُصوِّره لك بأنه مناطق بينها طرق ناشفة يابسة، راجع [١٦٠ فى الأعراف]، ثم راجع [طه فى ٧٧، ٧٨] ولتعرف كيف
 
٢ ‏/ ٣٩٣
 
اهتدى إلى طريق يبس مرَّ منه، واقرأ استعمال الضرب فى السير فى قصة أيوب فى (سورة ص) .
وفى سورة الأعراف عند قوله تعالى فى الآيتين [١٠٧، ١٠٨]: ﴿فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ﴾ يقول: «مثال من قوة حُجَّته وظهور برهانه».
وعند قوله تعالى فى الآيات [١١٨-١٢٢] من نفس السورة: ﴿فَوَقَعَ الحق وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ ... إلى قوله: ﴿رَبِّ موسى وَهَارُونَ﴾ .. يقول: «يُصوِّر لنا كيف كشفت حُجَّته تزييف حُجَّتهم حتى سلَّموا له وآمنوا به».
*
* موقفه من معجزة إبراهيم ﵇:
وعندما عرض لقوله تعالى فى الآية [٦٩] من سورة الأنبياء: ﴿قُلْنَا يانار كُونِي بَرْدًا وسلاما على إِبْرَاهِيمَ﴾ ... . إلخ، نجده ينكر أن يكون إبراهيم ﵇ قد أُلقى فى النار وخرج منها سالمًا، وذلك حيث يُؤوِّل الآية بما يخالف الظاهر فيقول: «معناه: نجَّاه من الوقوع فيها - راجع [٦٤ فى المائدة] و[٢٦ فى النحل]، وترى فى الآية وباقى القصة أن الله نجَّاه بالهجرة وخيَّب تدبيرهم».
*
* موقفه من معجزات داود ﵇:
وعندما عرض لقوله تعالى فى الآية [٧٩] من سورة الأنبياء: ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ والطير وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾ .. يقول: ﴿يُسَبِّحْنَ﴾ يُعبِّر عما تُظهره الجبال من المعادن التى كان يُسخِّرها داود فى صناعتها الحربية، ﴿والطير﴾ يُطلق على ذى الجناح وكل سريع السير من الخيل والقطارات البخارية والطيَّارات الهوائية«.
*
* موقفه من معجزات سليمان ﵇:
وعندما عرض لقوله تعالى فى الآية [٨١] من سورة الأنبياء: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ نجده يقول: ﴿تَجْرِي بِأَمْرِهِ﴾ الآن تجرى بأمر الدول الأوروبية وإشارتها، فى التلغرافات والتليفونات الهوائية ... اقرأ سبأ».
وفى سورة النمل عند قوله تعالى فى الآية [١٦]: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ ياأيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير﴾ .. يقول: ﴿مَنطِقَ الطير﴾ كل من يربى الطير ويؤلِّفه يمكنهم أن يتعلموا منطقه وماذا يريد، ويمكنهم أن يستعملوه فى الرسائل وغيرها".
وفى قوله تعالى فى الآية [١٨] من السورة نفسها: ﴿حتى إِذَآ أَتَوْا على وَادِ النمل
 
٢ ‏/ ٣٩٤
 
قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ﴾ نجده يقول: ﴿نَمْلَةٌ﴾ قبيلة، ﴿النمل﴾ قبائل الوادى».
وفى قوله بعد ذلك فى الآية [٢٠] من السورة أيضًا: ﴿وَتَفَقَّدَ الطير فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين﴾ .. نجده يقول: ﴿الهدهد﴾ اسم طائر فهل يكون من ذوى الجناحين؟ ويكون كلامه كناية عما يحمل من رسائل؟ أم من الخيّالة؟ السوارى؟ أو الطيَّارين الآخرين؟.. راجع الأنبياء«.
وفى قوله بعد ذلك فى الآيات من [٣٨-٤٢] من السورة نفسها: ﴿قَالَ ياأيها الملأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الجن أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هاذا مِن فَضْلِ رَبِّي ليبلوني أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ * قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أتهتدي أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ * فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ﴾ .. فى هذه الآيات نراه يقول: ﴿بِعَرْشِهَا﴾ بملكها، يريد أن يضع خطط الحرب ونظام الدخول فى البلاد، فطلب الخريطة التى فيها مملكة سبأ ليهاجمها، ويريها أنه جاد غير هازل، ﴿عِفْرِيتٌ مِّن الجن﴾ أحد القوَّاد، ويظهر أنه لم يفهم أن المسألة علمية جغرافية تحتاج إلى الذى ﴿عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب﴾ من الكتابة والرسم والتخطيط، ﴿قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ الغَرض أنه يأتى به حالًا وقد أتى به، ويحتمل أنه رسمه فى الحال أو كان عنده مرسومًا، ولو كان عهد الفوتوغرافيا قديمًا لصح أن يكون ذلك الرسم بها، وترى أن سليمان يشكر الله على ما فى المملكة من العلماء العاملين فى كل فن، ونأخذ من القصة أن الله يُعَظِّم شأن العلم ويدعونا إلى التمسك بالأسباب الكونية لتشييد الملك وإقامة الدولة، ﴿وَأُوتِينَا العلم﴾ يؤيد لك أن المسألة علمية، ﴿مُسْلِمِينَ﴾ منقادين لله، يعنى أنهم جمعوا بين العلم والتربية على الخُلُق العظيم، وهذا أحسن حافظ لنظام الملك وعزة الدولة».
*
* موقفه من معجزة الإسراء:
وعندما تعرَّض لقوله تعالى فى أول سورة الإسراء: ﴿سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السميع البصير﴾ .. نجده يقول: ﴿أسرى﴾ الإسراء يُستعمل فى هجرة الأنبياء.. انظر [٧٧ فى طه] و[١٣٨ فى الأعراف] و[٥٢ فى الشعراء] و[٢٣ فى الدخان] و[٨١ فى هود]
 
٢ ‏/ ٣٩٥
 
و[٦٥ فى الحج]، ثم تدبر آخر النحل وعلاقته بالإسراء: ﴿المسجد الحرام﴾ الذى له حُرْمة يُحترم بها عند جميع الناس [٢١٧ و٢١٨ فى البقرة] و[٢٥ فى الحج]، ﴿المسجد الأقصى﴾ الأبعد، مسجد المدينة وقد بارك الله حوله، فكان للنبى ﷺ هناك ثمرة وقوة، وكان بالإسراء الفتح والنصر فكان ذلك من آيات الله.. انظر [٢٠ يس] و[١٠٨ التوبة] ثم ارجع إلى الإسراء فاقرأ إلى [٦٠، ٩٣]».
* *
* إنكاره للملائكة والجن والشياطين:
كذلك نجد صاحب هذا الكتاب يُؤوِّل الملائكة، والجن، والشياطين، بما لا يتفق والحقائق الشرعية الثابتة.
فمثلًا عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٣٤] من سورة البقرة: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى واستكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين﴾ .. نجده يقول: ﴿الْمَلاَئِكَةِ﴾ رسل النظام وعالم السنن، وسجودهم للإنسان معناه أن الكون مُسخَّر له.. راجع [٢٩ فى البقرة]، ثم انظر [الملك فى ١٥]، ﴿إِبْلِيسَ﴾ اسم لكل مستكبر على الحق. ويتبعه لفظ الشيطان والجان، وهو النوع المستعصى على الإنسان تسخيره«.
وعند قوله تعالى فى الآية [٧١] من سورة الأنعام: ﴿قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ على أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا الله كالذي استهوته الشياطين فِي الأرض حَيْرَانَ﴾ ... الآية، نجده يقول: ﴿الشياطين﴾ تُطلق على الحيَّات والثعابين، تستهوى مَن يتبعها ليقتلها فيهوى معها وتضله بتعرجها.. راجع [٢٧٥ فى البقرة]».
وعند قوله تعالى فى الآيتين [٢٦، ٢٧] من سورة الحِجْر: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم﴾ .. يقول: «يمثل لك بوصف الإنسان، النوع الهادئ صاحب الطبع الطينى الذى تشكله كما تريد، ﴿والجآن﴾ النوع المتشرد صاحب الطبع النارى، إذا قاربته يؤذيك ويغويك، ولا تستطيع أن تمسكه وتعدله، والنوعان موجودان فى كل أمة، فتدبر السياق من أول السورة، وراجع القصة فى البقرة».
وعند قوله تعالى فى الآية [١٧] من سورة النمل: ﴿وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجن والإنس﴾ .. يقول: ﴿الجن﴾ يُطلق على العالَم الخفى والظاهر القوى، وجن كل شىء أوله ومقدمته، وجن الجيش قُوَّاده ورؤساؤه، ﴿والإنس﴾ طائعوه ومرءوسوه.. اقرأ الجن".
 
٢ ‏/ ٣٩٦
 
وعند قوله تعالى فى الآية [١٥٨] من سورة الصافات: ﴿وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾ .. يقول: «الجِنَّة أو الجن: سادتهم وكبراؤهم».
وعند قوله تعالى فى الآيتين [٣٧، ٣٨] من سورة (ص): ﴿والشياطين كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصفاد﴾ .. نجده يقول: ﴿الشياطين﴾ يطلقون على الصُنَّاع الماهرين والأشقياء المجرمين، ﴿مُقَرَّنِينَ فِي الأصفاد﴾ مسلوكين فى القيود، ومنها تفهم أن سليمان كان يشغل المسجونين من أصحاب الصناعات للانتفاع بهم«.
* *
* إنكاره لأحكام من الدين لم ينازع فيها أحد من المجتهدين:
ولقد سوَّلت للمؤلف نفسه أن يتأول بعض آيات الأحكام على غير ما أراد الله، وعلى مقتضى هواه الذى لا يخضع لقواعد اللُّغة ولا لأصول الشريعة!!
* حد السرقة:
فمثلًا عند قوله فى الآية [٣٨] من سورة المائدة: ﴿والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا﴾ ... الآية، يقول:»واعلم أن لفظ السارق والسارقة يعطى معنى التعود. أى أن السرقة صفة من صفاتهم الملازمة لهم، ويظهر لك من هذا المعنى: أن مَن سرق مرة أو مرتين ولا يستمر فى السرقة ولم يتعود اللصوصية لا يُعاقَب بقطع يده، لأن قطعها فيه تعجيز له، ولا يكون ذلك إلا بعد اليأس من علاجه«.
* حد الزنا:
وعند قوله تعالى فى الآية [٢] من سورة النور: ﴿الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ﴾ ... الآية، نجده يقول: ﴿الزانية والزاني﴾ يُطلق هذا الوصف على المرأة والرجل إذا كانا معروفين بالزنا وكان من عادتهما وخُلُقهما، فهما بذلك يستحقان الجَلْد».
* تعدد الزوجات:
فى الآية [٣] من سورة النساء: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ﴾ ... . الآية، نجده يقول: ﴿مِّنَ النسآء﴾ نساء اليتامى الذين فيهم الكلام - هكذا بالأصل - لأن الزواج منهن يمنع الحرج فى أموالهن، ومن هذا تفهم أن تعدد الزوجات لا يجوز إلا للضرورة التى يكون فيها التعدد مع العدل أقل ضررًا على المجتمع من تركه، لتعلم أن التعدد لم
 
٢ ‏/ ٣٩٧
 
يُشرع إلا فى هذه الآية بذلك الشرط السابق واللاحق ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ﴾: «فإن خفتم ألا تعدلو».
فهو يريد أن يبيح تعدد الزوجات إلا إذا كُنَّ يتامى فى حجره، وأمن من نفسه عدم الجور، ولم يقل أحد بالشرط الأول مطلقًا، ومَن يطلع على سبب النزول يعلم خطأ مَن يشترط هذا الشرط فى التعدد.
* التسرِّى:
وعند قوله تعالى فى نفس الآية السابقة: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ .. نجده يقول: انظر آية [٢٥ إلى ٢٨ من النساء] .
وفى الآية [٢٥] وهى قوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ﴾ .. يقول: «فيه عناية بالخادمات، وتسهيل لمن يريدون الزواج. ولا يستطيعون النفقات على ذوات البيوتات، انظر [٣٣ فى النور] و[٦٠ فى الكهف] ثم [٣٠، ٣٦، ٤٢، ٦٣ فى يوسف]، ﴿الْعَنَتَ﴾: الحَرَج: انظر [٢٢٠ فى البقرة] و[٧ فى الحجرات] و[١٢٨ فى التوبة] و[١١٨ فى آل عمران] . وفى هذه الآية رد على الذين يتخذون مِلْك اليمين من الخادمات والوصيفات للتمتع بهن كالزوجات، بحجة أنهن مشتريات بالمال، أو أسيرات بالحرب، فليس فى الإسلام عرض امرأة يُباح بغير الزواج، مملوكة كانت أو مالكة، فتدبر ذلك فى الآيات».
وفى قوله تعالى فى الآيتين [٥، ٦] من سورة المؤمنون: ﴿والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ ... الآية، يقول: «اقرأ المعارج، والنور، وأوائل البقرة».
ثم قال فى المعارج عند قوله تعالى فى الآيتين [٢٩، ٣٠]: ﴿والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾ ما نصه: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ من الخدم، فإن لهم ما ليس لغيرهم، فقد يكون فى الإنسان فروج - أى عيوب ونقائص - يسيئه أن يراها الناس فيه، ولكن لا يسيئه أن يراها خدمه".
فأنت ترى من هذا أنه يُحَرِّم التسرِّى، ويُفَسِّر الفروج بالعيوب، وهذا بُعْدٌ عن قوانين اللُّغة، ومبادئ الشريعة.
* الربا:
كذلك نجد المؤلف يميل إلى أن الربا المحرَّم شرعًا هو الفاحش فقط، ولهذا نراه عندما
 
٢ ‏/ ٣٩٨
 
يعرض لآيات الربا فى سورة البقرة يُفسِّر «الربا» فيقول: «الربا هو الزيادة من الربح فى رأس المال، وهو معروف ومقيَّد بالآية [١٣٠ فى آل عمران]، فانظرها أولًا» يريد قوله تعالى: ﴿يَآ أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً﴾ .. ثم يقول بعد ذلك: ﴿وَذَرُواْ مَا بَقِيَ﴾ [البقرة: ٢٧٨]، ﴿فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ﴾ [البقرة: ٢٧٩]، ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ﴾ [البقرة: ٢٨٠] كل ذلك يفيدك أن الكلام فى المعاملة الحاضرة، ويبشر مَن يتوب بأنه لا يُحاسَب على ما كسبه من قبل، ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ [البقرة: ٢٧٥] .. انظر [٣٨ فى الأنفال] «يريد قوله تعالى: ﴿قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ﴾ .
ثم قال بعد ذلك عندما عرض لقوله تعالى فى الآية [١٣٠] من سورة آل عمران: ﴿يَآ أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾: ﴿الربا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً﴾ أى الربا الفاحش وبمعنى آخر: الربح الزائد عن حده فى رأس المال. وتُقدِّره كل أُمّة بعُرفها. راجع فى جزائه أواخر البقرة، وقصة اليهود فى أواخر النساء، ثم ارجع إلى [٥ فى النساء و٤٣]».
* زكاة الزروع:
كذلك نجد المؤلف يذهب فى زكاة الزروع مذهبًا لم يقل به أحد من المجتهدين فضلًا عن أنه يصادم ما جاء من السُّنَّة الصحيحة فى بيان المقدار الواجب فى زكاة الزروع، وذلك حيث يُفسِّر قوله تعالى فى الآية [١٤١] من سورة الأنعام: ﴿وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ .. فيقول: ﴿وَآتُواْ حَقَّهُ﴾ يفيد أن فى كل هذا الخارج من الأرض حقًا لا بد من إعطائه، ﴿يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ زمن تحصيله، وكما أمر المالكين بإيتاء هذا الحق، أمر الحاكم العام بأَخذه، والعمل على جبايته لبيت المال، وقد ترك التقدير للأُمة بحسب الحال«.
(أقول: وليس للأُمة دخل فى تقدير مقررات الزكاة بعد أن قدَّرها الرسول ﵊، وقررها على الأُمة) .
* مصارف الزكاة:
كذلك تخبط المؤلف فى شرحه لبعض مصارف الزكاة، وذلك حيث فسَّر قوله تعالى فى الآية [٦٠] من سورة التوبة: ﴿... . وَفِي الرقاب﴾، فقال:»فى خلاصها من الاستعباد. وفى هذا الزمان تَجد أكثر المسلمين رقابهم مملوكة للأجانب، فيجب أن يتعاونوا على فك رقابهم، وفي الزكاة حق لهذا التعاون".
 
٢ ‏/ ٣٩٩
 
* الطلاق:
كذلك نجد المؤلف يذهب إلى أن الطلاق لا يقع إلا إذا كان سببه أمرًا يخل بنظام العِشْرة، وآتيًا من قِبَل المرأة، وذلك حيث يقول فى قوله تعالى فى الآية [١] من سورة الطلاق: ﴿لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ﴾ ما نصه: ﴿بُيُوتِهِنَّ﴾ بيوت الزوجية.. راجع [البقرة من ٢٢٦-٢٤٢]، و[الأحزاب: ٤٠]، و[التحريم ٥]، و[النور ٥-١٠] لتعرف أن الطلاق وإن كان فى يد الرجل لا يقع إلا بسبب يخل بنظام العِشْرة الزوجية».
هذا بعض ما جاء فى هذا الكتاب الذى هذى به صاحبه، وفيه غير هذا كثير مما يدل على أن الرجل قد ركب متن الغواية، ومشى يخبط خبط الأعشى فى مهمة متسع من الضلالة!!
وحسبى أن أكون قد أطلعت القارئ على بعض ما جاء فى هذا الكتاب، ولست فى حاجة إلى أن أطيل بذكر ما يُبطل هذه الأوهام ويفندها، فإنى لست فى مقام الرد والتفنيد، وإنما أنا فى مقام بيان لون من ألوان التفسير فى هذا العصر، وإذا كان القارئ الكريم يود أن يقف على إبطال هذه المزاعم التى حشا بها المؤلف كتابه، فليرجع إلى قرار اللجنة الأزهرية، التى أُلِّفت للرد على هذا الكتاب، وليرجع إلى ما كتبه شيخنا العلامة الشيخ محمد الخضر حسين فى الجزء الثالث من رسائل الإصلاح، ولا شك أنه سيجد فيما كتب هنا وهناك ما يكفى لأن يذهب بتلك التأويلات أدراج الرياح، وما ينادى بأن صاحب هذه التأويلات قد انحرف عن الهدى، فهو إلى مكان سحيق..
* * *
 
٢ ‏/ ٤٠٠
 
اللَّون الأدبى الاجتماعى للتفسير فى عصرنا الحاضر
يمتاز التفسير فى هذا العصر بأنه يتلون باللَّون الأدبى الاجتماعى، ونعنى بذلك: أن التفسير لم يعد يظهر عليه فى هذا العصر ذلك الطابع الجاف. الذى يصرف الناس عن هداية القرآن الكريم، وإنما ظهر عليه طابع آخر، وتلوَّن بلون يكاد يكون جديدًا وطارئًا على التفسير، ذلك هو معالجة النصوص القرآنية معالجة تقوم أولًا وقبل كل شىء على إظهار مواضع الدقة فى التعبير القرآنى، ثم بعد ذلك تُصاغ المعانى التى يهدف القرآن إليها فى أسلوب شَيِّق أخَّاذ، ثم يطبق النص القرآنى على ما فى الكون من سنن الاجتماع، ونُظُم العمران.


* مدرسة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وأثرها فى التفسير:
وإذا كان هذا اللًَّون الأدبى الاجتماعى يعتبر فى نظرنا عملًا جديدًا فى التفسير، وابتكارًا يرجع فضله إلى مُفسِّرى هذا العصر الحديث، فإنَّا نستطيع أن نقول بحق: إن الفضل فى هذا اللَّون التفسيرى يرجع إلى مدرسة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده للتفسير. هذه المدرسة التى قام زعيمها - ورجالها من بعده - بمجهود كبير فى تفسير كتاب الله تعالى، وهداية الناس إلى ما فيه من خير الدنيا وخير الآخرة.
نعم.. قامت هذه المدرسة بمجهود كبير فى تفسير كتاب الله تعالى. مجهود نحمد لها الكثير منه، ولا نوافقها على بعض منه قليل.
* محاسن هذه المدرسة:
فالذى نحمده لهذه المدرسة: أنها نظرت للقرآن نظرة بعيدة عن التأثر بمذهب من المذاهب، فلم يكن منها ما كان من كثير من المفسِّرين من التأثر بالمذهب إلى الدرجة التى تجعل القرآن تابعًا لمذهبه، فيؤوِّل القرآن بما يتفق معه، وإن كان تأويلًا متكلفًا وبعيدًا.
كما أنها وقفت من الروايات الإسرائيلية موقف الناقد البصير، فلم تُشَوِّه التفسير بما شُوِّهَ به فى كثير من كتب المتقدمين، من الروايات الخرافية المكذوبة، التى أحاطت بجمال القرآن وجلاله، فأساءت إليه وجرَّأت الطاعنين عليه!!
كذلك لم تغتر هذه المدرسة بما اغتر به كثير من المفسِّرين من الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة التى كان لها أثر سىء فى تفسير القرآن الكريم!!
ولقد كان من أثر عدم اغترار هذه المدرسة بالروايات الإسرائيلية، والأحاديث
 
٢ ‏/ ٤٠١
 
الموضوعة. أنها لم تخض فى تعيين ما أبهمه القرآن، ولم تجرؤ على الخوض فى الكلام عن الأُمور الغيبية، التى لا تُعرف إلا من جهة النصوص الشرعية الصحيحة، بل قررت مبدأ الإيمان بما جاء من ذلك مجملًا، ومنعت من الخوض فى التفصيلات والجزئيات، وهذا مبدأ سليم، يقف حاجزًا منيعًا دون تسرب شىء من خرافات الغيب المظنون إلى المعقول والعقائد.
كذلك نجد هذه المدرسة أبعدت التفسير عن التأثر باصطلاحات العلوم والفنون، التى زُجَّ بها فى التفسير بدون أن يكون فى حاجة إليها، ولم تتناول من ذلك إلا بمقدار الحاجة، وعلى حسب الضرورة فقط.
ثم إن هذه المدرسة، نهجت بالتفسير منهجًا أدبيًا اجتماعيًا، فكشفت عن بلاغة القرآن وإعجازه، وأوضحت معانيه ومراميه، وأظهرت ما فيه من سنن الكون الأعظم ونظم الاجتماع، وعالجت مشاكل الأمة الإسلامية خاصة، ومشاكل الأُمم عامة، بما أرشد إليه القرآن، من هداية وتعاليم، جمعت بين خيرى الدنيا والآخرة، ووفَّقت بين القرآن وما أثبته العلم من نظريات صحيحة، وجلت للناس أن القرآن كتاب الله الخالد، الذى يستطيع أن يساير التطور الزمنى والبَشرى، إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، ودفعت ما ورد من شُبَه على القرآن، وفنَّدت ما أُثير حوله من شكوك وأوهام، بحجج قوية قذفت بها على الباطل فدمغته فإذا هو زاهق.. كل هذا بأسلوب شيق جذاب يستهوى القارئ، ويستولى على قلبه، ويُحَبب إليه النظر فى كتاب الله، ويُرَغبه فى الوقوف على معانيه وأسراره.
هذا ما نحمده لهذه المدرسة، ولا نستطيع أن نغمطها عليه، أو نقلل من فضلها فيه؟
* *
* عيوب هذه المدرسة:
أما ما نأخذه على هذه المدرسة، فهو أنها أعطت لعقلها حرية واسعة، فتأوَّلت بعض الحقائق الشرعية التى جاء بها القرآن الكريم، وعدلت بها عن الحقيقة إلى المجاز أو التمثيل، وليس هناك ما يدعو لذلك إلا مجرد الاستبعاد والاستغراب. استبعاد بالنسبة لقُدرة البَشر القاصرة، واستغراب لا يكون إلا ممن جهل قدرة الله وصلاحيتها لكل ممكن.
كما أنها بسبب هذه الحرية العقلية الواسعة جارت المعتزلة فى بعض تعاليمها وعقائدها، وحمَّلت بعض ألفاظ القرآن من المعانى ما لم يكن معهودًا عند العرب فى زمن نزول القرآن وطعنت فى بعض الأحاديث: تارة بالضعف، وتارة بالوضع، مع أنها
 
٢ ‏/ ٤٠٢
 
أحاديث صحيحة رواها البخارى ومسلم، وهما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى بإجماع أهل العلم، كما أنها لم تأخذ بأحاديث الآحاد الصحيحة الثابتة، فى كل ما هو من قبيل العقائد، أو من قبيل السمعيات، مع أن أحاديث الآحاد فى هذا الباب كثيرة لا يُستهان بها.
وما يُقال من أن خبر الواحد لا تثبت به عقيدة إجماعًا. فيه نظر من وجوه:
الأول: أن دعوى الإجماع باطلة، فإن للعلماء أربعة أقوال فى إفادة خبر الواحد العلم:
١- يفيد الظن مطلقًا.
٢- يفيد العلم بقرينة.
٣- يفيد العلم من غير قرينة باطراد.
٤- يفيد العلم من غير قرينة لا باطراد.
الثانى: إذا جرينا على أن خبر الواحد يفيد العلم، أمكن أن تثبت به عقيدة، وإذا جرينا على أنه يفيد الظن، أمكن أن تثبت به العقيدة إذا احتفت به قرائن - على المختار - لإفادته العلم حينئذ، ومن هنا جزم ابن الصلاح وغيره بأن أحاديث الصحيحين التى لم تُنقد عليهما تفيد العلم، فإن الأمة قد تلقتهما بالقبول، وهى معصومة من الخطأ، وظن المعصوم لا يخطىء.
الثالث: أنه ليس المراد من العقيدة كل ما يعتقَد، وإلا لتناول ذلك الفروع الفقهية، فإنه لا يسوغ العمل بها إلا بعد اعتقاد صحة الحكم فيها، وإنما المراد بالعقائد أُصولها، وهو ما كان الإخلال بها موجبًا للكفر، كالإيمان بالله وباليوم الآخر. وأما الأحاديث الواردة فى الحوادث الماضية، أو المستقبلة، أو المتعلقة بتفاصيل اليوم الآخر وما فيه، فلا يُشترط فيها التواتر، لأن هذه الأمور ليست من قبيل العقائد التى يترتب على عدم تصديقها الكفر والعياذ بالله تعالى، ولكن يُكتَفى فيها بأن تكون من طريق صحيح.
* *
* أهم رجال هذه المدرسة:
هذا.. وإن أهم رجال هذه المدرسة، وهو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده زعيمها وعميدها، ثم المرحوم السيد محمد رشيد رضا، والمرحوم الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغى. وهما خير مَن أنجبت هذه المدرسة، وخير من ترسَّم خُطا الأستاذ الإمام، وسار على منهجه وطريقته فى التفسير.
 
٢ ‏/ ٤٠٣
 
ولست أرى القارئ بحاجة إلى أن أترجم لحياة هؤلاء الرجال الثلاثة، فالعهد بهم قريب، وليس يُخشى على مَن لم صلة بالحركة العلمية فى هذا العصر شىء من معالم حياتهم، ويكفى أن أتكلم عن إنتاج كل واحد منهم فى التفسير وعن منهجه الذى سلكه فيه، وسيقف القارئ - إن شاء الله تعالى - على ما قلته عن هذه المدرسة، وما ذكرته لها من أثر محمود فى التفسير، وما ذكرته عنها من أثر يُؤخذ عليها ولا يُحمد لها.
* * *
 
٢ ‏/ ٤٠٤
 


١- الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده

* إنتاجه فى التفسير:
إذا نحن ذهبنا نستقصى ما أنتجه لنا الأستاذ الإمام من عمل فى التفسير، فإنَّا نجد له تفسيره المشهور لجزء «عم» ذلك التفسير الذى ألَّفه بمشورة من بعض أعضاء الجمعية الخيرية الإسلامية، ليكون مرجعًا لأساتذة مدارس الجمعية فى تفهيم التلاميذ معانى ما يحفظون من سور هذا الجزء، وعاملًا للإصلاح فى أعمالهم وأخلاقهم، ولقد أتم الأستاذ الإمام تفسير هذا الجزء فى سنة ١٣٢١ هـ (إحدى وعشرين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة)، ببلاد المغرب، وبذل جهده كما يقول: «فى أن تكون العبارة سهلة التناول، خالية من الخلاف وكثرة الوجوه فى الإعراب، بحيث لا يحتاج فى فهمها إلا أن يعرف القارئ كيف يقرأ، أو السامع كيف يسمع، مع حسن النية وسلامة الوجدان».
كذلك نجد له تفسيرًا مطوَّلًا لسورة «العصر» كان قد ألقاه على هيئة محاضرات، أو دروس على علماء مدينة الجزائر ووجهائها فى سنة ١٣٢١ هـ (سنة ١٩٠٢م) - ويقول الأستاذ الإمام: إنه قرأ تفسير هذه السورة فى سبعة أيام، وكل درس لا يقل عن ساعتين، أو ساعة ونصف.
كذلك نجد له بعض بحوث تفسيرية، عالج فيها بعض مشكلات القرآن، ودفع بها بعض ما أُثير حول القرآن من شكوك وإشكالات، كشرحه لقوله تعالى فى الآية [٧٨] من سورة النساء: ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هاذه مِنْ عِندِ الله وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هاذه مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله فَمَالِ هاؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾، وقوله فى الآية [٧٩] من السورة نفسها: ﴿مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وكفى بالله شَهِيدًا﴾ وجمعه بينهما. وتوفيقه بين ما يُظَن فيهما من تناف وتضاد، وهو نسبة أفعال العباد تارة إلى الله تعالى، وتارة إلى العبد.
وكشرحه لقوله تعالى فى الآية [٥٢-٥٥] من سورة الحج: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ﴾ .. إلى قوله: ﴿أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ﴾، وإبطاله لقصة الغرانيق، وتفنيده لما بُنِىَ عليها من
 
٢ ‏/ ٤٠٥
 
تفسير يذهب بعصمة النبى ﷺ، ويرفع الأمان عن الوحى الذى تكفَّل الله بحفظه.
وكتفسيره لقوله تعالى فى الآية [٣٧] من سورة الأحزاب: ﴿وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولًا﴾، ورده لما أُلصق بها من أحاديث باطلة، تُصوِّر النبى ﷺ بصورة الرجل الشهوانى، وإبطاله لكل ما أُثير حول هذه القصة - قصة زيد وزينب - من مطاعن رُمِىَ بها رسول الله ﷺ زورًا وبهتانًا.
وكذلك نجد من آثار الأستاذ الإمام فى التفسير، تلك الدورس التى ألقاها فى الأزهر الشريف على تلاميذه ومريديه، وكان ذلك بمشورة تلميذه السيد محمد رشيد رضا، وإقناعه به، كما يقول هو فى مقدمة تفسيره.
وقد ابتدأ الأستاذ الإمام بأول القرآن فى غُرَّة المحرَّم سنة ١٣١٧ وانتهى عند تفسير قوله تعالى فى الآية [١٢٦] من سورة النساء: ﴿وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا﴾ .. وذلك فى منتصف المحرَّم سنة ١٣٢٣ هـ، إذ توفى ﵀ لثمان خلون من جُمادى الأولى من السنة نفسها.
وإذا كان الأستاذ الإمام قد ألقى هذه الدروس فى التفسير على طُلابه ولم يدون شيئًا، فإنّا لا نرى حَرَجًا من جعلها أثرًا من آثاره فى التفسير.
وذلك لأن تلميذه السيد محمد رشيد رضا كان يكتب فى أثناء إلقاء هذه الدروس مذكرات يودعها ما يراه أهم أقوال الأستاذ الإمام، ثم يحفظ ما كتب ليمده بما يذكره من أقواله وقت الفراغ، ثم قام بعد ذلك بنشر ما كتب فى مجلته «المنار» وكان - كما يقول هو فى مقدمة تفسيره - يُطلع الأستاذ الإمام على ما أعده للطبع، كلما تيسر ذلك بعد جمع حروفه فى المطبعة وقبل طبعه، فكان ربما يُنَقِّح فيه بزيادة قليلة، أو حذف كلمة أو كلمات. قال: «ولا أذكر أنه انتقد شيئًا مما لم يره قبل الطبع، بل كان راضيًا بالمكتوب، معجبًا به».
هذا هو كل ما وصلت إليه من إنتاج الأستاذ الإمام فى التفسير، وهو وإن كان إنتاجًا يُعَد قليلًا بالنسبة لهذه الشخصية البارزة، إلا أنه - والحق يقال - كان له أثر بالغ فى تطور التفسير واتجاهاته، كما سيظهر لك فيما بعد إن شاء الله تعالى.
* *
 
٢ ‏/ ٤٠٦
 
* منهجه فى التفسير:
كان الأستاذ الإمام هو الذى قام وحده من بين رجال الأزهر بالدعوة إلى التجديد، والتحرر من قيود التقليد، فاستعمل عقله الحر فى كتاباته وبحوثه، ولم يجر على ما جمد عليه غيره من أفكار المتقدمين، وأقوال السابقين، فكان له من وراء ذلك آراء وأفكار خالف بها مَن سبقه، فأغضبت عليه الكثير من أهل العلم، وجمعت حوله قلوب مريديه والمعجبين به.
هذه الحرية العقلية، وهذه الثورة على القديم، كان لهما أثر بالغ فى المنهج الذى نهجه الشيخ لنفسه. وسار عليه فى تفسيره.
وذلك أن الأستاذ الإمام اتخذ لنفسه مبدءًا يسير عليه فى تفسير القرآن الكريم، ويخالف به جماعة المفسِّرين المتقدمين. وهو فهم كتاب الله من حيث هو دين يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم فى حياتهم الدنيا وحياتهم الآخرة، وذلك لأنه كان يرى أن هذا هو المقصد الأعلى للقرآن، وما وراء ذلك من المباحث فهو تابع له، أو وسيلة لتحصيله.
يقرر الأستاذ الإمام هذا المبدأ فى التفسير، ثم يتوجه باللَّوم إلى المفسِّرين الذين غفلوا عن الغرض الأول للقرآن. وهو ما فيه من هداية وإرشاد، وراحوا يتوسعون فى نواح أخرى من ضروب المعانى، ووجوه النحو، وخلافات الفقه، وغير ذلك من المقاصد التى يرى الأستاذ الإمام أن الإكثار فى مقصد منها «يخرج بالكثيرين عن المقصود من الكتاب الإلهى، ويذهب بهم فى مذاهب تنسيهم معناه الحقيقى».
لهذا نرى الأستاذ الإمام يقسم التفسير إلى قسمين:
أحدهما: جاف مبعد عن الله وكتابه، وهو ما يقصد به حل الألفاظ، وإعراب الجمل، وبيان ما ترمى إليه تلك العبارات والإشارات من النكت الفنية. قال: وهذا لا ينبغى أن يُسمى تفسيرًا. وإنما هو ضرب من التمرين فى الفنون، كالنحو، والمعانى، وغيرهما.
وثانيهما: ذهاب المفسِّر إلى فهم المراد من القول، وحكمة التشريع فى العقائد والأحكام، على الوجه الذى يجذب الأرواح، ويسوقها إلى العمل والهداية المودعة فى الكلام، ليتحقق فيه معنى قوله تعالى: ﴿وَهُدًى وَرَحْمَةٌ﴾ [الأنعام: ١٥٧] ونحوهما من الأوصاف.. قال الأستاذ الإمام: «وهذا هو الغرض الأول الذى أرمى إليه فى قراءة التفسير».
 
٢ ‏/ ٤٠٧
 
هذا.. وإن الأستاذ الإمام لا يريد من كلامه السابق أن يُهمل الناحية البلاغية أو النحوية مثلًا فى تفسير القرآن، ولكنه يريد أن يأخذ المفسِّر من ذلك بمقدار الضرورة، فيبين المفسر - مثلًا - من وجوه البلاغة، وضروب الإعراب بقدر ما يحتمله المعنى، وعلى الوجه الذى يليق بفصاحة القرآن وبلاغته. وذلك بدون أن يتجاوز مقدار الحاجة.
ثم إنَّا نجد الأستاذ الإمام - وقد وضع لنفسه هذه الخطة فى التفسير - يشترط شروطًا لا بد من توفرها عند مَن يريد أن يُفسِّر القرآن تفسيرًا يحقق الغرض منه، وقد ذكرناها بجملتها عند كلامنا عن العلوم التى يحتاج إليها المفسِّر.
* *
* القرآن لا يتبع العقيدة وإنما تؤخذ العقيدة من القرآن:
ويرى الأستاذ الإمام: أن القرآن الكريم هو الميزان الذى تُوزن به العقائد لتعرف قيمتها، ويقرر أنه يجب على مَن ينظر فى القرآن أن ينظر إليه كأصل تؤخذ منه العقيدة، ويُستنبط منه الرأى، وينعى على ما كان من أكثر المفسِّرين، من تسلط العقيدة عليهم، ونظرتهم للقرآن من خلالها، حتى تأوَّلوا القرآن بما يشهد لعقائدهم، وتتمشى معها، وفى هذا يقول:»إذا وزنا ما فى أدمغتنا من الاعتقاد بكتاب الله تعالى، من غير أن نُدخلها أولًا فيه، يظهر لنا كوننا مهتدين أو ضالين. وأما إذا أدخلنا ما فى أدمغتنا فى القرآن، وحشرناها فيه أولًا، فلا يمكننا أن نعرف الهداية من الضلال، لاختلاط الموزون بالميزان، فلا يُدرى ما هو الموزون به.
«أريد أن يكون القرآن أصلًا تُحمل عليه المذاهب والآراء فى الدين، لا أن تكون المذاهب أصلًا والقرآن هو الذى يُحمل عليها. ويُرجع بالتأويل أو التحريف إليها، كما جرى عليه المخذولون، وتاه فيه الضالون».
* *
* كيف كان يقرأ الأستاذ الإمام التفسير ويكتبه:
تناول الأستاذ الإمام تفسير القرآن الكريم بالتأليف والتدريس، أما ناحية التأليف، فمحدودة ضيقة، كما ظهر لك فيما سبق، وأما ناحية التدريس فكانت أوسع إلى حد ما من ناحية التأليف، فقد ألقى ﵀ دروسًا في التفسير بالجامع الأزهر الشريف، مدة ست سنوات، قرأ فيها ما يقرب من خمسة أجزاء من أجزاء القرآن، كما ألمعنا إليه فيما تقدم.
كذلك ألقى دروسًا فى التفسير بمدينة الجزائر من بلاد المغرب، كما ألقى دروسًا فى التفسير أيضًا فى مساجد بيروت.. فى المسجد الكبير، وفى مسجد «الباشورة».
وكان من عادة الأستاذ الإمام فى دروسه: أنه يراعى حال مَن يستمعون إليه، فإذا
 
٢ ‏/ ٤٠٨
 
حضره جماعة من البلداء الخاملى الفكر شرح لهم المعنى بكلمات قليلة، وإذا كان هناك مَن يتنبه لما يقول ويُلقى له بالًا، يفتح الله عليه بكلام كثير. بهذا يُحدِّث الأستاذ الإمام عن نفسه.
ويحدثنا تلميذه السيد محمد رشيد رضا عن طريقة الأستاذ الإمام فى دروس التفسير فيقول: «كانت طريقته فى قراءة الدرس على مقربة مما ارتآه فى كتابة التفسير، وهو أن يتوسع فيه فيما أغفله أو قصَّر فيه المفسِّرون، ويختصر فيما برزوا فيه من مباحث الألفاظ، والإعراب، ونكت البلاغة، وفى الروايات التى تدل عليها، ولا تتوقف على فهمها الآيات».
وكان الأستاذ الإمام يعتمد فى دروسه وكتابته فى التفسير على عقله الحر وكان - كما يقول عنه بعض الكاتبين - «لا يلتزم فى التفسير كتابًا، وإنما يقرأ فى المصحف، ويلقى ما يفيض الله على قلبه».
وكان من دأبه أنه لا يرجع إلى كتاب من كتب التفسير قبل إلقاء دروسه حتى لا يتأثر بفهم غيره، وكل ما كان منه أنه إذا عرض له وجه غريب من الإعراب، أو كلمة غريبة فى اللُّغة رجع إلى بعض كتب التفسير، ليرى ما كُتِب فى ذلك، وقد حدَّث عن نفسه بذلك فقال: «إننى لا أطالع عندما أقرأ، لكننى ربما أتصفح كتاب تفسير إذا كان هناك وجه غريب فى الإعراب، أو كلمة غريبة فى اللُّغة».
غير أننا نجد تلميذه السيد محمد رشيد رضا يذكر أن الأستاذ الإمام كان «يتوكأ فى ذلك - يعنى فى دروسه فى التفسير - على عبارة تفسير الجلالين الذى هو أوجز التفاسير، فكان يقرأ عبارته فيقرها، أو ينتقد منها ما يراه منتقدًا ثم يتكلم فى الآية أو الآيات المنزَّلة فى معنى واحد بما فتح الله عليه، مما فيه هداية وعبرة».
وسواء أقلنا إن الأستاذ الإمام كان يرجع إلى كتب التفسير أم لا يرجع إليها، فإنه كان يُحَكّم عقله فيما يلقى وفيما يكتب، غير ملتفت إلى ما سُبِق به من أقوال فى التفسير، ولا بواقف عند اعتبارات المؤلفين وأفهامهم وقوف مَن يخضع لها، ويُسَلِّم بها، على ما فيها من غث وسمين.
نعم.. لم يجمد الأستاذ الإمام على ما فى كتب قدماء المفسِّرين، ولم يلغ عقله أمام عقولهم، بل على العكس من ذلك وجدناه يُنَدِّد بمن يكتفى فى التفسير بالنظر
 
٢ ‏/ ٤٠٩
 
فى أقوال المتقدمين فيقول: «التفسير عند قومنا اليوم ومن قبل اليوم بقرون، هو عبارة عن الاطلاع على ما قاله بعض العلماء فى كتب التفسير، على ما فى كلامهم من اختلاف يتنزه عنه القرآن: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيرًا﴾ [النساء: ٨٢]، وليت أهل العناية بالاطلاع على كتب التفسير يطلبون لأنفسهم معنى تستقر عليه أفهامهم فى العلم بمعانى الكتاب، ثم يبثونه فى الناس ويحملونهم عليه، ولكنهم لم يطلبوا ذلك، وإنما طلبوا صناعة يفاخرون بالتفنن فيها، ويمارون فيها من يباريهم فى طلبها، ولا يخرجون لإظهار البراعة فى تحصيلها عن حد الإكثار من القول، واختراع الوجوه من التأويل والإغراب فى الإبعاد عن مقاصد التنزيل.
»إن الله تعالى لا يسألنا يوم القيامة عن أقوال الناس وما فهموه، وإنما يسألنا عن كتابه الذى أنزله لإرشادنا وهدايتنا، وعن سُنَّة نبينا الذى بيَّن لنا ما نُزِّل إلينا: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: ٤٤] ..
«يسألنا هل بلغتكم الرسالة؟ هل تدبرتم ما بُلِّغْتُم؟ هل عقلتم ما عنه نُهيتم وما به أُمرتم؟ وهل عملتم بإرشاد القرآن، واهتديتم بهدَى النبى، واتبعتم سُنَّته؟ عجبًا لنا ننتظر هذا السؤال ونحن فى هذا الإعراض عن القرآن وهَديه، فيا للغفلة والغرور».
كما وجدناه يُعَرِّف لنا الفهم الصحيح للقرآن فيقول: «... وأعنى بالفهم ما يكون عن ذوق سليم تصيبه أساليب القرآن بعجائبها، وتملكه مواعظه فتشغله عما بين يديه مما سواه. لا أُريد الفهم المأخوذ بالتسليم الأعمى من الكتب أخذًا جافًا، لم يصحبه ذلك الذوق وما يتبعه من رقة الشعور ولطف الوجدان، اللَّذين هما مدار التعقل والتأثر والفهم والتدبر».
ومما يُذكر فى هذا المقام أنه «لما أبدى الأستاذ الإمام رأيًا طريفًا فى تفسير بعض الآيات، قال له أحد المجاورين: إن ما قلته لا يوافق عليه الجمل - يعنى بالجمل أحد المؤلفين ممن كتبوا الحواشى على تفسير الجلالين - فقال الأستاذ على الفور: إننى أقرر ما يدل عليه المعنى الجليل، والكلام البليغ، ولا يعنينى أوافق عليه الجمل أو الحمار».
كل هذا يدلنا على أن الأستاذ الإمام كان حرًا فى تفكيره وفهمه للقرآن، صريحًا فى نقده ونُصحه للتفسير والمفسِّرين، جريئًا فى ثورته على القديم، ودعوته إلى التحرر مما أحاط بالعقول من القيود، وما أوغلت فيه من الركود والجمود.
هذا.. وإن الأستاذ الإمام لم يكن كغيره من المفسِّرين الذين كَلفوا بالإسرائيليات
 
٢ ‏/ ٤١٠
 
فجعلوا منها شروحًا لمبهمات القرآن، بل وجدناه على العكس من ذلك نفورًا منها، وشرودًا من الخوض فيها، لاعتقاده أن الله تعالى لم يكلفنا بالبحث عن الجزئيات والتفصيلات لما جاء به مبهمًا فى كتابه، ولو أراد منا ذلك لدلنا عليه فى كتابه أو على لسان نبيه، وهو يُصَرِّح بأن هذا هو «مذهبه فى جميع مبهمات القرآن يقف عند النص القطعى لا يتعداه، ويثبت أن الفائدة لا تتوقف على سواه».
وإذا نحن تتبعنا أقواله فى مبهمات القرآن وجدناه محافظًا على هذا المبدأ، لا يعدل عنه ولا يحيد، إلا فى مواضع قليلة نادرة.
فمثلًا عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآيتين [١٠، ١١] من سورة الانفطار: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ﴾ .. نجده يقول: «ومن الغيب الذى يجب علينا الإيمان به ما أنبأنا به فى كتابه: أن علينا حَفَظَة يكتبون أعمالنا حسنات وسيئات، ولكن ليس علينا أن نبحث عن حقيقة هؤلاء، ومن أى شىء خُلِقوا، وما هو عملهم فى حفظهم وكتابتهم، هل عندهم أوراق وأقلام ومداد كالمعهود عندنا ... وهو يبعد فهمه؟ أو هناك ألواح تُرسم فيها الأعمال؟ وهل الحروف والصور التى تُرسم هى على نحو ما نعهد؟ أو إنما هى أرواح تتجلى لها الأعمال فتبقى فيه بقاء المِداد فى القِرطاس إلى أن يبعث الله الناس؟ كل ذلك لا نُكَلَّف العلم به، وإنما نُكَلَّف الإيمان بصدق الخبر وتفويض الأمر فى معناه إلى الله، والذى يجب علينا اعتقاده من جهة ما يدخل فى عملنا، هو: أن أعمالنا تُحفظ وتُحصى، لا يضيع منها نقير ولا قطمير».
ومثلًا عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٤] وما بعدها من سورة البروج: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود﴾ ... . إلى آخر القصة يقول: «أما تعيين أصحاب الأُخدود، وأنَّى كانوا؟ ومَن هم أُولئك المؤمنون؟ وأين كان منزلهم من الأرض؟ فقد كثرت فيه الروايات، والأشهر أن المؤمنين كانوا نصارى نجران، عندما كان دينهم دين التوحيد، ليس فيه حدث ولا بدعة، وأن الكافرين كانوا أُمراء اليمن، أو اليهود الذين لا يبعدون عن هؤلاء فى حقيقة الوثنية، غير أن المؤمن لا يحتاج فى الاعتبار وإشعار الموعظة قلبه إلى أن يعرف القوم، والجهة، وخاصة الدين الذى كان عليه أولئك أو هؤلاء، حتى يطير وراء القصص المشحونة بالمبالغات، والأساطير المحشوة بالخرافات، وإنما الذى عليه: هو أن يعرف من القصة ما ذكرناه أولًا، ولو علم الله خيرًا فى أكثر من ذلك لتفضَّل علينا به».
ومثلًا عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآيتين [٦، ٧] من سورة الفجر: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العماد﴾ .. نجده يقول: "وقد يروى المفسِّرون هنا حكايات
 
٢ ‏/ ٤١١
 
فى تصوير إرم ذات العماد، كان يجب أن يُنزَّه عنها كتاب الله، فإذا وقع إليكَ شىء من كتبهم، ونظرتَ فى هذا الموضع منها، فتخط ببصرك ما تجده فى وصف إرم، وإياك أن تنظر فيه«.
ومثلًا عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآيات [٦-٩] من سورة القارعة: ﴿فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ﴾ .. نجده يقول:»وتقدير الله الأعمال وما تستحقه من الجزاء فى ذلك اليوم، إنما يكون على حسب ما يعلم، لا طريقة ما نعلم، فعلينا أن نفوِّض الأمر فيه إليه سبحانه على الإيمان به، ومن عجيب ما قال بعض المفسِّرين: «إنه ميزان بلسان وكفَّتين كأطباق السموات والأرض، ولا يعلم ماهيته إلا الله» فماذا بقى من ماهيته بعد لسانه وكفَّتيه حتى يُفوَّض العلم فيه إلى الله؟ والكلام فيه جرأة على غيب الله بغير نص صريح متواتر عن المعصوم، ولم يرد فى الكتاب إلا كلمة «ميزان»، وقد عرفت ما يمكننا أن نفهم منها لننتفع بما نعتقد، وما عدا ذلك فعلمه إلى الله سبحانه. وقد قالوا: إن منكر الميزان بالمعنى المعروف لا يكفر، إذا كان القائل به يحدد له لسانًا وكفَّتين، مع أن البَشر اخترعوا من الموازين ما هو أتقن من ذلك وأضبط وأوفى ببيان الموزون. أفيأبى الحكيم الخبير إلا استعمال ذلك الميزان الخشن الناقص الذى هدى العلم عقول البَشر إلى ما هو أدق منه؟ أيأبى عالِمُ الغيب والشهادة أن يستعمل فى وزن المعانى والمعقولات إلا ذلك الميزان الذى اخترعه بعض البَشر قبل أن يبلغ بهم العلم ما بلغ بأهل العصر الحاضر وما سيبلغ بأهل العصور المقبلة؟ على أن جميع ما اخترع البَشر وما يخترعون مهما دقَّ ولَطُف، إنما هو معيار الأثقال الجسمانية، والأوزان المحسوسة، وهلا يكون الأليق بالمقام الإلهى أن يكون ميزان المعانى المعقولة لديه أسمى وأعلى من أن يكون على نمط ما يستعمله البَشر، مهما ارتقت المعارف وسمت بهم العلوم؟ وهل يليق بمن يخاف مقام ربه أن يجرؤ على القول بوجوب الاعتقاد بأن الميزان الذى يزن الله به الأعمال يوم القيامة هو الميزان الذى تستعمله القبائل التى لم تزل فى مهد الإنسانية الأُولى؟.. ميزان ضعفاء العقول قصار الأنظار، الذين لا يعرفون قيمة للإيمان بالغيب، ولا لحياء العقل من الله، وإطراقه عن أن ينظر إلى ما تشامخ من غيوب الله تعالى علمه، وتعاظمت قدرته.
«عليك أيها المؤمن المطمئن إلى ما يخبر الله به أن توقن أن الله يزن الأعمال، ويميز لكل عمل مقداره. ولا تسل كيف يزن، ولا كيف يُقَدِّر، فهو أعلم بغيبه، والله يعلم وأنتم لا تعلمون».
* *
 
٢ ‏/ ٤١٢
 
* معالجته للمسائل الاجتماعية:
ثم إنّا نجد الأستاذ الإمام لا يكاد يمر بآية من القرآن، يمكنه أن يأخذ منها علاجًا للأمراض الاجتماعية، إلا أفاض فى ذلك بما يُصَوِّر للقارئ خطر العِلَّة الاجتماعية التى يتكلم عنها، ويُرشده إلى وسيلة علاجها والتخلص منها، كل هذا يأخذه الأستاذ الإمام من القرآن الكريم، ثم يُلقى به على أسماع المسلمين وغير المسلمين، رجاء أن يعودوا إلى الصواب، ويثوبوا إلى الرشاد.
فمثلًا عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٣] من سورة العصر من التفسير المطوَّل لها: ﴿وَتَوَاصَوْاْ بالصبر﴾ .. نجده يقول: «والصبر مَلَكة في النفس يتيسر معها احتمال ما يشق احتماله، والرضا بما يكره فى سبيل الحق. وهو خُلُق يتعلق به بل يتوقف عليه كمال كل خُلُق، وما أُتِىَ الناس من شىء مثل ما أُتوا من فقد الصبر أو ضعفه. كل أُمة ضعف الصبر فى نفوس أفرادها. ضعف فيها كل شىء، وذهبت منها كل قوة، ولنضرب لذلك مثلًا: نقص العلم عند أمة من الأمم كالمسلمين اليوم، إذا دققت النظر وجدت السبب فيه ضعف الصبر، فإن مَن عرف بابًا من أبواب العلم، لا يجد فى نفسه صبرًا على التوسع فيه، والتعب فى تحقيق مسائله، وينام على فراش من التقليد هَيِّن لَيِّن، لا يكلفه مشقة، ولا يجشمه تعبأ، ويسلى نفسه عن كسله بتعظيم مَن سبقه، ولو كان عنده احترام حقيقى لسَلَفه، لاتخذهم أُسوة له فى عمله، فحذا حذوهم، وسلك مسلكهم، وكلَّف نفسه بعض ما حملوا أنفسهم عليه، واعتقد كما كانوا يعتقدون أنهم ليسوا بمعصومين.
»ثم هو إذا تعلَّم لا يجد صبرًا على مشقة دعوة الناس إلى علم ما يعلم، وحملهم على عرفان ما يعرف، ولا جلدًا على تحصيل الوسائل لنشر ما عنده، بل متى لاقى أول معارضة قبع فى بيته وترك الخلق للخالق كما يقولون.
«يجلس الطالب لدرسه سنة أو سنتين، ثم تعرضه مشقة التحصيل، فيترك الدرس أو يتساهل فى فهمه إلى حرفة أخرى يظنها أربح له، فينقطع عن الطلب، ويذهب فى الجهل كل مذهب، وكل هذا من ضعف الصبر.
»يبخل البخيل بماله، ويجهد نفسه فى جمعه وكنزه، وتعرض له وجوه البر فيعرض عنها، ولا يُنفق درهمًا فى شىء منها، فيؤذى بذلك وطنه ومِلَّته، ويترك الشر والفقر يأكل قومه وأُمته، ولو نظرنا إلى ما قبض يده لوجدناه ضعف الصبر، ولو صبر على محاربة خيال الفقر اللائح فى ذهنه يهدده بالنزول به، لما أُصيب بذلك المرض القاتل له ولأهله.
"يُسرف المسرف فى الشهوات، ويتهتك المتهتك فى المنكرات، حتى ينفد المال،
 
٢ ‏/ ٤١٣
 
وتسوء الحال، ويستبدل الذل بالعز، والفقر بالغنى، ولا سبب لذلك إلا ضياع صبره فى مقاومة الهوى، وضبط نفسه عن مواقع الردى، ولو صبر فى مجاهدة تلك النزعات لما كان قد خسر ماله، وأفسد حاله.. وهكذا لو أردت أن أعد جميع الرذائل، وأبحث عن عللها الأولى، لوجدتموها تنتهى إلى ضعف الصبر أو فقده. ولو سردتَ جميع الفضائل وطلبتَ ينبوعها الذى تستمد منه حياتها لما وجدتَ لها ينبوعًا سوى الصبر، أفلا يكون جديرًا بعد هذا بأن يُخَص بالذكر«.
ثم يبين بعد ذلك وسائل الدعوة إلى الخير فيقول:»... يجب على العلماء ومَن يتشبه بهم، أن يتعلموا من وسائل القيام بالواجب ما تدعو إليه الحال، على حسب الأزمان واختلاف أحوال الأُمم، وأول ما يجب عليهم فى ذلك أن يتعلموا التاريخ الصحيح، وعلم تكوين الأُمم، وارتفاعها وانحطاطها، وعلم الأخلاق وأحوال النفس، وعلم الحس والوجدان، ونحو ذلك مما لا بد منه فى معرفة مداخل الباطل إلى القلوب، ومعرفة طرق التوفيق بين العقل والحق، وسُبُل التقريب بين اللَّذة والمنفعة الدنيوية والأُخروية، ووسائل استمالة النفوس عن جانب الشر إلى جانب الخير، فإن لم يحصلوا على ذلك كله فوزر العامة عليهم. ولا تنفعهم دعوى العجز، فإنهم ينفقون من أزمانهم في القيل والقال، والبحث فى الألفاظ والأقوال، ما كان يكفيهم أن يكونوا بحار علم، وأعلام هُدى ورُشد، فليطلبوا العلم من سُبُله التى قام عليها السَلَف الصالح، والله كفيل أن يمدهم بمعونته، أما وقد انقطعوا إلى ما يعجزهم عن القيام بأمره، فلن يقبل الله لهم عذرًا، بل فليتربصوا حتى يأتى أمر الله.
«لو قضى الزمان بأن يكون من وسائل التمكن من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واشتغال الناس بالحق عن الباطل، وبالطيب عن الخبيث أن يضرب الإنسان فى الأرض ويمسحها بالطول والعرض، وأن يتعلم اللُّغات الأجنبية، ليقف على ما فيها مما ينفعه فيستعمله، وما يخشى ضرره على قومه فيدفعه، لوجب على أهل العلم أن يأخذوا من ذلك بما يستطيعون، ولهم فى سَلَف الأُمة من القرون الأولى إلى نهاية القرن الرابع من الهجرة أحسن أُسوة، وأفضل قدوة، وكل ما يُهوِّنون به على أنفسهم مما يخالف ذلك فإنما هى وساوس شيطان. يشغلهم بها عن النظر فى معانى القرآن، ويحرمهم من التعرض لرحمة الرحمن».
ومثلًا عند قوله تعالى فى الآية [١٣] من سورة الانفطار: ﴿إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ﴾ .. نراه يوضح معنى البِّر وما يكون به الإنسان من الأبرار، ثم يقول: "فلا يُعَد
 
٢ ‏/ ٤١٤
 
الشخص بَرا ولا بارًا حتى يكون للناس من كسبه ومن نفسه نصيب فلا يغترَّن أُولئك الكسالى الخاملون، الذين يظنون أنهم يدركون مقام الأبرار بركعات من الخشية خاليات، وبتسبيحات وتكبيرات وتحميدات ملفوظات غير معقولات، وصيحات غير لائقات بأهل المروءة من المؤمنين والمؤمنات، ثم بصوم أيام معدودات، لا يجتنب فيها إيذاء كثير من المخلوقات، مع عدم مبالاة الواحد منهم بشأن الدين قام أم أسقط، ارتفع أو انحط. ومع حرصه وطمعه لما فى أيدى الناس، واعتقاده الاستحقاق لما عندهم، لا لشىء سوى أنهم عاملون فى كسب المال وهو غير عامل، وهم يجرون على سُنَّة الحق وهو مستمسك بسُنَّة الباطل، وهم يتجملون بحلية العمل وهو منها عاطل، فهؤلاء ليسوا من الأبرار، بل يجدر بهم أن يكونوا من الفُجَّار».
ومثلًا عندما تعرَّض لقوله تعالى في أول سورة العاديات: ﴿والعاديات ضَبْحًا * فالموريات قَدْحًا * فالمغيرات صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا﴾ [العاديات: ١-٥] .. نجده يقول: «وكان فى هذه الآيات القارعات، وفى تخصيص الخيل بالذكر فى قوله: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال: ٣]، وفيما ورد فى الأحاديث التى لا تكاد تُحصر ما يحمل كل فرد من رجال المسلمين على أن يكون فى مقدمة فرسان الأرض مهارة فى ركوب الخيل، ويبعث القادرين منهم على قنية الخيل على التنافس فى عقائلها، وأن يكون فن السباق عندهم يسبق بقية الفنون إتقانًا، أفليس من أعجب العجب عندهم أن ترى أُممًا هذا كتابها قد أهملت شأن الخيل والفروسية، إلى أن صار يُشار إلى راكبيها بينهم بالهزء والسخرية، وأخذت كرام الخيل تهجر بلادهم إلى بلاد أُخرى؟ أليس أغرب ما يُستغرب أن أُناسًا يزعمون أن هذا الكتاب كتابهم، يكون طُلاب العلوم الدينية منهم أشد الناس رهبة من ركوب الخيل، وأبعدهم عن صفات الرجولية، حتى وقع من أحد أساتذتهم المشار إليهم بالبنان عندما كنت أكلمه فى منافع بعض العلوم وفوائدها فى علم الدين أن قال:»إذا كان كل ما يفيد فى الدين نُعَلِّمه لطلبة العلم، كان علينا إذن أن نعلمهم ركوب الخيل«! يقول ذلك ليفحمنى وتقوم له الحُجَّة علىّ، كأن تعليم ركوب الخيل مما لا يليق ولا ينبغى لطلبة العلم، وهم يقولون إن العلماء ورثة الأنبياء، فهل هذه الأعمال وهذه العقائد تتفق مع الإيمان بهذا الكتاب؟ أنصف ثم احكم».
ومثلًا عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٣] من سورة الماعون: ﴿وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين﴾ .. نجده يقرر: أن قوله: ﴿وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين﴾، كناية
 
٢ ‏/ ٤١٥
 
عن الذى لا يجود بشىء من ماله على الفقير المحتاج إلى القوت الذى لا يستطيع له كسبًا».
ثم يقول: «وإنما جاء بالكناية ليفيدك أنه إذا عرضت حاجة المسكين، ولم تجد ما تعطيه، فعليك أن تطلب من الناس أن يعطوه. وفيه حث للمصدِّقين بالدين على إغاثة الفقراء ولو بجمع المال من غيرهم وهى طريقة الجمعيات الخيرية، فأصلها ثابت فى الكتاب بهذه الآية، وبنحو قوله تعالى فى الآيتين [١٧، ١٨] من سورة الفجر: ﴿كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم * وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين﴾، ونعمت الطريقة هى لإغاثة الفقراء، وسد شىء من حاجات المساكين».
ومن أجل هذه الروح التى تسيطر على الأستاذ الإمام فى تفسيره، نجد الشيخ المراغى ﵀ يقول: «وكانت دروسه يجد علماء الاجتماع فيها تطبيق القرآن على معارفهم».
* *
* تفسيره للقرآن على ضوء العلم الحديث:
كذلك نجد الأستاذ الإمام ﵀ يتناول بعض آيات القرآن فيشرحها شرحًا يقوم على أساس من نظريات العلم الحديث، وغرضه بذلك: أن يوفق بين معانى القرآن التى قد تبدو مستبعَدة فى نظر بعض الناس، وبين ما عندهم من معلومات توشك أن تكون مُسَلَّمة عندهم، أم هى مُسلَّمة بالفعل، وهو - وإن كان يرمى من وراء ذلك إلى غرض نبيل - يخرج أحيانًا بمثل هذا الشرح والبيان عن مألوف العرب، وما عُهِد لديهم وقت نزول القرآن.
فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى فى أول سورة الإنشقاق: ﴿إِذَا السمآء انشقت﴾ .. نجده يقول: «انشقاق السماء، مثل انفطارها الذى مَرَّ تفسيره فى سورة ﴿إِذَا السمآء انفطرت﴾، وهو فساد تركيبها، واختلال نظامها، عندما يريد الله خراب هذا العالَم الذى نحن فيه، وهو يكون بحادثة من الحوادث التى قد ينجر إليه سير العالَم، كأن يمر كوكب فى سيره بالقُرب من آخر فيتجاذبا فيتصادما فيضطرب نظام الشمس بأسره، ويحدث من ذلك غمام وأى غمام، يظهر فى مواضع متفرقة من الجو والفضاء الواسع، فتكون السماء قد تشققت بالغمام، واختل نظمها حال ظهوره».
هذا التفسير من الأستاذ الإمام عمل جليل يُشكر عليه، إذ غرضه من ذلك تقريب معانى القرآن وما يُخبر به من عقول الناس، بما هو معهود عندهم ومُسَلَّم لديهم.
 
٢ ‏/ ٤١٦
 
ولكن هل لا بد فى فساد الكون من أن يترتب على مثل هذه الظاهرة الكونية؟ وهل يعجز الله عن إفساده وإخلاله بأمر آخر غير ذلك؟ أليس الأولى بنا أن نؤمن بما جاء به القرآن، ولا نخوض فيما وراء ذلك من تفصيلات كما هو مذهب الشيخ؟ أحسب أن الشيخ يضرب ذلك مثلًا، ولا يريده على أنه أمر لا بد منه.
ومثلًا عندما يعرض لتفسير سورة الفيل، بعد أن ذكر ما قيل فى إرسال الطير على أبرهة، وما جاءت به بعض الروايات من أن الذى أصابهم هو داء الجدرى والحصبة يقول: «وقد بيَّنت لنا هذه السورة الكريمة، أن ذلك الجدرى أو تلك الحصبة نشأت من حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش، بواسطة فِرَق عظيمة من الطير مما يرسله الله مع الريح، فيجوز لك أن تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذى يحمل جراثيم بعض الأمراض، وأن تكون هذه الحجارة من الطين المسموم اليابس، الذى تحمله الرياح فيعلق بأرجل هذه الحيوانات فإذا اتصل بجسده دخل فى مسامه، فأثار فيه تلك القروح التى تنتهى بإفساد الجسم وتساقط لحمه، وإن كثيرًا من هذه الطيور الضعيفة يُعَد من أعظم جنود الله فى إهلاك من يريد إهلاكه من البشر، وإن هذا الحيوان الصغير الذى يسمونه الآن بالميكروب لا يخرج عنها، وهو فِرَق وجماعات لا يحصى عددها إلا بارئها، ولا يتوقف ظهور أثر قُدرة الله تعالى فى قهر الطاغين على أن يكون الطير فى ضخامة رؤوس الجبال، ولا على أن يكون من نوع عنقاء مغرب، ولا على أن يكون له ألوان خاصة به، ولا على معرفة مقادير الحجارة وكيفية تأثيرها فلله جند من كل شىء.
وفى كل شىء له آية ... تدل على أنه الواحد»
وهنا أيضًا نجد الأستاذ الإمام قد خالف طريقته فى مبهمات القرآن فراح يخوض فى التفصيلات والجزئيات، ثم جوَّز أن تكون الطير هى ما يُسمى اليوم بالميكروبات، كما جوَّز أن تكون الحجارة هى جراثيم بعض الأمراض، وهذا ما لا نُقره عليه، لأن هذه الجراثيم التى اكتشفها الطب الحديث لم يكن للعرب علم بها وقت نزول القرآن، والعربى إذا سمع لفظ الحجارة فى هذه السورة لا ينصرف ذهنه إلى تلك الجراثيم بحال من الأحوال، وقد جاء القرآن بلغة العرب، وخاطبهم بما يعهدون ويألفون.
وإذا كان الأستاذ الإمام قد أعطى لعقله الحرية الكاملة فى تفسيره للقرآن الكريم، فإنَّا نجده يُغرِق فى هذه الحرية ويتوسع فيها، إلى درجة وصلت به إلى ما يشبه التطرف فى أفكاره، والغلو فى آرائه.
* *
* موقف من حقيقة الملائكة وإبليس: فمثلًا عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآيات [٣٤] وما بعدها من سورة البقرة:
 
٢ ‏/ ٤١٧
 
﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لأَدَمَ﴾ ... إلى آخر القصة، نجده يقول:»وذهب بعض المفسِّرين مذهبًا آخر فى فهم معنى الملائكة، وهو أن مجموع ما ورد فى الملائكة من كونهم موكلين بالأعمال من إنماء نبات وخِلْقة حيوان وحفظ إنسان وغير ذلك، فيه إيماء إلى الخاصة بما هو أدق من ظاهر العبارة، وهو أن هذا النمو فى النبات لم يكن إلا بروح خاص، نفخه الله فى البذرة فكانت به هذه الحياة النباتية المخصوصة، وكذلك يقال فى الحيوان والإنسان، فكل أمر كلى قائم بنظام مخصوص تمت به الحكمة الإلهية فى إيجاده، فإنما قوامه بروح إلهى سُمِّى فى لسان الشرع مَلَكًا، ومَن لم يبال فى التسمية بالتوقيف يسم هذه المعانى القوى الطبيعية، إذا كان لا يعرف من عالَم الإمكان إلا ما هو طبيعة، أو قوة يظهر أثرها فى الطبيعة. والأمر الثابت الذى لا نزاع فيه، هو أن فى باطن الخِلْقة أمرًا هو مناطها، وبه قوامها ونظامها، لا يمكن العاقل أن ينكره، إن أنكر غير المؤمن بالوحى تسميته مَلَكًا، وزعم أنه لا دليل على وجود الملائكة، أو أنكر بعض المؤمنين بالوحى تسميته قوة طبيعية أو ناموسًا طبيعيًا، لأن هذه الأسماء لم ترد فى الشرع، فالحقيقة واحدة، والعاقل مَن لا تحجبه الأسماء عن المسميات، وإن كان المؤمن بالغيب يرى للأرواح وجودًا لا يدرك كنهه، والذى لا يؤمن بالغيب يقول لا أعرف الروح، ولكن أعرف قوة لا أفهم حقيقتها، ولا يعلم إلا الله علام يختلف الناس، وكلٌ يقر بوجود شىء غير ما يرى ويحس، ويعترف بأنه لا يفهمه حق الفهم، ولا يصل بعقله إلى إدراك كنهه؟ وماذا على هذا الذى يزعم أنه لا يؤمن بالغيب - وقد اعترف بما غيب عنه - لو قال: أُصدِّق بغيب أعرف أثره، وإن كنت لا أُقدِّر قدره، فيتفق مع المؤمنين بالغيب، ويفهم بذلك ما يرد على لسان صاحب الوحى، ويحظى بما يحظى به المؤمنون؟
«يشعر كل مَن فَكَّر فى نفسه، ووازن بين خواطره عندما يهم بأمر فيه وجه للحق أو للخير، ووجه للباطل أو للشر، بأن فى نفسه تنازعًا كأن الأمر قد عرض فيها على مجلس شورى. فهذا يُورد وذاك يدفع، واحد يقول افعل، وآخر يقول لا تفعل، وآخر يقول لا تفعل، حتى ينتصر أحد الطرفين، ويترجح أحد الخاطرين، فهذا الشىء الذى أُودع فى أنفسنا ونسميه قوة وفكرًا، وهى فى الحقيقة معنى لا يدرك كنهه، وروح لا تُكتنه حقيقتها، لا يبعد أن يسميه الله ملَكًَا، أو يسمى أسبابه ملائكة، أو ما شاء من الأسماء، فإن التسمية لا حَجْرَ فيها على الناس، فكيف يُحجر فيها على صاحب الإرادة المطلقة، والسلطان النافذ والعلم الواسع».
ثم قال الأستاذ الإمام بعد ذلك: "فإذا صح الجرى على هذا التفسير، فلا
 
٢ ‏/ ٤١٨
 
يُستبعد أن تكون الإشارة فى الآية أن الله تعالى لما خلق الأرض، ودبرها بما شاء من القوى الروحانية التى بها قوامها ونظامها، وجعل كل صنف من القوى مخصوصًا بنوع من أنواع المخلوقات، لا يتعداه ولا يتعدى ما حُدِّد له من الأثر الذى خُصَّ به.؟ خلق بعد ذلك الإنسان، وأعطاه قوة يكون بها مستعدًا للتصرف بجميع هذه القوى وتسخيرها فى عمارة الأرض، وعبَّر عن تسخير هذه القُوَى بالسجود الذى يُفيد معنى الخضوع والتسخير، وجعله بهذا الاستعداد الذى لا حد له، والتصرف الذى لم يُعط لغيره، خليفة الله فى أرضه، لأنه أكمل الموجودات فى الأرض، واستثنى من هذه القُوَى قوة واحدة، عبَّر عنها بإبليس، وهى القوى التى لزَّها الله بهذا العالَم لزا، وهى التى تميل بالمستعد للكمال، أو بالكامل إلى النقص، وتعارض مد الوجود لترده إلى العدم، أو تقطع سبيل البقاء، وتعود بالموجود إلى الفناء، أو التى تعارض فى اتباع الحق، وتصد عن عمل الخير، وتنازع الإنسان فى صرف قواه إلى المنافع والمصالح التى تتم بها خلافته، فيصل إلى مراتب الكمال الوجودى التى خُلِق مستعدًا للوصول إليها. تلك القوة التى ضللت آثارها قومًا فزعموا أن فى العالَم إلهًا يسمى إله الشر، وما هى بإله، ولكنها محنة إله لا يعلم أسرار حكمته إلا هو».
قال: «ولو أن أنفسنا مالت إلى قبول هذا التأويل، لم تجد فى الدين ما يمنعها من ذلك، والعمدة على اطمئنان القلب، وركون النفس إلى ما أبصرت من الحق».
ثم يعود فى موضع آخر إلى تقرير التمثيل فى القصة فيقول: "وتقرير التمثيل فى القصة على هذا المذهب هكذا: أن إخبار الله الملائكة بجعل الإنسان خليفة فى الأرض هو عبارة عن تهيئة الأرض وقُوَى هذا العالَم وأوراحه، التى بها قوامه ونظامه، لوجود نوع من المخلوقات يتصرف فيها، فيكون به كمال الوجود فى هذه الأرض، وسؤال الملائكة عن جعل خليفة يُفْسِد فى الأرض لأنه يعمل باختياره، ويُعطَى استعدادًا فى العلم والعمل لا حد لهما، هو تصوير لما فى استعداد الإنسان لذلك، وتمهيد لبيان أنه لا ينافى خلافته فى الأرض، وتعليم آدم الأسماء كلها بيان لاستعداد الإنسان لعلم كل شىء فى هذه الأرض، وانتفاعه به فى استعمارها، وعرض الأسماء على الملائكة، وسؤالهم عنها، وتنصلهم فى الجواب تصوير لكون الشعور الذى يُصاحب كل روح من الأرواح المدبرة للعوالم محدودًا لا يتعدى وظيفته، وسجود الملائكة لآدم عبارة عن تسخير هذه الأرواح والقُوَى له، ينتفع فى ترقية
 
٢ ‏/ ٤١٩
 
الكون بمعرفة سنن الله تعالى فى ذلك. وإباء إبليس واستكباره عن السجود تمثيل لعجز الإنسان عن إخضاع روح الشر، وإبطال داعية خواطر السوء، التى هى مثار التنازع والتخاصم والتعدى والإفساد فى الأرض، ولولا ذلك لجاء على الإنسان زمن يكون فيه أفراده كالملائكة بل أعظم، أو يخرجون عن كونهم من هذا النوع البَشرى».
والذى ينظر فى هذا التأويل الذى جوَّزه الشيخ، وفى سياق الآية وألفاظها وما فيها من محاورة ومقاولة، لا يسعه إلا أن يرده، وإن حاول قائله أن يروج له بجعله الأوامر التى وردت فى الآية من قبيل الأمر التكوينى، لا الأمر التكليفى.
* *
* موقفه من السحر:
ولقد كان من أثر إعطاء الأستاذ لنفسه الحرية الواسعة فى فهم القرآن الكريم، أنَّا نجده يخالف رأى جمهور أهل السُّنَّة، ويذهب إلى ما ذهب إليه المعتزلة، من أن السحر لا حقيقة له، ولذلك عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٤] من سورة الفلق: ﴿وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد﴾ .. نجده بعد أن يُفسِّر معنى النفث والعُقَد، يُفَسِّر المراد بالنفَّاثات فى الآية فيقول: «المراد بهم هنا هم النمامون، المقطِّعون لروابط الأُلفة، المُحرقون لها بما يلقون عليها من ضرام نمائمهم، وإنما جاءت العبارة كما فى الآية، لأن الله جَلَّ شأنه أراد أن يشبههم بأولئك السحرة المشعوذين، الذين إذا أرادوا أن يحلوا عقدة المحبة بين المرء وزوجه - مثلًا - فيما يُوهمون به العامة، عقدوا عقدة ثم نفثوا فيها وحَلُّوها، ليكون ذلك حلًا للعقد التى بين الزوجين. والنميمة تشبه أن تكون ضربًا من السحر، لأنها تحوِّل ما بين الصديقين من محبة إلى عداوة، بوسيلة خفية كاذبة، والنميمة تُضَلِّل وجدان الصديقين، كما يضلل الليل مَن يسير فيه بظلمته، ولهذا ذكرها عقب ذكر الغاسق».
* * *
إنكاره لبعض الأحاديث الصحيحة:
ثم راح الشيخ ﵀ يرد ما جاء من الروايات فى سحر الرسول ﷺ فقال: "وقد رووا هنا أحاديث فى أن النبى ﷺ سحره لبيد بين الأعصم، وأثَّرَ سحره فيه، حتى كان يُخيل له أنه يفعل الشىء وهو لا يفعله، أو يأتى شيئًا وهو لا يأتيه، وأن الله أنبأه بذلك، وأُخْرِجت مواد السحر من بئر، وعُوفِىَ ﷺ مما كان نزل به من ذلك، ونزلت هذه السورة، ولا يخفى أن تأثير السحر فى نفسه ﵇ حتى يصل به الأمر إلى أن يظن أن يفعل شيئًا وهو لا يفعله، ليس من قبيل تأثير الأمراض فى الأبدان، ولا من قبيل عروض السهو والنسيان فى بعض الأمور العادية، بل هو ماس بالعقل، آخذ بالروح، وهو مما يُصَدِّق قول المشركين فيه: ﴿إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَّسْحُورًا﴾ [الفرقان: ٨]، وليس المسحور عندهم إلا مَن خولطَ فى عَقله، وخُيِّل له أن
 
٢ ‏/ ٤٢٠
 
شيئًا يقع وهو لا يقع، فيُخيَّل إليه أنه يُوحَى إليه، ولا يُوحَى إليه، وقد قال كثير من المقلِّدين الذين لا يعقلون ما هى النبوة ولا ما يجب لها: إن الخبر بتأثير السحر فى النفس الشريفة قد صح فيلزم الاعتقاد به، وعدم التصديق به من بِدَع المبتدعين، لأنه ضرب من إنكار السحر، وقد جاء القرآن بصحة السحر، فانظر كيف ينقلب الدين الصحيح، والحق الصريح فى نظر المقلِّد بدعة - ونعوذ بالله - يحتج بالقرآن على ثبوت السحر، ويعرض عن القرآن فى نفيه السحر عنه ﷺ، وعَدَّةُ من افتراء المشركين عليه، ويُؤوِّل فى هذه ولا يُؤوِّل فى تلك، مع أن الذى قصده المشركون ظاهر، لأنهم كانوا يقولون: إن الشيطان يلابسه ﵊، وملابسة الشيطان تُعرف بالسحر عندهم، وضرب من ضروبه، وهو بعينه أثر السحر الذى نُسب إلى لبيد، فإنه خولط فى عقله وإدراكه فى زعمهم.
«والذى يجب اعتقاده أن القرآن مقطوع به، وأنه كتاب الله بالتواتر عن المعصوم ﷺ، فهو الذى يجب الاعتقاد بما يُثبته، وعدم الاعتقاد بما يُنفيه، وقد جاء بنفى السحر عنه ﵇، حيث نسب القول بإثبات حصول السحر له إلى المشركين أعدائه، ووبخهم على زعمهم هذا، فإذن هو ليس بمسحور قطعًا. وأما الحديث - فعلى فرض صحته - هو آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها فى باب العقائد، وعصمة النبى من تأثير السحر فى عقله عقيدة من العقائد، لا يؤخذ فى نفيها عنه إلا باليقين، ولا يجوز أن يؤخذ فيها الظن والمظنون، عل أن الحديث الذى يصل إلينا من طريق الآحاد، إنما يحصل الظن عند مَن صح عنده، أما مَن قامت له الأدلة على أنه غير صحيح، فلا تقوم به عليه حُجَّة، وعلى أى حال، فلنا - بل علينا - أن نُفوِّض الأمر فى الحديث. ولا نُحَكِّمه فى عقيدتنا، ونأخذ بنص الكتاب وبدليل العقل، فإنه إذا خولط النبى فى عقله - كما زعموا - جاز عليه أن يظن أنه بَلَّغ شيئًا وهو لم يُبَلِّغه، أو أن شيئًا نزل عليه وهو لم ينزل عليه، والأمر ظاهر لا يحتاج إلى بيان..» إلخ.
وهذا الحديث الذى يرده الأستاذ الإمام رواه البخارى وغيره من أصحاب الكتب الصحيحة، وليس من وراء صحته ما يخل بمقام النبوة، فإن السحر الذى أُصيب به ﵊ كان من قبيل الأمراض التى تعرض للبدن بدون أن تؤثر على شئ من العقل، وقد قالوا إن ما فعله لبيد بن الأعصم بالنبى ﷺ من السحر لا يعدو أن يكون نوعًا من أنواع العقد عن النساء، وهو الذى يسمونه «رباطًا» فكان يخيل إليه أن عنده قدرة على إتيان إحدى نسائه، فإذا ما هَمَّ بحاجته عجز عن ذلك. أما السحر
 
٢ ‏/ ٤٢١
 
الذى نُفِىَ عنه ﷺ فمراد به الجنون، وهو مخل ولا شك بمقام النبوة، وقد قالوا: ﴿ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ [الحجر: ٦] . ثم إن الحديث رواية البخارى وغيره من كتب الصحيح، ولكن الأستاذ الإمام ومَن على طريقته لا يُفَرِّقون بين رواية البخارى وغيره، فلا مانع عندهم من عدم صحة ما يرويه البخارى، كما أنه - لو صح فى نظرهم - فهو لا يعدو أن يكون خبر آحاد لا يثبت به إلا الظن، وهذا فى نظرنا هدم للجانب الأكبر من السُّنَّة التى هى بالنسبة للكتاب فى منزلة المبيِّن من المبيَّن، وقد قالوا: إن البيان يلتحق بالمبيّن، وليس هذا الحديث وحده هو الذى يُضَعِّفه الشيخ، أو يتخلص منه بأنه رواية آحاد، بل هناك كثرة من الأحاديث نالها هذا الحكم القاسى، فمن ذلك أيضًا حديث الشيخين: «كل بنى آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أُمه إلا مريم وابنها».. فإنه قال فيه: «إذا صح الحديث فهو من قبيل التمثيل لا من باب الحقيقة».
فهو لا يثق بصحة الحديث رغم رواية الشيخين له، ثم يتخلص من إرادة الحقيقة - على فرض الصحة، بجعل الحديث من باب التمثيل، وهو ركون إلى مذهب المعتزلة. الذين يرون أن الشيطان لا تَسَلُّط له على الإنسان إلا بالوسوسة والإغواء فقط.
وبعد.. فهذا هو إنتاج الأستاذ الإمام فى التفسير، وهذا هو مسلكه ومنهجه فيه، ولعلِّى أكون قد أرضيت الحقيقة، ولم أتجن على الشيخ، أو أتهمه بما هو منه برئ.
* * *


٢- السيد محمد رشيد رضا

* كيف اتصل الشيخ رشيد بالأستاذ الإمام:
نشأ السيد محمد رشيد رضا فى طرابلس الشام، وفيها تلقى العلم عن شيوخها وعلمائها، وجلس يفيدهم بعلمه، ويرشدهم بنصحه ووعظه، وفى هذه الأثناء وقع فى يده نسخة من جريدة «العروة الوثقى»، التى كان يقوم بإخراجها والكتابة فيها رجل الإصلاح جمال الدين الأفغانى، وتلميذه الشيخ محمد عبده، فقرأ الشيخ رشيد ما فى الجريدة، فأعجب بالرجلين إعجابًا شديدًا، ورغب فى الاتصال بالسيد جمال الدين الأفغانى فلم يسعده الحظ، ثم تعلق أمله بالاتصال بخليفته الشيخ محمد عبده، فأسعده الحظ فى هذه المرة، واتصل بالشيخ فى رجب سنة ١٣١٥ هـ وكان أول اقتراح عرضه عليه، أن يكتب تفسيرًا للقرآن على نهج ما كان يكتب فى جريدة «العروة الوثقى»، وبعد أخذ ورد بين الشيخين اقتنع الأستاذ الإمام بأن يقرأ دروسًا فى التفسير
 
٢ ‏/ ٤٢٢
 
بالجامع الأزهر، ولم يلبث إلا قليلًا حتى قام بإلقاء دروسه فى التفسير على طُلابه ومريديه.
وكان الشيخ رشيد ﵀ ألزم الناس لهذه الدروس، وأحرصهم على تلقيها وضبطها، فكان يكتب بعض ما يسمع، ثم يزيد عليه بما يذكره من دروس الشيخ بعد ذلك، ثم قام بنشر ما كتب على الناس فى مجلته «المنار»، ولكنه لم يفعل إلا بعد مراجعة أستاذه لما كتب، وتناوله له بالتنقيح والتهذيب.
لهذا كله نستطيع أن نقول إن الشيخ رشيد هو الوارث الأول لعلم الأستاذ الإمام، إذ أنه أخذ عنه فوعى ما أخذ، وألَّف فى حياته وبعد وفاته، فكان لا يحيد عن منهجه أو ينحرف عن أفكاره. وليس غريبًا ما يرويه الشيخ رشيد من أن الأستاذ الإمام ﵀ كان يقول: «صاحب المنار ترجمان أفكارى». كما أنه ليس غريبًا ما يُحَدِّث به أحد تلاميذ الشيخ رشيد، من أن الأستاذ الإمام وصف الشيخ رشيد بأنه «متحد معه فى العقيدة، والفكر، والرأى، والخُلُق. والعمل».
* *
* إنتاج الشيخ رشيد فى التفسير:
وإذا نحن تتبعنا ما كتبه الشيخ رشيد من تفسير للقرآن الكريم لوجدنا أنه أكثر رجال مدرسة الأستاذ الإمام إنتاجًا فى التفسير، وذلك أنه كتب تفسيره المسمى بتفسير القرآن الحكيم، والمشهور بتفسير المنار.. ابتدأ بأول القرآن وانتهى عند قوله تعالى فى الآية [١٠١] من سورة يوسف: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحاديث فَاطِرَ السماوات والأرض أَنتَ وَلِيِّي فِي الدنيا والآخرة تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بالصالحين﴾ .. ثم عالجته المنية قبل أن يتم تفسير القرآن كله.
هذا القدر من التفسير مطبوع فى اثنى عشر مجلدًا كبارًا، ينتهى المجلد الثانى عشر عند قوله تعالى فى الآية [٥٣] من سورة يوسف: ﴿وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي﴾ ... الآية.
وقد أكمل الأستاذ بهجت البيطار تفسير سورة يوسف، وطبع تفسير هذه السورة بتمامها فى كتاب مستقل يحمل اسم الشيخ رشيد ﵀.
هذا.. وقد فسَّر الشيخ من القصار: سورة الكوثر، والكافرون، والإخلاص،
 
٢ ‏/ ٤٢٣
 
والمعوذتين، ولا نعرف له إنتاجًا فى التفسير أكثر من هذا، وهو إنتاج لا بأس به، وفيه تتجلى روح الأستاذ الإمام ممزوجة بروح تلميذه، فالمصادر هى المصادر، والهدف هو الهدف، والمنهج هو المنهج، والأفكار هى الأفكار، ولا فرق بين الرجلين إلا فيما هو قليل نادر.
* *
* مصادره فى التفسير:
أما مصادره فى التفسير فإنه كان يستعين ببعض آيات القرآن على فهم بعض آخر منه، خصوصًا إذا تكررت الآيات فى موضوع واحد، وكان يستعين أيضًا بما صح عنده من بيان رسول الله ﷺ، وبما جرى عليه سَلَف الأُمة من الصحابة والتابعين، وبأساليب لغة العرب وسنن الله فى خلقه، ومستعينًا بعد ذلك كله بعقله المتحرر من التقليد للمفسِّرين، إلا فيما يقتنع به من أقوالهم، وأقوال شيخه على الأخص، ويُحدِّثنا بعض تلاميذه: «أنه كان لا يراجع ما يكتب فى التفسير إلا بعد أن يكتب فهمه فى الآية، حذرًا من تأثر أقوال المفسَّرين على نفسه، وإذا آتاه الله فهمًا فى القرآن لم يُسبق إليه، أو لم يطلع عليه إلا بعد كتابته من عنده فإنه يتحدث إلى إخوانه شاكرًا، وقد يقصه على أهل بيته مغتبطًا مسرورًا».
* *
* هدفه من التفسير:
وأما هدفه فى التفسير فهو عَيْن ما يهدف إليه الأستاذ الإمام، فإذا كان الأستاذ الإمام يُصَرِّح بأن هدفه من التفسير هو «فهم الكاتب من حيث هو دين يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم فى حياتهم الدنيا وحياتهم الآخرة». فإن صاحبنا يُصَرِّح بمثل ذلك فى كثير من مواضع كتابه، فيقول بعد أن يوجه اللَّوم إلى مَن حشروا فى التفسير من قواعد العلوم، ومسائل الفنون، وموضوعات الحديث، وخرافات الإسرائيليات، ما يصرف الناس عن هداية القرآن، يقول: «إن حاجة الناس صارت شديدة إلى تفسير تتوجه العناية الأولى فيه إلى هداية القرآن على الوجه الذى يتفق مع الآيات الكريمة، المنزَّلة فى وصفه. وما أُنزِل لأجله، من الإنذار، والتبشير والهداية، والإصلاح».
يريد أنه سيعمل تفسيره على هذا النمط ليسد حاجة الناس، ويقول فى موضع آخر: «إن قصدنا من التفسير بيان معنى القرآن، وطرق الاهتداء به فى هذا الزمان».
* *
 
٢ ‏/ ٤٢٤
 
* منهجه فى التفسير:
وأما منهجه فيه فهو عَيْن ما نهجه الأستاذ الإمام، فلا تقيد بأقوال المفسِّرين، ولا تحكم للعقيدة فى نص القرآن، ولا خوض فى إسرائيليات، ولا تعيين لمبهمات، ولا تعلق بأحاديث موضوعة، ولا حشد لمباحث الفنون، ولا رجوع بالنص إلى اصطلاحات العلوم، بل شرح للآيات بأسلوب رائع، وكشف عن المعانى بعبارة سهلة مقبولة، وتوضيح لمشكلات القرآن، ودفاع عنه يرد ما أُثير حوله من شبهات، وبيان لهدايته، ودلالة إلى عظيم إرشاده، وتوقيف على حكم تشريعه، ومعالجة لأمراض المجتمع بناجع دوائه، وبيان لسنن الله فى خليقته.
ولكنَّا نجد الشيخ رشيد ﵀ يحيد عن هذا المنهج بعض الشىء، وذلك بعد وفاة شيخه، واستقلاله بالعمل، ويُحدِّثنا هو بذلك فيقول:
«وإننى لما استقللت بالعمل بعد وفاته، خالفت منهجه - رحمه الله تعالى - بالتوسع فيما يتعلق بالآية من السُّنَّة الصحيحة، سواء أكان تفسيرًا لها، أو فى حكمها، وفى تحقيق بعض المفردات، أو الجمل اللُّغوية، والمسائل الخلافية بين العلماء، وفى الإكثار من شواهد الآيات فى السور المختلفة، وفى بعض الاستطرادات لتحقيق مسائل تشتد حاجة المسلمين إلى تحقيقها، بما يثبتهم بهداية دينهم فى هذا العصر، أو يقوى حجتهم على خصومه من الكفار والمبتدعة، أو يحل بعض المشكلات التى أعيا حلها. بما يطمئن به القلب، وتسكن إليه النفس».
ويبدو لنا أن هذا التوسع الذى كان من الشيخ رشيد - خصوصًا فى المسائل الاجتماعية -، لم يدفعه إليه إلا كونه رجلًا «صحفيًا» اتصل عن طريق مجلته بالناس على اختلاف منازعهم ومشاربهم، وفيهم المتدين، والملحد. والكافر، فأراد أن يتمشى بكتابته مع الجميع، فيثبت المتدين على دينه، ويرد الملحد عن إلحاده، ويكشف عن محاسن الإسلام، لعل الكافر أن يثوب إلى رشده ويرجع عن كفره.
* *
* آراؤه فى التفسير:
أما آراؤه فى التفسير فهى كآراء شيخه، تقوم على حرية واسعة فى الرأى واعتداد عظيم بالفهم، وثقة قوية بما عنده من العلم، وعدم تقيد ببعض المُسَلَّمات عند العلماء، ولهذا نجد له أفكارًا غريبة فى تفسير القرآن استقل ببعض منها، وقلَّد شيخه فى بعضها الآخر.
* *
 
٢ ‏/ ٤٢٥
 
* رأيه فى أصحاب الكبائر: فمثلًا عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٢٧٥] من سورة البقرة فى شأن المرابين: ﴿وَمَنْ عَادَ فأولائك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ .. نجده يخالف أهل السُّنَّة، ويؤكد أن صاحب الكبيرة التى فى درجه أكل الربا وقتل العمد إذا مات ولم يتب منها يخلد فى النار، ولا يخرج منها أبدًا فيقول: «أى: ومَن عاد إلى ما كان يأكل من الربا المحرَّم بعد تحريمه، فأُولئك البُعداء عن الاتعاظ بموعظة ربهم، الذى لا ينهاهم إلا عما يضرهم فى أفرادهم أو جمعهم، هم أهل النار الذين يلازمونها كما يلازم الصاحب صاحبه، فيكونون فيها خالدين.
»وقد أوَّل الخلود المفسِّرون، لتتفق الآية مع المقرر فى العقائد والفقه من كون المعاصى لا توجب الخلود فى النار، فقال أكثرهم: إن المراد: ومَن عاد إلى تحليل الربا واستباحته اعتقادًا، ورده بعضهم بأن الكلام فى أكل الربا، وما ذُكِر عنهم من جعله كالبيع هو بيان لرأيهم قبل التحريم، فهو ليس بمعنى استباحة المحرَّم، فإذا كان الوعيد قاصرًا على الاعتقاد بحلِّه لا يكون هناك وعيد على أكله بالفعل.
"والحق أن القرآن فوق ما كتب المتكلمون والفقهاء. يجب إرجاع كل قول فى الدين إليه، ولا يجوز تأويل شىء ليوافق كلام الناس، وما الوعيد بالخلود هنا إلا كالوعيد بالخلود فى آية قتل العمد، وليس هناك شبهة فى اللَّفظ على إرادة الاستحلال. ومن العجيب أن يجعل الرازى الآية هنا حُجَّة على القائلين بخلود مرتكب الكبيرة فى النار، انتصارًا لأصحابه الأشاعرة، وخير من هذا التأويل تأويل بعضهم الخلود بطول المكث، أما عنه فنقول: ما كل ما يسمى إيمانًا يعصم صاحبه من الخلود فى النار، الإيمان إيمانان: إيمان لا يعدو التسليم الإجمالى بالدين الذى نشأ فيه المرء أو نُسِبَ إليه، ومجاراة أهله ولو بعدم معارضتهم فيما هم عليه. وإيمان هو عبارة عن معرفة صحيحة بالدين عن يقين بالإيمان، متمكنة فى العقل بالبرهان، مؤثرة فى النفس بمقتضى الإذعان، حاكمة على الإرادة المصرفة للجوارح فى الأعمال، بحيث يكون صاحبها خاضعًا لسلطانها فى كل حال، إلا ما لا يخلو عنه الإسنان من غلبه جهالة أو نسيان. وليس الربا من المعاصى التى تُنسى، أو تغلب النفس عليها خفة الجهالة والطيش كالحدة وثورة الشهوة، أو يقع صاحبها منها فى غمرة النسيان كالغيبة والنظرة، فهذا هو الإيمان الذى يعصم صاحبه بإذن الله من الخلود فى سخط الله، ولكنه لا يجتمع مع الإقدام على كبائر الإثم والفواحش عمدًا، إيثارًا لحب المال واللَّذة، عن دين الله وما فيه من الحكم والمصالح. وأما الإيمان الأول: فهو صورى فقط، فلا قيمة له
 
٢ ‏/ ٤٢٦
 
عند الله تعالى، لأنه تعالى لا ينظر إلى الصور والأقوال، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال، كما ورد فى الحديث، والشواهد على هذا الذى قررناه فى كتاب الله تعالى كثيرة جدًا، وهو مذهب السَلَف الصالح، وإن جهله كثير ممن يَدَّعون اتباع السُّنَّة حتى جَرَّأوا الناس على هدم الدين، بناء على أن مدار السعادة على الاعتراف بالدين وإن لم يُعمل به، حتى صار الناس يتبجحون بارتكاب الموبقات، مع الاعتراف بأنها من كبائر ما حُرِّم، كما بلغنا عن بعض كبرائنا أنه قال: إننى لا أنكر أننى آكل الربا ولكننى مسلم أعترف بأنه حرام، وقد فاته أنه يلزمه بهذا القول الاعتراف بأنه من أهل هذا الوعيد، وبأنه
يرضى أن يكون محاربًا لله ولرسوله، وظالمًا لنفسه وللناس، كما سيأتى فى آية أخرى، فهل يعترف بالملزوم؟ أو ينكر الوعيد المنصوص فيؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض؟ نعوذ بالله من الخذلان».
* *
* تقليده لشيخه فى قصة آدم:
كذلك نجد صاحب المنار يُقلِّد شيخه فى موقفه من قصة آدم وإبليس وما يتعلق بها فيقول:
«وهذا التفصيل مبنى على كون الأمر بالسجود للتكليف، وأنه وقع حوار بين الرب سبحانه وبين إبليس. وأما على القول بأن الأمر للتكوين، وأن القصة بيان لغرائز البَشر والملائكة والشياطين، فالمعنى: أنه تعالى جعل ملائكة الأرض المدبرة بأمر الله وإذنه لأُمورها بالسنن التى عليها مدار نظامها كما قال: ﴿فالمدبرات أَمْرًا﴾ [النازعات: ٥] مُسَخَّرة لآدم وذُرِّيته، إذ خلق الله هذا النوع مستعدًا للانتفاع بها كلها، بعلمه بسنن الله تعالى فيها، وبعلمه بمقتضى هذه السن كخواص الماء، والهواء، والكهرباء، والنور، والأرض: معادنها، ونباتها، وحيوانها، وإظهاره لحكم الله تعالى وآياته فيها، ومستعدًا لاصطفاء الله بعض أفراده، واختصاصهم بوحيه ورسالته، وإقامة مَن اهتدى بهم لدينه وميزان شرعه، وقد أُشير إلى ذلك فى الآية [٣١] من سورة البقرة بقوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا﴾، إلا أنه جعل الشيطان عاتيًا متمردًا على الإنسان، بل عدوًا له، من حيث إن الإنسان بروحه وسط بين روح الملائكة المفطورين على طاعة الله وإقامة سُنته فى صلاح الخلق، وبين روح الجن الذى يغلب على شرارهم - وهم الشياطين - التمرد والعصيان. وقد أعطى الإنسان إرادة واختيارًا من ربه فى ترجيح ما به يصعد إلى أُفق الملائكة، وما به يهبط إلى أُفق الشياطين».
* *
 
٢ ‏/ ٤٢٧
 
* تذرعه بالمجاز والتشبيه:
كذلك نجد صاحب المنار يصرف بعض ألفاظ القرآن عن ظواهرها، ويعدل بها إلى ناحية المجاز أو التشبيه، وذلك فيما يبدو مستبعدًا ومستغربًا لو أُجرى على حقيقته، وهذا المسلك الذى جرى عليه الشيخ رشيد هو مسلك شيخه، ومسلك الزمخشرى وغيره من المعتزلة، الذين اتخذوا التشبيه والتمثيل سبيلًا للفرار من الحقائق التى يُصَرِّح بها القرآن، ولا تعجز عنها قدرة الله، وإن بعدت عن منال البَشر.
فمثلًا نجد صاحب المنار عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٤٧] من سورة النساء: ﴿يَا أَيُّهَآ الذين أُوتُواْ الكتاب آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ﴾ ... الآية، نراه يستظهر أن المعنى المراد هنا هو: «آمِنُوا بما نَزَّلنا مصدِّقًا لما معكم من قبل أن نطمس وجوه مقاصدكم التى توجهتم إليها فى كيد الإسلام، ونردها خاسئة خاسرة إلى الوراء، بإظهار الإسلام ونصره عليكم، وفضيحتكم فيما تأتونه باسم الدين والعلم الذى جاء به الآنبياء، وقد كان لهم عند نزول الآية شىء من المكانة والمعرفة والقوة، فهذا ما نفسِّرها به، على جعل الطمس والرد على الأدبار معنويين».. ثم سرد بعض أقوال المفسِّرين فى هذه الآية، ثم بيَّن أن ما اختاره هو رأى شيخه الذى مال إليه فى دروسه.
* *
* رأيه فى السحر:
ثم إن صاحب المنار لا يرى السحر إلا ضربًا من التمويه والخداع، وليس له حقيقة كما يقول أهل السُّنَّة، وهو يوافق بهذا القول قول شيخه وقول المعتزلة من قبله، ولهذا نراه عندما فسَّر قوله تعالى فى الآية [٧] من سورة الأنعام: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ ... نجده يقول: «والآية تدل على أن السحر خداع باطل، وتخييل يرى ما لا حقيقة له فى صورة الحقائق».
هذا.. ولم يستطع الشيخ رشيد أن يرد حديث البخارى فى سحر رسول الله ﷺ كما فعل شيخه، ولكنه تأوَّل الحديث على أنه كان من قبيل العقد عن النساء، وبيَّن أن عذر مَن طعن فى الحديث هو أن هشامًا - راوى الحديث عن أبيه عن عائشة - مطعون فيه من كثير من أئمة الجرح والتعديل.
* *
 
٢ ‏/ ٤٢٨
 
* رأيه فى الشياطين:
وهو يرى أن شياطين الجن لا تسلط لها على الإنسان إلا بالإغواء فقط، ويقول: «كل ما يدَّعيه بعض الدجَّالين من تسلط الشيطان، أو ملوك الجان على بعض الناس، وقدرتهم على نفعهم وضرهم، فهو كذب وحيل من شياطين الإنس وحدهم».
* *
* رأيه فى الجن:
كما يرى أن الجن لا تُرى للإنسان على أى حال من الأحوال، ويرجح أن مَن ادَّعى رؤية الجن فذلك وهم منه وتخيل، ولا حقيقة له فى الخارج، أو لعله رأى حيوانًا غريبًا كبعض القردة فظنه أحد أفراد الجن. يقول هذا ثم يعرض فى «الهامش» لذكر حديث أبى هريرة فيمن كان يسرق تمر الصدقة، وإخبار النبى له بأنه شيطان - وهو فى البخارى - ولغيره من الأحاديث التى تدل على أن الإنسان يرى الجنى ويبصره، ثم يقول بعد أن يفرغ من سرده للروايات: «والصواب أنه ليس فى هذه الروايات كلها حديث صحيح».
بل ونجده يزيد على ذلك فيجوِّز أن تكون ميكروبات الأمراض نوعًا من الجن. وذلك حيث يقول عندما تعرَّض لتفسير قوله تعالى فى الآية [٢٧٥] من سورة البقرة: ﴿الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس﴾ ... الآية: «... والمتكلمون يقولون: إن الجن أجسام حية خفية لا تُرى، وقد قلنا فى المنار غير مرة: إنه يصح أن يُقال إن الأجسام الحية الخفية التى عُرفت فى هذا العصر بواسطة النظارات المكبرة وتسمى بالميكروبات، يصح أن تكون نوعًا من الجن، وقد ثبت أنها علل لأكثر الأمراض».
* * *
* رأيه فى معجزات النبى ﷺ:
ولقد نجد صاحب المنار يذهب فى معجزات النبى ﷺ مذهبًا بعيدًا، فيقرر أنه لا معجزة للنبى ﷺ غير القرآن الكريم وينكر بعض معجزاته الكونية، ويتأوَّل ما يشهد لها من آيات، ويجحد صحة ما يقوم بإثباتها من الأحاديث، وما يُسَلِّمه من بعض الآيات الكونية فهو فى نظره إكرام للنبى من ربه، وليس من قبيل المعجزة، أو الحُجَّة على صدق دعوته.
يذهب إلى هذا ويستدل له بمثل قوله تعالى فى الآية [٥٩] من سورة
 
٢ ‏/ ٤٢٩
 
الإسراء: ﴿وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون﴾ ... الآية، وبمثل قوله ﵇ من رواية أبى هريرة عند الشيخين وغيرهما: «ما من نبى من الأنبياء إلا أُعطى ما مثله آمن عليه البَشر، وإنما كان الذى أُوتيته وحيًا أوحاه الله إلىَّ، فأرجو أن أكون اكثرهم تابعًا يوم القيامة».
ولكن صاحب المنار يستشعر معارضة بعض نصوص القرآن والحديث لما ساقه من أدلة على مُدَّعاه فيقول: «وقد يعارضه - يعنى الحديث السابق - آية انشقاق القمر مع ما ورد فى أحاديث الصحيحين وغيرهما من أن قريشًا سألوا النبى ﷺ آية على نبوته فانشق القمر فكان فِرقتين، ولكن فى الأحاديث الواردة فى انشقاقه عللًا فى متنها وأسانيدها، وإشكالات علمية، وعقلية، وتاريخية، فصَّلناها فى المجلد الثلاثين من المنار، وبيَّنا أن ما تدل عليه الآيات القرآنية المؤيدة بحديث الصحيحين الصريح فى حصر معجزة نبوته ﷺ فى القرآن وكون الآيات المقترحة تقتضى إجابة مقترحيها عذاب الاستئصال، هو الحق الذى لا ينهض لمعارضته شىء».
وإذا كان الشيخ رشيد قد تخلَّص هنا من معارضة الحديث بالطعن فيه، فإنه قد تخلَّص فى موضع آخر من معارضة الآية، حيث فسَّر انشقاق القمر بظهور الحُجَّة«!!
* *
* رأيه فى مسائل من الفقه:
كذلك نجد صاحب المنار يعطى نفسه حرية واسعة فى استنباط الأحكام من القرآن الكريم، مما جعله يخالف جمهور الفقهاء، ويسفههم فيما ذهبوا إليه، وإذا أردتَ مثالًا لذلك فارجع إلى ما كتبه على قوله تعالى فى الآية [١٨٠] من سورة البقرة: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت إِن تَرَكَ خَيْرًا الوصية لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين بالمعروف حَقًّا عَلَى المتقين﴾، فستجد أنه لم يعبأ بما عليه جمهور العلماء من أهل السُّنَّة من أن حكم هذه الآية منسوخ، بصرف النظر عن كون الناسخ آية المواريث أو حديث:»لا وصية لوارث«الذى جنح الشافعى فى الأُم إلى أن متنه متواتر، فراح ﵀ يؤكد بكل ما يملك من حُجَّة: أن حكم الوصية للوالدين والأقربين باق لم يُنسخ، كما راح يُفَنِّد كل دليل تمسَّك به الجمهور. ولا أُطيل بذكر ما قاله فى هذا الموضوع، ويكفى أن أقول لك: إنه أنهى البحث فى هذه المسألة بقوله:»وصفوة القول: أن الآية
 
٢ ‏/ ٤٣٠
 
غير منسوخة بآية المواريث، لأنها لا تعارضها، بل تؤيدها، ولا دليل على أنها بعدها، ولا بالحديث، لأنه لا يصلح لنسخ الكتاب، فهى محكمة، وحكمها باق، ولك أن تجعله خاصًا بمن لا يرث من الوالدين أو الأقربين كما روى عن بعض الصحابة، وأن تجعله على إطلاقه، ولا تكن من المجازفين الذين يخاطرون بدعوى النسخ فينبذ ما كتبه الله عليه بغير عذر، ولا سيما بعد ما أكده بقوله: ﴿حَقًّا عَلَى المتقين﴾ .
وإن أردت مثالًا آخر فارجع إلى ما ذهب إليه فى آية التيمم من سورة النساء، فسترى أنه يقرر: أن المسافر يجوز له التيمم ولو كان الماء بين يديه ولا عِلَّة تمنعه من استعماله إلا كونه مسافرًا، ويخالف بذلك جماعة الفقهاء، ويحمل عليهم حملة شديدة فيما ذهبوا إليه من أن المسافر لا يجوز له التيمم مع وجود الماء، كما ينكر على مَن استشكل الآية من المفسِّرين، ويقول فيما يقول: «سيقول أدعياء العلم من المقلِّدين: نعم، إن الآية واضحة المعنى، كاملة البلاغة على الوجه الذى قررتم، ولكنها تقتضى عليه أن التيمم فى السفر جائز ولو مع وجود الماء. وهذا مخالف للمذاهب المعروفة عندنا، فكيف يعقل أن يخفى معناها هذا على أُولئك الفقهاء المحققين؟ وكيف يعقل أن يخلفوها من غير معارض لظاهر ما أرجعوها إليه؟. ولنا أن نقول لمثل هؤلاء - وإن كان المقلِّد لا يحتاج لأنه لا علم له -: وكيف يعقل أن يكون أبلغ الكلام وأسلمه من التكلف والضعف معضلًا مشكلًا؟ وأى الأمرين أولى بالترجيح؟ الطعن ببلاغة القرآن وبيانه.. لحمله على كلام الفقهاء؟ أو تجويز الخطأ على الفقهاء، لأنهم لم يأخذوا بما دل عليه ظاهر الآية من غير تكلف، وهو الموافق الملتئم مع غيره من رخص السفر التى فيها قصر الصلاة وجمعها، وإباحة الفطر فى رمضان، فهل يُستنكر مع هذا أن يُرَخَّص للمسافر فى ترك الغُسل والوضوء، وهما دون الصلاة والصيام فى نظر الدين».
إلى أن قال: «ألا إن من أعجب العجب، غفلة جماهير الفقهاء عن هذه الرُخصة الصريحة فى عبارة القرآن، التى هى أظهر وأولى من قصر الصلاة وترك الصيام، وأظهر فى رفع الحَرَج والعُسر الثابت بالنص وعليه مدار الأحكام ...».
ثم قال: «وإذا ثبت أن التيمم رُخصة للمسافر بلا شرط ولا قيد، بطلت كل تلك التشديدات التى توسَّعوا فى بنائها على اشتراط فقد الماء، ومنها ما قالوا من وجوب طلبه فى السفر، وما وضعوه لذلك من الحدود كحد القرب وحد الغوث».
* *
 
٢ ‏/ ٤٣١
 
* حملته على بعض المفسِّرين:
هذا.. ولا يفوتنا أن نقول: إن صاحب المنار كان كثير التوسع فيما يتعقب به أحيانًا قدماء المفسِّرين، خصوصًا الفخر الرازى منهم، مع قسوة منه عليهم فى الكثير الغالب.
* *
* حملته على البدع والخرافات:
كما أنه كان كثير الاستطراد إلى تتبع بدع المسلمين والكشف عن عوارها والإرشاد إلى علاجها، مع تشدد وتعسف منه فى كثير من الأحيان.
* *
شرحه لمبهمات القرآن بما جاء فى التوراة والإنجيل:
كذلك لا يفوتنا أن نُنَبِّه على أن صاحب المنار كان مع شدة لومه على المفسِّرين الذين يزجون بالإسرائيليات فى تفاسيرهم، ويتخذون منها شروحًا لكتاب الله، يخوض هو أيضًا فيما هو من هذا القبيل ويتخذ منه شروحًا لكتاب الله، وذلك أنه كثيرًا ما ينقل عن الكتاب المقدَّس أخبارًا وآثارًا يُفسِّر بها بعض مبهمات القرآن، أو يرد بها على أقوال بعض المفسِّرين، وكان الأجدر بهذا المفسِّر الذى يشدد النكير على عشاق الإسرائيليات، أن يكف هو أيضًا عن النقل عن كتب أهل الكتاب، خصوصًا وهو يعترف أنه قد تطرَّق إليها التحريف والتبديل.
* *
* دفاعه عن الإسلام:
وأخيرًا فلا يفوتنا أن الرجل قد دافع عن الإسلام والقرآن، وكشف عما أحاط بما من شكوك ومشاكل، وقد استعمل فى ذلك لسانه وقلمه، وضمَّنه مجلته وتفسيره، وتلك مزية للرجل يُحمد عليها. ولا ننسى ما له من أفكار جريئة ومتطرفة.
* * *
 
٢ ‏/ ٤٣٢
 

 
٣- الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغى

* الأستاذ المراغى فى مدرسة الشيخ محمد عبده:
لم نعرف من رجال هذه المدرسة رجلًا تأثر بروح الأستاذ الإمام، ونهج على طريقته من التجديد واطراح التقليد، والعمل على تنقية الإسلام من الشوائب التى أُلصقت به، وتنبيه الغافلين عن هَدْيه وإرشاده، مثل الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغى عليه رحمة الله ورضوانه.
تربَّى هذا الرجل فى مدرسة الأستاذ الإمام، وتخرَّج منها وهو يحمل بين جنبيه قلبًا مليئًا بالرغبة فى الإصلاح، والثورة على كل ما يقف فى سبيل الإسلام والمسلمين.
هذا القلب الفتى، العامر بما فيه من حب للخير ورغبة فى الإصلاح، دفع بالرجل إلى ميدان الحياة الاجتماعية، وترقَّى به فى مراتب المناصب الدينية، وأخيرًا وقف به عند الغاية، فإذا بالرجل شيخًا للأزهر، وإذا بروح الإصلاح والتجديد تتدفق من فوق منبره، وعلى قلوب طُلابه وغير طُلابه، ثم تنساب جارفة إلى نواح من الحياة المختلفة، فتعمل فيها عمل السحر، والحياة والنور.
لم يلازم الشيخ المراغى أستاذه الإمام ملازمة طويلة كما لازمه الشيخ رشيد، ولم يجلس إليه كثيرًا مثلما جلس، ولكنه كان على رغم ذلك أعمق أثرًا وأكثر تحقيقًا لما تهدف إليه هذه المدرسة من ضروب الإصلاح وصنوف التجديد، والسر فى ذلك - كما يظهر لنا - هو تقلب الشيخ فى مختلف المناصب الدينية الكبيرة، ثم ما كان فيه من جاذبية وقدرة على استجلاب قلوب سامعيه واستمالتها إليه، مما أجلس بين يديه الملك، والأمير، والوزير، والشيخ الكبير، والطالب الصغير، ورجل الشارع.
جلس هؤلاء جميعًا يستمعون إليه ويأخذون عنه، فكان الميدان فسيحًا أمام الشيخ، يلقى فيه بآرائه وأفكاره، فتجد الدعوى قبولًا من مستمعيه، ورواجًا عند مريديه.. ثم لا تلبث أن تنتشر فتعم كل شىء.
وإذا كان كتاب الله هو الدستور الذى شرعه الله تعالى للأُمة الإسلامية، وجعل فيه خيرها وسعادتها فى الدنيا والآخرة، فِلمَ لا يكون هو الباب الذى يصل منه الشيخ إلى ما يرجوه من خير، وما يهدف إليه من إصلاح.
* *
* إنتاجه فى التفسير:
طرق الشيخ هذا الباب، فعقد دروسًا دينية فى تفسير القرآن الكريم، استمع إليها الكثير من الناس على اختلاف طبقاتهم، من الملك إلى رجل الشارع كما قلت، وأُذيعت هذه الدروس أيضًا فى كثير من ممالك الأرض، ودول الإسلام، وأخيرًا طُبعت هذه الدروس، ووُزِعَّت على الناس ليعم نفعها، ويزداد أثرها.
 
٢ ‏/ ٤٣٣
 
لم تكن هذه الدروس على شىء من الكثرة، ولم يكن مقدار ما تناولته من آيات القرآن بالمقدار الكبير، الذى كنا نرغب ونطمع فى أن تُزَوَّد به المكتبة الإسلامية.
نعم.. لم تتناول هذه الدروس من آيات القرآن إلا مقدارًا قليلًا، وإذا نحن ذهبنا نستقصيه فإنَّا لا نجده أكثر من شرحه لقوله تعالى فى الآية [١٧٧] من سورة البقرة: ﴿لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب﴾ ... إلى قوله: ﴿أولائك الذين صَدَقُواْ وأولائك هُمُ المتقون﴾ .
وشرحه لقوله تعالى فى الآيات [١٣٣-١٣٨] من سورة آل عمران: ﴿وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض﴾ ... إلى قوله: ﴿هاذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ﴾ .
وشرحه لقوله تعالى فى الآيتين [١٣، ١٤] من سورة الشورى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحًا﴾ ... إلى قوله: ﴿وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ﴾ .
وشرحه لقوله تعالى فى الآيات [١٥١-١٥٣] من سورة الأنعام: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ ... إلى قوله: ﴿ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ .
وشرحه لقوله تعالى فى الآيات [١٨٣-١٨٦] من سورة البقرة: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام﴾ ... . إلى قوله: ﴿وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ .
وشرحه لقوله تعالى فى الآيات [٢٤-٢٩] من سورة الأنفال: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ ... إلى قوله: ﴿والله ذُو الفضل العظيم﴾ .
وشرحه لسورة الحجرات، وشرحه لسورة الحديد، وشرحه لسورة لقمان.
 
٢ ‏/ ٤٣٤
 
وشرحه لقوله تعالى فى الآيات [١٦٠-١٦٥] من سورة الأنعام: ﴿مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ ... . إلى آخر السورة.
وشرحه لقوله تعالى فى الآيات ﴿١٩٩-٢٠٦] من سورة الأعراف: ﴿خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف﴾ ... إلى آخر السورة.
وشرحه لقوله تعالى فى الآيات [٣٠-٣٤] من سورة فصلت: ﴿إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا﴾ ... إلى قوله: ﴿كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ .
وشرحه لأوائل سورة الأعراف إلى قوله فى الآية [٩]: ﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأولائك الذين خسروا أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ﴾ .
وشرحه لقوله تعالى فى الآيات [١١٢-١٢٣] من سورة هود: ﴿فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ﴾ ... . إلى آخر السورة.
وشرحه لقوله تعالى فى الآيتين [٥٨، ٥٩] من سورة النساء: ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا﴾ ... إلى قوله: ﴿ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ .
وشرحه لقوله تعالى فى الآية [١٧] من سورة الرعد: ﴿أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ ... . إلى قوله: ﴿كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال﴾ .
وشرحه لقوله تعالى فى الآيات [٨٣-٨٨] من سورة القصص: ﴿تِلْكَ الدار الآخرة نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرض وَلاَ فَسَادًا والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ﴾ ... إلى آخر السورة.
وشرحه لقوله تعالى فى الآيات [١-١٠] من سورة الفرقان: ﴿تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ﴾ ... . إلى قوله: ﴿وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا﴾ .
وشرحه لقوله تعالى فى الآيات [٦٣-٧٧] من سورة الفرقان أيضًا: ﴿وَعِبَادُ الرحمان الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْنًا﴾ ... إلى قوله: ﴿فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا﴾ .
 
٢ ‏/ ٤٣٥
 
وشرحه لسورة العصر.
وشرحه لسورة الملك.
هذا هو كل ما للأستاذ المراغى ﵀ من إنتاج فى التفسير، وهو على قلَّته عمل كبير وعظيم، بالنظر لما يهدف إليه من إصلاح، وما يحمل فى طيَّاته من توجيه حسن فى التفسير.
وحسب الشيخ أن يكون قد لفت قلوب كثيرة من المسلمين إلى القرآن، بعد أن أعرضوا عن هَدْيه، وضَلُّوا عن إرشاده، وتلك حسنة نرجو له برها وذخرها عن الله.
* *
* منهجه فى التفسير:
يتتبع الإنسان إنتاج الأستاذ الأكبر فى التفسير، ويستقصى ما عرض له من آيات القرآن الكريم، فيلحظ أن الشيخ - رحمه الله تعالى - كان يختار لدروسه من آيات القرآن ما تتجلى فيه دلائل قدرة الله وآيات عظمته، وما تظهر فيه وسائل هداية البَشر، ومواضع العظة والعبرة، كما يلحظ أيضًا أنه وجَّه جانبًا كبيرًا من عنايته إلى الآيات التى يجمعها وقضايا العلم الحديث صلة القُربى، ليظهر للناس أن القرآن لا يقف فى سبيل العلم، ولا يصادم ما صح من قواعده ونظرياته، وذلك بما يهديه الله إليه من الدقة فى التوفيق بين قضايا القرآن، وقضايا العلم الحديث.. دقة لا يبلغ شأوها، ولا يدرك خطرها إلا مَن شغل نفسه، وكدَّ فهمه فى هذا السبيل.
* *
*مصادره فى التفسير:
وأعتقد أن الشيخ ﵀ كان يستند فى تحضير دروسه على كتاب الله تعالى بجمع ما كان من الآيات فى موضوع واحد. لعل ما أُجمل فى موضع فُسِّر فى موضع آخر، وما أُبهم فى آية بُيِّنَ فى آية أخرى، وكان يستند أيضًا إلى ما صح من بيان الرسول ﷺ، وبيان السَلَف الصالح من الصحابة والتابعين، ثم على أساليب اللُّغة وسنن الله فى الكون، ثم على ما كتبه قدماء المفسِّرين، ولكنه لم يلغ عقله فى هذا كله، بل كان يضع هذه المصادر كلها أمام نظره، ويعرض ما فيها على قلبه وعقله، فما أعجبه منها أقرَّه، وما لم يطمئن إليه نبذه وأعرض عنه.
لم نسمع عن الأستاذ المراغى ﵀ أنه فسَّر القرآن بدون أن ينظر أولًا فيما كتبه المفسِّرون، ولم يبلغنا عنه أنه ادَّعى لنفسه أنه أتى بما لم يأت به الأوائل فى التفسير، بل على العكس من ذلك وجدناه يعترف بالفضل للأقدمين، ولا ينسى ما
 
٢ ‏/ ٤٣٦
 
كان لهم من مجهود طيب وأثر محمود، وذلك حيث يقول عن تفسيره: «ما هو إلا ثمرات من غرس أسلافنا الأقدمين، وزهرات من رياضهم».
لم يتحامل الشيخ ﵀ على المفسِّرين كما تحامل غيره، ولم يرم فى وجوههم بالعبارات القاذعة اللاذعة، بل كان عفا فى نقده، نزيهًا فى عبارته، وهذا أدب ما أجمله بالعلماء، وبخاصة مع أسلافنا ومتقدميهم.
* *
* موقفه من مُبهمات القرآن:
هذا ... وإن الأستاذ المراغى ﵀ قد نهج فى تفسيره منهج شيخه، فوجدناه لا يخوض فى مُبهمات القرآن بالتفصيل، ولا يدخل فى جزئيات سكت عنها القرآن، وأعرض عنها الرسول ﷺ، فلا الروايات الموضوعة أو الضعيفة بكافية عنده حتى يزج بها فى تفسيره، ولا الأخبار الإسرائيلية بمقبولة لديه، حتى يجعل منها شروحًا لما أجمله القرآن وسكت عن تفصيله، فلهذا نراه عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [١٣٣] من سورة آل عمران: ﴿وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ ... نجده يقول بعد أن ينتهى من تفسير الآية ما نصه: «والآية تدل بظاهرها على أن الجنَّة مخلوقة الآن، لأن الفعل الماضى يُفْهم هذا. غير أنه من الجائز أن يكون من قبيل قوله تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض﴾، فلا يدل على خلقها الآن، والبحث فى هذا لا فائدة له، ولا طائل تحته».
ومثلًا عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [١٨٣] من سورة البقرة: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ﴾ ... . الآية، وجدناه يقول: «... ونحن لا نعلم ما هو الذى فرضه الله على الأُمم السابقة من قبل، أهو شهر رمضان كما قال بعض الناس؟ أم غيره؟ وليس لنا ما يهدينا إلى شىء مُعيَّن من دليل يطمئن إليه القلب. والتشبيه لا يدل على المماثلة فى كل شىء، فنحن نؤمن بأن صومًا فُرِضَ على الأُمم السابقة، لا نعلم مقداره ولا كيفيته. ولا يزال الصوم معروفًا عند الأُمم الأخرى على أوضاع مختلفة».
ومثلًا عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [١٢] من سورة لقمان: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة أَنِ اشكر للَّهِ﴾ ... . الآية، وجدناه يقول ما نصه: "اختلف الناس فى لقمان هذا هو مَن هو؟ ومن أى الأُمم هو؟ فقيل: إنه من بنى إسرائيل، وقيل: إنه كان عبدًا حبشيًا. وقيل: إنه أسود من سودان مصر. وقيل: إنه يونانى. ومن الناس مَن
 
٢ ‏/ ٤٣٧
 
جعله نجارًا، ومنهم مَن جعله راعى غنم، ومنهم مَن قال إنه نبى، ومنهم مَن قال إنه حكيم. وكل هذه أقوال ليس لها سند يعول عليه، وبعد أن وصفه الله بالحكمة فلا يرفع من شأنه أنه كان من أشرف الأُمم، ولا يضع من قدره أنه كان زنجيًا مملوكًا».
* *
* عنايته بإظهار أسرار التشريع:
كذلك نجد الأستاذ الأكبر يهتم فى تفسيره اهتمامًا كبيرًا بإظهار سر التشريع الإسلامى، وحكمة التكليف الإلهى، ليُظهر محاسن الإسلام، ويكشف عن هدايته للناس.
فمثلًا عندما تعرَّض لآيات الصوم فى سورة البقرة، نجده يفيض فى سر الصوم وحكمته فيقول: «الصيام أحد الأركان الخمسة التى بُنِى عليها الإسلام، وهو رياضة بدنية، وتهذيب خُلُقى، وتطهير روحى، وذلك أن الاسترسال فى الشهوات، والانغماس فى اللَّذات حجاب بين الروح وبين الكمالات القدسية والفيض الإلهى، يعوقها عن تلقى الإلهام وعن لذَّة الاتصال، ولذلك يلجأ أرباب المقامات والعارفون إلى الصوم، كلما أحسوا بُعْدًا عن الذات الإلهية، وانزعج خاطرهم شوقًا إلى القرب منها.
»وفى الصبر على الحرمان من اللَّذات التى تنازع إليها النفس، وتقتضيها الطبيعة، تربية للإرادة، وتقوية على المضى فى العزم، وعدم نقض العقد والعهد إذا وسوس الشيطان وزيَّن للنفس الخروج عن العهود، لما فيها من المشقات، وفى تقوية الإرادة على هذا النحو إعداد لتلقى التكاليف الإلهية بالقبول والطمأنينة، وتثبيت لمَلَكة المراقبة والخوف من الله، وتقوية لخُلُق الحياة، وفى هذا كل الخير، وبه تتحقق تقوى الله، وتستعد النفس للسخاء، والبذل والتضحية، إذ دعا الداعى، وحان وقت الفصل بين شجعان الرجال وجبنائهم، وبين كرامهم وأنذالهم.
"وليس يخفى أن كل شىء فى هذه الحياة ممكن. الفقر بعد الغنى، والمرض بعد الصحة، والذلة بعد العز، والنزوح عن الأوطان بعد الطمأنينة فيها، وتغلب الأعداء بعد الغلب عليهم وقهرهم ... وما إلى ذلك ما هو بسبيل أن يعرض للإنسان. وعروض هذه الأشياء على نفس مدللة، وجسم مترف، ينام بقدر، ويأكل بقدر، ويمرح فى اللَّذات بين الأهل والعشيرة، قد يصدمه صدمة لا يقوى على احتمالها، أو يسوق إليه الجزع ويورثه اليأس.
لذلك كله اقتضت حكمة الحكيم العليم، أن يجعل من العبادات ما يروض
 
٢ ‏/ ٤٣٨
 
الأجسام ويهذب الأخلاق، ويطهر الأرواح ويزكيها.. وكان من هذه العبادات الصوم.
«وكما عَنِى الإسلام بتزكية الأرواح وتهذيب الأخلاق، فقد عَنِى بتربية الأجسام، وحرَّم كل ما هو ضار بها، وأباح الطيبات وكل ما هو نافع ومفيد، ذلك أن الإسلام يريد رجلًا عاملًا فى الحياة، مهذب الأخلاق، طاهر الأعراق، قويًا لا يهاب الموت، يدفع عن الدين ويدافع عن الوطن، ويذود عن العشيرة، ويريد رجلًا رحيمًا حسن المعاشرة، سلس القياد لأهله، وعشريته، وبنى وطنه، يريد رجلًا لا تلهيه الدنيا عن الاتصال بالخالق وأداء حقوقه ...» إلخ.
* *
* معالجته للمشاكل الاجتماعية:
كذلك نجد الشيخ المراغى ﵀ يعرض لمشاكل المجتمع وأسباب الانحطاط فى دول الإسلام، فيعالج كل ذلك بما يفيضه الله على قلبه وعقله ولسانه، من هداية القرآن وإرشاده.
ولقد كان الأستاذ ﵀ بصيرًا بمواطن الداء، وأسباب الشفاء، فكان يهدف فى دروسه إلى علاجها واستئصالها، وكان كثيرًا ما يوجه الخطاب إلى أرباب الحل والعقد فى الدولة - وهم غالبية المستمعين له - ويُلفت أنظارهم إلى ما فى أعناقهم من أمانات، وما عليهم من تبعات، ثم يأخذ بيدهم إلى حيث يكون صلاحهم، وصلاح مَن تحت إمرتهم ورعايتهم ... يدفعه فى هذا كله إخلاصه لربه، ولوطنه، ولأُمته.
فمثلًا عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [١٣] من سورة الشورى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحًا﴾ ... . الآية، نجده يقول: «... والحكمة فى هذه الشرائع الإلهية: أن الإنسان إذا تُرك إلى مداركه الحسية ونظرياته العقلية، ضلَّ وكره الحياة، وكان أشقى من أنواع الحيوان، وشقاؤه يكون من ناحية العقل نفسه، فقد دلَّت التجارب على أن العقل غير المؤيَد بالشرع الإلهى يذهب مذاهب شتَّى، منها الصواب ومنها الضلال، وهو فيما عدا المحسَّات والماديات ضلاله أكثر من صوابه. وهذه آراء العلماء فى الفلسفة والأخلاق، يشبه بعضها هذيان المحموم، وبعضها لا يُدرَك له محصل على كثرة ما يقولون من مقدمات وبراهين. وهذه مذاهب الاجتماع قديمها وحديثها، لم تسعد الأُمم بها، فلا بد من هداية تصدر عن المعصوم يحملها من عند الله العلى الحكيم. وقد دلَّت التجارب أيضًا على أن الأُمم التى عملت بالهدى كله أو بعضه سعدت بمقدار ذلك الهدى الذى عملت به.
»وأما أنه لولا الدين لما احتمل الإنسان هذه الحياة، فإنها على قصرها مملوءة
 
٢ ‏/ ٤٣٩
 
بالمصائب والويلات، فمن فقر مدقع، إلى مرض مزمن، ومن فقد الأهل والعشيرة، إلى فقد العزة والجاه، ومن شرف رفيع، إلى ذلة ومهانة.. واحتمال هذا كله إذا لم يكن أمام الإنسان أمل ينتظره، وحياة دائمة فيها سعادة دائمة ليس فى طاقة الإنسان، فالاعتقاد بالآخرة يرفه العيش، ويجعل المؤمن فى سعادة نفسية، ويقويه على احتمال الصعاب، وعلى الصبر على معاشرة الناس، فلا بد من نظام يُعتقد فيه العصمة من الخطأ، ويُهدر معه حكم العقل إذا حصل تعارض بينهما، فإن دائرة العقل محدودة، وهى قاصرة عن إدراك خفايا المستقبل.
«وإذا قيل: إن التدين مُقيِّد للحرية، ومانع من التمتع باللَّذات، فكيف تكون فيه السلوى والعزاء؟ فالجواب: أن الإسلام أباح الطيبات وحرَّم الخبائث، ولم يحظر من اللَّذات إلا ما يضر الإنسان، وليست السعادة فى حرية البهائم، بل فى حرية يسبح بها فيما فيه خيره وسعادته، ويحظر عليه فيها ما فيه ضرره وشقاؤه، وقوام آداب الأُمم وفضائلها، التى قامت عليها صروح المدنية الحقة مستند إلى الدين، وبعض العلماء يحاول تحويلها عن أساس الدين، وبناءها على أساس العقل والعلم، غير أنه لا شبهة فى أن الأُمم التى تروم هذا التحول تقع فى اضطراب وفوضى لا تعلم عاقبتهما، وليس من الميسور أن تُبنى للعامة قواعد الفضيلة على أساس علم الأخلاق، أو أية قاعدة علمية أخرى، ولكن من الميسور دئمًا أن تُبنى قواعد الفضيلة على أساس العصمة للدين، فالذى يحاول العلماء: وهم وخيال».
ومثلًا عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [١٨٥] من سورة البقرة: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان﴾ .. نجده بعد أن يشرح الآية، ويذكر ما فى القرآن من هداية يقول: «هذا هو القرآن الذى سعد به المسلمون بحياة روحية هى المثال الأعلى للنفس الإنسانية، وبحياة جثمانية طاهرة بريئة، وبحياة علمية لا يزال ما بقى من نورها يستمتع به الناس، وهو موضع للعجب، ومثار للإكبار والإجلال.
»سعدوا به حقبة، ثم انحرفوا عنه فعاقبهم الله بما هم فيه من ذل وهوان، حتى أصبحوا يخافون تخطف الناس لهم، وصاروا فى حاجة إلى غيرهم فى كل مرافق الحياة، ووصل بهم الجهل إلى حد أن ظنوا أن كل ما عند غيرهم خير يُجلب، وكل ما عندهم شر يُنبذ، وأنه لا حياة لهم إلا بالقدوة.. القدوة حتى فيما علم غيرهم شره وفساده، وحاولوا نبذه وطرحه، وقد أصبح المسلمون مُثلًا سيئة للإسلام، يحتج بهم عليه والدين منهم برىء.
"الدين يطلب رجالًا صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم مَن قضى نحبه ومنهم مَن
 
٢ ‏/ ٤٤٠
 
ينتظر، رجالًا باعوا أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنَّة، رجالًا خلقاء بأن يكونوا خلفاء عن الله فى الأرض، يعلمون سرها، ويُسخِّرونه للخير ودفع الأذى، يدفعون عوادى الزمان بمناكبهم كأنهم بنيان مرصوص، يعرفون للكرامة قدرها، وللعزة موضعها، ويميزون بين الأعداء والأصدقاء، ويعلمون أن متاع الحياة الدنيا قليل، وأن الآخرة خير وأبقى».
وعندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٢٥] من سورة الحديد: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ ... . الآية.
وجدناه يقول بعد ما شرح الآية: «ذكر الله - سبحانه - الكتاب والميزان والحديد وقرنها بعضها ببعض، فالكتاب: إشارة إلى الأحكام المقتضية للعدل والإنصاف. والميزان: إشارة إلى سلوك الناس على وفق هذه الأحكام. والحديد: إشارة إلى ما يحملهم على اتباع هذه الأحكام إذا تمردوا، والله سبحانه - وهو العليم الحكيم - لا يضع للخلق من القوانين إلا ما فيه مصلحتهم، وخيار الخلق تكفيهم تلاوة الكتاب وعلمه لاتباع ما فيه، وغيرهم لا بد له من وازع، وهو سلطان الحاكم المشار إليه بالحديد، ولذلك وُجِدت التعاذير فى الإسلام، ووُجِدت الحدود. أما ترك الناس أحرارًا من غير وازع. فهو ضار بالمجتمع الإنسانى، وموجب للتراخى فى إقامة العدل واتباع القانون، جُرِّب هذا فى العصور المختلفة، وقامت الشواهد الناطقة فى العصر الحديث عليه. وعُلِم أن الأُمم التى لم تحط أخلاقها بوازع، انحدرت إلى الدرك الأسفل وأضلتها الشهوات وقد كانت دُرَّة»عُمَر«سلكًا قويًا للنظام الإسلامى فلما رُفِعَت ضعف ذلك الرباط».
ومثلًا عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٦] من سورة لقمان: ﴿وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ ... . الآية، نجده يقول: «.. من الناس فريق مؤمن بالقرآن إجمالًا وبرسالة محمد، ويعظمها ويجلهما فإذا قلت له: لِمَ لا تقطع يد السارق؟ وتحد القاذف؟ ولِمَ لا تُحَكِّم القرآن فى الحياة ونحن مؤمنون به؟ هزَّ كتفيه وابتسم، أو زاد: إنها رجعية لا يحتملها تمدين العصر الحديث!!.. أليس هذا استهزاءً بالآيات. واشتراءً للباطل؟ وضلالًا عن سبيل الله؟
»هناك مُقلِّدين للمذاهب فى العقائد والأحكام، إذا عُرِضت عليهم الآيات الدالة على فساد مذاهبهم، وَلَّوا عنها وإن كانوا لا يسخرون بها، بل يسخرون بمن يعرضها، أليس هذا شراء للباطل وبيعًا للحق بغير علم؟
 
٢ ‏/ ٤٤١
 
»هناك مذاهب ابتُدعت فى الدين للضلال والإضلال بسبب السياسة، وفسر مبتدعوها الآيات فى التأويل ليردوها إلى مذاهبهم المبتدعة وجاء أتباعهم فقلدوهم.
«أما المبتدعون فأمرهم واضح.. اشتروا الضلالة بالهُدى.
»وأما الأتباع فكان عليهم أن ينظروا فى الآيات ويتدبروها عملًا بقوله سبحانه: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: ٥٩]، فهم أيضًا اشتروا الضلالة بالهُدى ولهم بعض العذر«.
ومثلًا عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٦] من سورة الحجرات: ﴿ياأيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ﴾ ... . الآية، نجده يقول:».. وللتثبت فى الأخبار فضيلة ليست كثيرة عند الناس، وأكثر الناس يقعون فى تصديق الأخبار من حيث لا يشعرون، ولبعض مهرة الكاذبين حيل تخفى على أشد الناس تثبتًا من الأخبار.
«وكثيرًا ما يقع عدم التثبت من العظماء الذين يملكون النفع والضرر يجيئهم ذلك من ناحية استبعاد أن يكذب بطانتهم عليهم وهو مدخل للخطر عظيم.
»والذين هم فى أشد الحاجة إلى العمل بهذه الآية هم الذين بيدهم مقاليد الأُمور؟ وبيدهم الضر والنفع. أما الذين لا يملكون ضرًا ولا نفعًا فحاجتهم إليها أقل من حاجة هؤلاء.
«والآية - على العموم - أدب عظيم لا بد منه لتكميل النفس، وإعدادها لتعرف الحق والبُعْد عن مواطن الباطل».
* *
* توفيقه بين القرآن والعلم الحديث:
هذا.. وإن الأستاذ المراغى ﵀ كان مع اعتقاده أن القرآن قد أتى بأُصول عامة، لكل ما يهم الإنسان معرفته والعلم به، يكره أن يسلك المفسِّر للقرآن مسلك مَن يجر الآية القرآنية إلى العلوم، أو العلوم إلى الآية، كى يُفسِّرها تفسيرًا علميًا يتفق مع نظريات العلم الحديث.
نعم.. كره الشيخ هذا المسلك فى التفسير، وجهر بخطأ أصحابه المولعين به، وكرر هذا فى مواضع كثيرة، فكان مما قاله فى بعض المواضع من دروسه فى التفسير: «وُجِد الخلاف بين المسلمين فى العقائد والأحكام الفقهية. ووُجِد عندهم مرض آخر هو الغرور بالفلسفة وتأويل القرآن ليُرجع إليهم، وتأويله لبعض النظريات العلمية التى لم يقر قرارها، وذلك خطر عظيم على الكتاب، فإن للفلاسفة أوهامًا لا تزيد على هذيان المصاب بالحمى، والنظريات التى لم تستقر لا يصح أن يُرَد إليها كتاب الله».
ولكن الأستاذ المراغى مع هذا كله كان يرى أن يكون مفسِّر كتاب الله على شئ من
 
٢ ‏/ ٤٤٢
 
العلم ببعض نظريات العلم الحديث، ليستطيع أن يأخذ منها دليلًا على قدرة الله، ويستلهم منها مكان العبرة والعظة.
كان الشيخ يرى هذا، ويعتقد أنه هو المسلك السليم لفهم القرآن الكريم، فجهر به فى أحد دروسه فى التفسير فقال: «ليس من غرض مفسِّر كتاب الله أن يشرح عالَم السموات، ومادته وأبعاده، وأقداره، وأوزانه، لكنه يجب أن يلم بطرف يسير منه، ليدل به على القدرة الإلهية ويشير إليه للعظة والاعتبار».
ثم وجدنا الأستاذ المراغى بعد هذا يشرح قوله تعالى فى الآية [١٠] من سورة لقمان: ﴿خَلَقَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ شرحًا يقوم على هذا المبدأ الذى ارتضاه فقال: ﴿خَلَقَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾ السموات مجموع ما نراه فى الفضاء فوقنا من سيّارات، ونجوم وسدائم وهى مرتبة بعضها فوق بعض تطوف دائرة فى الفضاء، كل شىء منها فى مكانه المقدّر له بالناموس الإلهى ونظام الجاذبية، ولا يمكن أن يكون لها عَمَد، والله هو ممسكها ومجريها إلى الأجل المقدَّر لها.. فإذا قيل: إن نظام الجاذبية وهو الناموس الإلهى قائم مقام العَمَد ويُطلق عليه اسم العَمَد جاز أن نقول: إن لها عَمَدًا غير منظورة، وإذا لاحظنا أنه لا يوجد شىء مادى تعتمد عليه، وجب أن نقول: إنه لا عَمَد لها، وأقدار الأجرام السماوية وأوزانها أقدار وأوزان لا عهد لأهل الأرض بها، والأرض نفسها إذا قيست بهذه الأجرام ليست إلا هباءة دقيقة فى الفضاء«.
ثم قال:»قرر الكتاب الكريم أن الأرض كانت جزءًا من السموات وانفصلت عنها، وقرر الكتاب الكريم أن الله ﴿استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ﴾ [فصلت: ١١]، وهذا الذى قرره الكتاب الكريم هو الذى دل عليه العلَم وقد قال العلماء: إن حادثًا كونيًا جذب قطعة من الشمس وفصلها عنها، وإن هذه القطعة بعد أن مرت عليها أطوارًا تكسرت وصارت قطعًا، كل قطعة منها صارت سيَّارًا من السيَّارات، وهذه السيَّارات طافت حول الشمس وبقيت فى قبضة جذبتها، والأرض واحدة من هذه السيَّارات فهى بنت الشمس، والشمس هى المركز لكل هذه السيَّارات.. فليست الأرض هى مركز العالَم كما ظنه الأقدمون، بل الشمس هى مركز هذه المجموعة، والشمس وتوابعها قوى صغيرة فى العالَم السماوى، وأين هى من الشِعْرَى اليمانية التى قال الله سبحانه فيها: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى﴾ [النجم: ٤٩]، فهذا النجم قدرته على إشعاع الضوء تساوى قوة الشمس (٢٦) مرة، وقدرته على إشعاع الحرارة مثل قدرته على إشعاع الضوء، فلو فُرض أن الشِّعْرَى اليمانية حلَّت محل الشمس يومًا من الأيام، لانتهت الحياة فجأة، بغليان الأنهار، والمحيطات والقارات الجليدية التى حول القطبين،
 
٢ ‏/ ٤٤٣
 
وضوء الشِّعْرَى اليمانية يصل إلينا بعد ثمان سنوات، وضوء الشمس يصل إلينا بعد ثمان دقائق، فانظر إلى هذا البُعْد السحيق.
«وليست الشِّعْرَى اليمانية أكبر نجم فى السماء، فهناك بعض النجوم قدرتها تزيد على قدرة الشِّعْرَى أكثر من عشرة آلاف مرة.
»وعظمة السماء ليست فى الشمس وتوابعها، كلا ... إن عظمتها فى مدنها النجومية، فى أقدارها، وأوزانها، وأضوائها، وأبعادها، على اختلاف أنواعها.
«وهناك نجم يسمى»الميرة«أكبر من شمسنا بما يزيد عن ثلاثين مليونًا من المرات، وهناك السدائم، وهى قريبة من الخلق أول الأمر، ثم يقف علم الإنسان، والله تعالى وحده يعلم خلقه: ﴿مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ﴾ . [الكهف: ٥١] .
﴿وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ﴾ [لقمان: ١]: أى خلق الجبال فى الأرض لئلا تميد الأرض وتضطرب، ولبيان هذا يمكن أن نقول باختصار: إن الأرض بعد انفصالها عن الشمس، وعكوفها على الدوران حولها على بُعْدٍ منها، وصلت بعض موادها إلى حالة السيولة بعد أن كانت مواد ملتهبة كالشمس، وتكوَّنت عليها قشرة صلبة بعد تتابع انخفاض الحرارة أحاطت بما فى جوفها من المواد المنصهرة، ثم تتابعت البرودة على القشرة فتجعدت، وحدث من التجعد نتوءات وأغوار، فالجبال الأولى نتوء القشرة الصلبة التى غلَّفت الأرض، وهناك جبال جدَّت عن اشتداد الضغط فى الرواسب التى فى قاع البحر، وجبال نارية جدَّت من خروج الحمم النارية من وسط الأرض وتداخلها فى الطبقات. حتى صارت كأوتاد مغروزة فيها.
»والجبال كلها تتحمل الضغوط الرسوبية على جدرانها، وتوزعها، وتغير اتجاهها، وتكسر حدتها، وتساعد بذلك على بقاء الطبقة المفككة الصالحة للإنبات، والتى يتغذى بواسطتها الحيوان والإنسان، وتحفظها من أن تمور.
«فالجبال أولًا حبست النار فى جوف الأرض، وصيَّرت الأرض بعد ذلك صالحة للحياة، والجبال توزع ضغوط الطبقات، ثم بعد ذلك تكسر حدة العواصف والرياح، فهى حافظة للأرض من الميدان الذى يجىء بأسباب من داخل الأرض، والذى يجىء بسبب العواصف والرياح» ... وهكذا مشى الشيخ إلى آخر الآية.
* *
* حرية الرأى فى تفسيره:
ثم إن الشيخ المراغى ﵀ كان كغيره من رجال هذه المدرسة لا يتقيد بأقوال الأئمة، ولا يقف عند مذهب مخصوص، ولا يقول برأى معين إلا إذا اقتنع به، وإلا فلا عليه أن يتركه إلى ما هو صواب فى نظره.
 
٢ ‏/ ٤٤٤
 
فمثلًا عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [١٨٤] من سورة البقرة: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ .. نجده يقول بعد أن يذكر خلاف علماء الفقه فى السفر المبيح للفطر: «وقد روى أحمد ومسلم وأبو داود عن أنس: أن رسول الله ﷺ كان يقصر الصلاة مسيرة ثلاثة أميال. ورُوى عن ابن أبى شيبة بإسناد صحيح أنه كان يقصر فى الميل الواحد، وإذا نظرنا إلى أن نص القرآن مطلق، وأن كل ما رواه فى التخصيص أخبار أحاد، وأنهم لم يتفقوا فى التخصيص، جاز لنا أن نقول: إن السفر مطلقًا مبيح للفطر، وهذا رأى أبى داود وغيره من الأئمة».
ومثلًا عندما تعرّض لقوله تعالى فى الآية [٢٧] من سورة لقمان: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله﴾ ... الآية، نجده بعد أن يبين أن عدد السبعة فى الآية مراد به الكثرة يقول: «وعلى هذا يمكن أن يقال فى أبواب النار، أما الأبواب الثمانية للجنة، فقد أريد بالزيادة فيها على النار أن يدل على أن مسالكها أكثر من مسالك النار، لراحة أهلها، وزيادة العناية بهم.
»وكذلك يقال فى السموات السبع، والأرضين السبع، والعرب تذكر السبعة للكثرة، وتذكر السبعين للكثرة كذلك، ومنه: ﴿استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ﴾ [التوبة: ٨٠]، ومن المعلوم أن الله لا يغفر لهم فى السبعين، ولا فى السبعة الآلاف، ونظيره: ﴿فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ﴾ [الحاقة: ٣٢] يُراد فى سلسلة طويلة هائلة، ولا يُراد التقدير بهذا العدد«.
والواقع أن هناك فرقًا بين ما ورد من نحو قوله: ﴿استغفر لَهُمْ﴾ ... إلخ، وقوله: ﴿فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا﴾، وبين ما ورد فى عدة أبواب الجنَّة والنار، وعدة السموات والأرض، فإن الأول ذُكِر فى مقام التهويل، فلا يُراد التحديد وإنما يُراد الكثرة، بخلاف الثانى فإنه ليس كذلك.
ومثلًا نجد الأستاذ المراغى فى دروسه الأخيرة عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٥] من سورة الملك: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ﴾ ... الآية، يشرح كون النجوم رجومًا للشياطين بما معناه:»أن ما فى السماء من النجوم دلائل قاطعة على تمام قدرة الله تعالى، فالله ﷾ زيَّن السماء الدنيا بهذه الكواكب، وجعلها على هيئات مخصوصة ونظام مُحكم، لتكون
 
٢ ‏/ ٤٤٥
 
حُججًا دامغة، وأدلة قوية على مَن يجحدون قدرة الله وينكرون وجوده». سمعناه يقول ما هذا معناه، ثم يستدل على ما ذهب إليه بأنهم يقولون: «ألقمته حجرًا» يعنى أقمت عليه الحُجَّة فلم يحر جوابًا، ثم يستشعر الشيخ بعد ذلك أن فى القرآن آيات كثيرة تصادم هذا الفهم، كقوله تعالى فى الآيات [٦-١٠] من سورة الصافات: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب * وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ * لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ الأعلى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ * إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ﴾، وكقوله فى الآيتين [٨-٩] من سورة الجن: ﴿وَأَنَّا لَمَسْنَا السمآء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا﴾ .. يستشعر الشيخ مصادمة هذه الآيات لرأيه فيقول ما معناه: «وهناك آيات أخرى فى هذا المقام، تبدو مخالفة لهذا المعنى، ولكن يمكن حملها عليه، وليس فى الوقت متسع لذلك، وسنعرض لها فى موضع غير هذا».
ولست أدرى كيف كان يستطيع الشيخ ﵀ أن يحمل كل الآيات الواردة فى هذا الموضوع على المعنى الذى قاله حملًا صحيحًا، وهى كما ترى صريحة فى أن الشياطين كانوا يصعدون إلى السماء ويسترقون السمع، ثم مُنِعوا من ذلك عند رسالة محمد ﷺ، فمَن حاول منهم استراق السمع - كما كانوا يفعلون من قبل - رُمِى بشهاب من السماء فحال بينه وبين ما يريد.
وخاتمة المطاف فى هذه الدروس التى ألقاها الأستاذ الأكبر فى التفسير: أنه كان منها - كما قيل - أمران عظيمان لهما خطرهما فى الحياة الدينية: كانت عاملًا قويًا فى توجيه المسلمين ونشئهم الطيب الطاهر إلى الجانب الدينى، ولفت أنظارهم إلى ما فى كتاب الله من تشريع حكيم، وأدب جم كريم، وإشاد قَيِّم مفيد، فحببَتْ إليهم الدين، وزيَّنته فى قلوبهم، وهرعوا إليه يتعرفون حكمه وأحكامه، ويتلمسون بها حياة طيبة ونهضة قوية، أساسها الدين والخُلُق الكريم.
وكانت هذه الدروس أيضًا: منار هدى وإرشاد، يلقى أشعته الوضَّاءة على عقول المشتغلين بتفسير القرآن، فيضىء لهم الطريق الذى ينبغى أن يسلكوه فى فهم كتاب الله، واستخلاص آدابه وأحكامه، خالصة مما جاورها من إسرائيليات وتأويلات أبعدت أهل الدين عن الدين، وشغلتهم فى تفسير القرآن لما لا يَمُت إلى روحه ومعناه،
 
٢ ‏/ ٤٤٦
 
وكذلك صوَّرت الدين لغير أهله الذين يتحسسون له عيبًا صورة لا تتفق وما له من جلال وجمال.
هذا.. وإنَّا لنرجو للشيخ المراغى عند ربه ما كان يرجوه هو لنفسه من وراء مجهوده فى التفسير وهو:
أن يضعه الله سبحانه فى كفَّة الحسنات من ميزان أعماله، وأن يجعله ضياءً ونورًا يسعى بين يديه: ﴿يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم﴾ . [الحديد: ١٢] .
* * *
 
٢ ‏/ ٤٤٧
 
رجاء واعتذار

وبعد ... فهذا ما يسَّره الله لى وأعاننى عليه، ولَعلِّى أكون وقد طوَّفتُ بالقارئ الكريم فى نواح شتَّى من مناهج التفسير، وأخذتُ بيده إلى حيث أطلعته على ألوان مختلفة منه، من مبدأ نزول القرآن إلى عصرنا هذا، وكشفتُ له عن طرائق القوم فى فهمهم لنصوص كتاب الله، وأريته كيف حاول كل ذى نِحْلة أن يقيم نِحْلته على أساس من القرآن. وكيف تحايل على فهم آياته، وتصرَّف فى تأويل عباراته، كل مَن حاول أن يجعل القرآن شاهدًا له، ودليلًا على ما يهدف إليه، من حق تبلج، أو باطل تلجلج ... لَعلِّى بعد هذا كله أكون قد أرضيتُ عُشَّاق التفسير خاصة، وأهل العلم عامة، وحققتُ رغبة طالمًا ترددت فى صدورهم، وقضيتُ حاجة كثيرًا ما تطلعت لها نفوسهم، واشرأبت إليها أعناقهم.
ولَعلِّى بعد ذلك أن لا أكون قد أسأمت القارئ الكريم، من طول دعتنى إليه ضرورة البحث، ودفعتنى إليه رغبة الأستيفاء والاستقصاء.
واعتقادى - رغم هذا الطول - أن فى هذا البحث تركيزًا كبيرًا، واختصارًا كثيرًا، إذ أن كل موضوع من موضوعات هذا الكتاب يصلح لأن يكون كتابًا وحده، وكتابًا موسعًا مُسهبًا.
وأرجو أن يهىء الله لى رُشدًا من أمرى، ومتسعًا من وقتى، لأجعل من هذا الكتاب كتبًا متعددة، فيها إسهاب أوسع من هذا الإسهاب، واستيفاء أشمل من هذا الاستيفاء.
وحسبى بهذا العمل الذى يُعتبر باكورة عملى فى التأليف أن أكون قدَّمت إلى المكتبة الإسلامية بحثًا فيه جدة وطرافة، وفيه متعة علمية، ولذَّة روحية، تستهوى القارئ، وتستحوذ على مشاعره وحسه.
حسبى هذا، وحسبى أن أكون قد أرضيتُ رغبتى العلمية، التى لم آل فى إرضائها جهدًا، ولم أدخر فى إشباعها وسعًا، فإن رَضِىَ الناس بعد ذلك، فذلك من فضل الله، وإن كانت الأخرى، فذلك هو جَهْدُ المُقِل، وطاقة الناشىء، الذى لا يزال يرقب من وراء الغيب أملًا فسيحًا، وكمالًا صريحًا.
هذا.. ولا يفوتنى أن أعتذر إلى القارئ الكريم عما قد يكون فى هذا الكتاب من أخطاء هينة لا تخفى على فطانته، ولا تدق عن إدراكه، فإنْ مرَّ بها فرجائى إليه أن يتلمس لها عذرًا، وأن يصححها مشكورًا، وتلك شيمة الكرام أهل الخُلُق الطاهر والأدب الحميد، وأن لا يكون ممن قال فيهم الشاعر:
 
٢ ‏/ ٤٤٨
 
فإن رأوا زلَّة طاروا بها فرحًا ... عنى وما وجدوا من صالح دفنوا
والله ﷾ أسأل أن يجعل عملى هذا خالصًا لوجهه، وأن ينفع به أُناسًا أخلصوا قلوبهم لله، وأن ينفعنى به فى دنياى وآخرتى، وأن يحقق لى به ما تصبو إليه نفسى، وتسمو إليه همتى ... والحمد لله الذى هدانا لهذا وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله، وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
 
٢ ‏/ ٤٤٩
 

عن الكاتب

Tanya Ustadz

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية