الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

التفسير الفقهى | التفسير والمفسرون

التفسير الفقهى | التفسير والمفسرون

 عنوان الكتاب: التفسير والمفسرون
 المؤلف: الذهبي، محمد حسين
 حالة الفهرسة: غير مفهرس
 الناشر: مكتبة وهبة
 سنة النشر: 2000
 عدد المجلدات: 3
 رقم الطبعة: 7
 تاريخ إضافته: 15 / 10 / 2008

 

 فهرس الموضوعات

  1. تفسير الفقهاء
    1. كلمة إجمالية عن تطور التفسير الفقهى
    2. التفسير الفقهى فى مبدأ قيام المذاهب الفقهية
    3. التفسير الفقهى بعد ظهور التقليد والتعصب المذهبى
    4. تنوع التفسير الفقهى تبعا لتنوع الفرق الإسلامية
    5. الإنتاج التفسيرى للفقهاء
    6. ١- أحكام القرآن - للجصاص (الحنفى)
    7. ٢- أحكام القرآن - لكيا الهراسى (الشافعى)
    8. ٣- أحكام القرآن - لابن العربى (المالكى)
    9. ٤- الجامع لأحكام القرآن - لأبى عبد الله القرطبى (المالكى)
    10. ٥- كنز العرفان فى فقه القرآن لمقداد السيورى (من الإمامية الإثنا عشرية)
    11. ٦- الثمرات اليانعة والأحكام الواضحة القاطعة ليوسف الثلائى (الزيدى)
  2. العودة الي كتاب التفسير والمفسرون

 

 تفسير الفقهاء

 
كلمة إجمالية عن تطور التفسير الفقهى

١- التفسير الفقهى من عهد النبوة إلى مبدأ قيام المذاهب الفقهية:
نزل القرآن الكريم مشتملًا على آيات تتضمن الأحكام الفقهية التى تتعلق بمصالح العباد فى دنياهم وأُخراهم، وكان المسلمون على عهد رسول الله ﷺ يفهمون ما تحمله هذه الآيات من الأحكام الفقهية بمقتضى سليقتهم العربية، وما أشكل عليهم من ذلك رجعوا فيه إلى رسول الله ﷺ.
ولما توفى رسول الله ﷺ جدَّت للصحابة من بعده حوادث تتطلب من المسلمين أن يحكموا عليها حكمًا شرعيًا صحيحًا، فكان أول شىء يفزعون إليه لاستنباط هذه الأحكام الشرعية هو القرآن الكريم، ينظرون فى آياته، ويعرضونها على عقولهم وقلوبهم، فإن أمكن لهم أن يُنزلوها على الحوادث التى جدَّت فبها ونعمت، وإلا لجأوا إلى سُنَّة رسول الله ﷺ، فإن لم يجدوا فيها حكمًا اجتهدوا وأعملوا رأيهم على ضوء القواعد الكلية للكتاب والسُّنَّة، ثم خرجوا بحكم فيما يحتاجون إلى الحكم عليه.
غير أن الصحابة فى نظرهم لآيات الأحكام كانوا يتفقون أحيانًا على الحكم المستنبَط، وأحيانًا يختلفون فى فهم الآية، فتختلف أحكامهم فى المسألة التى يبحثون عن حكمها، كالخلاف الذى وقع بين عمر بن الخطاب وعلىّ ابن أبى طالب فى عِدَّة الحامل المتوفى عنها زوجها، فعمر رضى الله عنه حكم بأن عِدَّتها وضع الحمل، وعلىّ حكم بأن عِدَّتها أبعد الأجلين: وضع الحمل، ومضى أربعة أشهر وعشرة أيام. وسبب هذا الخلاف تعارض نصَّين عامين فى القرآن، فإن الله سبحانه جعل عِدَّة المطلَّقة الحامل وضع الحمل، وجعل عِدَّة الوفاة أربعة أشهر وعشرًا من غير تفصيل. فذهب علىّ رضى الله عنه إلى العمل بالآيتين معًا، وأن كل آية منهما مخصصة لعموم الأخرى، وذهب عمر رضى الله عنه إلى أن آية الطلاق مخصصة لآية الوفاة، وقد تأيّد رأى عمر رضى الله عنه بما ورد أن سبيعة بنت الحارث الأسلمية مات عنها زوجها، فوضعت الحمل بعد خمسة وعشرين يومًا من موته، فأحلَّها رسول الله ﷺ للأزواج.
وكالخلاف الذى وقع بين ابن عباس وزيد بن ثابت فى تقسيم ميراث مَن مات عن زوج وأبوين، فابن عباس رضى الله عنه أفتى بأن للزوج النصف، وللأم الثلث، وللأب
 
٢ ‏/ ٣١٩
 
الباقى تعصيبًا، وتمسكًا بظاهر قوله تعالى فى الآية [١١] من سورة النساء: ﴿فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثلث﴾، وزيد بن ثابت رضى الله عنه ومعه بقية الصحابة أفتوا بأن للزوجة ثلث الباقى بعد فرض الزوج، نظرًا لأن الأب والأُم ذكر وأُنثى ورثا بجهة واحدة، فللذكر مثل حظ الأُنثيين.
مثل هذا الخلاف كان يقع مع الصحابة رضى الله عنهم حسبما يفهمه كل منهم فى النص القرآنى، وما يحيط به من أدلة خارجية، ومع هذا الاختلاف فقد كان كل واحد من المختلفين يطلب الحق وحده، فإن ظهر له أنه من جانب مَن خالفه رجع إلى رأيه وأخذ به.
* *

التفسير الفقهى فى مبدأ قيام المذاهب الفقهية
ظل الأمر على هذا إلى عهد ظهور أئمة المذاهب - الأربعة وغيرها - وفيه جدَّت حوادث كثيرة للمسلمين لم يسبق لمن تقدمهم حكم عليها، لأنها لم تكن على عهدهم، فأخذ كل إمام ينظر إلى هذه الحوادث تحت ضوء القرآن والسُّنَّة، وغيرهما من مصادر التشريع، ثم يحكم عليها بالحكم الذى ينقدح فى ذهنه، ويعتقد أنه هو الحق الذى يقوم على الأدلة والبراهين، وكانوا يتفقون فيما يحكمون به أحيانًا، وأحيانًا يختلفون حسبما يتجه لكل منهم من الأدلة. غير أنهم مع كثرة اختلافهم فى الأحكام لم تظهر منهم بادرة للتعصب للمذهب، بل كانوا جميعًا ينشدون الحق ويطلبون الحكم الصحيح، وليس بعزيز على الواحد منهم أن يرجع إلى رأى مخالفه إن ظهر له أن الحق فى جانبه، فهذا هو الشافعى رضى الله عنه كان يقول. إذا صح الحديث فهو رأيى، وكان يقول: الناس عيال فى الفقه على أبى حنيفة، وكان يقول لأحمد بن حنبل وهو تلميذة فى الفقه: إذا صح الحديث عندك فأعلمنى به، وكان يقول: إذا ذُكِر الحديث فمالك النجم الثاقب ... إلى غير ذلك مما يدل على انتشار روح التقدير والحب بين أُولئك الفقهاء، وهذه هى سُنَّة أسلافهم من الصحابة والتابعين.
* *

التفسير الفقهى بعد ظهور التقليد والتعصب المذهبى

ثم خَلَفَ من بعد هؤلاء الأئمة خَلْفٌ سرت فيهم روح التقليد لهؤلاء الأئمة.. التقليد الذى يقوم على التعصب المذهبى، ولا يعرف التسامح، ولا يطلب الحق لذاته ولا ينشده تحت ضوء البحث الحر، والنقد البرئ.
ولقد بلغ الأمر ببعض هؤلاء المقلِّدة إلى أن نظروا إلى أقوال أئمتهم كما ينظرون إلى نص الشارع، فوقفوا جهدهم العلمى على نُصْرة مذهب إمامهم وترويجه، وبذلوا كل
 
٢ ‏/ ٣٢٠
 
ما فى وسعهم لإبطال مذهب المخالف وتفنيده، وكان من أثر ذلك أن نظر هذا البعض إلى آيات الأحكام فأوَّلها حسبما يشهد لمذهبه إن أمكنه التأويل، وإلا فلا أقل من أن يؤوّلها تأويلًا يجعلها به لا تصلح أن تكون فى جانب مخالفيه، وأحيانًا يلجأ إلى القول بالنسخ أو التخصيص، وذلك إن سُدَّت عليه كل مسالك التأويل، فهذا عبد الله الكرخى المتوفى سنة ٣٤٠ هـ، وهو أحد المتعصبين لمذهب أبى حنيفة يقول: «كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤوَل أو منسوخ».
ومع هذا الغلو فى التعصب المذهبى، فإننا لم نعدم من المقلِّدين مَن وقف موقف الإنصاف من الأئمة، فنظر فى أقوالهم نظرة الباحث الحر الذى يساير الدليل حتى يصل به إلى الحق أيا كان قائله.
وكان لهؤلاء وهؤلاء - أعنى المعصبين وغير المتعصبين - أثر ظاهر فى التفسير الفقهى، فالمتعصبون ينظرون إلى الآيات من خلال مذهبهم فيُنزلونها عليه، وغير المتعصبين ينظرون إليها نظرة خالية من الهوى المذهبى، فيُنزلونها على حسب ما يظهر لهم، وينقدح فى ذهنهم.
* * *

تنوع التفسير الفقهى تبعًا لتنوع الفرق الإسلامية

وإذا نحن تتبعنا التفسير الفقهى فى جميع مراحله، وجدناه يسير بعيدًا عن الأهواء والأغراض من مبدأ نزول القرآن إلى وقت قيام المذاهب المختلفة، ثم بعد ذلك يسير تبعًا للمذاهب، ويتنوع بتنوعها، فلأهل السُّنَّة تفسير فقهى متنوع بدأ نظيفًا من التعصب، ثم لم يلبث أن تلوث به كما أسلفنا، وللظاهرية تفسير فقهى يقوم على الوقوف عند ظواهر القرآن دون أن يحيد عنها، وللخوارج تفسير فقهى يخصهم، وللشيعة تفسير فقهى يخالفون به مَن عداهم.. وكل فريق من هؤلاء يجتهد فى تأويل النصوص القرآنية حتى تشهد له أو لا تعارضه على الأقل.. مما أدى ببعضهم إلى التعسف فى التأويل، والخروج بالألفاظ القرآنية عن معانيها ومدلولاتها.
* *

الإنتاج التفسيرى للفقهاء
هذا وإنَّا إذا ذهبنا لنبحث عن مؤلفات فى التفسير الفقهى، فإنَّا لا نكاد نعثر على شىء من ذلك قبل عصر التدوين. اللَّهم إلا متفرقات تؤثر عن فقهاء الصحابة والتابعين، يرويها عنهم أصحاب الكتب المختلفة، أما بعد عصر التدوين فقد ألَّف كثير من العلماء على اختلاف مذاهبهم فى التفسير الفقهى ...
* فمن الحنفية:
ألَّف أبو بكر الرازى المعروف بالجصَّاص والمتوفى سنة ٣٧٠ هـ (سبعين وثلاثمائة من الهجرة): «أحكام القرآن»، وهو مطبوع فى ثلاث مجلدات كبار، ومتداول بين أهل العلم.
وألَّف أحمد بن سعيد المدعو بـ «ملاجيون» من علماء القرن الحادى عشر الهجرى: «التفسيرات الأحمدية فى بيان الآيات الشرعية»، وهو مطبوع بالهند فى مجلد كبير، ومنه نسخة فى مكتبة الأزهر، وأُخرى فى مكتبة الجامعة المصرية «جامعة القاهرة».
* ومن الشافعية:
ألَّف أبو الحسن الطبرى المعروف بالكيا الهراسى المتوفى سنة ٥٠٤ هـ. (أربع وخمسمائة من الهجرى): كتابه «أحكام القرآن»، وهو مخطوط فى مجلد كبير، وموجود فى دار الكتب المصرية، وفى المكتبة الأزهرية.
وألَّف شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يوسف بن محمد الحلبى، المعروف بالسمين، والمتوفى سنة ٧٥٦ هـ (ست وخمسين وسبعمائة من الهجرى): كتابه «القول الوجيز فى أحكام الكتاب العزيز» ويوجد منه فى مكتبة الأزهر الجزء الأول، وهو ينتهى عند قوله تعالى فى الآية [١٩٤] من سورة البقرة: ﴿فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ﴾ ... الآية، وهو مخطوط بخط المؤلف.
وألَّف علىّ بن عبد الله محمود الشنفكى من علماء القرن التاسع الهجرى: كتابه «أحكام الكتاب المبين»، وتوجد منه نسخة فى المكتبة الأزهرية، مخطوطة بخط المؤلف، فى مجلد متوسط الحجم.
وألَّف جلال الدين السيوطى، المتوفى سنة ٩١١ هـ (إحدى عشرة وتسعمائة من الهجرى): كتابه «الإكليل فى استنباط التنزيل»، وهو موجود فى المكتبة الأزهرية، ومخطوط فى مجلد متوسط الحجم.
* ومن المالكية:
ألَّف أبو بكر بن العربى المتوفى سنة ٥٤٣ هـ (ثلاث وأربعين وخمسمائة من الهجرى): كتابه «أحكام القرآن»، وهو مطبوع فى مجلدين كبيرين، ومتداول بين أهل العلم.
 
٢ ‏/ ٣٢١
 
وألَّف أبو عبد الله القرطبى المتوفى سنة ٦٧١ هـ (إحدى وسبعين وستمائة من الهجرة): كتابه «الجامع لأحكام القرآن» وهو مخطوط بدار الكتب المصرية، وقد قامت بطبعه دار الكتب فتم منه إلى الآن أربعة عشر جزءًا ينتهى الجزء الرابع عشر آخر سورة «فاطر» وما بقى منه على أُهبة الطبع.
 
٢ ‏/ ٣٢٢
 
* ومن الزيدية:
ألَّف حسين بن أحمد النجرى، من أهل القرن الثامن الهجرى: كتابه «شرح الخمسمائة آية» ولم يصل إلى أيدينا هذا التفسير.
وألَّف شمس الدين بن يوسف بن أحمد من علماء القرن التاسع الهجرى: «الثمرات اليانعة والأحكام الواضحة القاطعة» ومنه نسخة فى دار الكتب المصرية، مخطوطة فى ثلاث مجلدات، ويوجد بالمكتبة الأزهرية الجزء الثانى منه فى مجلد واحد مخطوط.
وألَّف محمد بن الحسين بن القاسم من علماء القرن الحادى عشر الهجرى: كتابه «منتهى المرام، شرح آيات الأحكام» ولم نقف على هذا التفسير.
* ومن الإمامية الإثنا عشرية:
ألَّف مقداد السيورى، من أهل القرن الثامن الهجرى: كتابه «كنز الفرقان فى فقه القرآن» ومنه نسخة بدار الكتب المصرية، مطبوعة فى مجلد صغير على هامش تفسير الحسن العسكرى.
وهناك كتب أُخرى فى تفسير آيات الأحكام ذكرها صاحب كشف الظنون، لا نطيل بذكرها، كما لا نطيل بالكلام عن كل ما وصل إلينا من الكتب، ويكفى أن نعرض لأهمها وهو ما يأتى:



١- أحكام القرآن - للجصَّاص (الحنفى)

* ترجمة المؤلف:
هو أبو بكر، أحمد بن علىّ الرازى، المشهور بالجصَّاص. وُلِد رحمه الله تعالى ببغداد سنة ٣٠٥ هـ (خمس وثلاثمائة من الهجرة) .
كان إمام الحنفية فى وقته، وإليه انتهت رياسة الأصحاب. أخذ عن أبى سهل الزجَّاج، وعن أبى الحسن الكرخى، وعن غيرهما من فقهاء عصره. واستقر التدريس له ببغداد، وانتهت الرحلة إليه، وكان على طريق الكرخى فى الزهد، وبه انتفع، وعليه تخرَّج، وبلغ من زهده أنه خُوطِبَ فى أن يلى القضاء فامتنع، وأُعيد عليه الخطاب فلم يقبل. أما مصنفاته فكثيرة. أهمها كتاب «أحكام القرآن» وهو ما نحن بصدده الآن، وشرح مختصر الكرخى، وشرح مختصر الطحاوى، وشرح الجامع الكبير للإمام محمد ابن الحسن الشيبانى، وكتاب أُصول الفقه، وآخر فى أدب القضاء، وعلى الجملة فقد كان الجصَّاص من خيرة العلماء الأعلام، وإليه يرجع كثير من الفضل فى تدعيم مذهب الحنفية على البراهين والأدلة.
 
٢ ‏/ ٣٢٣
 
هذا وقد ذكره المنصور بالله فى طبقات المعتزلة، وسيأتيك فى تفسيره ما يؤيد هذا القول.
أما وفاته فكانت سنة ٣٧٠ هـ (سبعين وثلاثمائة من الهجرى)، فرحمه الله ورضى عنه.
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
يُعَد هذا التفسير من أهم كتب التفسير الفقهى خصوصًا عند الحنفية، لأنه يقوم على تركيز مذهبهم والترويج له، والدفاع عنه. وهو يعرض لسور القرآن كلها ولكنه لا يتكلم إلا عن الآيات التى لها تعلق بالأحكام فقط، وهو - وإن كان يسير على ترتيب سور القرآن - مبوب كتبويب الفقه، وكل باب من أبوابه معنون بعنوان تندرج فيه المسائل التى يتعرَّض لها المؤلف فى هذا الباب.
* *
* استطراده لمسائل فقهية بعيدة عن فقه القرآن:
هذا.. وإن المؤلف ﵀ لا يقتصر فى تفسيره على ذكر الأحكام التى يمكن أن تُستنبط من الآيات - بل نراه يستطرد إلى كثير من مسائل الفقه والخلافيات بين الأئمة، مع ذكره للأدلة بتوسع كبير، مما جعل كتابه أشبه ما يكون بكتب الفقه المقارن، وكثيرًا ما يكون هذا الاستطراد إلى مسائل فقهية لا صلة لها بالآية إلا عن بُعْد.
فمثلًا نجده عندما عرض لقوله تعالى فى الآية [٢٥] من سورة البقرة: ﴿وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ يستطرد لمذهب الحنفية فى أن من قال لعبيده: مَن بشَّرنى بولادة فلانة فهو حر، فبشَّره جماعة واحدًا بعد واحد أن الأول يُعتق دون غيره.
ومثلًا عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٢٦] من سورة يوسف: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ﴾ ... الآية، نجده يستطرد لخلاف الفقهاء فى مُدَّعى الُّقُطة إذا ذكر علامتها، وخلافهم فى اللقيط إذا ادَّعاه رجلان ووصف أحدهما علامة فى جسده، وخلافهم فى متاع البيت إذا ادَّعاه الزوج لنفسه وادَّعته الزوجة لنفسها، وخلافهم فى مصراع الباب إذا ادَّعاه رب الدار والمستأجر.. وغير ذلك من مسائل الخلاف التى لا تتصل بالآية إلا عن بُعْدٍ.
* *
* تعصبه لمذهب الحنفية:
ثم إن المؤلف ﵀ وعفا عنه- متعصب لمذهب الحنفية إلى حد كبير، مما جعله فى هذا الكتاب يتعسف فى تأويل بعض الآيات حتى يجعلها فى جانبه،
 
٢ ‏/ ٣٢٤
 
أو يجعلها غير صالحة للاستشهاد بها من جانب مخالفيه، والذى يقرأ الكتاب يلمس روح التعصب فيه فى كثير من المواقف.
فمثلًا عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [١٨٧] من سورة البقرة: ﴿ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل﴾ .. نجده يحاول بتعسف ظاهر أن يجعل الآية دالة على أن من دخل فى صوم التطوع لزم إتمامه.
ومثلًا عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٢٣٢] من سورة البقرة: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ ... الآية، نجده يحاول أن يستدل بالآية من عدة وجوه على أن للمرأة أن تعقد على نفسها بغير الولى وبدون إذنه.
ومثلًا عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٢] من سورة النساء: ﴿وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب﴾ ... الآية، وقوله فى الآية [٦] منها: ﴿وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْدًا فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ ... الآية، نجده يحاول أن يأخذ من مجموع الآيتين دليلًا لمذهب أبى حنيفة القائل بوجوب دفع المال لليتيم إذا بلغ خمسًا وعشرين سنة، وإن لم يؤنس منه الرشد.
* *
* حملة الجصَّاص على مخالفيه:
ثم إن الجصَّاص مع تعصبه لمذهبه وتعسفه فى التأويل، ليس عف اللسان مع الإمام الشافعى رضى الله عنه ولا مع غيره من الأئمة، وكثيرًا ما نراه يرمى الشافعى وغيره من مخالفى الحنفية بعبارات شديدة، لا تليق من مثل الجصَّاص فى مثل الشافعى وغيره من الأئمة ﵏.
فمثلًا عندما عرض لآية المحرَّمات من النساء فى سورة النساء نجده يعرض للخلاف الذى بين الحنفية والشافعية فى حكم من زنى بامرأة، هل يحل له التزوج ببنتها أو لا؟ ثم ذكر مناظرة طويلة جرت بين الشافعى وغيره فى هذه المسألة، ويناقش الشافعى فيما يرد به على مناظره، ويرميه بعبارات شنيعة لاذعة كقوله: «فقد بان أن ما قاله الشافعى وما سلَّمه له السائل كلام فارغ لا معنى تحته فى حكم ما سُئِل عنه».
وقوله: «ما ظننت أن أحدًا ممن ينتدب لمناظرة خصم يبلغ به الإفلاس من الحجاج أن يلجأ إلى مثل هذا، مع سخافة عقل السائل وغباوته».
 
٢ ‏/ ٣٢٥
 
وقوله حين لم يرقه أحد أجوبة الشافعى على سؤال مناظره: «ولو كُلِّم بذلك المبتدئون من أحداث أصحابنا لما خفى عليهم عوار هذا الحجاج، وضعف السائل والمسئول فيه».
ومثلًا عند ذكره لمذهب الشافعى فى الترتيب بين أعضاء الوضوء نجده يقول: «وهذا القول مما خرج به الشافعى عن إجماع السَلَف والفقهاء» كأن الشافعى فى نظر الجصَّاص ممن لا يُعتد برأيه، حتى ينعقد الإجماع بدونه.
* * *
* تأثر الجصَّاص بمذهب المعتزلة:
كذلك نجد الجصَّاص يميل إلى عقيدة المعتزلة، ويتأثر بها فى تفسيره، فمثلًا عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [١٠٢] من سورة البقرة: ﴿واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ ... الآية، نجده يذكر حقيقة السحر ويقول إنه: «متى أُطلق فهو اسم لكل أمر هو باطل لا حقيقة له ولا ثبات»، كما ينكر حديث البخارى فى سحر رسول الله ﷺ، ويقر أنه من وضع الملاحدة.
ومثلًا عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [١٠٣] من سورة الأنعام: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار﴾ ... الآية، نجده يقول: «معناه لا تراه الأبصار. وهذا تمدح بنفى رؤية الأبصار كقوله تعالى - فى الآية [٢٥٥] من سورة البقرة: ﴿لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ﴾ - وما تمدّح الله بنفيه عن نفسه فإن إثبات ضده ذم ونقص، فغير جائز إثبات نقيضه بحال.. فلما تمدَّح بنفى رؤية البصر عنه لم يجز إثبات ضده ونقيضه بحال، إذ كان فيه إثبات صفة نقص، ولا يجوز أن يكون مخصوصًا بقوله تعالى فى الآيتين [٢٢، ٢٣] من سورة القيامة: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾؛ لأن النظر محتمل لمعان: منها انتظار الثواب، كما روى عن جماعة من السَلَف، فلما كان ذلك محتملًا للتأويل لم يجز الاعتراض به على ما لا يساغ للتأويل فيه. والأخبار المروية فى الرؤية إنما المراد بها العلم لو صحَّت، وهو علم الضرورة الذى لا تشوبه شبهة، ولا تعرض فيه الشكوك، لأن الرؤية بمعنى العلم مشهورة فى اللُّغة».
* *
* حملة الجصَّاص على معاوية رضى الله عنه:
كما أننا نلاحظ على الجصَّاص أنه تبدو منه البغضاء لمعاوية رضى الله عنه، ويتأثر بذلك فى تفسيره. فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى فى الآيات [٣٩ - ٤١] من سورة الحج: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ ... إلى قوله: ﴿الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمور﴾ .. يقول: ".. وهذه صفة الخلفاء الراشدين، الذين مكنهم الله فى الأرض وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلىّ رضى الله عنهم. وفيه الدلالة الواضحة على صحة إمامتهم، لإخبار الله تعالى بأنهم إذا مُكِّنوا فى الأرض قاموا بفروض الله عليهم، وقد مُكِّنوا فى الأرض فوجب أن يكونوا أئمة قائمين بأوامر الله منتهين عن زواجره ونواهيه، ولا يدخل معاوية فى هؤلاء، لأن الله إنما وصف بذلك المهاجرين الذين أُخرجوا
 
٢ ‏/ ٣٢٦
 
من ديارهم، وليس معاوية من المهاجرين، بل هو من الطُلَقاء».
ومثلًا فى سورة النور عند قوله تعالى فى الآية [٥٥]: ﴿وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض﴾ ... الآية، يقول: «وفيه الدلالة على صحة إمامة الخلفاء الأربعةَ أيضًا، لأن الله استخلفهم فى الأرض وَمَكَّن لهم كما جاء الوعد، ولا يدخل فيهم معاوية، لأنه لم يكن مؤمنًا فى ذلك الوقت».
وفى سورة الحجرات عند قوله تعالى فى الآية [٩]: ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا﴾ ... الآية، نجده يجعل عليًا رضى الله عنه هو المحق فى قَتَاله، أما معاوية ومَن معه فهم الفئة الباغية. كذلك كل مَن خرج على علىّ".
وما كان أولى بصاحبنا أن يترك هذا التحامل على معاوية الصحابى، ويفوِّض أمره إلى الله، ولا يلوى مثل هذه الآيات إلى ميوله وهواه.
هذا.. والكتاب مطبوع فى ثلاثة مجلدات كبار، ومتداول بين أهل العلم.
* * *



٢- أحكام القرآن - لكيا الهراسى (الشافعى)

* ترجمة المؤلف:
مؤلف هذا التفسير هو عماد الدين، أبو الحسن علىّ بن محمد بن علىّ الطبرى، المعروف بالكيا الهراسى، الفقيه الشافعى، المولود سنة ٤٥٠ هـ (خمسين وأربعمائة من الهجرة) .
أصله من خراسان، ثم رحل عنها إلى نيسابور، وتفقه على إمام الحرمين الجوينى مدة حتى برع، ثم خرج من نيسابور إلى بيهق ودرس بها مدة، ثم خرج إلى العراق، وتولى التدريس بالمدرسة النظامية ببغداد إلى أن توفى سنة ٥٠٤ هـ (أربع
 
٢ ‏/ ٣٢٧
 
وخمسمائة من الهجرة) . وكان ﵀ فصيح العبارة، حلو الكلام، محدِّثًا، يستعمل الأحاديث فى مناظراته ومجالسه، فرضى الله عنه وأرضاه.
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه - أهمية هذا التفسير، ومبلغ تعصب صاحبه لمذهب الشافعى:
يعتبر هذا التفسير من أهم المؤلفات فى التفسير الفقهى عند الشافعية، وذلك لأن مؤلفه شافعى لا يقل فى تعصبه لمذهبه عن الجصَّاص بالنسبة لمذهب الحنفية، مما جعله يُفسِّر آيات الأحكام على وفق قواعد مذهبه الشافعى، ويحاول أن يجعلها غير صالحة لأن تكون فى جانب مخالفيه.
وليس أدل على روح التعصب عند المؤلف من مقدمة تفسيره التى يقرر فيها: «إن مذهب الشافعى رضى الله عنه أسَدُّ المذاهب وأقومها، وأرشدها وأحكمها، وإن نظر الشافعى فى أكثر آرائه ومعظم أبحاثه يترقى عن حد الظن والتخمين، إلى درجة الحق واليقين، والسبب فى ذلك أنه - يعنى الشافعى - بنى مذهبه على كتاب الله تعالى الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وأنه أتيح له درك غوامض معانيه، والغوص على تيار بحره لاستخراج ما فيه، وأن الله تعالى فتح له من أبوابه، ويسَّر عليه من أسبابه، ورفع له من حجابه ما لم يسهل لمن سواه، ولم يتأت لمن عَدَاه».
يقرر صاحبنا هذا، وأنا لا أنكره عليه، ولا أغض من مقام الشافعى ﵀، ولكننى أقول: إن تقديم الكتاب بمثل هذا الكلام ناطق بأن الرجل متعصب لمذهبه، وشاهد عليه بأنه سوف يسلك فى تفسيره مسلك الدفاع عن قواعد الشافعى، وفروع مذهبه، وإن أدَّاه ذلك إلى التعسف فى التأويل.
وإذا لم يكفك هذا دليلًا على تعصب الرجل فدونك الكتاب، لتقف بعد القراءة فيه على مبلغ تعصب صاحبه وتعسفه.
* *
*تأدبه مع الأئمة وحملته على الجصَّاص:
غير أن الهراسى - والحق يقال - كان عَفّ اللسان والقلم مع أئمة المذاهب الأخرى، ومع كل مَن يتعرض للرد عليه من المخالفين، فلم يخض فيهم كما خاض الجصَّاص فى الشافعى وغيره، وكل ما لاحظناه عليه من ذلك هو أنه وقف من الجصَّاص موقفًا كان فيه شديد المراس، قوى الجدال، قاسى العبارة، إذ أنه عرض لأهم مواضع الخلاف التى ذكرها الجصَّاص فى تفسيره وعاب فيها مذهب الشافعى، ففنَّد كل شُبهة أوردها، ودفع كل ما وجهه إلى مذهب الشافعى، بحجج قوية يسلم له الكثير منها، كما أنه
 
٢ ‏/ ٣٢٨
 
اقتص للشافعى من الجصَّاص، فرماه بالعبارات الساخرة، والألفاظ المقذعة «والجزاء من جنس العمل».
فمثلًا عند تفسيره لقوله تعالى فى الآية [٢٣] من سورة النساء: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ ... . الآية، نجده يرد على الجصَّاص ما استدل به لمذهبه القائل بأن الزنا بامرأة يُحَرِّم على الزانى أُصول المرأة وفروعها، ويُفنِّد ما رد به الجصَّاص على الشافعى فى هذه المسألة، ثم يقول فى شأن الجصَّاص: «إنه لم يفهم معنى كلام الشافعى رضى الله عنه، ولم يميز بين محل ومحل، ولكل مقام مقال، ولتفهم معانى كتاب الله رجال، وليس هو منهم».
كما يقول: «وقد ذكر الشافعى مناظرة بينه وبين مسترشد طلب الحق فى هذه المسألة، فأوردها الرازى متعجبًا منها، ومنبهًا على ضعف كلام الشافعى فيها، ولا شىء أدل على جهل الرازى وقِلَّة معرفته بمعانى الكلام من سياقه لهذه المناظرة، واعتراضاته عليها».
ويقول بعد قليل: «ولم يعلم هذا الجاهل معنى كلام الشافعى رضى الله عنه فاعترض علي بما قاله، وعجب الناس من ذلك، فقال: فى هذه المناظرة أعجوبة لمن تأمل. فكان كما قال القائل:
وكم من عائب قولًا صحيحًا ... وآفته من الفهم السقيم»
كما يقول فى موضع آخر: «وكيف يتصدى للتصنيف فى الدين من هذا مبلغ علمه، ومقدار فهمه، فيرسل الكلام من غير أن يتحقق ما يقول.. ثم يعترض للطعن فيمن لو عُمِّرَ عمر نوح ما اهتدى إلى مبادىء نظره فى الحقائق، فنسأل الله تعالى التوفيق، ونعوذ به من عمى البصيرة واتباع الهوى».
هذا.. وإن المؤلف ﵀ ليبين لنا فى مقدمة تفسيره الحامل له على تأليفه، ومنهجه الذى سلكه، وتقديره لكتابه فيقول: «ولما رأيت الأمر كذلك - يريد رجحان مذهب الشافعى على غيره - أردتُ أن أُصَنِّف كتابًا فى أحكام القرآن، أشرح ما ابتدعه الشافعى رضى الله عنه من أخذ الدلائل فى غوامض المسائل، وضممتُ إليه ما نسجته على منواله، واحتذيتُ فيه على مثاله، على قدر طاقتى وجهدى، ومبلغ وسعى وجَدِّى.. ولا يعرف قدر هذا الكتاب، وما فيه من العجب العجاب، ولباب الألباب، إلا مَن وفر حظه من علوم المعقول والمنقول، وتبحَّر فى الفروع والأُصول، ثم انكب على مطالعة هذه الفصول، بمسكة صحيحة، وقريحة همة غير قريحة».
 
٢ ‏/ ٣٢٩
 
ثم إن المؤلف يتعرض لآيات الأحكام فقط، مع استيفاء ما فى جميع السور. والكتاب مخطوط فى مجلد كبير، وموجود فى دار الكتب المصرية، وفى المكتبة الأزهرية.
* * *



٣- أحكام القرآن - لابن العربى (المالكى)

* ترجمة المؤلف:
هو القاضى أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد المعافرى، الأندلسى، الإشبيلى، الإمام، العلامة، المتبحر، ختام علماء الأندلس، وآخر أئمتها وحُفَّاظها.. كان أبوه من فقهاء إشبيلية ورؤسائها.
وُلِد أبو بكر سنة ٤٦٨ هـ (ثمان وستين وأربعمائة من الهجرة)، وتأدب ببلده، وقرأت القراءات، ثم رحل إلى مصر، والشام، وبغداد، ومكة. وكان يأخذ عن علماء كل بلد يرحل إليه حتى أتقن الفقه، والأُصول، وقيد الحديث، واتسع فى الرواية، وأتقن مسائل الخلاف والكلام، وتبحَّر فى التفسير، وبرع فى الأدب والشعر.. وأخيرًا عاد إلى بلده إشبيلية بعلم كثير، لم يأت به أحد قبله، ممن كانت له رحلة إلى المشرق.
وعلى الجملة.. فقد كان ﵀ من أهل التفنن فى العلوم، والاستبحار فيها، والجمع لها، متقدمًا فى المعارف كلها، متكلمًا فى أنواعها، نافذًا فى جمعها، حريصًا على أدائها ونشرها، ثاقب الذهن فى تمييز الصواب منها، ويجمع إلى ذلك كله آداب الأخلاق، مع حُسن المعاشرة، وكثرة الاحتمال، وكرم النفس، وحُسن العهد، وثبات الود. سكن بلده وشُووِرَ فيه، وسُمِع، ودَرَّس الفقه والأصول، وجلس للوعظ والتفسير، ورُحِل إليه للسماع. قال القاضى عياض - وهو ممن أخذوا عنه -: «استقضى ببلده فنفع الله به أهلها لصرامته، وشدة نفوذ أحكامه، وكانت له فى الظالمين سَورة مرهوبة، وتؤثر عنه فى قضائه أحكام غريبة، ثم صُرِف عن القضاء، وأقبل على نشر العلم وبثه».
هذا.. وقد ألّف ﵀ تصانيف كثيرة مفيدة، منها «أحكام القرآن»، وهو ما نحن بصدده الآن، وكتاب المسالك فى شرح موطأ مالك، وكتاب القبس على شرح موطأ مالك بن أنس، وعارضة الأحوذى على كتاب الترمذى، والقواصم والعواصم، والمحصول فى أُصول الفقه، وكتاب الناسخ والمنسوخ، وتخليص التلخيص، وكتاب القانون فى تفسير القرآن العزيز، وكتاب أنوار الفجر فى تفسير القرآن. قيل: إنه ألّفه فى عشرين سنة، ويقع فى ثمانين ألف ورقة، وذكر بعضهم أنه رأى هذا التفسير وعَدَّ
 
٢ ‏/ ٣٣٠
 
أسفاره فوجد عدتها ثمانين مجلدًا، وبالجملة فقد خلَّف ﵀ كتبًا كثيرة، انتفع الناس بها بعد وفاته، كما نفع هو بعلمه مَن جلس إليه فى حياته. هذا ... وقد كانت وفاته ﵀ سنة ٥٤٣ هـ[ثلاث وأربعين وخمسمائة من الهجرة) منصرفه من مراكش، وحُمِل ميتًا إلى مدينة فاس ودُفِن بها. فرضى الله عنه وأرضاه.
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
يتعرض هذا الكتاب لسور القرآن كلها، ولكنه لا يتعرض إلا لما فيها من آيات الأحكام فقط، وطريقته فى ذلك أن يذكر السورة ثم يذكر عدد ما فيها من آيات الأحكام، ثم يأخذ فى شرحها آية آية.. قائلًا: الآية الأولى وفيها خمس مسائل (مثلًا)، الآية الثانية وفيها سبع مسائل (مثلًا) ... . وهكذا، حتى يفرغ من آيات الأحكام الموجودة فى السورة.
* *
* تفسير ابن العربى بين انصافه واعتسافه:
هذا ... وإن الكتاب يعتبر مرجعًا مهمًا للتفسير الفقهى عند المالكية، وذلك لأن مؤلفه مالكى تأثر بمذهبه، فظهرت عليه فى تفسيره روح التعصب له، والدفاع عنه، غير أنه لم يشتط فى تعصبه إلى الدرجة التى يتغاضى فيها عن كل زَلَّة علمية تصدر من مجتهد مالكى، ولم يبلغ به التعسف إلى الحد الذى يجعله يفند كلام مخالفه إذا كان وجيهًا ومقبولًا، والذى يتصفح هذا التفسير يلمس منه روح الإنصاف لمخالفيه أحيانًا، ما يلمس منه روح التعصب المذهبى التى تستولى على صاحبها فتجعله أحيانًا كثيرة يرمى مخالفه وإن كان إمامًا له قيمته ومركزه بالكلمات المقذعة اللاذعة، تارة بالتصريح، وتارة بالتلويح. ويظهر لنا أن الرجل كان يستعمل عقله الحر، مع تسلط روح التعصب عليه، فأحيانًا يتغلب العقل على التعصب، فيصدر حكمه عادلًا لا تكدره شائبة التعصب، وأحيانًا - وهو الغالب - تتغلب العصبية المذهبية على العقل، فيصدر حكمه مشوبًا بالتعسف، بعيدًا عن الإنصاف.
* *
* طرف من إنصافه: وإذا أردتَ أن أضع يدك على شىء من إنصاف الرجل واستعماله لعقله، فانظر إليه عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [١٨٧] من سورة البقرة: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ﴾ ... الآية، حيث يقول: "المسألة السادسة عشرة: قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد﴾: الاعتكاف فى اللُّغة هو اللبث، وهو غير مقدَّر عند الشافعى، وأقله لحظة، ولا حد لأكثره. وقال مالك وأبو حنيفة: هو
 
٢ ‏/ ٣٣١
 
مقدَّر بيوم وليلة، لأن الصوم عندهما من شرطه. قال علماؤنا: لأن الله تعالى خاطب الصائمين. وهذا لا يلزم فى الوجهين: أما اشتراط الصوم فيه بخطابه تعالى لمن صام فلا يلزم بظاهره ولا باطنه، لأنها حال واقعة لا مشترطة، وأما تقديره بيوم وليلة لأن الصوم من شرطه فضعيف، فإن العبادة لا تكون مقدَّرة بشرطها، ألا ترى أن الطهارة شرط فى الصلاة، وتنقضى الصلاة، وتبقى الطهارة.. «؟.
فأنت ترى أن المؤلف ﵀ لم يرقه هذا الاستدلال الذى أظهر بطلانه، وهذا دليل على أنه يستعمل عقله الحر أحيانًا، فلا يسكت على الزَلَّة العلمية فيما يعتقد، وإن كان فيها ترويج لمذهبه.
وانظر إليه عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٦] من سورة المائدة: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة﴾ ... الآية، حيث يقول:»المسألة السابعة والعشرون فى قوله تعالى: ﴿بِرُءُوسِكُمْ﴾، ثم يذكر أن العلماء اختلفوا فى مسح الرأس على أحد عشر قولًا، ثم يأخذ فى بيانها واحدًا واحدًا، ثم يقول: «ولكل قول من هذه الأقوال مطلع من القرآن والسُّنَّة»، ثم يذكر لنا مطلع كل قول، ثم يقول بعد أن يفرغ من هذا كله: «وليس يخفى على أحد عند اطلاعه على هذه الأقوال والأنحاء والمطلعات أن القوم لم يخرج اجتهادهم عن سبيل الدلالات فى مقصود الشريعة، ولا جاوز طرفيها إلى الإفراط، فإن للشريعة طرفين، أحدهما طرف التخفيف فى التكليف، والآخر طرف الاحتياط فى العبادات، فمَن احتاط استوفى الكل، ومَن خفف أخذ بالبعض..».
فأنت ترى أنه يُصَوِّب كل ما قيل فى مسح الرأس.
وانظر إليه فى الآية السابقة حيث يقول: «المسألة السادسة والأربعون: نزع علماؤنا بهذه الآية إلى أن إزالة النجاسة غير واجبة، لأنه قال: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة﴾، تقديره - كما سبق -»وأنتم محدثون«، ﴿فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ﴾، فلم يذكر الاستنجاء وذكر الوضوء، ولو كان واجبًا لكان أول مبدوء به.. وهى رواية أشهب عن مالك. وقال ابن وهب: لا تجزئ الصلاة بها لا ذاكرًا ولا ناسيًا.. والصحيح رواية ابن وهب، ولا حُجَّة فى ظاهر القرآن، لأن الله ﷾ إنما بيَّن فى آية الوضوء صفة الوضوء خاصة، وللصلاة شروط: من استبقال الكعبة، وستر العورة، وإزالة النجاسة ... وبيان كل شرط منها فى موضعه».
فأنت ترى أنه لا يميل إلى رواية أشهب عن مالك، ولا يرى فى ظاهر الآية ما يشهد له.
* *
* طرف من تعصبه لمذهبه:
وإن أردتَ أن أضع يدك على شىء من تعصب ابن العربى، فانظر إليه عندما تعرَّض
 
٢ ‏/ ٣٣٢
 
لقوله تعالى فى الآية [٨٦] من سورة النساء: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ﴾ ... . الآية، حيث يقول: «المسألة السابعة: إذا كان الرد فرضًا بلا خلاف، فقد استدل علماؤنا على أن هذه الآية دليل على وجوب الثواب فى الهبة للعين، وكما يلزمه أن يرد مثل التحية يلزمه أن يرد مثل الهبة، وقال الشافعى: ليس فى هبة الأجنبى ثواب.. وهذا فاسد، لأن المرء ما أَعطى إلا ليعطى، وهذا هو الأصل فيها، وإنَّا لا نعمل عملًا لمولانا إلا ليعطينا، فكيف بعضنا لبعض»؟
* *
* حملته على مخالفى مذهبه:
وإن أردتَ أن تقف على مبلغ قسوته على أئمة المذاهب الأخرى وأتباعهم، فانظر إليه عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٢٢٩] من سورة البقرة: ﴿الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾ ... . الآية، حيث يقول: «المسألة الرابعة عشرة: هذا يدل على أن الخُلْع طلاق، خلافًا لقول الشافعى فى القديم إنه فسخ. وفائدة الخلاف أنه إن كان فسخًا لم يُعَد طلقة. قال الشافعى: لأن الله تعالى ذكر الطلاق مرتين وذكر الخُلْع بعده، وذكر الثالث بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ .
وهذا غير صحيح، لأنه لو كان كل مذكور فى معرض هذه الآيات لا يُعَد طلاقًا لوقوع الزيادة على الثلاث لما كان قوله تعالى ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ﴾ طلاقًا، لأنه يزيد به على الثلاث، ولا يفهم هذا إلا غبى أو متغاب ... . إلخ».
وانظر إليه عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٤٣] من سورة النساء: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً﴾ ... الآية، حيث يقول: «المسألة الثامنة والعشرون: قوله تعالى:»ماءً«.. قال أبو حنيفة: هذا نفى فى نكرة وهو يعم لغة، فيكون مفيدًا جواز الوضوء بالماء المتغير وغير المتغير لانطلاق اسم الماء عليه.. قلنا: استنوق الجمل إلى أن يستدل أصحاب أبى حنيفة باللُّغات، ويقولون على ألسنة العرب وهم ينبذونها فى أكثر المسائل بالعراء. واعلموا أن النفى فى النكرة يعم كما قلتم، ولكن فى الجنس، فهو عام فى كل ما كان من سماء، أو بئر، أو عين، أو نهر، أو بحر عذب أو ملح، فأما غير الجنس فهو المتغير فلا يدخل فيه، كما لم يدخل فيه ماء الباقلاء ...».
ونجده فى موضع من كتابه يرمى أبا حنيفة بأنه كثيرًا ما يترك الظواهر والنصوص
 
٢ ‏/ ٣٣٣
 
للأقيسة، ويقول عنه فى موضع آخر إنه:»سكن دار الضرب فكثر عنده المدلس، ولو سكن المعدن كما قيَّض الله لمالك، لما صدر عنه إلا إبريز الدين وإكسير المِلَّة، كما صدر عن مالك«.
وانظر إليه عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٦] من سورة المائدة: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ﴾ ... . الآية، حيث يقول فى تعريض ساخر:»المسألة الحادية عشرة، قوله ﷿: ﴿فاغسلوا﴾، وظن الشافعى - وهو عند أصحابه معد بن عدنان فى الفصاحة بله أبى حنيفة وسواه - أن الغسل صب الماء على المغسول من غير عرك، وقد بيَّنا فساد ذلك فى مسائل الخلاف. وفى سورة النساء، وحققنا أن الغسل مس اليد مع إمرار الماء، أو ما فى معنى اليد«.
وانظر إليه عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٣] من سورة النساء: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ﴾ .. حيث يقول:»المسألة الثانية عشرة، قوله تعالى: ﴿ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ﴾ اختلف الناس فى تأويله على ثلاثة أقوال: الأول: أن لا يكثر عيالكم، قاله الشافعى. الثانى: أن لا تضلوا، قاله مجاهد. الثالث: أن لا تميلوا، قاله ابن عباس والناس.. قلنا: أعجب أصحاب الشافعى بكلامه هذا، وقالوا هو حُجَّة، لمنزلة الشافعى فى اللُّغة، وشهرته فى العربية، والاعتراف له بالفصاحة، حتى قال الجوينى: هو أفصح مَن نطق بالضاد، مع غوصه على المعانى ومعرفته بالأصول.. واعتقدوا أن معنى الآية: فانكحوا واحدة إن خفتم أن يكثر عيالكم، فذلك أقرب إلى أن تنتفى عنكم كثرة العيال.. قال ابن العربى: «كل ما قاله الشافعى، أو قيل عنه، أو وُصف به، فهو كله جزء من مالك ونغبة من بحره، ومالك أوعى سمعًا، وأثقب فهمًا، وأفصح لسانًا، وأبرع بيانًا، وأبدع وصفًا، ويدلك على ذلك مقابلة قول بقول فى كل مسألة وفصل».
ثم تكلم بعد ذلك عن معنى لفظ «عال» فى اللُّغة. ثم قال: «والفعل فى كثرة العيال رباعى لا مدخل له فى الآية، فقد ذهبت الفصاحة، ولم تنفع الضاد المنطوق بها على الاختصاص».
وانظر إليه عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٢٥] من سورة النساء: ﴿وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات﴾ ... . الآية، حيث يقول: "المسألة الخامسة: قال أبو بكر الرازى إمام الحنفية فى كتاب أحكام القرآن: ليس نكاح الأَمَة ضرورة، لأن الضرورة ما يُخاف منه تلف النفس، أو تلف عضو، وليس فى مسألتنا
 
٢ ‏/ ٣٣٤
 
شىء من ذلك. قلنا: هذا كلام جاهل بمنهاج الشرع، أو متهكم لا يبالى بموارد القول. نحن لم نقل إنه حكم نيط بالضرورة، إنما قلنا: إنه حكم علق بالرخصة المقرونة بالحاجة، ولكل واحد منهما حكم يختص به. وحالة يعتبر فيها. ومَن لم يُفرِّق بين الضرورة والحاجة التى تكون معها الرُخصة، فلا يُعنى بالكلام معه، فإنه معاند أو جاهل، وتقرير ذلك إتعاب للنفس عند مَن لا ينتفع به«.
فأنت ترى من هذه الأمثلة كلها. أن الرجل ليس عَفّ اللسان مع الأئمة، ولا مع أتباعهم، وهذه ظاهرة من ظواهر التعصب المذهبى، الذى يقود صاحبه إلى ما لا يليق به، ويدفعه إلى الخروج عن حد اللطافة والكياسة.
* *
* احتكامه إلى اللُّغة:
ثم إن المؤلف ﵀ كثيرًا ما يحتكم إلى اللُّغة فى استنباط المعانى من الآيات، وفى الكتاب من ذلك أمثلة كثيرة يمكن الرجوع إليها بسهولة.
* *
* كراهته للإسرائيليات:
كما أنه شديد النفرة من الخوض فى الإسرائيليات، ولذلك عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٦٧] من سورة البقرة: ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً﴾ ... الآية، نجده يقول:»المسألة الثانية: فى الحديث عن بنى إسرائيل: كثر استرسال العلماء فى الحديث عنهم فى كل طريق، وقد ثبت عن النبى ﷺ أن قال: «حَدِّثوا عن بنى إسرائيل ولا حَرَج» ومعنى هذا الخبر: الحديث عنهم بما يُخبرون به عن أنفسهم وقصصهم، لا بما يُخبرون به عن غيرهم، لأن أخبارهم عن غيرهم مفتقرة إلى العدالة، وللثبوت إلى منتهى الخبر، وما يُخبرون به عن أنفسهم، فيكون من باب إقرار المرء على نفسه أو قومه، فهو أعلم بذلك، وإذا أخبروا عن شرع لم يلزمه قبوله، ففى رواية مالك عن عمر رضى الله عنه أنه قال: رآنى رسول الله ﷺ وأنا أمسك مصحفًا قد تشرَّمت حواشيه، قال: ما هذا؟ قلت: جزء من التوارة، فغضب وقال: «واللهِ لو كان موسى حيًا ما وسعه إلا اتباعى».
* *
* نفرته من الأحاديث الضعيفة:
كذلك نجد ابن العربى شديد النفرة من الأحاديث الضعيفة، وهو يُحذِّر منها فى
 
٢ ‏/ ٣٣٥
 
تفسيره هذا، فيقول لأصحابه بعد أن بيَّن ضعف الحديث القائل بأن رسول الله ﷺ توضأ مرة وقال: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به»، وتوضأ مرتين مرتين، وقال: «مَن توضأ مرتين مرتين أتاه الله أجره مرتين»، ثم توضأ ثلاثًا ثلاثًا وقال: «هذا وضوئى ووضوء الأنبياء من قبلى، ووضوء أبى إبراهيم»، يقول لهم بعد ما بيَّن ضعف هذا الحديث: «وقد ألقيتُ إليكم وصيتى فى كل ورقة ومجلس، أن لا تشتغلوا من الأحاديث بما لا يصح سنده ...».
هذا والكتاب مطبوع فى مجلدين كبيرين، ومتداول بين أهل العلم.
* * *



٤- الجامع لأحكام القرآن - لأبى عبد الله القرطبى (المالكى)

* ترجمة المؤلف:
مؤلف هذا التفسير: هو الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبى بكر ابن فرْح - بإسكان الراء والحاء المهملة - الأنصارى، الخزرجى، الأندلسى، القرطبى المفسِّر.
كان ﵀ من عباد الله الصالحين، والعلماء العارفين، الزاهدين فى الدنيا، المشغولين بما يعنيهم من أُمور الآخرة، وبلغ من زهده أن أطرح التكلف، وصار يمشى بثوب واحد وعلى رأسه طاقية، وكانت أوقاته كلها معمورة بالتوجه إلى الله وعبادته تارة، وبالتصنيف تارة أخرى، حتى أخرج للناس كتبًا انتفعوا بها. ومن مصنفاته: كتابه فى التفسير المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن»، وهو ما نحن بصدده، وشرح أسماء الله الحُسنى، وكتاب التذكار فى أفضل الأذكار، وكتاب التذكرة بأمور الآخرة، وكتاب شرح التقصى، وكتاب قمع الحرص بالزهد والقناعة ورد ذلك السؤال بالكتب والشفاعة. قال ابن فرحون: لم أقف على تأليف أحسن منه فى بابه وله كتب غير ذلك كثيرة ومفيدة.
سمع من الشيخ أبى العباس بن عمر القرطبى، مؤلف «المفهم فى شرح صحيح مسلم» بعضَ هذا الشرح، وحدَّث عن أبى علىّ الحسن بن محمد البكرى، وغيرهما. وكان مستقرًا بمنية ابن خصيب، وتُوفى ودُفن بها فى شوَّال سنة ٦٧١ هـ (إحدى وسبعين وستمائة من الهجرة)، فرحمه الله رحمة واسعة.
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
وصف العلامة ابن فرحون هذا التفسير فقال: "هو من أجَلِّ التفاسير وأعظمها
 
٢ ‏/ ٣٣٦
 
نفعًا، أسقط منه القصص والتواريخ، وأثبت عوضها أحكام القرآن واستنباط الأدلة، وذكر القراءات والإعراب والناسخ والمنسوخ«، وذكر المؤلف ﵀ فى مقدمة هذا التفسير السبب الذى حمله على تأليفه، والطريق الذى رسمه لنفسه ليسير عليه فيه، وشروطه التى اشترطها على نفسه فى كتابه فقال:»وبعد.. فلما كان كتاب الله هو الكفيل بجمع علوم الشرع الذى استقل بالسُّنَّة والفرض، ونزل به أمين السماء إلى أمين الأرض، رأيت أن أشتغل به مدى عمرى، وأستفرغ فه منتى، بأن أكتب فيه تعليقًا وجيزًا يتضمن نكتًا من التفسير، واللُّغات، والإِعراب، والقراءات، والرد على أهل الزيغ والضلالات، وأحاديث كثيرة شاهدة لما نذكره من الأحكام ونزول الآيات، جامعًا بين معانيها، ومبينًا ما أشكل منها بأقاويل السَلَف ومَن تبعهم من الخَلَف.. وشرطى فى هذا الكتاب: إضافة الأقوال إلى قائليها، والأحاديث إلى مصنفيها، فإنه يقال: من بركة العلم أن يُضاف الأقوال إلى قائليها، والأحاديث إلى مصنفيها، فإنه يقال: من بركة العلم أن يُضاف القول إلى قائله، وكثيرًا ما يجئ الحديث فى كتاب الفقه والتفسير مبهمًا، لا يعرف من أخرجه إلا مَن اطلع على كتب الحديث، فيبقى مَن لا خبرة له بذلك حائرًا لا يعرف الصحيح من السقيم، ومعرفة ذلك علم جسيم. فلا يُقبل منه الاحتجاج به ولا الاستدلال حتى يضيفه إلى مَن خرَّجه من الأئمة الأعلام، والثقات المشاهير من علماء الإسلام، ونحن نشير إلى جُمَل من ذلك فى هذا الكتاب، والله الموفق للصواب. وأضرب عن كثير من قصص المفسِّرين، وأخبار المؤرخين، إلا ما لا بد منه، وما لا غنى عنه للتبيين، واعتضت من ذلك تبيين آي الأحكام، بمسائل تُفسِّر عن معناها، وتُرشد الطالب إلى مقتضاها، فضمنت كل آية تتضمن حكمًا أو حكمين فما زاد مسائل أُبيِّن فيها ما تحتوى عليه من أسباب النزول، والتفسير، والغريب، والحكم. فإن لم تتضمن حكمًا ذكرتُ ما فيها من التفسير والتأويل ... وهكذا إلى آخر الكتاب، وسميته بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السُّنَّة وأحكام الفرقان ...».
والذى يقرأ فى هذا التفسير يجد أن القرطبى ﵀ قد وفَّى بما شرط على نفسه فى هذا التفسير، فهو يعرض لذكر أسباب النزول، والقراءات، والإعراب، ويبين الغريب من ألفاظ القرآن، ويحتكم كثيرًا إلى اللُّغة، ويُكثر من الاستشهاد بأشعار العرب، ويرد على المعتزلة، والقدرية، والروافض، والفلاسفة، وغلاة المتصوفة، ولم
 
٢ ‏/ ٣٣٧
 
يسقط القصص بالمرة، كما تفيده عبارة ابن فرحون، بل أضرب عن كثير منها، كما ذكر فى مقدمة تفسيره، ولهذا نلاحظ عليه أنه يروى أحيانًا ما جاء من غرائب القصص الإسرائيلى.
هذا.. وإن المؤلف ﵀ ينقل عن السَلَف كثيرًا مما أُثِر عنهم فى التفسير والأحكام، مع نسبة كل قول إلى قائله وفاءً بشرطه، كما ينقل عمن تقدمه فى التفسير، خصوصًا مَن أَلَّف منهم فى كتب الأحكام، مع تعقيبه على ما ينقل منها. وممن ينقل عنهم كثيرًا: ابن جرير الطبرى، وابن عطية، وابن العربى، والكيا الهراسى، وأبو بكر الجصَّاص.
وأما من ناحية الأحكام، فإنَّا نلاحظ عليه أنه يفيض فى ذكر مسائل الخلاف ما تعلق منها بالآيات عن قُرْب، وما تعلق بها عن بُعْد، مع بيان أدلة كل قول.
* *
* إنصاف القرطبى وعدم تعصبه:
وخير ما فى الرجل أنه لا يتعصب لمذهبه المالكى، بل يمشى مع الدليل حتى يصل إلى ما يرى أنه الصواب أيًا كان قائله.
فمثلًا عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٤٣] من سورة البقرة: ﴿وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة واركعوا مَعَ الراكعين﴾ .. نجده عند المسألة السادسة عشرة من مسائل هذه الآية يعرض لإمامة الصغير، ويذكر أقوال مَن يجيزها ومَن يمنعها، ويذكر أن من المانعين لها جملة: مالكًا، والثورى، وأصحاب الرأى، ولكنَّا نجده يخالف إمامه لما ظهر له من الدليل على جوازها، وذلك حين يقول: «قلت: إمامة الصغير جائزة إذا كان قارئًا، ثبت فى صحيح البخارى عن عمرو بن سلمة قال: كنا بماء ممر الناس، وكان يمر بنا الناس فنسألهم ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله.. أوحى إليه كذا.. أوحى إليه كذا، فكنت أحفظ هذا الكلام، فكأنما يقر فى صدرى، وكانت العرب تلوم بإسلامها فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبى صادق، فلما كانت وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبى قومى بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم واللهِ من عند نبى الله حقًا.. قال:»صلوا صلاة كذا فى حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذِّن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآنًا«، فنظروا فلم يكن أحد أكثر منى قرآنًا، لما كنت أتلقى من الركبان. فقدَّمونى بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين، وكانت على بُردة إذا سجدتُ تقلَّصت عنى، فقالت امرأة من الحى: ألا تغطون عنا إست قارئكم؟ فاشتروا فقطعوا لى قميصًا، فما فرحتُ بشىء فرحى بذلك القميص».
 
٢ ‏/ ٣٣٨
 
ومثلًا عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [١٧٣] من سورة البقرة: ﴿فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ .. نراه يعقد المسألة الثانية والثلاثين من مسائل هذه الآية فى اختلاف العلماء فيمن اقترن بضرورته معصية، فيذكر أن مالكًا حظر ذلك عليه. وكذا الشافعى فى أحد قوليه، وننقل عن ابن العربى أنه قال: «عجبًا ممن أبيح له ذلك مع التمادى على المعصية، وما أطن أحدًا يقوله، فإن قاله فهو مخطىء قطعًا»، ثم يعقب القرطبى على هذا كله فيقول: «قلت: الصحيح خلاف هذا. فإن إتلاف المرء نفسه فى سفر المعصية أشد معصية مما هو فيه، قال الله تعالى فى الآية [٢٩] من سورة النساء: ﴿وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ﴾ وهذا عام ولعله يتوب فى ثانى الحال. فمتحو التوبة عنه ما كان».
ومثلًا عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [١٨٥] من سورة البقرة: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن﴾ ... . الآية، نجده يعقد المسألة السابعة عشرة من المسائل التى تتعلق بهذه الآية فى اختلاف العلماء فى حكم صلاة عيد الفطر فى اليوم الثانى، فيذكر عن ابن عبد البر أنه لا خلاف عن مالك وأصحابه أنه لا تُصَلَّى صلاة العيد فى غير يوم العيد، ويذكر عنه أيضًا أنه قال: «لو قُضِيَت صلاة العيد بعد خروج وقتها لأشبهت الفرائض، وقد أجمعوا فى سائر السنن أنها لا تُقضى، فهذه مثلها»، ثم يُعَقِّب القرطبى على هذا فيقول: «قلت: والقول بالخروج - يعنى لصلاة العيد فى اليوم الثانى - إن شاء الله أصح، للسُّنَّة الثابتة فى ذلك، ولا يمتنع أن يستثنى الشارع من السُنَن ما شاء، فيأمر بقضائه بعد خروج وقته، وقد روى الترمذى عن أبى هريرة قال: قال رسول الله ﷺ:»مَن لم يُصَلِّ ركعتى الفجر فليُصَلِّهما بعد ما تطلع الشمس«قلت: وقد قال علماؤنا: مَن ضاق عليه الوقت، وصَلَّى الصبح، وترك ركعتى الفجر، فإنه يصليهما بعد طلوع الشمس إن شاء، وقيل: لا يصلهما حينئذ، ثم إذا قلنا يصليهما.. فهل ما يفعله قضاء؟ أو ركعتان ينوب له ثوابهما عن ثواب ركعتى الفجر؟ قال الشيخ أبو بكر: وهذا الجارى على أصل المذهب، وذِكْر القضاء تجوُّز. قلت: ولا يبعد أن يكون حكم صلاة الفطر فى اليوم الثانى على هذا الأصل، لا سيما مع كونها مرة واحدة فى السنة، مع ما ثبت من السُّنَّة. ثم روى عن النسائى بسنده:»أن قومًا رأوا الهلال فأتوا النبى ﷺ فأمرهم أن يفطروا بعد ما ارتفع النهار، وأن يخرجوا إلى العيد من الغد. وفى رواية: ويخرجوا لمُصَلاهم من الغد".
ومثلًا نجده عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [١٨٧] من سورة البقرة: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ﴾ ... . الآية، نجده فى المسألة الثانية عشرة من مسائل هذه
 
٢ ‏/ ٣٣٩
 
الآية يذكر خلاف العلماء فى حكم مَن أكل فى نهار رمضان ناسيًا.. فيذكر عن مالك أنه يفطر وعليه القضاء، ولكنه لا يرضى ذلك الحكم فيقول: «وعند غير مالك ليس بمفطر كل مَن أكل ناسيًا لصومه. قلت: وهو الصحيح، وبه قال الجمهور إن مَن أكل أو شرب ناسيًا فلا قضاء عليه، وإن صومه تام، لحديث أبى هريرة قال: قال رسول الله ﷺ:»إذا أكل الصائم ناسيًا، أو شرب ناسيًا فإنما هو رزق ساقه الله تعالى إليه، ولا قضاء عليه..«.
ومثلًا عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٢٣٦] من سورة البقرة: ﴿لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ مَتَاعًا بالمعروف حَقًّا عَلَى المحسنين﴾، نجده يذكر فى المسألة السادسة من مسائل هذه الآية اختلاف العلماء فى حكم المتعة، فيذكر مَن يقول بوجوبها، ويذكر مَن يقول بندبها، ويعد فى ضمن القائلين بالندب مالكًا ﵀، ثم يقول:»تمسك أهل القول الأول بمقتضى الأمر، وتمسك أهل القول الثانى بقوله تعالى: ﴿حَقًّا عَلَى المحسنين﴾، و﴿عَلَى المتقين﴾ ولو كانت واجبة لأطلقها على الخلق أجمعين. والقول الأول أولى، لأن عمومات الأمر بالامتناع فى قوله: ﴿مَتِّعُوهُنَّ﴾، وإضافة الإمتاع إليهم بـ «لام التمليك» فى قوله: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ﴾ أظهر فى الوجوب منه فى الندب. وقوله: ﴿عَلَى المتقين﴾ تأكيد لإيجابها، لأن كل واحد يجب عليه أن يتقى الله فى الإشراك به ومعاصيه، وقد قال تعالى فى القرآن فى الآية [٢] من سورة البقرة: ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ .
* *
* موقفه من حملات ابن العربى على مخالفيه:
كذلك نجد القرطبى ﵀ كثيرًا ما يدفعه الإنصاف إلى أن يقف موقف الدفاع عمن يهاجمهم ابن العربى من المخالفين، مع توجيه اللَّوم إليه أحيانًا، على ما يصدر منه من عبارات قاسية فى حق علماء المسلمين، الذاهبين إلى ما لم يذهب إليه.
فمثلًا عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٣] من سورة النساء: ﴿ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ﴾ .. نراه يروى عن الشافعى أنه فسَّرها على معنى: الا تكثر عيالكم، ثم يقول: "قال الثعلبى: وما قال هذا غيره وإنما يقال: أعال يعيل إذا كثر عياله، وزعم ابن العربى: أن عال على سبعة معان لا ثامن لها، يقال عال: مال، الثانى: زاد، الثالث: جار.
 
٢ ‏/ ٣٤٠
 
الرابع: افتقر. الخامس: أثقل.. حكاه ابن دريد. قالت الخنساء: «ويكفى العشيرة ما عالها». السادس: عال: قام بمؤنة العيال، ومنه قوله ﵇: «وابدأ بمن تعول». السابع: عال: غلب، ومنه: عيل صبره أى غلب، ويقال: أعال الرجل: كثر عياله. وأما «عال» بمعنى كثر عياله فلا يصح، قلت: أما قول الثعلبى: «ما قاله غيره» فقد أسنده الدارقطنى فى سُنَنه عن زيد بن أسلم، وهو قول جابر بن زيد.. فهذان إمامان من علماء المسلمين وأئمتهم قد سبقا الشافعى إليه. وأما ما ذكره ابن العربى من الحصر وعدم الصحة فلا يصح. وقد ذكرنا: عال الأمر: اشتد وتفاقم.. حكاه الجوهرى. وقال الهروى فى غريبه: «وقال أبو بكر: يقال: عال الرجل فى الأرض يعيل فيها: إذا ضرب فيها. وقال الأحمر: يقال: عالنى الشىء يعيلنى عَيْلًا ومعيلًا: إذا أعجزك، وأما»عال«: كثر عياله، فذكره الكسائى وأبو عمرو الدورى وابن الأعرابى. قال الكسائى أبو الحسن علىّ ابن حمزة: العرب تقول عال يعول وأعال يعيل أى كثر عياله. وقال أبو حاتم: كان الشافعى أعلم بلغة العرب منا.. ولعله لغة. قال الثعلبى المفسِّر: قال أستاذنا أبو القاسم ابن حبيب: سألت أبا عمرو الدورى عن هذا - وكان إمامًا فى اللُّغة غير مدافع - فقال: هى لغة حِمْيَر وأنشد:
وإن الموت يأخذ كل حى ... بلا شك وإن أمشى وعالا
يعنى: وإن كثر ماشيته وعياله. وقال أبو عمرو بن العلاء: لقد كثرت وجوه العرب حتى خشيتُ أن آخذ على لاحن لحنًا. وقرأ طلحة بن مصرف:»ألا تعيلوا«، وهي حُجَّة الشافعى رضى الله عنه. وقدح الزجَّاج وغيره فى تأويل»عال«من العيال بأن قال: إن الله تعالى قد أباح كثرة السرارى وفى ذلك تكثير العيال. فكيف يكون أقرب إلى ألا تكثر العيال؟ وهذا القدح غير صحيح، لأن السرارى إنما هى مال يُتصرف فيه بالبيع، وإنما القادح: الحرائر ذوات الحقوق الواجبة. وحكى ابن الأعرابى: أن العرب تقول: عال الرجل إذا كثر عياله».
ومثلًا عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٦٧] من سورة النحل: ﴿وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا﴾ ... نراه يعيب على ابن العربى تشنيعه على مَن يقول من الحنفية وغيرهم بحل النبيذ، وجعله إياهم مثل أغبياء الكفار فيقول: «وهذا تشنيع شنيع، حتى يلحق فيه العلماء الأخيار فى قصور الفهم بالكفار».
وعلى الجملة.. فإن القرطبى ﵀ فى تفسيره هذا حُرٌ فى بحثه، نزيهٌ فى نقده، عفٌ فى مناقشته وجدله، مُلِمٌ بالتفسير من جميع نواحيه، بارع فى كل فن استطرد إليه وتكلَّم فيه.
 
٢ ‏/ ٣٤١
 
أما الكتاب فقد كان الناس محرومين منه إلى زمن قريب، ثم أراد الله له الذيوع بين أُولى العلم فقامت دار الكتب المصرية بطبعه، فتم منه إلى الآن أربعة عشر جزءًا تنتهى بآخر سورة فاطر، وعسى أن يُعَجِّل الله بإتمام ما بقى منه، حتى يتم به النفع، إنه سميع مجيب.
* * *



٥- كنز العرفان فى فقه القرآن لمقداد السيورى (من الإمامية الإثنا عشرية)

* ترجمة المؤلف:
مؤلف هذا التفسير، هو مقداد بن عبد الله بن محمد بن الحسن بن محمد السيورى أحد علماء الإمامية الإثنا عشرية، والمعروف بينهم بالعلم والفضل، والتحقيق والتدقيق، وله مؤلفات كثيرة، منها: تفسيره هذا، ومنها التنقيح الرائع فى شرح مختصر الشرائع، وشرح مبادئ الأصول ... وغير ذلك، وكان فى أواخر القرن الثامن وأوائل القرن التاسع الهجرى.
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
يتعرَّض هذا التفسير لآيات الأحكام فقط، وهو لا يتمشى مع القرآن سورة سورة على حسب ترتيب المصحف ذاكرًا ما فى كل سورة من آيات الأحكام كما فعل الجصَّاص وابن العربى مثلًا، بل طريقته فى تفسيره: أنه يعقد فيه أبوابًا كأبواب الفقه، ويدرج فى كل باب منها الآيات التى تدخل تحت موضوع واحد، فمثلًا يقول: باب الطهارة، ثم يذكر ما ورد فى الطهارة من الآيات القرآنية، شارحًا كل آية منها على حدة، مبينًا ما فيها من الأحكام على حسب ما يذهب إليه الإمامية الإثنا عشرية فى فروعهم، مع تعرضه للمذاهب الأخرى، ورده على مَن يخالف ما يذهب إليه الإمامية الإثنا عشرية.
هذا.. وإن طريقته التى يسلكها فى تدعيم مذهبه وترويجه، وإبطال مذهب مخالفيه، لا تخرج عن أمرين اثنين:
أولهما: الدليل العقلى.
ثانيهما: دعوى أن ما ذكره هو ما ذهب إليه أهل البيت.
أما الدليل العقلى، فيندر أن يسلم له كمستند يستند إليه فى صحة ما يشذ به..
 
٢ ‏/ ٣٤٢
 
وأما دعوى أن ما ذكره هو ما ذهب إليه أهل البيت، فتلك دعوى كثيرًا ما تكون كاذبة، يلجأ إليها الشيعة عندما يعوزهم الدليل، وتخونهم الحُجَّة، وإليك بعض ما جاء فى هذا التفسير لتقف على مقدار شذوذ صاحبه:
فمثلًا عند قوله تعالى فى الآية [٤٣] من سورة النساء: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ .. يقول: ﴿فَتَيَمَّمُواْ﴾: أي فتعمدوا واقصدوا، ﴿صَعِيدًا طَيِّبًا﴾: أى شيئًا من وجه الأرض - كقوله: ﴿صَعِيدًا زَلَقًا﴾ - ﴿طَيِّبًا﴾: أى طاهرًا، ولذلك قال أصحابنا: لو ضرب المتيمم يده على حجر صلب ومسح: أجزأه، وبه قالت الحنفية. وقالت الشافعية: لا بد أن يعلق باليد شىء، لقوله: ﴿فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ﴾ [المائدة: ٦] وفيه نظر، لجواز كون»من«هنا ابتدائية. والوجه: المراد بعضه، وهو الجبهة عند أكثر أصحابنا، إما لكون الباء للتبعيض، أو للنصوص عن أهل البيت ﵈. فمسح الجبهة إلى طرف أنفه الأعلى، وكذا المراد باليدين: ظهر اليد من الزند إلى أطراف الأصابع».
ويقول عندما تعرَّض لآية التيمم فى سورة المائدة: «وتجب ضربة واحدة للوضوء واثنتان للغسل»، ثم يرد على الحنفية والشافعية القائلين بأن التيمم ضربتان: واحدة للوجه وأخرى لليدين، وأن المراد بالوجه كله، وباليدين إلى المرفقين.. يرد عليهم فيقول: «وروايات أهل البيت تدفع ذلك».
وعندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٢٣٠] من سورة البقرة: ﴿فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ .. يقول: «مدلول الآية أنه إذا طلَّقها الزوج عقيب الطلقتين تنكح زوجًا غير ذلك المُطلِّق، وهذا الحكم عند أصحابنا مخصوص بما عدا طلاق العِدَّة، فإن ذلك يحرم فى التاسعة أبدًا - وطلاق العِدَّة هو أن يُطلِّق المدخول بها على الشرائط ثم يراجعها فى العِدَّة، ثم يُطلِّقها مرة ثانية ويفعل كما فعل أولًا، ثم يُطلِّقها ثالثة، فإذا فعل ذلك ثلاثة أدوار حرمت عليه عندهم أبدًا».
وهكذا يسير المؤلف بهذا الشذوذ فى كثير من الأحكام، وبهذا التعسف والتخبط فى فهم نصوص القرآن، والذى يقرأ الكتاب يرى الكثير من ذلك، ويعجب من محاولاته الفاشلة فى استنباط ما يشذ به من الآيات التى تجبهه، ولا يمكن أن تتمشى مع مذهبه بحال من الأحوال. هذا.. وإن الكتاب مطبوع على هامش تفسير الحسن العسكرى، وموجود بدار الكتب.
* * *
 
٢ ‏/ ٣٤٣
 


٦- الثمرات اليانعة والأحكام الواضحة القاطعة ليوسف الثلائى (الزيدى)

* ترجمة المؤلف:
مؤلف هذا التفسير هو شمس الدين يوسف بن أحمد بن محمد بن أحمد ابن عثمان الثلائى، الزيدى الفقيه، أحد أصحاب الإمام المهدى، وأحد أساطين العلم وجبال التحقيق عند أصحابه. ارتحل الناس إليه من الأقطار إلى «ثلا»، وكان إذا قرأ امتلأ الجامع بالطلبة، وباقيهم بكتبهم فى الطاقات من خارج المسجد.
أخذ عن الفقيه حسن النحوى، وله تصانيف، منها: الزهور والرياض، و«الثمرات اليانعة»، وهو أجَلّ مصنف عند الزيدية، وهو ما نحن بصدده الآن، توفى ﵀ بـ «ثلا» فى شهر جمادى الآخرة سنة ٨٣٢ هـ (اثنتين وثلاثين وثمانمائة من الهجرة) .
* *
* التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
يقع هذا التفسير فى ثلاثة أجزاء كبار، ومنه نسخة خطية كاملة بدار الكتب المصرية، ويوجد بالمكتبة الأزهرية الجزء الثانى فقط، وهو مخطوط فى مجلد كبير، يبدأ من قوله تعالى فى الآية [٤] من سورة المائدة: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ﴾ ... . الآية، وينتهى عند قوله تعالى فى الآية [٣٦] من سورة النور: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه﴾ .
قرأت فى هذا التفسير فوجدت المؤلف يقتصر على آيات الأحكام، متمشيًا مع ترتيب المصحف فى سورة وآياته. يذكر الآية أولًا، ثم يذكر ما ورد فى سبب نزولها إن كان لها سبب، ثم يقول: ولهذه الآية ثمرات هى أحكام شرعية: الأولى: كذا، والثانية: كذا ... إلى أن ينتهى من كل ما يتعلق بالآية من الأحكام.
* *
* اعتماد المؤلف على الروايات التى لا تصح:
ويُلاحَظ على هذا التفسير أن مؤلفه لا يتحرى الصحة فيما ينقله من الأحاديث. وما يذكره من ذلك يمر عليه مرًا سابريًا بدون أن يعقب عليه بكلمة واحدة تُشعر بضعف الحديث أو وضعه، فمثلًا عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٥٥] من سورة المائدة: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ .. نراه يذكر الروايات الواردة فى سبب نزول هذه الآية، ويذكر ضمن ما يذكر: أنها نزلت فى علىّ بن أبى طالب لمَّا تصدَّق بخاتمه فى الصلاة وهو راكع.. وقد علمنا أن هذه رواية موضوعة لا أساس لها من الصحة، ولكن
 
٢ ‏/ ٣٤٤
 
المؤلف يذكرها، ثم يأخذ فى تفريع الأحكام على هذه القصة المكذوبة، كأنها عنده من الثابت الصحيح.
* *
* تقديره لكشاف الزمخشرى:
كذلك يُلاحَظ على المؤلف فى تفسيره هذا أنه كثير النقل عن الكشاف للزمخشرى، مما يدل على أنه معجب به وبتفسيره إلى حد كبير، ولعل ذلك ناشىء عما بين الرجلين من صلة التمذهب بمذهب الاعتزال.
* *
* مسلكه فى أحكام القرآن:
أما مسلك المؤلف فى أحكام القرآن، فإنه يسرد أقوال السَلَف والخَلَف فى المسألة، فيعرض لما ورد عن الصحابة والتابعين، ويعرض لمذهب الشافعية، والحنفية، والمالكية، والظاهرية، والإمامية ... . وغيرهم من فقهاء المذاهب، ذاكرًا لكل مذهب دليله ومستنده فى الغالب. كما يذكر بعناية خاصة مذهب الزيدية واختلاف علمائهم فى المسألة التى يعرض لها، مع الإفاضة فى بيان أدلتهم التى استندوا إليها، والرد على مَن يخالفهم فيما يذهبون إليه.. كل هذا بدون أن نلحظ على الرجل شيئًا من القدح فى مخالفيه، كما يفعل غيره ممن سبق الكلام عنهم. وإليك بعض ما جاء فى هذا التفسير لتقف على مقدار دفاع المؤلف عن مذهبه، وعمله على تأييده بالبراهين والأدلة:
** رأيه فى نكاح الكتابيات:
فمثلًا عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٥] من سورة المائدة: ﴿اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات﴾ ... . إلى قوله: ﴿والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ ... . الآية، نراه يعرض لأقوال العلماء فى حكم نكاح الكتابيات فيقول: "ظاهر الآية جواز نكاح الكتابية، وهذا مذهب أكثر الفقهاء والمفسِّرين، ورواية عن زيد بن علىّ، والصادق، والباقر، واختاره الإمام يحيى بن حمزة وقال: إنه إجماع الصدر الأول من الصحابة، وإن عثمان قد نكح نائلة بنت الفرافصة وهى نصرانية، فلما توفى عثمان خطبها معاوية، فقالت: وما يعجبك منى؟ قال: ثنياتك، فقلعتهما وأمرت بهما إليه، ونكح طلحة نصرانية، ونكح حذيفة يهودية. وقال القاسم، والهادى، والناصر، ومحمد بن عبد الله، وعامة القاسمية، وهو مروى عن ابن عمر: إنه لا يجوز لمسلم نكاح كافرة، كتابية كانت أو غيرها، واحتجوا بقوله تعالى فى سورة البقرة: ﴿وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ﴾ [البقرة: ٢٢١] .. قالوا هذا فى المشركات لا فى الكتابيات. قلنا: اسم المشرك ينطلق على أهل الكتاب، بدليل قوله تعالى - بعد ذكر اليهود والنصارى فى قوله: ﴿اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله﴾ ... .
 
٢ ‏/ ٣٤٥
 
إلى قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: ٣١] . وعن ابن عمر: لا أعلم شركًا أعظم من قول النصارى إن ربها عيسى. وعن عطاء: قد كثَّر الله المسلمات، وإنما رُخِّص لهم يومئذ. قالوا: إنه تعالى عطف أحدهما على الآخر فدل أنهما غيران حيث قال تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين﴾ [البينة: ١] .. قلنا: هذا كقوله تعالى: ﴿الوصية لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين﴾ [البقرة: ١٨٠] .. قالوا: الآية مُصرِّحة بالجواز فى قوله تعالى: ﴿والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب﴾ [المائدة: ٥] .. قلنا: قوله تعالى فى سورة الممتحنة: ﴿وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر﴾ [الممتحنة: ١٠]، وقوله تعالى فى سورة النور: ﴿الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ والطيبات لِلطَّيِّبِينَ والطيبون لِلْطَّيِّبَاتِ﴾
[النور: ٢٦]، وقوله تعالى فى سورة النساء: ﴿وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم﴾ [النساء: ٢٥] .. فشرط الإيمان فى هذا يقتضى التحريم، فتتأول هذه الآية بأنه أراد المحصنات من أهل الكتاب الذين قد أسلموا، لأنهم كانوا يتكرهون ذلك، فسماهم باسم ما كانوا عليه. وقد ورد مثل هذا فى كتاب الله تعالى، قال الله تعالى: ﴿الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أولائك يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ [البقرة: ١٢١]، وقوله تعالى ﴿الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ [البقرة: ١٤٦]، وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله﴾ [آل عمران: ١٩٩]- قالوا: سبب النزول وفعل الصحابة يدل على الجواز، وإنَّا نجمع بين الآيات الكريمة فنقول: قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات﴾ [البقرة: ٢٢١] عام ونخصه بقوله تعالى: ﴿والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ﴾ [المائدة: ٥] .. أو نقول: أراد بالمشركات الوثنيات، وبالمحصنات من الذين أُوتوا الكتاب ما أفاده الظاهر. أو يكون قوله تعالى: ﴿والمحصنات﴾ ناسخًا لتحريم الكتابيات بقوله: ﴿وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات﴾ .. قلنا: نقل ما ذكرتم بما روى أن كعب بن مالك أراد أن يتزوج بيهودية أو نصرانية فسأل النبى صلى الله عليه وآله عن ذلك فقال: «إنها لا تحصن ماءك». ويُروى أنه نهاه عن ذلك. وبأنَّا نتتأوّل قوله تعالى: ﴿والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب﴾، فنجمع ونقول: وتخصيص المشركات بالمحصنات من الذين أُوتوا الكتاب متراخ، والبيان لا يجوز أن يتراخى.. قالوا: روى جابر بن عبد الله عن النبى ﵇ أنه قال: «أُحِلَّ لنا ذبائح أهل الكتاب وأُحِلَّ لنا نساؤهم، وحُرِّم عليهم أن يتزوجوا نساءنا»، قال فى الشفاء: قال علماؤنا: هذا حديث ضعيف النقل. قالوا: قوله ﷺ وآله فى المجوس: «سُنُّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب» ... . الخبر، فأفاد جواز
 
٢ ‏/ ٣٤٦
 
ذبائحهم، ونكاح نسائهم، قلنا: الجواز منسوخ بأدلة التحريم. ثم إنَّا نُقَوِّى أدلتنا بالقياس، فنقول: كافرة فاشبهت
الحربية، أو لمَّا حرمت الموارثة حرمت المناكحة، أو لما حرَّم نكاح الكافر للمسلمة حرَّم العكس. قالوا: لا حكم للاعتبار مع الأدلة».
* *
** رأيه فى المسح على الخُفَّين:
ومثلًا عندما تعرَّض لقوله تعالى فى الآية [٦] من سورة المائدة: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة﴾ ... . الآية، نراه يعرض لمسألة المسح على الخُفَّين فيقول: "إن المسح على الخُفَّين والجوربين لا يجوز، وهو مروى عن علىّ ﵇، وابن عباس، وعمَّار بن ياسر، وأبى هريرة، وعائشة. وقال عامة الفقهاء: إنه يجوز المسح عليهما. حجتنا هذه الآية، وهى قوله تعالى: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ﴾ فأمرت بتطهير الرجلين، والماسح على الخُفَّين لا يكون مُطهِّرًا لهما، وكذلك الأخبار التى دلت على الغسل للقدمين. فأما ما رُوِىَ أنه صلى الله عليه وآله مسح على الخفين وأمر به، فهذه الأخبار كانت بمكة وبعد هجرته صلى الله عليه وآله، ثم نزلت سورة المائدة بعد ذلك فكانت ناسخة، ويدل على هذا ما رواه زيد بن علىّ عن آبائه ﵈ عن علىّ ﵇ قال: لما كان فى ولاية عمر جاء سعد بن أبى وقاص فقال: يا أمير المؤمنين؛ ما لقيتُ من عمَّار، قال: وما ذاك؟ قال: خرجتُ وأنا أريدك ومعى الناس، فأمرتُ مناديًا فنادى بالصلاة، ثم دعوتُ بطهور فتطَّهرت ومسحت على خُفِّى، وتقدَّمت أُصلى، فاعتزلنى عمَّار، فلا هو اقتدى بى ولا هو تركنى، فجعل ينادى من خلفى: ياسعد؛ أصلاة من غير وضوء؟ فقال عمر: يا عمّار؛ أخرج مما جئتَ به، فقال: نعم.. كان المسح قبل المائدة، قال عمر: يا أبا الحسن؛ ما تقول؟ قال: أقول إن المسح كان من رسول الله ﵌ فى بيت عائشة، والمائدة نزلت فى بيتها، فأرسل عمر إلى عائشة فقالت: كان المسح قبل المائدة، فقل لعمر: والله لأن يُقطع قدماى بعقبهما أحبُّ إلىّ من أن أمسح عليهما، فقال عمر: لا تأخذ بقول امرأة، ثم قال: أنشد الله امرءًا شهد المسح من رسول الله لما قام، فقام ثمانية عشر رجلًا كلهم رأى رسول الله صلى الله عليه وآله يمسح وعليه جُبَّة شامية ضيقة الكمين، فأخرج يده من تحتها ثم مسح على خُفَّيه، فقال عمر: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: سلهم؛ أقبل المائدة أم بعدها؟ فسألهم، فقالوا: ما ندرى، فقال علىّ ﵇: أنشد الله امرءًا مسلمًا علم أن المسح قبل المائدة لما قام، فقام اثنان وعشرون رجلًا،
فتفرَّق القوم وهؤلاء يقولون: لا نترك ما رأينا.
 
٢ ‏/ ٣٤٧
 
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس: والله ما مسح رسول الله بعد المائدة، ولأن أمسح على ظهر عير بالفلاة أحبُّ إلىّ من أن أمسح على الخُفَّين. وعن علىّ ﵇، سبق الكتاب الخُفَّين - قيل معناه: قطع - وعن أبى هريرة: ما أُبالى على خُفَّى مسحتُ أو على ظهر حمار. فثبت للنسخ بما ذكر. وأما قول جرير: رأيت رسول الله يمسح، وكان إسلامه بعد المائدة فروايته لا تُقبل مع إنكار أمير المؤمنين، لأنه لحق بمعاوية فكان ذلك قدحًا. هذا كلام أهل المذهب والمسألة إجماعية من أهل البيت ﵈».
وهكذا نجد المؤلف ﵀ يناقش مخالفيه من أصحاب المذاهب الأخرى مناقشة حادة، وإن دلَّت على شىء فهو قوة ذهن الرجل، وسعة اطلاعه. هذا.. ولا يكاد القارئ لهذا التفسير يجد فيه خلافًا كثيراَ للمذاهب الفقهية الأخرى، كما هو الشأن فى كتب التفسير الفقهى للإمامية الإثنا عشرية، وهذا راجع إلى تقارب وجهات النظر بين الزيدية وأهل السُّنَّة فى أصول الفقه وفروعه.
* * *
 
٢ ‏/ ٣٤٨

عن الكاتب

Tanya Ustadz

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية