الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

الإعجاز البيانى فى القرآن الكريم

الإعجاز البيانى فى القرآن الكريم

 الكتاب: الموسوعة القرآنية المتخصصة
المؤلف: مجموعة من الأساتذة والعلماء المتخصصين
رئيس التحرير: أ.د. علي جمعة
الناشر: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، مصر
عام النشر: ١٤٢٣ هـ - ٢٠٠٢ م
عدد الصفحات: ٨٨٢
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
الموضوع: علوم القرأن
 

فهرس الموضوعات

  1. الإعجاز البيانى فى القرآن الكريم
    1. ١ - الإعجاز فى العصر النبوى:
    2. ٢ - أول من نفى الإعجاز عن القرآن:
    3. ٣ - القول بالصرفة:
  2. الإعجاز المعاصر
    1. مقدمة:
    2. محمد فريد وجدى
    3. مصطفى صادق الرافعى
    4. عبد الله عفيفى
    5. الدكتور محمد عبد الله دراز:
    6. سيد قطب:
  3. الإعجاز العلمى للقرآن الكريم
    1. تعريف الإعجاز العلمى:
    2. الترقى فى فهم الإعجاز العلمى للقرآن الكريم:
    3. ضوابط (منهج) البحث فى الإعجاز العلمى للقرآن الكريم:
  4. من أوجه الإعجاز العلمى للقرآن الكريم:
    1. ١ - فى آيات السماء:
    2. ٢ - فى آيات الأرض:
    3. ٣ - فى آيات الجبال:
    4. ٤ - فى آيات البحار:
    5. ٥ - فى عالم النبات:
    6. ٦ - فى عالم الحيوان:
    7. ٧ - فى عالم الحشرات:
    8. ٨ - فى عالم الطيور:
    9. ٩ - فى الآفاق وفى الأنفس:
  5. ١٠ - قضايا علمية معاصرة:
    1. (أ) الاستنساخ:
    2. (ب) التلوث البيئى:
    3. (ج) احتمالات الحياة على كواكب أخرى فى الكون: 
  6. العودة إلي كتاب الموسوعة القرآنية المتخصصة

الإعجاز البيانى فى القرآن الكريم
 
- الإعجاز فى العصر النبوى:
لم تكن كلمة الإعجاز بمعناها البلاغىّ معروفة فى عصر النبوة، ولكنّ المعنى اللغوى الذى يدل على عدم تمكن أحد من البلغاء أن يأتى بمثل ما جاء به القرآن كان مؤكّدا وملموسا، لأن القرآن الكريم قد فاجأ العرب بأسلوب لا عهد لهم به، فظلّوا حائرين يلمسون سحره الخالب دون أن يستطيعوا معارضته وقد تحداهم القرآن أن يأتوا بسورة من مثله، فبذلوا قصارى جهدهم فى ذلك فما استطاعوا، وهم بعد فرسان البلاغة وأئمة الكلام.
لقد فاجأهم القرآن بنمط من القول المعجز لا عهد لهم به، فهو وإن تألّف من كلماتهم وحروف لغتهم فإنه ينصبّ فى قالب متفرّد يدركون حلاوته ويحسّون روعته دون أن يستطيعوا محاكاته. وكان عهدهم بالكلام الجيّد أن يصوغه شاعر فصيح منهم، فيهبّ المنافسون لمعارضته واحتذائه فيقعوا منه قريبا، أو يسبقوه ظافرين بأحسن مما قال.
فما بالهم يتحداهم القرآن أن يأتوا بعشر آيات من مثله فتضطغن نفوسهم غضبا حين يدركهم البهر فلا يستطيعون (١).
إنّ العهد بصاحب الأسلوب المتميز من ذوى الفصاحة أن يكون تميّزه الاستقلال غير منقطع الصلة بما قبله تماما، فهو وإن أتى بالجديد المستطرف فإنّه يمتّ بأقرب الوشائج إلى سلف قريب قد احتذاه بدءا ثم تفوّق عليه، أما أن تنقطع الصلة تماما بين ما يسمعون وما جاءوا به من قبل فى الشعر والخطب والوصايا الجاهلية فهذا ما كان موضع الدهشة والانبهار.
وهذا النبىّ الذى نزل عليه الوحى، يأتى بالقول المبين فى حديثه وخطبه، ولكنّ أسلوبه فى الحديث والخطب يبتعد ابتعادا شاسعا عن أسلوب الوحى المنزل. فدلّ ذلك دلالة قاطعة على أن القرآن نمط إلهى ليس فى طوق البشر محاذاته. ولو جاز لأحد من بلغاء البشر أن يأتى بمثله لكان رسول الله وهو أفصح العرب قاطبة أحقّ أن يكون هذا الذى يستطيع! أمّا أن يوجد هذا الفرق الشاسع بين أسلوب القرآن وأسلوب الحديث النبوى فهو الدليل القاطع على أن القرآن من عند الله.
(١) البيان القرآنى للدكتور محمد رجب البيومى ص ١٥ ط الدار المصرية اللبنانية للنشر سنة ٢٠٠٠ م.
 
١ ‏/ ٦٥١
 
والروايات التى تزعم أن بعض البشر حاول معارضة القرآن، تدل إن صدقت- على هذا الإعجاز؛ وإن كنت أرى أن البليغ الممتاز ممن عزيت إليه هذه المعارضة أعقل
وأحصف من أن يتورط فى شىء لا يقوم له، فما قيل فى هذا المجال موضع توهين.

٢ - أوّل من نفى الإعجاز عن القرآن:
لا يعرف على وجه التحديد أوّل من ذهب إلى أن القرآن الكريم غير معجز، وقد قال الأستاذ مصطفى صادق الرافعى فى كتابه إعجاز القرآن (٢) إنّ أول من ذهب إلى ذلك هو الجعد بن درهم، يقول الرافعى:
«هو مؤدب مروان بن محمد آخر خلفاء بنى أمية، وكان زنديقا فاحش الرأى واللسان، وهو أول من صرح بالإنكار على القرآن والرد عليه، وجحد أشياء مما فيه، وأضاف إلى القول بخلقه أن فصاحته غير معجزة وأن الناس يقدرون على مثلها، وعلى أحسن منها، ولم يقل بذلك أحد قبله، ولا فشت المقالة بخلق القرآن إلّا من بعده».
وكتب الكلام التى دوّنت آراء الجعد، تحدثت عن قوله بخلق القرآن، وعن قوله بالتعطيل، وقوله بالقدر، ولكنها لم تتحدث عن إنكاره للإعجاز، فإذا كان الرافعى قد قرأ عن جعد ما لم نقرأه، فكان عليه أن يذكر مصدره، ومهما يكن من شىء فإن القول بخلق القرآن فى هذا الزمن المتقدم- فى العصر الأموى- جرّأ الملاحدة والزنادقة ممن دخلوا فى الإسلام ظاهريّا دون أن تطمئن قلوبهم إلى نوره؛ جرّأهم على الحديث المتسرّع عن كتاب الله؛ ومنه ما قالوه عن عدم الإعجاز، وقد دعت حرية الجدل فى مطلع العهد العباسى هذا النفر إلى الافتراء بغير العلم، فراج حديثهم عن عدم الإعجاز، واضطر المدافعون عن دين الله أن يواجهوا الباطل بما يدحضه، فبدأ الحديث عن الإعجاز، وتنوّع القول فى بيان خصائصه. وفى هؤلاء المدافعين من تورط فى حديث فهم على غير وجهه، وأعنى به حديث الإعجاز بالصرفة، وهو مما يحسن أن نقف لديه.

٣ - القول بالصرفة:
ينسب القول بالصرفة فى تفسير الإعجاز القرآنى لأبى إسحاق النظام، وهو قول لم يدونه النظام فى كتاب، ولولا أن الجاحظ رواه عنه ما اشتهر وما ذاع، وفحواه أن العرب قد انصرفوا عن معارضة القرآن، وهذا الانصراف دليل الإعجاز، ويوحى هذا القول بأنهم لو اتجهوا إلى معارضته لجاءوا بمثله؛ كما أن تمام الرأى عند النظام أنه قال إن الإعجاز إنما جاء من الإخبار عن الأمور
(٢) إعجاز القرآن للأستاذ مصطفى صادق الرافعى- الطبعة السادسة سنة ١٩٥٦ مطبعة الاستقلال ص ١٦١.
 
١ ‏/ ٦٥٢
 
الماضية والآتية، والحق أن تفسير الصرفة بمعنى عدم اتجاه العرب إلى المعارضة فقط، مما لا يعقل أن يقول به رجل كبير العقل كالنظام مهما أرجف أعداؤه بما اختلفوا من مثالبه، وقد جعله الجاحظ عبقرى القرن الثالث، فكيف يكون بهذه المنزلة الرفيعة ثم يذهب هذا المذهب المخطئ، كما أن مما يجعل المسألة ذات خطر فى حديث الإعجاز أن أفاضل من الأعلام مثل الجاحظ وابن سنان والمرتضى وابن حزم والعلوى قد قالوا به؛ أفيكون هؤلاء من الضحالة وضيق النظر حتى يفهموا من الصرفة هذا الفهم الذى ينكره الغلام الناشئ بله العالم المفكر؟ إن الأمر لا يستقيم إلا إذا فهمت الصرفة فهما يتفق وجلال هؤلاء الكبار الذين هتفوا بما قال النظام. وهم أنفسهم الذين تحدثوا عن بلاغة القرآن وإعجاز فصاحته تركيبا ونظما وتصويرا بما يجعل ذلك من أسباب الإعجاز، إن الذى فهمته من معنى الصرفة، ولا أدرى إذا كنت قرأته من قبل لبعض الفضلاء ونسيت اسمه أو أنه شىء قذفه الله فى نفسى! هذا المعنى هو أن العرب حين دهشوا من روعة القرآن، وبهرهم تأثيره بما فوق القدرة، انصرفوا تلقائيا عن معارضته، لأنهم علموا أنهم مهما حاولوا هذه المعارضة وجمعوا لها أساطين القول من بلغائهم المعدودين فلن يأتوا بسورة من مثله، أو بعشر آيات من مثله، فكانت (الصرفة) عن المعارضة التى توقعوا استحالتها بادئ ذى بدء هى وجه الإعجاز الذى عناه النظام وهو وجه معقول نلمس نظائره فى الحياة حين يبنى مهندس عبقرى صرحا رائعا. فيكون آية الآيات فى بابه، ويراه زملاؤه فيقرون بالعجز عن بناء مثله، ويصرفون أنفسهم عن محاولة هذا البناء! هذا هو الفهم الجدير بالنظام ومن تبعه من البلغاء، وهم من هم!
الجاحظ: للجاحظ سطوة فى التعبير، وتدفق فى سوق الحجج والبراهين، وقد عاش فى مشتجر الجدل، وخاض عباب الحوار فلا بد أن يكون لإعجاز القرآن نصيب من حديثه الدافق، وقد ذكروا من مؤلفاته المفقودة كتابى (نظم القرآن) و(آى القرآن) وحديث النظم قد اشتهر كثيرا من بعده حتى مخض زبدته الإمام عبد القاهر الجرجانى. فلا أستبعد أن يكون هذا الكتاب المفقود نواة هذا الحديث، وقد قال الجاحظ عنه مخاطبا الفتح بن خاقان حين طلب منه أن يكتب مؤلفا عن القرآن: «فكتبت لك كتابا أجهدت فيه نفسى، وبلغت فيه أقصى ما يمكن مثلى فى الاحتجاج للقرآن، والرد على كل طعّان، فلم
 
١ ‏/ ٦٥٣
 
أدع فيه مسألة لرافضى ولا لحديثى، ولا لحشوى، ولا لكافر مباد، ولا لمنافق مقموع، ولا لأصحاب النظام، ولمن نجم بعد النظام ممن يزعم أن القرآن خلق، وليس تأليفه بحجة، وأنه تنزيل وليس ببرهان ولا دلالة، فلما ظننت أنى بلغت أقصى محبتك، وأتيت على معنى صفتك، أتانى كتابك تذكر أنك لم ترد الاحتجاج لنظم القرآن وإنما أردت الاحتجاج لخلق القرآن، وكانت مسألتك مبهمة، ولم أك أن أحدث لك فيها تأليفا، فكتبت لك أشق الكتابين وأثقلهما، وأغمضهما معنى وأطولهما» (٣).
ويقرب من كتاب النظم ما كتبه فى مؤلفه المفقود أيضا (آى القرآن) حيث أشار إلى بعض ما جاء به فى كتاب الحيوان حين قال تحت عنوان (من إيجاز القرآن):
«ولي كتاب جمعت فيه آيا من القرآن لتعرف بها فصل ما بين الإيجاز والحذف، وبين الزوائد والفضول والاستعارات، فإذا قرأتها رأيت فضلها فى الإيجاز، والجمع للمعانى الكثيرة بالألفاظ القليلة على الذى كتبته لك فى باب الإيجاز وترك الفضول، فمنها قوله حين وصف خمر أهل الجنة:
لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ، وقوله- ﷿ حين ذكر فاكهة أهل الجنة:
لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ جمع بهاتين الكلمتين جميع تلك المعانى. وهذا كثير دللتك عليه، فإن أردته فموضعه مشهور (٤).
وقراءة هذين النصين تدل على ما فقدناه من إفاضة الجاحظ فى هذه المسائل التى تتصل بالإعجاز بأقوى سبب، وقد بقيت لنا شذور شتى مما كتبه الجاحظ فى رسالة
(حجج النبوة) [التى نشرها الأستاذ عبد السلام هارون فى الجزء الثالث من رسائل الجاحظ]، وبها ما يمكن أن يستدل به على منحى الجاحظ فى ثبوت الإعجاز، [وسأنقل منها ما يدل على ذلك دون إطالة]؛ فمنها قوله:
«إن رجلا من العرب لو قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة واحدة، طويلة أو قصيرة، لتبين له فى نظامها ومخرجها، وفى نقلها وطبعها، أنه عاجز عن مثلها، ولو تحدى بها أبلغ العرب لظهر عجزه عنها، وليس ذلك فى الحرف والحرفين، والكلمة والكلمتين! ألا ترى أن الناس قد يتهيأ لهم فى طبائعهم، ويجرى على ألسنتهم أن يقول رجل منهم «الحمد لله، وإنا لله، وربنا الله، وحسبنا الله ونعم الوكيل» وهذا كله فى القرآن، غير أنه متفرق غير مجتمع، ولو أراد أنطق الناس أن يؤلف من هذا الضرب سورة واحدة طويلة أو
(٣) رسائل الجاحظ ج (٣) ص ٢٨٧ تحقيق عبد السلام هارون- مكتبة الخانجى سنة ١٩٧٩ م.
(٤) كتاب الحيوان ج ٣ ص ٨٦ تحقيق عبد السلام هارون ط ٣ سنة ١٩٦٩.
 
١ ‏/ ٦٥٤
 
قصيرة، على نظم القرآن وطبعه، وتأليفه ومخرجه لما قدر عليه ولو استعان بجميع قحطان معد بن عدنان» (٥).
وهذا الكلام أصل لقضية النظم، وكل ما انتمى إليها ينتهى إلى هذا الأصل، ثم يقول الجاحظ: (٦)
«ولا يجوز أن يكون مثل العرب فى كثرة عددهم، واختلاف عللهم، والكلام كلامهم وهو سيد عملهم فقد فاض بيانهم، وجاشت به صدورهم، وغلبتهم قوتهم عليه عند أنفسهم .. وقد هجوه من كل جانب، وهاجى أصحابه شعراءهم، ونازعوا خطباءهم، وحاجوه فى المواقف، وخاصموه فى المواسم، وبادءوه العداوة، وناصبوه الحرب، فقتل منهم وقتلوا منه، وهم أثبت الناس حقدا، وأبعدهم مطلبا، وأذكرهم لخير ولشر وأنفاهم له، وأهجاهم بالعجز وأمدحهم بالقوة، ثم لا يعارض معارض، ولم يتكلف ذلك خطيب ولا شاعر، (٦) إلى أن يقول:
«فإما أن يكونوا عرفوا عجزهم، وأن مثل ذلك لا يتهيأ لهم، فرأوا أن الإضراب عن ذكره، والتغافل عنه فى هذا الباب، وإن قرعهم به، أمثل فى التدبير، وأجدر ألا ينكشف أمرهم للجاهل والضعيف، وأجدر أن يجدوا للدعوة سبيلا، فقد ادعوا القدرة بعد المعرفة بعجزهم عنه، وهو قوله عز ذكره وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا (٧) وهل يذعن الأعراب وأصحاب الجاهلية للتقريع بالعجز، والتوقيف على النقص، ثم لا يبذلون مجهودهم، ولا يخرجون مكنونهم، وهم أشد خلق الله أنفة، وأفرطهم حمية، وأطلبهم بطائلة، وقد سمعوه فى كل منهل وموقف، والناس موكلون بالخطابات، مولعون بالبلاغات، فمن كان شاهدا فقد سمعه، ومن كان غائبا فقد أتاه به من لم يزوّده، وإما أن يكونوا غير ذلك، ولا يجوز أن يطبقوا على ترك المعارضة، وهم قادرون عليها، لأنه لا يجوز على العدد الكثير من العقلاء والدهاة، والحلماء مع اختلاف عللهم، وبعد همهم، وشدة عداواتهم الإطباق على بذل الكثير، وصون اليسير». (٨)
على أن الجاحظ هو الذى فتق أكمام الحديث عن الأسلوب القرآنى، وبيّن من سماته ما جعله الكثيرون مصدرا أولا للإعجاز القرآنى، فقد نظر الرجل إلى ألفاظ القرآن ومعانيه ليهتدى إلى فطن بارعة فى التحليل والاستنتاج كانت عون البلاغيين فى كثير مما كتبوه عن اللفظ والجملة والصورة، فما تحدث البلغاء عن فصاحة الكلمة وفصاحة الكلام، وأسرار الحذف والذكر، ومواضع الإيجاز والإطناب، وجمال التشبيه
(٥) رسائل الجاحظ ج (٣) ص ٢٢٩.
(٦) رسائل الجاحظ ج (٧) ص ٢٧٣.
(٧) سورة الأنفال: ٣١.
(٨) رسائل الجاحظ ج (٣) ص ٢٧٥.
 
١ ‏/ ٦٥٥
 
والاستعارة وغيرها من الأبواب إلا بعد أن عرض لهم الجاحظ فنونا مترفة من استشفافه الذوقى لكتاب الله، ولن نرسل القول إرسالا دون شواهد صريحة توضح ما نعنيه. (٩).
أجل تحدث الجاحظ عن ألفاظ القرآن حديثا لم يسمع من أحد قبله إذ قال فى الباب الأول من البيان والتبيين: «وقد يستخف الناس ألفاظا ويستعملونها، وغيرها أحق منها، ألا ترى أن الله ﵎ لم يذكر فى القرآن الجوع إلا فى موضع العقاب، أو موضع الفقر المدقع، والعجز الظاهر. والناس لا يذكرون السّغب ويذكرون الجوع فى حال القدرة والسلامة، وكذلك المطر، لأنك لا تجد القرآن يلفظ به إلا فى موضع الانتقام، والعامة وأكثر الخاصة لا يفصلون بين ذكر المطر وذكر الغيث، ولفظ القرآن الذى عليه نزل أنه إذا ذكر الأبصار لم يقل الأسماع، وإذا ذكر سبع سماوات لم يقل الأرضين ألا تراه لا يجمع الأرض أرضين ولا السمع أسماعا، والجارى على أفواه العامة غير ذلك. (١٠)
وقد جاء من بعد الجاحظ من كشف عن أسرار هذه الكلمات، وحسنها فى موضع، وعدم لياقتها فى موضع آخر اقتداء بكتاب الله ورجوعا إلى البيان والتبيين فى الإسناد.
أما حديث الجاحظ عن الصورة البيانية فى القرآن فقد كثرت أمثلته، وكتاب الحيوان بالتراث معرض رائع لهذا الحديث، واكتفى بمثل واحد من هذا المجال: قال الجاحظ تحليلا لقول الله ﷿ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (١١) «زعم أناس أن رءوس الشياطين ثمر شجرة تكون ببلاد اليمن لها منظر كريه، والمتكلمون لا يعرفون هذا التفسير وقالوا: ما عنى إلا رءوس الشياطين المعروفين بهذا الاسم من فسقة الجن ومردتهم، فقال أهل الطعن والخلاف: ليس يجوز أن يضرب المثل بشيء لم نره فتتوهمه، ولا وصفت لنا صورته فى كتاب ناطق أو خبر صادق، ومخرج الكلام يدل على التخويف بتلك الصورة والتفزيع منها، وعلى أنه لو كان شىء أبلغ فى الزجر من ذلك لذكره، فكيف يكون الشأن كذلك والناس لا يفزعون إلا من شىء هائل قد عاينوه ...
إلى أن قال: قلنا: وإن كنا نحن لم نر شيطانا قط، ولا صوّر رءوسها لنا صادق بيده، ففي إجماعهم على ضرب المثل بقبح الشيطان، حتى صاروا يضعون ذلك فى مكانين، أحدهما أن يقولوا: لهو أقبح من الشيطان، والوجه الآخر: أن يسمى الجميل شيطانا على جهة التطير له كما تسمى الفرس الجميلة شوهاء والمرأة الجميلة صماء
(٩) خطوات التفسير البيانى للقرآن الكريم للدكتور محمد رجب البيومى ص ٧٩ وما بعدها (سلسلة البحوث الإسلامية) ديسمبر سنة ١٩٧١، وقد استعنت به فى إيراد هذه الشواهد، وما توصلت إليه هنا من النتائج.
(١٠) البيان والتبيين ج (١) ص ٣٣ تحقيق السندوبى.
(١١) سورة الصافات: ٦٥.
 
١ ‏/ ٦٥٦
 
وخنساء وأشباه ذلك على جهة التطير له، ففي إجماع المسلمين والعرب على ضرب المثل بقبح الشيطان دليل على أنه فى ذلك أقبح من كل قبيح». (١٢)
والأمثلة كثيرة لما حلله الجاحظ من آيات الكتاب المبين، وفى الفصل الذى كتبته عن (وثبات الجاحظ) فى كتابى (خطوات التفسير البيانى) توضيح كاف لما أعنيه، حيث
ذكرت من النماذج ما يدل على معاناة الجاحظ فى هذا المضمار؛ لأنه بهذا التحليل الرائع لآيات القرآن الكريم قد دل على أمثلة من الإعجاز القرآنى تكون تطبيقا لما قرره بشأن هذا الإعجاز [مما أشرت إليه فى صدر هذا البحث]، وآخذ على بعض المعاصرين ممن كتبوا عن الصور البيانية فى كتاب الله أنهم اقتبسوا كلام الجاحظ دون أن يشيروا إليه؛ وكأن القول من مبتكراتهم، وهذا فى العلم غير حميد.
الرمانى: دعت الحرية الفكرية فى العصر العباسى نفرا من الناس أن يقولوا فى كتاب الله ما يشاءون، ووجد الملاحدة منهم فى كتاب الله ما يشفون به صدورهم من الإرجاف الكاذب، فهب المخلصون من حماة الإسلام يدافعون عن إعجازه بما يملكون من إقناع، فكتب الجاحظ عن نظم القرآن ما جعله موضوعا لقضية الإعجاز، واقتفاه أبو بكر داود السجستانى ت ٣١٦ هـ، وأبو زيد البلخى ت ٣٢٢ هـ، وأبو بكر بن الأخشيد ت ٣٢٦ هـ، فتحدثوا عن الإعجاز فى كتب تحمل عنوان (نظم القرآن) ثم جاء محمد بن يزيد الواسطى فتحدث عن إعجاز القرآن فى كتاب جعله بعنوان (الإعجاز)، فكان أول من خالف عنوان النظم إلى عنوان الإعجاز، ولاقى عنوانه قبولا لدى الدارسين، فكان موضع اختيار من كتبوا فى الإعجاز من بعده وفى طليعتهم الرمانى ٣٨٦ هـ والخطابى ٣٨٨ هـ والباقلانى ٤٠٣ هـ، وغيرهم كثير، وإذا كان ما كتبه السابقون من قبل هؤلاء الثلاثة قد فقد ولم تظهر مخطوطاتهم بعد، فإننا سنخصهم بالحديث.
كان الخطابى والرمانى متعاصرين كما يعلم من تاريخ وفاتهما، ولا نعلم أيهما سبق صاحبه فى الحديث عن إعجاز القرآن ولكن قراءة الكتابين تدل على أن أحدهما لم يحبذ الآخر، بل لم يقرأ ما كتب، فإن التأثر مفقود تماما، لاختلاف المنحى، وإذا كان الرمانى قد سبق صاحبه إلى لقاء ربه بعامين أو بأربعة على اختلاف الروايات فسأبدأ به.
لقد عمّر على بن عيسى الرمانى دهرا طويلا قطعه فى الدراسات العميقة حتى صار
(١٢) الحيوان ج ٦ ص ٢١٣.
 
١ ‏/ ٦٥٧
 
علما من أعلام النحو فى عصره، وقورن بأبى علىّ الفارسى، وكاد يرجحه عند قوم، وتأليفه فى النحو على وجه التفريع والتقسيم والإكثار من المصطلحات كان واضحا فى حديثه عن الإعجاز، إذ بدأ بتقسيم البلاغة إلى طبقات ثلاث، ثم ثنى بتقسيم مسائلها إلى عشرة أقسام هى الإيجاز والتشبيه والاستعارة والتلاؤم والتواصل والتجانس والتصريف والتضمين والمبالغة وحسن البيان، وأوضح كل قسم بما توسع فيه من الاستشهاد المتعدد، ويطول بنا القول لو تتبعناه فى كل ما كتب، ولكننا نشير إلى ما ينبئ عن اتجاهه فحسب، فقد بدأ بالحديث عن الإيجاز فقسمه إلى إيجاز حذف وإيجاز قصر، فتابعه البلاغيون على اصطلاحه، واستشهد بمثل قول الله ﷿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها (١٣) فقال:
«كأنه قيل حصلوا على النعيم المقيم الذى لا يشوبه التنغيص، وإنما صار الحذف فى مثل هذا- يريد حذف جواب الشرط- لأن النفس تذهب فيه كل مذهب، ولو ذكر الجواب لقصر على الوجه الذى تضمنه البيان فحذف الجواب فى قولك «لو رأيت عليا بين الصفين» أبلغ من الذكر لما بيناه. (١٤)
ثم تعرض للموازنة بين قول الله تعالى:
وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ (١٥) وقول من قال (القتل أنفى للقتل) فأفاض على غير عادته ليردّ على من لغا لغوا سفيها فى هذا المجال. فكان أول من كتب فى هذه الموازنة، وقد تبعه من جاء بعده وهم كثيرون، حتى جاء الأستاذ مصطفى صادق الرافعى فى هذا العصر فلم يدع مجالا لقائل، أما ما كتبه فى الاستعارة فقد كان أوضح نسبيا مما كتبه عن الإيجاز إذ تخلى عن الكزازة الضيقة فى التعبير هناك. وتمثل لذلك بما ذكره عن قول الله ﷿: إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ (١٦) حيث قال: شهيقا، حقيقته صوتا فظيعا كشهيق الباكى، والاستعارة أبلغ وأوجز، والمعنى الجامع بينهما قبح الصوت، «تميز من الغيظ» حقيقته من شدة الغليان بالاتقاد، والاستعارة أبلغ منه وأوجز؛ لأن مقدار شدة الغيظ على النفس محسوس مدرك بما يدعو إليه من شدة الانتقام فى الفعل، وفى ذلك أعظم الزجر وأبلغ الوعظ، وأول دليل على سعة القدرة وموقع الحكمة، ومنه: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (١٧) أى تستقبلهم للإيقاع بهم استقبال مغتاظ يزفر غيظا عليهم، وكذلك قال الرمانى عن قوله تعالى: فَضَرَبْنا عَلَى
(١٣) سورة الزمر: ٧٣.
(١٤) ثلاث رسائل فى إعجاز القرآن ص ٧٠ ط ١ دار المعارف بتحقيق الأستاذين محمد خلف الله، ومحمد زغلول سلام.
(١٥) سورة البقرة: ١٧٩.
(١٦) سورة الملك ٧، ٨.
(١٧) سورة الفرقان: ١٢.
 
١ ‏/ ٦٥٨
 
آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (١٨) حقيقته منعناهم الإحساس بآذانهم، والاستعارة أبلغ لأنه كالضرب على الكتاب فلا يقرأ، كذلك المنع من الإحساس فلا يحس. وإنما دل على عدم الإحساس بالضرب على الآذان دون الضرب على الأبصار لأنه أدل على المراد من حيث كان يضرب على الأبصار من غير عمى فلا يبطل الإدراك أصلا وذلك بتغميض الأجفان، وليس كذلك منع الأسماع من غير صمم فى الآذان، لأنه إذا ضرب عليهما من غير صمم دلّ على عدم الإحساس من كل جارحة يصح بها الإدراك، ولأن الأذن لما كانت طريقا إلى الانتباه ثم ضربوا عليها، لم يكن سبيل إليه». (١٩)
وكذلك ما أتبع به قول الله ﷿: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ (٢٠) حيث قال: القذف والدمغ هنا مستعار، وهو أبلغ، وحقيقته، بل نورد الحق على الباطل فيذهبه، وإنما كانت الاستعارة أبلغ لأن فى القذف دليلا على القهر. لأنك إذا قلت: قذف به إليه، فإنما معناه، ألقاه إليه على جهة الإكراه والقهر، فالحق يلقى على الباطل فيزيله على جهة القهر والاضطرار، لا على جهة الشك والارتياب، ويدمغه أبلغ من «يذهبه» لما فى يدمغه من التأثير فهو أظهر فى الكناية، وأعلى فى تأثير القوة» (٢١).
كم يحتاج مثل هذا البيان الدقيق إلى تحليل ساطع كتحليل الإمام عبد القاهر ليفيض من ضيائه ما قبضه التركيز المكتنز، ولئن فات الرمانى أن يفيض بما يشرق من النور
فقد أتاح لخلفائه أن يستريحوا لقوله فى مكان مطمئن لا يرهقه عسر، إذ اعتمد أبو هلال وابن سنان وعبد القاهر وابن الأثير وابن رشيق على الكثير من خطراته الدقيقة، وأوسعوها تحليلا وتفصيلا، كلّ حسب منحاه وبذلك صار الرمانى علما من أعلام البيان، وإن لم يؤلف فى هذا العلم رأسا بل جاء حديثه فيه خاصا بكتاب الله.
وقد طبع كتاب الرمانى فى النحو وفيه إشارات مقتضبة عن الإعجاز حين يستشهد بآية كريمة، فإذا أضيفت هذه الإشارات إلى ما كتبه فى رسالته الخاصة بالإعجاز فإنها تفصح عن نظر دقيق.
الخطابى: أبو سليمان الخطابى من أعلام المحدثين فى عصره، وهو إمام سنى نافح عن مذهبه فيما ترك من آثار، وقد كتب رسالة (إعجاز القرآن) ليرد على الطاعنين من وجهة نظره، فجاء رده سلسا فصيحا لا يحوج القارئ إلى بعض العناء كما أحوجته رسالة الرمانى، وقد هدف إلى تحديد عناصر الإعجاز فى كتاب
(١٨) سورة الكهف: ١١.
(١٩) ثلاث رسائل فى الإعجاز ص ٨٠.
(٢٠) سورة الأنبياء ١٨.
(٢١) ثلاث رسائل فى الإعجاز ص ٨٢.
 
١ ‏/ ٦٥٩
 
الله مقدما ذلك بتمهيد يتحدث عن قضية الذوق الأدبى، ومدى الاستناد إلى ارتياح الناس له دون تحديد، فقال: «وزعم آخرون أن إعجازه من جهة البلاغة، ووجدت عامة أهل هذه المقالة، قد جروا فى تسليم هذه الصفة للقرآن على نوع من التقليد وضرب من غلبة الظن دون التحقيق له، وإحاطة العلم به، ولذلك صاروا إذا ما سئلوا عن تحديد هذه البلاغة التى اختص بها القرآن، الفائقة فى وصفها سائر البلاغات، وعن المعنى الذى يتميز به عن سائر أنواع الكلام الموصوف بالبلاغة، قالوا إننا لا يمكننا تصويره ولا تحديده بأمر ظاهر نعلم مباينة القرآن غيره من الكلام، وإنما يعرفه العالمون عن سماعه ضربا من المعرفة لا يمكن تحديده ...
وقد توجد لبعض الكلام عذوبة فى السمع وهشاشة فى النفس، لا توجد مثلها لغيره، والكلامان معا فصيحان ثم لا يوقف لشىء من ذلك على علة. قلت: وهذا لا يقنع فى مثل هذا العلم، ولا يشفى من داء الجهل به، وإنما هو إشكال أحيل به على اتهام». (٢٢)
فأنت تراه لا يجعل الارتياح النفسى بعض أسباب الاستحسان الأدبى إلا إذا قرن بتعليل ودليل، وهذا ما نهض للإجابة عنه حين تحدث عن أسلوب القرآن، فذكر «أن أجناس الكلام مختلفة، ومراتبها فى نسب البيان متفاوتة، فمنها البليغ الرصين الجزل، ومنها الفصيح القريب السهل، ومنها الجائز المطلق المرسل، وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود، دون النوع الهجين المذموم، الذى لا يوجد فى القرآن شىء منه البتة، فالقسم الأول أعلى طبقات الكلام وأرفعه، والقسم الثانى أوسطه وأقصده، والقسم الثالث أدناه وأقربه، فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حفنة، وأخذت من كل نوع من أنواعها بشعبة، فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتى الفخامة والعذوبة، وهما على الانفراد فى نعوتهما كالمتضادين، لأن العذوبة نتاج السهولة، والجزالة والمتانة فى الكلام تعالجان نوعا من الوعورة. فكان اجتماع الأمرين فى نفسه، مع نبو كل منهما على الآخر فضيلة خص بها القرآن، يسرها الله بلطيف قدرته من أمره، لتكون آية بينة لنبيه، ودلالة على صحة ما دعا إليه من أمر ربه. (٢٣)
وهذا كلام جيد. والذين تعرضوا له بالتحليل فهموا منه أن الجزالة والعذوبة يجتمعان فى القرآن معا: كلّ فى موضعه على انفراد، بحيث تكون آية عذبة، وآية جزلة، وفق ما تقتضى المعانى: ولكنى أفهم منه ما يدل على امتزاج الرقة بالجزالة فى تعبير واحد. وهو ما فصّلت الحديث عنه فى
(٢٢) ثلاث رسائل ص ٢١.
(٢٣) ثلاث رسائل ص ٢٣.
 
١ ‏/ ٦٦٠
 
موضع آخر (٢٤) هذه ناحية، أما الأخرى، فقد قال الخطابى: إن الأسلوب الأدبى يعتمد على ثلاثة أشياء: لفظ حامل، ومعنى قائم به، ورباط له، فإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه فى غاية الشرف والفضيلة، حتى لا ترى شيئا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه، ولا ترى نظما أحسن تأليفا، وأشد تلاؤما وتشاكلا من نظمه، أما المعانى فلا خفاء على ذى عقل، أنها هى التى تشهد لها العقول بالتقدم فى أبوابها، والترقى إلى أعلى درجات الفضل نحو نعوتها وصفاتها، وقد توجد هذه الصفات على التفرق فى أنواع الكلام، أما أن تكون مجموعة فى نوع واحد منه فلم توجد إلا فى كلام العليم القدير، فتفهّم الآن واعلم أن القرآن صار معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ فى أحسن مضمون التأليف مضمنا أصح المعانى. وهذا ما بسطه الخطابى إلى أن قال: (٢٥)
«أما رسوم النظم فالحاجة إلى الثقافة والحذق فيها أكثر لأنها لحام الألفاظ، وزمام المعانى، وبها تنتظم أجزاء الكلام، ويلتئم بعضه فوق بعض، فتقوم له صورة فى النفس يتشكل بها البيان».
وذلك قول يحدد نظرية النظم، كما أتى بها عبد القاهر فى (دلائل الإعجاز) تحديدا تتضح به المعالم المتفرقة فى أشتات من قول الجاحظ ومن تلاه، ولئن أعوزنا أن نثبت اطلاع عبد القاهر على ما كتب الخطابى، فذلك لا يمنع القول باهتداء الخطابى إلى أصل قوى من أصول الإعجاز، نهضت عليه صروح أقامها المخالفون، بعد أن وضع ثابت الأساس، وقد وجّهت بعض الاعتراضات المغرضة إلى النصوص التعبيرية فى القرآن فنهض الخطابى للرد عليها، وأفرد لها جزءا من رسالته، شأنه فى ذلك شأن ابن قتيبة فى (تأويل مشكل القرآن)، ولكنه توسع عنه فى التعبير لأن تأخره الزمنى أتاح له ما لم يتح لسابقه.
فمما توجهت الشبهة به إلى اللفظ، وقوف المعترضين عند قوله تعالى: فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ. (٢٦) زاعما أن كلمة افترس أصح من كلمة «أكل» إذ أن الافتراس خاص بالسباع، أما الأكل فيعم كل آكل من الحيوان والإنسان، وهو اعتراض تردد أيام الجاحظ، وأجاب عنه بألمعيته المشهورة، وجاء الخطابى فأدلى بدلوه فى الدلاء حين قال:
«إن الافتراس معناه فى فعل السبع، القتل فحسب، وأصل الفرس دق العنق، والقوم إنما ادعوا على الذئب أكله أكلا، إذ أتى على
(٢٤) البيان القرآنى ص ٣٠ وما بعدها.
(٢٥) ثلاث رسائل ص ٣٣.
(٢٦) سورة يوسف آية: ١٧.
 
١ ‏/ ٦٦١
 
جميع أعضائه، فلم يترك مفصلا ولا عظما، وذلك أنهم خافوا مطالبة أبيهم إياهم بأثر باق يشهد بصحة ما ذكروه، فادعوا فيه الأكل ليزيلوا عن أنفسهم المطالبة، والفرس
لا يعطى تمام المعنى، فلم يصلح على هذا أن يعبر عنه إلا بالأكل» (٢٧). وأخذ الخطابى يؤيد قوله بشعر العرب وحديث الرسول مما تكفى الإشارة إليه، وأمثلة كثيرة دفع الاعتراض عنها الخطابى دفعا قويا، وبخاصة ما ذكره فى باب التشبيه عن اعتراض المعترض لموضع التشبيه فى قوله تعالى: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٢٨) فقد ذكر ثلاثة ردود قالها المفسرون من قبل. ولكنه جلاها أحسن تجلية، فنكتفى بالإشارة بها، منتقلين إلى رده على اعتراض من قال فى قوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ (٢٩) أن دخول الباء على كلمة إلحاد لا يفيد جديدا، فرد الخطابى قائلا: إن الباء زائدة- يعنى زيادة إعراب فقط لا زيادة معنى كما هو معروف.
والباء قد تزاد فى مواضع من الكلام، واستشهد بأبيات تدل على الزيادة، وكان عليه أن يذكر المراد من هذه الزيادة فى تقوية المعنى، ولا يكتفى بالمنحى الإعرابى، فالباء هنا تدل على القصد والتعمد وسبق التصميم مما يجعل صاحب الإلحاد مندفعا بجرأة وسطوة، وكأن الأمر قد شغل عليه نفسه، وجعله كل مراده ومبتغاه، هذا ما كان على الخطابى أن يشير إليه، ولعله تركه لفطنة القارئ، ولكن كيف؟ وهو فى مجال الدحض والتفنيد؟
الباقلانى: أول كتاب مستقل بالإعجاز وصل إلينا هو كتاب (إعجاز القرآن) للباقلانى المتوفى سنة ٤٠٣ هـ وهو عالم متكلم نظار، له مجالس مناظرة وجدل تدل على موهبة قوية فى الحوار، وكتابه عن الإعجاز يقدم صورا من جدله العلمى، بدأه بذكر الملاحدة وما خاضوا فيه من جدل حول كتاب الله اضطره للرد عليهم، ونقد الجاحظ بأنه لم يأت بشيء جديد فى كتابه (نظم القرآن) حيث ردد أقوال المتكلمين من قبله، ثم أنحى باللوم على من قالوا: إن الإعجاز بالصّرفة. فاهما من الصّرفة ما فهمه الكثرة من العلماء دون ما أشرنا إليه من قبل، ويرجع بالإعجاز إلى أشياء منها إخباره بالغيب، وما وقع من قصص الأنبياء السابقين مما روته الكتب السابقة، مع أن رسول الله كان أميّا لا يقرأ ولا يكتب، وقد فاته أن بعض القصص النبوية لم تأت بها الكتب السابقة مثل قصص صالح وهود ومائدة عيسى فمن أين جاء بها الرسول إن لم تكن من عند الله؟! ثم ركز على الركن
(٢٧) ثلاث رسائل ص ٣٧.
(٢٨) سورة الأنفال آية: ٥.
(٢٩) سورة الحج: ٢٥.
 
١ ‏/ ٦٦٢
 
الأكبر من الإعجاز وهو بلاغته الساطعة، إذ جاء القرآن ببديع النظم متناهيا فى البلاغة إلى الحد الذى يعلم عجز الخلق عن الإتيان بمثله، وقد ذكر الدكتور شوقى ضيف «أن الباقلانى متأثر بالجاحظ فيما ذهب إليه من أن مرجع الإعجاز إلى نظم القرآن المخالف لأساليب العرب نثرا وشعرا، كما أنه متأثر بالرمانى فيما ذهب إليه من أن القرآن يرتفع إلى أعلى طبقات البلاغة» (٣٠) - وقد أشرنا لذلك من قبل، كما أن المؤلف تحدث عن اطّراد البلاغة فى القرآن دون تفاوت ولا تباين بخلاف كلام الفصحاء الذى يوجد فيه التفاوت والاختلاف، وقد فرق بين الفاصلة والسجع بما كان موضع نقاش للدارسين من بعده، وألمّ بفنون البديع من المطابقة والتكافؤ والجناس والاعتراض والتذييل، وانتهى إلى أن الوقوف على الإعجاز لا يتأتى إلا لمن عرف وجوه البلاغة العربية وتكونت لديه ملكة يقيس بها الجودة والرداءة فى الكلام فيستطيع أن يفرق بين الشعراء والأدباء فرقا دقيقا بما وهبه الله من هذه الملكة، وفى حديثه عن التفاوت يعرض قصائد لامرئ القيس والبحترى عرضا مسهبا ليظهر تفوق القرآن عليها. ويخيل إلىّ أنه لم ينته إلى الصواب فى ذلك. لأن المقارنة لا تقوم على وجهها الأصيل إلا إذا اتحد الموضوع فى غرضه، ولا يوجد اتحاد بين الكتاب المبين وما تعرض له الشعراء من الأغراض، ولست أنكر تفوق الأسلوب القرآنى على هذه القصائد وغيرها، وإنما أنكر أن تكون هذه الموازنة دقيقة فى اتجاهها النقدى.
وأكبر ما اهتدى إليه الباقلانى هو نقده لمن قال إن فنون البديع تدل على وجوه الإعجاز، إذ لا قيمة لهذه الفنون وحدها دون ملكة قوية تكون هى الحكم فى الترجيح، وللباقلانى فى كتابه الكبير مواقف ممتازة فى التحليل الأدبى، ومواقف أخرى تعجله السرعة عن الإتمام بما يشفى حاجة القارئ وسنمثل لكل من الاتجاهين، فهو قد وفّق حين مثل بقول الله ﷿: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٣١) حيث قال: «وجه الوقوف على شرف هذا الكلام أن تتأمل موقع قوله: «همت كل أمة برسولهم ليأخذوه» فهل تقع فى الحسن موقع قوله ليأخذوه كلمة، وهل تقوم مقامه فى الجزالة لفظة، لو وضع موضع ذلك «ليقتلوه أو ليرجموه أو لينفوه أو ليطردوه أو ليهلكوه أو ليذلوه ونحو هذا ما كان ذلك بعيدا ولا بارعا ... فإن كنت
(٣٠) البلاغة تطور وتاريخ للدكتور شوقى ضيف ص ١٠٩ - دار المعارف طبعة سنة ١٩٦٥ م.
(٣١) سورة غافر: ٥، ٦.
 
١ ‏/ ٦٦٣
 
تقدر أن شيئا من هذه الكلمات التى عددناها عليك أو غيرها لا تقف بك على عرضنا من هذا الكتاب، فلا سبيل إلى الوقوف على تصاريف الخطاب، فافزع إلى التقليد، وإن فطنت فانظر إلى ما قال من رد عجز الخطاب إلى صدره بقوله فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (غافر: ٥) ثم ذكر عقبها العذاب فى الآخرة، وأتلاها تلو العذاب فى الدنيا على الإحكام الذى رأيت» (٣٢).
فالباقلانى هنا يعلل ويحلل ويسلك سلك أهل مذهبه الكلامى فى الأخذ والرد، وكنا نود أن يسلك هذا المسلك فى كل ما يمثل به من الآيات، ولكن نشاطه يفتر حين يمتد به القول دون راحة ذهنية- كما أعلّل ذلك- فلا تكاد تخرج منه بطائل، وأمثل لذلك بما استشهد به من قول الله: فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبانًا ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٣) حيث قال:
انظر إلى هذه الكلمات الأربع التى ألف بينها واحتج بها على ظهور قدرته، ونفاذ أمره، أليست كل كلمة منها فى نفسها غرة، وبمفردها درة، وهو مع ذلك يبين أنه يصدر عن علو الأمر، ونفاذ القهر، ويتجلى فى بهجة القدرة، ويتحلى بخالصة العزة، ويجمع السلامة إلى الرصانة، والسلاقة إلى المتانة، والرونق الصافى، والبهاء الضافى» (٣٤) فهذا القول وشبيهه مما تركته للاختصار يمكن أن يقال تعليقا لآيات كثيرة تماثلها دون فارق، والمفسر المحلل لا يلجأ للعبارات العامة فى نص يحلله، لقد كان عليه أن
يبين موقع الحسن فى كل كلمة تنفرد بنفسها بدل أن يطلق القول إطلاقا، وإذا اتسع له الأمد لتفضيل كلمة (ليأخذوه) فى النص السابق، فلماذا لم يقف وقفاته البارعة عند كلمات «فالق» أو «سكنا» أو «حسبانا»، وإنصافا للرجل أذكر إصابته الدقيقة فى تحليل بعض السور القرآنية نسبيا تحليلا متكاملا كما صنع بسورتى غافر والنمل، وأجزاء طويلة من سورة فصلت، إذ أخذ يعرض آيات السورة الواحدة متنقلا بين معانيها، ومحاولا الربط بين أجزائها وهو اتجاه شامل يتعدى الكلمة فى الآية والآية فى الآيات إلى بناء السورة جميعها، حيث تنهض عملا أدبيا مستقلا فى ذاته.
وقد كان الباقلانى موفقا حين ذكر طائفة من حديث رسول الله ﷺ وخطبه ورسائله، ليثبت الفارق الواضح بين قوله ﵇، وما جاء فى كتاب الله من الإعجاز، وهو اتجاه سديد، لأنه يدحض حجة من نسبوا القرآن إلى رسول الله من الملاحدة مرددين قول المشركين من قبل: إنه افتراه، ولو نشاء لقلنا مثل هذا. فلو كان القرآن مفترى من الرسول لتشابه الحديث مع الكتاب فى
(٣٢) إعجاز القرآن للباقلانى ص ٢٢٤ تحقيق الأستاذ محمد عبد المنعم خفاجى ط (١) صبيح.
(٣٣) سورة الأنعام: ٩٦.
(٣٤) إعجاز القرآن ص ٢١٤.
 
١ ‏/ ٦٦٤
 
بيانهما الأدبى، كما أنهم حين قالوا لو نشاء لقلنا مثل هذا لم يكونوا صادقين إذ لو استطاعوا القول المماثل لقالوه، وقد جاء الباقلانى فى ذلك بما يصلح أن يكون توجيها سديدا لتأليف كتاب يبين خصائص الإعجاز القرآنى والإبداع المحمدى.
وقد تحدث بعض الدارسين عن موقف الباقلانى من السجع القرآنى، إذ نفاه نفيا تاما لأنه فى رأيه قد يكون زيادة اللفظ دون حاجة إليه، وهذا ما يتنزه عنه القرآن، مع أن القائلين بالسجع فى القرآن، يذهبون إلى أنه السجع المحكم الذى لا يكون به زيادة ما، فالجهة منفكة كما يقول المناطقة.
الشريفان: وأقصد بهما الشريفين الرضى والمرتضى، وهما أخوان بارعان تحدثا عن الإعجاز القرآنى كثيرا، فأفاضا فى ذكر أسبابه، وتعدد فنونه، ولكنهما يختلفان منهجا، فالرضى شاعر أديب يعتمد على الذوق الحساس، والبيان الطلق، والمرتضى يشاركه الشعر والأدب، ولكنه نظار متكلم يعتمد على دفع الحجة، ومعارضة الخصم، وترتيب الأدلة، فهما يمثلان فى تفسير الإعجاز مذهبين مختلفين، ويتركان للدارس مجالا فسيحا للموازنة والتحليل، ولا أدرى كيف سكت كثير من الدارسين عن إيضاح مقامهما فى دنيا الإعجاز البيانى، وكتبهما ذائعة مشتهرة، ولعلى بذلك أدعو إلى دراستهما من يريد أن يضيف الجديد.
وفى مجال التمثيل لوجهة الشريف المرتضى فى التفسير العلمى لبعض الآيات الكريمة، أنقل عن (أماليه) ما ذكره فى تأويل قوله تعالى فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٥) مقابلا ذلك بقول الله ﷿ فى موضع آخر وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ (٣٦) مشيرا إلى أن الثعبان فى الآية الأولى هو الحية العظيمة الخلقة، والجان فى الآية الثانية هو الصغير من الحيات، فكيف يجتمع الصغر والكبر فى شىء واحد؟ وللإجابة عن ذلك قال المرتضى (٣٧) عدة ردود نذكر منها: أن الآيتين ليستا حديثا عن قصة واحدة بل هناك حالتان مختلفتان، إذ أن الحال التى جعلت العصا فيها بصفة الجان، كانت فى ابتداء النبوة قبل أن يذهب موسى إلى فرعون، والحالة الثانية التى صارت فيها العصا ثعبانا كانت عند لقائه فرعون وإبلاغه الرسالة، فلا اعتراض. ثم يرى المرتضى أن الظن يذهب إلى أن الموقف واحد، وليس بموقفين، مع أن الله قد حسم الأمر حين قال: فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ (٣٨) فدلّ على
(٣٥) سورة الأعراف: ١٠٧.
(٣٦) سورة القصص: ٣١.
(٣٧) أمالي المرتضى- طبعة أولى- ج (١) ص ١٨.
(٣٨) سورة القصص: ٣٢.
 
١ ‏/ ٦٦٥
 
اختلاف الموقف، ولكنه من باب إرخاء العنان للمجادلة، على طريقة المتكلمين. تابع النظر فقال: وعلى افتراض اتحاد الموقف، فإن الله تعالى شبه العصا بالثعبان فى الآية الأولى لعظم الخلقة، وكبر الجسم، وهول المنظر، وشبهها فى الآية الثانية بالجان لسرعة الحركة والنشاط والخفة، فاجتمع لها نشاط الصغير وسرعة حركته مع هول الكبير وروعة منظره، وهذا أبهر فى باب الإعجاز، وأبلغ فى خرق العادة ولا تناقض معه لأن وجه الشبه مختلف فى الآيتين، ولا يجب أن يكون المشبه مماثلا للمشبه به فى كل الوجوه بل يحوز من الصفات ما يدل على شىء جامع لا على كل متفق. وكأن المرتضى فى نقاشه الجدلى لم يكتف بالرأيين السابقين بل عمد إلى رأى ثالث خلاصته أن المراد فى الآية بالجان هو أحد الجن لا الحية الصغيرة، فكأنه تعالى أخبر بأن العصا صارت ثعبانا فى الخلقة، وعظم الجسم، وكانت مع ذلك كأحد الجن فى هول المنظر والإفزاع، فكأن وجه الشبه المختلف قد كان سبب ما يظهر من الاختلاف، وقد يجوز أن تكون العصا قد ظهرت أولا بصفة الجان ثم انقلبت إلى صفة الثعبان وهو رأى رابع ساقه المرتضى، وأعقبه بأن هذا التأويل يجعل الحكم متفقا فى الاثنين، وهو ما يبطل اعتراض المعترض. على هذا النحو من التفريع والتشقيق وتوهم الاعتراض ثم الإجابة عليه بعدة وجوه، سار الشريف المرتضى فيما تعرض له من تخريج الآيات الموهمة للاعتراض.
أما الشريف الرضى فى كتبه البيانية فقد خالف هذا المنحى فلا تهمه أن يتتبع الردود لينقضها، بل يهمه الشرح البيانى المشرق لآيات الإعجاز القرآنى، وقد يرد على قول سابق دون أن يشير إلى اسم صاحبه. ولكنه يقول فى اقتضاب: «فبطل قول من قال»، وقد تعقب الرمانى فى آيات كثيرة، وأبدى ما يخالف وجهة نظره، وهذا فى أدب النقد الملتزم دون تجريح نعهده لدى بعض الدارسين.
كما أن الشريف الرضى قد تتبع فى كتابه (تلخيص البيان فى مجاز القرآن) سور الكتاب العزيز، سورة سورة، إلا بعض القصار التى خلت من صور البيان واعتمدت على الحجة المقنعة، والإلزام المفحم، وأضرب المثل لما عقب به على قول الله ﷿: وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٣٩).
قال: (٤٠) هذه استعارة، والمراد بها أنهم تفرقوا فى الأهواء، واختلفوا فى الآراء، وتقسمتهم المذاهب، وتشعبت بهم الولائج، ومع ذلك فجميعهم راجع إلى الله ﷾ على أحد وجهين: إما أن يكون ذلك
(٣٩) سورة الأنبياء: ٩٣.
(٤٠) تلخيص البيان: تحقيق الأستاذ محمد عبد الغنى حسن ص ٢٣٢ ط أولى.
 
١ ‏/ ٦٦٦
 
رجوعا فى الدنيا فيكون المعنى أنهم وإن اختلفوا فى الاعتقادات صائرون إلى الإقرار بأن الله- ﷾ خالقهم ورازقهم ومصرفهم ومدبرهم، أو يكون ذلك رجوعا فى الآخرة فيكون المعنى أنهم راجعون إلى الدار التى جعلها الله- تعالى- مجال الجزاء على الأعمال، وموفى الثواب والعقاب، وإلى حيث لا يحكم فيهم ولا يملك
أمرهم إلا الله- ﷾، وشبّه تخالفهم فى المذاهب، وتفرقهم فى الطرائق- مع أن أصلهم واحد، وخالقهم واحد- بقوم كانت بينهم وسائل متناسجة، وعلائق متشابكة، ثم تباعدوا تباعدا قطع تلك العلائق وشذب تلك الوصائل، فصاروا أصنافا مختلفين.
فهذا تحليل أدبى يبعد بالكتاب عن جفاف المنطق الصارم، وله أمثاله، بل ما يزيد عنه كثيرا، لأنى لو نقلت النصوص التامة لتعليقاته الأدبية البارعة لضاق نطاق القول، وحسبى أن ألفت إلى ما تعرض له فى مثل قول الله:
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ (٤١) وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وقوله: وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٣) فقد سبق إلى تحليل كان ابن بجدته، ودل على صدق استشفاف، ولطافة اتجاه، وأذكر أنى وضحت ذلك تماما فيما كتبته عنه تحت عنوان (منحى الشريف الرضى) فى كتابى (خطوات التفسير البيانى) ومنه اقتبست ما جاء عن الشريفين- رحمهما الله.
عبد القاهر ودلائل الإعجاز: نشأ عبد القاهر نحويا إذ تعمق فى مسائل النحو تعمقا لم يصل إليه من سبقه، وقد رأى أن النحو قد حيد به عن الطريق الأمثل حين قصره بعض دارسيه على ضبط أواخر الكلمات، وما يخصها من إعراب وبناء، مع أنه فى رسالته الحقيقية علم يؤدى إلى المعرفة الصحيحة لتركيب الجمل وبناء الأساليب، وبالوقوف على ذلك يتسنى للدارس أن يعرف بلاغة الأسلوب، ومن هنا كان الأسلوب القرآنى وهو أرفع نماذج الأدب العربى موضع التحليل البيانى المفضى إلى تأكيد الإعجاز، وقد اطلع على ما قاله سابقوه، وأفاد منه ليقيم على أساسه ما عرف بقضية النظم، وجعل فى خطواته الأولى يتساءل عن الكلمات المفردة هل هى سر الإعجاز؟ ونفى ذلك لأن الكلمات المفردة شائعة لجميع الكتّاب،
(٤١) سورة البقرة: (٢٥٧).
(٤٢) سورة البقرة: ١٧٤.
(٤٣) سورة الصافات: ٤٨.
 
١ ‏/ ٦٦٧
 
ومعانيها لا تزيد ولا تنقص، فلا بد أن يكون هناك سرّ آخر، وتساءل عن تركيب الحركات والسكنات فى الجملة القرآنية، فنفى أن يكون ذلك هو السر المنشود، فإذا لم تكن المقاطع والفواصل سر الإعجاز فإن ما تضمنه كثيرا من الاستعارات وأوجه البيان لا يقدم هذا السر أيضا، ووالى البحث نافيا كل احتمال لا يثبت للنقاش حتى اهتدى إلى أن السر فى نظم القرآن، وليس النظم شيئا عن غير توخى معانى النحو وأحكامه، وذلك ما قام عليه كتابه (دلائل الإعجاز)، وقد قال فى تقرير ذلك:
«اعلم أنك إذا رجعت إلى نفسك علمت علما لا يعترضه الشك أن لا نظم فى الكلمة ولا ترتيب، حتى يعلق بعضها ببعض، ويبنى بعضها على بعض، وتجعل هذه بسبب من تلك، وهذا ما لا يجهله عاقل، ولا يخفى على أحد من الناس. وإذا كان كذلك، فبنا إلى التعليق فيها والبناء، وجعل الواحدة منها بسبب من صاحبتها؛ ما معناه وما محصوله؟
وإذا نظرنا فى ذلك علمنا ألا محصول لها غير أن تعمد إلى اسمين فتجعل أحدهما خبرا عن الآخر، أو تعمد إلى اسم فتجعله فاعلا أو مفعولا، أو تتبع الاسم اسما على أن يكون الثانى صفة للأول أو تأكيدا له أو بدلا منه أو تجىء باسم بعد تمام كلامك على أن يكون الثانى صفة أو حالا أو تمييزا، أو تتوخى فى كلام هو لإثبات معنى أن يصير نفيا أو استفهاما أو تمنيا فتدخل عليه الحروف الموضوعة لذلك ... وعلى هذا يكون القياس» (٤٤) وإذن فنظم الكلام وفق قواعد النحو هو مدار الإبداع فى التركيب، والألفاظ لا تتفاضل باعتبارها ألفاظا مجردة إنما تثبت لها الفضيلة وخلافها فى ملاءمة معنى اللفظة لجاراتها، وفضل مؤانستها لأخواتها، وهل قالوا لفظة متمكنة، وفى غيرها قلقة إلا وغرضهم أن يعبروا بالتمكين عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناها وبالقلق والنبو عن سوء التلاؤم.
ويزداد هذا المعنى وضوحا بالتمثيل فقد عمد الجرجانى إلى قوله تعالى: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٥) فشرح الآية الكريمة وجلاها تجلية زاهية حين قال:
«إن شككت فتأمل هل ترى لفظة منها بحيث لو أخذت من بين أخواتها، وأفردت لأدت من الفصاحة ما تؤديه وهى فى مكانها من الآية قل (ابلعى) واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها، وكذلك فاعتبر سائر ما يليها، وكيف بالشك فى ذلك؟ ومعلوم أن مبدأ العظمة أن نوديت
(٤٤) دلائل الإعجاز ص ٤٤ - الطبعة الرابعة من دار المنار سنة ١٣٦٧ بتحقيق السيد محمد رشيد رضا.
(٤٥) سورة هود: ٤٤.
 
١ ‏/ ٦٦٨
 
الأرض ثم أمرت، ثم أن كان النداء بيا دون أى نحو يا أيتها الأرض، ثم إضافة الماء إلى الكاف دون أن يقال: ابلعى الماء، ثم أن أتبع نداء الأرض وأمرها بما هو من شأنها نداء السماء وأمرها كذلك بما يخصها، ثم أن قيل «وغيض الماء» فجاء الفعل على صيغة فعل، الدالة على أنه لم يغض إلا بأمر آمر، وقدرة قادر، ثم تأكيد ذلك وتقريره بقول الله:
وَقُضِيَ الْأَمْرُ، ثم ذكر ما هو فائدة هذه الأمور وهو وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ، ثم إضمار السفينة قبل الذكر كما هو شرط الفخامة، والدلالة على عظم الشأن، ثم مقابلة «قيل» بقيل فى الفاتحة، أفترى لشىء من هذه الخصائص، التى تملؤك بالإعجاز روعة، وتحضرك عند تصورها هيبة تحيط بالنفس من كل أقطارها، تعلقا باللفظ من حيث هو صوت «مسموع، وحروف تتوالى فى المنطق، أم كل ذلك لما بين معانى الألفاظ من الاتساق العجيب». (٤٦)
والكتاب ملىء بالشواهد الباهرة فى قضايا الأسلوب القرآنى من ذكر وحذف، وتقديم وتأخير، ووصل وفصل، مما كان بذرة قوية لعلم المعانى، ولو سلك المتأخرون سبيل عبد القاهر فى هذا الاستشفاف الباهر لأراحوا من عناء كثير، ونتبع المثال السابق بمثال آخر ساقه الجرجانى فى تحليل قوله تعالى عن موسى ﵇ مع إيضاح ما فى النص الكريم من حذف للمفعول به أيضا مما يدل على نباهة فكر، ودقة ذوق:
قال تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ. (٤٧)
قال عبد القاهر: «إن أردت أن تزداد تبينا لهذا الأصل أعنى وجوب أن تسقط المفعول لتتوفر العناية على إثبات الفعل لفاعله، ولا يدخلها شوب، فانظر إلى الآية ففيها حذف مفعول فى أربعة مواضع، إذ المعنى وجد عليه أمة من الناس يسقون أغنامهم أو مواشيهم، وامرأتين تذودان غنمهما، وقالتا لا نسقى غنمنا، فسقى لهما غنمهما، ثم إنه لا يخفى على ذى بصر أنه ليس فى ذلك كله إلا أن يترك ذكره، ويؤتى بالفعل مطلقا، وما ذاك إلا أن الغرض فى أن يعلم أنه كان من الناس فى تلك الحال سقى، ومن المرأتين ذود، وأنهما قالتا: لا يكون منا سقى حتى يصدر الرعاء، وأنه كان من موسى ﵇ من بعد ذلك سقى، فأما ما كان من المسقى أغنما أم إبلا أم غير ذلك، فخارج عن الغرض وموهم لخلافه، وذلك إنه لو قيل: وجد من دونهما امرأتين تذودان غنمهما جاز أنه لم ينكر الذود من
(٤٦) دلائل الإعجاز ص ٣٧.
(٤٧) سورة القصص: ٢٣، ٢٤.
 
١ ‏/ ٦٦٩
 
غنم، حتى لو كان مكان الغنم إبل لم ينكر الذود، كما أنك إذا قلت: مالك تمنع أخاك؟
كنت منكرا المنع لا من حيث هو منع، بل من حيث هو منع أخ، فاعرفه تعلم أنك لم تجد لحذف المفعول فى هذا النحو من الروعة والحسن ما وجدت، إلا لأن فى حذفه وترك ذكره فائدة جليلة، وأن الغرض لا يصح إلا على تركه». (٤٨)
هذا التحليل لا يملكه إلا باحث ذوّاق مثل عبد القاهر، وقد جاء بعده من حاولوا أن ينهجوا فى الحديث عن أبواب المعانى من حذف وذكر وتقديم وتأخير وغيرها، لكنهم لم يرزقوا موهبته، فكتبوا كثيرا مما اعترض عليه، هذه ناحية.
- أما الناحية الثانية فإن الاهتمام بالآية والآيتين كلمات وحروفا؛ دون نظر إلى الموضوع جميعه، والارتباط الوثيق بين الآيات المتصلة؛ جعل النظر جزئيا لا كليّا، وقد آن لنا أن ننظر إلى النص باعتباره وحدة متماسكة دون أن نقتصر على الجملة والجملتين، والآية والآيتين.
- وأبرز من اهتدى إلى طريقة الجرجانى هو: الزمخشرى فى (كشافه) مع الفرق بين أسلوب الأديب وترسّله عند عبد القاهر، وأسلوب العالم ودقّته- ولا أقول كزازته- عند الزمخشرى، على نحو ما سأشير إليه الآن.
الزمخشرى: إذا كان عبد القاهر قد اختار من آيات الكتاب المبين ما يكشف عن منحاه البيانى، ويخدم قضية الإعجاز التى سمّى كتابه بها، فإن الزمخشرى قد فسّر القرآن كله آية آية ليسير فى ضوء عبد القاهر وإن لم يعترف بذلك فلم يذكر اسمه صريحا بين أسماء من حشرهم فى مقدمة الكتاب، وقد اكتفى بإشارة بعيدة إلى بيت شعر قاله، والعجب أن يشير إليه شاعرا دون أن يشير إليه فاتحا أهم ميادين البيان! وهذا يتطلب التعليل ..
نعرف أن الزمخشرى كان معتزليّا، وقد بذل جهده فى تعضيد مذهبه، حين تعرض لتفسير الآيات المتصلة بعلم الكلام وقد مثّلت لذلك فيما كتبته عنه فى كتابى (خطوات التفسير البيانى) وأرى من ضيق المقام أن أتجاوز ذلك إلى نقول تدلّ على حسن ذوقه، وقوة استشفافه البيانى مع ما تدل عليه من منهجه الأسلوبى إذ جعل التقرير البيانى فى هيئة سؤال وجواب كأن يقول فإن قلت ...،
قلت. وهى طريقة لا ينفسح معها مجال الإشباع الأدبى، كما اتسع أمام عبد القاهر.
ومما نختاره من دلائل نفاذه فى التفسير البيانى، ما ذكره فى تأويل قول الله ﷿:
وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها
(٤٨) دلائل الإعجاز ص ١٢٥.
 
١ ‏/ ٦٧٠
 
فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيرًا (٤٩) حيث قال:
«الأمر مجاز لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم افسقوا، وهذا لا يكون فيبقى أن يكون مجازا، ووجه المجاز، أنه صبّ عليهم النعمة صبّا، فجعلوها ذريعة للمعاصى وإتباع الشهوات، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبّب إيلاء النعمة فيه. وإنما خوّلهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير، ويتمكنوا من الإحسان والبر كما خلقهم أصحاء أقوياء، وأقدرهم على الخير والشر. وطلب منهم إيثار الطاعة على المعصية فآثروا الفسوق فلما فسقوا حق عليهم القول. وهو كلمة العذاب فدمّرهم» (٥٠).
ثم يكر الزمخشرى على رأى ذائع فينقضه بقوله: «هلّا زعمت أن معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا» قلت: إن حذف ما لا دليل عليه غير جائز فكيف بحذف ما الدليل قائم على نقيضه، وذلك أن الأمر به حذف لأن فسقوا يدل عليه، وهو كلام مستفيض، يقال: أمرته فقام وأمرته فقرأ، فلا يفهم منه إلا أن المراد به قيام وقراءة، ولو ذهبت تقدر غيره فقد رمت من مخاطبك علم الغيب» (٥١)، ثم يفيض المفسر الكبير فيما يؤيد رأيه؛ ذاكرا من الأمثلة ما يدل على مهارة واقتدار، فإن كان طابع المنطق يطغى على عبارته، ولو تجاوز هذا الطابع الجدلى الصارم لكان كلامه نمطا من التفسير البيانى يقارب نمط الشريف وعبد القاهر، فيخرج من هذه الحدود إلى فضاء فسيح، وإذا كان الزمخشرى لم ينس نصيب النحو فيما تصدّى له من تفسير آيات الكتاب المبين فإن نصيب البيان قد تجلى بوضوح سافر فى أكثر ما كتب؛ مما يكشف لبعض الدقائق الخافية فى أسرار التأويل، وأمثّل لذلك بما ذكره فى تفسير قول الله ﷿: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتابًا مُتَشابِهًا مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ (٥٢).
قال: اقشعرّ الجلد إذا تقبّض تقبّضا شديدا، وتركيبه من حروف القشع، وهو الأديم اليابس مضموما إليه حرف رابع وهو الراء ليكون رباعيّا ودالا على معنى زائد يقال:
اقشعر جلده من الخوف، وقفّ شعره وهو مثل فى شدة التخويف، فيجوز أن يريد به الله تعالى التمثيل تصويرا لإفراط خشيتهم.
وأن يريد به التحقيق» (٥٣)، ولم أجد من خص كلمة قشع بهذا التحليل قبل الزمخشرى، وهو مما يدل على شدة إحساسه بمعانى الحروف قبل إحساسه بمعانى الكلمات.
ونظير ذلك ما ذكره من الفرق بين مرضع ومرضعة عند تفسيره لقول الله ﷿:
(٤٩) سورة الإسراء: ١٦.
(٥٠) تفسير الكشاف- الطبعة الأولى، طبعة مصطفى محمد سنة ١٣٥٤ هـ، فى سورة الإسراء.
(٥١) الكشاف الموضع السابق رقما وسورة.
(٥٢) سورة الزمر: ٢٣.
(٥٣) تفسير الكشاف، الزمر.
 
١ ‏/ ٦٧١
 
يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها (٥٤) حيث قال:
«فإن قلت: لم قيل مرضعة دون مرضع، قلت: المرضعة التى هى فى حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبىّ، والمرضع التى من شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع فى حال وصفها به، فقيل مرضعة ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه، وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة» (٥٥).
ومن دقائق ما التفت إليه الزمخشرى ما ذكره عن تفسير قول الله ﷿: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا (٥٦). حيث قال:
«فإن قلت: أى فرق بين (وظنوا أن حصونهم تمنعهم) وبين النظم الذى جاء عليه؟ قلت:
فى تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها، ومنعها إياهم، وفى تصيير ضميرهم اسما وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم فى أنفسهم أنهم فى عزة ومنعة لا يبالى معها بأحد يتعرض إليهم، أو يطمع فى منازلتهم، وليس ذلك فى قوله: «وظنوا أن حصونهم تمنعهم». (٥٧)
هذه لفتات أدبية رائعة تصور إحساس الزمخشرى بالإعجاز القرآنى فى كل منحى من مناحيه، كلمة أو جملة أو تقديما أو تأخيرا، وقد ظهرت مؤلفات خاصة بتفسير الكشاف وضحت هذه المعانى بما لا مزيد عنه، ولو امتد هذا الإحساس الأدبى لدى الذين نقلوا عنه من المفسرين، لواصلوا السير على نمطه، ولكن كلّ ميسر لما خلق له.
وحسبه أنه أعطى فأجزل العطاء.
تراجع: كان انتهاء القرن الخامس الهجرى مؤذنا بتراجع ملموس فى النشاط الابتكارى بالدراسات العلمية والإبداع الأدبى معا، وقد شمل ذلك دراسات الإعجاز القرآنى حيث لم تعد مدّا متواصلا يحفل بالجديد، بل وقفت إلى ما انتهى إليه السابقون، وزادت عليه أن غمرتها الخصائص المنطقية، وكان الفخر الرازى أول من انتقل بها من مجالها البيانى إلى تقسيمات المناطقة، حين ألف كتابه (نهاية الإعجاز فى دراية الإيجاز)، فاستعان بالمنطق فى تشعيب المسائل وتفريعها، والإحاطة بالأصول والفروع غير ملتفت إلى جمال النص وروعة الأسلوب، بل أصبحت القواعد الجافة، مجال تأملاته وموضع اهتمامه، وكأنه يكتب عن فلسفة ومنطق ونحو وصرف لا عن بيان
(٥٤) سورة الحج: ٢.
(٥٥) تفسير الكشاف، سورة الحج.
(٥٦) سورة الحشر: ٢.
(٥٧) تفسير الكشاف، الحشر.
 
١ ‏/ ٦٧٢
 
وذوق وفن، وهذا أيضا نهجه فى التفسير الشهير الذى حاز الصيت البعيد، إذ حفل بثمار الثقافة الإسلامية فى عصره منطقا وأصولا وفلسفة وتوحيدا وجدلا لتكون هذه الثمار أدوات لتوجيه الاعتراض ودفعه، فتحول التفسير إلى دائرة معارف علمية. ثم جاء البيضاوى فاقتبس منه طريقته مع إيجاز بالغ دعا كثيرا من المؤلفين إلى كتابة الحواشى على تفسيره ليذكروا أكثر ما قرره الرازى! وهكذا لم يجد الإعجاز من أصحاب الذوق البيانى فى هذا الخضم المتسع من يأخذ بناصره؛ لأن السكاكى قد تصدر للتأليف فى علوم اللسان ومنها علم البلاغة فقعّد القواعد، واهتم بالفروع، وقد قرأ كتاب عبد القاهر وانتفع به، ولكنه لم يمض فى منحاه الأسلوبى، بل جعل ما بسطه الجرجانى مقننا فى تعريفات وأقسام جنت على النص الأدبى، وقد ظهر فى هذا العصر من استطاع أن يتجافى طريقة الرازى فى الشرح البيانى وهو ابن أبى الأصبع ت ٦٥٤ هـ حيث قصر كتابه الكبير «بديع القرآن» على ما استحسنه من مظاهر الألوان البلاغية من استعارة وتشبيه ومجاز وطباق وتجنيس وتورية وكناية وتعريض واختراع أسماء أخرى لم تكن من قبل حتى عدّ من ألوان البديع مائة وتسعة كان من الممكن أن تتداخل فلا تتسع إلى هذا الأمد، وقد كان ابن أبى الأصبع أديبا شاعرا ولكنه نشأ فى عصر التقليد فلم ينج من أوهاقه، وكانت ضروب البديع مهوى الشعراء والباحثين فى النقد الأدبى فاختصها باحتفاله وجعل من آيات الذكر الحكيم مجالا لتطبيقها على هذا النحو الفسيح حتى عد هذه المحسنات مع ما يتصل بها من فنون المجاز والكناية والتشبيه والاستعارة من دلائل الإعجاز القرآنى، ومن أبرز سماته.
ومن المدهش أنه ذكر فى مقدمة كتابه:
إعجاز القرآن للباقلانى ودلائل الإعجاز لعبد القاهر وتفسير الكشاف وغيرها من الكتب التى خالفت نهجه فى التأليف، ونقل منها فى أكثر من موضع، واستراح إلى مضمونها ولم يمنعه ذلك من الإغراق فى التماس البديعيات والمحسنات التماسا مفرطا قد يدعو إلى الملال، وكان الأحرى به وقد درس كتب السابقين من هؤلاء الأفذاذ ألا يتنكب طريقهم المتزن؟ فى تناول ألوان البيان.
على أنه قليلا ما كان يسمح لخاطره بالتعبير المتسع فى تحليل بعض الآيات فيأتى بما كنا نود أن يستمر عليه فى التأليف، ومن ذلك ما كتبه عن قول الله ﷿: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٥٨) حيث قال- بتصرف قليل:
(٥٨) سورة الحج: ٧٣.
 
١ ‏/ ٦٧٣
 
«فانظر إلى غرابة هذا التمثيل الذى تضمن الإفراط فى المبالغة مع كونها جارية على الحق خارجة مخرج الصدق وذلك حين اقتصر سبحانه على ذكر أضعف المخلوقات، وأقلها سلبا لما تسلبه، وتعجيز كلّ من دونه- سبحانه- كائنا من كان عن خلق مثله مع التضافر والاجتماع، ثم نزل فى التمثيل عن رتبة الخلق إلى استنقاذ النزر التّفه الذى يسلبه هذا الخلق الضعيف على ضعفه، فتنقّل فى النزول فى التمثيل على ما تقتضيه البلاغة على هذا الترتيب فى البيان، فنزل بهم إلى استنقاذ ما يسلبه هذا المخلوق الضعيف، ليريهم عجزهم فتستيقنه نفوسهم وإن لم تقر به ألسنتهم، فجاء بما يقضى الظاهر أنه أيسر الخلق وهو فى الحقيقة مثله فى العسر، ولم يسمع مثل هذا التمثيل فى بابه لأحد قبل نزول القرآن العزيز» (٥٩).
فهذا التحليل رصين فى موضوعه، قلق فى صياغته إذا قورنت بصياغة الشريف الرضى وعبد القاهر، ولكنه يسير فى طريقهما فحسب وليته واصل المسير.
ولا ننكر ما امتلأت به كتب المتأخرين مثل الزركشى والسيوطى والبقاعى من أحاديث متناثرة عن الإعجاز القرآنى؛ بل إن السيوطى ألف كتابا مستقلا عن الإعجاز ولكنه ترديد لما يقال ونسج على منوال مشتهر لم يضف جديدا. حتى ليجوز لنا أن نقول: إن العصر المملوكى والعصر العثمانى لم يأت من علمائهما من حاول اللحاق
بالسابقين طرافة ومنهجا واستشفافا حتى جاء العصر الحديث، فنفح القراء بما يروق ويفيد، وما كتبه الأندلسيون فى تفسير الكتاب، مثل ابن عطية وابن العربى، جيد فى بابه، ولكنه لا يضيف الجديد.
أ. د/ محمد رجب البيومى
(٥٩) بديع القرآن. لابن أبى الأصبع، ص ٣٤٠ - الطبعة الأولى- بتحقيق الدكتور حفنى شرف.
 
١ ‏/ ٦٧٤
 
الإعجاز المعاصر
 
مقدمة:
إذا كان القرآن الكريم كتاب الزمن كله، لا كتاب عصر واحد، فإن كلّ جيل يأتى لا بدّ أن ينتفع بثقافة عصره المتطورة، وأن تكون هذه الثقافة مفتاحا لباب جديد من القول، ولذلك يظلّ حديث الإعجاز ممتدا فى كل عصر ثقافى، وهو يجود ويعلو حين ترتفع ثقافة العصر، ويرقّ وينحل حين تنخفض هذه الثقافة كما أشرت من قبل إلى عصر المماليك وما تلاه.
وإذا كان هذا العصر قد هجم علينا بثقافاته المتعددة، ورقيّه الفكرى المحلّق، فإنّ المجال قد اتسع به لحديث عن الإعجاز لم يلمّ به السابقون من قبل، وقد تنوّع هذا الحديث إلى علوم شتى، ولكنّا هنا نقتصر على الإعجاز البيانى وحده، ومعلوم أن الذين كتبوا من المعاصرين عن الإعجاز البيانى لا يلم به حصر دقيق. ففي كلّ بلد إسلامى يوجد من يتحدث عن الإعجاز بمنحاه الخاص، وفيهم من وفّقه الله فأتى بالرائع المفيد، ومن كبا به حظّه من المعرفة، فلم يأت بغير الضئيل المنقود إذ أقحم نفسه فى ميدان ليس من فرسانه، وسبيلى الآن أن أختار بعض النابهين من المتحدثين عن الإعجاز، مكتفيا ببعض عن بعض كيلا يطول الحديث، وسأتحدث عنهم مراعيا ناحية السبق الزمنى للكاتب، لنحفظ له حقّه فى الريادة والتوجيه.

محمد فريد وجدى
علم من أعلام الفكر الإسلامى، وحسبه أنه ألّف وحده دائرة معارف القرن العشرين، وقد قرأ ما كتبه السابقون عن الإعجاز، فوجد أنّ الكاتبين قد وفّوا المقام فى الناحية البلاغية المعروفة فى اصطلاحاتها العلمية، ولكنّ ذلك لا يكفى، فإن للبلاغة تأثيرا على الشعور الإنسانى يتطلب إيضاح أثرها فى النفس القارئة، وكلام البشر يظهر ذا رونق فى القراءة الأولى والثانية فإذا تتابعت القراءة مرات فقد تأثيره كثيرا، وكاد يملّه القارئ.
أما القرآن فقد انفرد بميزة خاصة هى
 
١ ‏/ ٦٧٦
 
حلاوة تأثيره مع التكرار وكلّ من حفظ القرآن حفظا لا يمل ترديده، وفى كل قراءة يزداد وثوقا واطمئنانا، فوجب علينا أن نتحدث عن الإعجاز من هذه الناحية، ما سببه ..؟ ولماذا خالف القرآن كلّ ما يكتب، إذ انفرد بهذا التأثير غير المملول.
لقد راجع الأستاذ فريد وجدى التأثير القرآنى لشىء واحد هو أنه روح من عند الله، والروح لا تفقد تأثيرها فهى الموجّهة لكلّ شىء تحل به، وإذا كانت روح القرآن من عند الله فلا يمكن أن تماثلها روح مقال آخر.
وهذا هو السبب فى انقطاع الإنس والجنّ عن محاكاته.
يقول الأستاذ محمد فريد وجدى ملخّصا:
لا نشك فى أنّ القرآن فصيح من ناحية ألفاظه ومعانيه، وقد أخرس بفصاحته فرسان البلاغة وقادة الحكمة. كما بهر الفلاسفة، وألزم الحجة كل ضال، وهو هدى وشفاء لما فى الصدور، وكلّ هذه صفات جليلة تؤثر فى العقل والشعور، والعواطف والميول فتتحكم فيها تحكما آسرا، ولكنّ وراء ذلك كله شيئا واحدا هو الروح الإلهية التى تصل من النفس الإنسانية إلى حيث لا يصل بإزائها كلام آخر، فهى تحلّق فى آفاق لا يرتفع إليها فكر، ولا تجول بخاطر، وهذه الروحانية تظهر عند ما تكون آية من آيات القرآن جاءت على سبيل الاستشهاد وسط كلام سابق ولاحق، فإنك ترى الآية الكريمة تتجلّى بين السطور، وكأنّها الشمس فى رائعة النهار، مهما كانت درجة الكاتب، وعلو منزلته فى البيان. (١)
وإذن فقد جعل الباحث الكبير روحانية القرآن سرّ إعجازه، يردّ بذلك على من يجعلون أساليب القرآن البلاغية من خصائص الإعجاز لأنّ هذه الأساليب من ذكر وحذف وتقديم وتأخير وفصل وصل موجود فى الأساليب البشرية، وليست لها هذا السطو الآخذ للنفوس، هذا ما قاله الرجل ويمكننا أن نقول إن هذه الأساليب البيانية هى صاحبة التأثير الروحى، لأن القرآن قد استعملها استعمالا لم يتفق لسواه، فكانت بهذا الوهج الجاذب مصدر الإعجاز، وإذن فتكون المسألة قريبة بين من يقولون بتأثير الأساليب، وبين الأستاذ وجدى حيث يقول بأن الروح وحدها هى سرّ الإعجاز.
هذا وإذا كان الروح القرآنى سرّا من أسرار الله، فلا يكفى فى تعليل الإعجاز أن نقف عند القول به وحده، بل لا بدّ أن نحلّل ما
(١) دائرة معارف القرن العشرين، الجزء السابع ص ٦٧٧ وما بعدها- الطبعة الأولى، تأليف الأستاذ محمد فريد وجدى.
 
١ ‏/ ٦٧٧
 
أوحى به هذا الروح المرتفع من بيان لندرك بعض أسراره أما الاتجاه إلى المعنى الكلى دون تحليل لخصائص الكلمات والجمل والسياق فقد لا يكفى فى إرواء غلّة الدارس، وإطفاء عطشه حين يحاول أن يقف على سرّ هذا النمط الرفيع من البيان، ولعل الأستاذ وجدى يذهب إلى أن الخوض فى معرفة أسرار التركيب البيانى للقرآن قد ينتهى ببعض الدراسين إلى محاكاة هذا النّمط ما دامت أسراره البيانية قد عرفت بخصائصها البلاغية، وهذا كلام برّاق فى ظاهره ولكنّنا عند التمحيص نعرف أن إدراك السرّ البيانىّ بخصائصه الفنية لا يعنى القدرة على محاكاته، فالناقد الأديب قد يدرك جمال القصيدة الشعرية ويعرف موضع التأثير بها، ويشتدّ إعجابه حتى يرتّلها ترتيلا، ولكنه يعجز عن محاكاتها، ولو كان إدراك السرّ الجمالى فى البيان كافيا لاحتذائه والإتيان بمثله، لوجدنا أساتذة البلاغة جميعا من كبار الأدباء، ولكنّ الكثيرين منهم لا يتجاوزون الناحية العلمية فإذا انطلقوا إلى الإبداع كبا بهم اليراع.
ومع هذا فإن اتجاه الأستاذ فريد وجدى إلى الحكم لسيطرة الروح الإلهى وحدها على مناحى البيان، وعدّها سرّ الإعجاز قد دفع كثيرا من القائلين من بعده إلى مناح ترتكز على ما قاله، إذ أضافوا إلى ما دبّجوه ما يشهدونه من روعة التأثير المنفرد بجاذبيته عن كلّ تأثير بشرى، ولا نقول بتوارد الخواطر فى المسائل العلمية إذا كانت ذات منطق يرتكز على التحليل، إذ ربما وقع التوارد فى الخواطر الأدبية أمّا الاتجاهات العلمية فستكون فى أصلها بذرة جيدة يبذرها السابق ويتعهّدها اللاحق بالرىّ والتشذيب حتى تستوى على سوقها شجرة فينانة، ولكل من السابق واللاحق نصيبه الموفق فى مجال البحث، فللأول اهتداؤه للفكرة، وللثانى بسطها وتفريعها على نحو قد تبدو به جديدة قشيبة، على أن العقول قد تتلاقى فى إثبات بعض الحقائق ولكن على ندرة هى إلى الاستثناء أقرب، وليست هكذا دائما.

مصطفى صادق الرافعى
الرافعى- ﵀ أوّل من أخرج كتابا مستقلا فى الإعجاز القرآنى من المعاصرين، فمنذ أن كتب السيوطى كتابه عن الإعجاز والمكان فارغ ينتظر من يملؤه على وجه شامل مستوعب يضيف الجديد مما يشبع رغبة
 
١ ‏/ ٦٧٨
 
القارئ المعاصر، وقد تصدّر الكتاب ببحوث تتّجه وجهة الأدب الإبداعى، ولكنّها لا تدخل فى صميم المنهج العلمى، وأول صور الإعجاز ما كتبه الرافعى تحت عنوان (آداب القرآن) إذ جعل الأخلاق القرآنية والمسائل التشريعية، والتربية السلوكية إحدى وجوه الإعجاز، والسابقون من أمثال الباقلانى وعبد الجبار وعبد القاهر ممّن خصوا الإعجاز بأبواب مستقلة جعلوا الأسلوب البيانى وحده مدار الارتكاز فى قضية الإعجاز أما الرافعى فافتتح بهذا الفصل موضوعا جديدا مؤكدا أن قواعد الأخلاق قد وجدت من القرآن الركيزة المتبنية لعلم السلوك الإنسانى، فى أسلوب بيانى يجب أن يلتفت إليه معنى ومبنى، وقد قال بصدد ذلك: «وما فرّط المسلمون فى آداب هذا القرآن إلّا منذ فرّطوا فى لغته، فأصبحوا لا يفهمون بيانه، وبالتالى لا يدركون آدابه» (٢).
ثم أخذ يعرض آراء السابقين فى الإعجاز، وقد حمل على المتكلمين حملة لا أرى معه الحقّ فيها، فإذا كانت الشّبه التى تحدّت عنها المتكلمون قد فقدت مضمونها فى هذا العصر، فقد كانت من قبل ذات نقد هادم، فإذا كرّ عليها المتكلمون بالنسف المبيد فقد قاموا بواجب يشكرون عليه، كما رفض القول بالصّرفة على المعنى الشائع العام، وهو مرفوض بداهة وقد سبقت الإشارة إلى المعنى الدقيق فى هذا الاتجاه.
وحين تحدّث الرافعى عن الإعجاز الأسلوبى ذكر أنّ العرب حين ورد عليهم أسلوب القرآن رأوا أن ألفاظه هى الألفاظ التى يتداولونها، ولكنّ طريقة نظم هذه الألفاظ ووجوه تركيبها ونسق حروفها فى كلماتها، ونسق الكلمات فى الجمل كلّها جديدة فى بابها، فأحسّوا بعجزهم عن احتوائها، ورأوا أن أسلوب القرآن جنس من الكلام غير ما هم فيه، ولا سبيل إلى محاكاته، إذ هو وجه الكمال اللغوى الذى تشرئب إليه أرواحهم (٣).
أما التكرار فى البيان القرآنى فقد خاض فى تعليله كثير من البلغاء ولكنّ الرافعى أتى بالجديد حين ذكر أن التكرار مألوف عند العرب؛ ولكنّه فى النسق القرآنى غير مألوف، إذ أنّ المعنى يتردّد بصور، كلّ صورة منها غير الأخرى وهم عاجزون عن محاكاة الصورة الواحدة فما بالهم بالصّور المتعددة، فكأنّ الرافعى يريد أن يقول لهؤلاء إن القرآن يأتى بالمعنى ويتحداهم أن يأتوا بمثله، فيدركهم
(٢) إعجاز القرآن للرافعى ص ١١٣.
(٣) السابق ص ٢١٤.
 
١ ‏/ ٦٧٩
 
العجز، فيأتى بالمعنى نفسه فى صورة أخرى جديدة، فيدهش السامعون لهذا التكرار الطريف، مع أنّه تكرار. وقد خفى هذا المراد على الملاحدة ومن لا نفاذ لهم فى أسرار العربية، فزعموا المزاعم السخيفة مع أنّهم وأشباههم قد عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله.
وخلص الرافعى إلى تحليل الأسلوب القرآنى، فحصر جهات النظم فى ثلاث. هى الحروف والكلمات والجمل، وخصّ كل جهة بفصل شاف مشفوع بالأدلة الكاشفة، والجديد بها أكثر من أن يحصر. وقد باهى الرافعى بما اهتدى إليه، ولم يلتفت ناقدوه إلى ما اختاره من أمثلة لم تكن من مختارات سابقيه، ممّا يجعلنى أؤكد أن كتاب الرافعى هو الثانى فى بابه بعد كتاب «دلائل الإعجاز» لأن الكتابين اجتمعا فى خاصية واحدة، لم يشركهما فيها مشارك، وهى روعة البيان الأسلوبى وتدفق التحليل.
ومن الجديد الذى اهتدى إليه الرافعى من بارع الأفكار المضيئة فى أفق الإعجاز نستشهد بهذه السطور: «.. كل من يبحث فى تاريخ العرب وآدابهم، وينفذ إلى ذلك من حيث تنفذ به الفطنة، وتأتى حكمة الأشياء، فإنه يرى كل ما سبق على القرآن من أمر الكلام العربى وتاريخه، إنما كان توطيدا له، وتهيئة لظهوره، وتناهيا إليه ودربة لإصلاحهم به، وليس فى الأرض أمة كانت تربيتها لغوية غير أهل الجزيرة، فما كان فيهم كالبيان آنق منظرا وأبدع مظهرا، وأمدّ سببا إلى النفس، وأردّ عليها بالعافية، ولا كان لهم كذلك البيان أزكى فى أرضهم فرعا، وأقوم فى سمائهم شرعا، وأوفر فى أنفسهم ريعا، وأكثر فى سوقهم شراء وبيعا، وهذا موضع عجيب للتأمل، ما ينفد عجبه على طرح النظر وإبعاده، وإطالة الفكر وترداده، وأىّ شىء فى تاريخ الأمم أعجب من نشأة لغوية تنتهى بمعجزة لغوية، وتأتى بها على أكمل الوجوه وأحسنها، ثم يكون الدين والعلم والسياسة، وسائر مقومات هذه الأمة مما تنطوى عليه المعجزة، فتخرج به للدهر أمة كان عملها فى الأمم صورة من تلك المعجزة» (٤).
وهذا الوجه من النشأة اللغوية للأمة العربية قبل مبعث رسول الله ﷺ يراه الرافعى إعجازا للقرآن الكريم، إذ نشأ فى أمّة هذه مقدرتها اللغوية لتكون قادرة على استيعابه، وهى فى الوقت نفسه عاجزة عن الإتيان بمثله، وأنا أرى أن هذه النشأة ليست
(٤) السابق ص ١٥٨.
 
١ ‏/ ٦٨٠
 
معجزة كما قال الرافعى ولكنّها إرهاص بالمعجزة التى تجلّت فى القرآن الكريم، كما عدّ الرافعى نهضة الأمة العربية بعد ضياعها فى العصر الجاهلى وامتداد دولها شرقا وغربا مظهرا من مظاهر الإعجاز القرآنى فى تربية النفوس، وحفز السلوك إلى المثل الأعلى، والإعجاز بهذه الفتوح لا يقف عند الجاهلين من أهل مكة لأنّهم لم يروا ما جدّ من الفتوح فيما بعد، ولكنه شهادة لدوام الإعجاز لدى الخلف بعد انقضاء عهد السلف.
وقد جاء من المؤلفين فى البيان القرآنى وإعجازه بعد وفاة الرافعى من ظهر فى نتاجهم العلمى أثر الإعجاز كما قرر الرافعى من قبل، فكان الرجل بذلك قائد كتيبة علمية وجهت نشاطها إلى حقل القرآن، وأحرزت فخار النصر ورجعت بالأسلاب، (وبعضهم- ولا أدرى لماذا- لم يشيروا إلى كتاب الرافعى الذى استقوا من نبعه وارتووا من مائه، ولو أشاروا إليه لكان ذلك أدلّ على منزعهم الخلقى قبل أن يدل على فهمهم لأصول البحث العلمى، إذ يتسمون بالأمانة العلمية، ولا أنتقل إلى محاولة من رأى أن يعارض الرافعى بعد أن استقى من نبعه، ليقول إنه غير متأثر به، وللقراء عقول تعرف انحرافات الأهواء، وتستّر الميول).

عبد الله عفيفى
كان الأستاذ عبد الله عفيفى من كبار أدباء عصره، وقد ألقى محاضرات على طلبة كلية الشريعة فى الأدب العربى، جمعها تحت عنوان (زهرات منثورة) وفيه خص القرآن الكريم والحديث النبوى بتحليل دقيق، وتعرّض لحديث الإعجاز القرآنى فبسطه بسطا شافيا، ننقل هنا خلاصته.
ذكر الأستاذ أوجها كثيرة للإعجاز فى مقدمتها هذه القوّة الروحية التى تسيطر على المشاعر، وتأخذ بالألباب، وهو مسبوق فى هذا الوجه بالأستاذ محمد فريد وجدى، وقد بسطنا القول فيه من قبل.
أما الوجه الثانى من الإعجاز فقد قال فيه: إنّ العرب لم يكونوا يحسنون من فنون النثر إلا الأسلوب الخطابى الذى يعتمد على التأثير فى النفس باللّفظ الفخم والقول المردد، ولكنهم لم يكونوا من كثير من الأسلوب المنطقى الذى ينتقل من المقدمات إلى النتائج، وينفذ من المعلوم إلى المجهول، أمّا الأسلوب العلمى الذى تساق فيه الحقائق العلمية من
 
١ ‏/ ٦٨١
 
أيسر السبل، وأقرب الموارد، فذلك لم يكونوا منه فى شىء، فجاء القرآن ليواجههم بالأسلوب المنطقى والأسلوب العلمى معا فى سلاسل مفرغة الحلقات، محكمة الصوغ، لا وهى بها، ولا انقطاع لها، فوقفهم بذلك بين شعاب متشابكة لا يستطيعون النفاذ إلى مكنونها (٥).
وقد استشهد الأستاذ لذلك بالآيات الست الأولى من سورة الحج، وبيّن ما بها من أدلة عقلية، وأفكار علمية بيانا شافيا ثم قرنها بأفصح خطبة قيلت فى العصر الجاهلى
وهى خطبة قس بن ساعدة الأيادى التى يقول فيها: «ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا هناك فناموا»؛ ليؤكد أن الخطيب الجاهلى قد اعتمد على التأثير العاطفى وحده، أما آيات القرآن فقد جمعت العاطفة والعقل والعلم فى أسلوب سهل ميسور، وأزيد على ذلك بأنها جمعت من التصوير البيانى ما لم يعهد من قبل، ويتجلّى ذلك فى قوله ﷿ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (٦)
وبعد أن شرح الأستاذ الآيات شرحا أدبيا مصوّرا ما تتضمنه من تفوق البلاغة الرفيعة قال:
«هذا هو الأسلوب الخطابى الذى بلغ الغاية العليا بكل ما فى الخطابة من تأثير، فإذا ملأت منه يدك، وروّيت نفسك فاستمع حديث المنطق والعلم فى قوله جلّ شأنه يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ (٧) إلى آخر الآية، فقد ساق الله دليلين لا يقبلان الشك، فى الوجود بعد الهمود، والحياة بعد الممات، وفى الحالتين استحال التراب بما فيه من الحياة الكامنة، إلى خلق حى يزداد على الأيام نموا وسموا، فتأمل كيف كشف الله حجاب العلم فى قوله تعالى: مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ (٨) فهو ﷾ يسقط هذه المضغ من الأرحام، ليشرح للإنسان كيف كانت أوّليته، ففي هذه الآيات بسط لأدوار التكوين الإنسانى بما لا يمكن للعرب أن يأتوا بمثله، لأنّه أتاهم بعلم ما لا يعلمون، ومن الدقة البديعة فى الأسلوب
(٥) زهرات منثورة فى الأدب العربى ص ٥٢ للأستاذ عبد الله عفيفى- ط مصطفى الحلبى ١٩٣٢.
(٦) الحج: ١، ٢.
(٧) الحج: ٥.
(٨) الحج: ٥.
 
١ ‏/ ٦٨٢
 
العلمى تعبيره ﷿ عن تضام ذرات الأرض المتشابهة، واختمارها بعد الحرث والبذر والرى، بقوله تعالى: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ (٩) ثم انظر إلى ما وصل إليه المنطق من جمع الأدلة وسياق المدلول، أو تقديم الأمثلة وتأخير الدعوى فى قوله تعالى بعد أن ساق الدليلين المنطقيّين ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (١٠) وهذا كلّه وأشباهه ممّا لا قبل للعرب به، ولا طوق لهم بتحديه.
هذا لباب ما قاله الأستاذ عبد الله عفيفى، وكان له صدى بعيد بين الدارسين، وطبيعى أن يلقى معارضة من ذوى النقد فالآراء لا تستقرّ دون معارضة يتبعها التمحيص، وقد عارضه الأستاذ الكبير محمود مصطفى أستاذ الأدب بكلية اللغة العربية فذكر أن العرب كانت تعرف هذين اللونين من الأسلوب المنطقى والأسلوب العلمى، والدليل على ذلك أنّهم لو كانوا يجهلونهما ما كان لهما وقع فى نفوسهم، لأن الناس أعداء ما جهلوا (١١)، وقد ساق خطبة منحولة قيلت على لسان قبيصة بن نعيم حين وفد على كسرى، وألفاظ الخطبة وترتيبها يدلّ على إسلاميتها، وأنّ المعانى مما جاء به القرآن الكريم، هذا من ناحية، أما الناحية الأخرى فإنّ خطبة قبيصة المنحولة تخلو من الأسلوب العلمى الذى أشار إليه الأستاذ عبد الله عفيفى، فكيف يقال: إنّ العرب كانت تعرف هذين الأسلوبين، أما القول بأن العرب لو كانوا يجهلون هذا الأسلوب ما قبلوه فممّا لا يستقيم مع النظر الصحيح؛ لأنّ الجديد الطريف لا يرفض بداهة عند ذوى العقول.
وقد جاء عصرنا الحاضر بفنون من القول لم تكن معروفة فى الأدب العربى مثل الشعر التمثيلى، فلاقت الترحيب المشجّع، وما زال الجديد يفد كلّ يوم بثماره المشتهاة.
أما الوجه الثالث من وجوه الإعجاز عند الأستاذ عبد الله عفيفى فهو الإفاضة فيما كان يجهله العرب من أحداث التاريخ من قبل ومن بعد، فأخبار الأمم السابقة لم تكن معروفة لدى العرب، وقد قال الله ﷿ تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا (١٢) ولو
(٩) الحج: ٥.
(١٠) الحج: ٦، ٧.
(١١) الأدب العرب وتاريخه ج (١) ص ٤٢ للأستاذ محمود مصطفى- طبعة عيسى الحلبى.
(١٢) هود: ٤٩.
 
١ ‏/ ٦٨٣
 
كان قوم الرسول يعلمون شيئا من هذه الأنباء لصاحوا به، نحن نعلم، ولكن كان قصاراهم أن يقولوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (١٣)
وندع أخبار التاريخ إلى ما استفاض به القرآن من أمور التشريع، فقد كان العرب فى جاهليتهم لا ينزعون إلى شريعة مفروضة فجاءهم القرآن من جانب التشريع بما دهشوا، كذلك لم يكونوا يعرفون شيئا عن المعاد وأمور البعث والحساب والملائكة والجن والجنة والنار فأتى لهم بما يجهلون، ثم هذا التصوير الأدبى الرائع الذى أعجزهم كل الإعجاز فى مثل قول الله اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ. (١٤)
ولم يسق الأستاذ هذه الآيات مجردة من التحليل الأدبى الشائق، والعرض الأسلوبى البديع، بل بلغ من ذلك مبلغا حميدا- ﵀.

الدكتور محمد عبد الله دراز:
ألّف الأستاذ الدكتور محمد عبد الله دراز كتاب «النبأ العظيم» ليثبت إعجاز القرآن بما لا يدع مجالا للريب، والكتاب فى القمة من الأدب العالى (وقد طبع عدة مرات وأرجو أن يكون فى مكتبة كل مسلم) لما تضمن من حقائق جديدة، أكثرها من بنات فكره الخاص مع تمتعه بأسلوب نادر يجذب القارئ حتى ليخاله شعرا، (وهو فى رأيى أقرب إلى نفوس القراء من كتاب الرافعى- ﵀ على عظم تقديرنا إياه، لأنّ الرافعى يتعمّق فى التصوير والتعبير حتى يحوج القارئ إلى التثبت، أما النهر المتسلسل الدفاق فهو ما انهمر من يراع الدكتور دراز، وكأنه غيث نزل من السماء فأحيا به الله الأرض).
لقد رصد المؤلف الخصائص القرآنية للأسلوب البيانى فى كتاب الله فحدّها فى أربعة أمور هى سر الإعجاز، وأول هذه الخصائص هو (البيان والإجمال معا) (١٥) فهما خارقة عجيبة من خوارق التعبير لأنّ الناس إذا عمدوا إلى تحديد أغراضهم لم تتسع إلى تأويل، وإذا أجملوها ذهبوا بها إلى الإبهام أو الإلباس، ولا يكاد يجتمع لهم هذان
(١٣) الفرقان: ٥.
(١٤) النور: ٣٥.
(١٥) النبأ العظيم تأليف الدكتور محمد عبد الله دراز ص ١٢٨ - الطبعة الأولى سنة ١٩٥٧ م.
 
١ ‏/ ٦٨٤
 
الطرفان فى كلام واحد، ولكنك تقرأ القطعة من القرآن فتجد فى ألفاظها من الشفوف والملاسة والإحكام، والخلو من كلّ غريب عن الغرض، ما يتسابق به مغزاها إلى نفسك دون كدّ خاطر، أو استعارة حديث، كأنك لا تسمع كلاما ولغات بل ترى صورا وحقائق ماثلة ثم يخيّل إليك أنّك أحطت به خبرا، ووقفت على معناه محدودا، ولكن لو رجعت إليه كرة أخرى لرأيتك منه بإزاء معنى جديد غير الذى سبق إليه فهمك أول مرة، حتى ترى للجملة الواحدة أو الكلمة الواحدة وجوها عدّة كلها صحيح، أو محتمل الصحة، كأنما هى فصّ من الماس يعطيك كلّ ضلع منه شعاعا، فإذا نظرت إلى أضلاعه جملة، بهرتك بألوان من الطيف، لا تدرى ماذا تأخذ منها وما تدع ولعلّك لو وكلت النظر فيها لغيرك لرأى فيها أكثر مما رأيت، وهكذا نجد كتابا مفتوحا مع الزمان يأخذ منه كل فرد ما تيسّر له، بل ترى محيطا مترامى الأطراف لا تحدّه عقول الأفراد ولا الأجيال، ألم تر كيف وسع الفرق الإسلامية على اختلاف وسائلها فى القديم والحديث، وهو على لينه للعقول والأفهام صلب متين، لا يتناقض ولا يتبدل، يحتج به كل فريق لرأيه، ويدّعيه لنفسه، وهو فى سمّوه فوق الجميع يطلّ على معاركهم حوله، وكأنّ لسان حاله يقول قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا (١٦)، وثانية هذه الخصائص هى (إقناع العقل وإمتاع العاطفة) (١٧): والحديث عن اجتماع العقل والعاطفة فى أسلوب واحد لا يقنع به إلا دارس مكين تغلغل فى خوانى علم النفس فاهتدى إلى أسرار صارت مصباحا فى يده يضيء الطريق، فقد عرفنا كلام الحكماء والعلماء، وعرفنا كلام الأدباء والشعراء، فما وجدنا من هؤلاء وهؤلاء إلا غلوّا فى جانب وقصورا فى جانب، فأما الحكماء فإنهم يؤدون إليك ثمار عقولهم، غذاء لعقلك، ولا تتوجّه نفوسهم إلى استهواء نفسك، واختلاف عاطفتك، فتراهم حين يقدمون إليك حقائق العلوم، لا يأبهون لما فيها من جفاف وعرى، ونبوّ عن الطباع، أما الشعراء فيسعون إلى استثارة وجدانك، وتحريك أوتار الشعور من نفسك، ولا يبالون بما صوّروه لك أن يكون غيا أو رشادا، وأن يكون حقيقة أو تمثيلا، فتراهم جادين وهم هازلون، يستبكون وإن كانوا لا يبكون، ويطربون وإن كانوا لا يطربون، وكل امرئ حين يفكر إنما هو فيلسوف صغير، وكل امرئ حين يحس إنما
(١٦) الإسراء: ٨٤.
(١٧) النبأ العظيم ص ١٢٤.
 
١ ‏/ ٦٨٥
 
هو شاعر صغير، فهل رأيتم أحدا تتكافأ فيه قوة التفكير، وقوة الوجدان، وسائر القوى النفسية على حد سواء، واذا كانت الإجابة بالنفى فكيف تطمع من إنسان أن يهب لك الطّلبتين معا، وهو لم يجمعهما فى نفسه على حد سواء، وما كلام المتكلم إلا صورة الحال الغالبة عليه من تلك الأحوال.
هذا مقياس تستطيع أن تتبين به كل إنسان، وحكم أى القوتين كان خاضعا لها، حين قال وكيّف، فإذا رأيته يتجه إلى تقرير حقيقة نظرية، أو وصف طريقة عملية، قلت:
هذه ثمرة الفكرة، وإن رأيته يعتمد إلى تحريض النفس أو تغييرها وقبضها وبسطها، واستثارة كوامن لذاتها وآلامها، قلت: هذه ثمرة العاطفة، فإذا رأيته انتقل من أحد هذين الضّربين إلى الآخر فتفرغ له بعد ما قضى وطرا من سابقه، كما ينتقل من غرض إلى غرض، عرفت ذلك من تعاقب الشعور والتفكير على نفسه، فأمّا أنّ أسلوبا واحدا يتجه اتجاها واحدا، ويجمع بين يديك هذين الطرفين معا، كما يحمل الغصن الواحد من الشجرة أزهارا وأثمارا وأوراقا معا، وكما يسرى الروح فى الجسد، والماء فى العود الأخضر، فذلك ما لا نظفر به فى كلام بشر، ولا هو من سنن الله فى النفس الإنسانية، فمن لك بهذا الكلام الذى يحى من الحقيقة البرهانية الصارمة بحيث يرضى حتى أولئك الفلاسفة المتعمقين، وبين المتعة الوجدانية بحيث يرضى هؤلاء الشعراء المرحين. ذلك الله رب العالمين، فهذا الذى لا يشغله شأن عن شأن، وهو القادر على أن يخاطب العقل والقلب معا بلسان واحد، وأن يخرج الحقّ والجمال معا يلتقيان فلا يبغيان، وهذا هو ما تجده فى كتابه الكريم حيثما توجهت، ألا تراه فى نسجه قصصه وأخباره لا ينسى حق العقل من حكمة وعبرة، ألا تراه وهو فى معمعة براهينه وأحكامه، لا ينسى حظ القلب من تشويق وترقيق، وتحذير وتنفير، يبث الله ذلك فى مطالع آياته، ومقاطعها وتضاعيفها.
وثالثة هذه الخصائص القرآنية لدى الدكتور دراز هى ما حصره الباحث فى (خطاب العامة والخاصة) (١٨) إذ هذان الخطابان يمثلان غايتين أخريين متباعدتين عن الناس، فلو أنّك خاطبت الأذكياء بالواضح المكشوف الذى تخاطب به الأغبياء، لنزلت بهم إلى مستوى لا يرضونه فى الخطاب لأنفسهم، ولو أنّك خاطبت العامة باللمح والإشارة لجئتهم من ذلك بما لا تطيقه
(١٨) النبأ العظيم ص ١٢٣.
 
١ ‏/ ٦٨٦
 
عقولهم، فلا غنى لك إذا أردت أن تعطى كلتا الطائفتين حظها من كمال بيانك أن تخاطب كل واحدة منها بغير ما تخاطب به الأخرى، فأما أنّ جملة واحدة تلقى إلى العلماء والجهلاء، وإلى الأذكياء والأغبياء، وإلى السوقة والملوك، فيراها كل منهم مقدرة على قياس عقله، وعلى وفق حاجته، فذلك ما لا تجده إلا فى كتاب الله.
أما الخاصية الرابعة، فهى (القصد فى اللفظ والوفاء بحق المعنى) فقد جلاها الدكتور أحسن تجلية واستشهد لها بآيات كريمة أحسن تحليلها وإيضاح مراميها، ولا يحسن تلخيص ما جاء به هنا، لأنّه يطفئ من نور الكتاب إذا أوجز واختصر، فليرجع القارئ إليه.
ولا بدّ من كلمة أقولها هى أن الدكتور ﵀ مبتكر مبدع فى أكثر ما انتحاه من التحليل، وبذلك أضاف كتابه ثروة طريفة للدراسات القرآنية الجادة، ثم هو بذلك يعطى المثل لمن يريد أن يبحث وجوها من الإعجاز القرآنى، إذ لا يقتصر على الترديد، بل يحاول أن يأتى بالجديد.

سيد قطب:
احتفل الشهيد سيد قطب بكتاب الله احتفالا تجلّى فى موسوعة (فى ظلال القرآن) وقد تواضع فذكر أنه يعيش فى الظلال فحسب، أى أنه لم يقدم تفسيرا يتجاوز الظلال إلى الأعماق، وهذا غير ما يحسّه قارئ الظلال، فقد كتبه الأستاذ بفكره وشعوره معا، شعوره المتقد بما نزل بالمسلمين من محن فى عهودهم الأخيرة، وفكره الوثّاب المشرئب لآفاق فسيحة يحلق فيها بقوته الخارقة.
وسأتجاوز كتاب الظلال فى حديث الإعجاز إلى كتاب (التصوير الفنى فى القرآن) لأنه ذو تنظير قاعدىّ يلتفت إلى جهات الإعجاز كما تصوّره، وهو يشترك مع الدكتور محمد عبد الله دراز فى شىء ملحوظ: هو أنّ كليهما يعتمد على ذهنه وروحه وإحساسه قبل أن يعتمد على مقررات الإعجاز فى الكتب السابقة، فالجديد الطريف لديهما
كثير.
تحدّث الأستاذ الشهيد عن تأثير القرآن فى نفسه وهو طفل صغير إذ أخذ فى مكتب القرية يحسّ بروعة تملك عليه أقطار نفسه
 
١ ‏/ ٦٨٧
 
دون أن يدرك سرها، ونما هذا الإحساس فى نفسه كما تنمو البذرة الجيدة فى الأرض الطيبة، حتى إذا درس فنون النقد الأدبى فيما بعد، راجع كتاب الله فرأى من فنون الإعجاز ما لم يحم حوله أحد من السابقين، وهو التصوير الفنى للقرآن، وقد شرح وجهة نظره فى ذلك فقال:
«إن التصوير الفنى هو الأداة المفضلة فى أسلوب القرآن، فهو يعبّر بالصورة المحسّة المتخيلة عن المعنى الذهنى، والحالة النفسية، ثم عن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور، وعن النموذج الإنسانى، والطبيعة البشرية، ويرتقى بالصورة التى رسمها فيمنحها الحياة الشاخصة، أو الحركة المتجدّدة، فإذا المعنى الذهنى حركة أو هيئة، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج النفسى شاهد حىّ، وإذا الطبيعة البشرية مجسّمة مرئية، أما الحوادث والمشاهد، وأما القصص والمناظر، فيردّها شاخصة حاضرة فيها الحياة، وفيها الحركة، فإذا أضاف إليها الحوار، فقد استوت كل عناصر التخيل، فما يكاد يبدأ العرض، حتى يحيل السامعين نظّارة، وحتى ينقلهم نقلا إلى مسرح الحوادث الأول، الذى وقعت فيه أو ستقع، حيث تتوالى المناظر، وتتجدد الحركات، وينسى المستمع أن هذا كلام يتلى، ومثل يضرب، ويتخيل أنه منظر يعرض، وحادث يقع، فهذه شخوص تروح على المسرح وتغدو، وهذه سمات الانفعال بشتى الوجدانات المنبعثة من الموقف، المتساوقة مع الحوادث، وهذه كلمات تتحرك بها الألسنة، فتنم عن الأحاسيس المضمرة، إنها الحياة هاهنا، وليست حكاية الحياة» (١٩).
وقد وفّى الشهيد- ﵀ بما وعد، والاستشهاد الكامل متعذر هنا، ولكنّنا ننقل مثلا تطبيقيا لسورة من قصار السور، التى ربما حسبها البعض سجعا مرصوفا، وهى سورة الفلق، إذ قال عنها المؤلف:
ما الجو المراد إطلاقه هنا؟ إنه جو التعويذة بما فيه من خفاء وهيمنة، وغموض وإبهام، فاسمع: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (٥) (٢٠) فما الفلق الذى يستعيذ بربه؟ نختار من معانيه الكثيرة معنى الفجر لأنه أنسب فى الاستعاذة من ظلام ما سيأتى، ممّا خلق، ومن الغاسق، ومن النفاثات فى العقد، ومن شر حاسد إذا
(١٩) التصوير الفنى فى القرآن، الطبعة الأولى، دار المعارف سنة ١٩٤٤ م.
(٢٠) سورة الفلق بأكملها من ١ - ٥.
 
١ ‏/ ٦٨٨
 
حسد، ولأن فيه إبهاما خاصا ستعلم حكمته بعد قليل، يعوذ برب الفلق من شر ما خلق، هكذا بالتنكير وبما الموصولة الشاملة، وفى هذا التنكير والشمول، يتحقق الغموض، والظلام المعنوى فى العموم، «ومن شر غاسق إذا وقب»، الليل حين يدخل إلى كلّ شىء وحين يمسى مخوفا مرهوبا، «ومن شر النفاثات فى العقد»، وجوّ النفث فى العقد من الساحرات والكواهن كله رهبة وخفاء وظلام، بل هنّ لا ينفثن غالبا إلا فى الظلام، «ومن شر حاسد إذا حسد»، والحسد انفعال باطنى مغمور فى ظلام النفس، غامض مرهوب كذلك، فالجوّ كله رهبة وغموض، وهو يستعيذ من هذا الظلام بالله، والله رب كل شىء، فلماذا خصصه بالفلق، لينسجم مع جو الصورة كلها، ويشترك فيه، وكان المتبادر للذهن أن يعوذ من الظلام برب النور، ولكنّ الذهن ليس هنا المحكّم- إنما المحكم هنا آلة التصوير الدقيقة فالنور يكشف الغموض المرهوب، ولا يتسق مع جو الغسق والنفث فى العقد، ولا مع جو الحسد، والفلق يؤدى معنى النور من الوجهة الذهنية، ثم يتسق مع الجو العام من الوجهة التصويرية، التى تجمع بين النور والظلمة، ولها جوّها الغامض المسحور.
ثم ما أجزاء الصورة هنا؟ أو محتويات المشهد، هى من ناحية الفلق والغسق مشهدان من مشاهد الطبيعة، ومن ناحية النفاثات فى العقد والحاسد إذا حسد مخلوقان آدميّان ...
فالجو قائم على أساس من هذه الوحدة فى الأجزاء والألوان، وليس فى هذا البيان شىء من التمحل، وليست هذه الدقة بلا هدف، وليس الهدف حلية عابرة، فالمسألة ليست مسألة ألفاظ، أو تقابلات ذهنية، وإنما هى مسألة لوحة وجو وتنسيق، وتعاملات تصويرية تعدّ فنا رفيعا من التصوير يلفت النظر إذا أداه مجرد التعبير (٢١).
هذا النص يدل على كثير غيره، بل هناك ما هو أجود منه فى التحليل الأدبى وبخاصة فيما كتبه الأستاذ عن القصة القرآنية فقد جاء كلامه رائعا فائقا غير مسبوق.
ومما أخذ على الأستاذ أنه اعتبر الأداء الوجدانى هو سرّ الإبداع فى الإعجاز، وقد عارضه الأستاذ عبد المنعم خلاف فوضّح أن المنطق العقلى جناح آخر للإعجاز، وهذا ما وافق عليه الأستاذ قطب مؤكدا أنه لم يغفل جانب المنطق، ولكن هذا الجانب لا يأتى جافا كما فى كتب العلوم بل يضيء بشعاع التصوير الأدبى فلا خلاف (٢٢) وقد ظهر هذا الاتجاه
(٢١) التصوير الفنى: ٤٤.
(٢٢) مجلة الرسالة العددان ٦١٧، ٦٢٠.
 
١ ‏/ ٦٨٩
 
فيما كتبه الأستاذ قطب فى «ظلال القرآن» حيث فسح المجال للمنطق العقلى والمنطق الوجدانى معا فكانا أداتى الإقناع والإمتاع فى كتاب الله العزيز.
(وبعد) فهذه صور من الإعجاز القرآنى فى الفكر العربى الحديث تضاف إلى ما سبقت الإشارة إليه من صور الإعجاز فى الفكر العربى القديم (وفى حدود هذه الصفحات لم ألم بكل ما قيل، ولكنّى اكتفيت بما كانت له جدواه الحقيقية عند الدارسين مقدرا ما كتبه غير هؤلاء من أفاضل الباحثين فهو قوى رائع فى بابه، وقد يأتى من يتناول كل ما قيل فى مجلد مستقل، فالحقل العلمى حافل بكرام الباحثين).
أ. د. محمد رجب البيومى
مراجع البحث، وفق ورودها: (١) البيان القرآنى للدكتور محمد رجب البيومى- الدار المصرية اللبنانية للنشر ٢٠٠٠ م.
(٢) إعجاز القرآن للأستاذ مصطفى صادق الرافعى- الطبعة السادسة- سنة ١٩٥٦ - مطبعة الاستقلال.
(٣) رسائل الجاحظ بتحقيق الأستاذ عبد السلام هارون- مكتبة الخانجى سنة ١٩٧٩.
(٤) البيان والتبيين بتحقيق الأستاذ حسن السندوبى- مطبعة مصطفى محمد التجارية.
(٥) كتاب الحيوان بتحقيق الأستاذ عبد السلام هارون- ط ٣ سنة ١٩٦٩ طبعة بيروت.
(٦) خطوات التفسير البيانى للدكتور محمد رجب البيومى (سلسلة مجمع البحوث الإسلامية) سنة ١٩٧١ م.
(٧) ثلاث رسائل فى إعجاز القرآن- تحقيق محمد خلف الله أحمد، ومحمد زغلول سلام- ط دار المعارف ١٩٦٢ م.
(٨) البلاغة تطور وتاريخ للدكتور شوقى ضيف- ط دار المعارف سنة ١٩٦٥.
(٩) إعجاز القرآن للباقلانى- تحقيق الدكتور محمد عبد المنعم خفاجى الطبعة الأولى مطبعة صبيح.
(١٠) أمالي المرتضى- الطبعة الأولى- دون تاريخ طبعة هندية.
(١١) تلخيص البيان فى مجاز القرآن- للشريف الرضى- تحقيق محمد عبد الغنى حسن- مطبعة عيسى الحلبى سنة ١٩٥٥ م.
(١٢) دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجانى- تحقيق السيد محمد رشيد رضا مطبعة المنار سنة ١٩٦٧ م- ط رابعة.
(١٣) تفسير الكشاف- الطبعة الأولى- سنة ١٣٥٤ هـ- طبعة مصطفى محمد.
(١٤) بديع القرآن لابن أبى الإصبع- الطبعة الأولى تحقيق الدكتور حفنى شرف.
(١٥) دائرة معارف القرن العشرين- الطبعة الأولى جزء (٧) للعلامة محمد فريد وجدى- مطبعة دار المعارف.
(١٦) زهرات منثورة فى الأدب العربى للأستاذ عبد الله عفيفى مطبعة مصطفى الحلبى سنة ١٩٣٢ م.
(١٧) الأدب العربى وتاريخه ج (١) للأستاذ محمود مصطفى- مطبعة عيسى البابى الحلبى سنة ١٩٤٤.
(١٨) النبأ العظيم للدكتور محمد عبد الله دراز الطبعة الأولى سنة ١٩٥٧ م.
(١٩) التصوير الفنى للقرآن للأستاذ سيد قطب- ط دار المعارف سنة ١٩٤٤ م.
 
١ ‏/ ٦٩٠
 
الإعجاز العلمى للقرآن الكريم
 
تعريف الإعجاز العلمى:
الإعجاز لغة: مشتق من العجز. والعجز:
الضعف أو عدم القدرة.
والإعجاز مصدر «أعجز»: وهو بمعنى الفوت والسبق (١).
والمعجزة فى اصطلاح العلماء: أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدى، سالم من المعارضة (٢).
وإعجاز القرآن: يقصد به إعجاز القرآن الناس أن يأتوا بمثله، أى نسبة العجز إلى الناس بسبب عدم قدرتهم على الإتيان بمثله.
ووصف الإعجاز بأنه علمى نسبة إلى العلم.
والأصل فى معنى «العلم عند العرب هو الإدراك الصحيح لحقائق الأشياء، وهو معنى مطلق غير مقيد بتخصيص بعينه، والإطلاق:
يفيد الشمول والتعميم. أما تصنيف العلوم إلى دينية ودنيوية، أو نقلية وعقلية، أو شرعية وكونية، أو نظرية وتجريبية، أو إنسانية وطبيعية، أو غير ذلك، فهو تصنيف يعتمد على الصفات المعبّرة عن موضوعات العلم، أو مصادره، أو الطرائق التى يتم تحصيله بها بحسب تناسبها وقرب بعضها من بعض. وقد يخصص العلم بموضوع معين، فيقال: «علم التفسير» أو «علم اللغة» أو «علم التاريخ» أو «علم الفلك» أو «علم الأحياء»، أو غير ذلك من مختلف فروع العلم (٣).
والمقصود بالعلم الذى ينسب إليه مصطلح «الإعجاز العلمى للقرآن الكريم» هو العلوم الكونية التجريبية الباحثة فى ظواهر الكون والحياة.
وعليه: فإن «الإعجاز العلمى» للقرآن الكريم أو السنة النبوية المطهرة هو إخبارهما بحقيقة كونية أثبتها العلم التجريبى، وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية فى زمن الرسول ﷺ مما يظهر صدقه فيما بلّغ عن رب العزة ﷾ (٤). ووصف الإعجاز هنا بأنه علمى نسبة إلى العلم التجريبى المعنىّ بدراسة الظواهر المطردة فى الآفاق وفى الأنفس وصولا إلى القوانين التى تفسر سلوكها وتعلل حدوثها بحيث تنكشف
(١) راجع لسان العرب لابن منظور، مادة «عجز»، والمفردات للراغب الأصفهانى ص ٣٢٢.
(٢) انظر معنى ذلك فى تفسير القرطبى ١/ ٩٦ وفتح البارى ٦/ ٥٨١.
(٣) د. أحمد فؤاد باشا، رحيق العلم والإيمان، دار الفكر العربى، القاهرة، ١٤٢٢ هـ- ٢٠٠٢ م، ص ٢٦.
(٤) عبد المجيد الزندانى، الإعجاز العلمى تأصيلا ومنهجا، مجلة الإعجاز، هيئة الإعجاز العلمى فى القرآن والسنة، رابطة العالم الإسلامى، مكة المكرمة، العدد الأول صفر ١٤١٦ هـ- يوليو ١٩٩٥ م.
 
١ ‏/ ٦٩٢
 
حقائق الأشياء انكشافا تاما، وتتجلى حقيقة الحقائق متمثلة فى الإيمان الخالص على هدى وبصيرة بالخالق الواحد، مصداقا لقوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥).
والعلاقة بين آيات الحق فى القرآن والكون تجمع فى ترابط محكم بين إعجاز السبق والبيان فى كتاب الإسلام الخالد، وإعجاز القدرة الإلهية فى كتاب الكون اللانهائى، ليدلى كل إعجاز بشهادة تسليم وتصديق للآخر، وليكون فى الإعجازين عبرة لكل ذى عقل رشيد، أو لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فكما أن الأدلة القاطعة برهنت على أن القرآن الكريم لا يمكن إلا أن يكون من عند الله الواحد، بدليل عدم الاختلاف بين آياته، كذلك فإن النظام الكونى المعجز بكل ما فيه من تدبير وإحكام لا يمكن إلا أن يكون من صنع الله الذى أتقن كل شىء.
وينبغى أن ندرك هنا أن المعجزة نوعان ينبغى التمييز بينهما، كى نطلب المعجزة التى يجب أن تطلب، ونتورع عن طلب المعجزة التى لا تجدى أحدا من العقلاء (٦).
أما النوع الأول فهى المعجزة التى تتجه إلى العقل، وهى موجودة يلتقى بها من يريدها حيثما التفت إليها، متمثلة فى الإطراد المنتظم لظواهر الكون والحياة التى لا تتبدل ولا تتحول، قال تعالى: ... فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (٧).
وأما النوع الثانى فهى المعجزة التى تكون من خوارق العادات، فهى التى تدهش العقل وتضطره بالإفحام القاهر إلى التسليم، وهى ليست بحاجة إلى قدرة أعظم من القدرة التى نشهد من بدائعها ما يتكرر أمامنا كل يوم وكل ساعة. والعالم الحق أحرى أن يعرف موضع العجب فيما يشاهده من سنن الله الكونية المألوفة فى دوران الأفلاك وخصائص المادة وسلوك الكائنات والظاهرات، فليست ألفته لها مما يصح أن يبطل العجب منها، ومن قال هذا فهو هازل مستخف بالمعجزة التى تخاطب العقل وتستثير ملكاته، وهو أيضا عاجز عن أن يجد فى هذه المعجزة يد العناية الإلهية التى تسيّر حركة الكون والحياة.
وقد غاب مثل هذا التمييز الواضح بين نوعى المعجزة عن كثير من الباحثين الذين يقفون بتفكيرهم عند حد «التفسير العلمى» للظاهرة الكونية، أو الذين يقحمون أنفسهم فيما لا يدركه العقل البشرى المحدود من خوارق العادات التى لا تخضع للنواميس الطبيعية ولا للتجارب البشرية.
(٥) سورة فصلت: ٥٣.
(٦) عباس محمود العقاد، التفكير فريضة إسلامية، منشورات المكتبة العصرية، بيروت- صيدا، بدون تاريخ للنشر.
(٧) سورة فاطر: ٤٣.
 
١ ‏/ ٦٩٣
 
كذلك أدّى غياب هذا التمييز الواضح بين نوعى المعجزة إلى الخلط أحيانا بين الإعجاز العلمى الذى يقصد به سبق القرآن الكريم إلى الإخبار بحقيقة كونية قبل أن يكتشفها العلم التجريبى، وبين «التفسير العلمى للقرآن الكريم» الذى يراد به الكشف عن معان جديدة للآية القرآنية، أو الحديث النبوى، فى ضوء ما ترجحت صحته من نظريات العلوم الكونية، دون إسراف فى التأويل، بمعنى أن تكون هذه العلوم فى خدمة تفسير القرآن والسنة مثلما خدمته علوم اللغة والأصول والفقه وغيرها من مجالات العلوم الشرعية.
وكان طبيعيا أن يظهر فى مجال الدراسات الإسلامية مبحث خاص من مباحث علوم القرآن يعنى بدراسة الآيات الكونية فى إطار من توافق الحقائق العلمية مع ما أنبأ به القرآن أو أشار إليه، سواء كان غرض هذه الدراسة هو الكشف عن أوجه الإعجاز العلمى للقرآن الكريم فى بيان حكم التوجيهات الإلهية فيما يتعلق بالحلال من الطيبات والحرام من الخبائث والمحرمات، أو كشف وجوه الهداية القرآنية فى آفاق النفس والكون بصورة عامة.

* الترقى فى فهم الإعجاز العلمى للقرآن الكريم:
لقد شاءت حكمة الله- تعالى- أن يكون إرشاد الناس وهدايتهم بوسائل متنوعة، وهو- ﷾ خبير بعباده، فهو تارة يخاطبهم بما يمس قلوبهم مسا رقيقا رفيقا، وهو تارة أخرى يقرع عقولهم قرعا قويا شديدا، وكان من أبرز ما جلى به أبصارهم وأنار بصائرهم حضّه إياهم على التدبر فى آيات خلقه. وهذا ما شجع العلماء الذين يرون فى الإعجاز العلمى للقرآن الكريم لونا من التفسير فيه فتح جديد وتجديد فى طريق الدعوة إلى الله وهداية الناس إلى دين الله.
ولما كان القرآن الكريم هو المعجزة الكبرى التى أيد الله بها رسوله محمدا- ﷺ لتبقى بين أيدى الناس إلى قيام الساعة، مصداقا لقوله تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ (٨)، فقد ظهرت مباحث فى علوم القرآن تعنى بجوانب الإعجاز القرآنى البلاغية والتشريعية والتربوية والعلمية وغيرها. وفى بيان المعجزة العلمية من حيث طبيعتها الباقية بين يدى الناس، وتجددها مع كل كشف بشرى فى ميادين العلوم، وكذلك فى المعارف ذات الصلة بمعانى الوحى الإلهى، يقول الله تعالى:
لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا (٩).
وجاء فى تفسير هذه الآية الكريمة: أنزله
(٨) سورة الأنعام: ١٩.
(٩) سورة النساء: ١٦٦.
 
١ ‏/ ٦٩٤
 
بعلمه: أى فيه علمه الذى أراد أن يطلع العباد عليه، من البينات والهدى والفرقان، وما يحبه الله ويرضاه، وما يكرهه ويأباه، وما فيه من العلم بالغيوب، من الماضى والمستقبل (١٠).
كذلك وعدنا الحق جل وعلا بأن يرينا آياته، فيتحقق لنا العلم الدقيق بها، وذلك فى قوله ﷿: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها (١١)، وقوله: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (١٢). ومن آيات الله فى الآفاق وفى الأنفس كل مخلوقاته التى خلقها فى شتى آفاق الأرض والسماء، مصداقا لقوله تعالى:
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ (١٣).
والقرآن الكريم حافل بذكر آيات الله فى خلقه متخذا من التفكير فيها مدخلا رحيبا إلى الإيمان الخالص بالله عن طريق الاستشعار بوحدانيته سبحانه وبقدرته وبديع صنعه. ويتخذ القرآن الكريم أساليب بلاغية متنوعة فى الدعوة إلى النظر فى آيات الله والاحتفال بذكر السموات والأرض، والشمس والقمر ومنازله، والمشارق والمغارب، والبروج والنجوم والكواكب، والليل والنهار والفجر والغسق، والظلمات والضياء والنور، والبحار والأنهار والعيون، والرياح اللواقح، والسحاب الثقال والمركوم والمنبسط، والبرق والرعد والمطر، والجبال الراسيات والجدد البيض والحمر والغرابيب السود، والأرض الهامدة والأرض المهتزة الرابية، والجنات والنخيل والأعناب والتين والزيتون، والطلح والسدر واليقطين، والنمل والنحل والبعوضة والعنكبوت، والطير الصافات، والإبل والخيل والأنعام، واللبن يخرج من بين الفرث والدم، والشراب الشافى يخرج من بطون النحل، وخلق الإنسان من تراب ومن ماء مهين، وتطوره فى ظلمات الرحم خلقا من بعد خلق، وشفتيه ولسانه وسمعه وبصره وفؤاده، وإخراج الحى من الميت والميت من الحى ...
وهذه كلها أمثله قليلة بعيدة عن تمام الحصر مما يوجهه القرآن الكريم لأولى الألباب الذين يعقلون ويتفكرون ويتدبرون.
ومن يتأمل الخطاب القرآنى فى الدعوة إلى النظر فى آيات الله؛ يجد أنه ينزل فى نفوس المؤمنين منزلة الأمر، فالمسألة عندهم إذن مسألة فريضة وتكليف (١٤)، لكن من البديهى أن يتفاوت هذا التكليف بالنظر فى آيات الله من مؤمن إلى مؤمن، ومن قارئ إلى قارئ، إذ أن نظرهم هذا يتفاوت بتفاوت استعدادهم ومقدرة إدراكهم وحصيلة معارفهم، فالسماوات مثلا آيات رائعة معجزة عند الأمىّ وعند عالم الفلك المتخصص على
(١٠) مختصر تفسير ابن كثير، المجلد الأول ص ٤٦٦.
(١١) سورة النمل: ٩٣.
(١٢) سورة فصلت: ٥٣.
(١٣) سورة الشورى: ٢٩.
(١٤) عبد الحافظ حلمى محمد، العلوم البيولوجية فى خدمة تفسير القرآن الكريم، مجلة عالم الفكر المجلد الثانى عشر، العدد الرابع، الكويت ١٩٨٢ م.
 
١ ‏/ ٦٩٥
 
السواء، وإن كان العالم أقدر على الإحاطة بجلال الإعجاز فى خلقها، ومن ثمّ كانت خشيته العميقة لخالقها مصداقا لقوله تعالى:
إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ (١٥).
فمن هنا كان النظر الفطرى البسيط والنظر العلمى المتأمل العميق، وكلاهما مطلوب ومشروع ومفيد.
وهذا سر من أسرار بلاغة القرآن، بيد أن التعمق بالبحث العلمى السليم لا يتوافر إلا للقادرين عليه والمؤهلين له، فهو إذن فرض كفاية عليهم، كما أنهم مكلفون أيضا بتبصرة غيرهم بما انتهى إليه نظرهم، فقد أمرنا أن نتعلم ونعلم، ونهينا عن كتمان العلم.
والناس يتفاوتون فى فهمهم للقرآن بحسب درجاتهم وأحوالهم واستطاعتهم، وهم فى عصرنا أحوج من أى عصر مضى إلى أن يتعلموا من مأدبته ما استطاعوا، وأن يفيدوا من كنوزه وأسراره فى إصلاح دنياهم والفوز بنعيم أخراهم. يقول الراغب الأصفهانى فى كتابه «مقدمة التفسير»: ثم إن القرآن- وإن كان فى الحقيقة هداية للبرية- فإنهم لن يتساووا فى معرفته، وإنما يحظون به بحسب درجاتهم واختلاف أحوالهم، فالبلغاء تعرف من فصاحته، والفقهاء من أحكامه، والمتكلمون من براهينه
العقلية، وأهل الآثار من قصصه ما يجهله غير المتخصص بفنه. وقد علم أن الإنسان بقدر ما يكتسب من قوته فى العلم تتزايد معرفته بغوامض معانيه .. (١٦). وأهل الاختصاص فى فروع العلوم- بطبيعة الحال- ليسوا بدعا بين هؤلاء الذين ذكرهم الأصفهانى، فكل ما يساعد من حقائق العلم على تعميق فهمنا لمعانى القرآن الكريم وتعاليمه وأحكامه، هو ما يجب الأخذ به. وكم فى القرآن الكريم من آية إذا مستها يد العلم أبانت أسرارها وأظهرت إعجازها. ذلك أن القرآن الكريم له أسلوبه الحكيم فى الدلالة على آيات الله فى الكون، والهداية التى جاء أصلا من أجلها تقتضى ألا يخاطب الناس عن الكون بما ينكرون، أو بما يستعصى على أفهامهم، فيقوم ذلك حجابا بينهم وبين قبول دعوته، وحاملا على التكذيب بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ.
كذلك تقتضى الهداية القرآنية ألا يوافق القرآن الناس على باطل معتقداتهم الكونية فى عصر نزول الوحى به، فيقوم ذلك حائلا دون قبول دعوته فى عصور التقدم العلمى والتقنى التى علم منزّل القرآن أنها ستكون.
وتجنب هذين العائقين عن قبول هداية القرآن هو من بدائع إعجاز أسلوبه ومن أكبر الدلائل على أنه حقا من عند الله فاطر الناس وفاطر الكون.
(١٥) سورة فاطر: ٢٨.
(١٦) عن: د. أحمد الشرباصى، قصة التفسير، دار القلم، القاهرة، ١٩٦٢ م. راجع: د. عبد الحافظ حلمى محمد، مرجع سابق.
 
١ ‏/ ٦٩٦
 
وينبغى الترقى فى فهم آيات القرآن والكون إلى درجة الفقه حتى ندرك الحكمة وراء إعجازها، ونبلغ نهاية درجة الإحسان فى قراءة الكتابين: المسطور والمنظور. أما نهاية الإحسان فى قراءة آيات القرآن فتعنى تجاوز حدود الأصوات والألفاظ، واختراق حاجز الزمان والمكان، وصولا إلى الاستمتاع من المتكلم الأزلى ﷻ. فالنفس الشفافة، والإحساس المرهف، لهما أثر جلىّ فى قراءة القرآن، أو الاستماع إليه، وبذلك تتجلى أنوار القرآن على قلب القارئ أو السامع. ولهذا كانت نصيحة العارفين: «اقرأ القرآن كأنه يتنزل عليك».
وأما نهاية الإحسان فى قراءة آيات الكون- كتاب الله المنظور- فتعنى تجاوز حدود البحث العلمى الآلى، بعناصره ووسائله وأدواته. واختراقه عالم النظريات والقوانين العلمية بصياغاتها اللفظية، وصولا إلى إدراك أنه كل علم من العلوم الباحثة فى ظواهر الكون والحياة، هو فى حقيقته علم يبحث بلغته الخاصة عن الله خالق الكون والحياة، ويستند فى غاية منتهاه إلى اسم من أسماء الله الحسنى .. فعلوم الطب والصيدلة تصل إلى كمالها بمشاهدة التجليات الرحيمة لاسم «الشافى» فى كل حبة دواء. وعلوم الفيزياء والفلك والكيمياء والنبات والحيوان تبحث فى حقيقة الموجودات باستنادها إلى ما يناسبها من أسماء العليم الحكيم القادر المقدر الذى أوجد هذا العالم على أعلى درجة من الترتيب والنظام والكمال والجمال. وبهذا تكون العلوم فى حقيقتها غير مقصودة لذاتها، وإنما هى ضرورات حيوية وحاجات معرفية وعقلية تحيط الهداية الإيمانية بأبعاد جديدة، وترى فى كل مشهد كونى آية ناطقة بقدرة الخالق ووحدانيته، ومظهرا معبرا من مظاهر تجليات أفعال الله تعالى وأسمائه الحسنى.
ولا شك أن البحث فى الإعجاز العلمى لآيات القرآن الكريم على هدى وبصيرة يؤتى ثماره الحقيقية ببلوغ نهاية الإحسان على سلم الترقى فى فهم آيات الله المنبثة فى القرآن الكريم، وفى جنبات الكون الفسيح، وفى أسرار النفس البشرية وباقى الموجودات.
كما أن ارتقاء العلوم الحديثة ونجاحاتها فى استكشاف حقائق جديدة عن الكون من العوامل التى ساعدت على الاجتهاد فى تسخير العلم الكونى لتجلية معان جديدة لآيات القرآن الكريم، شريطة أن يكون الاجتهاد فى ذلك المجال وفق منهاج رصين محدد ينبغى الالتزام به فى ضوء ما هو معروف عن معنى الحقيقة العلمية وحدودها.
 
١ ‏/ ٦٩٧
 
* ضوابط (منهج) البحث فى الإعجاز العلمى للقرآن الكريم:
إذا كانت قضية الربط بين القرآن والعلم تتعرض لنقد لاذع بسبب إفراط بعض المتحمسين، أو تفريط البعض الآخر من الرافضين والمعارضين، وأمام الحاجة الماسة إلى هذا النوع من الدراسات القرآنية لتنشيط حركة الدعوة الإسلامية المعاصرة، فإنه أصبح ضروريا أن يكون للبحث فى مجال الإعجاز العلمى للقرآن منهاج، وأن يوضع للمجتهد ضوابط وشروط، وأن ينبّه إلى مزالق الخطأ وموارد الزلل وكبوات الاجتهاد.
ويمكن إيجاز الإطار العام الذى توصل إليه الباحثون لترشيد البحث فى مجال الإعجاز العلمى للقرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة فيما يلى:
١ - علم الله هو العلم الشامل المحيط الذى لا يعتريه خطأ ولا يشوبه نقص، وعلم الإنسان محدود، يقبل الازدياد، ومعرّض للخطأ. ولقد نزلت نصوص الوحى بألفاظ جامعة تحيط بكل المعانى الصحيحة فى مواضيعها التى قد تتتابع فى ظهورها جيلا بعد جيل. وإذا جمعت نصوص الكتاب، والسنة الصحيحة، وجدت بعضها يكمل بعضها الآخر، فتنجلى بها الحقيقة، مع أن هذه النصوص قد نزلت مفرقة فى الزمن، وفى مواضيعها من القرآن الكريم، وهذا لا يكون إلا من عند الله الواحد الذى يعلم السر فى السموات والأرض، ومن ثم فإنه لا يوجد تعارض بين نصوص الوحى القاطعة التى تصف الكون وأسراره، على كثرتها، وبين الحقائق العلمية المكتشفة، على وفرتها.
٢ - الحقيقة العلمية التى يعرف رجال العلم معناها وحدودها لا تبطل مع الزمن، ولكنها قد تزداد مع جهود العلماء المتتابعة تفصيلا ووضوحا وجلاء. كل ما فى الأمر أن القوانين العلمية تعبر عادة عن حقائق علمية محدودة، وليس من الصواب أبدا أنه تعتبر هذه الحقائق الجزئية دليلا على قصور العلم أو منقصة فيه، فطبيعة المعرفة العلمية تتميز بالنمو المطرد فى اكتشاف القوانين التى تلقى الضوء شيئا فشيئا على حقائق الواقع الثابت فى الكون بعد أن أشارت إليها آيات من القرآن العظيم.
٣ - يجب التّقيد بما تدل عليه اللغة العربية، فلا بد من:
(أ) أن تراعى معانى المفردات كما كانت فى اللغة إبّان نزول الوحى، ويراعى كذلك فقه استعمالها.
(ب) أن تراعى القواعد النحوية ودلالاتها.
 
١ ‏/ ٦٩٨
 
(ج) أن تراعى القواعد البلاغية ودلالاتها، خصوصا قاعدة «ألا يخرج اللفظ من الحقيقة إلى المجاز إلا بقرينة كافية».
٤ - يجب البعد عن التأويل فى بيان الإعجاز العلمى للقرآن والسنة، ولا ينبغى الإسراف فى ذلك.
٥ - يجب ألا تجعل حقائق القرآن موضع نظر، بل تكون هى الأصل، فما وافقها قبل، وما عارضها رفض، ذلك أن المرجعية يجب أن تكون للحقائق القرآنية، وليس للعلم التجريبى، فالحقائق العلمية تحتكم إلى القرآن ولا تزكيه، فإن وافقته فبها ونعمت، وإن تعارضت معه رفضت، لأن النص القرآنى وحى من الذى أحاط بكل شىء علما.
٦ - يجب على المجتهدين من العلماء أن يكونوا ملمين من علوم القرآن بالقدر الكافى وأن يكون لديهم استعداد شخصى يعززه رجوعهم إلى أمهات كتب التفسير رجوع المتعلم التأنى، لا اطلاع القارئ العجول، فإذا تعذر عليهم هذا كان عليهم أن يسألوا أهل الذكر والاختصاص، فهذا أقل مقتضيات التحرى وعدم التورط فى الكلام فى كتاب الله بغير علم.
٧ - كذلك يجب على المجتهدين من الباحثين فى الإعجاز العلمى للقرآن الكريم والسنة المطهرة (البيان النبوى) أن يكونوا على معرفة تامة بالظاهرة العلمية قيد البحث وتاريخ المصطلحات الفنية المتعلقة بها.
إن هذه الضوابط والشروط المنهجية ضرورية لترشيد البحث فى الإعجاز العلمى للقرآن والسنة، وينبغى توافرها فى كل من يتعرض للاجتهاد بما يناسب جلال القرآن وقدسيته، وكتاب الله العزيز كله معجز، ويستطيع العلماء أن يتلمسوا دلائل إعجازه فى شتى المجالات، فإذا ما كنا بصدد «إعجازه العلمى» تحتم علينا أن نتوخى الدقة التامة، فلا نفتعل مناسبة، أن نتشبث بلفظة ونحملها فوق ما تحتمل، أو نجهل أو نتجاهل حقائق التاريخ، وينبغى أن يكون لنا فى الأئمة السابقين أسوة حسنة حين نرى دقة مناهجهم العلمية عند ما تناولوا القرآن الكريم من نواحيه اللغوية والبلاغية والتشريعية وغيرها.
وإذا علمنا أهمية هذه الأبحاث فى تعميق اليقين الإيمانى عند المؤمنين، ودفع الفتن التى ألبسها الكفار ثوب العلم، عن بلاد المسلمين، وفى دحض محاولات التستر بالعلم لإثارة الشبهات حول الإسلام والمسلمين، وفى دعوة غير المسلمين وتوصيل الحقائق الإسلامية إليهم على اختلاف أجناسهم وأوطانهم، وفى حفز المسلمين للأخذ بأسباب النهضة العلمية، وفى تعميق فهم ما خوطبنا به فى
 
١ ‏/ ٦٩٩
 
القرآن والسنة، تبين من ذلك كله أن القيام بهذه الأبحاث من أهم فروض الكفايات، خاصة أن أهل عصرنا ممن يريدون الحق من سائر الأجناس لا يذعنون بشيء مثل إذعانهم للعلم ومنهجه وبيناته ودلائله.

* من أوجه الإعجاز العلمى للقرآن الكريم:
 
١ - فى آيات السماء:
يقول الله تعالى فى كتابه الكريم: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (١٧).
تشير هذه الآية القرآنية الكريمة إلى بعض الظواهر الكونية التى أخبر بها الله- ﷾ لتدل على كمال قدرته وبالغ حكمته، ومنها أنه خلق السموات مرتفعات بغير عمد، أى دعائم، يمكن رؤيتها بالبصر، وقد جاء فى تفسير ذلك عن ابن عباس ومجاهد والحسن أنهم قالوا: لها عمد ولكن لا ترى. ولو قيل (بغير عمد) فحسب لكان ذلك نفيا مطلقا للعمد، مرئية وغير مرئية. والنفى المطلق يخالف الواقع الذى أودع الله تعالى فيه سننه ونواميسه وآياته التى وعد- سبحانه- بإظهارها مستقبلا على أيدى من يشاء من عباده، وبهذا يكون المعنى العام أن الله- ﷾ خلق السموات ورفعها وربط بين أجزائها وحفظ اتزانها فى مواقعها التى قدّرها لها من غير دعائم مرئية، لأن هذه الدعائم من شأنها وطبيعتها التى أوجدها الله عليها أنها لا ترى أصلا.
ويمكن تصور هذه الدعائم غير المرئية- من منظور العلم الحديث- بأنها من نوع القوى المجالية التى تعمل وفق قانون محدد من أجل حفظ الاتزان الكونى والإمساك بالأجرام السماوية فى أفلاكها ومنعها من الانفراط فى الفضاء أو الوقوع على بعضها البعض. ذلك أن الأجرام السماوية تتحرك تحت تأثير قوى جاذبة للربط بينها، وقوى رافعة لحفظها من السقوط.
وحيث إن قوى التجاذب الرابطة من شأنها أن تقرب وتجمع بين الأجرام، فى حين تعمل طاقة حركتها (المكتسبة من القوى الرافعة) على انطلاقها بعيدا عن أعماق الفضاء طبقا لخصائص تأثير القوى فى الأجسام، فإن تقرير حفظ هذه الأجرام من السقوط على بعضها البعض واستمرار دورانها فى أفلاك ثابتة يستلزم بالضرورة العقلية أن يكون تأثير قوى التجاذب مساويا ومضادا (أى معادلا) لتأثير طاقة الحركة، وتصير الأجرام بذلك
(١٧) سورة الرعد: ٢.
 
١ ‏/ ٧٠٠
 
على أبعاد ثابتة فى مجموعاتها التى تنتمى إليها، أى أن الله- ﷾ قد عادل وساوى بين تأثير قوى التجاذب الرابطة للأجرام السماوية وتأثير حركاتها المكتسبة من قوى الخلق والرفع، فحفظها ذلك من السقوط بتأثير القوى الرافعة، كما حفظها من التفرق بتأثير القوى الرابطة، وهكذا انتظمت مكونات الكون الهائل فى نظام بديع يحكم حركتها، ويمنع تصادمها رغم كثرتها، ويحفظ اتزانها واستقرارها فى أفلاكها إلى ما شاء الله. قال تعالى: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (١٨).
ويؤكد القرآن الكريم فى آيات أخرى هذه الحقيقة الكونية وارتباط الاتزان الكونى بإرادته ومشيئته المطلقة، فيقول تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيمًا غَفُورًا (١٩) ويقول جل وعلا:
وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠).
ولم يتوصل العلم إلى إظهار هذه الحقيقة الكونية عن اتزان الأجرام السماوية إلا بعد نزول القرآن الكريم بأكثر من ألف عام، وذلك عند ما اكتشف العالم الإنجليزى «إسحاق نيوتن» فى عام ١٦٦٧ م قانون الجذب الكونى بين جميع الكتل المادية لتفسير حركة الكواكب حول الشمس، وحركة الأقمار حول الكواكب، ثم أثبتت التجارب العملية صحة هذا القانون فى عالم القياسات العادية. وقام على أساسه الكثير من الكشوف والاختراعات التى أفادت منها البشرية فى مختلف المجالات، وخاصة فى مجال تطوير أبحاث الفضاء وإطلاق الأقمار الصناعية التى تدور حول الأرض فى مدارات مختلفة بحسب الأغراض التى صنعت من أجلها.
ويخبرنا الحق- ﷿ بأن نهاية العالم عند ما تحين الساعة ستكون بإيقاف هذه السنن والنواميس والقوانين التى اهتدى الإنسان إلى معرفة بعضها. من ذلك مثلا: أن تعطيل قوانين الحركة والجاذبية بأمر من الله من شأنه أن يحدث انشقاقا واختلالا فى توازن النظام الكونى يتبعه اضطراب فى حركة الأجرام السماوية بعد انقطاع خيط الجاذبية الكونية الذى كان يربط بينها.
ولا يمكن للعلم البشرى أن يحيط بحقائق هذا اليوم العصيب، ولا يملك أن يزيد شيئا إلا من خلال ما توحى به النصوص القرآنية فى ضوء ما يتوصل إليه العلماء من حقائق.
علمية، فمن المقبول عقلا أن يؤدى انفراط عقد الأجرام السماوية إلى تناثرها وتصادمها
(١٨) سورة يس: ٤٠.
(١٩) سورة فاطر: ٤١.
(٢٠) سورة الحج: ٦٥.
 
١ ‏/ ٧٠١
 
مصداقا لقوله تعالى: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢١). كذلك من المقبول عقلا أن يؤدى الاضطراب فى نظام الكون إلى حدوث زلزال شديد وارتجاج هائل تنهار معه كل الجبال وتتبدد صلابتها، كما تدك معه الأرض وتخرج ما فى باطنها من أثقال، مصداقا لقوله تعالى: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٢٢).
وقوله تعالى: وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (٢٣). وقوله سبحانه:
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥). (٢٤).
ويؤكد القرآن الكريم فى مواضع كثيرة على أن هذا الكون بمجراته ونجومه وكواكبه وأقماره، زمامه فى يد خالقه، ونواميس الحركة والحياة فيه من تدبير هذا الخالق الواحد الذى يقول للشيء كن فيكون. كذلك يؤكد كتاب الإسلام أن القيامة سوف تحدث بغتة بإذن الله، وأن حضارة الإنسان على الأرض سوف تذهب بها رجفة من رجفات الاضطراب الكونى يوم الدمار الأكبر لكل شىء إلا ما شاء الله. قال تعالى: حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهارًا فَجَعَلْناها حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٥).
ومن العجب ألا يؤمن الكفار بالآخرة، ويعتقدون فقط فى الحياة الدنيا دون بعث، إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٦)، وكأن الحياة فى نظرهم مجرد أرحام تدفع وأرض تبلع ولا خلود ولا جزاء. لكن هذا الاعتقاد يتنافى مع حقيقة العالم الآخر الراسخة فى الضمير البشرى لأنها ترضى الجانب النفسى والأخلاقى للإنسان، ومن هنا فإن دعوة الإسلام إلى الإيمان بحقيقة الآخرة تحقق الاتزان النفسى للإنسان، فى مقابل إيمانه بحتمية الموت فى الدنيا. قال تعالى: الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٢٧).


٢ - فى آيات الأرض:
وردت كلمة «الأرض فى القرآن الكريم فى مواضع عديدة لتدل على الكوكب الأرضى بمجمله، كما فى قوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٨)، أو تدل على ذلك الغلاف
(٢١) سورة الانفطار: ١، ٢.
(٢٢) سورة الواقعة: ٤ - ٦.
(٢٣) سورة الحاقة: ١٤.
(٢٤) سورة الزلزلة: ١ - ٥.
(٢٥) سورة يونس: ٢٤.
(٢٦) سورة المؤمنون: ٣٧.
(٢٧) سورة البقرة: ١ - ٤.
(٢٨) سورة الذاريات: ٢٠.
 
١ ‏/ ٧٠٢
 
الصخرى من القشرة الأرضية التى نعيش عليها، كما فى قوله تعالى: وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٢٩)، أو تدل على خاصية مميزة فى الأرض تستحق التأمل والتفكر لأهميتها فى حياة الإنسان، وباعتبارها من دلائل القدرة الإلهية على الخلق والإبداع، كما فى قوله تعالى:
وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (٣٠).
و«الصدع  Fault «فى اللغة العربية يعنى الشق، وكمصطلح علمى يطلق على أى كسر فى الأرض تتحرك على مستواه من الجانبين كتل الصخور، وهو ينشأ من تصدّع (أى تكسّر أو تشقق) الصخور بقوة الضغط أو الشد.
ويرى العلماء المفسرون أن آية وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ توضح صفة هامة لقشرة الأرض وطبيعتها التى يتوقف عليها كثير من التغيرات التى تطرأ على سطحها، وهى قابليتها للتشقق والتصدع. ويقسم الحق ﵎ بهذه الصفة للأرض لبيان أهميتها والحث على معرفة حكمتها.
فهم الأولون من هذا الوصف القرآنى للأرض بأنها ذاتِ الصَّدْعِ معنى انصداعها (أى انشقاقها) بعد ارتوائها بالمطر ليخرج منها مختلف صور النبات وما تحمله تلك النباتات من خيرات وثمار لولاها لم تستقم الحياة على الأرض. كما أن الأرض أيضا ذات الصدوع التى ساعدت على وجود منافذ فى القشرة الأرضية لخروج المياه الجوفية والغاز الطبيعى والبترول إلى سطحها. كذلك تعتبر الشقوق (أو الصدوع الأخرى) فى وجه الأرض الرقيق وسيلة من وسائل تهوية التربة وتجديد خصوبتها.
ويلقى علم الجيولوجيا الحديث بعض الضوء على أسرار القسم الإلهى بالأرض ذات الصدع، فيكتشف العلماء فى أواخر الستينات من القرن العشرين أن الغلاف الصخرى للقشرة الأرضية ممزق بشبكة من الصدوع الطولية والعرضية الممتدة لمئات الآلاف من الكيلومترات، مقسمة على ١٢ (اثنى عشر) لوحا كبيرا وعدد من الألواح أو الصفائح  Plates  الصغيرة، وأن تلك الصدوع تنتشر أكثر ما تنتشر فى قيعان البحار والمحيطات، وأنها توجد أيضا فى القارات بنسبة أقل، ويزيد عمقها عن ١٠٠ كيلومتر (وهو متوسط سمك الغلاف الصخرى للأرض).
وقد ثبت بالملاحظة المباشرة وغير المباشرة أن تلك الكتل الصخرية الضخمة، التى تعرف باسم «ألواح الغلاف الصخرى»، تطفو فوق نطاق من الصخور شبه المنصهرة يسمى «نطاق الوهن (الضعف) الأرضى»، وتتميز مادته بكثافة أعلى من كثافة الألواح
(٢٩) سورة الذاريات: ٤٨.
(٣٠) سورة الطارق: ١٢.
 
١ ‏/ ٧٠٣
 
الطافية فوقها، وبحالة واضحة من المرونة واللدونة تجعل الألواح تنزلق فوقها بسهولة ويسر نتيجة لدوران الأرض حول محورها أمام الشمس. ويصبح سطح الأرض فى هذه الحالة بالنسبة للإنسان أشبه بالفراش المريح أو المهاد الممتد اللذين هيأهما الله تعالى لتسهيل الحياة، وامتنّ بهما على عباده فى قوله تعالى: وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٣١).
كذلك أثبتت أبحاث العلماء أن مراكز كل من الهزات الزلزالية والفورانات البركانية تحتشد حول الصدوع الفاصلة بين ألواح الغلاف الصخرى للأرض، حيث يحدث اللقاء بين هذه الألواح (الصفائح) على امتداد حوافها أو أطرافها، أو يحدث التباعد عن بعضها البعض، أو يحدث أن يتحرك أحد الألواح بمحاذاة الآخر جنبا إلى جنب بدون تقابل أو تباعد. وفى ضوء هذه الحركات يمكن الربط بين السلوك الداخلى للأرض وبين كل العمليات الأساسية التى تشاهد على سطحها وتغيّره منه بصورة مستمرة. مثال ذلك ما أثبته العلماء عند خطوط التباعد بين ألواح القشرة الأرضية، حيث تتسع قيعان البحار والمحيطات، وتندفع الصهارة الأرضية من نطاق الوهن (الضعف) الأرضى لتملأ الحيز الناشئ عن تباعد تلك الألواح، مكونة شريحة من صخور بازلتية جديدة تضاف لقاع المحيط الذى يواصل عملية الاتساع، ثم تنشق هذه الشريحة البازلتية فى منتصفها من جديد بفعل عملية التصدع المستمرة فى قشرة الأرض، ويندفع نصفاها متباعدين عن بعضهما البعض ليمتلئ الحيز الناشئ بينهما بصهارة بازلتية جديدة، تيبس لتتصدع فى وسطها من جديد، وتتكرر العملية بمعدلات بطيئة ولكنها تؤدى فى النهاية إلى استمرار اتساع قيعان البحار والمحيطات لأقصى مدى ممكن، ثم تتوقف عملية الاتساع وتعود البحار والمحيطات إلى الانغلاق بعملية معاكسة حتى تتلاشى تماما من فوق سطح الكرة الأرضية، كذلك تعمل صدوع الأرض على إثراء الغلاف الصخرى بمختلف العناصر والمركبات على هيئة العديد من المعادن والركازات التى تندفع من الحمم البركانية الصاعدة إلى سطح الأرض عبر تلك الصدوع التى لولاها ما استقامت حياة الأحياء.
فتبارك الحكيم العليم الذى خلق الأرض ذات الصدع، وجعل من صدوعها مقوما أساسيا من مقومات الحياة واستمرارها على سطحها.


٣ - فى آيات الجبال:
من أوجه الإعجاز العلمى للقرآن الكريم فى آيات الجبال ما يتعلق بنشأتها وتكوينها
(٣١) سورة الذاريات: ٤٨.
 
١ ‏/ ٧٠٤
 
وسبب اختلاف ألوانها الذى يعود إلى اختلاف المواد التى تكوّن صخورها. فالجبال البيضاء تتكون أساسا من الطباشير والحجر الجيرى، والجبال السوداء يكثر فيها المنجنيز والفحم، والجبال الحمراء غنية بالحديد، وغير ذلك من الجبال النارية تتكون من الجرانيت والبازلت، وتحتوى على عروق الحديد والنحاس والذهب ومعادن أخرى تؤدى إلى تعدد ألوان الجبال وأنواعها. ومن دلائل القدرة الإلهية هنا أن التباين فى أحوال الجبال وألوانها وأنواعها، رغم أنها ترجع أصلا إلى أرض واحدة كانت تكوّن مع الشمس والسموات رتقا واحدا، يشير إلى الله الواحد القهار الذى أوجد هذا التباين أيضا فى الناس والدواب والثمار، وحث العلماء على اكتشاف الحكمة من ورائه، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٣٢).
من ناحية أخرى، ورد تشبيه الجبال بالأوتاد فى قوله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهادًا (٦) وَالْجِبالَ أَوْتادًا (٣٣)، وفى هذا إعجاز علمى رائع، فالجبال فيما يتبادر إلى الذهن تشبه الأوتاد من ناحية البروز عن سطح الأرض ومن ناحية الرسوخ فيها. ولقد كشف العلم حديثا أن للجبال جذورا تمتد إلى الأغوار العميقة إلى عمق يصل إلى حوالى ٧٥ كيلومترا. وغرس الجبال على هذا النحو فى الطبقة اللزجة التى تحت طبقة الصخور هو الذى يساعد على تثبيت القارات ويمنعها أن تطوف أثناء دوران الأرض، فهذه الأوتاد المغروسة فى الطبقة اللزجة التى تحت القارات تعمل على تثبيت القارات كما يثبّت الوتد الخيمة إذا غرس فى تراب الأرض.
كذلك يعمل بروز الجبال على استقرار سطح الأرض، حيث تبرز قشرة الأرض فى موضع ما فتصبح جبالا نتيجة ضغوط أثرت على أطراف طبقات أفقية من الصخور، ثم تستقر القشرة الأرضية على هذا الوضع.
وثمّة نقطة علمية أخرى هى أن أول ما برد من الأرض أثناء تكوينها هى قشرتها الخارجية فتجمدت وظل باطنها ساخنا على هيئة سائل وغاز، وأثناء برودة القشرة تغضنت، فما ارتفع من أجزائها كوّن الجبال والهضاب، وما انخفض كوّن السهول والوديان وقيعان المحيطات. فلولا بروز الجبال لتشققت القشرة وظهرت بها فجوات وفتحات كثيرة، ولثارت البراكين واضطربت الأرض
(٣٢) سورة فاطر: ٢٧ - ٢٨.
(٣٣) سورة النبأ: ٦، ٧.
 
١ ‏/ ٧٠٥
 
اضطرابا عظيما وزلزلت زلزالا شديدا، فكأن الجبال حافظة لما تحتها مانعة له من الاضطرابات والزلازل والثوران، وفى هذا المعنى يقول الله تعالى: وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣٤).
ولقد فطن بعض العلماء المفسرين إلى الإيحاءات العلمية لكلمة «رواسى» التى أخبر بها القرآن الكريم فى مواضع كثيرة باعتبارها وصفا للجبال، وعلاقتها باتزان الأرض أثناء حركتها. فالواقع العلمى يشهد بأن الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس، ومن المعروف أن أيّ جسم يدور فى حركة مغزلية حول محوره لا يميد ولا يضطرب إلا إذا كان هناك تماثل فى الكتلة حول محور الدوران، وحيث أن الأرض لا تميد بنا أثناء دورانها، بدليل عدم شعورنا بهذا الدوران، فإنه لا بدّ أن تكون الجبال الرواسى من أهم عوامل اتزان الأرض وتماثل كتلتها على جانبى محور الدوران.
ولنتأمل كذلك ما تدل عليه كلمة «رواسى» من مقارنة تقتضى أن يكون جوف الأرض سائلا، وأن تستقر الجبال عليه مثلما تستقر السفينة الراسية على ماء البحر. وسيولة جوف الأرض حقيقة علمية تظهر فى ما نشاهده فى بعض البراكين عند ثورانها من قذفها بالحمم والصخر المنصهر. كما أن هناك حقيقة علمية أخرى تقابل المعروف من أن متوسط كثافة السفينة (أى وزنها مقسوما على حجمها) هو أقل من كثافة ماء البحر أو النهر، وإلا لما طفت عليه ولغرقت فيه. وأثبت علماء الجيولوجيا أن الجبال لها جذور منغمسة فى منصهر سائل مادته أكثف من مادتها، فبطن الأرض السائل أكثف حتى من مادتها، فبطن الأرض السائل أكثف حتى من جبالها، حيث يبلغ متوسط كثافة مادة الجبال نحو ٦، ٢ جم/ سم ٣، بينما يبلغ متوسط كثافة مادة الأرض نحو ٥، ٥ جم/ سم ٣.
فما أعظم التوافق بين حقائق العلم والقرآن، وما أروع أن نهتدى بهما معا لتعميق إيماننا بالله- ﷾ على هدى وبصيرة.


٤ - فى آيات البحار:
قال تعالى: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٣٥).
يمدنا العلم الحديث ببعض الحقائق التى تلقى مزيدا من الضوء على معانى هذه الآية الكريمة من سورة النور، فيخبرنا علماء
(٣٤) سورة الأنبياء: ٣١.
(٣٥) سورة النور: ٤٠.
 
١ ‏/ ٧٠٦
 
البحار بأن درجة الحرارة فى الأعماق التى تزيد على الألف متر تتراوح بين ١ - ٢ درجة مئوية، أى أعلى بدرجة أو درجتين فقط من درجة الصفر المئوى التى يتجمد عندها الماء العذب. ويلاحظ أن ماء البحر- على خلاف الماء العذب- لا يتجمد عند درجة الصفر المئوى، بل عند درجة أدنى بكثير من ذلك، لأن الأملاح الذائبة فى الماء تزيد من كثافته وتمنعه من التجمد عند درجة الصفر. وتتميز البيئة البحرية على هذه الأعماق البعيدة بأنها لا تعرف تقلبات الفصول من صيف وخريف وشتاء وربيع، مثلما هى لا تعرف ضوء النهار ولا تصلها أشعة الشمس، فضلا عن أنها بيئة باردة فى برودة الثلج، لا تتأثر بموقعها من خطوط العرض المختلفة بين القطبين وخط الاستواء، ومن ثمّ فهى بيئة متجانسة الخصائص إلى حد كبير.
وفى أوائل القرن العشرين تمكن العلماء من اكتشاف نوع من الأمواج الداخلية العملاقة، غير الأمواج السطحية التى نراها واضحة أمامنا على الشاطئ وتؤثر مباشرة على هدوء السطح أو اضطرابه. وقد دعمت أبحاث الأقمار الصناعية هذا الاكتشاف باستخدام تقنية «الاستشعار عن بعد» سنة ١٩٧٣ م. وأمكن بالفعل تصوير أمواج البحر الداخلية والتأكد من وجودها عمليا عند السطح البينى الذى يفصل بين الطبقة الكثيفة السفلى فى البحر والطبقة العليا الأقل كثافة، ويعزى اختلاف كثافة كل من الطبقتين إلى اختلافهما فى درجة الحرارة ودرجة الملوحة.
وهناك عدة عوامل تسبب اندفاع الماء فى أمواج داخلية بالبحر أهمها:
تغير الضغط الجوى، وحركة المد والجزر، واختلاف شدة الرياح من مكان لآخر. ومن الجدير بالذكر أن هذا النوع من الأمواج الداخلية يسود فى البحار والمحيطات العميقة، مثل المحيط الهادى الذى يعتبر أكثر محيطات العالم عمقا، وفيه أخدود «المارياناز» الذى يبلغ عمقه نحو أحد عشر كيلومترا. وهنا نتأمل دقة التعبير القرآنى الذى تحدث عن وجود هذه الظاهرة فى «بحر لجى» أى عميق كثير الماء كالمحيط الهادى وليس أى بحر.
من ناحية أخرى، نعرف أن مناطق البحار والمحيطات العميقة يخيم عليها دائما سحب كثيفة معتمة بسبب عمليات التبخير المستمر، ومن يتتبع مسار الأشعة الضوئية القادمة من الشمس فى هذه المناطق يجد أن جزءا كبيرا منها يتم انعكاسه أو امتصاصه بواسطة السحاب، ثم ينعكس جزء آخر بواسطة
 
١ ‏/ ٧٠٧
 
موجات البحر السطحية التى تعمل بسبب ميلها كأنها مرايا عاكسة، ويتم امتصاص الجزء الباقى من الأشعة الضوئية بواسطة طبقات مياه البحر الداخلية على أبعاد معينة تحت السطح، حيث يبدأ امتصاص ألوان الطيف المرئى تباعا حسب أطوالها الموجية، فتمتص الأشعة الحمراء ذات الموجات الطويلة قريبا من سطح البحر لعدم قدرتها على اختراق الماء إلى أعماق كبيرة، وفى أغلب الأحيان يتم امتصاص الأشعة الحمراء فى العشرين مترا الأولى تحت سطح البحر، ويحدث عندئذ ما يمكن أن نسميه «إظلام اللون الأحمر»، ونعنى به انعدام رؤية الأجسام الحمراء. فلو كان هناك غواص يسبح على عمق حوالى ٢٠ مترا فإنه لا يرى الدم الذى ينزف من جرح فى يده مثلا.
ويتوالى بعد ذلك امتصاص باقى ألوان الطيف المرئى: البرتقالى، الأصفر، الأخضر، الأزرق، النيلى، البنفسجى، وتتكون ظلمات الألوان بعضها فوق بعض، ويتلاشى أثر الضوء بعد ذلك، بحيث يخيم الظلام الدامس فى المناطق اللجية (أى العميقة) من البحر أو المحيط، ولا يستطيب العيش هناك إلا لكائنات حية عمياء لا حاجة لها إلى عيون
الإبصار، مثل حيوان الإسفنج وبعض أنواع الأسماك.
ولقد أمكن التأكد عمليا من هذه الحقائق العلمية عام ١٩٣٤ م بعد أن تمكن عالمان أمريكيان من تصميم كرة معدنية تتحمل ضغوطا عالية، بها نافذة من البلور السميك محكمة القفل، ليهبط بها إلى قاع البحر على أغوار بعيدة، وليدرسا طبيعة الأحياء الموجودة هناك بالقرب من جزيرة برمودا فى المحيط الأطلسى، حيث لاحظا اختفاء الضوء الأحمر عند عمق نحو ١٨ مترا، والأصفر على عمق ١٠٠ متر، وتلاشى الجزء الأخضر والأزرق من الطيف عند عمق ٢٤٠ مترا، ثم غاصا فى ظلام دامس بين عمق ٥٢٠ إلى ٥٨٠ مترا.
إن هذه الحقائق العلمية القطعية تؤكد أن معجزة القرآن الخالدة تتجدد مع تقدم العلم، فمن الثابت أن رسول الله ﷺ لم يغادر الجزيرة العربية ولم يسافر قط عبر تلك المحيطات العميقة حيث يذكر مثل هذا الوصف العلمى الدقيق لظلمات بعضها فوق بعض، أو يرى ما تم اكتشافه حديثا من أمواج داخلية عملاقة، من فوقها أمواج سطحية من فوقها سحاب.


٥ - فى عالم النبات:
قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ
 
١ ‏/ ٧٠٨
 
طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٦).
تنبه هذه الآية الكريمة إلى دلائل القدرة الإلهية فى عالم النبات الذى يزخر بالكثير من الآيات الناطقة بعظمة الخالق وجلاله. ذلك أن النباتات جميعها تتغذى وتنمو فى وجود الماء والضوء والكربون والأكسجين والهيدروجين والنيتروجين والفوسفور والكبريت والبوتاسيوم والكالسيوم والمغنسيوم والحديد .. ومع أن الغذاء بهذه المواد والعناصر واحد إلا أن الأرض ينبت فيها التفاح الحلو والحنظل المر والقطن الناعم والصبار الشائك والقمح والشعير والبرتقال والليمون والنخيل والعنب والزيتون والرمان ..
تربة أرضية واحدة وعناصر غذائية واحدة وماء واحد وبذور متناهية فى الصغر تنبت آلاف الأنواع من النبات والثمار .. وتتعدد الأشكال والألوان والروائح والطعوم.
وقد ربطت الآية الكريمة بين الماء والإنبات، والماء شرط ضرورى وأساسى لعملية الإنبات، وقد تظل البذرة أو الحبة فى التربة سنوات عدة، لا تنبت ولا تتحرك إلى أن ينزل عليها الماء، فتبدأ عملية الإنبات العجيبة التى قد يجريها طفل عند ما يضع البذور فوق قطعة مبللة بالماء، وهو لا يدرى أنه يهيئ الظروف لعملية إنبات بالغة التعقيد.
إن من ينظر إلى شجرة التوت الضخمة، أو شجرة الكافور العملاقة، أو شجرة الجميز المعمرة، يجد أن بذورها الصغيرة التى لا تتجاوز الواحدة منها حجم رأس الدبوس غنية بالعمليات والمعلومات التى يعجز عن حملها أدق الحاسبات العملاقة، فقد أودع الله فى هذه البذور الدقيقة شروط إنباتها، ومواقيت خروج جذيرها ومراحل انقسامه واتجاه نموه، بالإضافة إلى نوع الغذاء المطلوب تركيبه ومتطلباته ويكمن فيها شكل الأوراق وألوانها وحجم الشجرة وتشريحها الداخلى ووظيفة كل عضو فيها، ومتى تزهر وتثمر .. وغير ذلك من بلايين البلايين من العمليات.
وأعجب ما توصل إليه العلم الحديث فى هذا المجال ملاحظة امتداد الجذر على استقامة الساق عند ما وضعت عدة أصناف من أنواع الحبوب والبذور المختلفة فى سفن الفضاء لدراستها فى منطقة انعدام الوزن، حيث لا أرض تجذب الجذر ولا شمس يتجه نحوها الساق.
وإذا توقفنا قليلا عند بعض ما جاء فى القرآن الكريم عن أشجار النخيل وثمارها- على سبيل المثال- نجد أن العلم قد كشف
(٣٦) سورة الأنعام: ٩٩.
 
١ ‏/ ٧٠٩
 
عن الكثير من الفوائد والحقائق التى أشار إليها الخطاب القرآنى بألطف العبارات، ومنها قوله تعالى: فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا (٣٧).
وفى هذه الآيات الكريمة إشارة واضحة إلى أهمية بلح الرطب فى عملية الولادة. ذلك أن احتواء التمر على نسبة عالية من المواد السكرية يعطى طاقة عالية للمرأة الحامل والمرضع، ويعوض ما أصابها من ضعف أثناء الوضع ويعيد لها نشاطها، كما أن التمر يعوض نقص المعادن والفيتامينات، علاوة على ما ثبت طبيا من فائدته فى إدرار لبن المرضع.
ومعظم السكريات التى فى التمر من نوع سكر الفاكهة (فركتوز) وسكر العنب (جلوكوز)، وهى سكريات بسيطة سهلة الهضم والامتصاص والاحتراق لإمداد الجسم بالطاقة إثر تناولها بفترة قصيرة، فإن أخذتها المرأة أثناء المخاض كان ذلك من أحسن الأغذية لها، حيث إن عضلة الرحم من أضخم عضلات الجسم وتقوم بمجهود شاق أثناء الولادة التى تستهلك كمية كبيرة من الطاقة وتتطلب تعويضها بكميات جيدة ونوعية خاصة من السكريات سهلة الهضم سريعة الامتصاص والتمثل، كتلك التى فى الرطب.
كما أن الرطب من المواد الملينة المنظفة للأمعاء، وذلك مما يساعد على الولادة لأن الأمعاء الغليظة والمستقيم الممتلئ بالنفايات، يعيق حركة الرحم وانقباضه. ومن المعروف طبيا أن الملينات النباتية تفيد فى تسهيل وتأمين عملية الولادة بتنظيفها للأمعاء الغليظة على وجه الخصوص، ولذا يحرص أطباء النساء والولادة على إعطاء الحامل عند بداية المخاض حقنة شرجية لتنظيف المستقيم والأمعاء الغليظة.
وتحتاج الحامل فى حالة المخاض أيضا إلى السوائل، وذلك لأن شرب الماء يعتبر مذيبا للمواد الغذائية. ويحرص أطباء التوليد على أن يقدموا للحامل وهى بحالة المخاض الماء والسكر بشكل سوائل سكرية، ومن هنا فإن أكل الرطب وشرب الماء لإذابة المواد الموجودة فيه وتسهيل امتصاصها، فضلا عن أن مجهودا شاقا مثل الولادة يتطلب سوائل، كل هذا، خير معين للمرأة أثناء المخاض والوضع، مما يوضح إحدى صور الإعجاز العلمى الرائع فى قوله تعالى: فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا، خاصة وأن أبحاث العلماء قد
(٣٧) سورة مريم: ٢٣ - ٢٦.
 
١ ‏/ ٧١٠
 
أوضحت أن البلح يضفى السكينة والهدوء على النفوس المضطربة والقلقة، ويساعد على الحيوية والانتعاش.


٦ - فى عالم الحيوان:
قال تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨).
تنبه هذه الآية الكريمة إلى دلائل القدرة الإلهية فى عالم الأحياء، ويوافقها ما أكدته بحوث العلماء الذين يدرسون كل ما يتعلق بالحياة الاجتماعية لكل حيوان يسعى فى الأرض أو يطير فى السماء، من أن الكائنات الحية شعوب وقبائل وأمم تربطها صلات وعلاقات وثيقة، فهى لا تختلف فى أسلوب حياتها ونشاطها عن أمم البشر الذين لا يعمرون الأرض إلا بقدر ما يميزها عن باقى الأنواع. وقد أصبح من المعروف حاليا أنه يوجد حوالى مليون نوع من الحيوانات المختلفة التى توصل العلم إلى معرفتها، ولا شك أن هذا العدد الضخم من الحيوانات يحتاج فى دراسته العلمية إلى ترتيب وتبويب.
لذلك نشأ علم خاص بهذه الموضوعات أطلق عليه اسم «علم تصنيف الحيوان». واجتهد علماء الأحياء والتشريح فى وضع المؤلفات التى تبين نتائج أبحاثهم فيما يتعلق بشعب الحيوانات وما يتفرع منها من طوائف ورتب وفصائل وأجناس وأنواع، مما لا يدع مجالا للشك فى أنها أمم مثل أمم البشر، سواء فى حالات السلم والحرب، أو فى السعى لطلب الغذاء، أو فى رعاية الصغار والضعفاء، أو ما تلجأ إليه من حيل للتغلب على ما يواجهها من مصاعب وأخطار، أو فى انقيادها لما هيأه لها الخالق العظيم العليم من طبيعة تتلاءم مع تكوينها وبيئتها.
وإذا اخترنا الإبل- على سبيل المثال- من بين الحيوانات التى ورد ذكرها فى القرآن الكريم، نجد أن الله- ﷾ يحثنا حثا رقيقا، يقع عند المؤمنين موقع الأمر، على التفكر والتأمل فى خلقها، باعتباره خلقا دالّا على عظمة الخالق، وكمال قدرته، وحسن تدبيره، وذلك فى قوله تعالى: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (٣٩).
وأول ما يلفت الأنظار فى الإبل خصائص البنيان والشكل الخارجى الذى لا يخلو تكوينه من لطائف تأخذ بالألباب. فالعينان محاطتان بطبقتين من الأهداب الطوال تقيانهما القذى والرمال. أما الأذنان فصغيرتان قليلتا البروز.
(٣٨) سورة الأنعام: ٣٨.
(٣٩) سورة الغاشية: ١٧.
 
١ ‏/ ٧١١
 
فضلا عن أن الشعر يكتنفهما من كل جانب ليقيهما الرمال التى تذروها الرياح، ولهما القدرة على الانثناء خلفا والالتصاق بالرأس إذا ما هبّت العواصف الرملية. كذلك المنخران يتخذان شكل شقين ضيقين محاطين بالشعر وحافتهما لحمية فيستطيع الجمل أن يغلقهما دون ما قد تحمله الرياح إلى رئتيه من دقائق الرمال.
أما قوائم الجمل فهى طويلة لترفع جسمه عن كثير مما يثور تحته من غبار كما أنها تساعده على اتساع الخطوة وخفة الحركة، وتتحصن أقدام الجمل بخف يغلفه جلد قوى غليظ يضم وسادة عريضة لينة تتسع عند ما يدوس الجمل بها فوق الأرض، ومن ثمّ يستطيع السير فوق أكثر الرمال نعومة، وهو ما يصعب على أية دابة سواه ويجعله جديرا بلقب «سفينة الصحراء». ومما يناسب ارتفاع قوائم الجمل طول عنقه، حتى يستطيع أن يتناول طعامه من نبات الأرض، كما أنه يستطيع السير فوق أكثر الرمال نعومة، وهو ما يصعب على أية دابة سواه ويجعله جديرا بلقب «سفينة الصحراء». ومما يناسب ارتفاع قوائم الجمل طول عنقه، حتى يستطيع أن يتناول طعامه من نبات الأرض، كما أنه يستطيع قضم أوراق الأشجار المرتفعة حين يصادفها، هذا فضلا عن أن هذا العنق الطويل يزيد الرأس ارتفاعا عن الأقدام ويساعد الجمل على النهوض بالأثقال.
وحين يبرك الجمل للراحة أو يناخ ليعدّ للرحيل يعتمد جسمه الثقيل على وسائد من جلد قوى سميك على مفاصل أرجله، ويرتكز بمعظم ثقله على كلكله، حتى أنه لو جثم به فوق إنسان أو حيوان طحنه طحنا. وهذه الوسائد إحدى معجزات الخالق التى أنعم بها على هذا الحيوان العجيب، حيث إنها تهيئه لأن يبرك فوق الرمال الخشنة الشديدة الحرارة التى كثيرا ما لا يجد الجمل سواها مفترشا له فلا يبالى بها ولا يصيبه منها أذى. والجمل الوليد يخرج من بطن أمه مزود بهذه الوسائد المتغلظة، فهى شىء ثابت موروث وليست من قبيل ما يظهر بأقدام الناس من الحفاء أو لبس الأحذية الضيقة.
ومن خصائص الإبل الوظيفية الصبر على الجوع والعطش. وحقيقة الأمر، كما تؤكدها أبحاث العلم الحديث، هو أن الجمل يقتصد فى استخدام ما عنده من ماء وغذاء غاية الاقتصاد بأساليب معجزة، منها أن الجمل لا يتنفس من فمه ولا يلهث أبدا مهما اشتد الحر أو استبد به العطش، وهو بذلك يتجنب بخر الماء من هذا السبيل. كذلك يمتاز الجمل بأنه لا يفرز إلا مقدارا ضئيلا من العرق عند الضرورة القصوى بفضل قدرة جسمه على التكيف مع المعيشة فى ظروف الصحراء.
ويضيف علماء الأحياء ووظائف الأعضاء (الفسيولوجيا) سببا جديدا يفسر قدرة الإبل على تحمل الجوع والعطش عن طريق إنتاج الماء الذى يحتاجه من الشحوم الموجودة فى
 
١ ‏/ ٧١٢
 
سنامه (أو سناميه) بطريقة كيميائية يعجز الإنسان عن مضاهاتها. ومن حكمة خلق الله فى الإبل أن جعل احتياطى الدهون فيها كبيرا للغاية يفوق أى حيوان آخر. ولهذا يستطيع الجمل أن يقضى حوالى شهر ونصف بدون ماء يشربه.
وهناك أسرار أخرى عديدة فى خلق الإبل لم يتوصل العلم بعد إلى معرفة حكمتها، وخاصة ما يتعلق بألبانها، من حيث تركيبها وفوائدها كغذاء ودواء.


٧ - فى عالم الحشرات:
النحل من بين الحشرات التى ورد ذكرها فى القرآن الكريم وسميت إحدى سوره بسورة النحل، وفيها يقول تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٠).
وهنا يلخص القرآن الكريم تاريخ حياة النحل فى كلمات معدودات فيها جوامع الكلم.
فقد اتخذ النحل بوحى من الله بيوتا من الجبال فى بادئ الأمر، ثم انحدر منها إلى الأشجار، ثم تطور إلى المعيشة فى الخلايا التى يصنعها على نحو ما نعرفها اليوم. وإن بعض العلماء الذين كرّسوا جهودهم لدراسة حياة الحشرات وقفوا على حقائق عجيبة وافقت صحة ما جاء فى القرآن الكريم، منها أن هناك فصائل برية من النحل تسكن الجبال، وتتخذ من مغاراتها مأوى لها، وأن منه سلالات تتخذ من الأشجار سكنا بأن تلجأ إلى الثقوب الموجودة فى جذوع الأشجار وتتخذ منها بيوتا تأوى إليها. ولما سخر الله النحل لمنفعة الإنسان أمكن استئناسه فى حاويات من الطين أو الخشب.
وتدل الدراسات العلمية المستفيضة لمملكة النحل أن إلهام الله- ﷾ لها يجعلها تطير لارتشاف رحيق الأزهار، فتبعد عن خليتها آلاف الأمتار، ثم ترجع إليها ثانية دون أن تخطئها وتدخل خلية أخرى غيرها، علما بأن الخلايا فى المناحل تكون متشابهة ومرصوصة بعضها إلى جوار بعض، وذلك لأن الله- ﷾ قد ذلل لها الطرق وسهلها، ومنحها من قدرات التكيف الوظيفى والسلوك ما يعينها فى رحلات استكشاف الغذاء وجنيه ثم العودة بعد ذلك إلى البيت.
وفى رحلة الاستكشاف لجمع الغذاء الطيب تستعين النحلة العاملة بحواسها التى منحها الله إياها، فهى مزودة بحاسة شم قوية عن طريق قرنى استشعار فى مقدم
(٤٠) سورة النحل: ٦٨، ٦٩.
 
١ ‏/ ٧١٣
 
رأسها، كما أنها تتمتع بحاسة إبصار جيدة تميز البياض والسواد وبعض الألوان وعلى الأخص اللونين الأزرق والأصفر، وهى تمتاز على العين البشرية فى إحساسها بالأشعة فوق البنفسجية، ولذا فهى ترى ما لا تراه عيوننا مثل بعض المسالك والنقوش التى ترشد وتقود إلى مختزن الرحيق ولا يمكننا الكشف عنها إلا بتصويرها بالأشعة فوق البنفسجية. ثم إذا حطّت النحلة على زهرة يانعة وبلعت رحيقها استطاعت أن تتذوقه وتحدد بحكم فطرتها مقدار حلاوته.
وفى رحلة العودة تهتدى النحلة إلى مسكنها بحاستى النظر والشمّ معا. أما حاسة الشم فتتعرف على الرائحة الخاصة المميزة للخلية. وأما حاسة الإبصار فتساعد على تذكر معالم رحلة الاستكشاف، إذ يلاحظ أن النحلة عند ما تغادر البيت تستدير إليه وتقف أو تحلق أمامه فترة وكأنها تتفحصه وتتمعنه حتى ينطبع فى ذاكرتها، ثم هى بعد ذلك تطير من حوله فى دوائر تأخذ فى الاتساع شيئا فشيئا، وعند ما تعود إلى البيت تخبر عشيرتها بتفاصيل رحلتها، وتدل زميلاتها على مكان الغذاء فينطلقن تباعا لجنى الرحيق من الزهور والإكثار منه لادخار ما يفيض عن الحاجة العاجلة لوقت الشتاء ببرده القارس وغذائه الشحيح.
وقد أوضحت أبحاث العلماء حديثا أن للنحل لغة خاصة يتفاهم بها عن طريق الرقص، وأن للنحلة الشغالة فى جسمها من الأجهزة ما يجعلها تستطيع قياس المسافات والأبعاد والزوايا بين قرص الشمس والخلية، ثم إنها تستخدم لغة سرية للتخاطب عن طريق رقصات خاصة معبرة تنبئ بها أخواتها عن وجود الرحيق الحلو وتحدد لهن موضعه تحديدا دقيقا من حيث زاوية الاتجاه إليه وبعده عن بيتها. فمثلا الرقص الدائرى يعنى وجود مكان غنى بحبوب اللقاح يقع بالقرب من موقع خلية النحل، بينما يعنى الرقص المتعرج الاهتزازى أن مركز الخلية بعيد عن موقع الرحيق.
وتستطيع العشيرة الواحدة من النحل أن تجمع نحو ١٥٠ كيلوجراما من العسل فى الموسم الواحد. والكيلو جرام الواحد من العسل يكلف النحلة ما بين مائة وعشرين ألف إلى مائة وخمسين ألف حمل من الرحيق تجمعها بعد أن تطير مسافة تعادل محيط الكرة الأرضية عدة مرات فى المتوسط.
وتستطيع النحلة أن تطير بسرعة ٦٥ كيلومترا فى الساعة، وهو ما يعادل سرعة القطار. وحتى لو كان الحمل الذى تنوء به يعادل ثلاثة أرباع وزنها فإنها يمكن أن تطير بسرعة ٣٠ كيلومترا فى الساعة.
 
١ ‏/ ٧١٤
 
وقد أثبت العلم أن اختلاف كل من تركيب التربة والمراعى التى يسكنها النحل يؤثر تأثيرا كبيرا فى لون العسل، كما أن العلماء لا يزالون يجدّون فى كشف المزيد من الفوائد الغذائية والعلاجية لعسل النحل بعد أن تأكدت فعاليته فى قتل الجراثيم وزيادة المناعة والتئام الجروح. فتبارك الخالق العليم الذى ألهم النحل لتأكل من كل الثمرات وتسلك سبل ربها، على صغر جرمها، ذللا، لطفا بها فيما هى محتاجة إليه ليهنأ عيشها، ثم تخرج ما فى بطونها من شمع أبيض وعسل مختلف ألوانه فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.


٨ - فى عالم الطيور:
قال تعالى: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٤١).
تلفت هذه الآية الكريمة أنظار المؤمنين إلى آيات الإعجاز فى طيران الطيور، وتدعو أصحاب العقول الراجحة إلى تأمل حكمة الخالق- جلت قدرته- فهو الذى خلق جميع
الكائنات الحية والجامدة وأودع فيها خصائصها، وهو الذى خلق قانون الجاذبية بين الأجرام التى يجذب بعضها بعضا، ولكنه، وهو اللطيف الخبير بحاجات خلقه، يسّر الطيور لما خلقت له، فأودع فى أجسامها من آيات الخلق والبناء، ومما فطرها عليه من حسن الأداء، ما يجعلها تتغلب على قانون الجاذبية وتحلق حرة طليقة فى جو السماء ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ.
وتتحلى الطيور عامة بخصائص مهمة لا بدّ من توفرها فى أية آلة طائرة، مثل خفة الوزن ومتانة البناء وانسياب الجسم ودقة الاتزان.
فهياكل الطيور العظمية خفيفة للغاية، حيث لاحظ علماء البيولوجيا أن بعض الأجزاء قد اختصر والتحم بعض عظامها ببعض، وتحول معظمها إلى أنابيب رقيقة جوفاء، لكنها فى الوقت نفسه متينة ومرنة وقادرة على تحمل القوى المفاجئة التى يتعرض لها الطائر أثناء مناوراته البهلوانية فى الجو. أما رءوس الطيور فقد صغرت وخلت من الأسنان، ومن ثمّ لم تعد بحاجة إلى فكين ثقيلين وعضلات كبيرة لتحريكهما، فجمجمة الحمامة مثلا تزن سدس ما تزنه جمجمة الفأر الكبير، وطائر الفرقاط (أى الطائر البارجة، أو الطائر العملاق) الذى يبلغ طول ما بين طرفى جناحيه المبسوطين أكثر من مترين، لا يزن هيكله العظمى كله أكثر من ١١٣ جراما تقريبا، أى أقل من وزن ريشه. وقد عبّر أحد العلماء عن الإبداع فى بناء جمجمة الطيور بقوله: إنها شعر منظوم فى عظام.
(٤١) سورة النحل: ٧٩.
 
١ ‏/ ٧١٥
 
وأما ريش الطيور فيتميز بأنه مكيف بدقة بالغة لترويح الهواء وتخفيف كثافة الجسم وعزله عزلا جيدا عن الجو، فضلا عن مرونته الفائقة التى تمكنه من الالتواء والانثناء لتلبية حاجات الطيران سريعة التغيّر. وأهم ما يميز الريش أن توزيعه يهذب زوايا الجسم البارزة.
وهناك خصائص وظيفية أخرى تتمتع بها الطيور من أهمها ارتفاع معدل العمليات الحيوية فى داخل أجسامها. فهى على سبيل المثال، أقدر من الحيوانات الثديية فى هضم الطعام، وقلبها أقوى وأكبر وأسرع نبضا مع حفظ النسبة، وضغط دمها أقل، ونسبة السكر فيه أكثر، ودرجة حرارتها أعلى، وجهازها التنفسى أكفأ، حيث تتصل الرئتان بمجموعة من الأكياس الهوائية المنتشرة فى أنحاء الجسم، مما ييسر تبريد أجسامها أثناء الطيران، فضلا عن الإسهام فى تخفيف وزنها، وهذا كله يجعل من أجهزتها آلات رائعة لإنتاج الطاقة اللازمة للطيران، فهى تستخدم غذاءها بكفاءة تفوق أضعاف كفاءة أحدث الطائرات فى استخدام وقودها.
وبالنسبة لذيل الطائر فتكاد تنحصر مهمته فى التوجيه، ولكنه إذا نشر مبسوطا زادت مساحة السطح، وقد يستغل هذا أحيانا فى الرفع وأحيانا فى تقليل سرعة الهبوط، ويوازن الطائر حركته بواسطة جناحيه، وقد قرر القرآن الكريم- فى بيان معجز- حقيقة أن جناحى الطائر هما جهاز طيرانه الأساسى، وهذا يتفق فى بساطة ووضوح مع ملاحظة الفطرة السليمة والدراسة العلمية المدققة على حد سواء. قال تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ (٤٢). وفى أثناء خفق الجناح تغيّر أجزاؤه، وبخاصة ريشاته القوادم، أشكالها وأوضاعها وزواياها وسرعة حركتها فى كل لحظة مع اختلاف الارتفاع وشدة الهواء واتجاهه ومتطلبات الطيران المتغيرة. وهذا كله يتم بصورة آلية وبسرعة مذهلة لم يستطع العلماء إدراك بعضها إلا بأدق آلات التصوير السريع والعرض البطىء.
وليس الطيران بالنسبة للطيور مجرد وسيلة للانتقال المعتاد، فللطائر فيه مآرب أخرى كثيرة، من ذلك أن كثيرا من الطيور يلقف طعامه من الحشرات فى أثناء طيرانه، كما أن بعضها يصيد فريسته من ذوات الجناح وهما محلقان فى الجو، وقد يقذف بعضها إلى بعض الطعام وهى راكبة متن الهواء. وللطيور أفانين كثيرة من العراك واللهو والغزل الطائر.
والطيور الصافات، أى التى تبسط جناحيها دون حراك، تستطيع أن تمضى فى
(٤٢) سورة الأنعام: ٣٨.
 
١ ‏/ ٧١٦
 
الهواء بجناحين ساكنين إلى أبعد المسافات، وكأن قوى خفية تشدها وتحركها كيف تشاء.
وهذه الطيور المتخصصة فى هذا النوع من الطيران تستطيع أيضا أن ترفع جناحيها أو تخفضهما أو تدفعهما إلى أمام أو خلف، أو أن تقلل من مساحتهما بقبضهما قبضا يسيرا، أو أن تديرهما من مفصل الكتف ليقابلا الهواء بزوايا مختلفة تؤثر فى سرعتها، أو تلوى أجزاء منها، وما إلى ذلك، وهى فى أثناء هذا كله تحرك ذيلها بالصورة المناسبة. وتتميز الطيور الصافات باختصار حجم عضلات صدرها التى تحرك جناحيها لقلة الحاجة إلى استخدامها، مع قوة الأوتار والأربطة المتصلة بالجناحين حتى تستطيع بسطها فترات طويلة دون جهد عضلى كبير.
ولقد علمت هذه الطيور قدر خالقها، وصدق فيها قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤٣).


٩ - فى الآفاق وفى الأنفس:
إن مادة الكون هى كل ما خلق الله- ﷾ فى عالم الشهادة، أى العالم الذى نحسه بحواسنا أو ندركه بما يقوم مقام الحواس ويعزز وظائفها من أجهزة وأدوات، مثل المجاهر (الميكروسكوبات) التى تيسر رؤية الأجسام الدقيقة، والمقاريب (التلسكوبات) التى تمكن الراصد من رؤية الأجسام البعيدة، أو غير ذلك مما لم يتمكن الإنسان بعد من إدراكه والتعرف عليه فى هذا الكون الفسيح الذى لا يعلم مداه إلا الله وحده.
ويمثل الضوء نعمة النور الذى تبصر به العين بإذن ربها، فترى العديد من الآيات البينات فى الآفاق وفى الأنفس، التى تذكّر الإنسان بما يحتوى عليه الكون من العجائب والمعجزات وتنير له طريق الهداية والصواب.
والطريقة التى تؤدى بها العين وظيفتها فى الإبصار كانت مجهولة حتى عصر الإسلام، فقد كان الاعتقاد السائد عند الفلاسفة القدماء هو أن إبصار الموجودات يتم بخروج النور من عين الإنسان فيحيط بالأشياء ويتم إدراكها بالرؤية المباشرة، أو أن الإبصار يتم بانطباع صور الأشياء من البصر دون أن يرد منها شىء للعين. ومثل هذه
الآراء الفلسفية الخاطئة علميا عطلت منهج البحث العلمى السليم وأخّرت ظهور نظرية الإبصار الصحيحة إلى أن جاء عصر الحضارة الإسلامية واستطاع علماؤها الأفذاذ، بفضل المنهج الإسلامى فى البحث والتفكير، أن يسلكوا طريقة استقرائية دقيقة لدحض
(٤٣) سورة النور: ٤١.
 
١ ‏/ ٧١٧
 
الآراء الفلسفية القديمة، وتحقيق نظرية جديدة فى الإبصار على أساس الوجود المستقل للضوء كمؤثر خارجى. وكان الحسن ابن الهيثم فى مقدمة علماء المسلمين الذين وضعوا الأسس العلمية السليمة لعلم الضوء والبصريات. وصنف فى هذا العلم كتابا رائدا أسماه «المناظر» واعتمد عليه علماء أوروبا فى عصر النهضة الحديثة.
ووافقت النظرية الجديدة ما سبق أن أخبر به القرآن الكريم من استحالة الرؤية بالعين المجردة فى الظلام، وذلك فى قوله تعالى:
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (٤٤)، ففي هذه الآية الكريمة يشبه الله- ﷾ حال المنافقين بمن استوقد نارا، فلما وقع ضوء النار على ما حوله من الأجسام المعتمة ثم تشتت منها كشفها للناظرين. وعند ما ذهب الله بنورهم، أى بذلك الضياء المشتت من الأجسام المعتمة الذى كان يقع على أبصارهم فيعينهم على الإحساس بالرؤية، تولدت ظلمات لا تساعد على الإبصار. وبهذا جعل الله تعالى رؤية الأجسام مرتبطة ارتباطا مباشرا بسقوط النور (أو الضوء) عليها ثم ارتداده منها إلى العين. أما الضوء فى حد ذاته فلا يرى ولا يساعد على رؤية الأشياء دون أن يقع عليها، إذ قد يوجد هذا الضوء بجانب الشيء ولا نراه، مثال ذلك أشعة الشمس التى تمر خلال حجرة مظلمة دون أن تقع على شىء فيها ويكون هواؤها صافيا خاليا من الغبار، فإنها لا تبدد ظلمتها ما لم تقع على شىء يشتتها. والضوء الكشاف الذى يمر فى الليل المظلم بجانب الأجسام المعتمة دون أن يقع عليها فإنه لا يكشفها، ولكنه إذا وقع عليها ثم ارتد إلى الأنظار حدثت الرؤية.
لقد سبق القرآن الكريم إذن إلى القول باستحالة الرؤية فى الظلام، أى فى غياب الضوء المشتت عن الأجسام، وقد لاحظ رواد الفضاء حديثا عقب اختراقهم للغلاف الجوى أن السماء فقدت لونها الأزرق الجذاب الذى نراها به من الأرض، وأصبحت سوداء حالكة رغم سطوع الشمس وتلألؤ النجوم، وما ذلك إلا لعدم وجود الجسيمات الدقيقة الكافية لتشتت الضوء وحدوث الإبصار. كذلك لاحظ رواد الفضاء أن سماء القمر مظلمة دائما لانعدام الغلاف الجوى حول سطحه، وأن الأرض تبدو فى الفضاء كرة مضيئة تسبح وسط ظلام دامس. وقد أوضحت الصور التى التقطها رواد الفضاء أثناء رحلاتهم الفضائية أن الأرض والقمر منيران بأشعة الشمس المنعكسة منهما، وأن السواد الذى يعم الصورة ما هو إلا ظلمة السماء وليلها الدائم.
(٤٤) سورة البقرة: ١٧.
 
١ ‏/ ٧١٨
 
وتتم رؤية الأشياء بواسطة العين نتيجة استقبالها الأشعة الضوئية التى تحمل معها صور المرئيات وألوانها، فتتكون لها صور حقيقية مقلوبة على الشبكية، وتقوم شبكة الأعصاب الحساسة على الشبكية بنقل الصور إلى المخ على هيئتها السليمة فى الواقع. ولا يزال العلم عاجزا حتى الآن عن معرفة حقيقة ما يحدث فى العين ذاتها عند ما ترى منظرا معينا وتحول صورته المقلوبة على الشبكية إلى إحساس بلون خاص مميز. ولا يملك أى عاقل أمام هذا الإعجاز فى خلق العين وأدائها لوظيفتها فى إبصارها للأشياء بألوانها كما هى فى الواقع إلا أن يشكر الله ويحمده على نعمائه، فهو القائل فى محكم التنزيل: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٥).


١٠ - قضايا علمية معاصرة:
 
(أ) الاستنساخ:
قال تعالى: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٤٦).
تقرر هذه الآية الكريمة، مع آيات أخرى كثيرة فى القرآن الكريم حقيقة الوحدانية لله- ﷾ وتفرده بأنه الخالق الواحد لكل شىء، الجدير بالطاعة والعبادة.
وعند ما يزعم الإنسان، وهو مخلوق محدود القدرات، أنه قادر على محاكاة الخلق الإلهى ومنافسته فإنه يكون قد ضل الطريق بعيدا عن الإيمان، واستسلم لغرور العقل والمبالغة فى تقديسه إلى درجه التأليه، مع أن العقل وكل ما يتوصل إليه من علوم ومعارف هى من آثار الله خالق كل شىء. لكن عند ما يزعم أمثال هؤلاء بأنهم نجحوا فى ابتكار شىء ما ظنوه خلقا جديدا وحسبوا أنفسهم خالقين، فإن القرآن الكريم يضعهم فى حجمهم الحقيقى الضئيل من الجهل والعجز فى مقابل قدرة الخلاق العالم البارئ المصور، فيقول: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (٤٧).
ومن أبحاث العلماء فى خلايا الكائنات أمكن التوصل إلى استنساخ بعض النباتات من خلايا جسدية فى ساق النبات، أو أوراقه، أو جذوره، كما أمكن استنساخ خلايا جسدية، وليست جنسية، وتحقق هذا بالنسبة للضفادع والفئران، وأخيرا الخراف، وتساءل الناس عن إمكانية حدوث نفس الشيء بالنسبة للبشر ..
والتساؤل من الناحية العلمية لا يجد جوابا سهلا، فالفكرة التى طبّقت على النبات
(٤٥) سورة الأنعام: ٤٦.
(٤٦) سورة الأنعام: ١٠٢.
(٤٧) سورة المؤمنون: ١٤.
 
١ ‏/ ٧١٩
 
والحيوان تجد عوائق كثيرة عند تطبيقها على الإنسان .. وكل ما يحاوله العلماء هذه الأيام هو إيقاظ الخلايا الجسدية من سباتها لتعيش أو تعمل من جديد، وينشط برنامجها الوراثى كله، وكأنما هى تعود إلى حالتها الجنينية وتصبح صالحة لاستنساخ كائن جديد .. هذا ما فعله الباحثون فى حالة النبات والحيوان، فهل سيتحقق فى الإنسان؟!
إن القضية على هذا النحو أصبحت ذات أبعاد علمية واجتماعية وعقدية تحتاج إلى ضوابط تحكم مسيرة البحث العلمى فى الطريق السليم الذى يعود على البشرية بالخير والنفع ولا يهدد البنية الاجتماعية المستقرة للمجتمع الإنسانى.

(ب) التلوث البيئى:
يقول الله تعالى: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨).
تشير هذه الآية الكريمة إلى أن الفساد أو التلوث الذى تعانى منه البيئة والبشرية اليوم برا وبحرا وجوا؛ جاء نتيجة طبيعية لعمل الإنسان، ذلك أن البيئة من المنظور الإسلامى مرتبطة بتحمل الإنسان- دون غيره من المخلوقات- لأمانة الخلافة فى الأرض وترقية الحياة عليها حتى يستكمل حكمة الله من خلقه وخلقها، بعد أن سخّر له كل ما فى الكون من نعم ظاهرة وباطنة لكى ينتفع بها ويمجد بانتفاعها ربّ العالمين.
ولا يكون الإنسان جديرا بتحمل أمانة الخلافة إذا أساء استعمال هذه النعم التى تتكون منها عناصر البيئة، أو تصرّف فيها على نحو غير مشروع جريا وراء منفعة خاصة، أو استسلاما لأنانية مقيته.
فالخلافة تعنى أول ما تعنى تعمير الأرض بإشاعة الخير والسلام فيها، وبالعمل على إظهار عظمة الخالق وقدرته عن طريق الانتفاع الإيجابى بكل المخلوقات التى سخرها الله لخدمة الإنسان. ويتجلى ذلك فى قوله تعالى: هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها (٤٩)، أى جعلكم عمارا تعمرونها وتسكنون بها، وهذا لا يتأتى إلا بأمرين:
أولهما: أن تبقى الصالح على صلاحه ولا تفسده، وثانيهما: أن تصلح ما يفسد وتزيد إصلاحه، ولا شك أن فى الأمرين خير ضمان لحماية البيئة وسلامتها.
ولقد سبق الدين الإسلامى الحنيف إلى وضع تشريعات محكمة لرعاية البيئة وحمايتها من آفات التلوث والفساد، ورسم المنهج الإسلامى حدود هذه التشريعات على أساس الالتزام بمبدأين أساسيين يحددان مسئولية الإنسان حيال البيئة التى يعيش
(٤٨) سورة الروم: ٤١.
(٤٩) سورة هود: ٦١.
 
١ ‏/ ٧٢٠
 
فيها: أما المبدأ الأول: فهو «درء المفاسد» حتى لا تقع بالبلاء على العباد وتسبب الأذى للفرد والمجتمع والبيئة، حيث لا ضرر بالنفس، ولا ضرار بالغير.
وأما المبدأ الثانى: فهو «جلب المصالح» وبذل كل الجهود التى من شأنها أن تحقق الخير والمنفعة للجماعة البشرية.
وأهم ما يميز المنهج الإسلامى فى الحفاظ على البيئة هو الأمر بالتوسط والاعتدال فى كل تصرفات الإنسان، باعتباره من أهم عوامل الوقاية من الخلل والاضطراب فى منظومة التوازن البيئى المحكم الذى وهبه الله للحياة والأحياء فى هذا الكون. وهذا لا يعنى بطبيعة الحال أن يقف الإنسان مكتوف الأيدى إزاء النظم البيئية المحيطة به، أو أن يعطل أداء واجب الإعمار الذى تقتضيه أمانة الاستخلاف فى الأرض، ولكنه يعنى أن يتعامل الإنسان مع هذه النظم بما يمكنه من تطوير حياته دون إسراف فى استخدام الموارد الطبيعية أو جور على حقوق الآخرين.


(ج) احتمالات الحياة على كواكب أخرى فى الكون:
قال تعالى: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٥٠).
تشير هذه الآية الكريمة إلى وجود كائنات تدب وتتحرك فى السموات والأرض، وهذه الكائنات عاقلة وذكية وعابدة وليست قاصرة على الملائكة. وتقرر هذه الآية الكريمة أيضا أن الله ﷾ قادر على جمع هذه الأحياء وحدوث الالتقاء بينها أثناء الحياة الدنيا أو فى الآخرة.
وهذا الموضوع المتعلق باحتمالات وجود كائنات حية ذكية غير الإنسان فى كواكب أخرى فى هذا الكون الفسيح أصبح من الموضوعات التى تجذب اهتمام الناس وتستحوذ على تفكيرهم، حيث يلهث العلم وراء البحث عن أسباب تسمح بوجود حياة على الكواكب الأخرى غير الأرض فى مجموعتنا الشمسية، أو على الكواكب التى تقع فى أسر جاذبية النجوم الأخرى وتدور حولها. وعادة ما يكون اكتشاف أى آثار تدل على وجود الماء من أبرز الأساليب التى ترجح الاعتقاد بوجود حياة، حيث أن الماء هو الأصل والضرورى لنشأة الحياة واستمرارها، باعتراف علماء البيولوجيا أنفسهم، وبتقرير القرآن الكريم- من قبل ذلك بقرون- فى قوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ (٥١).
كذلك لا بدّ من توفر درجة حرارة مناسبة لحياة الأحياء، بالإضافة إلى ضرورة توافر عنصر الكربون الذى يمتاز بقابليته وقدرته
(٥٠) سورة الشورى: ٢٩.
(٥١) سورة الأنبياء: ٣٠.
 
١ ‏/ ٧٢١
 
على الاتحاد بالعناصر الأخرى فى مركبات أساسية للحياة. أى أن الماء والحرارة المناسبة والكربون شروط ضرورية لقيام حياة كتلك التى نعرفها على الأرض.
ولقد أكدت رحلات الفضاء وأبحاث العلماء استحالة وجود حياة كالتى نعرفها على أى كوكب آخر غير الأرض فى مجموعتنا الشمسية، وأصبح مطلوبا البحث عن وجود هذه الحياة الذكية المحتملة بعيدا عن المجموعة الشمسية على كواكب (أو أرضين) شبيهة بأرضنا وتابعة لنجوم (شموس) أخرى غير شمسنا فى عوالم أخرى فى مجرتنا أو المجرات الأخرى.
ولقد بذل الإنسان حديثا محاولات للاتصال بالعوالم الأخرى، ومن بينها المركبة بايونير ١٠ التى أطلقت عام ١٩٧٢ م وزميلتها قويجر ٢ التى أطلقت عام ١٩٧٢ المزودتين برسائل رمزية وصورة رجل وامرأة من أهل الأرض يرفعان أيديهما رمزا للسلام، ورسائل صوتية مسجلة بلغات مختلفة وموجهة من شعوب الأرض إلى سكان العوالم الأخرى لتحيتهم وحثهم على الاتصال بنا. لكن هل سيتحقق هذا الذى يبحث عنه العلماء؟ العلم عند الله وحده القائل: وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ صدق الله العظيم.
ا. د. أحمد فؤاد باشا
 
١ ‏/ ٧٢٢
 
المصادر والمراجع:
(١) القرآن الكريم.
(٢) مختصر تفسير ابن كثير، اختصار وتحقيق: محمد على الصابونى، دار القرآن الكريم بيروت.
(٣) التفسير الكبير، أو مفاتيح الغيب للإمام فخر الدين الرازى، دار الكتب العلمية بيروت لبنان ١٤١١ هـ- ١٩٩٠ م.
(٤) المنتخب فى تفسير القرآن الكريم، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، ط- ١٨، القاهرة ١٤١٦ هـ- ١٩٩٥ م.
(٥) محمد فؤاد عبد الباقى، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، مؤسسة جمال للنشر بيروت لبنان.
(٦) المفردات للراغب الأصفهانى، ط- دار المعرفة، بيروت.
(٧) تفسير القرطبى، ط- إحياء التراث العربى.
(٨) فتح البارى، ط- دار المعرفة، بيروت.
(٩) عبد المجيد الزندانى، الإعجاز العلمى تأصيلا ومنهجا، مجلة الإعجاز، هيئة الإعجاز العلمى فى القرآن والسنة، رابطة العالم الإسلامى، مكة المكرمة، العدد الأول صفر ١٤١٦ هـ- ١٩٩٥ م.
(١٠) د. أحمد فؤاد باشا، رحيق العلم والإيمان، دار الفكر العربى، القاهرة ١٤٢٢ هـ- ٢٠٠٢ م.
(١١) لسان العرب لابن منظور.
(١٢) د. عبد الحافظ حلمى محمد، العلوم البيولوجية فى خدمة تفسير القرآن الكريم، مجلة عالم الفكر، المجلد الثانى عشر، العدد الرابع، الكويت ١٩٨٢ م.
(١٣) د. أحمد الشرباصى، قصة التفسير، دار العلم، القاهرة ١٩٦٢.
(١٤) عباس محمود العقاد، التفكير فريضة إسلامية، منشورات المكتبة العصرية، بيروت- صيدا.
(١٥) د. محمد إبراهيم شريف، هداية القرآن فى الآفاق وفى الأنفس وإعجازه العلمى، دعوة ضرورية ومنهج واجب، ١٤٠٦ هـ- ١٩٨٦ م.
(١٦) د. أحمد فؤاد باشا، فى فقه العلم والحضارة، سلسلة قضايا إسلامية (٢٠)، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة ١٤١٧ هـ- ١٩٩٧ م.
(١٧) د. أحمد فؤاد باشا، دراسات إسلامية فى الفكر العلمى، دار الهداية، القاهرة ١٤١٨ هـ- ١٩٩٧ م.
(١٨) محمد أحمد الغمراوى، الإسلام فى عصر العلم، الرسالة والرسول والقرآن والإعجاز العلمى، دار الإنسان، القاهر ١٤١١ هـ-، ١٩٩١ م.
(١٩) كريس موريسون، الله يتجلى فى عصر العلم، ترجمة: الدمرداش عبد المجيد سرحان.
(٢٠) عبد الحليم الجندى، القرآن والمنهج العلمى المعاصر، دار المعارف، القاهرة ١٩٨٤ م.
(٢١) د. منصور حسب النبى، الكون والإعجاز العلمى فى القرآن الكريم، دار الفكر العربى، ١٩٩١ م.
(٢٢) أعداد مجلة المسلم المعاصر.
(٢٣) أعداد مجلة الإعجاز العلمى وأعمال مؤتمرات الإعجاز العلمى فى القرآن والسنة رابطة العالم الإسلامى.
(٢٤) قاموس القرآن الكريم، مؤسسة الكويت للتقدم العلمى، الكويت (سلسلة معاجم).
(٢٥) د. أحمد فؤاد باشا، الاسلام والعولمة: مفاهيم وقضايا، كتاب الجمهورية، دار التحرير، القاهرة، ٢٠٠٠ م.
 
١ ‏/ ٧٢٣
  

عن الكاتب

Tanya Ustadz

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية