الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

معرفة الشافعي بأصول الكلام وصحة اعتقاده فيها

معرفة الشافعي بأصول الكلام وصحة اعتقاده فيها

 اسم الكتاب: مناقب الشافعي للبيهقي
اسم المؤلف: أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي (٣٨٤ - ٤٥٨ هـ)
اسم المحقق: السيد أحمد صقر
الناشر: مكتبة دار التراث - القاهرة
الطبعة: الأولى، ١٣٩٠ هـ - ١٩٧٠ م
عدد الأجزاء: ٢
أعده للمكتبة الشاملة: محمد المنصور (٢١/ ٧/ ١٤٣٦ هـ = ١٠/ ٥/ ٢٠١٥ م)
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
صفحة المؤلف: [أبو بكر البيهقي]
 الموضوع: سيرة وترجمة العالم النبيل الإسلامي
 

فهرس الموضوعات 

  1. -٣٠ - باب: ما يستدل به على معرفة الشافعي بأصول الكلام، وصحة اعتقاده فيها
    1.  باب ما يؤثر عنه في الإيمان
  2. -٣١ - باب: ما يؤثر عنه، رحمه الله، في دلائل التوحيد
  3. -٣٢ - باب: ما يؤثر عن الشافعي، رحمه الله، في أسماء الله، وصفات ذاته، وأن القرآن كلام الله وكلامه من صفات ذاته
  4. -٣٣ - باب: ما يؤثر عنه في إثبات المشيئة لله عز وجل وهي من صفات الذات 
  5. -٣٤ - باب ما يؤثر عنه في إثبات الرؤية
  6. -٣٥ - باب: ما يؤثر عنه في تفضيل النبي، صلى الله عليه وسلم، على جميع الخلق، وإثبات الشفاعة له
  7. -٣٦ - باب: ما يؤثر عنه في الذنوب التي هي دون الكفر بالله عز وجل
  8. -٣٧ - باب: ما يؤثر عنه فيما يلحق الميت من فعل غيره
  9. -٣٨ - باب: ما يؤثر عنه في الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم
  10. -٣٩ - باب: ما يؤثر عنه في جملة الصحابة، رضي الله عنهم وعنه
  11. -٤٠ - باب: ما يؤثر عنه في قتال أمير المؤمنين: علي بن أبي طالب أهل القبلة
  12. العودة الي كتاب مناقب الشافعي للبيهقي

 

 باب ما يستدل به على معرفة الشافعي، بأصول الكلام، وصحة اعتقاده فيها

* * *

وهذا الباب يشتمل على أبواب. منها:

باب ما يؤثر عنه في الإيمان

أخبرنا أبو عبد الله: محمد بن عبد الله الحافظ، قال: حدثني الزبير بن عبد الواحد الحافظ، بأَسَدَابَاذ، قال: حدثني يوسف بن عبد الأحد، قال: حدثنا الربيع بن سليمان، قال:

سمعت الشافعي، رضي الله عنه، يقول: الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص.

أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، قال: حدثنا أبو العباس الأصم، قال: حدثنا الربيع، قال:

حدثنا الشافعي - يعني في مسألة ذكرها في كتاب السِّيَر [١]: وهكذا إن صلى فالصلاة من الإيمان.

وأخبرنا أبو سعيد، قال: حدثنا أبو العباس، قال: حدثنا الربيع، قال:

(١) في ا: «السنن».

[م - ٢٥] مناقب

قال الشافعي [١] - يعني في «كتاب الذّبائح» في مسألة ذكرها: وأُحبّ أن يكثر الصلاة عليه. يعني على النبي، صلى الله عليه وسلم.

قال الشافعي: فصلّى الله عليه في كل الحالات؛ لأن ذكر الله والصلاة عليه إيمان بالله، وعبادة له يؤجر عليها، إن شاء الله، من قالها.

ثم ساق [٢] الكلام إلى أن قال [٣]: وما يصلِّي عليه أحد إلا إيماناً بالله، وإعظاماً له، وتقرباً إليه، وقُرْبةً بالصلاة منه وزُلْفَى.

* * *

أخبرنا أبو عبد الله: الحسين بن محمد الدينوري، بالدَّامَغَان، قال: حدثنا ظفران بن الحسين، قال: حدثنا أبو محمد بن أبي حاتم الرازي، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا عبد الملك بن عبد الحميد المَيْمُوني، قال: حدثني أبو عثمان: محمد بن محمد الشافعي، قال:

سمعت أبي: محمد بن إدريس الشافعي، يقول ليلة للحميدي: ما يحتج عليهم - يعني على أهل الإرجاء - أَحَجَّ من قوله عز وجل: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا

(١) في الأم ٢/ ٢٠٤.

(٢) في هـ، ح: «وساق».

(٣) يشير إلى قول الشافعي:

«ولسنا نعلم مسلما، ولا نخاف عليه أن تكون صلاته عليه، صلى الله عليه وسلم، إلا الإيمان بالله، ولقد خشيت أن يكون الشيطان أدخل، على بعض أهل الجهالة، النهي عن ذكر اسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عند الذبيحة؛ ليمنعهم الصلاة عليه في حال لمعنى يعرض في قلوب أهل الغفلة، وما يصلى. . الخ».

راجع الأم ٢/ ٢٠٥.

اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [١].

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: أخبرني أبو أحمد بن أبي الحسن، قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد، قال: سمعت أبي يقول: سمعت حرملة يقول:

اجتمع حفص الفرد ومِصلان الأنماطي [٢] عند الشافعي بمصر فتكلما في الإيمان، فاحتج مصلان في الزيادة والنقصان، واحتج الفرد في الإيمان قولا، فَعَلا حفص الفرد على مصلان، وقوى عليه وضعف مصلان، فشق على الشافعي؛ فأخذ المسألة على أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، فطحن حفص الفرد وقطعه [٣].

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: أخبرني أبو عبد الله: محمد بن إبراهيم المؤذن، عن عبد الواحد بن محمد الأرغياني، عن أبي محمد الزّبيري، قال:

قال رجل للشافعي: أي الأعمال عند الله أفضل؟

قال الشافعي: ما لا يقبل عملا إلا به. قال: وما ذاك؟ قال: الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو، أعلى الأعمال درجة، وأشرفها منزلة، وأسناها حظًّا.

قال الرجل: ألا تخبرني عن الإيمان: قول وعمل، أو قول بلا عمل؟

(١) سورة البينة: ٥ وراجع الخبر في طبقات السبكي ١/ ٢٢٧، وتوالي التأسيس ص ٦٤، والحلية ٩/ ١١٥، وأحكام القرآن ١/ ٤٠ وآداب الشافعي ص ١٩١، وهامشه.

(٢) ليست في ح.

(٣) راجع الحلية ٩/ ١١٥ وآداب الشافعي ص ١٩٢، وهامشه.

قال الشافعي: الإيمان عمل لله، والقول بعض ذلك العمل.

قال الرجل: صف لي ذلك؛ حتى أفهمه.

قال الشافعي: إن للإيمان حالات ودرجاتٍ وطبقاتٍ، فمنها التام المُنْتَهِي تمامه، والناقص البيِّن نقصانه، والراجح الزائد رجحانه.

قال الرجل: وإن الإيمان ليتمّ وينقص، ويزيد؟ قال الشافعي: نعم.

قال: وما الدليل على ذلك؟

قال الشافعي: إن الله، جل ذكره، فرض الإيمان على جوارح بني آدم، فقسمه فيها، وفرقه عليها، فليس من جوارحه جارحة إلا وقد وكلت من الإيمان بغير ما وكلت به أختها، بفرض من الله تعالى:

فمنها: «قلبه» الذي يعقل به، ويفقه، ويفهم، وهو أمير بدنه الذي لا ترد الجوارح، ولا تصدر إلا عن رأيه وأمره.

ومنها: «عيناه» اللتان ينظر بهما، و «أذناه» اللتان يسمع بهما، و «يداه» اللتان يبطش بهما، و «رجلاه» اللتان يمشي بهما و «فرجه» الذي البَاهُ من قِبَلِه [١]، و «لسانه» الذي ينطق به، و «رأسه» الذي فيه وجهه.

فرض على «القلب» غير ما فرض على «اللسان»، وفرض على «السمع» غير ما فرض على «العينين»، وفرض على «اليدين» غير ما فرض على «الرجلين»، وفرض على «الفرج» غير ما فرض على «الوجه».

(١) في ا: «قلبه».

فأما «فرض الله على القلب من الإيمان»: فالإقرار والمعرفة والعَقْد، والرضا والتسليم بأنّ الله لا إله إلا هو وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأن محمداً، صلى الله عليه وسلم، عبده ورسوله، والإقرار بما جاء من عند الله من نَبِيّ أو كتاب. فذلك ما فرض الله، جل ثناؤه، على القلب، وهو عمله [١]: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [٢]} وقال: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [٣]} وقال: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [٤]} وقال: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ [٥]} فذلك ما فرضَ الله على القلب من الإيمان، وهو عمله، وهو رأس الإيمان.

«وفرض [الله [٦]] على اللسان»: القولَ والتعبيرَ عن القلب بما [٧] عَقَد [٨] وأَقرَّ به، فقال في ذلك: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ [٩]} وقال: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [١٠]} فذلك ما فرض الله على اللسان من القول، والتعبير عن القلب، وهو عمله، والفرض عليه من الإيمان.

(١) في ح: «علمه».

(٢) سورة النحل: ١٠٦.

(٣) سورة الرعد: ٢٨.

(٤) سورة المائدة: ٤١.

(٥) سورة البقرة: ٢٨٤.

(٦) ليست في اولا في هـ.

(٧) في ا: «ثم» وهو تحريف.

(٨) في هـ: «عقل» وهو تصحيف.

(٩) سورة البقرة: ١٣٦.

(١٠) سورة البقرة: ٨٣.

وفرض الله [١] على «السمع»: أن يتنزه عن الاستماع إلى ما حرّم الله، وأن يُغْضى [٢] عما نهى الله عنه، فقال في ذلك: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [٣]} ثم استثنى موضع النسيان، فقال جل وعز: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ} أي: فقعدت معهم: {فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [٤]} وقال: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ [٥]} وقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} إلى قوله: {لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ [٦]} وقال: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ [٧]} وقال: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [٨]} فذلك ما فرض الله، جلّ ذكره، على السمع من التّنْزِيه عما لا يحلّ له، وهو عمله، وهو من الإيمان.

و «فرض على العينين»: أن لا ينظر بهما إلى ما حرّم الله، وأن يغضيهما عما نهاه عنه، فقال، تبارك وتعالى، في ذلك: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [٩]} الآيتين: أن ينظر أحدهم إلى فرج أخيه، ويحفظ فرجه من أن ينظر إليه.

وقال: كلّ شيء من حفظ الفرج، في كتاب الله، فهو من الزنا إلا هذه الآية، فإنها من النظر.

(١) ليست في ا.

(٢) في ح، هـ: «يغض».

(٣) سورة النساء: ١٤٠.

(٤) سورة الأنعام ٦٨.

(٥) سورة الزمر: ١٨.

(٦) سورة المؤمنون: ١ - ٤.

(٧) سورة القصص: ٥٥.

(٨) سورة الفرقان: ٧٢.

(٩) سورة النور: ٣٠، ٣١.

فذلك ما فرض الله على العينين من غَضِّ البصر، وهو عملها، وهو من الإيمان.

ثم أخبر عما فرض على القلب والسمع والبصر، في آية واحدة، فقال: سبحانه وتعالى، في ذلك {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [١]} وقال: يعني وفَرَضَ على الفرج: أن لا يهتكه [٢] بما حرّم الله عليه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ [٣]} وقال: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ [٤]} الآية. يعني بالجلود: الفروج [٥] والأفخاذ. فذلك [٦] ما فرض الله على الفروج من حفظها عما لا يحل له، وهو عملها.

«وفرض على اليدين»: أن لا يبطش بهما [إلى ما حرم الله تعالى، وأن يبطش بهما [٧]] إلى [٨] ما أمر الله من الصدقة وصلة الرحم، والجهاد في سبيل الله، والطهور للصلوات، فقال في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [٩]} إلى آخر الآية. وقال: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً [١٠]} لأن الضرب، والحرب، وصلة الرحم، والصدقة، من علاجها.

(١) سورة الإسراء: ٣٦.

(٢) في ا: «أن لا يهتك ما حرم ...»

(٣) سورة المؤمنون: ٥.

(٤) سورة فصلت: ٢٢.

(٥) في ا: «الفروج» وهو خطأ.

(٦) في ح: «وذلك».

(٧) ما بين القوسين ليس في ا.

(٨) في ا: «ولا يبطش بهما إلا إلى ...»

(٩) سورة المائدة: ٦.

(١٠) سورة محمد: ٤.

«وفرض على الرجلين»: أن لا يمشي بهما إلى ما حرّم الله، جل ذكره، فقال في ذلك: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [١].

«وفرض على الوجه»: السجودَ لله بالليل والنهار، ومواقيت الصلاة، فقال في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [٢]} وقال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [٣]} يعني بالمساجد: ما يسجد عليه ابن آدم في صلاته، من الجبهة وغيرها.

قال: فذلك ما فرض الله على هذه الجوارح.

وسمى الطهورَ والصلواتِ إيماناً في كتابه، وذلك حين صَرفَ اللهُ، تعالى، وجهَ نبيه، صلى الله عليه وسلم، من الصلاة إلى بيت المقدس، وأمره بالصّلاة إلى الكعبة. وأن المسلمون قد صّلوا إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً، فقالوا: يا رسول الله، أرأيت صلاتنا التي كنا نصليها إلى بيت المقدس، ما حالها وحالنا؟ فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [٤]} فسمّى الصلاَة إيماناً، فمن لقى الله حافظاً لصلواته، حافظاً لجوارحه، مؤدياً بكل جارحة من جوارحه ما أمر الله به وفرض عليها - لقى اللهَ مستكملَ الإيمان من أهل الجنة، ومن كان لشيء منها تاركا مُتعمِّداً مما أمر الله به - لقى اللهَ ناقصَ الإيمان. قال: وقد عرفت نقصانه وإتمامه، فمن أين جاءت زيادته؟

(١) سورة الإسراء: ٣٧.

(٢) سورة الحج: ٧٧.

(٣) سورة الجن: ١٨.

(٤) سورة البقرة: ١٤٣.

قال الشافعي: قال الله، جل ذكره: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ • وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [١]} وقال: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [٢]} .

قال الشافعي: ولو كان هذا الإيمان كله واحداً لا نقصان فيه ولا زيادة - لم يكن لأحد فيه فضل، واستوى الناس، وبطل التفضيل. ولكن بتمام الإيمان دَخل [٣] المؤمنون الجنة، وبالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله [في الجنة [٤]] ، وبالنقصان من الإيمان دخل المُفَرِّطون النار.

قال الشافعي: إن الله، عز وجل، سَابَق بين عباده كما سُوبِقَ بين الخليل يوم الرهان. ثم إنهم على درجاتهم من سبق عليه، فجعل كل أمْرِئ على درجة سَبْقِه، لا ينقصه فيها حقَّه، ولا يُقدَّم مَسْبُوقٌ على سابِق، ولا مَفْضُولٌ على فاضل. وبذلك فضّل أول هذه الأمة على آخرها. ولو لم يكن لمن سبق إلى الإيمان فضل على من أبطأ عنه - للحق آخر هذه الأمة بأوّلها.

قال أحمد: قد رأيت هذا الجواب عن الإيمان «لأبي عُبَيْد» أبسط من هذا، فإن صحّت الحكايتان فيحتمل أن يكون «أبو عُبَيْدٍ» أخذه عن الشافعي، ثم زاد في البيان. ويحتمل أن يوافق قولٌ قولا. والله أعلم.

(١) سورة التوبة: ١٢٤، ١٢٥.

(٢) سورة الكهف: ١٣.

(٣) في ا: «حل».

(٤) ليست في ا.

وقوله: «دخل المفرطون النار» مُطْلَقٌ في هذه الحكاية، وقد قَيَّده الشافعي، رحمه الله، في مواضع من كتبه:

قال الشافعي - فيمن تولّى عن الزّحف غير مُتَحرِّفٍ لقتال لا مُتَحِّيزاً إلى فئة: خِفْت عليه - إلا أن يعفوَ الله - أن يكون قد بَاءَ بِسَخَطٍ من الله.

قلت: هذا الذي نقلناه عن الشافعي، رحمه الله، في الإيمان: إنما هو في كماله، فأما قدر ما يأتي به الكافر؛ حتى يُحْكَمَ له بحكم الإيمان، فقد أخبرنا أبو سعيد ابن أبي عمرو [رحمة الله عليه] قال: حدثنا أبو العباس الأصم، قال: أخبرنا الربيع، قال:

أنبأنا الشافعي في مسأَلة إعْتاقِ الرقبة المؤمنة في الكفارة، قال [١]:

إذا وصَفَت - يعني الرقبة - الإسلامَ فأعتقها بكمالها [٢] - أَجْزَأَتْ عنه. قال: ووصفها الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتَبْرَأَ مما خالف الإسلام من دِين، فإذا فَعَلَتْ فهذا كمالُ وصْفِ الإسلام.

قال: وأَحبُّ إليّ لو امتحنها بالإقرار بالبعث بعد الموت وما أشبهه. وذكر حديث معاوية بن الحَكَم: أنه قال لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الجارية التي لطم وجهها: عَلَيَّ رقبة، أفأَعتقها؟ فقال لها رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ قالت: في السماء. فقال: من أنا؟ فقالت: أنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم. قال: فأعتقها. زاد فيه غير الشافعي: «أعتقها؛

(١) في الأم ٥/ ٢٦٦ - ٢٦٧.

(٢) سقطت من ا.

فإنها مؤمنة [١]».

وذكر في رواية الزّعفراني عنه في «الكتاب القديم»: حديث عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة مرْسَلاً: أنّ رجلا من الأنصار جاء إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بجارية له سوداء، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:

أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت: نعم. قال: أتشهدين أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم. قال: أتوقنين بالبعث بعد الموت؟ قالت: نعم. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أعتقها [٢].

قال الزعفراني: قال أبو عبد الله الشافعي: وفي هذا الحديث، والذي قبله الدلالة على أن وَصْفَ الإسلام إسلامٌ يوجب لصاحبه اسم الإسلام، والإسلام: الإيمان.

(١) راجع الحديث في الموطأ ٢/ ٧٧٦ - ٧٧٧، والأم ٥/ ٢٦٦، وصحيح مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة: باب تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحته: ١/ ٣٨٢، والتوحيد وصفات الرب لابن خزيمة ص ٨٠، ٨١، والعلو للذهبي ص ٩٢، والسنن الكبرى للبيهقي ٧/ ٣٨٨، وأسد الغابة ٤/ ٥٢، وسنن أبي داود: كتاب الصلاة: باب تشميت العاطس في الصلاة ١/ ٣٣٦ - ٣٣٨.

وقد وهم مالك، فروى الحديث عن هلال بن أسامة، عن عطاء بن يسار، عن عمر بن الحكم، وجاءت الرواية هكذا في الأم، وهذا مما استدركه العلماء، كعلي بن المديني، والبخاري، وغيرهما على مالك. وذكروا أن الصواب معاوية بن الحكم.

(٢) راجع الموطأ ٢/ ٧٧٧، والسنن الكبرى ٧/ ٣٨٨، والتوحيد وصفات الرب ص ٨٢، والعلو للذهبي ص ٩٢ - ٩٣ وتفسير ابن كثير ٢/ ٥٣٤ - ٥٣٥ وذكر فيه أن إسناده صحيح، وأن جهالة الصحابي لا تضره.

قلت: وفي هذا إشارة من الشافعي، إلى أن الإيمان والإسلام اسمان [١] لمسمى واحد، إذا كانا حقيقة، أو كانا باللسان دون العقيدة في حقن الدم، وإنما يفترقان إذا كان أحدهما حقيقة، والآخر بمعنى الاستسلام خوفاً من السيف.

قال الشافعي - في رواية الربيع:

أخبر الله تعالى عن قوم من الأعراب، فقال: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [٢]} فأَعْلَمُه أنّه لم يدخل الإيمان قلوبهم، وأنهم أظهروه وحَقَن به دماءهم.

قال الشافعي: قال «مجاهد» في قوله: {أَسْلَمْنَا} قال: استسلمنا مخافة القتل والسَّبْي.

قلت: وأما حديث «معاوية بن الحكم» فقد خالفه «عبيد الله» في لفظ الحديث، وهو، وإن كان مُرْسَلا، فرواته أفقه. ووافقه «الشريد بن سويد الثقفي» مرسلا [٣].

وروى عن عون بن عبد الله بن عتبة عن أبيه، واختلف عليه في إسناده،

(١) في ح: «اسم».

(٢) سورة الحجرات: ١٤.

(٣) في السنن الكبرى ٧/ ٣٨٨ - ٣٨٩ عن الشريد بن سويد الثقفي، قال: قلت: يا رسول الله، إن أمي أوصت إلي أن أعتق عنها رقبة، وإن عندي جارية سوداء، نوبية، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ادع بها، فقال: من ربك؟ قالت: الله. قال: فمن أنا؟ قالت: رسول الله. قال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة.

ومتنه [١]، وهو إن صح فكأن النبي، صلى الله عليه وسلم، خاطبها على قدر معرفتها؛ فإنها وأمثالها قبل الإسلام [٢] كانوا يعتقدون في الأوثان أنها آلهة في الأرض، فأراد أن [٣] يعرف إيمانها، فقال لها: أين الله؟ حتى إذا أشارت إلى الأصنام - عرف أنها غير مؤمنة، فلما قالت: في السماء، عرف أنها برئت من الأوثان، وأنها مؤمنة بالله الذي في السماء إله وفي الأرض إله، أو أشار، وأشارت، إلى ظاهر ما ورد به الكتاب.

ثم معنى قوله في الكتاب: {مَنْ فِي السَّمَاءِ} [٤]: «مَن فوق السماء» على العرش [كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [٥]} وكل ما علا فهو سماء،

(١) حديث عون بن عبد الله عن عبد الله بن عتبة رواه البيهقي في السنن الكبرى ٧/ ٣٨٨ من حديث أبي هريرة: أن رجلا أتى النبي، صلى الله عليه وسلم، بجارية سوداء، فقال: يا رسول الله، إن علي عتق رقبة مؤمنة. فقال لها: أين الله؟ فأشارت إلى السماء بإصبعها، فقال لها: فمن أنا؟ فأشارت إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وإلى السماء. تعني: أنت رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعتقها؛ فإنها مؤمنة.

ورواه من حديث عون بن عبد الله بن عتبة عن أبيه عن جده، قال: جاءت امرأة إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم بأمة سوداء فقالت: يا رسول الله إن علي رقبة مؤمنة أفتجزئ عني هذه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

من ربك؟ قالت: الله ربي. قال: فما دينك؟ قالت: الإسلام. قال: فمن أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أفتصلين الخمس وتقرين بما جئت به من عند الله؟ قالت: نعم، فضرب صلى الله عليه وسلم على صدرها، وقال: أعتقها.

وانظر أيضاً التوحيد لابن خزيمة ص ٨١، ٨٢؛ وطريق أبي هريرة أخرجه أحمد في المسند ١٥/ ٣١ - ٣٢ (المعارف) والهيثمي في مجمع الزوائد ١/ ٢٣ - ٢٤ وذكر أن رجاله موثقون.

(٢) في ا: «قبل الاستسلام».

(٣) ليست في ا.

(٤) سورة الملك: ١٦.

(٥) سورة طه: ٥.

والعرش أعلى [١]] السموات، فهو على العرش [٢] كما أخبر بلا كيف، بائِنُ من خلقه، غير مُمَاسّ من خلقه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [٣].

(١) ما بين القوسين سقط من ا.

(٢) في ا: «على العرش على السموات فهو على العرش. .» وفي هـ: «على العرش أعلى السموات فهو على العرش» وفي كلتيهما خطأ ظاهر. وراجع الخبر في الاعتقاد للبيهقي ص ٤٢.

(٣) سورة الشورى: ١١.

باب ما يؤثر عنه، رحمه الله، في دلائل التوحيد

* * *

قرأت في كتاب أبي نعيم الأَصبِهاني سماعَه من محمد بن إبراهيم بن أحمد، قال: حدثنا زاهر بن محمد بن الفيض: أبو الصقر الحِمْيري [١] الشّيزري، بها، إملاءً، من أصله، قال: حدثنا منصور بن عبد العزيز الثعلبي - بمصر - قال: حدثنا محمد ابن إسماعيل بن الحبَّال الحِمْيَري، عن أبيه، قال:

كان محمد بن إدريس الشافعي رجلا شريفاً. فذكر الحكاية في ابتداء تعلّمه، ورحلته إلى مالك بن أنس، ثم خروجه إلى اليمن، ثم حمله إلى العراق، ثم رجوعه، ثم حمله إلى العراق مرة أخرى، مقيداً، واجتماعه مع محمد بن الحسن، وبِشر المريسي، في مجلس هارون الرشيد.

قال: فقال له بشر: أخبرني ما الدليل على أن الله تعالى واحد؟

فقال الشافعي: يا بشر، ما تردك من لسان الخواص فأكلمك على لسانهم، إلا أنه لا بدّ لي من أن أجيبك على مقدارك من حيث أنت الدليل عليه به، ومنه وإليه، واختلاف الأصوات من المصوّت إذا كان المحرّك واحداً: دليل على أنه واحد، وعدم الضد في الكلام [٢] على الدوام: دليل على أن الله واحد،

(١) في ح، هـ: «أبو الصقر بن محمد الشيرزي».

(٢) في ا: «الكمال».

وأربع نيرات [١] مختلفات، في جسد واحد، متفقات الدوام [٢] على تركيبه [٣] في استقامة الشكل: دليل على أن الله واحد. وأربع طبائع مختلفات في الخافقين، أضداد غير أشكال، مؤلفات على إصلاح الأحوال: دليلٌ على أن الله واحد: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [٤]} كل ذلك: دليل على أن الله واحد لا شريك له.

فقال له بشر: وما الدليل على أن محمداً رسول الله؟

قَال: القرآن المنزل، وإجماع المسلمين عليه، والآيات التي لا تليق بأحد غيره - يعني المعجزات التي ظهرت عليه دون غيره - وتقرير المعلوم [٥] في كون الإيمان بدليل واضح: دليل على أنه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا بعده مُرْسَلٌ نُقِرُّ له.

(١) وتفسيره: أن في للبدن نيراناً أربعة: «أحدها»: نار الشهوة، وهي الحرارة التي تثور في بدن الإنسان عند قضاء شهوة الجماع. «وثانيها»: حرارة الغضب، وهي الحرارة التي تثور عند استيلاء الغضب. «وثالثها»: الحرارة القائمة بأعضاء الغذاء، وهي الحرارة المؤثرة في هضم الأغذية. «ورابعها»: الحرارة الغويزية المتولدة في قلب الحيوان، وهي الحرارة التي بها يتم أمر الحياة، فهذه الأنواع الأربعة من الحرارة نيران مختلفة بالماهية، ثم إنها اجتمعت في بدن الإنسان، وبقى كل واحد منها على صفتها المخصوصة، وطبيعتها المخصوصة، وهي كامنة في بدن الإنسان، لا تظهر إلا عند وقت الحاجة إليها، ثم إنها، مع اختلافها وتباينها، متوافقة متعاونة، على تحصيل مصلحة الإنسان، وموجبة لاستقامة ذلك الجسد.

(٢) ليست في ح ولا في هـ.

(٣) في ح: «رتبته».

(٤) سورة البقرة: ١٦٤.

(٥) في ح: «تقدير المعلوم» وفي هـ: «وتقرير العلوم».

وذِكر باقي الحكاية وفيها: فقال له بشر: ادعيت الإجماع، فهل تعرف شيئاً أجمع الناس عليه؟

قال: نعم أجمعوا على أن هذا الحاضر أمير المؤمنين، فمن خالفه قتل. فضحك الرشيد وأمر بأخذ القيد عن رجله وخلع عليه وأمر له بخمسين ألف درهم [١]. وقد أخبرني به الثقة من أصحابنا أن أبا نعيم أنبأه إجازة. فذكره.

* * *

وقال الشافعي في تحميد ربه عز وجل: قال الله تبارك وتعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [٢]} .

قال الشافعي: والحمد لله الذي لا يؤدَّى شكرُ نعمة من نعمه إلا بنعمة منه توجب على مُؤَدِّى ماضي [٣] نِعَمِه بأدائها: نِعْمةً حادثةً يجب عليه شكرُه بها [٤]، ولا يبلغ الواصفون كُنْهَ عظمته الذي هو كما وصف نفسه، وفوق ما يصفه به [٥] خلقه

وأحمد حمداً كما ينبغي لِكَرم وجهه وعِزِّ جلاله. ولأستعينه استعانةَ مَنْ لا حول له ولا قوة إلا به. وأستهديه بهداه الذي لا يضل من أنعم به عليه. وأستغفره لما أزلفت وأخرت استغفارَ من يُقرُّ بعبوديته، ويعلم أنه لا يغفر ذنبه ولا ينجيه منه إلا هو.

(١) راجع القصة في الحلية ٩/ ٨٠ - ٨٤.

(٢) سورة الأنعام: ١.

(٣) في ا: «ما مضى». وما أثبتناه موافق لما في الرسالة ص ٨.

(٤) من الرسالة.

(٥) سقطت من ا.

[م - ٢٦] مناقب

وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله. ثم ساق الكلام إلى آخره [١].

وهو فيما أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: حدثنا أبو العباس: محمد بن يعقوب قال: أخبرنا الربيعُ بن سليمان، قال: أخبرنا الشافعي. فذكره.

وقال في كتاب «الرسالة القديمة»:

وأنا أسأل اللهَ المبتدئَ لنا بنعمه قبل استحقاقها، المُديمَها [٢] علينا بإفضاله مع تقصيرِنَا، الْجَاعِلَنا في خير أمة أُخْرجت للناس: أمة خيرِ خَلْقه: محمدٍ عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ بأسماعنا وقلوبنا وألسنتنا إلى طاعته، وأن يَمْلِك لنا أنفُسَنا وألسنتنا وجميعَ جوارحنا عما يُخالف طاعته وأن لا يكلنا إلى أنفسنا؛ فإنه إن وَكَلَنا إليها وكَلَنا إلى غير كافٍ، وأن يُحْضِرنا العصمةَ والتوفيق، ويُنْطق ألسنتنا بالحق الذي لا تَخْلِطُه الشُّبَه ولا تَمِيلُ به الأهْواء ولا تَخُونه [٣] الغَفَلات.

وله دعوات حسان قد نَقلْت أكثرَها إلى كتاب الصلاة والحج من كتاب «المعرفة». وبالله التوفيق والعصمة.

(١) الرسالة ص ٨ وما بعدها.

(٢) في ا: «المديمة».

(٣) في ا: «تحويه».

باب ما يؤثر عن الشافعي، رحمه الله، في أسماء الله، وصفات ذاته وأن القرآن كلام الله، وكلامه من صفات ذاته

* * *

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو سعيد: محمد بن موسى بن الفضل؛ قالا: حدثنا أبو العباس: محمد بن يعقوب، قال: أخبرنا الربيع بن سليمان، قال:

أخبرنا الشافعي، قال: مَنْ حلف بالله أو باسم من أسماء الله فحنَث، فعليه الكفارة. ومَن حلف بشيء غيرِ الله مثل أن يقول الرجل: والكعبةِ، وأبي، وكذا وكذا ما كان، فحنث فلا كفارة عليه. ومثل ذلك قوله: لَعمْري. لا كفارة عليه، وكلُّ يمين بغير الله فهي مكروهة منهيٌّ عنها من قِبَل قولِ رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل ينهاكم أن تَحْلِفُوا بآبائكم، فَمَن كان حالفاً فَلْيحلِفْ بالله أو لِيَسْكت [١]».

(١) أخرجه مالك في الموطأ: كتاب النذور والأيمان: باب جامع الأيمان ٢/ ٤٨٠ والبخاري في كتاب الأيمان والنذور: باب لا تحلفوا بآبائكم ١١/ ٤٦١ - ٤٦٢. ومسلم في كتاب الأيمان: باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى ٣/ ١٢٦٦. وأبو داود في السنن: كتاب الأيمان والنذور: باب كراهية الحلف بالآباء ٣/ ٣٠٣. والترمذي في جامعه: أبواب النذور والأيمان. باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله ٢/ ٢٨٩ كلهم من حديث عمر. وروى عن غير عمر بنحوه.

فجعل اليمين باسم من أسماء الله كاليمين بالله، ثم قال: ومن حلف بشيء غير الله فلا كفارة عليه، فبيّن بذلك أنه لا يقال في أسماء الله وصفاته: إنها أغيار، وإنما يقال: أغيارٌ، لما يكون مخلوقاً.

قال الشافعي: في روايتنا عن أبي سعيد وحده:

فإن [١] قال: وحقِّ الله وعظمةِ الله وجلالِ الله وقدرةِ الله، يريد بهذا كله اليمين أو لا نِيّة له - فَهي يمين. وإن لم يرد به اليمين فليس بيمين؛ لأنه يحتمل أن يكون: وحق الله واجب على كل مسلم، وقدرة الله ماضية عليه لا أنه يَمين. وإنما يكون يَميناً بأن لا ينوىَ شيئاً، أو بأن ينوى يميناً.

فجعل الشافعي بعض هذه الألفاظ للذات، وبعضَها لصفة الذات، حتى جعل الحلف بها يميناً عند إرادة اليمين بها وعند الإطلاق. وهو صحيح؛ لأن الحق هو المتحقق وجوده، والعظمة والجلال يَرْجع معناها إلى استحقاق الذات إعظامَه وإجلالَه، والقدرةُ من صفات الذات.

فإن أراد بالحق: الحقوق التي هي واجبةٌ لله على كل مسلم فهي أغْيار، وهي العبادات التي أمره بها، واجتناب الفَواحش التي نهى عنها، وهي مِن اكتساب العباد، وهي مخلوقة.

(١) في ا: «فإذا».

وإن [١] أراد بالقدرة أيضاً ما [٢] قدّره على عباده بقدرته فذلك خلقُه وهو غيرٌ.

وإن [٣] أراد بالعظمة والجلال ما في ملكوت السموات والأرض مِن آياته فهو مخلوق، فالحِلفُ بذلك يكون حَلِفاً بغير الله، فلا يكون يميناً.

أخبرنا أبو عبد الرحمن: محمد بن الحسين السُّلَمي، قال: سمعت أبا الوليد: حسان بن محمد الفقيه يقول: سمعت مكي بن عبدان يقول: سمعت جعفر بن محمد ابن موسى يقول: سمعت الربيع بن سليمان يقول:

سمعت الشافعي يقول: مَنْ حلف باسم من أسماء الله فعليه الكفارة؛ لأن أسماءه غير مخلوقة. ومَن حلف بالبيت والكعبة فلا كفارة عليه.

أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي قال: أخبرنا الحسن بن رشيق إجازة قال: حدثنا سعيد بن أحمد بن زكريا اللخمي قال: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال:

سمعت الشافعي، رحمه الله، يقول: إذا سمعتَ الرجل يقول: الاسم غير المسمى - فاشهد عليه بالزَّنْدقة.

أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، قال: حدثنا أبو العباس الأصم، قال: حدثنا الربيع، قال:

قال الشافعي: وإن قال: لعمر الله، فإن أراد اليمين فهي يمين، وإن لم

(١) في ح: «أو أراد».

(٢) ليست في ا.

(٣) في ح: «أو. . .».

يُرد اليمين فليست بيمين؛ لأنها تحتمل غير اليمين؛ لأن قوله: لعمري إنما هي لحقي. [١]

قال: وإذا قال: عليَّ عهدُ الله وميثاقه وكفالته ثم حنث - فليست بيمين إلا أن ينوي بها يميناً. وكذلك ليست بيمين لو تكلم بها وهُوَ لا ينوي شيئاً من قِبَل أن لِله عليه عهداً أن يؤدي فرائضه، وكذلك لله عليه ميثاق بذلك، وأمانة بذلك، وكذلك الذّمة، والكفالة. (١)

قلت: قوله: لعمر: الله يحتمل وحياة الله فيكون حَلِفاً بصفة الحياة، وهي من صفات الذات فتكون يميناً، فإن لم يُرِد يمينا فتحتمل وحقّ الله على عباده، من العبادات واجتناب المحرمات؛ فتكون أغياراً؛ فلا يكون يمينا. وقوله: على عهد الله، وميثاقه، وكفالته: يحتمل استحقاقَ الله ما تعبَّدَنا به، ويحتمل أمرَ الله الذي هو قولُه وكلامه، فيكون من صفات ذاته، فيكون يمينا. فإن لم يُرد يمينا فيحتمل ما ذكره الشافعي من الواجبات التي هي عليه [٢]؛ فتكون أغيارا، ولا تكون يمينا.

وفيما حكى المُزَنى عن الشافعي أنه قال: قوله عز وجل: {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ [٣]} وعِلم الله كان، قبل اتباعهم وبعده، سواء.

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: أخبرني عبد الله بن محمد الفقيه، قال: أخبرنا أبو جعفر الأصبهاني، قال: أخبرنا أبو يحيى الساجي، إجازة، قال: سمعت

(١) الأم ٧/ ٥٦

(٢) في ا: «من التي عليه».

(٣) سورة البقرة: ١٤٣.

أبا شعيب [١] المصري يقول:

سمعت محمد بن إدريس الشافعي يقول: القرآن - كلام الله تعالى - غير مخلوق.

أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، قال: سمعت عبد الله بن محمد بن علي بن زياد يقول: سمعت محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول:

سمعت الربيع يقول: لما كلّم الشافعي رحمه الله حفص الفرد، فقال حفص: القرآن مخلوق. قال الشافعي: كفرتَ بالله العظيم.

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: أخبرني أبو عبد الله: محمد بن إبراهيم المؤذِّن، عن عبد الواحد بن محمد الأرغياني.

عن أبي محمد الزبيري، قال: قال رجل للشافعي: أخبرني عن القرآن، خالق هو؟

قال الشافعي: اللهم لا. قال: فمخلوق؟ قال الشافعي: اللهم لا. قال: فغير مخلوق؟ قال الشافعي: اللهم نعم. قال: فما الدليل على أنه غير مخلوق؟ فرفع الشافعي رأسه وقال: تقرّ بأن القرآن كلام الله؟ قال: نعم. قال الشافعي: سبقْت في هذه الكلمة؛ قال الله تعالى ذِكره: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [٢]} وقال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [٣]} .

(١) في ا: «شعيب». [أثبتت أولاً في المطبوع لفظة «أبا سعيد»، ثم صححت في فهرس التصويبات ٢/ ٤٦٨ إلى: «أبا شعيب المصري» كما في ا]

(٢) سورة التوبة: ٦.

(٣) سورة النساء: ١٦٤.

قال الشافعي: فَتُقِرُّ بأن الله كان وكان كلامه، أو كان الله ولم يكن كلامه؟

فقال الرجل: بل كان الله، وكان كلامه.

قال: فتبسّم الشافعي وقال: يا كوفيون، إنكم لتأتوني بعظيم من القول. إذا كنتم تُقِرُّون بأن الله كان قبل القَبْل، وكان كلامه فمن أين لكم الكلام: إن الكلام الله، أو سوى الله، أو غير الله. أو دون الله؟ قال: فسكت الرجل وخرج.

أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، قال: حدثنا أبو العباس الأصم، قال: حدثنا الربيع، قال:

قال الشافعي - يعني في مسألة ذكرها فيمن حلف لا يكلِّم رجلا فأرسل إليه رسولا: من قال: يخنّث ذهب إلى أن الله تعالى قال: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ [١]} وقال إن الله تعالى يقول للمؤمنين في المنافقين: {قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ [٢]} وإنما نبّأهم من أخبارهم بالوحي الذي ينزل به جبريل عليه السلام، على النبي صلى الله عليه وسلم، ويخبرهم النبي، صلى الله عليه وسلم، بوحي الله.

ومن قال: لا يحنَث قال: إن كلام الآدميين لا يشبه كلامَ الله عز وجل:

(١) سورة الشورى: ٥١.

(٢) سورة التوبة: ٩٤.

كلامُ الآدميين بالمواجهة. ألا ترى أنه لو هَجَر رجل رجلا كانت الهجرة محرَّمةً عليه فوق ثلاث ليال، وكتب إليه أو أرسل إليه، وهو يقدر على كلامه - لم يخرجه هذا من هجرته التي يأثم بها [١]؟

فسمى الشافعي، رحمه الله، على القولين جميعاً، إخبارَ الله عز وجل بالوحي الذي نزل به جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر به النبي، صلى الله عليه وسلم بوحي من الله - تكليمَ الله عباده المؤمنين، فالمؤمن يسمع كلامَ الله عز وجل من صاحب الرسالة، ويحفظه ويتلوه ويكتبه، ويكون المسموع والمحفوظ والمتلو والمكتوب - كلامَ الله عز وجل.

أخبرنا أبو عبد الرحمن السُّلَمي، قال: حدثنا الحسن بن رشيق المصري، إجازة، قال: حدثنا محمد بن سفيان بن سعيد الخياط، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل الأصبهاني بمكة، قال: سمعت الجارودي يقول: ذكر الشافعي إبراهيم بن إسماعيل ابن علَية، فقال: أنا مُخالف له في كل شيء [٢]، وفي قوله: لا إله إلا الله، لست أقول كما يقول: أنا أقول: لا إله إلا الله الذي كلّم موسى مِن وراء حجاب، وذاك يقول: الذي خلق كلاماً أسمَعَه موسى من وراء حجاب.

أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، قال: أخبرنا الحسن بن رشيق، إجازة. وأخبرنا أبو عبد الرحمن، قال: أنبأنا علي بن عمر الحافظ، قال: حدثنا الحسن ابن رشيق، قال: حدثنا علي بن السّري بن الصقر [٣]، قال: حدثنا حبيش [٤]

(١) في ح: «به».

(٢) ليست في ا.

(٣) في ح: «المظفر».

(٤) في ح: «حلبس».

ابن موسى، قال: حدثنا الحسن بن عثمان، قال: حدثنا إبراهيم بن الوليد، قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، قال:

سمعت الشافعي يقول: رأيت سفيان بن عيينة - قائما على باب كُتَّاب - فقلت: يا أبا محمد، ما تعمل هاهنا؟ قال لي: إليك عنّي ويحَك، فإني أحب أن أسمع كلامَ ربّي مِن هذا الغلام.

قرأت في كتاب أبي الحسن: محمد بن الحُسَين العاصمي، قال: قرأت على محمد بن يحيى: خادم المُزَني بالفسطاط، أن أبا زيد: عبد الرحمن ابن محمد بن طريف حدّثه قال: حدثنا أبو حاتم يحيى بن زكريا الأموي، قال:

حدثنا محمد بن إدريس - يعني الشافعي، قال:

حدثني بعض أصحابنا قال: اختصم رجلان: مسلم ويهودي إلى عيسى بن أبان، وكان قاضي البصرة - وكان يرى رأيَ القوم - فصارت اليمين على المسلم، فقال له اليهودي: حَلِّفه، فقال: أحلف بالله الذي لا إله إلا هو. قال اليهودي للقاضي: إنك تزعم أن القرآن مخلوق، والله الذي لا إله إلا هو في القرآن، فحلِّفه لي بالخالق لا بالمخلوق. فتحير عيسى عند ذلك وقال: قُوما حتى انظر في أمركما.

ومما أنبأني أبو عبد الله الحافظ رحمه الله في «كتاب المناسك للشافعي» قال: حدثنا أبو العباس - هو الأصم - قال: حدثنا الربيع بن سليمان، قال:

قال الشافعي رحمه الله: «أستحب القراءة في الطواف، والقراءة أفضل ما تكلّم به المرء».

قلت: فجعل الشافعي القراءةَ مِن كَسْب القارئ حين أضافها إلى تكلُّمه بها. وفيه ثم فيما مضى من قوله: القرآن كلام الله - دلالةٌ على أنه كان يُفَرّق بين القراءة والمقروء، فيجعل القراءة من كسب القارئ، ويعتقد في المقروء [١] أنه كلامُ الله، تعالى، غيرَ مخلوق.

(١) في ح: «المعنى».

باب ما يؤثر عنه في إثبات المشيئة لله عز وجل وهي من صفات الذات، وفي إثبات القدر وخلق الأفعال وعذاب القبر

* * *

أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، قال: أخبرنا الربيع بن سليمان، قال: حدثنا الشافعي - يعني في «كتاب صلاة الجمعة» - قال:

قال الله عز وجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [١]} فأعلم الله خلقه أنّ المشيئة له دون خلقه، وأنّ مشيئتهم لا تكون إلا أن يشاء الله، والمشيئة إرادة الله عز وجل.

أخبرنا يحيى بن إبراهيم بن محمد بن يحيى، قال: حدثنا الزبير ابن عبد الواحد، قال: حدثني حمزة بن علي العطار، قال: حدثنا الربيع، قال:

سئل الشافعي عن القدر، فقال:

وما (*) شئتَ كان وإن لم أشأ ... وما شئتُ إن لم تشأْ لم يكن

(١) سورة الإنسان: ٣٠.

(*) أثبتت أولاً في المطبوع لفظة «ما» دون الواو، ثم صححت في فهرس التصويبات ٢/ ٤٦٨ إلى: «وما» كما في معرفة السنن والآثار ١/ ١١٣.

خلقتَ العباد على ما علمتَ ... ففي العلم يَمْضي [١] الفتى والمُسِن

على ذا مَنَنْتَ وهذا خذلْتَ ... وهذا أعنتَ وذا لم تُعن

فمنهم شقيٌّ ومنهم سعيدٌ ... ومنهم قَبيحٌ ومنهم حَسَن

أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، قال: حدثنا محمد بن علي بن طلحة، قال: حدثنا أحمد بن علي الأصبِهاني قال: حدثنا الساجي قال: حدثنا أحمد بن عبد الله، عن الربيع بن سليمان، عن الشافعي: أنه كان يكره الصلاة خلف القَدَري.

وقرأت في كتاب زكريا بن يحيى الساجي أن جعفر بن أحمد حدّثه، قال: سمعت المزني يقول:

سمعت الشافعي يقول:

القدرية: الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هم مجوسُ هذه الأمة [٢]» الذين يقولون: إن الله لا يَعلم المعاصيَ حتى تكون. كذا وجدتُه في كتابه.

(١) في ح: «يجري».

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٨/ ٤ - ٦ من حديث ابن عمر بلفظ: «لكل أمة مجوس، ومجوس أمتي الذين يقولون: لا قدر، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم». لكن إسناده ضعيف لانقطاعه.

وأخرجه الحاكم في المستدرك ١/ ٨٥، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع أبي حازم ابن عمر. وأقره الذهبي على هذا.

وأخرجه أبو داود في كتاب السنة: باب القدر ٤/ ٣٠٧ وذكر صاحب عون المعبود في تعليقه على الحديث ٤/ ٣٥٧، ٣٥٨ - قول المنذري: هذا منقطع؛ أبو حازم - لم يسمع من ابن عمر. وقد روى هذا الحديث من طريق ابن عمر، ليس منها شيء =

وقرأت في كتاب أبي الحسن العاصمي سماعه من أبي بكر: محمد بن يحيى ابن آدم خادم المزني، قال: سمعت المزني يقول:

قال لي الشافعي: تدري مَن القدري؟ القدري [١] الذي يقول: إن الله عز وجل لم يخلق الشر حتى عُمِل به.

وفي هذا دليل على أنه كان يرى الشر خلقاً من خلق الله عز وجل وكسباً من كسب مَنْ عمل به. وكان يرى الاستطاعة مع العمل؛ فقد قال في أول «كتاب الرسالة»: «الحمد لله الذي لا يُؤدَّى شكرُ نعمة [(٢ من نعمِه إلا بنعمة منه توجب على مؤدِّي ماضي ٢)] نعمه بأدائها نِعمةً حادثة يَجِبُ عليه شكرُه بها».

وقال بعد ذلك: «وأستهديه بهداه الذي لا يضل من أنعم به عليه».

وهو فيما أخبرنا [٣] أبو عبد الله عن أبي العباس، عن الربيع عن الشافعي.

وإنما أراد بالنعمة الحادثة: توفيق الله عز وجل عبده لشكره [٤] على ماضي.

= يثبت. وقال السيوطي في مرقاة الصعود: هذا أحد الأحاديث التي انتقدها الحافظ سراج الدين القزويني لى المصابيح، وزعم أنه موضوع.

ثم أورد قول ابن حجر (في رد قول من زعم أنه موضوع، وفي رد القول الانقطاع) بأن أبا حازم كان معاصراً لابن عمر ولا يلزم من عدم سماعه من ابن عمر أن لا يكون الحديث صحيحا؛ فإن «مسلماً» كان يكتفي في الاتصال بالمعاصرة وعلى هذا فيكون الحديث على شرط «مسلم».

(١) ليست في ا.

(٢) ما بين الرقمين ليس في ح.

(٣) في ا: «أخبرناه».

(٤) في ا: «بتوفيق الله. . . لشكره. . .». [أثبتت أولاً في المطبوع لفظة «ليشكره»، ثم صححت في فهرس التصويبات ٢/ ٤٦٨ إلى: «لشكره» كما في ا]

نعمه، وأراد بهداه الذي لا يضل مَنْ أنعم به عليه: تخصيصَه مَن أسعده بإعانته على اكتساب الخير.

وقال في كتاب آخر:

«فهدى بكتابه ثم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، مَن أنعم عليه. يعني مَن أنعم عليه بالسعادة والتوفيق للطاعة دون من حرمها، فبيّن بهذا أن الدعوة عامة، والهداية - التي هي التوفيق للطاعة والعصمة عن المعصية - خاصة، كما قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [١]} .

وقرأت في كتاب أبي منصور الحمشاذي فيما سمع - يعني: أبا الحسن محمد ابن إسحاق يقول: سمعت أبا موسى - يعني عمران بن موسى للُجَاشعي - يقول: قال أبو نعيم: حدثنا الربيع قال:

قال الشافعي: إن مشيئة العِباد هي إلى الله تعالى ولا يشاءون إلا أن يشاء الله ربُّ العالمين؛ فإنّ الناس لم يخلقوا أعمالهم، وهي خلق من خلق [٢] الله تعالى أفعالَ العباد، وإن القدر خيرَه وشرَّه من الله عز وجل، وإن عذاب القبر حق، ومساءلة أهل القبور حق، والبعث حق [٣]، والحساب حق [٤]، والجنة والنار، وغير ذلك مما جاءت به السنن فظهرت على ألسنة العلماء وأتباعهم من بلاد المسلمين - حق.

(١) سورة يونس: ٢٥

(٢) ليست في ا.

(٣) ليست في ا.

(٤) ليست في ا.

قلت: وفي دعاء الشافعي رحمه الله في الصلاة على الجنازة دلالة على مذهبه في فتنة القبر وعذابه؛ فإنه قال «في كتاب الجنائز» في دعائه للميت: وقِهِ عذابَ القبر وكلّ هول دون القيامة.

وقال في موضع آخر: وقه فتنة القبر وعذابه [(١ وأفسح له في قبره ١)] .

قرأت في كتاب أبي نعيم الأصبهاني، وأخبرني به الثقة عنه، قال: حدثنا محمد بن إبراهيم بن أحمد، قال: حدثنا أبو علي: محمد بن هارون بن شعيب الأنصاري، بدمشق، قال: حدثنا: محمد بن هارون بن حسان، قال: حدثنا أحمد ابن يحيى بن الوزير، قال: حدثنا أبو عبد الله: محمد بن إدريس الشافعي عن يحيى بن سليم، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر، عن علي ابن أبي طالب: أنه خطب الناس يوماً، فقال في خطبته:

وأعجب ما في الإنسان قلبه: فيه مواد من الحكمة وأضداد من خلافها، فإن سنح له الرجاء أولهه الطمع، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ، وإن أسعد بالرضا نَسِي التحفُّظ، وإن ناله الخوف شَغَله الحزن، وإن أصابته مصيبة قَصَمه الجزع، وإن أفاد مالاً أطغاه الغِنى، وإن عضّته فاقة شغله البلاء، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف. فكل نقص [٢] به مُضِرّ، وكل إفراط له مُفسد.

قال: فقام إليه رجل ممن كان شهد معه الجمل، فقال: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن القدر؟ فقال: بحر عميق فلا تلجه. فقال: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن القدر؟

(١) ما بين الرقمين ليس في ا.

(٢) في ح: «تقصير».

فقال: بيت مظلم فلا تدخله. قال: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن القدر؟ قال: سرُّ الله لا تبحث عنه. قال: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن القدر؟ قال: أما إذا أبيت فإنه أمر بين أمرين لا جبر ولا تفويض، فقال: يا أمير المؤمنين إن فلاناً يقول بالاستطاعة وهو حاضرك فقال: عليّ به فأقاموه فلما رآه سلّ من سيفه قدر أربع أصابع فقال: الاستطاعة تملكها مع الله أو من دون الله؟ وإياك أن تقول أحدهما فترتد فأضرب عنقك. قال: فما أقول يا أمير المؤمنين؟ قال: قل أملكها بالله الذي إن شاء مَلَّكَنِيها.

وفي إسناد هذا إلى ابن الوزير نظر. والله أعلم.

وللشافعي رحمه الله كلام كثير في مجاري كلامه يوافق ما أمر به أمير المؤمنين علي رضي الله عنه فيما رُوي عنه في آخر هذا الحديث. من ذلك أني قرأت في «كتاب السنن» الذي رواه عنه حرملة بن يحيى وغيره في مسألة الأذان:

قال الشافعي: وقول المؤذن: حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح دعاءٌ منه إلى الصلاة ثم دعاء منه يعُلمه فيه أن دعاءه إلى الصلاة دعاء إلى الفلاح، وينبغي لمن دعا إلى الفلاح بالصلاة، وعلِم أنه لا يأتي الفلاح بطاعة الله في الصلاة ولا غيرها إلا بعون الله أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ لأنه لا حول له يصل إلى طاعة الله إلا بالله عز وجل.

أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ قال: أخبرني أبو الفضل بن أبي نصر قال: أنشدني محمد بن حاضر، قال: أنشدني أبو علي الهمداني [١]

(١) في ح: «الهواري».

[م - ٢٧] مناقب

قال: أنشدنا أبو يعلى الموصلي قال: أنشدونا للشافعي:

قدر الله واقع ... حين يقضى [١] ورودُهُ

قد مضى فيك حكمه ... وانقضى ما يريدُهُ

فأرِدْ ما يكونَ إن ... لم يكن ما تريدُهُ

* * *

ونقل إلينا من كلامه في الرد على القدرية فصول قد كتبناها في «جزء» من آخر هذا الكتاب.

(١) في ح: «فيقضى».

باب ما يؤثر عنه في إثبات الرؤية

* * *

أنبأني أبو القاسم: الحسن بن محمد بن حبيب المُفَسِّر، رحمه الله، إجازة، قال: سمعت أبا علي: الحسن [١] بن أحمد الخياط النَّسوِي، بها، يقول: سمعت أبا نعيم: عبد الملك بن محمد بن عدي الجُرْجَاني، يقول: سمعت الربيع بن سليمان يقول: كنت ذات يوم عند الشافعي، رحمه الله، وجاءه كتاب من الصَّعِيد - وهو اسم موضع - يسألونه عن قول الله جل ذكره: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [٢]} فكتب فيه: لَمَّا حجب الله قوماً بالسخط دلّ على أن قوماً يرونه بالرّضا [قال الربيع [٣]] .

قلت له: أَوَتَدِينُ بهذا يا سيدي؟

فقال: والله لو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى ربه في المعاد لما عبده في الدنيا.

(١) في ا: «الحسين».

(٢) سورة المطففين: ١٥.

(٣) من ح.

أخبرنا أبو زكريا [١] بن أبي إسحاق، قال: حدثنا الزبير بن عبد الواحد الأَسَدَابَاذِي، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، قال: حدثنا محمد بن عقيل الفِرْيَابِي، قال: حدثنا المزني، قال: سمعت ابن هرم القرشي، يقول:

سمعت الشافعي يقول في قول الله عز وجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} قال: هذا دليل على أن أولياءه يرونه يوم القيامة.

وأخبرنا أبو عبد الرحمن: محمد بن الحسين السُّلمي، قال: سمعت جعفر بن محمد بن الحارث المراغي، يقول: سمعت الحسين بن محمد بن بحر، يقول: سمعت إسماعيل بن يحيى المزني يقول: سمعت ابن هرم القرشي، يقول:

سمعت الشافعي يقول في قول الله عز وجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} قال: فلما حجبهم في السخط كان هذا دليلا على أنهم يرونه في الرضا.

قال: فقال أبو النجم القَزْويني: يا أبا إبراهيم، به تقول؟ قال: نعم، وبه أَدِينُ اللهَ عز وجل. قال: فقام إليه عصام وقبَّل رأسه، وقال: يا سيد الشافعييّن، اليوم بَيَّضت وجوهنا.

أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، قال: حدثنا علي بن عمر الدَّارَقُطْنِي

(١) في ح، هـ: «أبو بكر».

الحافظ، قال: ذكر إسحاق الطحّان المصري، قال:

حدثنا سعيد بن أسد، قال: قلت للشافعي: ما تقول في حديث الرؤية؟

فقال لي: يا بن أسد، إقض عليَّ، حييتُ أو متّ: إن كلّ حديث يصحّ عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإني أقول به وإن لم يبلغني.

باب ما يؤثر عنه في تفضيل النبي، صلى الله عليه وسلم، على جميع الخلق وإثبات الشفاعة له [١]

* * *

أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ، قال: أخبرنا عبد الله بن محمد النسائي، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن الأصبهاني، قال: أخبرنا أبو يحيى السّاجي، فيما أجاز لي مشافهة، قال: سمعت [٢] الربيع، يقول:

قال الشافعي، رحمه الله: محمد رسول الله، خير خلق رب العالمين. واختلف الناس: فطائفة تقول الأنبياء، وطائفة تقول الملائكة. واختلفوا في آدم ومحمد، عليهما السلام: أيهما أفضل؟ واختلفوا في مكة والمدينة: أيهما أفضل؟ قال الشافعي: مكة خير البقاع.

وقال في «كتاب الرسالة [٣]» في ذكر رسول الله، صلى الله عليه وسلم:

فكان خيرتُه المصطفى لوحيه، المُنْتخَبُ لرسالته، المفضَّلُ على جميع خلقه

(١) ليست في ح.

(٢) في ا: «مشافهة سمع الربيع».

(٣) الرسالة ص ١٢.

لفتح [١] رحمته، وختم نبوته، وأعلم ما أَرسَل به مرسلا قبله، المرفوع ذكره مع ذكره في الأولى، والشافع المشفّعُ في الأخرى، أفضل خلقه نفساً، وأجمعُهم لكل خلق رضية في دين ودنيا، وخيرهم نسباً وداراً: محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم.

ثم ساق الكلام إلى أن قال: أخبرنا ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن «مجاهد» في قوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [٢]} قال: لا أُذْكَرُ إلا ذُكِرْت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.

قال الشافعي [٣]: يعني - والله أعلم - ذكره عند الإيمان بالله والأذان. ويحتمل ذكره عند تلاوة القرآن، وعند العمل بالطاعة والوقوف عن المعصية، فصلّى الله على نبينا كلّما ذكرهُ الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون. وصلى الله عليه في الأوَّلين والآخرين، أفضل وأكثر وأزكى ما صلَّى على أحدٍ من خلقه، وزكَّانا وإيّاكم بالصّلاة عليه أفضل ما زكّى أحداً من أمته بصلاته عليه. والسلام عليه ورحمة الله وبركاته. وجزاه الله عنا أفضل ما جزى مُرْسلاً عمّن أرسل إليه؛ فإنه أنقذنا به من الهلَكة وجعلنا في خير أمة أُخرجت للناس، دائنين بدينه الذي ارتضى واصطفى به ملائكته ومن أنعم عليه من خلقه، فلم تمس بنا نِعْمَةٌ ظهرت ولا بَطَنت نِلْنا بها حظاً في دين ودنيا، ودفع بها عنا مكروه فيهما أو في واحد منهما - إلا ومحمد صلى الله عليه وسلم سَبَبُها، القائد إلى خيرها، الهادي إلى رشدها، الذائد عن الهلكة وموارد السوء في خلاف

(١) في ا: «يفتح».

(٢) سورة الانشراح: ٤.

(٣) الرسالة ص ١٦.

الرشد، المنبه للأسباب التي تورد الهلَكة، القائم بالنصيحة في الإرشاد والإنذار فيها. فصلّى الله على محمد وعلى آل محمد، كما صلى على إبراهيم وآل إبراهيم، إنّه حميد مجيد.

وهذا كله فيما أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: حدثنا أبو العباس، قال: أخبرنا الربيع عن الشافعي. فذكره.

أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، قال: حدثنا أبو العباس الأصم، قال: حدثنا الربيع بن سليمان، قال:

أخبرنا الشافعي، رحمه الله، قال:

قال الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ [١]} ثم أنزل الله عز وجل على نبيه، صلى الله عليه وسلم، أن غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر - يعني قول الله عز وجل: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [٢]} يعني - والله أعلم - ما تقدم من ذنبه قبل الوحي، وما تأخر: أن يعصمه فلا يذنب، فعلم ما يفعل به من رضاه عنه، وأنه أول شافع، وأول مشَفَّع يوم القيامة، وسيد الخلائق.

أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، قال: أخبرنا الحسن بن رشيق، إجازة. قال: ذكر زكريا السّاجي قال: إن الحسين بن علي - يعني الكرابيسي، قال:

(١) سورة الأحقاف: ٩.

(٢) سورة الفتح: ١،٢.

سمعت [١] الشافعي يقول: يكره للرجل أن يقول: قال [٢] الرسول، ولكن يقول: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تعظيما له.

وذكر الشافعي رحمه الله في «كتاب إحياء الموات [٣]» في حِمَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحمى غيره، فصلا، فقال:

ورسوله إن شاء الله إنما كان يحمي لصلاح عامة المسلمين لا لما يحمي له غيره من خاصّة نفسه، وذلك أنه، صلى الله عليه وسلم، لم يملك مالاً إلا مالا غنى به [٤] وبعياله عنه ومصلحتهم حتى صير ما مَلَّكَه الله من خمس الخمس مَرْدُوداً في مصلحتهم، وكذلك ماله إذا حَبَسَ قوت سنته مَرْدُوداً في [٥] مصلحتهم: في الكُرَاع والسلاح عُدّة في سبيل الله، وأن ماله في نفسه كان مفرغاً لطاعة الله. فصلى الله عليه وسلم، وجزاه الله خير ما جزى نبيًّا عن أمته.

وهذا فيما أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، قال: حدثنا أبو العباس، قال: أخبرنا الربيع، قال: قال الشافعي. فذكره.

قال المزني، فيما بلغني عنه عقيب هذا: ما رأيت من العلماء من يوجب للنبي صلى الله عليه وسلم في كتبه ما يوجبه الشافعي؛ لحسن ذكره رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ورحمة الله عليه ورضي الله عنه [٦].

وقرأت في «كتاب القديم للشافعي» رحمة الله عليه في فضل ما ذكره، وأن الدعاء يتم بالصلاة على النبي، صلى الله عليه وسلم؛ فيتممه بها:

(١) في ا: «الساجي، قال: قال الحسين بن علي: أسمعت الشافعي. . .».

(٢) ليست في ا.

(٣) الأم ٣/ ٢٧٠.

(٤) في ا: «إلا ما عنى به».

(٥) في ا: «إلى».

(٦) في ح: «فرحمة الله عليه ورضوانه». [فهرس التصويبات ٢/ ٤٦٨]

أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، قال: حدثنا علي بن عمر الحافظ، قال: حدثنا إبراهيم بن رشيق العَسال، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر بن الورد قال: حدثنا علي بن محمد بن حيُّون قال: حدثنا عمرو بن سواد السّرحي، قال: سمعت محمد بن إدريس الشافعي يقول: ما أعطى الله تعالى نبيا قط شيئاً إلا وقد [١] أعطى محمداً، صلى الله عليه وسلم، أكثر. قال عمرو: فقلت له: قد أعطى الله عيسى عليه السلام أكثر منه: أن يحيى الموتى. قال الشافعي:

فالجذع الذي كان يخطب إلى جنبه قبل أن يُجْعل له المنبر حين حنَّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ يعني: فهو [٢] أكثر من ذلك.

(١) ليست في ا.

(٢) في ا: «وهذا».

باب ما يؤثر عنه في الذنوب التي هي دون الكفر بالله عز وجل

* * *

أخبرنا أبو سعيد: محمد بن موسى في آخرين، قالوا: حدثنا أبو العباس الأصم، قال: أخبرنا الربيع بن سليمان، قال:

أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أبي إدريس، عن عبادة بن الصامت، قال:

كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في مجلس فقال: «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا. وقرأ عليهم الآية [١]، وقال: فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً [(٢ فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ٢)] فستره الله عليه فهو إلى الله، إن شاء غفر له، وإن شاء عذَّبه [٣]».

(١) يعني قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَاتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الممتحنة: ١٢.

(٢) ما بين الرقمين من ا.

(٣) الحديث من هذا الوجه في ترتيب مسند الشافعي ١/ ١٥ - ١٦، وقد رواه البخاري بنحوه من حديث عبادة في كتاب الإيمان ١/ ٦٠ - ٦١، وفي كتاب المغازى ٧/ ٢٤٣ - ٢٤٤ وباب وفود الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وبيعة العقبة ٧/ ١٧٤، وكتاب الحدود: باب الحدود كفارة ١٢/ ٧٤.

قال الشافعي: لم أسمع في الحدود حديثاً أبين من هذا.

وقد روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «وما يُدْريك لعل الحدود نزلت كفارة للذنوب».

وهو يشبه هذا، وهذا أبين منه.

قال: وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث معروف عندنا، وهو غير متصل الإسناد فيما أعرفه وهو أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: «من أصاب منكم من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله؛ فإنه من يُبْدِ لنا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عليه كتابَ الله عز وجل [١]».

وروى أن أبا بكر على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أمر رجلا أصاب حدًّا بالاستتار، وأن عمر أمره به [٢].

وهذا حديث صحيح عنهما. ونحن نحب لمن أصاب الحد أن يستتر وأن يتقي الله ولا يعود لمعصية الله؛ فإن الله يقبل التوبة عن عباده.

وقال الشافعي رحمه الله: من تولى عن الزَّحْف لا مُتَحَرِّفاً لقتالٍ ولا مُتَحَيِّزاً إلى فئة خِفْتُ عليه - إلا أن يعفو الله - أن يكون قد باء بسخط من الله.

(١) أخرجه الحاكم في المستدرك ٤/ ٣٨٣ من حديث ابن عمر بلفظ: «اجتنبوا هذه القاذورة التي نهى الله عنها فمن ألم فليستتر. . الحديث».

وقد ذكر الذهبي أن الحديث صحيح على شرط البخاري ومسلم.

(٢) ذكر هذا الترمذي في كتاب الحدود: باب ما جاء أن الحدود كفارة لأهلها ٢/ ٢٧١ عقب حديث عبادة بن الصامت.

وقال فيمن نظر إلى فرج حرام لتلذذ أو غير شهادة عامداً: كان حرِجاً إلا أن يعفو الله عز وجل عنه.

وقال في وصيته: «وجعل الآخرة دار قرار وجزاء بما عمل في الدنيا من خير أو شر إن لم يُعفه جل ثناؤه».

وقال في الفرق بين النكاح الذي تثبت به حرمة المصاهرة وبين الزنا [الذي [١]] لا تثبت به تلك الحرمة: «وذلك أن [٢] الله رضى النكاح وأمر به وندب إليه؛ فلا يجوز أن تكون الحرمة التي أنعم الله بها على من أتى ما دعاه الله إليه كالزاني العاصي لله الذي حدَّه الله وأوجب له النار، إلا أن يعفو عنه. وبسط الكلام فيه.

(١) ليست في ا.

(٢) في ا: «أنه».

باب ما يؤثر عنه فيما يلحق الميت من فعل [١] غيره

* * *

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ومحمد بن موسى بن الفضل قالا: حدثنا أبو العباس: محمد بن يعقوب قال: أخبرنا الربيع، قال:

حدثنا الشافعي، قال: ويلحق الميت من فعل غيره وعمله ثلاث: حج يؤدى عنه ومال يتصدق به عنه أو يقضى، ودعاء.

وإنما قلنا بهذا استدلالاً بالسنة في الحج خاصة والعمرة مثله قياساً.

فأما [٢] المال: فإن الرجل يجب عليه فيما لله الحق من الزكاة وغيرها فيجزيه أن يؤدي غيره بأمره؛ لأنه إنما أريد بالفرض فيه تأديته إلى أهله لا عمل على البدن، وإذا [٣] عمل بأمري على ما فرض الله في [٤] مالي، فقد أدى الفرض عني.

وأما الدعاء: فإن الله ندب العباد إليه وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم به فإذ أجاز أن يدعى للأخ حياً جاز أن يدعى له ميتاً ولحقه إن شاء الله بركة ذلك مع أن الله واسع لأن يوفى الحي أجره ويدخل على الميت منفعته، وكذلك كلما تطوع رجل عن رجل صدقة تطوع.

(١) في ح: «بفعل».

(٢) في ح: «وأما».

(٣) في ح: «فاذا».

(٤) في ا: «فرض من».

وذكره في «القديم» واحتج بالأخبار التي وردت في الصدقة عن الميت. وذكره في كتاب حرملة أبسط من ذلك، وهو منقول في المبسوط بتمامه.

وذكر في دعائه للميت في صلاة الجنازة:

وقد جئناك شفعاء له ورجونا له رحمتك وأنت أرأف به، اللهم ارحمه بفضل رحمتك؛ فإنه فقير إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه [١].

وقال في موضع آخر:

وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له [٢]. وفي هذا جواز شفاعة المسلمين بعضهم لبعض كما وردت به الأخبار.

(١) الأُم باب الصلاة على الجنازة والتكبير فيها، وما يفعل بعد كل تكبيرة ١/ ٢٤٠

(٢) الأم في باب التكبير على الجنائز ١/ ٢٥١.

باب ما يؤثر عنه في الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم


* * *

أخبرنا أبو عبد الله: محمد بن عبد الله الحافظ قال: سمعت الزبير بن عبد الواحد الحافظ بأسداباد يقول: سمعت أبا الطيب علي بن أحمد بن سليمان الصوري يقول: سمعت الربيع بن سليمان يقول:

سمعت الشافعي يقول في التفضيل: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.

وأخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا إدريس بن علي بن إسحاق المؤذن قال: سمعت أبا بكر عبد الله بن محمد بن زياد قال: سمعت الربيع بن سليمان يقول:

سمعت الشافعي يقول في الخلافة: التفضيل يبدأ بأبي بكر وعمر وعثمان وعلي.

وأخبرنا محمد بن الحسين السلمي قال: حدثنا محمد بن علي بن طلحة المروروذي قال: حدثنا محمد، يعني: ابن خالد قال: حدثنا الساجي قال: حكى الترمذي [١]

(١) في ح: «الزبيدي» وهو تحريف؛ فهو محمد بن أحمد بن نصر الترمذي أبو جعفر وينسب إلى جده أيضاً، من ترمذ، كان فقيهاً فاضلا، سديد السيرة، سكن بغداد =

عن الربيع عن الشافعي أنه قال: أفضل الناس بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، رضوان الله عليهم.

وقرأت هذه الحكاية في كتاب زكريا بن يحيى الساجي فيما حدثه عيسى بن إبراهيم البغدادي، عن محمد بن نصر التِّرمذي، عن الربيع، عن الشافعي مثلها.

أخبرنا أبو عبد الله: الحسين بن محمد بن الحسين الدينوري، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سمرة البغوي [١] قال: حدثنا أبو طلحة: أحمد بن محمد ابن عبد الكريم الفزاري، قال: سمعت محمد بن عبد الله بن عبد الحكم يقول:

سمعت محمد بن إدريس الشافعي يقول:

أفضل الناس بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، رضي الله عنهم.

أخبرنا الحسين، قال: حدثنا ظفران بن الحسين، قال: حدثنا محمد ابن إبراهيم بن زياد، قال: حدثنا الربيع بن سليمان، قال: سمعت الشافعي يقول مثل ذلك.

= وحدث بها عن يحيى بن بكير المصري، ويوسف بن عدي، وكثير بن يحيى، وإبراهيم ابن المنذر الحزامي، ويعقوب بن حميد بن كلب، روى عنه أحمد بن كامل القاضي وهو من المعمرين. راجع ترجمته في تاريخ بغداد ١/ ٣٦٥ - ٣٦٦، والأنساب ٣/ ٤٣.

(١) في ح: «البغدادي».

[م - ٢٨] مناقب

وأخبرنا أبو عبد الله: الحسين بن محمد بن فنجويه، قال: حدثنا الفضل بن الفضل الكِنْدي، قال: حدثنا زكريا بن يحيى السَّاجي، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا الحسين بن علي، قال:

سمعت الشافعي يقول: اضطر الناس بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى أبي بكر، فلم يجدوا تحت أَدِيم السماء خيراً من أبي بكر، من أجل ذلك استعملوه على رقاب الناس.

أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، قال: سمعت علي بن أحمد بن إبراهيم الفارسي يقول: سمعت أبا عبد الله: محمد بن حفص، قال: سمعت عبيد الله ابن أحمد، بالرَّمْلَة، قال: سمعت داود بن علي الأصبهاني يقول: سمعت أبا ثَوْر يقول:

سمعت الشافعي يقول: ما اختلف أحد من الصحابة والتابعين في تفضيل أبي بكر وعمر، وتقديمهما على جميع الصحابة. وإنما اختلف من اختلف منهم في علي وعثمان: منهم من قدَّم عليًّا على عثمان، ومنهم من قدم عثمان على عليّ. ونحن لا نخطئ أحداً من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيما فعلوا.

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أنبأنا أبو الطيب الفقيه، قال: أخبرنا محمد ابن عبد الرحمن الأصبهاني عن أبي يحيى الساجي، قال: سمعت الحسن بن محمد الزعفراني يقول:

سمعت الشافعي يقول: أجمع الناس على خلافة أبي بكر، واستخلف

أبو بكر عمر، ثم جعل عمر الشورى إلى ستة، على أن يُولُّوها واحداً، فولَّوْها عثمان. رضي الله عنهم أجمعين.

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: حدثنا أبو العباس: محمد بن يعقوب، قال: أخبرنا الربيع بن سليمان، قال:

قال الشافعي [١] رحمه الله «في مسألة الحُجَّة في تثبيت خبر الواحد»

ولم تزل كتب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تنفذ إلى ولاته بالأمر والنهي. ولم يكن لأحد من ولاته ترك إنفاذ أمره.

ثم ساق الكلام إلى أن قال:

وهكذا كانت كتب خلفائه من بعده وعمالهم. وما أجمع المسلمون عليه من كون [٢] الخليفة واحداً، والقاضي واحداً، والأمير واحداً، والإمام واحداً. فاستخلفوا أبا بكر، واستخلف أبا بكر عمر، ثم [أمر [٣]] عمر أهل الشورى ليختاروا واحداً، فاختاروا عبدُ الرحمن عثمانَ بن عفان.

أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، قال: حدثنا أبو العباس الأصمّ، قال أخبرنا الربيع، قال:

(١) في الرسالة ص ٤١٩ - ٤٢٠.

(٢) في ا: «وما أجمع من المسلمين على أنه يكون» وما أثبتناه عن ح، هو الموافق لما في الرسالة.

(٣) ليست في ا.

قال الشافعي - يعني في خلال مسألة ذكرها: كان أبو بكر خليفة النبي، صلى الله عليه وسلم، والعاملَ بعده.

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ في «المحرم» قال: حدثنا أبو العباس: محمد ابن يعقوب قال: أخبرنا الربيع بن سليمان، قال: أخبرنا الشافعي، قال: أخبرنا إبراهيم بن سعد [(١ وأخبرنا أبو إسحاق الأموي، قال: أنبأنا شافع بن محمد، قال: أنبأنا الطحاوي، قال: حدثنا المزني، قال:

حدثنا الشافعي عن إبراهيم بن سعد ١)] عن أبيه عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه:

أن امرأة أتت النبي، صلى الله عليه وسلم، فسألته عن شيء فأمرها أن ترجع. فقالت: يا رسول الله، إن رجعتُ فلم أجدك؟ كأنها تعني الموت. قال: فَاتِي أبا بكر [٢].

أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، قال: حدثنا أحمد بن عبيد الصفّار، قال: أخبرنا زياد بن الخليل، قال: حدثنا مُسَدّد، قال: حدثنا سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن رِبْعِيّ بن حِرَاش، عن حُذَيْفَة: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال:

اقتدوا باللَّذَيْن من بعدي: أبي بكر وعمر [٣].

(١) ما بين الرقمين ليس في ح، ولا في هـ.

(٢) أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة: باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه ٤/ ١٨٥٦ - ١٨٥٧.

(٣) أخرجه الترمذي في أبواب المناقب: باب في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما =

وهكذا رواه عبيد الله بن محمد بن هارون، عن الشافعي، عن سفيان ابن عيينة.

وأخبرنا أبو سعيد: يحيى بن محمد بن يحيى الإسفرايني، قال: حدثنا أبو بكر الديناري [١]، قال: حدثنا بشر [٢] بن موسى، قال: حدثنا الحميدي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا زائدة بن قدامة، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة بن اليمان:

أن رسول الله. صلى الله عليه وسلم، قال: اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر [٣].

= كليهما ٢/ ٢٩٠ عن سفيان بن عيينة، عن زائدة، عن عبد الملك بن عمير بهذا الإسناد وعن سفيان بن عيينة، عن عبد الملك، به نحوه، ثم قال: وكان سفيان بن عيينة يدلس في هذا الحديث؛ فربما ذكره عن زائدة، عن عبد الملك بن عمير، وربما لم يذكر فيه عن زائدة، ثم عقب أبو عيسى بعد هذا فقال: هذا حديث حسن، وفيه عن ابن مسعود، وروى سفيان الثوري هذا الحديث، عن عبد الملك ابن عمير، عن مولى لربعي، عن ربعي، عن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى هذا الحديث من غير هذا الوجه أيضاً عن ربعي، عن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذه الروايات هي التي أوردها البيهقي هنا عن الشافعي.

(١) في ا: «بحر البربهاري» وفي مستدرك الحاكم: «أبو بكر بن إسحاق».

(٢) في ا: «كثير بن موسى» وهو تحريف، وترجمة بشر بن موسى (١٩٠ - ٢٨٨) في تذكرة الحفاظ ٢/ ٦١١.

(٣) مسند الحميدي ١/ ٢١٤.

ومستدرك الحاكم ٣/ ٧٥ من طرق وقد عقب أبو عبد الله على الحديث بقوله: هذا حديث من أجل ما روى في فضائل الشيخين، وقد أقام هذا الإسناد عن الثوري ومسعر: يحيى الحماني. وأقامه أيضاً عن مسعر: وكيع وحفص بن عمر الإيلي، ثم قصر =

وهكذا روى عن أبي بكر: محمد بن يزيد بن حكيم المستملي، عن الشافعي، عن سفيان بن عيينة، غير أنه زاد في إسناده فقال: عن مولى [١] لربعي، عن ربعي.

وكذلك قال [٢] محمد بن كثير عن سفيان، غير أنه لم يذكر زائدة.

ورواه إسحاق بن عيسى، عن سفيان، عن مِسْعَر، عن عبد الملك ابن عمير، عن هلال - مولى ربعي عن ربعي - عن حذيفة، عن النبي، صلى الله عليه وسلم.

وعن عمرو بن هرم، عن ربعي، عن حذيفة، وعن سلمة بن كهيل عن أبي الزَّعْرَاء، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي، صلى الله عليه وسلم.

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: حدثنا أبو عبد الله: محمد بن العباس الضّبي، قال: أنبأنا أبو أحمد النسائي [٣]، قال: حدثنا محمد بن محمد بن عبد العزيز المروزي، قال: سمعت داود بن علي بن خلف يقول: سمعت الحارث بن سُريج يقول: سمعت إبراهيم بن عبيد الحَجَبي. وقال [غيره [٤]] : إبراهيم بن عبد الله الحجبي.

يقول للشافعي [٥]: ما رأيت هاشمياً قطّ قدّم أبا بكر وعمر على عليّ غيرك؟

= بروايته عن ابن عيينة الحميدي وغيره. وأقام الإسناد عن ابن عيينة إسحاق بن عيسى ابن الطباع؛ فثبت بما ذكرنا صحة هذا الحديث وإن لم يخرجاه.

وقد أقر الذهبي الحاكم في تصحيحه للحديث.

(١) في ح، هـ: «مولى ابن ربعي».

(٢) سقطت من ح وهـ.

(٣) في ا: «السلمي».

(٤) سقطت من ا.

(٥) في ا: «الشافعي».

قال: فقال له الشافعي: عليّ: ابن عمِّي وابن خالي - كذا قال، والصواب ابن خالتي - وأنا رجل من بني عبد مناف، وأنت رجل من بني عبد الدار، ولو كانت هذه مكرمة كنتُ أولى بها منك، ولكن ليس الأمر على ما تحسب [١].

قلت: وقوله: «ما رأيت هاشميًّا غيرك» صحيح؛ فإن الشافعي وإن كان من صليبة المطلب بن عبد مناف، فقد ذكرنا في نسبه أن أم عبد يزيد جدّ الشافعي: الشِّفَاءُ بنت هاشم بن عبد مناف. وأم السائب بن عبيد جدّ الشافعي: الشِّفَاء بنت الأرقم بن هاشم بن عبد مناف. وأم الشفاء: خلدة بنت أسد ابن هاشم بن عبد مناف، أخت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي بن أبي طالب. فهو هاشمي من هذه الوجوه التي ذكرناها. وعلي بن أبي طالب ابن خالة جدّه.

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: كتب إليّ محمد بن علي بن الحسين البلخي [٢] بخطه يذكر أنه سمع أبا محرز: يحيى [٣] بن يعقوب بن إبراهيم يقول: سمعت محمد بن عبد الأعلى الغسال يقول: سمعت أبي يقول:

ذُكِر عليّ بن أبي طالب عند الشافعي، فقال: رجل من القوم: ما نَفَرَ الناسَ من علي بن أبي طالب إلا أنه كان لا يبالي بأحد. فقال الشافعي: مهلا؛ لأنه كان فيه أربع خصال لا تكون خصلة واحدة منها في أحد إلا حقَّ له أن

(١) في تاريخ دمشق ١٠/ ١٩١ - ا «على ما تمنيت».

(٢) ليست في ا.

(٣) في ا: «أبا محمد بن محمد بن يعقوب».

لا يبالي بأحد: إن علي بن أبي طالب كان زاهداً، والزاهد لا يبالي بالدنيا ولا بأهلها. وكان عالماً، والعالم لا يبالي بأحد. وكان شجاعاً، والشجاع لا يبالي بأحد. وكان شريفا، والشريف لا يبالي بأحد. كذا قال شيخنا رحمه الله: محمدَ ابن عبد الأعلى.

وقال غيره: محمد بن عبد الغني. وهو الصحيح. وقد ذكر الدارقطني - في أسامي من روى عن الشافعي - عبد الغني بن عبد العزيز المصري.

أخبرنا أبو عبد الرحمن: محمد بن الحسين السلمي، قال: أخبرنا أبو محمد: عبد الله بن سعيد بن عبد الرحمن البستي، بهمذان، قال: حدثنا أحمد بن محمد ابن يوسف، قال: حدثنا محمد بن محمد بن عبد الله بن جعفر الرازي، قال: حدثنا محمد بن الحسين السجستاني، عن أحمد بن محمد الجوال قال: سمعت الربيع ابن سليمان يقول:

سمعت الشافعي ينشد:

شهدتُ بأن الله لا شيء غيره ... وأشهد أن البعث حقٌّ وأخلصُ

وأنّ عُرَى الإيمان قولٌ محسَّنٌ ... وفعلٌ زكِيٌّ قد يزيد وينقصُ [١]

وأن أبا بكر خليفة أحمدٍ ... وكان أبو حفص على الخير يحرصُ [٢]

وأشهد ربي أن عثمان فاضلٌ ... وأن عليًّا فضله متخصّصُ

أئمة قومٍ يقتدي بفعالهمُ ... لحَا الله من إيّاهُم يتنقّصُ [٣]

(١) في ح ومناقب الرازي: «... قول مبين».

(٢) في المناقب: «على الحق يحرص».

(٣) في المناقب: «أئمة دين ...».

فما لِغُوَاةٍ يشتمون سفاهة ... وما لِسفيهٍ لا يجاب فيَحرصُ [١]

وقرأت في كتاب أبي الحسن العاصمي فيما حدثه أبو بكر: أحمد بن محمد [بن محمد [٢]] المراغي، بدمشق، عن أبي بكر بن أخت الجوال الدينوري [٣] عن خاله أحمد بن الجوال. بإسناده، فذكر هذه الأبيات غير أنه قال: «خليفة ربه» وقال: «يقتدي بهداهم».

وقال أبو الحسن: عبد الرحمن بن أحمد الشافعي - فيما [٤] قرأت عليه بمصر - قال: سمعت يحيى بن زكريا النيسابوري - يعني الأعرج - يحدث عن ابن عبد الحكم [٥]، قال:

سمعت الشافعي يقول: ما أرى أنّ الناس ابتلوا بشتم أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلا ليزيدهم الله بذلك ثواباً عند انقطاع عملهم [٦].

ورواه الربيع عن الشافعي بمعناه، وقال: إلا ليجري الله، عز وجل، لهم الحسنات وهم أموات.

(١) الأبيات في مناقب الشافعي للرازي ص ٤٨ - ٤٩. وتاريخ. دمشق. ١٠/ ١٩٠ - ب

(٢) ما بين القوسين من ح.

(٣) في ح، هـ: «الزبيري».

(٤) سقطت من ا.

(٥) في ا، هـ «الأعرج عن عبد الحكم»

(٦) راجع مناقب الشافعي للرازي ص ٤٩. وتاريخ. دمشق ١٠/ ١٩١ - ا

باب ما يؤثر عنه في جملة الصحابة، رضي الله عنهم وعنه

* * *

قرأت في كتاب الرسالة القديمة، رواية الحسن بن محمد الزعفراني، عن الشافعي، رحمه الله، أنه قال [١]:

وقد أثنى الله، تبارك وتعالى، على أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في القرآن والتوراة والإنجيل، وسبق لهم على لسان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من الفضل ما ليس لأحد بعدهم، فرحمهم الله وهنَّاهم بما آتاهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصدِّيقين والشهداء والصالحين، هم [٢] أدَّوْا إلينا سنن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وشاهدوه والوحي ينزل عليه، فعلموا ما أراد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عامًّا وخاصًّا، وعَزْماً وإرشاداً. وعرفوا من سنته ما عرفنا وجهلنا، وهم فوقنا في كل علم واجتهاد، وورع وعقل، وأمرٍ استدرك به علم واستنبط به. وآراؤهم لنا أَحْمَدُ وأولى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا [٣]. والله أعلم.

(١) انظر مناقب الرازي في الموضع السابق.

(٢) في ا: «ثم».

(٣) في ا: «من أنفسنا».

ومن أدركْنا ممن نرضى، أو حُكِي لنا عنه ببلدنا - صاروا فيما لم يعلموا لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيه سنّة إلى قولِهِم إن اجتمعوا، وقول بعضهم إن تفرقوا. فهكذا نقول، ولم نخرج من أقاويلهم. وإن قال واحدهم، ولا [١] يخالفه غيره، أخذنا بقوله.

ثم ذكر فصلا في ترجيح قول الأئمة منهم. قال:

فإن اختلفت الحكام اسْتَدْلَلْنَا بالكتاب والسنة في اختلافهم.

وإن اختلف المُفْتُون بعد الأئمة بلا دلالة فيما اختلفوا فيه - نظرنا إلى الأكثر. فإن تكافئوا نظرنا أحسن أقاويلهم مَخْرَجاً عندنا. وقد نقلت كلامه مبسوطاً في أول «كتاب المبسوط» المردود إلى ترتيب المختصر.

أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، قال: أخبرنا محمد بن علي بن طلحة المروروزي، قال: حدثني محمد بن خالد، قال: سمعت حسين بن علي يقول - كذا في كتابي. وقرأت في كتاب زكريا ابن يحيى الساجي قال: حدثني محمد بن إسماعيل، قال: سمعت الحسين بن علي يقول:

سمعت الشافعي يقوب:

العشرة [٢] أشكال، لهم أن يغير بعضهم على بعض. والمهاجرون

(١) في ا: «ولم».

(٢) يريد العشرة المبشرين بالجنة.

الأولون والأنصار لهم أن يغيروا بعضهم على بعض. والمسلمة من بعدُ - يريد مسلمة الفتح - أشكال، لهم أن يغير بعضهم على بعض.

فإذا ذهب أصحاب محمد، صلى الله عليه وسلم، فحرام على تابعي الاتباع لهم بإحسان.

زاد فيما قرأت من كتابه: قد وجد [١].

(١) في ح: «وحدوه» كذا بالأصول.

باب ما يؤثر عنه في قتال أمير المؤمنين: عليّ بن أبي طالب أهلَ القبلة

* * *

وله في «القديم» كتاب في قتال أهل البغي، وفي «الجديد» كتاب آخر في قتالهم، بناهُ على قتال عليّ، رضوان الله عليه، من قاتله من المسلمين وتبع سيرته في قتالهم بعد الاحتجاج في قتال الفئة [١] الباغية حتى تفيءَ إلى أمر الله تعالى بقول الله عز وجل {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} إلى قوله: {بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [٢]} .

قال الشافعي [٣]: فذكر الله تعالى اقتتال الطائفتين. والطائفتان المُمْتَنِعَتَان: الجماعتان، كل واحدة تمتنع أشدّ الامتناع أو أضعف، إذا لزمها اسم الامتناع. وسماهم الله عز وجل «المؤمنين» وأمر بالإصلاح بينهم.

ثم ساق الكلام إلى أن قال:

فلا تقاتلوا حتى تدعوا إلى الصلح؛ لأن على الإمام الدعاء كما أمر الله

(١) من ح.

(٢) سورة الحجرات: ٩.

(٣) الأم ٤/ ١٣٣.

تعالى قبل القتال. وأمر الله تعالى بقتال الباغية، وهي مسماة باسم الإيمان حتى تَفِئَ إلى أمر الله، فإذا فاءت لم يكن لأحد قتالها.

ثم بسط الكلام في شرح ذلك.

واحتج في «باب السيرة في أهل البغي [١]» بحديث جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده: علي بن الحسين، قال:

دخلت على مروان بن الحكم، فقال: ما رأيت أحداً أكرم غَلَبَةَ من أبيك: ما هو إلا أن ولَّيْنا يوم الجمل فنادى مناديه: لا يقتل مدبر، ولا يُذَفَّفُ على جريح.

وقال الشافعي: [٢] قال الدراوردي: حدثنا جعفر، عن أبيه: أن علياً كان لا يأخذ سلَباً، ولا يذفِّف على جريح، ولا يقتل مدبراً.

وقال الشافعي عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي فاخته: أن عليًّا اتي بأسير يوم صفّين فقال: لا تقتلني صبراً، فقال عليّ: لا أقتلك صبراً؛ إني أخاف الله رب العالمين. فخلّى سبيله [٣].

قال الشافعي [٤]: والحرب «يوم صفّين» قائمة، ومعاوية يقاتل جادًّا في أيامه كلها مُنْتَصِفاً أو مُسْتَعَلِياً، وعليّ يقول لأسير من أصحاب معاوية:

(١) الأم ٤/ ١٣٥ - ١٣٦.

(٢) الأم ٤/ ١٣٦ وفيه بعد «سلبا»: «وأنه كان يباشِر القتال بنفسه».

(٣) الأم ٤/ ١٤٣.

(٤) الأم ٤/ ١٤٣.

لا أقتلك صبراً؛ إني أخاف الله رب العالمين.

وإنما أراد به بعض العراقيين حيث يزعم أن الأسير من أهل البغي يقتل إذا كانت له فئة يرجع إليها [١] يقاتل جادًّا في أيامه كلها منتصفاً أو مستعلياً - يعني يساويه مرة في الغلبة في الحرب ويعلوه أخرى، وعليّ يقول لأسير من أصحابه: لا أقتلك صبراً؛ إني أخاف الله رب العالمين.

قال الشافعي في خلال كلامه:

وقلت له: علي بن أبي طالب ولِّي قتال المتأولين فلم يُقْصِصْ من دم ولا مال أصيب في التأويل.

وفي كل هذا دلالة على أن الشافعي رحمه الله كان يعتقد في «عليّ» رضي الله عنه أنه كان محقًّا في قتاله مَنْ خرج عليه، وأن «معاوية» ومن قاتله لم يخرجوا بالبغي من الإيمان؛ لأن الله تعالى سمى الطائفتين جميعاً: مؤمنين، والآية عامّة. وجرى علي، رضي الله عنه، في قتالهم مجرى قتال [٢] الإمام العادل من خرج من طاعته من المؤمنين، وسار بسيرته في قتالهم، وقصد به حملهم على الرجوع إلى الطاعة، كما قال الله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [٣]} .

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرنا الزبير بن عبد الواحد، قال: سمعت أبا العباس: أحمد بن يحيى بن زكريا يقول: سمعت الربيع يقول:

(١) راجع نص محاورة الشافعي في الأم ٤/ ١٤٣ وبعد هذا في ح: «فيقول الشافعي: لم يقتله علي ومعاوية، لذلك الأسير فئة يرجع إليها، يقاتل ...».

(٢) في ح: «قتل».

(٣) سورة الحجرات: ٩.

سمعت الشافعي يقول: الخلفاء خمسة: أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وعمر بن عبد العزيز، رضوان الله عليهم [١].

وإنما قال هذا لِما ظهر من عدله وحسن سيرته. ثم إنه كان يرى وجوب طاعة مَنْ غلب بالسيف من المسلمين في غير معصية الله.

أخبرنا أبو عبد الله، أخبرني أبو أحمد بن أبي الحسن، قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا حرملة، قال:

سمعت الشافعي يقول: كان من غلب على الخلافة بالسيف حتى يسمى خليفة ويجمع الناس عليه - فهو خليفة.

قال حرملة: يعني إذا كان من قريش يُغْزَى معه وتُصلَّى خلفه الجمعة. ومن لم يفعل فهو صاحب بدعة.

وقد روينا في «كتاب فضائل الصحابة» توبة من قاتل عليًّا من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، يوم الجمل، وروينا اعتراف معاوية بذنوبه في قصة المِسْوَر بن مَخْرَمّةَ، وأنه يرجو النجاة بكلمة الشهادة، وما يقيمه من الحدود، وقتال المشركين مع صحبة رسول الله، صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: حدثنا أبو الوليد الفقيه، قال: حدثنا أبو بكر بن عبيدة الوبري [٢]، عن يونس بن عبد الأعلى، قال:

(١) تاريخ دمشق ١٠/ ١٩١ - ا.

(٢) في ا: «الدبري» وهو تصحيف، وهو أحمد بن محمد بن عبيدة بن زياد بن عبد الخالق الثعالبي الوبري. كما في الأنساب ٥٧٨.

سمعت الشافعي يقول: سئل عمرُ بن عبد العزيز عن أهل صفّين؟ فقال: تلك دماء طهَّر الله منها يدي فلا أحِبُّ أن أخْضِب لساني بها.

قلت: وهذا رأي حسن جميل من عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، في السكوت عما لا يعنيه إذا لم يحتج إلى القول فيه.

فأما إذا احتاج إلى تعلّم السيرة في قتال الفئة الباغية، فلا بد له من متابعة علي بن أبي طالب في سيرته في قتالهم.

ثم ولا بد من أن يعتقد كونه محقًّا في قتالهم. وإذا كان هو محقًّا في قتالهم كان خصمه مخطئاً في قتاله والخروج عليه، غير أنه لم يخرج ببغيه عن الإسلام، كما حكينا عن الشافعي، رحمة الله عليه، في متابعته عليًّا في سيرته في قتالهم، وتسمية الطائفتين جميعاً مسلمتين.

وفي قتال علي ومعاوية وخروج مارقة من بينهما، وهم أهل البهروان - ورد الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال:

«تكون أمتي فرقتين فتخرج من بينهما خارجة مارقة يلى قتلها أولاهما بالحق [١]».

وفي رواية أخرى: «تقتلها أولى الطائفتين بالحق».

(١) حديث أبي سعيد في مسند أحمد ٣/ ٦٤، ٦٥، ٨٢، ٩٧ (ط الحلبي) .

[م - ٢٩] مناقب

فجعل النبي، صلى الله عليه وسلم، الفرقتين جميعاً من أمته، وجعل الذي قتلها أولاهما بالحق، فوليها علي.

وروينا عن أبي بَكْرَةَ عن النبي، صلى الله عليه وسلم: أنه سماها مسلمين في قصة الحسن بن علي [١] رضي الله عنهم.

وروينا عن [٢] على أنه سئل عن أهل الجمل؟ فقال: إخواننا بَغَوْا علينا فقاتلناهم، وقد فاءوا وقد قبلنا منهم.

وكان عبد الله بن عمر إذا ذكر أهل صفّين قال: قوم أصابتهم فتنة، يغفر الله لنا ولهم.

فنقول ما قال سلفنا، رضي الله عنهم، في كل واحدة من الطائفتين عند الحاجة إليه. ونسكت عما [سكتوا عنه] عند الاستغناء به عنه. وبالله التوفيق.

ومما [٣] حكى عن أبي داود السجستاني أن «أحمد بن حنبل» أُخبِر أن

(١) يشير إلى ما رواه في كتاب الاعتقاد ص ١٩٨ بسنده عن الحميدي، عن سفيان. عن إسرائيل، عن أبي موسى قال: سمعت الحسن قال: سمعت أبا بكرة يقول: رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على المنبر، والحسن بن علي معه إلى جنبه، وهو يلتفت إلى الناس مرة وإليه مرة، ويقول: إن ابني هذا سيد، ولعل الله يصلح به بين فئتين من المسلمين. قال سفيان: قوله: «فئتين من المسلمين» يعجبنا جداً وعقب عليه البيهقي بقوله: «وإنما أعجبهم؛ لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، سماهما جميعاً مسلمين».

(٢) في ا: «عنه».

(٣) في ا: «وفيما».

«يحيى بن معين» ينسب «الشافعي» إلى التشيع، فقال له أحمد: تقول هذا لإمام من أئمة المسلمين؟

فقال يحيى: إني نظرت في «كتابه [١] في قتال أهل البغي» فإذا قد احتج من أوله إلى آخره بعلي بن أبي طالب.

فقال أحمد بن حنبل: عجباً لك! فبمن كان يحتج الشافعي في قتال أهل البغي، وأول من ابتلي من هذه الأمة بقتال أهل البغي علي بن أبي طالب؟ وهو الذي سنَّ [٢] قتالهم وأحكامهم. ليس عن النبي، صلى الله عليه وسلم، ولا عن الخلفاء وغيره - فيه سنة، فبمن كان يَسْتَنُّ؟ فخجل يحيى من ذلك [٣].

(١) في ا: «في كتاب قتال».

(٢) في ا: «بين».

(٣) مناقب الشافعي للرازي ٥٢.

عن الكاتب

Ustadz Online

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية