الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

بلاغة القرآن وإعرابه

بلاغة القرآن وإعرابه

الكتاب: الموسوعة القرآنية المتخصصة
المؤلف: مجموعة من الأساتذة والعلماء المتخصصين
رئيس التحرير: أ.د. علي جمعة
الناشر: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، مصر
عام النشر: ١٤٢٣ هـ - ٢٠٠٢ م
عدد الصفحات: ٨٨٢
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
الموضوع: علوم القرأن


فهرس الموضوعات
  1. بلاغة القرآن
    1. الخبر
    2. الإنشاء
    3. الإطناب
    4. التتميم
    5. التذييل
    6. التكرار
    7. التكميل
    8. الاعتراض
    9. الاستقصاء
    10. الإيضاح
    11. الإيغال
  2. الإيجاز
    1. الإيجاز بالحذف
    2. الإيجاز بحذف الأداة
    3. الإيجاز بحذف الكلمة المفردة
    4. الإيجاز بحذف التراكيب
    5. الإيجاز بحذف الجملة
    6. الاحتباك
    7. إيجاز القصر
    8. الفواصل
    9. الفصل
    10. الوصل
    11. الإخراج على خلاف الظاهر
    12. الالتفات
    13. القصر
    14. المجاز العقلى
    15. التشبيه
    16. التمثيل
    17. المجاز المرسل
  3. الاستعارة
    1. الاستعارة التصريحية
    2. الاستعارة الأصلية
    3. الاستعارة التبعية
    4. الاستعارة التمثيلية
    5. الاستعارة المرشحة
    6. الاستعارة المجردة
    7. الاستعارة المطلقة
    8. الاستعارة المكنية
    9. الكناية
  4. البديع
  5. نتائج مهمة:
  6. إعراب القرآن
  7. العودة إلي كتاب الموسوعة القرآنية المتخصصة

 بلاغة القرآن
 
الخبر
الخبر فى اللغة الإعلام، ومعانيه تدور حول اكتساب المعرفة من مصادرها (١).
أما معنى الخبر فى اصطلاح البلاغيين فهو:
القول الذى يحمل الصدق والكذب لذاته (٢)، أى دون النظر إلى قائله.
أو هو الكلام الذى له نسبة خارجية يراد مطابقتها أو عدم مطابقتها.
والأول تعريف القدماء. والثانى يجرى كثيرا على ألسنة المحدثين، وفى كتاباتهم.
والخبر له ثلاث نسب، تظهر من تحليل العبارة الآتية، إذا قال قائل: رأيت الهلال الليلة هذه الجملة الخبرية لها نسب ثلاث.
الأولى: النسبة الكلامية، وهى:
الإخبار برؤية الهلال، وثبوت رؤيته لحظة فى الأفق.
الثانية: نسبة ذهنية، وهى تخيّل السامع لهذا الكلام الهلال مرئيا فى الأفق.
الثالثة: النسبة الخارجية. وهى كون الهلال مكث لحظة فى الأفق بعد غروب الشمس، فإن كانت هذه النسبة واقعية فعلا فالخبر صادق، لتطابق النسبة واقعية فعلا فالخبر صادق، لتطابق النسبة الخارجية مع النسبة الكلامية.
وإن كان الهلال لم يثبت له رؤية، فالخبر كاذب، لأنه لم يطابق الواقع. وهذا هو معنى عبارة المحدثين أن الخبر ما كان له نسبة خارجية (يعنى خارج الذهن) فإن أراد المتكلم بكلامه مطابقتها فيكون صادقا، أو عدم مطابقتها فيكون كاذبا (٣).
والخبر هو شطر اللغة، والشطر الثانى هو الإنشاء وفيهما تنحصر أساليب الأداء اللغوى، وليس لهما ثالث. وكلاهما وارد بكثرة فى القرآن الكريم، بل كل ما فى القرآن، وكل ما فى سوى القرآن لا يخرج عن أسلوبى الخبر والإنشاء، وسيأتى الحديث عنه. والبلاغيون يجمعون على أن وظيفة الخبر التى أرادها منه واضعو اللغة محصورة فى أمرين.
الأول: أطلقوا عليه مصطلح «فائدة الخبر» ومعناها أن المتكلم يفيد بخبره المخاطب بالخبر معنى جديدا لم يكن له به علم قبل سماعه الخبر. وهذا هو الأصل فى
(١) المصباح المنير والمعاجم اللغوية- مادة خبر.
(٢) بقية الإيضاح (٢٩) ت- الشيخ عبد المتعال الصعيدى.
(٣) المصدر نفسه والموضح.
 
١ ‏/ ٤٤٦
 
أغراض الخبر، ومثلوا لهذا بعبارات كثيرة، أغلبها أمثلة مصنوعة، مثل: جاء «زيد» خطابا لمن لا يعلم بمجيء زيد.
ومن أمثلة فى القرآن الكريم قوله تعالى:
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (٤).
هذه الآية أفادت لأول مرة أن الله أنزل القرآن فى ليلة القدر، ولم يكن لدى المخاطبين علم بهذا قبل نزول هذه الآية.
أما الغرض الثانى من الخبر، فيطلق عليه البلاغيون مصطلح «لازم الفائدة» وضابط هذه الوظيفة:
أن يكون المخاطب عالما بمضمون الخبر، ويكون غرض المتكلم إعلام المخاطب بأنه- أى المتكلم- عالم بمضمون الخبر مثله، كقولك لمن يعلم أنه خالدا حضر من سفره:
خالد حضر. فأنت لا تريد إعلامه بحضور خالد، لأنك تعلم أنه يعلم بحضوره وإنما تريد أنك أنت عالم بحضور خالد كما يعلم هو به ومن أمثلته فى القرآن الكريم قوله تعالى حاكيا ما قاله يعقوب ﵇ لبنيه:
بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا (٥).
يعقوب ﵇ لم يرد أن يخبر بنيه بأن أنفسهم سوّلت لهم أمر التخلص من يوسف؛ لأنهم كانوا يعلمون بهذا التسويل أكثر منه.
وإنما أراد أن يخبرهم أنه عالم بما حدث معهم لأخيهم يوسف.
ففائدة الخبر، ولازم فائدته هما الدلالتان اللتان أرادهما واضعو اللغة من الخبر وهما دلالتان حقيقيتان وضعيتان .. كدلالة: السيف والرمح على آلتى القتال المعروفتين.
وفى القرآن الكريم- كما فى اللغة بوجه عام- استعمالات لأخبار لا تكاد تحصى فى معان أخرى مجازية، غير فائدة الخبر، ولازم فائدته، تحمل معانى كثيرة يقتضيها المقام فى أغراض شتى.
ومن ذلك قوله تعالى:
فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ (٦) لم ترد امرأة عمران أن تخبر الله بما لا يعلم فى قولها إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى فالخبر هنا لم يستعمل فى الإعلام بفائدة الخبر، ولا فى لازم فائدة الخبر، بل خرج إلى معنى مجازى هو إظهار التحسر على إنجابها أنثى، وكانت تطمع أن تلد ذكرا ليكون خادما فى بيت المقدس الذى لم يكن يقوم بالخدمة فيه إلا الذكور.
ولم ترد أن تخبر الله ﷿ بما لم لا يعلم فى قولها. وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ بل إن الخبر هنا خرج عن الإعلام بفائدة الخبر،
(٤) المصدر (١).
(٥) يوسف (١٩).
(٦) آل عمران (٣٦).
 
١ ‏/ ٤٤٧
 
وعن لازم الفائدة، إلى معنى مجازى هو التلطف فى الدعاء والاستعاذة بالله أن يحفظ المولودة وذريتها من الشيطان الرجيم.
ومنه فى القرآن الكريم قوله تعالى فى شأن اليهود، وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا- يعنى الموت- بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧).
خرج الخبر وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ عن الإعلام بفائدة الخبر ولازمها إلى معنى آخر مجازى، هو التهديد والوعيد لأن علمه- سبحانه- بالظالمين يقتضى عقابه إياهم على ظلمهم.
ومنه قوله تعالى حكاية عما قاله فرعون لموسى ﵇: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ (٨).
لم يرد إعلام موسى ﵇ بما فعل حين قتل المصرى. وإنما أراد لومه وانكساره بين يديه، وهو معنى مجازى خارج عن الإعلام بفائدة الخبر، ولازم فائدته.
د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
المصادر والمراجع:
(٧) الجمعة (٧).
(٨) الشعراء (١٩).
 
١ ‏/ ٤٤٨
 
الإنشاء
الإنشاء لغة: الإيجاد والتكوين، يقال:
فلان أنشأ قصيدة أى ألفها بعد أن لم تكن (١).
أما فى اصطلاح البلاغيين فالإنشاء هو الكلام الذى يطلب به أمر لم يكن موجودا وقت النطق بالكلام. وهو عندهم ما ليس له نسبة خارجة وقت النطق بالكلام الإنشائى، يراد مطابقتها أو عدم مطابقتها. وهو ما لا يحتمل الصدق والكذب: لأن مضمونه لا يقع- أن وقع- إلا بعد النطق بطلبه. وقد يجاب الطلب أو لا يجاب ولذلك فإن الإنشاء ليس له إلا نسبتان من النسب الثلاث التى تقدمت فى مبحث الخبر، بل له نسبتان فقط:
* النسبة الكلامية.
* النسبة الذهنية. وقد يعبر عنها بالنسبة العقلية، توضيح هذا فى تحليل العبارة الآتية:
إذا قال قائل لآخر: «أعرنى كتابك». هذه الجملة إنشائية طلب بها أمر لم يكن موجودا ساعة النطق بها والنسبة الكلامية فيها هى:
طلب المتكلم استعارة كتاب المخاطب.
أما النسبة الذهنية (العقلية) فهى التصور الذهنى لعملية إعارة الكتاب، سواء تحققت الإعارة أو لم تتحقق.
هاتان النسبتان يشترك فيهما الخبر والإنشاء وينفرد الخبر بالنسبة الخارجية (الواقعية) ولو فرضا لا تحقيقا، إذا كان الخبر غير صادق (٢) والإنشاء هو شطر اللغة الثانى بعد الخبر.
ويتكوّن الكلام الإنشائى من عدة أساليب فرعية، هى:
* الأمر.* النهى.
* الاستفهام.* النداء.
* التمنى.* الرجاء.
والأصل فى الأمر أن يكون للوجوب، أى وجوب إيجاد شىء لم يكن له وجود ساعة النطق بفعل الأمر. مثل قوله تعالى:
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ (٣)
مضمون الأمر وَقاتِلُوا هو الوجوب والأصل فى النهى أن يكون لطلب الكف عن شىء على وجه الجزم، ومثله قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا (٤).
(١) اللسان والمعاجم اللغوية. مادة: نشأ.
(٢) البلاغة الواضحة (مبحث الخبر) حامد عونى وبقية الإيضاح.
(٣) البقرة (١٩٠).
(٤) آل عمران (١٣٠).
 
١ ‏/ ٤٤٩
 
والأصل فى الاستفهام أن يكون لإعلام المستفهم أمرا هو يجهله. ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى حكاية عن قوم إبراهيم:
أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا (٥).
والأصل فى النداء أن يكون لطلب الإقبال المادى الحسى ومثاله فى القرآن الكريم قول الله لموسى ﵇: يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ (٦).
والأصل فى التمنى أن يكون لطلب المستحيل أو ما فيه عسر، ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى حكاية عما يقوله الكافر يوم القيامة: يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرابًا (٧).
والأصل فى الرجاء أن يكون لطلب الممكن المحبوب. ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى حكاية عن قول موسى ﵇ لأهله:
إِنِّي آنَسْتُ نارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ (٨).
هذا هو الأصل فى استعمال هذه الأساليب اللغوية لكن بلاغة القرآن المعجز استعملتها فى معان مجازية أخرى يضيق المقام عن ذكرها، وقد كتبت فيها مجلدات دون الإحاطة بها (٩).
وما لا يدرك كله لا يترك كله لذلك نكتفى بأمثلة يسيرة من الأربعة أساليب المذكورة.
فالأمر والنهى يستعملان فى ما يقرب من خمسة وعشرين معنى مجازيا.
كالتعجيز المستعمل فيه الأمر فى قوله تعالى مخاطبا منكرى البعث:
قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيدًا (١٠).
والإهانة فى قوله تعالى:
ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (١١).
والإرشاد المستعمل فيه النهى فى قوله تعالى:
وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلى أَجَلِهِ (١٢).
والدعاء المستعمل فيه النهى فى قوله تعالى:
رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْرًا كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا (١٣).
والالتماس المستعمل فيه النهى فى قوله تعالى حكاية عن قول هارون لموسى ﵉:
يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي (١٤).
وغير ذلك كثير وكثير، استعمل فيه (القرآن) أسلوبى الأمر والنهى فى معان
(٥) الأنبياء (٦٢).
(٦) القصص (٣١).
(٧) النبأ (٤٠).
(٨) طه (١٠).
(٩) التفسير البلاغى للاستفهام فى القرآن الحكيم. مكتبة وهبة.
(١٠) الإسراء (٤٩).
(١١) الدخان (٤٩).
(١٢) البقرة (٢٨٢).
(١٣) البقرة (٢٨٦).
(١٤) طه (٩٤).
 
١ ‏/ ٤٥٠
 
مجازية، مفعمة بالإيحاءات البيانية، لإقرار الحق وإظهاره، ودحض الباطل والتنفير منه.
وأكثر الأساليب الإنشائية خروجا عن معانيها اللغوية إلى معان مجازية فى القرآن الكريم هو الاستفهام، وقد ورد منه أكثر من ١٢٦٠ صورة، فى القرآن الكريم وكان له شأن عظيم فى نصرة الحق وتجليته، ودحر الباطل ومحوه، والمعانى المجازية التى خرج إليها لا تكاد تحصى، وصوره فى القرآن قسمان.
قسم صادر عن الله ﷿، غير محكى عن غيره. وهذا القسم كل صوره مجازية؛ لأن الله قد أحاط بكل شىء علما، فهو منزه عن أن يستفهم طالبا فهم ما لم يفهمه.
وقسم صادر عن غيره وحكاه القرآن.
وهذا القسم لا تكاد ترى فيه استفهاما حقيقيا إلا نادرا.
ومن صور الاستفهام الصادرة عن الله ما يأتى أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١٥). والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو إظهار فضل الله وتكريمه لمحمد ﷺ.
فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (١٦). والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو: الأمر، أى: انتهوا.
فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ (١٧).
والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو: التقرير.
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (١٨). والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو: التعجيز وإقامة الحجة لله على العباد.
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٩). والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو الحث والترغيب.
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (٢٠). والمعنى المجازى الذى خرج هو إيناس موسى ﵇.
مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ (٢١).
والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو الإنكار على المخاطب.
سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٢). والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو التسوية.
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٢٣).
والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو التقرير والإنكار معا بحسب جملتى الاستفهام.
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِنًا (٢٤).
والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو التعجيب.
(١٥) الشرح (١).
(١٦) المائدة (٩١).
(١٧) يونس (٣٢).
(١٨) التكوير (٢٦).
(١٩) القمر (١٧).
(٢٠) طه (١٧).
(٢١) البقرة (٢٥٥).
(٢٢) البقرة (٦).
(٢٣) الصافات (٦٢).
(٢٤) الفرقان (٤٥).
 
١ ‏/ ٤٥١
 
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (٢٥). والمعنى المجازى الذى خرج إليه هو التهويل. الخ.
أما النداء فهو من الأساليب الإنشائية الكثيرة الشيوع فى القرآن الكريم. وله ما للاستفهام من دور جليل الشأن فى أداءات البلاغة القرآنية، وقل أن تجد فيه نداء غير مستعمل فى المعانى المجازية، التى يقتضيها المقام.
وقد بلغت الأصناف التى نوديت فى القرآن أكثر من خمسة عشر صنفا شملت العاقل وغير العاقل.
ومن نداءات العاقل فى القرآن الكريم:
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ وهو أشرف نداءات القرآن الكريم ومثله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ ثم مناداة الرسل المفردة يا إِبْراهِيمُ- يا نُوحُ- يا عِيسى.
ويلى هذا النداء فى الشرف:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا- يا عِبادِيَ
ومن نداء غير العاقل فى القرآن الكريم قوله تعالى:
يا جِبالُ .. (٢٦)
يا أَرْضُ ... يا سَماءُ (٢٧)
يا أَيُّهَا النَّمْلُ (٢٨)
والمنادى فى القرآن الكريم باعتبار لفظه أربعة مجموعات (٢٩):
الأولى: نداء أفراد، مثل: يا آدم، يا إبراهيم، يا موسى.
الثانية: نداء مثنى، وهو نادر، مثل: يا صاحبى السجن.
الثالثة: نداء جماعات مخصوصة، مثل:
يا قوم- يا أيها الذين آمنوا، يا أيها الملأ، يا أيها الذين هادوا.
الرابعة: نداء جماعات عامة شاملة، مثل:
يا أيها الناس، يا بنى آدم.
ولكل مجموعة من هذه المجموعات الأربعة غرض خاص يناسب نداءها فى دقة وإحكام.
فمثلا يا أَيُّهَا النَّاسُ يأتى عقب ندائها أمر عام يشمل جميع أفراد المنادى. كما جاء فى مطلع سورة «النساء»
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ لأن المخاطبين بالنداء- هنا- ينطبق عليهم هذا الوصف أعنى الخلق من نفس واحدة.
وكذلك ما جاء فى مطلع سورة الحج: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا
(٢٥) الفيل (١).
(٢٦) سبأ (١٠).
(٢٧) هود (٤٤).
(٢٨) النمل (١٨).
(٢٩) عبد المتعال الصعيدى.
 
١ ‏/ ٤٥٢
 
أَرْضَعَتْ فالناس كلهم مطالبون بتقوى الله (التكليف) وهم كلهم سيرون أهوال القيامة أما نداء الذين آمنوا فلا يأتى بعده إلا أمر خاص بالإيمان، وتابع له. مثل قوله تعالى
فى مطلع سورة «الحجرات»
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
فالتزام الأدب والإذعان بين يدى الله ورسوله أمر خاص بالمؤمنين.
ونداءات القرآن، وبخاصة ما كان صادرا عن الله ﷿، خرجت إلى معنى مجازى غير طلب الإقبال المادى الحسى. وهذا هو مكمن البلاغة فى نداءات القرآن الكريم.
فمثلا قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى المراد منه الإقبال الذهنى المعنوى. لتنفرغ أنفس المنادين من كل الشواغل لتلقى ما يتلى عليها فتعيه أكمل وعى. وهكذا كل معانى القرآن الكريم من نداءات.
د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
المصادر والمراجع:
 
١ ‏/ ٤٥٣
 
الإطناب
من معانى الإطناب فى اللغة: الإكثار والتطويل، والمبالغة فيما أخذ فيه المرء، ومثله الإسهاب. أما اصطلاح علماء المعانى، فإن ما قالوه فى الإطناب لا يخرج عن معانيه فى اللغة، التى تدور حول كثرة الكلام باعتبار المقام الوارد فيه الكلام، والمعانى التى تراد منه، لا مجردا عن هذه القيود.
فالإطناب- عموما- المبالغة فى النطق والوصف، مدحا كان أو ذما، وأطنب فى الكلام بالغ فيه وأطنب فى الوصف إذا بالغ واجتهد.
وأطنب فى الكلام أيضا إذا أبعد. وأطنب الإبل إذا اتبع بعضها بعضا (١).
والإطناب فى الاصطلاح البلاغى له اعتبارات وخصوصيات تميزه عن مفهوم الإطناب بالمعنى اللغوى العام.
فالمعنى اللغوى يعتمد على مقياس الزمن الذى يستغرقه الكلام طولا وقصرا. أما فى الاصطلاح البلاغى فإن منزع الإطناب يحصل من المقارنة بين الكلام وبين المعانى المرادة منه، سواء طال زمن الكلام أو لم يطل.
لذلك فإنهم فرّعوا على تعريفهم للإطناب صورا ذوات خصوصيات دقيقة، ومعايير فنية محددة أما تعريف الإطناب عندهم، فقد عرفه الإمام أبو يعقوب السكاكى بقوله: «هو تأدية المعنى بأكثر من متعارف الأوساط» (٢).
ويقصد ب «متعارف الأوساط» الحديث اليومى الذى يجرى بين الناس فى تعاملاتهم، وهو عنده لا يمدح ولا يذم (٣).
وفى الواقع نجد الإطناب أحد أوصاف ثلاثة للكلام عموما:
فهو إما أن يكون اللفظ مساويا لمعناه وإما أن يكون اللفظ ناقصا عن معناه غير مخل وإما أن يكون اللفظ زائدا على معناه لفائدة وعرفه ابن الأثير ممثلا له فقال.
«هو زيادة اللفظ على المعنى لفائدة (٤)» وقال: إن الإطناب يكون بالحقيقة، ويكون بالمجاز، مثل:
«ذقته بفمى» فإن كلمة «بفمى» إطناب لأن الإذاقة لا تكون إلا بالفم.
وأما الزيادة (الإطناب) بالمجاز فكقوله تعالى: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٥).
لم يبين ابن الأثير جهة التجوز التى حصل
(١) اللسان، ترتيب القاموس، مادة: طنب.
(٢) مفتاح العلوم (١٣٢).
(٣) شرح التلخيص (٢/ ١٥٩) وما بعدها.
* الطول (٢٨٢).
* الأطول (٢/ ٣٢).
* التلخيص (٢٠٩).
(٤) المثل السائر (٢/ ١٢٨/ ١٥٩).
(٥) الحج (٤٦).
 
١ ‏/ ٤٥٤
 
بها الإطناب ولعله أراد أن الاستدراك فى وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ أن فِي الصُّدُورِ إطناب، لأن المعروف أن القلوب لا تكون إلا فى الصدور، فإن كان أراد هذا فقد جانبه الصواب؛ لأن هذه العبارة لا مجاز فيها.
وإن أراد إثبات عمى القلوب، فهو مجاز حقا، ولكن الجملة الاستدراكية، هذه ليست إطنابا، لأنها أدت معنى جديدا كل الجدة.
ومن صور الإطناب فى القرآن الكريم قوله تعالى: قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (٦).
جاءت هذه العبارة جوابا عن سؤال الله موسى ﵇ وهو أعلم-: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى وقد تحقق الجواب بقوله:
هِيَ عَصايَ وكان يكفى أن يقول عَصايَ بدون ذكر هِيَ وبدون ذكر أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى.
وبلاغة هذا الإطناب أن موسى ﵇ زادت رغبته فى التمتع بحديثه مع الله ﷿.
ومن صور الإطناب فى القرآن الكريم- كذلك قوله تعالى:
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (٧).
لأن كلمة الْمُسْتَقِيمَ كافية فى بيان المراد فجاء ما بعدها إطنابا، وبلاغة هذا الإطناب شدة الرغبة فى مقام المناجاة والدعاء فى حضرة الله ﷿، والتلذذ بخطابه.
هذا. والإطناب جنس عام فى بابه. تندرج تحته صور عدة، لكل صورة منها اسم خاص بها، وضوابط تميزها عن نظيراتها، ومعان بلاغية يقصدها البلغاء منها ومقامات تقتضى استخدام تلك الصور صورة صورة.
يأتى الحديث عنها تباعا فى الآتى.
أ. د./ عبد العظيم إبراهيم المطعنى
(٦) طه (١٨).
(٧) فاتحة، الكتاب (٦ - ٧).
 
١ ‏/ ٤٥٥
 
التّتميم
التتميم فن بديعى، وصورة من صور الإطناب كالاعتراض، والتذييل والإيغال، ومعناه فى اللغة زيادة الناقص ليكون تاما (١).
أما فى اصطلاح البلاغيين فله عدة تعريفات وضوابط وقد سماه قدامة بن جعفر ب «التمام (٢)» وسماه الحاتمى وآخرون ب «التتميم (٣)» وهو ما عليه جمهور البلاغيين (٤).
وسماه أبو هلال العسكرى: التتميم والتكميل، وغيره من البلاغيين لا يخلطون بين التتميم والتكميل، بل لكل منهما معنى خاص به.
ثم عرفه قائلا: وهو أن توفّى المعنى حقه، وتعطيه نصيبه من الصحة. ثم لا تغادر معنى فيه تمامه ألا تورده، أو لفظا يكون فيه توكيده ألا تذكره» وعرفه ابن أبى الأصبع فقال (٥):
«أن تأتى فى الكلام كلمة إذا طرحت من الكلام نقص معناه فى ذاته، أو فى صفاته.
وإن كان من الموزون نقص وزنه مع معناه، فيكون الإتيان بها- أى بالكلمة المسماة تتميما- لتتميم الوزن والمعنى معا» (٦).
وقد أخذ هذا التعريف وعدّله ابن حجة الحموى فى القرن الثامن الهجرى فقال:
التتميم هو «الإتيان فى النظم والنثر بكلمة، إذا طرحت من الكلام نقص حسنه ومعناه، وهو على ضربين:
ضرب فى المعانى، وضرب فى الألفاظ.
فالذى فى المعانى هو تتميم المعنى.
والذى فى الألفاظ هو تتميم الوزن، والمراد هنا تتميم المعنى. ويجيء- أى التتميم عموما- للمبالغة والاحتياط كقول طرفة:
فسقى ديارك- غير مفسدها- ... صوب الغمام وديمة تهمى» (٧)
فالتتميم يرد فى النثر والشعر معا.
وموضعه فى هذا البيت هو عبارة (غير مفسدها) وهى جملة حالية المراد منها الدعاء.
ومن أمثلته فى القرآن الكريم قوله تعالى:
مَنْ عَمِلَ صالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً (٨).
«فقوله مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى تتميم، وقوله وَهُوَ مُؤْمِنٌ تتميم ثان وبهذين التتميمين تم الكلام وجرى على الصحة» (٩).
(١) اللسان، وترتيب القاموس، مادة: تم.
(٢) نقد الشعر (٤٩).
(٣) حلية المحاضرة (١/ ١٥٣).
* المطول (٢٩٦).
* الأطول (٢/ ٤٧).
(٤) شروح التلخيص (٣/ ٢٣٥) مطبعة السعادة القاهرة ١٣٤٣ هـ.
* معترك الأقران (١/ ٢٦٩) دار الفكر العربى- القاهرة.
(٥) الصناعتين (٣٠٨) مطبعة محمود بك الآستانة ١٣٧٧ هـ.
(٦) بديع القرآن المجيد (٤٥) دار نهضة مصر- القاهرة ط أولى (١٩١٩ هـ).
(٧) خزانة الأدب (١/ ٢٧١) ط. أولى. دار ومكتبة الهلال بيروت ١٩٨٧ م.
(٨) النحل (٩٧).
(٩) بديع القرآن (٤٦).
 
١ ‏/ ٤٥٦
 
ومنه قوله تعالى:
وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (١٠)
فقوله تعالى عَلى حُبِّهِ «هو تتميم للمبالغة التى تعجز عنها قدرة المخلوقين» (١١).
والضمير فى حُبِّهِ يجوز عوده على الطعام، أى يطعمون الطعام مع شدة اشتهائهم إياه. وحاجتهم إليه لما بهم من جوع.
ويجوز عوده على «الله» ﷿، أى يطعمون الطعام لا رياء وإنما على حب الله ﷿. ويرجح هذا قوله بعد الآية المتقدمة.
إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُورًا ومن التتميم فى القرآن الكريم قوله تعالى: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِرًا (١٢).
فقوله تعالى: وَما كانَ مُنْتَصِرًا تتميم؛ لأن ما قبله إعلام بأن المتحدث عنه مقطوع عنه سبب النصر من خارج نفسه، وهذا لا يمنع أن يكون هو قادرا على نصر نفسه، فلما قال: وَما كانَ مُنْتَصِرًا تم المعنى المراد من جهتين:
الأولى: نفى نصر الأعوان.
الثانية: نفى نصر نفسه.
إذن، فلا هو منصور بأعوانه، ولا منصور قطعا سواء كان له أعوان، أو لم يكن.
ومنه قوله تعالى:
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها .. (١٣)
فكل من: يمشون بها- يبطشون بها- يبصرون بها- يسمعون بها .. من صور التتميم، لأن المراد من الاستفهام فى المواضع الأربعة النفى، أى لا أرجل لهم، ولا أيدى لهم، ولا
أعين لهم، ولا آذان لهم، ونفى وظائف هذه الأعضاء وإن كان مفهوما من نفى الأعضاء، فإن ذكر ما يختص بكل عضو منها تمم المعنى وحسّنه.
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
المصادر والمراجع:
(١٠) الإنسان (٨).
(١١) خزانة الأدب (٢٧٣).
(١٢) الكهف (٤٣).
(١٣) الأعراف (١٩٥).
 
١ ‏/ ٤٥٧
 
التّذييل
الذيل فى اللغة هو آخر الشيء، مأخوذ من ذيل أو ذنب الحيوانات ذوات الأربع، والحشرات الزاحفة، وذيّل فلان ثوبه، أى طوّله وجعل له ذيلا (١).
أما تعريفه فى اصطلاح علماء المعانى، فقد قال فيه أبو هلال العسكرى:
«للتذييل فى الكلام موقع جليل، ومكان شريف خطير لأن الحق يزداد به انشراحا، والمقصد اتضاحا وقال بعض البلغاء للبلاغة ثلاثة مواضع:
الإشارة والتذييل والمساواة ... فأما التذييل فهو إعادة الألفاظ المترادفة على المعنى بعينه حتى يظهر لمن لم يفهمه، ويؤكد عند من فهمه ... وينبغى أن يستعمل فى المواطن الجامعة، والمواقف الحافلة لأن تلك المواطن تجمع البطىء الفهم، والبعيد الذهن، والثاقب القريحة، والجيد الخاطر.
فإذا تكررت الألفاظ على المعنى الواحد، تأكد عند الذهن اللقن (الذكى) وصح للكليل البليد» (٢).
وذكر ابن حجة الحموى تعريفا للتذييل ارتضاه البلاغيون من قبله ومن بعده، وهو:
«أن يذيّل الناظم أو الناثر كلاما بعد تمامه وحسن السكوت عليه، بجملة تحقق ما قبلها من الكلام وتزيده توكيدا، وتجرى مجرى المثل بزيادة التحقيق؟؟ (٣).
يعنى أن التذييل صورة من صور الإطناب لأنه يفيد تقرير معنى ما قبله وتزيده وضوحا وموقف البلاغيين- عموما- لم يختلف عما ذكره الحموى من مفهوم التذييل (٤).
والتذييل كثير الورود فى القرآن الكريم، فى فواصل الآيات، التى هى معاقد المعانى فيها.
وكان البلاغيون قد قسموا التذييل قسمين:
أحدهما ما يجرى مجرى المثل.
والثانى، ما لا يجرى مجرى المثل، وكلاهما ورد فى القرآن الكريم.
فمن القسم الأول قوله تعالى:
وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقًا (٥).
فالجملة الأخيرة إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقًا هى التذييل. فيها تقرير وتوكيد لمعنى الكلام الذى قبلها. وهى جارية مجرى
(١) اللسان، وترتيب القاموس، مادة: ذيل.
(٢) الصناعتين (٢٩٤).
(٣) خزانة الأدب (١/ ٢٤٢).
* المطول (٢٩٤).* الأطول (٢/ ٤٥).* شرح عقود الجمال (٧٤).
(٤) شروح التلخيص (٣/ ٢٣٥).
(٥) الإسراء (٨١).
 
١ ‏/ ٤٥٨
 
المثل. ومعنى جريانها مجرى المثل، أنه يصح ذكرها فى المقام الذى يستدعيها، دون افتقارها إلى الاعتماد على ذكر ما قبلها.
ومنه قوله تعالى:
ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ (٦) فجملة وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ تزييل مؤكد ومقرر لمعنى ما قبلها ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وهو جار مجرى المثل السائر، فيقال: وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ- دون أن يفتقر إلى ما قبله.
وقد يأتى التذييل فى القرآن الكريم فى غير الفواصل ومنه قوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧) فى هذه الآية تذييلان:
الأول: وقع فى درج الكلام لا فى الفاصلة، وهو وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ.
والثانى: وقع فى الفاصلة وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وفى كلا التذييلين تقرير لمعنى ما تقدم عليه، وتوكيد له.
ومن التذييل فى القرآن الكريم قوله تعالى:
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ (٨).
لأن فى الآية الأولى وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ حكما عاما شاملا لزوال كل البشر، فجاءت الآية الثانية:
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ مؤكدة لذلك المعنى، ومقررة له. وهى ليست فاصلة بل هى آية قائمة بذاتها. فمجيء التذييل فى الفواصل أغلب لا مطرد.
وهو تذييل جار مجرى المثل، لصحة ترديده دون الافتقار إلى ما قبله.
ومن التذييل غير الجارى مجرى المثل قوله تعالى: وَلُوطًا آتَيْناهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٩).
فقوله إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ تذييل غير جار مجرى المثل، مؤكد لمعنى الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ ومقررة له وهو كثير فى فواصل الآيات.
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
(٦) سبأ (١٧).
(٧) التوبة (١١١).
(٨) الأنبياء (٣٤).
(٩) الأنبياء (٧٤).
 
١ ‏/ ٤٥٩
 
التّكرار
التكرار فى اللغة تدور معانيه حول الإعادة، ويكون فى الأفعال كتكرار الزيارة ونحوها، ويكون فى الأقوال وهو إعادة الكلمة، أو الكلام مرتين أو أكثر، وهو المقصود لنا هنا؛ لأن التكرار فن يمارسه المتكلمون كثيرا فإذا دعت إليه حاجة، كان حسنا مقبولا، وإذا لم تدع إليه حاجة، ولم يفد فائدة جديدة كان عيبا مذموما وهو من الأساليب الشائعة فى اللغة العربية، وفى غيرها من اللغات.
وقد عرّفه الفرّاء العالم اللغوى بقوله:
«والكلمة قد تكررها العرب على التغليظ والتخويف (١)» وسماه أبو عبيدة مجاز التكرار (٢).
وعرض له الإمام الخطابى فقال:
«تكرار الكلام على ضربين:
مذموم وهو ما كان مستغنيا عنه، غير مستفاد به زيادة معنى لم يستفد من الكلام الأول، لأنه حينئذ يكون فضلا- يعنى فضلة- من القول ولغوا، وليس فى القرآن شىء من
هذا النوع.
والضرب الآخر- يعنى الممدوح- ما كان بخلاف هذه الصفة، فإن ترك التكرار فى الموضع الذى يقتضيه وتدعو الحاجة إليه، فيه إخلال بالبلاغة، مثل تكلف الزيادة فى وقت الحاجة إلى الحذف والاختصار، وإنما، يحسن فى الأمور المهمة، التى قد تعظم العناية بها، ويخاف بتركه وقوع الغلط والنسيان فيها، والاستهانة بقدرها» (٣).
وهو من الأساليب التربوية، لأن الكلام إذا تكرر تقرر فى الذهن.
وقد ورد التكرار فى القرآن الكريم بكثرة لخدمة المعانى وتوكيدها، ولوروده فى القرآن دواع بلاغية متفاوتة، ومزايا فنية آسرة. وله صور يأتى فيها منها:
* تكرار الأداة مثل «إن» و«ثم»
* تكرار الكلمة، مثل «أولئك».
* تكرار الجملة، مثل فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ.
* تكرار الأوامر والنواهى، فى العبادات والمعاملات وغيرهما.
* تكرار القصة (٤).
(١) معانى القرآن الكريم للفراء (٣/ ٢٨٧) وينظر (١/ ١٧٧).
(٢) مجاز القرآن (١/ ١٢).
(٣) بيان إعجاز القرآن الكريم (٤٧) ضمن ثلاث رسائل فى إعجاز القرآن ط: دار المعارف- القاهرة. الطبعة الرابعة.
(٤) خصائص التعبير فى القرآن الكريم وسماته البلاغية (القسم الأول) مكتبة وهبة- القاهرة.
 
١ ‏/ ٤٦٠
 
ولم يخل موضع واحد من مواضع التكرار فى القرآن الكريم من فائدة عظيمة، وسر بلاغى من أجله كان التكرار، من ذلك:
* تأكيد الإنذار فى قوله تعالى:
كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥).
* تأكيد الإنكار، مثل قوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.
وقد تكررت هذه العبارة فى سورة الرَّحْمنُ واحدة وثلاثين مرة، بعد تعديد نعم الله على الثقلين الإنس والجن ومع كثرة تكرارها تجد لها حلاوة فى السمع، ووقعا فى النفس، وحياة فى القلب.
* تأكيد التعجيب من صنع الله ﷿ بالمكذبين الضالين فى قوله ﷿:
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٦).
* تأكيد التنبيه وزيادته، كما فى قوله تعالى:
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ (٧).
كرر يا قَوْمِ مؤكدا لهم هدايته إليهم سبيل الرشاد وقد تضمن هذا التكرار الإشارة إلى فناء الدنيا وفناء ما فيها من لذائذ ومشتهيات.
وقد يكرر اللفظ لطول الكلام مع زيادة التوكيد كما فى قوله تعالى:
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٨).
فقد تكرر فى هذه الآية العبارات الآتية:
إِنَّ رَبَّكَ وقد تقدمت فى صدر الآية.
بَعْدِها وقد تقدم عليها قوله مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وأفاد هذا التكرار فائدتين:
الأولى: تكرار التأكيد، ومن دواعى التأكيد مقامات الوعد والضمان.
الثانية: طول الفصل بين «إن» واسمها، وبين خبرها، وهو لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.
* وقد يأتى التكرار لتفظيع وتهويل ما اقترفه المتحدث عنهم، كما فى قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (٩).
هذا التكرار المتواصل فى الآية، فيه تفظيع لما كان يقترفه المنافقون من التذبذب بين الإيمان والكفر، ثم إيثارهم الكفر على الإيمان فى عاقبة أمرهم فى الحياة الدنيا.
(٥) التكاثر (٣ - ٤).
(٦) القمر (١٦).
(٧) غافر (٣٨ - ٣٩).
(٨) النحل (١١٩).
(٩) النساء (١٣٧).
 
١ ‏/ ٤٦١
 
أما التكرار فى القصة القرآنية فأسراره البلاغية لا تحصر، ويكفى أن نشير إلى ملامح عامة جاء التكرار فى إطارها.
فأولا: لم تكرر قصة فى موضعين أو أكثر على نمط واحد قط.
وثانيا: يتراوح تكرار القصة القرآنية بين الطول والقصر.
وثالثا: كل صورة ترد عليها القصة المكررة تحمل جديدا فى الصياغة والمعنى لم يرد فى غيرها.
ورابعا: كل نمط من أنماط التكرار مناسب للمقام الذى ورد فيه.
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
المصادر والمراجع:
 
١ ‏/ ٤٦٢
 
التّكميل
التكميل صورة أخرى من صور الإطناب، قريب الشبه بالإيغال والتتميم، ولقرب التشابه بينها يمكن أن يصلح مثال واحد للاستشهاد على كل منها.
والتكميل لغة زيادة الشيء حتى يبلغ النهاية، والكامل ضد الناقص وفوق التام.
فالشىء يكون ناقصا، ثم يصير بعد النقص تاما، ثم يصير كاملا بحيث لا يقبل الزيادة (١).
أما تعريف التكميل فى اصطلاح البلاغيين، فتتعدد عباراته ويتقارب أو يتوحد معناه، ومن تلك التعريفات عرّفه الباقلانى فقال:
«ومن البديع التكميل والتتميم، وهو أن يؤتى بالمعنى الذى بدأ به بجميع المعانى المصححة المتممة لصحته المكملة لجودته من غير أن يخل ببعضها، ولا أن يغادر شيئا منها» (٢).
وقال التبريزى:
«التكميل أن يذكر الشاعر المعنى، فلا يدع من الأحوال التى تتم بها صحته، وتكمل شيئا إلا أتى به (٣)» أما ابن أبى الأصبع فعرفه بقوله:
«أن يأتى المتكلم أو الشاعر بمعنى من معانى المدح أو غيره من فنون الشعر وأغراضه، ثم يرى مدحه والاقتصار على ذلك المعنى فقط غير كامل فيكمله بمعنى آخر» (٤) وقال الخطيب القزوينى:
«الإطناب بالتكميل أو الاحتراس هو أن يؤتى فى كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفعه ...» (٥) وهذا التعريف هو أوجز هذه التعريفات وأحكمها وقد قسم فيه التكميل قسمين، فقال:
«وهو ضربان: ضرب يتوسط الكلام كقول طرفة:
فسقى ديارك- غير مفسدها- ... صوب الربيع وديمة تهمى
وضرب يقع فى آخر الكلام، كقوله تعالى:
فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ (٦).
ثم قال مبينا موضع التكميل:
(١) اللسان، وترتيب القاموس، مادة: كمل.
(٢) إعجاز القرآن الكريم (١٦٠) طبعة قديمة.
(٣) الوافى (٣٧٤).
(٤) بديع القرآن (١٥١).
(٥) الإيضاح (٢٠٢) طبعة قديمة.
(٦) المائدة (٥٤).
 
١ ‏/ ٤٦٣
 
«فإنه لو اقتصر على وصفهم بالذلة على المؤمنين لفهم أن ذلتهم لضعف، فلما قال:
أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ علم أنها تواضع منهم لهم. ومن أمثلته فى القرآن الكريم، ولم يذكرها الخطيب قوله تعالى:
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ (٧).
وهذا عكس الأول. لأن فيه استدراكا من ضعف أما هذا ففيه استدراك من قسوة، لأنه لو لم يذكر رُحَماءُ بَيْنَهُمْ لوقع فى بعض النفوس وهم أنهم قساة فى التعامل. ولكن لما قال: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ علم أن مبعث شدتهم هو عدم موالاتهم لأهل الكفر وبخاصة أن الكفار فى عصر نزول القرآن كانوا شديدى القسوة على المؤمنين، فعاملهم المؤمنون بالمثل.
ويجوز أن يكون التكميل هو الأول، فيكون من الاستدراك من الضعف، يعنى أنهم يستعملون الشدة فى مواضع الشدة، ويستعملون اللين فى مواضع اللين.
وقال ابن أبى الأصبع: «ومن أحسن ما جاء فى هذا الباب وأنصعه قوله تعالى:
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (٨).
قال: «فإن المعنى قد تم عند قوله:
ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ لكن يبقى على ظاهر الآية إشكال من جهة أن الضعيف إذا سمع قوله بعد حكاية التكذيب لنبيه أمر نبيه أن يقول: إن ربهم ذو رحمة واسعة، مقتصرا على ذلك، يتوهم أن رحمته لسعتها ربما شملت من كذب نبيه، فاحترس من هذا الاحتمال، بما جاء به مكملا للمدح بالانتقام من الأعداء، كما يمدح- يعنى الله- بالرحمة للأولياء فقال:
وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ فجعل الوعيد للمكذبين، بعد تقديم الوعد للمصدقين، فإن البلاغة توجب أن تكون الرحمة الموصوفة بالسعة للمحسنين ليقابل ذلك قوله:
وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (٩)
وهذا توجيه سديد، وفهم ثاقب لدقائق كتاب الله العزيز، وروائع أسراره.
وبمثل هذا التوجيه السديد وجّه المؤلف قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ (١٠) قال:
فإن التكميل أتى فى هذه الآية بعد صحة التقسيم لأن الكذب .. على قسمين:
قسم مطلق، وقسم مقيد، فالمطلق قوله
(٧) الفتح (٢٩).
(٨) الأنعام (١٤٧).
(٩) بديع القرآن (١٤٤).
(١٠) الأنعام (٩٣).
 
١ ‏/ ٤٦٤
 
تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا والمقيد قوله تعالى: أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ .. ثم المقيد أيضا على قسمين فى هذه الآية:
قسم كذب الكاذب فيه على الله سبحانه، وقسم كذب الكاذب فيه على نفسه:
فالأول أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ والثانى قوله سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ ولو وقع الاقتصار على قوله أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ لكان المعنى المراد تاما ..
لكن الله كمله بقوله: وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ (١١).
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
المصادر والمراجع:
(١١) بديع القرآن (١٤٥).
 
١ ‏/ ٤٦٥
 
الاعتراض
من معانى الاعتراض فى اللغة الإعاقة والدفع، يقال اعترضه وعرض له: وقف فى طريقه، ومنعه من التقدم، وأعرض عنه:
انصرف عنه، وعرّضه: جعله عرضة لكذا، واعترض كذا: حال دونه (١).
وقد أكثر الأدباء والنقاد فى تعريفه، وفى تحديد معناه. وأوردوا فيه ما لم يوردوه فى فنون القول:
فبعضهم يسميه التفاتا. قال الحاتمى عن الالتفات: وقد سماه قوم الاعتراض (٢).
ونحا ابن رشيق هذا المنحى (٣).
أما ابن المعتز فكان أقرب القدماء إلى تحديد هذا المعنى إذ قال:
«ومن محاسن الكلام والشعر أيضا:
اعتراض كلام فى كلام لم يتم معناه، ثم يعود إليه فيتمه فى بيت واحد» (٤).
واستشهد عليه ببيت كثير عزة:
لو أن الباخلين- وأنت منهم- ... رأوك تعلموا منك المطالا
والاعتراض فى بيت كثير حصل بجملة:
«وأنت منهم» حيث جاءت معترضة بين كلامين متصلين معنى، وهما:
لو وأن واسمها، ثم جواب لو، وخبر أن.
وأصل الكلام: لو أن البخلاء رأوك تعلموا منك البخل والمراد من هذا الاعتراض العتاب والشكوى من الحبيبة إليها.
وفى القرن السادس الهجرى حسم الخطيب القزوينى الأمر فوضع للاعتراض تعريفا جامعا مانعا، قال فيه:
«هو أن يؤتى فى أثناء الكلام، أو بين كلامين متصلين معنى بجملة أو أكثر، لا محل لها من الإعراب لنكتة» (٥) وتابعه عليه من جاء بعده من البلاغيين، ومنهم شراح التلخيص (٦).
والاعتراض من الفنون البلاغية التى كثر ورودها فى القرآن الكريم، وأريد منه معان غاية فى الروعة والإحكام.
ومن ذلك قوله تعالى: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا
(١) اللسان، وترتيب القاموس لطاهر الزاوى، مادة: عرض.
(٢) حلية المحاضرة (١/ ١٥٧).
(٣) العمدة لابن رشيق (٢/ ٥٤).
(٤) البديع لابن المعتز (٥٩).
(٥) التلخيص (١١٦).
* البرهان فى علوم القرآن الكريم (٣/ ٥٦)
(٦) الطراز (٢/ ١٦٧).
* عروس الأفراح، لبهاء الدين السبكى (٣/ ٢٣٧).
* المطول (٢٩٦).
 
١ ‏/ ٤٦٦
 
فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٧).
فجملة وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ من كلام الله الخالص لا من كلامه المحكى عن امرأة عمران. وهى جملة اعتراضية، وسرها البلاغى الذى جىء بها من أجله دفع توهم غير المراد، حتى لا يقع فى فهم أحد أن قول امرأت عمران:
رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى إخبار منها لله بأمر هو لا يعلمه- حاش لله- بل إنها تعتذر إلى الله وتتحسر على عدم استطاعتها الوفاء بنذرها؛ لأنها نذرت أن تهب ما فى بطنها لخدمة بيت المقدس والذى يصلح لتأدية هذه الخدمة الذكور دون الإناث.
وقوله ﷿:
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (٨).
أصل الكلام هنا: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ... وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ ولو لم تأت الجملة الاعتراضية بين نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وبين وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ لتوهم متوهم، أو لادّعى متزندق أن الله- سبحانه كذّب قول المنافقين أن محمدا ﷺ رسول الله. وأن فى هذا نفى أن يكون محمد ﷺ رسولا من عند الله.
ولدفع ذلك التوهم، وقطع طرق ادعاء المتزندقين جىء بهذه الجملة الاعتراضية وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وقد تحول بها قول الله تعالى:
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ إلى فضح هؤلاء المنافقين، وأنهم يقولون بألسنتهم ما لم تعتقده قلوبهم.
أى هم كاذبون فى شهادتهم، لا من حيث أن محمدا ﷺ ليس رسولا من عند الله- ولكن من حيث أنهم لا يؤمنون بهذه الرسالة، التى أثبتها الله لمحمد بأقطع البراهين (٩).
وقوله تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ
(٧) آل عمران (٣٥ - ٣٦).
(٨) المنافقون (١).
(٩) الكشاف (٤/ ١٠٧).
 
١ ‏/ ٤٦٧
 
سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (١٠) فقوله:
سُبْحانَهُ- اعتراض بين المعطوف عليه:
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ وبين المعطوف:
وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ.
والمراد من هذا الاعتراض بلاغة هو تنزيه الله ﷿ عما نسبوه إليه اتباعا لأهوائهم وزيغ قلوبهم.
أ. د./ عبد العظيم إبراهيم المطعنى
(١٠) النحل (٥٧).
 
١ ‏/ ٤٦٨
 
الاستقصاء
الاستقصاء لغة: التتبع والإبعاد، وقصى فلان بعد. واستقصيت الأمر تتبعته حتى نهايته (١) والاستقصاء فى اصطلاح البلاغيين:
أن يتناول الشاعر (أو المتكلم) معنى فيستقصيه إلى أن لا يترك فيه شيئا لأحد يقوله من بعده (٢).
وتحدث عنه الإمام عبد القاهر الجرجانى، ومثّل له بكلامين من شعر ابن المعتز معناهما العام واحد، إلا أن أحدهما استقصى كل ما يمكن أن يقال فى هذا المقام أما الثانى فقد خلا من الاستقصاء، وترك لقائل آخر فيه مقالا (٣).
وليس الاستقصاء خاصا بالشعر، ولا بكلام الناس بل ورد منه نماذج كثيرة فى كتاب الله العزيز ذكر منها البلاغيون قوله تعالى: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٤).
ففي هذه الآية ضروب وألوان من الاستقصاء، هذا بيانها.
«وذلك أنه سبحانه بعد قوله جَنَّةٌ التى لو اقتصر على ذكرها لكان كافيا، لم يقف عند ذلك حتى قال فى تفسيرها مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لأن لفظة الجنة تطلق على أى شجر ساتر بظل ورقه الأرض فإذا قال مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ كان مصاب ربها «صاحبها» بها أعظم. ثم لم يقف عند ذلك. حتى قال سبحانه تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ متمما لوصفها بذلك.
ثم كمل وصفها بأن قال ﷿: فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ لأن وصفها بالنخيل والأعناب لا يكون به وصفا كاملا. فأتى بكل ما يكون فى الجنان ليشتد الأسف على إفسادها.
ثم قال فى وصف صاحب الجنة وَأَصابَهُ الْكِبَرُ ثم استقصى المعنى فى ذلك بما يوجب تعظيم المصاب بقوله بعد وصفه بالكبر وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ حتى وصف الذرية بالضعف، ثم ذكر استئصال تلك الجنة التى ليس لهذا
(١) لسان العرب مادة: قصا.
(٢) تحرير التحبير (٥٤٠) وبديع القرآن المجيد (٢٤٧).
(٣) أسرار البلاغة (١٥٢ - ١٥٣) ت: محمد رشيد رضا.
(٤) البقرة (٢٦٦).
 
١ ‏/ ٤٦٩
 
الذى أصابه الكبر، وليس لذريته الضعفاء غيرها بالهلاك في أسرع وقت، حيث قال:
فَأَصابَها إِعْصارٌ ... ولم يقتصر على ذلك الإعصار ... فقال فِيهِ نارٌ ثم لم يقف عند ذلك حتى أخبر سبحانه باحتراقها؛ لاحتمال أن تكون النار ضعيفة لا تفى باحتراقها لما فى الجنة من الأنهار ورطوبة الأشجار، فاحترس بقوله فَاحْتَرَقَتْ وهذا أحسن استقصاء وقع فى كلام، وأتمه وأكمله» (٥).
ومن صور الاستقصاء فى القرآن الكريم، ولم يذكره الأقدمون قوله تعالى:
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦).
فقد استقصت هذه الآية كل صفات الجلال والكمال والجمال لله ﷿.
وبلاغة الاستقصاء فى شموله للمعانى التى يقتضيها المقام والاستئثار بها، وسد كل فجوة يمكن أن تدع مقالا للاحقين. فهو الكلمة الأخيرة فى موضوعه.
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
(٥) بديع القرآن المجيد (٢٤٩ - ٢٥٠) ومعجم المصطلحات البلاغية (١٩٤) د. أحمد مطلوب.
(٦) آل عمران (٢٦).
 
١ ‏/ ٤٧٠
 
الإيضاح
ومن الإطناب فن يقال له الإيضاح، والإيضاح والتوضيح لغة: الكشف والإبانة- ورفع الغموض يقال: وضح الشيء وضوحا إذا ظهر وانكشف، وأوضحه ووضحه. أبانه وأظهره، وأزال ما به من غموض (١). ومنه:
الضحى؛ لأنه أول النهار بعد ذهاب الليل.
أما تعريف الإيضاح بلاغة، فقد عرفه ابن أبى الأصبع بقوله:
«هو أن يذكر المتكلم كلاما فى ظاهره لبس، ثم يوضحه فى بقية كلامه» (٢).
وتناقل البلاغيون عن ابن أبى الأصبع هذا التعريف كابن مالك (٣). والنويرى (٤)، والعلوى (٥)، والحموى (٦)، والسيوطى (٧)، والمدنى (٨).
وفرق ابن أبى الأصبع بين التفسير، وبين الإيضاح بأن التفسير البديعى هو تفصيل المجمل مثل:
ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر
أما الإيضاح فخاص برفع ما يظهر فى الكلام من لبس وإشكال فيه لفتا للذهن عند سماع الكلام.
والإيضاح ورد فى كتاب الله العزيز مرات، وكان له دلالات حكيمة، اقتضاها المقام، فمن ذلك قوله تعالى:
كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا (٩).
هذه الآية تتحدث عن نعيم أهل الجنة وطعامهم وأنهم يقولون كلما يرزقون طعاما.
هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ.
لكن كلامهم هذا الذى حكاه الله عنهم يثير فى نفس السامع تساؤلا فحواه:
هل طعام أهل الجنة نوع واحد يتناولونه فى كل وجبة لا يتغير؟ ومتعة الطعام فى تنوعه لا فى توحده؟!
ولكن لما قال ﷿:
وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا ارتفع ذلك التساؤل لأن هذه العبارة أفادت أن طعام أهل الجنة متنوع مختلف لكنه متشابه، فوضح الأمر؛ لذلك كان قوله سبحانه.
وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا إيضاحا؛ لأنه رفع الإشكال الذى ثار فى الذهن من قولهم:
(١) اللسان ومعاجم اللغة، مادة: وضح.
(٢) بديع القرآن (٢٥٩) وتحرير التحبير (٥٥٩).
(٣) المصباح (٩)
(٤) نهاية الأرب (٧/ ١١٩).
(٥) الطراز (٣/ ١٠١).
(٦) خزانة الأدب (٢/ ٣٨٣).
(٧) شرح عقود الجمان (١٤٠).
(٨) أنوار الربيع (٦/ ٣١).
(٩) البقرة (٢٥).
 
١ ‏/ ٤٧١
 
هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وهذا ملمح دقيق لطيف كما ترى.
ومن الإيضاح فى القرآن الكريم قوله تعالى:
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠).
هذا خطاب من الله لليهود وقت كان القرآن ينزل. وهو وقت خلا من أنبياء الله ﷿ إلا محمدا ﷺ.
كما أن اليهود الذين خاطبهم القرآن فى عصر النزول لم يقتلوا نبيا، وإنما الذى قتل الأنبياء هم آباؤهم الأقدمون.
لذلك كان فى قوله تعالى:
فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ إشكال، حاصله أن اليهود فى عصر الرسالة المحمدية لم يكن منهم قتل للأنبياء وإن كان منهم كفر برسالة خاتم النبيين ﷺ.
ولكن لما قال الله عقب هذا مِنْ قَبْلُ زال الإشكال واستقام التاريخ على سوقه وظهر أن الذى كان يقتل الأنبياء هم يهود الأمس لا يهود عصر نزول القرآن. وإنما واجه الله بهذه الجريمة غير فاعليها المباشرين، وهم يهود عصر الرسالة المحمدية، لأنهم راضون بما فعل أسلافهم، فصاروا مثلهم فى اقتراف هذه الجريمة النكراء.
ومن الإيضاح فى القرآن الكريم قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (١١).
لأن فى قوله تعالى وَأُولِي الْأَمْرِ إشكالا، لأنه يشمل كل ولاة الأمر، وإن كانوا من غير المؤمنين. وهذا لم يؤذن به فى الإسلام. فلما قال ﷿ مِنْكُمْ ارتفع الإشكال، وحصرت ولاية الأمر فى المؤمنين دون غيرهم من أولياء الأمر والسلاطين.
إذن معنى قوله مِنْكُمْ إيضاح كاشف لحقيقة المراد.
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
المصادر والمراجع:
(١٠) البقرة (٩١).
(١١) النساء (٥٩).
 
١ ‏/ ٤٧٢
 
الإيغال
الإيغال فى اللغة السير حتى النهاية، حسيا كان أو معنويا، ومن معانيه المبالغة فى الطلب حتى لا يترك شيئا يمكن الوصول إليه (١).
وأصله: الإوغال؛ لأنه من أوغل يوغل.
سكنت الواو بعد كسر فقلبت ياء، كأوحى إيحاء، وأوعز إيعازا. ومعناه الاصطلاحى عند البلاغيين مطابق لمعناه عند اللغويين، وقد مهد الأصمعى لإبراز هذا المعنى فكان سابقا فيه غير مسبوق، ولكنه لم يسمه بهذا الاسم (الإيغال) مع حومه حول معناه:
فقد ذكر قدامة بن جعفر أن أبا العباس محمد بن يزيد المبرد قال:
«حدثنى التوزى قال:
«قلت للأصمعى: من أشعر الناس؟
قال: من يأتى إلى المعنى الخسيس فيجعله بلفظه كبيرا أو إلى الكبير فيجعله بلفظه خسيسا، أو ينقضى كلامه قبل القافية، فإذا احتاج إليها أفاد بها معنى قال: قلت: نحو من؟ قال: نحو ذى الرمة حيث قال:
قف العيس فى أطلال مية فاسأل ... رسوما كأخلاق الرّداء المسلسل
فتم كلامه قبل «المسلسل» ثم قال:
المسلسل فأفاد شيئا- يعنى معنى جديدا.
ثم قال:
أظن الذى يجدى عليك سؤالها ... دموعا كتبديد الجمان المفصّل
فتم كلامه، ثم احتاج إلى القافية، فقال:
«المفصّل» فزاد شيئا» (٢).
ثم عرّفه قدامة بقوله: «الإيغال هو أن يأتى الشاعر بالمعنى فى البيت تاما، من غير أن يكون للقافية فى ما ذكره صنع، ثم يأتى بها- يعنى القافية- لحاجة الشعر إليها ليكون شعرا. فيزيد بمعناها فى تجويد ما ذكره فى البيت» (٣).
ومثّل له بقول امرئ القيس:
كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذى لم يثقب
(١) لسان العرب، وترتيب القاموس، مادة وغل.
(٢) نقد الشعر (١٩٤).
(٣) نفس المصدر.
 
١ ‏/ ٤٧٣
 
يريد أن الإيغال فى زيادة (لم يثقب) لأن المعنى تم بدونها- فزاد فيه شيئا.
وعرّفه أبو هلال نحو هذا التعريف، ذاكرا ما ذكره قدامة عن التوزى عن الأصمعى (٤).
أما ابن أبى الأصبع فقال:
«هو أن يستوفى معنى الكلام قبل البلوغ إلى مقطعه، ثم يأتى بالمقطع فيزيد معنى آخر، يزيد به وضوحا وشرحا وتوكيدا وحسنا» (٥).
ومن أمثلة الإيغال فى القرآن الكريم قوله تعالى:
إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٦) فإن قوله تعالى إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ إيغال أتى بعد تمام المعنى فى قوله وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ فزاد به معنى، وهو إثبات توليهم مدبرين حال الدعاء.
وفى ذلك توكيد لنفى الفهم عنهم من جهتين:
الأولى: الصمم الذى فى آذانهم.
الثانية: كونهم ولّوا فارين معرضين عن الداعى وكل جهة من الجهتين وافية بنفى الفهم عنهم.
ومن صور الإيغال فى القرآن الكريم قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٧) لأن قوله تعالى لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ إيغال بعد قوله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لأن أحسنية حكم الله لا يدركها إلا المؤمنون الموقنون.
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
(٤) الصناعتين (٣٠١).
(٥) بديع القرآن (٩٢).
(٦) النمل (٨٠).
(٧) المائدة (٥٠).
 
١ ‏/ ٤٧٤
 
الإيجاز
الإيجاز من أدق الأساليب وأكثرها حكمة، وأملئها بلاغة، وأوسعها خبرة، وأغزرها معنى، وهو شطر البلاغة، أو هو كل البلاغة كما يرى قوم من خبراء الأساليب، وصيارف الكلام.
ومعنى الإيجاز فى اللغة يدور حول الإقلال والاختصار من أوجز بمعنى اختصر، وأصله الإوجاز، سكنت الواو بعد كسر فقلبت ياء، والكلام الوجيز هو الخفيف، أو المختصر (١).
أما الإيجاز فى اصطلاح البلاغيين فيدور حول قلة الألفاظ مع كثرة المعانى، وكل تعريفاته فى علم المعانى تستهدف هذا الغرض.
فالإيجاز عند البلاغيين أحد أقسام الكلام الثلاثة وهى:
الإطناب بأنواعه، والمساواة، ثم الإيجاز، ولكل قسم من هذه الأقسام الثلاثة مقام يقتضيه، وحال تستدعيه، وإيقاع كل قسم في مقامه هو البلاغة وليس من البلاغة الإيجاز فى مقام الإطناب، ولا الإطناب فى مقام الإيجاز، ولا هما فى مقام المساواة ولا المساواة فى مقام أحدهما.
ولذلك قال أبو هلال العسكرى:
إن الإيجاز والإطناب يحتاج إليهما فى جميع الكلام ولكل نوع منه، ولكل واحد منهما موضعه. فالحاجة إلى الإيجاز فى موضعه، كالحاجة إلى الإطناب فى مكانه. فمن أزال التدبير فى ذلك عن وجهته واستعمل الإطناب فى موضع الإيجاز، واستعمل الإيجاز فى موضع الإطناب أخطأ» (٢).
وسماه الرمانى فقال:
«الإيجاز هو العبارة عن الغرض بأقل ما يمكن من الحروف» (٣).
وتابعه ابن رشيق ولم يزد عليه (٤).
وسماه ابن سنان الخفاجى ب «الإشارة» وعرّفه بقوله:
«هو أن يكون المعنى زائدا على اللفظ» (٥).
وقال الرازى:
«الإيجاز العبارة عن الغرض بأقل ما يمكن من غير إخلال» (٦).
وقال الزملكانى:
«هو إثبات المعانى المتكثرة باللفظ القليل» (٧).
(١) معاجم اللغة، مادة: ووجز.
(٢) الصناعتين (١٩٠).
(٣) النكت فى إعجاز القرآن (٧٠).
(٤) العمدة (١/ ٢٥٠).
(٥) سر الفصاحة (٢٤٣).
(٦) نهاية الإيجاز (١٤٥).
(٧) التبيان (١١٠).
 
١ ‏/ ٤٧٥
 
أما الخطيب القزوينى فقد عرف الإيجاز بقوله:
«تأدية المعنى الكثير فى لفظ قليل» (٨).
هذه التعريفات كلها، وغيرها كثير، لم تخرج عما أجملناه من قبل من أن الإيجاز فى الكلام: هو الدلالة على المعانى الكثيرة بألفاظ أقل منها، بشرط عدم الإخلال فى تأدية المعنى المراد.
والإيجاز، لما يحمل من دقائق وأسرار، كثر وروده فى القرآن الكريم، كثرة مستفيضة، ولم تخل منه آية، أو سورة من آيات القرآن الكريم، حتى فى المواضع التى اصطلح على وسمها بالإطناب أو المساواة تشتمّ فيها رائحة الإيجاز، لذلك نرى بعض الدارسين المحدثين يذهب إلى أن القرآن كله إيجاز، يستوى فى ذلك مواضع إطنابه، ومواضع مساواته، وأن كل معنى مصور على سبيل القصد، غير مائل فيه إلى الإسراف (٩).
وهذا نموذج توضيحى لفكرة الإيجاز فى كتاب الله العزيز وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ (١٠) هذه الآيات تحكى مشاهد من قصة يوسف ﵇ فى مصر. وقد شاع الإيجاز فى مواطن فيها نكتفى بذكر ما يأتى منها:
* حذف (أرى) فى وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ حيث لم يقل: وأرى سبع سنبلات.
واكتفى بذكر «واو العطف» فيها.
* حذف كلمة سبع فى قوله وَأُخَرَ يابِساتٍ حيث لم يقل: وسبع أخر يابسات.
مع ملاحظة حذف الفعل «أرى» مع حذف (سبع).
* حذف المسند إليه (المبتدأ) فى قالُوا أَضْغاثُ والتقدير: قالوا هذه الرؤيا أضغاث أحلام، مع ملاحظة حذف جملة، الرؤيا مع حذف المسند إليه.
* حذف المتعلق بالفعل فَأَرْسِلُونِ والتقدير: أرسلونى إلى يوسف فى السجن وهو فتى عالم بتفسير الأحاديث.
* حذف إذن الملك وأعوانه له بالذهاب إلى يوسف ﵇ والتقدير: فأذنوا له وأرسلوه إلى يوسف فى السجن.
(٨) التلخيص (١٠٦).
(٩) هو الدكتور محمد عبد الله دراز فى النبأ العظيم (١١١).
(١٠) يوسف (٤٣ - ٤٦).
 
١ ‏/ ٤٧٦
 
* حذف الكلام الآتى:
فذهب إلى يوسف فى السجن، فاستأذن الحراس فى الدخول عليه، وأخبرهم بالمهمة التى أذن له فيها الملك وأعوانه فاستوثقوا من صدق ما قال فأذنوا له بالدخول على يوسف فدخل ثم قال ليوسف. يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ
والذى يدل على هذا الكلام الكثير المحذوف هو طرفا الكلام المذكوران وهما:
فَأَرْسِلُونِ
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ
لأن بين هذين الطرفين تلازما طبيعيا فى الوجود الخارجى؛ لأنهم لو لم يأذنوا له ويرسلوه ما حدث قوله ليوسف ﵇.
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
 
١ ‏/ ٤٧٧
 
الإيجاز بالحذف
أجمع البلاغيون على تقسيم الإيجاز قسمين:
الأول: إيجاز الحذف، والثانى: إيجاز القصر.
وضابط إيجاز الحذف- عموما- عندهم، هو أن يكون فى الكلام لفظ ما محذوفا حذفا ظاهرا بحيث يدركه الناظر فى الكلام، وهو على درجات:
* أن يكون المحذوف حرفا من بنية الكلمة كالألف والياء.
* أن يكون المحذوف أداة من أدوات المعانى مثل فى ولا.
* أن يكون المحذوف كلمة مفردة اسما كانت أو فعلا.
* أن يكون المحذوف جملة اسمية أو فعلية.
* أن يكون المحذوف أكثر من جملة، مهما طال الكلام المحذوف.
ووضعوا للحذف شرطين لازمين:
أحدهما: أن يدعو إليه داع بلاغى يجعل الحذف أبلغ من الذكر.
الثانى: أن يكون فى الكلام بعد الحذف دليل يدل على المحذوف (١).
فإذا تخلف الشرط الأول سموا الحذف اعتباطا، أى خاليا من الحكمة. وإن وجد الشرط الثانى.
وإذا تخلف الشرط الثانى وحده سموا الحذف إجحافا أى ظلما وقع على الكلام وإن وجد الشرط الأول.
وإذا تخلف الشرطان معا سقط الكلام عن درجة البلاغة وصار نوعا من الهذيان.
- فحذف الحرف من بنية الكلمة يكثر فى القرآن الكريم فى ثلاثة أحرف:
هى الواو، والألف، والياء (٢)، وهذا يتضح من النماذج الآتية:
وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا (٣).
حذف «الواو» من الفعل يَدْعُ لغير علة صرفية أو نحوية والذى اقتضى حذفه هو الرمز إلى جهل الإنسان وسرعة دعائه طمعا فى الخير، وهو جاهل بعواقب الأمور (٤) والبلاغيون يسمون حذف الحرف من بنية الكلمة ب «الاقتطاع (٥)» ومنه قوله تعالى:
يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦)
فحذف «الواو» فى الآية لم يكن لعلة صرفية أو نحوية وإنما حذف رمزا إلى معنى
(١) شروح التلخيص (٢/ باب الحذف).
(٢) البرهان فى علوم القرآن.
(٣) الإسراء (١١).
(٤) البرهان (١/ ٢٩٨).
(٥) الصاحبى (٢٨٨) لابن فارس.
(٦) القمر (٦).
 
١ ‏/ ٤٧٨
 
لطيف، وهو أن هذا الدعاء أمر غيبى الآن، ولن يكون إلا يوم القيامة (٧).
أما حذف «الألف» من بنية الكلمة لغير علة صرفية أو نحوية فمنه قوله تعالى:
وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها (٨).
حذف .. الألف» من كلمة اسم والذى اقتضى حذفه الرمز إلى أن المضاف إليه أعظم الأسماء ومبدأ كل شىء، وهو الله ﷿ ويشترط لحذفه شروط.
- أن يكون مضافا إلى اسم الجلالة «الله» دون غيره من أسماء الله وصفاته، مثلك رب، فقد جاء معه مذكورا فى نحو: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ (٩).
- أن يكون مجرورا بحرف «الباء»
وكذلك حذف «الألف» فى قوله تعالى فى كل اسم أعجمى رمزا إلى أعجمية هذا الاسم مثل «إبراهيم» و«إسحاق» و«إسماعيل» حيث وردت فى كتاب الله العزيز وحذف «الياء» من كلمة «هادى» فى قوله تعالى: وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ (١٠).
وفى قوله تعالى: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ (١١) حذف «الياء» من (هادى) رمز به إلى أن فعل الهداية فى القلوب أمر يختص به الله دون غيره. أما فى «اتبعن» فحذف «الياء» رمزا إلى الهداية المعنوية غير الحسية. هذا الحذف (حذف الحرف فى بنية الكلمة) كثير جدا فى القرآن الكريم، وهو إحدى خصوصيات الرسم العثمانى للمصحف الشريف، واهتمام البلاغيين بهذا النوع من الإيجاز- وهو أول صور الإيجاز لقلة المحذوف من الكلمة الواحدة المفردة فيه- قليل، أما اهتمام الباحثين فى «علوم القرآن» فقد بلغ أقصى مدى.
فأبو عمرو الدانى كتب فيه فصولا مطولة، أحصى فيها مواضع هذا الحذف كلمة كلمة، فى سور القرآن كله، لكنه وقف عند حد الإحصاء، ولم يعلل لماذا كان الحذف إلا نادرا. وذلك فى كتابه «المقنع فى رسم مصاحف الأمصار» وأبو العباس أحمد بن محمد الأزدى المراكشى المعروف بابن البناء، المتوفى عام ٧٢١ هـ وضع فى الكشف عن أسرار
حذف الحروف وزيادتها فى كلمات القرآن كتابا سماه (عنوان الدليل فى مرسوم خط التنزيل) أبدع فيه وأمتع. وعنه أخذ الإمام بدر الدين الزركشى فى كتابه «البرهان فى علوم القرآن. وكذلك الإمام جلال الدين السيوطى فى كتابه المعروف ب «الإتقان فى علوم القرآن»
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
المصادر والمراجع:
(٧) البرهان (٣٨٨).
(٨) هود (٤١).
(٩) الواقعة (٧٤).
(١٠) الروم (٥٣).
(١١) آل عمران (٢٠).
 
١ ‏/ ٤٧٩
 
الإيجاز بحذف الأداة
الإيجاز بحذف الأداة يأتى فى الدرجة الثانية لصور الإيجاز بالحذف، بعد الإيجاز بحذف أحد حروف الكلمة؛ لأننا نسير هنا مع الإيجاز سيرة تصاعدية.
والمراد بالأداة التى يترتب على حذفها نوع ما من الإيجاز هى أحرف المعانى، التى تؤدى معنى فى الجملة ولا تستقل هى بدلالة محددة مفيدة، والأدوات العاملة فى غيرها من الأسماء والأفعال، وفى عبارة أشمل، ما لا يظهر له معنى يحسن السكوت عليه إلا بعد انتظامها فى الجمل والتراكيب.
ومن الإيجاز بحذف الأداة فى القرآن الكريم قوله تعالى:
قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (١)
ففي هذه الآية إيجاز بحذف الأداة، وهى «لا» النافية قبل الفعل تَفْتَؤُا وهو جواب القسم تَاللَّهِ ويدل على حذفها أمران:-
الأول: أنه لو كان تَفْتَؤُا مثبتا لوجب اقترانه بلام الابتداء ونون التوكيد (٢). ولقيل فيه: (لتفتأنّ) فخلوه من لام الابتداء والتوكيد بالنون دليل على أنه منفى، ونفيه حاصل ب «لا» المحذوفة.
الثانى: أن زال وتفتأ وبرح وانفك لا تعمل عمل «كان» إلا باعتمادها على النفى، وأم الباب فيه هى «لا» ومثله فى حذف هذه الأداة «لا» قول امرئ القيس، حين أمرته امرأة كان يهواها وهو فى زيارة لها فأمرته بالخروج خشية الفضيحة، فقال لها:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطّعوا رأسى لديك وأوصالى
أما الداعى البلاغى للحذف فى الآية الكريمة، فهو ضيق المقام عند جلساء يعقوب ﵇، من كثرة ذكره ليوسف ﵇، والشعور بالضيق سبب من أسباب الحذف واختصار الكلام.
أما الداعى للحذف فى بيت امرئ القيس، فهو كما ترى تحرى استقامة الوزن الشعرى أولا ثم ضيق المقام ثانيا.
ومن الإيجاز بحذف الأداة فى القرآن الكريم قوله تعالى:
(١) يوسف (٨٥).
(٢) الدر المصون للسمين الحلبى (٦/ ٥٤٦).
 
١ ‏/ ٤٨٠
 
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ (٣)
وموطن الحذف فى الآية هو: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ والأداة المحذوفة هى «فى» قبل أَنْ وبعد تَرْغَبُونَ.
لأن فعل الرغبة يعدّى ب «فى» إذا كانت الرغبة مطلوبة، ويعدّى ب «عن» إذا كان المقام مقام زهد فى الرغبة ومقام إعراض عنها.
يقال رغبت فى كذا، أى أحببته، ورغبت عن كذا، إذا أعرضت عنه وزهدت فيه.
أما الداعى البلاغى لحذف الأداة هنا، وهى «فى» فهو الرمز إلى شدة رغبتهم فى نكاح يتامى النساء المتحدث عنهن فى هذه الآية.
وقد أشير بهذا الحذف إلى أنهم يرغبون فى سرعة الوصول إلى نكاحهن بدون أية عوائق تعترض طريقهم إليه.
وحذف «فى» يرمز إلى هذه الدلالة البالغة اللطافة.
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
(٣) النساء (١٢٧).
 
١ ‏/ ٤٨١
 
الإيجاز بحذف الكلمة المفردة
وهذه هى الدرجة الثالثة صعودا فى صور الإيجاز بالحذف، وضابطها أن المحذوف فيها كلمة مفردة: اسما أو فعلا، ليست حرفا من بنية الكلمة، ولا أداة لها دلالة فى الجملة.
ولهذه الصور ورود ملحوظ فى كلام العرب، وفى القرآن الكريم.
فمن وروده فى كلام العرب قول ابن مطروح:
لا انتهى، لا انثنى، لا ارعوى ... ما دمت فى قيد الحياة، ولا إذا
أى: ولا إذا مت، فحذف الفعل «مت» وهي كلمة مفردة (١) والذى دل عليها قوله قبلها «فى قيد الحياة» أما الداعى إلى حذفها فهو استقامة الوزن الشعري أما فى القرآن الكريم فمن أمثلة هذا النوع من الإيجاز قوله تعالى:
وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنًا (٢) وموطن الإيجاز فى الآية هو:
اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ لأن الفاء فى فَانْفَجَرَتْ عاطفة على محذوف، والتقدير: فضرب فانفجرت (٣).
وذلك لأن الله جعل ضرب الحجر بالعصى سببا فى تحقيق رغبة موسى لسقى قومه.
وانفجار الماء من الحجر اثنتى عشرة عينا دليل قاطع على حصول الضرب، لأنه لو لم يضرب الحجر بعصاه- كما أمره الله، لم يحصلوا على الماء.
هذا هو دليل الحذف، وهو التلازم الطبيعى بين الطرفين:
الضرب وانفجار الماء؛ لأنهما سبب ومسبب. أما الداعى البلاغى لحذف ضرب فهو إظهار كمال النعمة على بنى إسرائيل (قوم موسى الذين استسقى لهم الله ﷿، حتى لكأن الماء تفجر بدون ضرب.
ومنه فى القرآن الكريم قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (٤) ففي الآية إيجاز بحذف كلمة مفردة بين الْعِجْلَ وبين سَيَنالُهُمْ
(١) خزانة الأدب (٢/ ٢٨٢).
(٢) البقرة (٦٠).
(٣) الكشاف (١/ ٢٨٤).
(٤) الأعراف (١٥٢).
 
١ ‏/ ٤٨٢
 
غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ والتقدير: اتخذوا العجل إلها (٥).
ودليل الحذف فيها أن مطلق اتخاذ العجل لا يستوجب غضب الله وإذلاله إياهم، فقد يكون اتخاذه للأكل وهذا حلال لا معصية فيه، فتعين أن يكون اتخاذهم العجل معبودا من دون الله؛ لذلك استحقوا هذا الوعيد الشديد ....
أما الداعى البلاغى الذى اقتضى هذا الحذف فهو ذو دلالة عميقة ولطيفة، حاصلها أن اتخاذ العجل إلها ينبغى أن لا يكون عقيدة قوم، وألا يكون معمولا للاتخاذ حتى فى مجرد اللفظ، فحذفه من الكلام رمز لطيف على استبعاده من الوجود.
ومن مواضع هذا الإيجاز فى القرآن الكريم قوله تعالى:
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦).
فى الآية الكريمة موضعان للإيجاز بحذف الكلمة المفردة، يظهران من التقدير الآتى:
خلطوا عملا صالحا بسيئ، وآخر سيئا بصالح ودليل الحذف هنا عطف وَآخَرَ سَيِّئًا على خَلَطُوا عَمَلًا صالِحًا إذ ليس المقصود أنهم خلطوا عملا بآخر سيئ، بل المراد أن لهم عملين:
* عمل صالح خلطوه بسيئ أقل منه، وعمل سيئ خلطوه بقليل من الصلاح ولو كان المراد المعنى الأول لقيل: خلطوا عملا صالحا بآخر سيئ. فدل العطف على المحذوف فى الموضعين.
أما الداعى البلاغى للحذف فى الموضعين فلتحقيق فضيلة الإيجاز، وهو استثمار أقل ما يمكن من الألفاظ، فى أكثر ما يمكن من المعانى. وفى ذلك يقول ابن مالك فى ألفيته:
وحذف ما يعلم جائز كما ... تقول زيد بعد من عندكما
ومن هذا النوع من الإيجاز فى كتابه العزيز قوله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْنانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٧)،ففي الآية الكريمة إيجاز بحذف كلمة «البرد» بعد كلمة الْحَرَّ والتقدير: وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر والبرد (٨).
ودليل الحذف أن هذه السرابيل فى الواقع تحمى الناس من الحر والبرد معا، وإنما أوتر
(٥) أنوار الربيع (٣/ ٧٢).
(٦) التوبة (١٠٢).
(٧) النحل (٨١).
(٨) أنوار الربيع (٣/ ٧٢).
 
١ ‏/ ٤٨٣
 
ذكر الحر على البرد لأن الحر أكثر إيلاما من البرد، ولأن البرد يمكن الاحتياط منه بخلاف الحر.
والبلاغيون يسمون هذا النوع من الإيجاز ب «الاكتفاء» وعرفوه بقولهم:
«هو أن يقتضى المقام ذكر شيئين بينهما تلازم وارتباط فيكتفى بأحدهما عن الآخر لنكتة» (٩).
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
(٩) أنوار الربيع (٣/ ٧١).
 
١ ‏/ ٤٨٤
 
الإيجاز بحذف التّراكيب
هذا النوع من الإيجاز هو أعلى درجاته وصوره؛ لأن المحذوف فيه أكثر من الجملة، الواحدة، فقد يكون المحذوف جملتين أو ثلاثا أو أكثر.
وله حد أدنى، وهو حذف جملتين، وأما حده الأعلى فغير منضبط فى عدد معين من الجمل أو التركيب، وبعض البلاغيين يسمى صور الجمل التى يعتريها الحذف أنها جمل ذكرها غير مفيد؛ لأن معناها يدرك وهى محذوفة فيكون ذكرها غير محتاج إليه (١).
وهذا النوع من الإيجاز له ورود مستفيض فى القرآن الكريم، ومن ذلك قوله تعالى:
قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (٢). القائل: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ هو مريم رضى الله عنها حين بشرها الملك بعيسى ﵇، وقد اشتملت هذه الآية على إيجاز بالحذف، كان المحذوف فيه جملتين.
لأن قوله تعالى: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا تعليل معلله محذوف، أو سبب مسببه محذوف والتقدير:
«فعلنا هذا وقدرناه لنجعله آية للناس.
ودليل الحذف هو ذكر السبب، وهو يقتضى مسببا؛ لأن بين السبب والمسبب تلازما فى الوجود، وذكر أحدهما يدل على الآخر المحذوف.
أما الداعى البلاغى، فهو- كما تقدم مرات- إحكام العبارة ونفى الفضول عنها ومن ذلك قوله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا (٣). فى الآية إيجاز بحذف أكثر من جملة، والتقدير:
«لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل (٤).
والدليل على هذا الحذف هو قوله تعالى:
أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا فحذف من الأول، لدلالة الثانى عليه والبلاغيون يسمون هذا الحذف:
«الاحتباك» وله صورة أخرى، وهى: أن يكون الحذف من الأول لدلالة الثانى عليه (٥) وفى
(١) معجم المصطلحات البلاغية (١/ ٣٥٨).
(٢) مريم (٢٠ - ٢١).
(٣) الحديد (١٠).
(٤) الكشاف (٤/ ٦٢).
(٥) ينظر مصطلح الاحتباك الآتى بعد قليل.
 
١ ‏/ ٤٨٥
 
الآية دليل آخر على هذا الحذف، ولفت الذهن إليه: وهو الفعل لا يَسْتَوِي فى صدر الآية، لأنه يستدعى طرفين بينهما تفاوت ليتحقق نفى المساواة بينهما. وليس فى صدر الآية إلا طرف واحد موصوف بصفات الكمال. وهذا يقتضى حضور الطرف الثانى فى الذهن ليستقيم الكلام ويحسن السكوت عليه.
والداعى البلاغى لهذا الحذف هو تهذيب العبارة لأن المعنى الذى يدركه الفهم إدراكا قويا مع حذف الألفاظ الدالة عليه، يكون فى ذكرها فضول يتنزه عنه البيان الحكيم.
ومنه كذلك قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦). وفى هذه الآية حذوفات، والتقدير: «والذين يعطون ما أعطوا من الصدقات وسائر القربات الخالصة لوجه الله تعالى، ويخافون أن ترد عليهم صدقاتهم» أو المحذوف هو: «يخافون أن ترد عليهم صدقاتهم، أن ترد عليهم جميع قرباتهم التى قدموها طامعين فى قبول الله لها، وإثابتهم عليها» ودليل هذه الحذوفات هو قوله تعالى:
قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ لأن الوجل الحاصل فى القلوب ليس من نفس الطاعات المرجو بها وجه الله، وإنما من بوارها وكسادها وردّ الله إياها.
أما السر البلاغى فهو تحقيق فضيلة الإيجاز وتكثير المعانى مع قلة الألفاظ المستعملة فيها.
وفى الإيجاز عموما ميزة لا تنفك أبدا، بل هى ملازمة له ملازمة الروح للجسد النامى بالحياة وهى اختصار الزمن فى النطق، واختصار المساحة فى الورق.
وقد بلغ الحذف قدرا كبيرا لم نعهده من قبل، وذلك فى قوله تعالى: قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ (٧).
والإيجاز بالحذف- هنا- موطنه قبل قوله تعالى حكاية عن ملك مصر فى عصر يوسف ﵇: وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ لأن الآيات المذكورة قبله كلام قاله يوسف ﵇ للفتى الذى أرسله الملك إلى يوسف، ليعبر له رؤياه، ولم يكن الملك حاضرا حين قال يوسف ﵇ لرسول الملك هذا الكلام. ولكن الذى حدث- لا محالة- أن الفتى لما رجع من عند يوسف ﵇ أبلغ الملك وحاشيته ما قاله له يوسف، بدءا من قوله: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا
(٦) المؤمنون (٦٠).
(٧) يوسف (٤٧ - ٥٠).
 
١ ‏/ ٤٨٦
 
إلى قوله: وَفِيهِ يَعْصِرُونَ يعنى أن هذه الآيات كررت أو قيلت مرتين:
* مرة قالها يوسف لرسول الملك.
* ومرة قالها رسول الملك للملك.
لكن النظم القرآنى الحكيم اكتفى بذكرها عن يوسف لرسول الملك. وحذف ذكرها على لسان رسول الملك للملك مع حذوفات أخري تتعلق بهذا المقام.
وتقدير الكلام مع الاختصار هو الآتى:
«ثم عاد رسول الملك من عند يوسف بعد أن سمع منه ما قال ودخل على الملك وحاشيته فقص عليهم ما قاله يوسف ....» وبعد أن فرغ من إبلاغ ما قاله يوسف صدقه الملك وحاشيته وأبدى الملك إعجابه بما قال يوسف ثم قال ائْتُونِي بِهِ هذا كله محذوف؛ لأنه مفهوم من الفجوات التى تخللت الكلام. وهذا يسمى فى الأدب المسرحى الحديث «قص المناظر» التى تترك ليملأ العقل فجوات الفراغ التى بين ثنايا الكلام أما الآيات التى طوى ذكرها فعدد جملها أو تراكيبها اثنا عشر تركيبا، هى:
قال- تزرعون- حصدتم- ذروه- تأكلون- يأتى- يأكلن- قدمتم- تحصنون- يأتى- يغاث- يعصرون.
أما عدد الكلمات التى تتكون منها هذه التراكيب ولواحقها فهى أكثر من أربعين كلمة ودليل هذا الحذف أمران:
* عمل العقل فى ملء الفراغات البدهية.
* ذكر ما قاله يوسف دل على ما حكاه رسول الملك للملك.
أما الداعى البلاغى فهو تحقيق فضيلة الإيجاز مع تجنب العبث فى البيان، ودفع الملل لدى السامع، لو أعيدت الآيات مرة أخرى بلا فصل طويل.
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
 
١ ‏/ ٤٨٧
 
الإيجاز بحذف الجملة
وهذه هى الدرجة الرابعة من صور الإيجاز بالحذف، بعد حذف الحرف الواحد من بنية الكلمة، وحذف الكلمة الواحدة من الجملة، أو التركيب الواحد، والذى عنيناه بحذف «الأداة» ثم حذف الكلمة غير الأداة، اسما أو فعلا.
والصورة الرابعة، أو النوع الرابع من الإيجاز بالحذف هو حذف التركيب الواحد من الكلام، نعنى حذف الجملة: اسمية كانت أو فعلية.
وهذا النوع من الإيجاز شائع فى الأساليب العربية فى الشعر، وفى النثر، وفى القرآن الكريم، ومن أمثلته الكثيرة فى القرآن الكريم قوله تعالى:
فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (١) ففي هذه الآية الكريمة إيجاز بحذف تركيب مكون من الفعل والفاعل، وتقدير الكلام قبل الحذف: ب احذروا (٢).
وهو فعل أمر، وفاعله واو الجماعة «وكلاهما قد اعتراه الحذف كما ترى.
ودليل الحذف فى الآية بقاء المفعول به منصوبا وهو: ناقَةَ اللَّهِ فناقة الله مفعول به منصوب بالفتحة كما ترى، وليس فى الآية لفظ يصلح أن يكون هو عامل النصب فى ناقَةَ بل العامل محذوف. وأن ذلك المحذوف هو: احذروا أو اتركوا أو ذروا وأما الداعى البلاغى لهذا الحذف، فوق تحقيق فضيلة الإيجاز، فهو سرعة الوصول إلى المطلوب، وهو صون حرمة الناقة وما قدّر الله لها من رزق، وفى إضافة ناقَةَ إلى اسم الجلالة تعظيم لحرمتها؛ لأنها ليست مجرد ناقة، بل هى آية من آيات الله المخصوصة بالرعاية والعناية.
ومنه فى القرآن الكريم قوله تعالى:
وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (٣). وفى هذه الآية إيجاز بحذف التركيب الواحد (جملة فعلية) موطنه بين قوله تعالى: وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا
(١) الشمس (١٣).
(٢) تفسير البيضاوى (٢/ ٦٠٠).
(٣) الكهف (٤٨).
 
١ ‏/ ٤٨٨
 
وقوله: لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وتقدير المحذوف هو «قلنا لهم» (٤).
ودليل الحذف- هنا- هو سياق الكلام، لأن قوله تعالى: لَقَدْ جِئْتُمُونا فيه التفات إلى الخطاب من الغيبة، ففي صدر الآية كان الكلام حديثا عن مشهد من مشاهد يوم القيامة، وهو عرض العباد على الله وكان الحديث عنهم بطريق الغيبة وَعُرِضُوا ثم التفت من هذه (الغيبة) إلى خطابهم: لَقَدْ جِئْتُمُونا فلزم تقدير محذوف بين الغيبة والخطاب وهو: قلنا لهم، أو: نقول لهم.
والتركيب المحذوف هنا جملة فعلية.
أما الداعى البلاغى للحذف فى الآية، فهو إحكام النظم بحذف فضول الكلام؛ لأن التحول فيها من الغيبة قرينة قوية على إدراك التركيب المحذوف، لأنه لا يستقيم النظم إلا بتقدير التركيب المحذوف، الذى قد اقتضاه طرفا الكلام، وأرشدا إليه حتى لكأنه مذكور فى الكلام صراحة.
ومن الإيجاز بحذف التركيب الواحد، أو الجملة فى القرآن الكريم قوله تعالى:
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥).
وموطن الحذف فى الآية بين قوله تعالى:
فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وتقدير المحذوف هو:
«ألستم ظالمين» (٦) - وهو جملة اسمية ودليل الحذف هو قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ لأن الآية مسوقة مساق الإنذار والتهديد، وتعقيب الكلام ينفى هداية الله القوم الظالمين تلويح لهم بأنهم ظالمون بكفرهم بكتاب الله. وليس فى الآية ذكر لقوم ظالمين ينسحب عليهم هذا الوعيد، فدل ذلك على أن المخاطبين هم المعنيون بهذا الوعيد إن لم يوقنوا بما أنزل الله على خاتم رسله.
أما الداعى البلاغى للحذف فى الآية، فهو القصد إلى لين الخطاب فى الدعوة، وتجنب تيئيس المخاطبين من رحمة الله، فلم يواجههم بأنهم هم الظالمون وأخرج الكلام مخرج العموم، حتى لكأن الظالم هو غير المخاطبين.
وفى ترك المواجهة لهم بأنهم هم الظالمون، الذين لا يهديهم الله إفساح المجال لهم، لمن أراد أن يؤمن منهم، ولا نزاع فى أن بعضهم آمن واهتدى بعد فتح مكة المكرمة. فتأمل
(٤) فتح القدير للإمام الشوكانى (٣/ ٣٤٦).
(٥) الأحقاف (١٠).
(٦) معجم المصطلحات البلاغية (١/ ٣٥٤).
 
١ ‏/ ٤٨٩
 
الأسرار الرائعة، التى ترتبت على هذا الحذف فى هذه الآية.
ومنه قوله تعالى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ (٧). موطن الإيجاز فى الآية بعد:
وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وتقدير المحذوف هو: «فعدتهن كذلك» وهى جملة اسمية من مبتدأ وخبر، ودليل الحذف هو العطف على فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ لأن العطف يشرك المعطوف فى إعراب المعطوف عليه وحكمه.
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
(٧) الطلاق (٤).
 
١ ‏/ ٤٩٠
 
الاحتباك
الاحتباك لغة: هو شد الإزار، وكل شىء أحكمته وأحسنت عمله فقد احتبكته، والحبك الشد والإحكام (١) وقد يستعمل الحبك بمعنى الزينة، وبها فسروا قوله تعالى:
وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٢).
أما فى الاصطلاح البلاغى، فقد بين الإمام جلال الدين السيوطى الصلة بينه وبين المعنى اللغوى فقال:
«ومأخذ هذه التسمية من الحبك، الذى معناه: الشد والإحكام، وتحسين أثر الصنعة فى الثوب. فحبك الثوب سدّ ما بين خطوطه من الفرج ... بحيث يمنع عنه الخلل مع الحسن والرونق.
وبيان أخذه منه أن مواضع الحذف فى الكلام شبّهت بالفرج بين الخيوط. فلما أدركها الناقد البصير بصوغه الماهر فى نظمه وحبكه، فوضع المحذوف مواضعه، كان حابكا له، مانعا من خلل يطرقه، فسدّ بتقديره ما يحصل به الخلل مع ما أكسبه من الحسن والرونق».
ثم عرفه باسم «الاحتباك» وقال: «إنه من ألطف الأنواع وأبدعها» (٣).
وسماه الإمام الزركشى: الحذف:
المقابلى. وعرّفه فقال: «هو أن يجتمع فى الكلام متقابلان، فيحذف من واحد منهما مقابله (فى الآخر) لدلالة الآخر عليه» (٤) ومن أمثلته فى القرآن الصور الآتية.
قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٥)
والمعنى: فإن افتريته فعلىّ إجرامى وأنتم برآء منه، أى من إجرامى، وعليكم إجرامكم وأنا برىء منه. فقد حذف من الثانى «وأنا برىء» أى من إجرامكم لدلالة الأول عليه.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ والمعنى: الله أحق أن ترضوه، ورسوله أحق أن ترضوه.
فحذف من الأول أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ لدلالة الثانى عليه الواقع خبرا عن «رسوله» وهو: أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ.
(١) لسان العرب، مادة: حبك.
(٢) الذاريات (٧) وانظر تفسير الإمام البيضاوى (٢/ ٤٣٧).
(٣) الإتقان فى علوم القرآن (٢/ ٢٢) وشرح عقود الجمان (١٣٣) ومعترك الأقران فى إعجاز القرآن (١/ ٣٢٣).
(٤) البرهان فى علوم القرآن (٣/ ١٢٩).
(٥) هود (٣٥).
 
١ ‏/ ٤٩١
 
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ (٦) والمعنى: إن الله يصلى على النبى، وملائكته يصلون على النبى، فحذف من الأول إِنَّ اللَّهَ الفعل (يصلى) لدلالة الثانى (يصلون) عليه.
وقوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٧).
وبلاغة هذا الفن «الاحتباك» هى إحكام العبارة وسلامتها من الخلل، مع قلة الألفاظ وكثرة المعانى التى تدل عليها. والبلاغة الإيجاز، وهو استثمار أقل ما يمكن من الألفاظ فى أكثر ما يمكن من المعانى (٨).
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
(٦) الأحزاب (٥٦).
(٧) الرعد (٣٩).
(٨) النبأ العظيم- نظرات جديدة فى القرآن (١١١) د. محمد عبد الله دراز.
 
١ ‏/ ٤٩٢
 
إيجاز القصر
هو القسم الثانى من قسمى الإيجاز، بعد الإيجاز بالحذف وصوره الخمس التى تقدمت.
والفرق بينهما أن الإيجاز بالحذف يلحظ فيه حذف حرف من بنية الكلمة، أو أداة من أدوات المعانى، أو كلمة مفردة (اسم أو فعل) من تركيب مفيد (جملة تامة) (اسمية أو فعلية) من مجموع كلام، أو يكون المحذوف جملتين فأكثر، مع وجود دليل قوى على المحذوف.
أما إيجاز القصر فلا يلحظ فيه شىء محذوف أبدا وإنما يلحظ فيه أن المعانى المشعة منه أكثر من الألفاظ التى استعملت فيها.
فمثلا قولنا: «اسأل أهل القرية» كلام مساو لفظه لمعناه، فإذا قارناه بقوله تعالى:
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ (١) كان إيجازا بالحذف، والمحذوف هو كلمة «أهل» وهو مفعول به ل سْئَلِ ومضاف إلى الْقَرْيَةَ ودليل الحذف فيه هو حكم العقل، الذى يمنع توجيه السؤال إلى القرية باعتبارها مكانا وأرضا وأبنية وإنما الذى يوجه إليه السؤال عقلا هو أهل القرية فإيجاز الحذف، وإيجاز القصر يشتركان فى أن معانى كل منهما أكثر من الألفاظ المستعملة فيها، ويفترقان فى أن إيجاز الحذف يلحظ فيه ألفاظ محذوفة، أما إيجاز القصر فلا يلحظ فيه ألفاظ محذوفة، يمكن ذكرها فى جمله أو تراكيبه.
وكان الجاحظ أول من أشار إليه فى قوله:
«الكلام الذى قل عدد حروفه وكثر عدد معانيه» (٢) ذكر هذه العبارة فى وصف مسهب لحديث رسول الله ﷺ، ثم جاء العلماء من بعده واعتبروا هذه العبارة تعريفا لفن الإيجاز بالقصر ومنه قوله تعالى:
لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (٣) على اعتبار أن هاتين الكلمتين قد جمعتا نفى جميع عيوب خمر أهل الدنيا.
وقوله تعالى: لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٤) على اعتبار أن هاتين الكلمتين قد جمعتا نفى جميع العيوب ثم قال: «درجت الأرض من العرب والعجم على إيثار الإيجاز وحمد الاختصار وذم الإكثار والتطويل والتكرار وكل ما فضل- أى زاد- على المقدار» (٥)
ويرى ابن الأثير أن التنبه إلى هذا النوع من الإيجاز عسر لأنه يحتاج إلى فضل تأمل (٦).
(١) يوسف (٨٢).
(٢) البيان والتبيين (٢/ ١٩).
(٣) الواقعة (١٩).
(٤) الواقعة (٢٢).
(٥) رسالة من البلاغة والإيجاز (٢٢) - رسائل الجاحظ (٤/ ١٥٦).
(٦) المثل السائر (٢/ ٧٨).
 
١ ‏/ ٤٩٣
 
وقول الله تعالى: الْقِصاصِ حَياةٌ (٧) والقول المأثور عن العرب «القتل أنفى للقتل» وفى كل منهما إيجاز قصر، وبينوا الوجوه التى سما بها قول القرآن على قول العرب، فى الآتى:
فأولا: عدد حروف قول القرآن عشرة أحرف. وعدد حروف القول المأثور عن العرب أربعة عشر حرفا.
وثانيا: القول القرآنى فيه تصريح بالمطلوب، وهو الحياة، أما قول العرب فقد خلا من التصريح.
وثالثا: تنكير «حياة» فى القول القرآنى يفيد إما التعظيم، وإما النوعية الخاصة، أى حياة آمنة وقد خلا قول العرب منه.
ورابعا: القول القرآنى مطرد عام، أما قول العرب ففيه قصور وعجز؛ فليس كل قتل يكون محققا لسلامة الأرواح. بل منها ما يكون سببا فى تفشى القتل، وهو الأخذ بالثأر. والقتل والعدوان أما القول القرآنى فنص على أن القتل هنا هو القصاص الذى يقوم به ولى الأمر، وفيه- فعلا- حسم لمادة الشر.
وخامسا: القول القرآنى خلا من عيب التكرار، أما قول العرب فقد تكرر فيه القتل مرتين.
وسادسا: استغناء القول القرآنى عن تقدير محذوف يتم به المعنى. أما قول العرب فلا بد من تقدير محذوف فيه هكذا:
القتل أنفى للقتل من تركه.
وسابعا: القول القرآنى جمع بين القصاص بمعنى القتل، وبين الحياة. وفى هذا محسّن بديعى لطيف المورد، أما قول العرب فقد عرى من هذا التحسين.
وثامنا: القول القرآنى جعل «القصاص» منبعا ومصدرا للحياة كاشتمال الظرف على المظروف فيه. أما قول العرب فقد خلا من هذه الاعتبارات اللطيفة الآسرة (٨).
ولهذا الإيجاز قيمة عليا عند البلاغيين وخبراء الأساليب فقد وصفوه- أعنى الإيجاز فى آية القصاص المتقدمة، بأنه:
«الذى فاق كل كلام، وهو أعلى طبقات الإيجاز» (٩)
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
(٧) البقرة (١٧٩).
(٨) المثل السائر (٢/ ١٢٥) - والصناعتين لأبى هلال العسكرى (١٧٥) - ونهاية الإيجاز للفخر الرازى (١٤٥) - وبديع القرآن (١٩٢) - والإيضاح (١٨٢).
(٩) نهاية الإرب للنويرى (٧/ ٥) - شروح التلخيص (٣/ ١٨٢) - الطول للسعد (٢٨٦) - معترك الأقران للسيوطى (١/ ٢٩٥) - الجامع الكبير لابن الأثير (١٤٢).
 
١ ‏/ ٤٩٤
 
الفواصل
الفواصل جمع فاصلة، والفصل لغة هو البت والقطع يقال فصلت كذا عن كذا: يعنى قطعته عنه (١) والفاصلة والفواصل مصطلح خاص بنظم القرآن الكريم، وسمة من سمات بلاغته وبيانه. ومعنى الفاصلة فى اصطلاح علماء علوم القرآن هى الكلمة الأخيرة فى الآية، مثل القافية التى هى الكلمة الأخيرة فى بيت الشعر، ومثل السجع وهو الكلمة الأخيرة فى الجملة، من الكلام المنثور لأن الكلام: إما شعر (ونهايات جمله أو أبياته هى القوافى) وإما غير شعر، وهو قسمان:
* القرآن، ونهايات آياته فواصل.
* الكلام النثرى سواء كان نثرا فنيا كالقصة والرواية والأقصوصة أو غير فنى ونهايات جمله قد تكون سجعا إذا اتفقت جملتان فأكثر فى الحرف الأخير من الكلمة الأخيرة فيهما وقد تكون ليست سجعا إذا كانت كلمات الجمل الأخيرة فيه غير متفقة فى الحروف الأخيرة من آخر الكلمات فى الجمل التى تقع فى الآخر غير متجانسة.
وتسمية الكلمات الأخيرة فى نهايات الآيات القرآنية «فواصل» مأخوذة من قوله تعالى: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ (٢) وقد تكررت هذه العبارة مرات فى آيات الكتاب العزيز، وقد عرف علماء علوم القرآن الفاصلة القرآنية فقالوا:
الفاصلة القرآنية «هى كلمة آخر الآية كقافية الشعر، وقرينة السجع» (٣).
وقال أبو عمرو الدانى: «كلمة آخر الجملة» (٤)، يقصد أن الفاصلة هى آخر كلمة فى الآية.
وقد يطلقون على هذه الفواصل مصطلح:
رءوس الآيات، وهذا المصطلح أخص من الفاصلة، لأنهم قد يتسامحون فى إطلاق الفاصلة على جملة فى درج الآية، مثل قوله تعالى:
ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ (٥) وهى ليست رأس آية (٦) والفواصل القرآنية هى مجامع بلاغة القرآن ومعاقد معانيه. والنظر إليها ودراستها يسفر عن عدة خصائص فى إعجازه ونظمه.
ومن ذلك: فهى من جهة تتيح استراحة لقارئ القرآن الكريم حيث يسكت قليلا عند نهاية كل آية قبل أن يأخذ فى تلاوة الآية التى
(١) اللسان ومعاجم اللغة، مادة: فصل.
(٢) فصلت (٢).
(٣) البرهان فى علوم القرآن (١/ ٥٣).
(٤) المصدر نفسه.
(٥) الكهف (٦٤).
(٦) البرهان (١/ ٥٣).
 
١ ‏/ ٤٩٥
 
بعدها، وهى من جهة ثانية تحدد نهايات الآيات وبداياتها وتميز بين الآيات؛ لأن من سنن تلاوة القرآن وأدائه الأمثل، هو الوقوف عند رأس كل آية إلا فى مواضع قليلة فى القرآن الكريم، فيحسن وصل الآية بما بعدها. وهى من جهة ثالثة تمكن قارئ القرآن الكريم من حسن الأداء، وتتيح للسامع فرصة حسن المتابعة لما يتلى مع تذوق المعانى وتدبرها.
ومن جهة رابعة تؤدى الفواصل القرآنية دورا عظيم الشأن فى انسجام الإيقاع الصوتى مما أضفى على القرآن خاصية فريدة فى نوعها، وهى انفراده بإيقاع صوتى شجى يستولى على القلوب، ويستقطب العقول، ويأسر الأسماع بحلاوة وعذوبة وقعه.
ومن أجل هذا اختصت كلمات الفواصل القرآنية بالأمور الآتية:
* ختمها- فى الغالب- بحروف المد واللين، وإلحاق الميم والنون بها، ووظيفته التمكن من التطريب، قال سيبويه:
«إنهم- أى العرب- يلحقون الألف والياء والنون يريدون مد الصوت، ويتركون ذلك إذا لم يترنموا» (٧). وهذا الجمال الإيقاعى فى القرآن لا يخفى على أحد (٨).
إن الحروف التى تقع بها الفواصل إما متماثلة وإما متقاربة، ولا تخرج الفواصل عن هذين النوعين فمثال التماثل قوله تعالى:
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣).
ومثال التقارب قوله تعالى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (٧).
فالتماثل فى الكوثر وقع بحرف «الراء» والتقارب فى «الفاتحة» وقع بين النون والميم.
* إنها تتقدم عليها ألفاظ، تمهد لها، وتعظم من وقعها فى السمع. وتلك الألفاظ سماها الأقدمون رد الأعجاز على الصدور، وسماها المحدثون ب «التصدير».
* التكرار فى بعض الفواصل، كما فى سور: الرحمن، القمر، والمرسلات. لكن هذا التكرار ليس مقصورا على هذه الوظيفة الصوتية، بل هو لها ولخدمة المعانى المرادة من الفواصل وما يتقدمها. وللعلماء نظر خاص فى بناء الفواصل، نتج عنه تقسيم الفواصل عدة أقسام، نذكر منها:
(٧) الكتاب (٢/ ٢٩٨).
(٨) النبأ العظيم (٨٠).
 
١ ‏/ ٤٩٦
 
* الفواصل المتوازية، وضابطها أن تتفق الفاصلتان فى الوزن الصرفى، وفى الحروف، مثل قوله تعالى: فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (٩).
* والمطرف أن تتفق الفاصلتان فى الحروف دون الوزن مثل قوله تعالى:
ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقارًا (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوارًا (١٠). فالفاصلة الأولى على «مفعولة». أما الفاصلة الثانية فعلى وزنى «فعال» و«أفعال».
* الفواصل المتوازية، وضابطها أن يراعى فى كلتا الفاصلتين الوزن الصرفى، دون الاتفاق فى الحروف مثل قوله تعالى:
وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١١) الوزن واحد «مفعولة» أما الحرفان فهما مختلفان وهما: الفاء والثاء.
ويلاحظ أن الفواصل القرآنية فى الآيات القصيرة تكون كلمة معمولة نحويا لعامل فى الآية قبلها، أو معطوفة على كلمة فيها، أو توضيحا لكلمة، أو مضافا إليها كلمة، مثال ذلك:
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (٧) ففي الآية الأولى جاءت بِالدِّينِ متعلقة ب يُكَذِّبُ وفى الآية الثانية جاءت الفاصلة الْيَتِيمَ مفعولا به للفعل يَدُعُّ وفى الآية الثالثة جاءت الفاصلة الْمِسْكِينِ مضافا إليها طَعامِ وفى الآية الرابعة جاءت الفاصلة لِلْمُصَلِّينَ خبرا ل فَوَيْلٌ كما جاءت ساهُونَ خبرا عن الَّذِينَ فى الآية الخامسة، وكذلك يُراؤُنَ فى الآية السادسة. أما الْماعُونَ فى الآية السابعة، فجاءت مفعولا به ل يَمْنَعُونَ وهكذا كل فواصل الآيات القصيرة فى القرآن كله.
أما الآيات الطويلة فتأتى فاصلتها فى جملة مستقلة، مثل: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٢).
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
(٩) الغاشية (١٣ - ١٤).
(١٠) نوح (١٣ - ١٤).
(١١) الغاشية (١٥ - ١٦).
(١٢) البقرة (١٦).
 
١ ‏/ ٤٩٧
 
الفصل
الفصل فى اللغة القطع والتنحية والتفريق بين الأشياء (١) أما عند البلاغيين فهو فن من فنون علم المعانى خاص بالعلاقات بين بعض الجمل، وله نظير يقابله فى الدرس البلاغى هو «الوصل» وتعتمد فكرتا الفصل والوصل على عطف جملة، على أخرى ب «الواو» خاصة من دون حروف العطف الأخرى، كالفاء وثم وبل، أو ترك هذا العطف.
وقد عرفهما البلاغيون تعريفا واحدا جامعا بين الفصل والوصل، فقالوا.
«الوصل هو عطف جملة على أخرى بالواو، والفصل هو ترك ذلك العطف» (٢).
وكان الإمام عبد القاهر الجرجانى هو أول من أفاض فى الحديث عن هذا الفن، ووضع دقائق أصوله وفروعه ولم يترك لمن جاء بعده كبير مجال فيه، إلا بعض إضافات خفيفة لا تخرج عن الأصول التى وضعها هو ﵀ (٣) ثم نهج الإمام السكاكى منهج الإمام عبد القاهر فى هذا الدرس (٤) وتابعهما الخطيب القزوينى (٥).
ثم شراح تلخيصه من بعده (٦).
وهذا البحث (الفصل) خاص بالجمل التى ليس لها محل من الإعراب، مثل الجملة الابتدائية، وجملة صلة الموصول، والجملة الواقعة جوابا لشرط غير جازم.
ويجب فصل الجملة الثانية عن الأولى فى الحالات الآتية، التى وضع البلاغيون لها ضوابط على النحو التالى:
كمال الانقطاع: فكل جملتين بينهما كمال الانقطاع يجب فصل الثانية منهما عن الأولى، فلا تعطف عليها بالواو، لأن الواو يقتضى العطف بها أن يكون بين المعطوف والمعطوف عليه تناسب، ولا تناسب مع كمال الانقطاع.
ويتحقق كمال الانقطاع بين الجملتين إذا اختلفتا فى الخبرية والإنشائية لفظا ومعنى أو معنى فقط. وقد مثل البلاغيون لهذه العلاقة من غير القرآن بقول الشاعر:
وقال رائدهم ارسوا نزاولها ... فكل حتف امرئ يجرى بمقدار (٧)
والشاهد فيه فصل جملة «نزاولها»؛ لأنها جملة خبرية لفظا ومعنى، عن جملة «ارسوا»؛ لأنها جملة إنشائية لفظا ومعنى.
(١) اللسان والمعاجم اللغوية، مادة: فصل.
(٢) الإيضاح (١٤٨).
(٣) دلائل الإعجاز (٢٢٢ - ٢٤٤).
(٤) مفتاح العلوم (١٢٠).
(٥) الإيضاح (١٤٧).
(٦) شروح التلخيص (٣/ ٢) المطول (٢٤٧) الأطول (٢/ ٢).
(٧) البيت للأخطل، انظر الإيضاح (١٥٠) المصباح (٣١).
 
١ ‏/ ٤٩٨
 
أما الاختلاف بين الجملتين فى الخبرية معنى فحسب، فقد مثلوا له بقولهم.
«مات فلان ﵀» فالجملة الأولى «مات فلان» خبرية لفظا ومعنى والجملة الثانية «﵀» خبرية لفظا إنشائية معنى، لأنها فى قوة «اللهم ارحمه»
أما فى القرآن الكريم فمن أمثلته قوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٨). فقد فصلت جملة إِنَّ شانِئَكَ عن جملة وَانْحَرْ لأن الأولى إنشائية لفظا ومعنى. والثانية خبرية لفظا ومعنى، فبين الجملتين كمال الانقطاع كما ترى.
ومثلهما قوله تعالى:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ (٩).
فصلت جملة قُلْ بَلى وَرَبِّي عما قبلها قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لأن الأولى خبرية لفظا ومعنى، والثانية إنشائية لفظا ومعنى. فبين الجملتين كمال الانقطاع وهذا كثير جدا فى القرآن الكريم، ويأتى على صورتين.
* أن تكون الأولى إنشائية والثانية خبرية، كما تقدم فى سورة «الكوثر».
* أن تكون الأولى خبرية، والثانية إنشائية، كما فى سورة «سبأ».
هذا هو كمال الانقطاع الموجب لفصل الجملة الثانية عن الأولى والفصل هو ترك العطف بالواو خاصة كما تقدم.
* كمال الاتصال: ويتحقق كمال الاتصال بين الجملتين بعدة اعتبارات.
الأول: أن تنزّل الجملة الثانية منزلة البدل من الجملة الأولى، ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى: أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٠)
فصلت جملة أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ عن جملة أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ لأن الجملة الثانية نزلت منزلة البدل مما قبلها. لأن معنى الجملتين واحد، غير أن معنى الأولى مجمل، ومعنى الثانية مفصل، فبين الجملتين كمال الاتصال كما ترى.
ويلاحظ أن جملة أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وما عطف عليها منزّلة منزلة بدل البعض من الكل، لأن إمداد الله للعباد أعم من الأنعام والبنين، والجنات والعيون.
والداعى البلاغى لهذا الإبدال هو إظهار الامتنان على المخاطبين، بذكر النعم مجملة فى الآية الأولى، ومفصلة بعض التفصيل فى الآية الثانية والثالثة.
وقد تكون الثانية منزلة من الأولى منزلة بدل الاشتمال ومثاله قوله تعالى:
(٨) الكوثر (٢ - ٣).
(٩) سبأ (٣).
(١٠) الشعراء (١٣٢ - ١٣٤).
 
١ ‏/ ٤٩٩
 
قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (١١).
فصلت جملة اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْرًا عن جملة قالَ يا قَوْمِ لأن بين الجملتين كمال الاتصال، لأن الأولى مشتملة على معنى الثانية، لأن المرسلين لا يسألون الناس أجرا على تبليغ الرسالة.
أو تكون الجملة الثانية بدل كل من كل، ويمكن التمثيل له من القرآن الكريم بقوله تعالى:
بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٢).
لأن ما فى الجملتين الثانية والثالثة، هو الذى قاله الأولون ففصلت جملة قالُوا أَإِذا مِتْنا عن جملة بَلْ قالُوا لما بين الجملتين من كمال الاتصال؛ لتنزيل الثانية من الأولى منزلة بدل الكل من الكل.
ويلاحظ أن الجملة الثانية المفصولة فى كل ما تقدم أكثر وضوحا من الجملة الأولى.
هذا فى جمل كمال الاتصال دون كمال الانقطاع.
وقد يكون كمال الاتصال بين الجملتين بتنزيل الثانية منزلة، التوكيد مما قبلها، معنويا ولفظيا. ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى:
إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا (١٣).
فقوله تعالى وَلَّى مُسْتَكْبِرًا توكيد لجملة كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها لأنها تؤكد نفى التأثير فى من تليت عليه آيات الله. فبين الجملتين كمال الاتصال؛ لأن الثانية نزّلت منزلة التوكيد المعنوى مما قبلها، لذلك فصلت عنها ولم تعطف عليها.
كما فصلت جملة كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا عن جملة كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها لأن بينهما كمال الاتصال، لأن الثانية نزّلت منزلة التوكيد مما قبلها.
* وقد يكون كمال الاتصال بين الجملتين بتنزيل الجملة الثانية منزلة عطف البيان مما قبلها (مفسرة) ومثاله فى القرآن الكريم قوله تعالى:
وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (١٤).
فصلت جملة أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ عن جملة وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ لأن الجملة، الثانية نزّلت منزلة عطف البيان عما قبلها، (جملة تفسيرية) فبين الجملتين كمال الاتصال كما ترى.
ومثلها قوله تعالى:
(١١) يس (٢٠ - ٢١).
(١٢) المؤمنون (٨٠، ٨١، ٨٢).
(١٣) لقمان (٧).
(١٤) الحجر (٦٦).
 
١ ‏/ ٥٠٠
 
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٥).
فجملة قالَ يا آدَمُ بيان وتفسير لجملة فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ لذلك فصلت الثانية عن الأولى لأن بينهما كمال الاتصال، حيث كانت الثانية بيانا وتفسيرا للأولى.
وغير ذلك كثير فى كتاب الله العزيز.
* شبه كمال الاتصال: ويسمى:
الاستئناف البيانى وضابطه أن تنزّل الجملة الثانية منزلة جواب عن سؤال تضمنته الجملة الأولى. ومن أمثلته المستفيضة فى القرآن الكريم قوله تعالى حكاية عن يوسف ﵇.
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ .. (١٦).
فالجملة الأولى تضمنت سؤالا حاصله:
ولماذا لا تبرئ نفسك؟ فكان الجواب:
إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ففصلت هذه الجملة عن الجملة الأولى؛ لأن الثانية نزّلت منزلة جواب عن سؤال تضمنته الجملة الأولى، فبين الجملتين شبه كمال الاتصال، أو الاستئناف البيانى كما عرفت.
ومنه فى القرآن الكريم قوله تعالى:
قالُوا سَلامًا قالَ سَلامٌ يحكى الله فى هذه الآية ما دار بين إبراهيم ﵇ والملائكة حين دخلوا عليه.
وجملة قالَ سَلامٌ فصلت عما قبلها لأنها بمثابة جواب عن سؤال تضمنته الجملة الأولى:
ماذا قال إبراهيم فى رده على الملائكة؟
فكان الجواب: قالَ سَلامٌ فبين الجملتين شبه كمال الاتصال أو الاستئناف البيانى- لذلك فصلت الثانية عن الأولى. ويرى الإمام عبد القاهر الجرجانى أن كل جملة مفصولة بعد جملة «قال» فى القرآن هى جواب عن سؤال مقدر تضمنته الأولى (١٧)، وإذا صح هذا فإن الاستئناف البيانى فى القرآن أكثر صور الفصل فى القرآن الكريم.
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
المصادر والمراجع:
(١٥) طه (١٢٠).
(١٦) يوسف (٢٣).
(١٧) دلائل الإعجاز (٢٣٨).
 
١ ‏/ ٥٠١
 
الوصل
الوصل فى اللغة: الجمع والضم، ضد التفريق والقطع (١) أما فى اصطلاح البلاغيين فهو عطف جملة، لا محل لها من الإعراب، على أخرى لا محل لها من الإعراب بالواو خاصة بشرط مخصوص (٢).
وقد تقدمت الإشارة إليه فى مبحث الفصل قريبا، والذى يقتضى هذا النوع من العطف مناسبة حاصلة فى الجملتين:
المعطوف عليها والمعطوفة، وقد عبّر عن هذه المناسبة البلاغيون، وأسموها:
- التوسط بين الكمالين: والمراد من الكمالين:
* كمال الانقطاع.
* كمال الاتصال.
اللذان مرّ الحديث عنهما فى مبحث الفصل بين الجمل من قبل.
ويتحقق هذا التوسط بين الجملتين إذا اتفقت الجملتان فى الخبرية والإنشائية، بأن تكونا خبريتين معا، أو إنشائيتين.
والجملتان الإنشائيتان لا تكونان إلا جملتين فعليتين أما الجملتان الخبريتان فتكونان اسميتين، وتكونان فعليتين إذا كان الفعل فيهما ماضيا، أو مضارعا غير منهى عنه ب «لا» الناهية.
وهذا الوصل بين الجمل بضوابطه المشار إليها كثير جدا فى القرآن الكريم، لا تكاد تخلو منه سورة من سوره حتى قصار السور (٣). ومن أمثلته فى القرآن الكريم قوله تعالى:
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (٤) وصلت جملة إِنَّ الْفُجَّارَ بجملة إِنَّ الْأَبْرارَ بالواو؛ لأن بين الجملتين التوسط بين الكمالين لأن كلا منهما خبرية لفظا ومعنى.
وقد حسّن هذا الوصل التقابل بين الأبرار والفجار والنعيم والجحيم، ولام التوكيد الداخل على جملة الخبر لَفِي- لفي والجملتان هنا اسميتان ونظيرهما قوله تعالى:
(١) اللسان والمعاجم اللغوية، مادة: وصل.
(٢) انظر هوامش مبحث الفصل.
(٣) قصار السور مثل سور جزء (عم) سميت كذلك لكثرة الفصل بينها ب «بسم الله الرحمن الرحيم».
(٤) الانفطار (١٢ - ١٣).
 
١ ‏/ ٥٠٢
 
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (٥).
عطفت جملة كُونُوا على جملة اتَّقُوا اللَّهَ لاتفاق الجملتين فى الإنشائية لفظا ومعنى، فبين الجملتين التوسط بين الكمالين؛ لأن كلا منهما فعل أمر (٦).
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
المصادر والمراجع:
(٥) التوبة (١١٩).
(٦) ينظر الإيضاح وشروح التلخيص والمطول: مبحث الفصل والوصل.
 
١ ‏/ ٥٠٣
 
الإخراج على خلاف الظّاهر
الإخراج فى اللغة هو الإظهار (١).
أما فى اصطلاح البلاغيين فهو فن قولى دقيق المسلك رفيع القدر، يدور معناه حول إفساح الطريق أمام البليغ ليورد كلامه على حسب تقديره الخاص، مخترقا به المعايير النمطية التى يتحتم إيراد الكلام على هداها ويلتزم بها المتكلمون، لأنها أشبه ما تكون باللوغارتمات الصارمة.
وهذا المصطلح «الإخراج على خلاف الظاهر» يحتاج فى فهمه إلى تمهيد، ومقدمة خلاصتها أن البلاغيين يشترطون فى بلاغة الكلام أن يكون مطابقا لمقتضى الحال، والحال عندهم هى الأمر أو المناسبة التى تدعو المتكلم إلى الكلام. وهذه المناسبات مختلفة فقد تكون تهنئة أو مواساة، أو إصلاحا بين الخصوم أو ترغيبا فى أمور، أو تحذيرا من أمور. وكل مناسبة منها لها خصوصية أو كلام مخصوص. فإذا وفّق الإنسان لإلقاء الكلام مناسبا للحال التى دعته إلى الكلام كان بليغا، وكان كلامه بلاغة.
والمناسبات التى يتحدث الناس فيها لا تكاد تحصر فى عدد محدد، لكن البلاغيين وضحوا هذه الفكرة، وهى مطابقة الكلام لمقتضى الحال من خلال ثلاث مناسبات ضبطوها ضبطا حكيما. وهى بالنسبة للأفكار التى يحملها كلام البليغ أو المعانى التى يريد إذاعتها بين الجمهور. فقد قسموا أحوال المخاطبين أمام الأفكار التى يحملها الكلام ثلاثة أقسام:
١ - أن يكون السامع أو المخاطب خالى الذهن من تلك الأفكار وليس له موقف سابق منها بالإثبات والقبول أو النفى والرفض.
٢ - أن يكون المخاطب أو السامع، أو حتى القارئ مترددا بين قبول الفكرة أو رفضها، لعدم ترجيح طرف على آخر من طرفيها.
٣ - أن يكون المخاطب رافضا للأفكار التى يحملها الكلام.
هذه هى المستويات الثلاثة، التى استعان البلاغيون بها على تحديد الكلام الذى يعد بلاغة. وسموا هذه المستويات أحوالا للمخاطبين، ثم نصوا على ما يناسب كل حال منها من الكلام البليغ.
(١) اللسان والمعاجم اللغوية، مادة: خرج.
 
١ ‏/ ٥٠٤
 
* فالمناسبة الأولى (خلو الذهن) قالوا إن الكلام المناسب لها أن يكون خاليا من أساليب التوكيد، مثل:
إن- أن- القسم- التكرار- نونا التوكيد الخفيفة والثقيلة- لام التوكيد.
ومثال مطابقة الكلام لظاهر مقتضى الحال فى هذه الحالة من القرآن الكريم قوله تعالى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) لم يأت هذا الخبر دفعا لتردد فى استحقاق الله للحمد، ولا لدفع إنكار من منكر. أما من غير القرآن فقد مثلوا لها بقولهم: «عبد الله قائم».
* أما المناسبة الثانية (التردد) فالكلام المناسب لها هو التوكيد بمؤكد واحد.
ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى.
إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقًا (٣).
حيث اشتمل الكلام على مؤكد واحد هو إِنَّ أما من غير القرآن فقد مثلوا له بقولهم: «إن عبد الله قائم».
* أما المناسبة الثالثة (الإنكار) فالكلام المناسب لها أن يؤكد الخبر الدافع لهذا الإنكار بمؤكدين فأكثر ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى:
إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٤).
أكد الخبر هنا بثلاثة مؤكدات هى: أن- لام التوكيد- اسمية الجملة لأن المخاطب؛ كافر. والكافر لا يؤمن بالآخرة. ومثاله من غير القرآن الكريم قولهم: «إن عبد الله لقائم، وفيه ثلاثة، مؤكدات، مثل ما فى الآية، وهى:
* إن.
* لام التوكيد
* اسمية الجملة.
وقال البلاغيون فى اختلاف نظم التراكيب الثلاثة، مع أن المعنى- فى الظاهر- واحد:
إن التركيب الأول إخبار بقيام عبد الله.
والتركيب الثانى إزالة للتردد فى قيامه والثالث إزالة لإنكار منكر قيامه.
والكلام فى التركيب الأول سموه الخبر الابتدائى، وفى التركيب الثانى سموه الخبر الطلبى، وفى الثالث الخبر الإنكارى وسموها جميعا- أضرب الخبر (٥).
فإذا خرج المتكلم عن هذه الحدود المرسومة، كأن يؤكد الخبر لخالى الذهن، ويترك التوكيد مع المنكر- لا يسمى الكلام بليغا، ولا المتكلم؛ لأنه أخرج كلامه على خلاف ظاهر مقتضى الحال.
أما فى القرآن الكريم فنرى فى مواطن كثيرة إخراج الكلام على مقتضى الحال، وفى مواطن أخرى يأتى الكلام مخرجا على خلاف
(٢) فاتحة الكتاب (١).
(٣) الإسراء (٨١).
(٤) الصافات (٣٨).
(٥) بغية الإيضاح (٢٩).
 
١ ‏/ ٥٠٥
 
ما يقتضيه ظاهر الحال. ويكون الكلام فى ذروة البلاغة والبيان الرفيع، لأن ذلك الإخراج يجيء فى القرآن لاعتبارات بلاغية خفية تراعى فى البيان القرآنى المعجز (٦).
ومن أمثلة الإخراج على خلاف ظاهر مقتضى الحال فى القرآن الكريم قوله تعالى:
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (٧) فى الآية الكريمة الأولى أكد «الموت» بثلاثة مؤكدات هى:
اسمية الجملة. إن، لام التوكيد. مع أن الموت لا ينكره أحد قط؛ لأنه حقيقة يؤمن بها كل الناس. فمقتضى ظاهر الحال هنا أن لا يكون فى الكلام توكيد، لكن هذا الظاهر خولف لاعتبار بلاغى عظيم.
ذلك أن المخاطبين لما كانوا مفتونين بالدنيا، شديدى الحرص على السعى من أجل الحصول عليها، والتمتع بها وإهمالهم العمل للآخرة، شبّهوا بمن لا يؤمن بالموت فخوطبوا خطاب المنكر الشديد الإنكار لنزول الموت به.
وهذا اعتبار بلاغى تربوى كما ترى وكذلك قوله تعالى ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ فيه إخراج للكلام على خلاف مقتضى الظاهر، فالبعث أنكره كثير من الناس فى حياة
كل الرسل، وحكى القرآن الكريم نفسه ما قاله منكرو البعث من مشركى العرب. ومع ذلك ترى القرآن- هنا- لا يؤكد مجىء البعث إلا بمؤكد واحد، وكان الظاهر يقتضى أن يؤكد بثلاثة مؤكدات أو أكثر. فلماذا خولف الظاهر هنا يا ترى؟
الداعى البلاغى لهذه المخالفة، هو إظهار التعريض بغفلة المخاطبين المنكرين للبعث.
والإيحاء بأن البعث جدير به أن لا ينكره منكر، لقوة الأدلة عليه، لأن منكرى البعث بنوا إنكارهم على أساس استحالة إحياء الأنفس بعد موتها وصيرورة الأجساد ترابا، وهذه شبهة واهية لأن الله خلق الناس من العدم، فكيف يستحيل عليه أن يعيد حياتهم، وقد خلقهم من قبل ولم يكونوا شيئا.
هذا هو الاعتبار أو الداعى البلاغى فى مخالفة الظاهر فى الآيتين معا، وهى اعتبارات بليغة أسمى ما تكون البلاغة. وهذا هو الشأن فى كل صور الإخراج على خلاف ظاهر الحال فى القرآن الكريم.
على أننا نجد دواعى أخرى فى القرآن الكريم للإخراج على خلاف الظاهر، نكتفى بمثال واحد منه توخيا للإيجاز. المثال هو قوله تعالى:
قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨)
هذا كلام الملائكة لله ﷿، حين طلب
(٦) وفى كلام البلغاء شعرا ونثرا أمثلة على هذا الإخراج المخالف للظاهر انظر شروح التلخيص (مبحث الخبر).
(٧) المؤمنون (١٤ - ١٥).
(٨) البقرة (٣٢).
للاستزادة ينظر مبحث الخبر فى:
- الإيضاح للخطيب القزوينى.
- المطول لسعد الدين التفتازانى.
- الأطول لعصام الدين.
 
١ ‏/ ٥٠٦
 
منهم أن ينبؤا الله- وهو أعلم- بأسماء الأشياء التى علم الله أسماءهم لآدم.
المتكلم فى هذه الآية هم الملائكة.
والمخاطب هو الله ﷿.
والملائكة، لا ينكرون أن الله هو العليم الحكيم. والله- وهو المخاطب- لا ينكر أنه هو العليم الحكيم. فكان مقتضى ظاهر الحال أن يقولوا: أنت العليم الحكيم بدون أية مؤكدات. لأن التوكيدات لا تكون إلا مع المنكر. ومع هذا نرى خطاب الملائكة، لله جاءت فيه أربع مؤكدات، هى:
إنّ- أنت- اسمية الجملة- تعريف المسند إليه والمسند (المبتدأ والخبر).
فالمسند إليه هو «الكاف» فى إِنَّكَ والمسند هو الْعَلِيمُ.
فلماذا- إذا- خولف مقتضى ظاهر الحال- هنا- هذه المخالفة القوية الظاهرة؟.
إن الداعى والسر البلاغى فى هذه المخالفة هو: «أن مضمون الخبر فى هذا التركيب حقيقة عظيمة، ومن حق الحقائق العظيمة أن يعبر عنها فى البيان العظيم بأسلوب فخم عظيم مثلها» وهذا المنهج خاص ببيان القرآن الكريم، ليس له نظير فى بلاغة البلغاء من البشر، وله فى القرآن الكريم مواطن أخرى فى آيات الله المعجزة.
فالتوكيد فى الآية لم يكن مراعا فيه حال المتكلم، ولا حال المخاطب. بل الذى روعى فيه حال المعنى وحده. وللإخراج على خلاف الظاهر فى القرآن الكريم صور أخرى هى:
الالتفات- ووضع المظهر موضع المضمر، ووضع المضارع موضع الماضى، ووضع الماضى موضع المضارع، ثم القلب. والمقام- هنا- لا يتسع للحديث عنها.
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
المصادر والمراجع:
 
١ ‏/ ٥٠٧
 
الالتفات
الالتفات لغة التحول والانصراف من جهة إلى أخرى يقال التفت عن الشيء: تحول وانصرف عنه، والتفت إليه إذا أدار وجهه نحوه (١).
فأصل الالتفات يكون فى الأفعال بإدارة الوجه وحده أو هو والعنق. أما فى اصطلاح علماء البلاغة فالالتفات مقصور على الأقوال دون الأفعال. وله ست صور:
* الالتفات فى التعبير من الغائب إلى المخاطب؟
* الالتفات فى التعبير من الغائب إلى المتكلم؟
* الالتفات فى التعبير من المتكلم إلى المخاطب؟
* الالتفات فى التعبير من المتكلم إلى الغائب؟
* الالتفات فى التعبير من الخطاب إلى التكلم؟
* الالتفات فى التعبير من الخطاب إلى الغيبة؟
وقد أورد البلاغيون تعريفات كثيرة للالتفات أكثرها غير واف بالمراد، بدأ من تعريف ابن المعتز للالتفات (٢) إلى تعريف ابن الأثير له (٣).
ولم يوضع له تعريف فى دقيق إلا على يد الخطيب القزوينى، والذى تابعه عليه شراح تلخيصه وجمهور البلاغيين (٤).
والتعريف الذى كتبه الخطيب وتابعه عليه الجمهور هو: «الالتفات: التعبير عن معنى الطرق الثلاثة التكلم والخطاب والغيبة، بعد التعبير عنه بواحد منها» ومعنى هذا التعريف يؤول إلى الصور الست التى تقدمت.
وقد ورد فى القرآن الكريم الالتفات فى صوره المشار إليها من قبل.
فالالتفات من الغيبة إلى الخطاب ورد فى مواضع كثيرة منها قوله تعالى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٣) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٤) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فقد بدأ الحديث بطريق الغيبة فى الآيات الثلاث الأولى ثم عدل عن الغيبة إلى الخطاب فى أربعة مواضع فى الآيات الرابعة والخامسة، والسادسة فى الجمل الآتية:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أَنْعَمْتَ
(١) لسان العرب والمعاجم اللغوية، مادة لفت.
(٢) البديع (٥٨).
(٣) المثل السائر (٢/ ٤) والجامع الكبير (٩٨).
(٤) شرح التلخيص للشيخ أكمل الدين البابرتى (٢٥٧) طرابلس شرح وتحقيق محمد مصطفى رمضان ط أولى عام ١٤٠٣ هـ/ ١٩٨٣ م.
 
١ ‏/ ٥٠٨
 
ومثال الانتقال من الخطاب للغيبة قوله تعالى:
حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ .. (٥).
وللالتفات وظيفة بيانية عامة ووظيفة خاصة. فالعامة هى تلوين الخطاب، وفائدته تنشيط ذهن السامع، ودفع الملل عنه، لأن فى انتقال الحديث من أسلوب إلى أسلوب تجديدا لحركة الذهن، وترويحا على المشاعر. وهذا عام فى كل صور الالتفات.
وفى ذلك يقول الإمام الزمخشرى:
«وتلك على عادة افتنانهم- أى العرب- فى الكلام، وتصرفهم فيه؛ ولأن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب، كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع، وإيقاظا للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد، وقد تختص مواقعه بفوائد» (٦).
وقد أشار بقوله: «وقد تختص مواقعه بفوائد» إلى ما تختص به كل صورة من صور الالتفات فوق تطرية الكلام وتلوين الخطاب.
وتطبيق هذه الملامح البيانية التى تشع من كل صورة من صور الالتفات على ما تقدم من سورتى «أم الكتاب» و«يونس» يرينا ما لهذا الفن البلاغى فى القرآن من دور عظيم الشأن فى التأثير على النفوس.
فالانتقال من الغيبة إلى الخطاب فى آيات «الفاتحة» كان عقب ثناء العبد على الله بطريق الغيبة. فهو وحده المستحق للحمد كله.
وهو وحده الرحمن الحق، والرحيم الحق وهو وحده مالك شئون يوم الدين.
وبعد استحضار هذه الكمالات فى المشاعر، يقترب العبد من حضرة ربه، ويقف بين يديه فيخاطب ربه مخاطبة الحاضر؛ لا مخاطبة الغائب.
أما فى آية «يونس» فإن قوله تعالى:
حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ أى استقررتم وركبتم فيها. والفلك تركب لتجرى بمن فيها، فإذا جرت وأسرعت براكبيها فقد غابوا وهى تمخر بهم عباب الماء. فالتفت القرآن من توجيه الخطاب إليهم إلى الحديث عنهم بطريق الغيبة إشارة إلى نعمة جرى السفن بهم.
ومثال الانتقال من الغيبة إلى التكلم قوله تعالى:
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحابًا فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ .. (٧).
فقد جرى الحديث أولا عن الغائب، ثم التفت من الغيبة إلى التكلم فقال فَسُقْناهُ.
والداعى البلاغى لهذا الالتفات هو التلويح
(٥) يونس (٢٢).
(٦) الكشاف (١/ ١٢).
(٧) فاطر (٩).
 
١ ‏/ ٥٠٩
 
منه تعالى بعظم النعمة، وكمال التدبير، لأن سير السحب فى اتجاهات ملحوظة فى الجو محض تدبير من الله ﷿ بما يصلح أحوال العباد، فهو يصرف السحب عمن ليسوا فى حاجة إلى الماء، إلى قوم يعلم الله شدة حاجتهم إلى الماء، فيأمر السحب بالسير نحوهم.
ومثال الانتقال من التكلم إلى الغيبة قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ وكان الأصل أن يقال: فصل لنا، بضمير المتكلم لا الاسم الظاهر (رب) - لأنه من قبيل الغائب.
والداعى البلاغى هو إظهار الامتنان على المخاطب؛ وسرعة امتثال الأمر؛ لأن الصلاة المأمور بها هى (لربك) ومن خصائص (رب) الإنعام والرعاية، وفى قوله ﷿:
وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ التفات من التكلم إلى الخطاب، حيث أوقع الفعل «فطر» على ضمير المتكلم، ثم التفت منه إلى الخطاب فى تُرْجَعُونَ والداعى البلاغى هو التصريح بتعميم الحكم (الرجوع إلى الله) على جميع الذين فطرهم الله، لئلا يتوهم المخاطبون أنه خاص بالمتكلم.
ويجوز أن يكون فى هذه الآية إيجازا بالحذف المسمى «الاحتباك» حيث حذف من الأول (فطرنى) ما دلّ عليه الثانى (ترجعون) ومن الثانى (ترجعون) ما دل عليه الأول (فطرنى) والتقدير وما لى لا أعبد الذى فطرنى وفطركم، وإليه ترجعون وأرجع.
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
 
١ ‏/ ٥١٠
 
القصر
القصر فى اللغة الحبس والتضييق والمنع، ومعناه قريب من معنى الحصر (١).
أما فى اصطلاح البلاغيين فيدور معناه حول معنى التخصيص أى تخصيص أمر بأمر آخر، بمعنى منع الشركة فيه، فهو لمن خصصته به، كما لو قائل قال:
هذا الكتاب لخالد، فقد قصر ملكية الكتاب على خالد دون أن يشركه أحد فيه.
هذا هو المعنى العام للقصر فى اللغة، أما المعنى فى البلاغة فهو:
«تخصيص شىء بشيء بطريق مخصوص» (٢) هذا تعريف الإمام جلال الدين السيوطى. أما الخطيب القزوينى فقد عرفه بقوله:
«تخصيص أحد الأمرين بالآخر وحصره فيه» (٣) وهو قريب من تعريف السيوطى، بيد أنه لم يذكر الطريق أو الأداة التى تستخدم فى القصر، وقد تداول البلاغيون هذين التعريفين مع ميلهم إلى التعريف الأول.
وهذا مثال يوضح مرادهم من التعريف:
«ما نجا إلا الصالحون» هذا المثال من صور القصر، لأنه خص أمرا هو «النجاة» بأمر هو «الصالحون» أما الطريق المخصوص، الذى به تحقق القصر فهو «النفى والاستثناء» أى ما وإلا.
ومن هذا التحليل يتبيّن أن أسلوب القصر يتكوّن من ثلاثة أركان:
الأول: هو الأمر المقصور، وهو فى هذا المثال «النجاة».
الثانى: هو المقصور عليه، وهو فى هذا المثال «الصالحون».
الثالث: طريق القصر أو أداته، وهو- هنا- النفى والاستثناء، سواء كان بما وإلا، أو بغيرهما.
وهناك أمثلة من القرآن الكريم موزعة على أدوات القصر:
* النفى والاستثناء، ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى:
وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ .. (٤). هذا قصر موصوف (محمد) على صفة (رسول) أما أداة القصر فهى (ما، وإلا): أى النفى والاستثناء فقد خصصت
(١) اللسان والمعاجم اللغوية مادة: قصر.
(٢) شروح التلخيص (٢/ مبحث القصر) ومعترك الأقران للسيوطى (٢/ ٢).
(٣) شرح التلخيص (٣٢١) عمل محمد مصطفى رمضان.
(٤) آل عمران (١٤٤).
 
١ ‏/ ٥١١
 
الآية محمدا ﷺ بأنه رسول، كما كان من معانى هذا القصر نفى أن يكون لمحمد ﷺ صفة أخرى تخرجه عن بشريته، وعن منع إجراء أحكام البشرية عليه، ومنها الموت، الذى استعظم أصحابه نزوله به عن طريق القتل وغيره.
* إنما: ومن أدوات القصر «إنما» ومن أمثلتها فى القرآن الكريم قوله تعالى:
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ .. (٥).
المقصور هو التحريم، والمقصور عليه هو الميتة وما عطف عليه.
وأداة القصر هى «إنما» وهو قصر صفة (التحريم) على موصوف (الميتة وما عطف عليه. وأداة القصر هى «إنما» والمعنى:
ما حرّم عليكم إلا كذا والمقصور فى طريق «إنما» هو ما يأتى بعدها مباشرة أما المقصور عليه فهو ما يأتى ثانيا بعد المقصور وأما المقصور فى طريق النفى والاستثناء فهو ما يقع قبل أداة الاستثناء. والمقصور عليه هو ما يقع بعد أداة الاستثناء.
* تقديم ما حقه التأخير هذا طريق ثالث من طرق القصر، وهو تقديم ما حقه التأخير، كتقديم الخبر على المبتدأ، وتقديم الحال على صاحبها، وتقديم المفعول على الفعل.
ومن تقديم ما حقه التأخير فى القرآن الكريم قوله تعالى:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فقد قدّم إِيَّاكَ فى الموضعين على الفعل نَعْبُدُ، نَسْتَعِينُ لإرادة القصر والتخصيص، والمعنى.
نخصك بالعبادة، ونخصك بالاستعانة، ولولا إرادة القصر لقيل: نعبدك ونستعينك.
لأن هاتين العبارتين لا تمنعان التشريك فى العبادة والاستعانة.
والآية اشتملت على صورتى قصر، وفى كل منهما قصر صفة على موصوف: أى قصر العبادة والاستعانة وهما صفتان، على موصوف، وهو الله ﷿، المكنى عنه ب «الكاف» فى إِيَّاكَ.
* تعريف جزئى الجملة الاسمية: ومن طرق القصر تعريف جزئى الجملة الاسمية (المسند إليه والمسند) ومن أمثلته فى القرآن الكريم قوله تعالى.
فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ (٦) المسند إليه «الله» والمسند الْوَلِيُّ أى لا ولى إلا الله، قصر صفة على موصوف على سبيل التحقيق.
وأداة القصر هى تعريف كل من المسند إليه فَاللَّهُ والمسند الْوَلِيُّ وقد زاد القصر هنا قوة ضمير الفصل هُوَ.
* العطف بلا وبل ولكن، ومن طرق القصر العطف بلا وبل ولكن. ومن أمثلته فى
(٥) المائدة (١١٥).
(٦) الشورى (٩).
 
١ ‏/ ٥١٢
 
القرآن الكريم قوله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ (٧).
المقصور فى الآية هو (من يقتل في سبيل الله) والمقصور عليه هو أَحْياءٌ وأداة القصر هى بَلْ قصر موصوف على صفة.
ويشترط فى إفادة بَلْ القصر أن يتقدم عليها نفى أو نهى. وفى هذه الآية تقدم عليها النهى: وَلا تَقُولُوا.
ومثل «لكن» قوله تعالى:
ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ (٨) فالمقصور محمد ﷺ والمقصور عليه الرسالة، وأداة القصر لكِنْ ويشترط فيها ما اشترط فى بَلْ من تقديم النفى أو النهى عليها.
وقد تقدم عليها فى هذه الآية النفى بما.
وللقصر أنواع ثلاثة، باعتبار حال المخاطب، فقوله تعالى إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ (٩).
يصلح أن يكون قصر قلب، أو قصر إفراد، أو قصر تعيين.
* فإن كان المخاطب يعتقد أن محمدا ملك لا بشر كان القصر قصر قلب، أى قلب اعتقاد المخاطب إلى العكس.
وإن اعتقد أنه ملك وبشر، كان قصر إفراد.
* وإن كان مترددا هل هو ملك أو بشر كان قصر تعيين. وللقصر باعتبار الواقع نوعان:
* قصر حقيقى مطابق معناه للواقع، ومثاله من القرآن: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لأن هذا القول مطابق للواقع تماما.
* قصر ادعائى أو تنزيلى فإن كان القصر قصر صفة على موصوف فإنك تذهب إلى عدم الاعتداد بكل ما له من صفات سوى الصفة التى قصرته عليها. ومثاله ما تقدم وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ.
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
المصادر والمراجع:
(٧) البقرة (١٥٤).
(٨) الأحزاب (٤٠).
(٩) فصلت (٦).
وللاستزادة: انظر مباحث القصر فى:
* دلائل الإعجاز* المطول* الإيضاح
 
١ ‏/ ٥١٣
 
المجاز العقلى
المجاز فى اللغة مأخوذ من جاز المكان يجوزه، إذا انتقل من مكان إلى مكان، ويقال جاز الطريق يعنى سار فيه (١). وتعريفه فى اصطلاح البلاغيين امتداد لمعناه اللغوى إلا إنه أخص، لأن المعنى اللغوى يشمل كل انتقال، على أن الأصل فى اللغة يدور حول انتقال الأجسام، أما فى البلاغة فهو مقصور على نقل الألفاظ من معنى إلى معنى آخر.
وفى هذا المعنى يقول الإمام عبد القاهر الجرجانى «المجاز مفعل من جاز الشيء يجوزه إذا تعداه وإذا عدل باللفظ عما يوجبه أصل اللغة وضعا على أنه مجاز، على معنى أنهم جازوا به موضعه الأصلى أو جاز هو مكانه الذى وضع فيه أولا» (٢).
وقد تطور هذا التعريف بعد الإمام عبد القاهر فى مباحث الحقيقة والمجاز فى البحث البلاغى، وقد قسموا المجاز قسمين:
* المجاز اللغوى وعرفوه بأنه: استعمال اللفظ فى غير ما وضع له لعلاقة بين المعنى الوضعى للفظ، والمعنى المجازى.
* المجاز العقلى، وفرقوا بين المجاز اللغوى والمجاز العقلى بأنه فى المجاز اللغوى يتم التصرف فى معانى اللغة كما فى مبحث الاستعارة فاستعارة كلمة أسد للرجل المقدام تم التصرف بإحلال معنى الأسد بالرجل الشجاع، أما المجاز العقلى فتكون معانى الألفاظ فيه مرادا منها المعانى الوضعية دون إدخال أى تغيير عليها، أما تسميته مجازا فله اعتبار آخر، هذا الاعتبار يظهر من تعريف المجاز العقلى كما ذكره الخطيب وتابعه عليه جمهور البلاغيين، وهو: «إسناد الفعل أو معناه إلى ملابس له غير ما هو له بتأول» (٣) ويسمى المجاز الحكمى أو المجاز الإسنادى، لأنه مجاز مركب لا يقع إلا فى الجمل.
يعنى أن المجاز العقلى يكون بإسناد الفعل، أو ما فيه معنى الفعل كاسمى الفاعل والمفعول إلى غير فاعله فى حكم العقل والواقع.
والفاعل المجازى في المجاز العقلى يشترط فى صحة إسناد الفعل أو ما فى معنى الفعل، إليه أن تكون له صلة بالفعل، فإن لم تكن له بالفعل صلة فلا يجوز إسناد الفعل إليه، ولا إسناد ما فيه معنى الفعل. وهذه الصلة هى التى أشار إليها الإمام الزمخشرى بالملابسة وأخذها عنه الخطيب، وجميع البلاغيين من بعده (٤) والذى يلابس الفاعل ويكون له بالفعل علاقة هو الآتى، مع التمثيل له من القرآن الكريم.
(١) اللسان والمعاجم اللغوية، مادة: جوز.
(٢) أسرار البلاغة (٣٤٢) دار المعرفة- بيروت- لبنان ١٣٩٨ هو ١٩٧٨ م/ ت: محمد رشيد رضا.
(٣) الإيضاح. ضمن شروح التلخيص (١/ ٢٢٣).
(٤) شروح التلخيص (١/ ٢٢٥) وما بعدها.
 
١ ‏/ ٥١٤
 
* المكانية من صور المجاز العقلى إسناد الفعل أو ما فى معناه إلى المكان الذى حدث فيه الفعل، ومثاله من القرآن الكريم قوله تعالى: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ... يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٥)
هذان مجازان عقليان أحدهما فى إسناد الإخراج إلى الأرض، والفاعل الحقيقى هو الله. أما الأرض فهى مكان الفعل وليست فاعله، والذى سوّغ أن تكون الأرض فاعلا للإخراج أنها مكان الفعل. فالملابسة والعلاقة هى المكانية.
وكذلك إسناد التحديث إلى ضمير الأرض، مجاز عقلى علاقته المكانية، أما الفاعل الحقيقى فهو الله ﷿ ومثلهما قوله تعالى:
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَدًا آمِنًا ... (٦) فقد أوقع اسم الفاعل آمِنًا وهو في قوة معنى الفعل، على ضمير بَلَدًا على سبيل المجاز العقلى والبلد مكان.
فالملابسة أو العلاقة فيه هى المكانية وفاعل الأمن الحقيقى هم أهل البلد «مكة» لا البلد.
* الزمانية: لكل فعل زمان يقع فيه، لذلك صح أن يسند الفعل إلى زمانه على سبيل المجاز العقلى، ومن أمثلته فى القرآن الكريم:
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيبًا (٧) فقد أسند فيه الفعل يَجْعَلُ لضمير يَوْمًا على أنه فاعل الشيب فى الْوِلْدانَ أى الأطفال صغار السن، واليوم هو زمان التشييب لا فاعله، لأن الفاعل الحقيقى هو الله ﷿، واليوم ظرف للتشييب.
* السببية، وقد يكون المجاز العقلى حاصلا بإسناد الفعل إلى سببه، وهو كثير فى القرآن الكريم، ومنه قوله تعالى فى شأن آدم وحواء فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ (٨) فقد أسند الإخراج إلى ضمير الشَّيْطانُ وهو سبب الإخراج وليس فاعله. والعلاقة فيه هى السببية، والتقدير؛ فأخرجهما الله بسبب وسوسة الشيطان لهما، وإغرائه إياهما على الأكل من الشجرة المحرمة عليهما.
ومثله قوله تعالى: ... وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيمانًا .. (٩) والمجاز العقلى- عموما- يفيد المبالغة فى تصوير أثر الفاعل المجازى الذي أسند إليه الفعل في صدور الأثر المراد، بتحويله من كونه مكانا للفعل أو زمانا أو سببا إلى كونه فاعلا للفعل.
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
(٥) الزلزلة (٤٠٢).
(٦) البقرة (١٢٦).
(٧) المزمل (١٧).
(٨) البقرة (٢٣٦).
(٩) الأنفال (٢).
 
١ ‏/ ٥١٥
 
التّشبيه
التشبيه فى اللغة: التمثيل، يقال فلان شبيه بفلان، إذا كانت فيه أوصاف (١) تشابه أوصافه. أما فى اصطلاح البلاغيين فقد عرفه الخطيب القزوينى فقال:
«التشبيه: الدلالة على مشاركة أمر لآخر فى معنى» (٢) وهذا التعريف فيه قصور؛ لأنه لم يذكر أداة التشبيه وهو- مع قصوره أقرب تعريفات التشبيه إلى الكمال لأن ما قبله من التعريفات أكثر منه قصورا.
وأكمل تعريفات التشبيه ما عليه متأخرو البلاغيين حيث عرفوه بقولهم:
«التشبيه هو الدلالة على مشاركة أمر لأمر، فى معنى مشترك بينهما بأداة مذكورة أو مقدرة، لغرض يقصده المتكلم».
وإنما كان هذا التعريف أكمل ما قيل فى تصوير التشبيه لأنه اشتمل على كل أركانه وعناصره:
فالأمر الأول هو: المشبه.
والثانى هو: المشبه به.
وفى معنى، هو وجه الشبه.
وبأداة، هى أداة التشبيه حرفا كانت مثل الكاف فى قولنا الشمس كالمرآة.
أو اسما فى: الشمس مثل المرآة.
أو فعلا فى: الشمس تحاكى المرآة.
أما: الغرض الذى يقصده المتكلم فهو الغرض البلاغى من كل عملية تشبيهية.
كما تضمن هذا التعريف حالتى ذكر الأداة وحذفها، وكذلك حذف وجه الشبه وذكره، وهما ليسا من أطراف التشبيه، بل أمران عارضان وأركان التشبيه هى المشبه، وهو الأمر الأول فى التعريف.
المشبه به، وهو الأمر الثانى فى التعريف.
الوجه، وهو الصفة المشتركة، بين الأمرين.
الأداة، وهى وسيلة الدلالة على المشاركة.
والمشبه والمشبه به يسميان: طرفى التشبيه.
ومجموع الأربعة، يسمى أركان التشبيه.
وللتشبيه عند البلاغيين أربعة ألقاب، وثلاث مراتب:
(١) اللسان،- والمعاجم اللغوية مائدة: شبه.
(٢) بغية الإيضاح (٢/ ٧).
 
١ ‏/ ٥١٦
 
* فاللقب الأول: التشبيه المرسل المفصل وهو ما ذكرت فيه أركانه الأربعة: مثل: (حجة كالشمس فى الظهور) فالحجة هى المشبه، والشمس هى المشبه به، والكاف هى أداة التشبيه. وفى الظهور هو وجه الشبه.
وسمى مرسلا لذكر الأداة، ومفصلا لذكر الوجه.
واللقب الثانى: التشبيه المرسل المجمل، وهو ما ذكرت فيه الأداة وحذف الوجه، مثل: حجة كالشمس.
وسمى مرسلا لذكر الأداة، ومجملا لحذف وجه الشبه.
* واللقب الثالث: التشبيه المؤكد المفصل، وهو ما حذفت فيه الأداة، وذكر الوجه، مثل:
حجة هى الشمس فى الظهور.
* واللقب الرابع: التشبيه المؤكد المجمل، وهو ما حذف فيه الوجه والأداة معا. مثل:
حجة هى الشمس.
ومراتبه الثلاث من حيث الدلالة على قوة المعنى هى:
* أدنى درجاته ومراتبه: ما ذكرت فيه أركانه الأربعة كقول الشاعر:
فوجهك كالنار فى ضوئها ... وقلبى كالنار فى حرها
فى البيت صورتان تشبيهيتان:
المشبه فى الأول وجه المخاطبة، والمشبه به النار، والكاف أداة التشبيه. وفى ضوئها وجه الشبه. والصورة الثانية مثلها، ما عدا وجه الشبه فهو «فى حرها».
المرتبة الوسطى: هى ما ذكرت فيها الأداة مع حذف الوجه وما حذفت فيه الأداة مع ذكر الوجه. لأن هاتين الصورتين، وهما الثانية والثالثة، من ألقاب التشبيه، معناهما متكافئان.
المرتبة العليا، هى ما حذف فيها الوجه والأداة معا، وإنما كانت هذه المرتبة عليا مراتب التشبيه لأن:
فى حذف الأداة دعوى الاتحاد بين الطرفين، حتى لكأن المشبه صار هو المشبه به، دون عازل بينهما.
وفى حذف الوجه دعوى مشاركة المشبه للمشبه به فى جميع ما ثبت له من صفات.
لذلك يسمى البلاغيون كل تشبيه حذف منه الوجه والأداة معا: التشبيه البليغ:
لأنه أقوى مراتبه فى الدلالة على المعنى المراد من التشبيه.
وضابط وجه الشبه عندهم أن يكون مجرورا ب «فى» أو منصوبا على التمييز.
 
١ ‏/ ٥١٧
 
مثل أن يقال: خالد كالأسد فى الشجاعة:
وخالد كالأسد شجاعة.
والتشبيه فى القرآن الكريم لم يخرج عن هذه الضوابط التى ذكرناها تمهيدا لفهم تشبيهات القرآن الكريم ومنزلتها فى البيان المعجز الرفيع.
والتشبيه فى القرآن الكريم من أساليب بلاغته العالية وهو فيه كثير الورود، بلغت صوره ما يقارب الخمسمائة صورة، وشملت كل أنماط التشبيه من حيث الإفراد والتركيب فى الطرفين والوجه، ومن حيث الحسية والمعنوية فيهما، وأدت هذه الصور خدمات بيانية وتربوية فى مجال الدعوة تحنو لها الجباه، وكانت وجها أو وجوها من وجوه الإعجاز القرآنى المفحم للإنس والجن، وحفلت بدقائق ولطائف وأسرار ليس لها نظير خارج دائرة البيان القرآنى.
وجمعت فى دلالاتها بين إقناع العقل، وإمتاع العاطفة وتغذية القلوب، وكشفت عن خبيئات المعانى، ترغيبا وترهيبا، تحبيبا وتنفيرا، ومثلت الخفى فى صورة الجلى، والغامض فى صورة المكشوف، وخاطبت كل حواس الإدراك فى الإنسان وكل ملكات الفهم والتذوق عند العقلاء.
خذ إليك مثلا قوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٥).
جاء التشبيه فى نهاية الآية، وقد تقدم عليه ما ينفى عنه كل نقص، هو قوله تعالى:
فِي سَبِيلِهِ دفعا للقتال الذى لم يرد به نصرة الحق، كالقتال عصبية، أو ظلما.
كما تقدم عليه قوله تعالى صَفًّا إلماحا إلى شدة التماسك بين المجاهدين فى سبيل الله، بحيث لا يترك تماسكهم أدنى خلل يضعف قوتهم. ثم جاء التشبيه شارحا لذلك التماسك المفهوم من قوله: صَفًّا هكذا:
كالبنيان ووجه الشبه هو «القوة والإحكام، وهو محذوف وقد صار التشبيه بحذف الوجه مجملا، فأفاد عموم الاشتراك بين المشبه والمشبه به، وهو أحد عنصرى التشبيه البليغ.
ومن سحر البيان فى هذا التشبيه إيثار أداة التشبيه كأن وقد تقدم أن ذكر الأداة يكون معه التشبيه مرسلا، والإرسال أدنى دلالة من التوكيد الذى يترتب على حذف الأداة، لكن الأداة كأن دفعت هذا الاحتمال لأن «كأن» مركبة من عنصرين كما ترى:
الكاف، ثم أن. وهى من أدوات التوكيد، لأنها من أخوات «إن»
هذا التركيب يوحى بأن «الكاف هى أداة التشبيه، أما «أن» فهى أداة توكيد قائمة برأسها. فيكون التشبيه فى الآية مؤكدا،
(٣) البلاغة التطبيقية (مبحث التشبيه) د/ أحمد إبراهيم مرسى.
(٤) بغية الإيضاح (٢/ ١٧٦).
(٥) الصف (٤).
 
١ ‏/ ٥١٨
 
فيزول عن هذه الصورة التشبيهية وصف الإرسال.
وحتى لو لم تكن «كأن» مركبة. فهى عند فريق من العلماء تستعمل فى التشبيه المؤكد، فيكون مرسلا من جهة، ذكر الأداة لفظا، ومؤكدا من جهة معنى «كأن».
والمشبه به بُنْيانٌ جىء به منكرا بقصد التعظيم أى بنيان عظيم فى قوة تماسكه.
أما قوله مَرْصُوصٌ فقد كمل به الحسن من كل وجه، لأن البنيان قد يكون على هيئة لا تماسك فيها. فجاء «مرصوص» بمثابة احتراس لدفع كل عوامل الوهن عن المشبه به.
أما من حيث تحليل عناصر هذا التشبيه فإن الملاحظ فيه:
أن المشبه مفرد حسى وإن كان جمعا: لأن المثنى والجمع فى هذا المبحث من قبيل الإفراد، وهو الذين يقاتلون فى سبيل الله صفا.
والمشبه به مفرد حسى كذلك، وهو البنيان المرصوص والوجه مفرد حسى، وهو: قوة التماسك الملحوظة فى المشبه والمشبه به معا.
أما الغرض من التشبيه فهو الترغيب.
ومثال آخر، هو قوله تعالى:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٤٥) وَداعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجًا مُنِيرًا (٦)
التشبيه هو قوله تعالى: وَسِراجًا مُنِيرًا والخطاب إلى رسول الله ﷺ. المشبه فيه هو النبى ﵇.
والمشبه به هو السراج، وأداة التشبيه محذوفة والوجه محذوف كذلك. وليس هو مُنِيرًا لأنه وصف للمشبه به، لا منصوب على التمييز، حتى يصلح أن يكون وجها للتشبيه.
وإنما الوجه هو: فى الهداية «لأن الهداية متحققة فى الطرفين المشبه (محمد ﷺ والمشبه به (السراج المنير).
والمشبه والمشبه به مفردان حسيان، والوجه (الهداية) مفرد عقلى معنوى. والغرض الثناء وفى هذا التشبيه لطيفة من لطائف البيان العالى والبلاغة الآسرة والإعجاز الحكيم.
ذلك أن المشبه به هو السراج، والسراج مصدر ضوئى ذاتى، كالشمس، وليس مصدر إنارة مستمدة من غير السراج. فكان الظاهر أن يقال: وسراجا مضيئا. كما قال:
الشَّمْسَ ضِياءً أى جعلناها مضيئة لا منيرة، لأن الضوء ما صدر عن مصدره صدورا مباشرا. أما النور والإنارة فمصدره
(٦) الأحزاب (٤٥ - ٤٦).
 
١ ‏/ ٥١٩
 
عاكس لضوء غيره. لذلك وصف القمر فى القرآن بأنه نور، ومنير، لأنه يعكس ضوء الشمس، وليس له إشعاع ذاتى.
إذن، لماذا وصف القرآن محمدا ﷺ بعد تشبيهه بالسراج بأنه مُنِيرًا والسراج له ضوء لا نور؟
إن إيثار مُنِيرًا على «مضيئا» قبس من ضوء الإعجاز البلاغى فى القرآن الكريم؛ لأن محمدا ﷺ لم يخترع الهدى الذى جاء به من عند نفسه وإنما تلقاه عن الله ﷿، فهو عاكس لهذا الضوء الإلهى ولو قيل «مضيئا» لوقع فى بعض الأفهام أنه مجرد عبقرى من عباقرة البشر، وليس له صلة بالله. وهذا ما يردده بعض المستشرقين الآن، لكن لما قال مُنِيرًا أحكم غلق كل النوافذ أمام الأوهام المريضة، عن طريق استخدام مفردات اللغة فى أعلى وأدق وأحكم مستويات استعمالها.
كما كان فى إيثار مُنِيرًا علي «مضيئا» إثبات لرسالة محمد ﷺ؛ لأنه منير عاكس لضوء مصدره الله ﷿، وليس هو مصدره.
ولقائل أن يقول:
ولماذا لم يقل القرآن: وقمرا منيرا؟
فيريحنا من تلك التأويلات؟
والجواب: أن البلاغة والإعجاز فى وَسِراجًا مُنِيرًا وليس كذلك: وقمرا منيرا.
وذلك لأن من منهج القرآن البلاغى ألا يشبه أحدا من الخلق بالقمر «فهذا أمر هجره البيان القرآنى تماما. هذه واحدة.
والثانية أن التشبيه بالقمر لا يرقى إلى مستوى التشبيه بالسراج. ولا يؤدى عشر معشار المعانى التى تشع منه، بيان ذلك: أن القمر متقلب لا يدوم على حال. ففي كل يوم له وضع يختلف عما قبله وما بعده:
يبدو ضعيفا هزيلا نحيفا فى أولى مراحله، قصير المكث فى الأفق ولا يبلغ تمامه إلا ليلة واحدة فى دورته الشهرية، ثم يعود عكس ما بدأ، يصغر حجمه ليلة قليلة، ثم يختفى تماما فى آخر لياليه.
وليس الهدى الذى جاء به محمد ﷺ كذلك فهو مستقر لا متقلب كالقمر، دائم لا تعتريه آفات ولا علل.
إن السراج الذى شبه الله به محمدا ﷺ لم ينطفئ منذ أشعله الله، ولم يضعف، ولن ينطفئ ولن يضعف. لذلك كان التشبيه به بلاغة وإعجازا. أما التشبيه بالقمر- فى هذا المقام- فعىّ وفهاهة، لذلك لم يشبه الله رسوله به؛ لأن حديث الله أحسن الحديث، وقوله أصدق الأقوال.
 
١ ‏/ ٥٢٠
 
فتأمل هذه الروائع واللطائف فى هذا التشبيه، وقس عليها ما شئت من تشبيهات البشر، لتدرك بعد الثريا من الثرى.
وصورة ثالثة نعرج عليها فى سرعة، هى قوله تعالى:
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا (٧).
هذه الآية تتحدث عن رجل أو صنف من الناس كانوا يقفون عقبة كئودا فى وجه الدعوة، ويستجلبون بدائل عنها يلهون بها الناس عن سماع دعوة الحق، ويفرون هم منها فرار الحمر المذعورة من الأسد الهصور. هذه هى القضية، فكيف صورها التشبيه القرآنى للناس، فى كلمات صغار ذوات معان كبار.
تعال معى لنرى ونتذوق: صورها أولا:
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا والتولى هو الفرار أو الهروب السريع، ثم بين علة هذا الهروب والفزع، وهى الاستكبار، وجعل الاستكبار حالا منه، يعنى هرب يطير به استكباره الخادع. ومن أى شىء هرب مسرعا؟ من آيات الله الهادية إلى سبيل أقوم.
هذا التصوير كان كافيا فى رسم شخصية هذا الخصم الألد، لكن القرآن يخطو بنا خطوة أخرى عن طريق التشبيه فيقول:
كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها شبه حاله فى عدم التأثر بهدى الله، وهو يتلى عليه بحال من لم يسمع تلك الآيات الهاديات. ووجه الشبه هو انعدام الإحساس بما يتلى.
ومن دقائق هذه الصورة إيثار (أن) المخففة من الثقيلة (أنّ) لأن هذا الإيثار أتاح حذف ضمير الشأن من (أن) مضافا إلى تخفيف (أن) من التشديد. فكان فى هذين (التخفيف وحذف ضمير الشأن) إسراع إلى وصف هذا الصنف من الناس بعدم السماع، وفى هذا ذم لهم وتسجيل سريع عليهم بالإعراض عن دعوة الحق.
والمشبه والمشبه به أمران معنويان: انعدام التأثر، وفقد القدرة على السماع. ووجه الشبه هو شدة التبلد فى كل منهما ثم جاء التشبيه الثانى كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا كاشفا، وشارحا لفقد القدرة على السماع فى التشبيه الأول، مع زيادة تأصيل للصمم الذى حل بالمعرضين عن دعوة الحق، فقد أصيبت أذناه بآفة عطلت وظيفتهما فكأنهما- أعنى أذنيه- غير موجودتين.
فتأمل كيف بنى التشبيه الفكرة تصاعديا، حتى وصل بها الذروة فى المعنى المراد:
ولى مستكبرا.
كأن لم يسمعها.
كأن فى أذنيه وقرا.
فبشره بعذاب أليم.
(٧) لقمان (٧).
 
١ ‏/ ٥٢١
 
ونشير بعد ذلك إلى أمرين:
أولهما أن جميع تشبيهات القرآن تشبيهات مجملة، لم يذكر فيها وجه الشبه ولا مرة واحدة.
وثانيهما: أن فى تشبيهات القرآن نوعا أسميناه فى بعض كتبنا: التشبيه السلبى ..
وتحته صور كثيرة. هذا النوع نادر جدا فى غير القرآن، وكثير فى القرآن وضابطه أن التشبيه وقع خطأ بين أمرين خارج القرآن.
فجاء القرآن ونفى ذلك التشبيه، ومن أمثلته قوله تعالى:
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٨).
فهذا التشبيه بين الصالحين والطالحين وقع خارج دائرة القرآن، فى ظن الذين عاندوا الله ورسوله. والذى فى القرآن هو نفى ذلك التشبيه. لذلك أسميناه ب «التشبيه السلبى أو التشبيه المسلوب» (٩).
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
(٨) الجاثية: ٢١.
(٩) خصائص التعبير فى القرآن الكريم وسماته البلاغية (مبحث التشبيه) مكتبة وهبة- القاهرة.
 
١ ‏/ ٥٢٢
 
التّمثيل
التمثيل فى اللغة المماثلة بين شيئين تجمع بينهما صفات مشتركة فيهما أكثر من الصفات المفرقة بينهما، أو ما فى أحدهما مماثل تماما لما فى الآخر، بحيث لا يعتد بما بينهما من تباين (١). أما فى اصطلاح البلاغيين فيطلق التمثيل على عدة فنون بلاغية:
يطلق على الاستعارة التمثيلية، وعلى ضرب المثل، وعلى الكناية، وعلى نوع من الاستعارة غير التمثيلية (٢)، ثم على التشبيه المركب، وهو الذى نخصه بالحديث فى هذا المبحث.
والتشبيه المركب هو التشبيه التمثيلى، أو التمثيل، وهو قسيم التشبيه فى الوجود. وبين التمثيل والتشبيه اتفاق واختلاف؛ لأن كل تمثيل تشبيه، وليس كل تشبيه تمثيلا فالتشبيه خاص بما كان طرفاه (المشبه والمشبه به) مفردين ولو كان مثنى أو جمعا، كما تقدم فى مبحث التشبيه، وكذلك وجه الشبه يكون فى التشبيه مفردا، يعنى أمرا واحدا وإن تعدد وجه الشبه، كتشبيه القمر فى أواخر لياليه بالعرجون القديم فى التقوس والشحوب والنحافة (الدقة).
أما التمثيل أو التشبيه التمثيلى فيشترط فى طرفيه أن يكونا مركبين من عنصرين فأكثر.
هذه هى الفروق بين التشبيه، والتشبيه التمثيلى. وهذا موضع إجماع بين علماء البيان. فإن أطلق وصف التمثيل على التشبيه لم يرد منه التشبيه التمثيلى باتفاق وفى القرآن الكريم صور كثيرة للتشبيه التمثيلى المركب الطرفين والوجه، موزعة على معان وأغراض شتى شارحة، مرغبة، محذرة، ناصرة للحق، داحرة للباطل جامعة فى تصويرها بين مخاطبة كل المدارك والملكات مستخدمة فى أدائها كل عناصر الكشف، وقوة التأثير من ألوان يدركها البصر، وأصوات يتلقاها السمع وطعوم يحس بها الذوق، وشذا مفعم بالأريحية تمتع حاسة الشم، أو دخان خانق يزكم الأنوف.
وقد أجمل بعض الباحثين الأغراض التى تراد من التشبيه التمثيلى وغير التمثيلى فى الآتى:
* تقرير المعنى المراد فى وعى السامع.
(١) المصباح المنير والمعاجم اللغوية، مادة: مثل.
(٢) العمدة لابن رشيق (٣٠).
 
١ ‏/ ٥٢٣
 
* الإقناع بفكرة ما خيرية أو شرية.
* تحسين أمر للعمل به والحث عليه، أو تقبيح أمر للتنفير منه.
* إثارة المشاعر رغبة، أو رهبة.
* المدح أو الذم، التعظيم أو التحقير.
* إخراج الخفى مخرج الجلى.
* إمتاع العواطف وإثارة ملكات الفهم.
* عرض المعانى فى أسلوب شيق غير ممل (٣).
وكثيرا ما تأتى صور التشبيه التمثيلى فى القرآن، وطرفا التشبيه فيها كلمة «مثل» بفتح الميم والثاء، أو يأتى «مثل» مشبها مصرحا به دون المشبه به.
وقد يؤتى بكلمة «مثل» فى تشبيهات القرآن مرادا بها القصة والشأن العجيب، أو مشارا بها إلى مثل مضروب على غير طريق التشبيه.
والمراد من كل استعمالاتها التوضيح والكشف والعظة والاعتبار.
وقبل أن نأخذ فى عرض النماذج وتحليلاتها نشير إلى فرق آخر جوهرى بين التشبيه المفرد الطرفين والوجه والتمثيل المركب الطرفين والوجه.
ذلك الفرق هو أن التشبيه المفرد يأتى فى نطاق أضيق من حيث الدلالة على المعانى، من التشبيه التمثيلى، حيث ترى نسبة معانى التشبيه المفرد من نسبة معانى التشبيه التمثيلى تعادل نسبة ١: ٢، أو إلى ٣ أو أكثر، لأن التشبيه التمثيلى له دلالات مكثفة فى الطرفين، وفى الوجه.
فمثلا قول كعب بن زهير فى مدح النبى ﷺ
إن الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول
فيه تشبيه للرسول بالنور فى الهداية فى الشطر الأول وتشبيه له بالسيف فى القوة.
ففي كل تشبيه منهما معان جزئية مفردة لا كثافة فيها.
قارن هذا بقول الشاعر يصف الشمس وقت شروقها
والشمس من مشرقها قد بدت ... صفراء ليس لها حاجب
كأنها بوتقة أحميت ... يجول فيها ذهب ذائب
المشبه هو الشمس وقت شروقها فى لونها الأصفر، وامتدادات قرصها، وأشعتها المتهادية منها. هذا هو تركيب المشبه أما المشبه به فهو إناء نحاس مستدير الشكل
(٣) أمثال القرآن (٥٩ - ٦٠) دكتور عبد الرحمن الميدانى الطبعة الثانية (١٤١٢ هـ- ١٩٩٢ م) دمشق- دار القلم.
 
١ ‏/ ٥٢٤
 
أحميت عليه النار وفيه ذهب أصفر اللون، ذائب يتحرك وسط الإناء تخرج منه أشعة صاعدة أمام الرائى. وهذا هو تركيب المشبه به والمشبه وهما مركبان حسيان يريان بحاسة البصر. أما وجه الشبه:
فهو الهيئة الحاصلة من الاستدارة مع صفرة اللون والأشعة المتموجة المرسلة من سطح الإناء وهذا هو تركيب وجه الشبه.
قارن هذا التشبيه التمثيلى بالتشبيه المفرد فى قول كعب بن زهير يمدح الرسول ﷺ. تر الفروق الواضحة بين كثافة المعانى والصور هنا، ويسرها وبساطتها هناك.
وعلى هذا المنوال جاءت التشبيهات التمثيلية في القرآن الكريم، ولنأخذ أولا قوله تعالى:
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤).
هذه الآية الكريمة تواجه قضية من قضايا الشرك والإيمان فى منتهى الخطورة:
حاصل هذه القضية أن مشركى العرب، مع إيمانهم بالله، كانوا يشركون به أصنامهم وأوثانهم، يرجون منها النفع، وأن يقربوهم من الله زلفى.
فكيف واجه القرآن هذه القضية. وكيف أبطل باطل القوم وأقام عليهم الحجة، وساعدهم على التخلص من اعتقادهم الباطل، لا بحز أعناقهم بالسيوف، ولكن بالعقل والبرهان بادئا بتوجيه الخطاب إليهم هكذا:
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ .. وخلاصة هذا المثل أن الله ساق لهم عظة وعبرة من واقع حياتهم التى يعيشونها بكل مشاعرهم ووعيهم. يقول الله لهم:
إنكم تزعمون أن أصنامكم وأوثانكم لها شرك مع الله فى ملكه تنفع وتضر كما ينفع الله ويضر، متساوون مع الله فى التصرف فى شئون الكون.
ونحن نسألكم: هل لكم من عبيدكم وإمائكم الذين تملكون رقابهم هل لكم منهم شركاء فى ما تملكون يتصرفون فى ممتلكاتكم بكل حرية دون الرجوع إليكم، وأنكم إذا تصرفتم فى أموالكم تخافون منهم وتخشونهم إذا تصرفتم فى أموالكم تخافون منهم يعلمون، كخشية بعضكم بعضا- أيها الأحرار- إذا كانت بينكم شركة وخلطة فى بعض الأموال.
إن الإجابة على هذا السؤال هى بالنفى قطعا، سواء أفصحوا بها أو أسروها فى أنفسهم.
(٤) الروم (٢٨).
 
١ ‏/ ٥٢٥
 
فهذا تمثيل جدلى احتجاجى أفحم الله فيه المشركين بالعقل والبرهان؛ ولذلك جاءت خاتمة الآية:
كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
وكان الله يقول لهم بعد ذلك النفى الذى يحسونه فى أنفسهم: إذا كنتم لا ترضون أن تشركوا عبيدكم وإماءكم معكم فى ممتلكاتكم وأنتم وهم بشر مخلوقون، فكيف ترضونه لأصنامكم مع الله وهو الخالق المهيمن، وهم مخلوقون بل جماد لا إحساس لهم ولا إرادة.
فالمشبه والمشبه به هنا هيئتان أو صورتان مركبتان وكذلك وجه الشبه هيئة مركبة من عدة عناصر، لأنه تشبيه تمثيلى مركب.
المشبه هو دعوى المشركين أن للاصنام شركة مع الله فى الكون تنفع كما ينفع، وتضر كما يضر مع بطلان الأسس التى بنوا عليها هذه الدعوى.
وهو مركب مزيج من الحسيات وبعض المعنويات والمشبه به نفى أن يكون للمشركين شركاء من عبيدهم ومملوكيهم يتصرفون كما يتصرف أسيادهم فى ما يملكون، مع خشية الأسياد من المملوكين إذا تصرفوا فى أموالهم دون الرجوع إليهم، كخشية الشركاء الأحرار بعضهم بعضا. وهو مركب حسى مشوب بشيء من المعنوى.
ووجه الشبه هو بطلان المساواة بين الطرفين مع بطلان ما بنيت عليه هذه المساواة.
وبهذا التمثيل الرائع بطلت عقيدة الإشراك عقلا كما هى باطلة واقعا.
ومثال آخر هو قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٥).
المشبه فى هذا التمثيل الإنفاق الذى يتبعه منّ وأذى من المنفق الذى لم يرد بإنفاقه وجه الله ولا يرجو ثوابه، والمشبه به حجر صخرى عليه قليل من تراب، هطل عليه المطر فأزال التراب وترك الحجر أملس نقيا.
فكل من المشبه والمشبه به هيئة، مركبة من عدة عناصر حسية ومعنوية.
ووجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من تجمع أشياء بعضها فوق بعض، سلطت عليها عوامل الإزالة مع سرعة الفناء والهلاك وهو مركب حسى.
(٥) البقرة (٢٦٤).
 
١ ‏/ ٥٢٦
 
والغرض من التمثيل هو الحرمان والحسرة والعجز عن التدبير والتحذير من سوء المصير ومثال ثالث، هو قوله تعالى:
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ .. (٦).
وهذا مثل أو تمثيل لحال الحياة الدنيا فى نموها وازدهارها وسرعة فنائها وهوان أمرها.
شبهها الله ﷿ بصورة حديقة أرواها الماء فأنبتت من كل زوج بهيج، ثم سرعان ما ذبلت ويبست وزالت نضارتها وبهاؤها، وتحطمت أشجارها وجفت ينابيعها وصار نباتها وزرعها غثاء أحوى.
فالمشبه هو الدنيا فى سرعة زوالها بعد بهجتها ونضارتها، والمشبه به حديقة توفرت لها أسباب النماء والازدهار والإبهاج ثم سرعان ما أسرع إليها الفناء والهلاك، وطرفا التشبيه مركبان حسيان.
أما وجه الشبه فهو الهيئة الحاصلة من اجتماع أشياء مبهجة، نافعة، أبلغ ما يكون النفع، مع سرعة هلاكها وانقضائها. وهو مركب حسى كذلك.
والغرض من التشبيه هو التحذير من الاغترار بالدنيا والركون إليها وترك العمل للحياة الآخرة.
ومما تجدر الإشارة إليه أن التشبيه التمثيلى فى القرآن إذا كان المشبه به فيه مركبا من عدة عناصر نجد أداة التشبيه فيه داخلة دائما على العنصر الرئيسى من عناصره. وإذا تتبعنا هذه التمثيلات القرآنية كلها نجدها خاضعة لهذا المنهج البيانى الحكيم. ونريد من العنصر الرئيسى فى التمثيل القرآنى كونه سببا فى ما بعده، ولولاه ما كان عنصر منها، وهى منه بمثابة المسبب، فقد ضرب ثلاثة أمثال للحياة الدنيا. وفى كل واحد منها نجد الماء هو العنصر الرئيسى لجميع العناصر الآتية بعده.
أول هذه الأمثال الثلاثة كان فى سورة «يونس» وهو قوله تعالى:
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهارًا فَجَعَلْناها حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٧).
تأمل العناصر التى وردت بعد «الماء» تجد الماء هو السبب فيها، ولولا الماء ما كان لواحد منها وجود.
أما المثل الثانى فهو آية «الكهف» التى تقدم ذكرها آنفا. وفيها دخلت أداة التشبيه على
(٦) الكهف (٤٥).
(٧) يونس (٢٤).
 
١ ‏/ ٥٢٧
 
«الماء» هكذا وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ.
أما المثل الثالث فهو فى سورة «الحديد» (٨) وهو قوله تعالى:
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطامًا ...
أداة التشبيه فى هذا التمثيل هى «الكاف» أما «مثل» فهو المشبه به، وهو مضاف إلى غَيْثٍ وغيث أول عنصر ذكر فى بيان عناصر التشبيه بعد المشبه به. فصار كأن الأداة دخلت عليه مباشرة، وذلك لأن الماء هو السبب فى التمثيلات الثلاثة.
وكذلك قوله تعالى فى وصف أحبار اليهود وغبائهم:
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفارًا .. (٩).
كان «الحمار» أول عنصر يذكر من عناصر الصورة لأن المثل مضروب لغباء الأحبار، والحمار هو أكثر الأغبياء غباء، لذلك قدم، ولم يقل: كمثل أسفار يحملها الحمار؟
وكذلك قوله تعالى فى تمثيل مضاعفة الأجر للمنفقين أموالهم فى سبيل الله.
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ .. (١٠).
كانت «الحبة» أول عناصر الصورة؛ لأنها سبب فى ما بعدها وما بعدها مسبب عنها.
وهذا ملحوظ جدير بالاعتبار فى بلاغة القرآن الكريم، وقليل من يلتفت إليه من الدارسين، قدماء ومحدثين (١١).
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
(٨) الحديد (٢٠).
(٩) الجمعة (٥).
(١٠) البقرة (٢٦١).
(١١) انظر خصائص التعبير فى القرآن الكريم (مبحث التشبيه) مكتبة وهبة القاهرة.
 
١ ‏/ ٥٢٨
 
المجاز المرسل
الإرسال فى اللغة الإطلاق وترك التقييد (١) والمجاز المرسل قسم قائم برأسه من المجاز اللغوى والقسم الآخر هو الاستعارة. والفرق بينهما أن الاستعارة مجاز لغوى
علاقته المشابهة.
أما المجاز المرسل فهو مجاز لغوى علاقته ليست المشابهة بل له علاقات أخرى كالكلية والجزئية. (٢)
وسمى مرسلا لأنه لم يقيد بعلاقة واحدة كما هو الشأن فى الاستعارة، بل تتوارد عليه علاقات كثيرة تتعدى العشر علاقات (٣).
والراجح أن أول من أشار إلى تسميته ب «المرسل» هو الإمام عبد القاهر الجرجانى، فقد قال وهو يتحدث عن فكرة علاقات هذا النوع من المجاز، إن المكان لا يسمى مجلسا إلا إذا لوحظ جلوس القوم فيه «وليس المجلس إذا وقع على القوم من طريق التشبيه بل على وجه وقوع الشيء على ما يتصل به. وتكثر ملابسته إياه، وأى شىء يكون بين القوم ومكانهم الذى يجتمعون فيه، إلا أنه لا يعتد بمثل هذا، فإن ذلك قد يتفق حيث ترسل العبارة» (٤).
فالإشارة إلى تسميته المجاز المرسل تكمن فى قوله «حيث ترسل العبارة»، وكان الإمام يقصد فعلا بهذا الحديث ما سمى فى ما بعد بالمجاز المرسل؛ لأنه ذكر الكثير من أمثلته وعلاقاته بعد التمهيد له، ثم أخذ عنه البلاغيون هذه الأمثلة، وتحليلاتها عند حديثهم عن المجاز المرسل فى صورته النهائية.
وقد سماه ابن الزملكانى والزركشى «المجاز الإفرادى» (٥) وسماه السيوطى «المجاز فى المفرد» وقال: ويسمى المجاز اللغوى (٦)
وهاك أمثلة له مع بيان علاقاته من خلالها.
الكلية: من علاقات المجاز المرسل الكلية، ومن ذلك فى القرآن الكريم:
يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ (٧).
المجاز فى قوله أَصابِعَهُمْ لأن المراد الأنامل أو أطراف الأصابع، فالعلاقة هى الكلية، حيث أطلق الكل (الأصابع) وأراد الجزء (أطراف الأصابع).
* الجزئية: ومثالها من القرآن الكريم قوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ والمجاز فى قوله رَقَبَةٍ حيث أطلق الجزء رَقَبَةٍ وأراد الكل (العبد أو الأمة) وحين تكون العلاقة (الجزئية) فإنه يشترط فى الجزء أن تكون له زيادة اختصاص بالمعنى المراد وقد تحققت هذه الخصوصية فى رَقَبَةٍ لأن الرقيق شبيه بالمربوط من عنقه فى قبضة مالكه.
(١) اللسان والمعاجم اللغوية، مادة: رسل.
(٢) حاشية الدسوقى ضمن شروح التلخيص (٤/ ٢٩).
(٣) الإيضاح (٢٧٠).
(٤) أسرار البلاغة (٣٥٠).
(٥) البرهان الكاشف (١٠٢) والبرهان فى علوم القرآن (٢/ ٢٥٨).
(٦) معترك الأقران (٢/ ٢٤٨).
(٧) البقرة (١٩).
 
١ ‏/ ٥٢٩
 
* اعتبار ما كان: مثل قوله تعالى:
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ أى الذين كانوا يتامى قبل أن يبلغوا سن الرشاد. أما عند بلوغهم سن الرشاد، فهم ليسوا يتامى، والسر البلاغى فى هذا المجاز حث أوصياء اليتامى على المبادرة على دفع أموال من كانوا أوصياء عليهم، فور بلوغهم راشدين، حتى لكأنهم سلموا لهم أموالهم وهم يتامى.
* اعتبار ما سيكون: ومثالها من القرآن الكريم قوله تعالى:
إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْرًا (٨) والخمر لا يعصر؛ لأنه معصور فعلا، لكن المعنى: أرانى أعصر عنبا يصير خمرا. فالعلاقة اعتبار ما سيكون، والسر البلاغى فى هذا المجاز الإسراع إلى التنفير من الخمر، فهو مجاز مرسل علاقته اعتبار ما سيكون.
* السببية؛ ومثالها من القرآن الكريم قوله تعالى وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقًا (٩) أى ماء هو سبب الرزق. فقد طوى السبب، وأريد المسبب والسر البلاغى فى هذا المجاز هو إظهار الامتنان على العباد.
الآلية، ومن علاقات المجاز المرسل الآلية والآلة هى التى تستعمل فى إيجاد الحدث ومن هذا النوع فى القرآن الكريم قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ (١٠).
والمجاز المرسل فى كلمة بِلِسانِ حيث أريد منها: اللغة، وبِلِسانِ قَوْمِهِ معناها:
لغة قومه. والذى سوّغ استعمال اللسان فى معنى اللغة، أن اللسان هو آلة أو أداة اللغة فالعلاقة فى هذا المجاز هى الآلية. وقد ظل استخدام اللسان بمعنى اللغة، حتى منتصف القرن الثامن الهجرى. وما يزال يستخدم فى هذا المعنى.
* المكانية: ومن علاقات المجاز المرسل علاقة المحل أو المكان. بأن يطلق المحل أو المكان، ويراد الحالّون فيه. ومن أمثلته فى القرآن الكريم قوله تعالى:
فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ (١١) والسماء والأرض ليستا من العقلاء حتى تبكيا، والمعنى: فما بكى عليهم أهل السموات، يعنى الملائكة، ولا أهل الأرض، يعنى الناس، ففي السموات والأرض مجاز مرسل علاقته المكانية أو المحلية.
والمجاز المرسل كثير الورود فى القرآن الكريم، وله علاقات أخرى غير ما تقدم (١٢).
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
(٨) يوسف (٣٦).
(٩) غافر (١٣).
(١٠) إبراهيم (٤).
(١١) الدخان (٢٩).
(١٢) شروح التلخيص (٤/ ٢٩).
 
١ ‏/ ٥٣٠
 
الاستعارة
الاستعارة لغة: مأخوذة من العارية، وهى نقل منفعة شىء مملوك لشخص إلى غير مالكه، مع بقاء الملكية لمالك ذلك الشيء.
كإعارة الدابة، أو الدار أو الكتاب لمن هو فى حاجة إلى منافع هذه الأشياء.
والعارية والإعارة ما تداوله الناس بينهم.
واستعار فلان كذا طلب إعارته إياه. والسين والتاء فيها مزيدتان للطلب (١).
أما الاستعارة فى اصطلاح البلاغيين، فكان أول من أشار إليها هو أبو عمرو بن العلاء. فقد ذكر قول ذى الرمة.
أقامت به حتى ذوى العود فى الثرى ... وساق الثريا فى ملاءته الفجر
وعلق عليه قائلا:
«ولا أعلم قولا أحسن من قوله: وساق الثريا فى ملاءته الفجر «فصيّر للفجر ملاءة، ولا ملاءة له، وإنما استعار هذه اللفظة، وهو من عجيب الاستعارات» (٢) ثم أخذ البلاغيون من بعده يوسعون دائرة البحث فيها، ويحاولون وضع تعريفات لها.
وكان أول من وضع تعريفا للاستعارة هو الجاحظ فقال:
«الاستعارة تسمية الشيء باسم غيره إذا قام مقامه» (٣) وعرفها ابن قتيبة فقال:
«والعرب تستعير الكلمة فتضعها مكان الكلمة، إذا كان المسمى بها بسبب من الآخر أو مجاورا أو مشاكلا» (٤) وعرفها ثعلب فقال:
«هى أن يستعار للشيء اسم غيره أو معنى سواه» (٥).
وعرفها ابن المعتز بقوله: «استعارة الكلمة، لشىء لم يعرف بها من شىء عرف بها» (٦).
وكل ما تقدم غير واف فى ضبط الاستعارة وتحديد مفهومها تحديدا واضحا جامعا مانعا.
ثم بدأت مرحلة أخرى عرّفت فيها الاستعارة تعريفات جديدة، من ذلك تعريف القاضى على بن عبد العزيز الجرجانى، إذ
(١) لسان العرب، مادة: عور.
(٢) حلية المحاضرة (١/ ١٣٦) الخاتمى.
(٣) البيان والتبيين- الجاحظ (١/ ١٥٣/ ٢٨٤).
(٤) تأويل مشكل القرآن (١٠٢).
(٥) قواعد الشعر (٤٧).
(٦) البديع (٢).
 
١ ‏/ ٥٣١
 
قال «الاستعارة ما اكتفى فيها بالاسم المستعار عن الأصل ونقلت العبارة فجعلت فى مكان غيرها، وملاكها تقريب الشبه ومناسبة المستعار له المستعار منه، وامتزاج اللفظ بالمعنى حتى لا يوجد بينهما منافرة، ولا يتبين فى أحدهما إعراض عن الآخر» (٧).
ويلاحظ أن فى هذا التعريف طولا، والتعريفات يستحسن فيها الإيجاز.
وعرفها الرمانى تعريفا مختصرا قال فيه:
«الاستعارة تعليق العبارة على ما وضعت له فى أصل اللغة على جهة النقل للإبانة» (٨).
وجاء الخطيب القزوينى فعرّف الاستعارة فى إيجاز شديد، هو قوله:
«الاستعارة هى ما كانت علاقته تشبيه معناه بما وضع له» (٩).
فالنور- إذا أستعير للحجة البالغة- علاقة المشبه بالمشبه به هى تشبيه معنى النور المستعار للحجة بالمعنى اللغوى الوضعى الذى أراده واضع اللغة، من كلمة «النور» الحسى الذى يرى بالبصر.
وقد لاحظ متأخرو البلاغيين قصورا فى كل التعريفات التى تقدمت؛ وهذا حملهم على وضع تعريف واف للاستعارة فقالوا:
«الاستعارة: هى اللفظ المستعمل فى غير ما وضع له، لعلاقة المشابهة، مع قرينة مانعة، من إرادة المعنى الوضعى» (١٠).
أو «استعمال اللفظ فى غير ما وضع له، لعلاقة المشابهة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الوضعى» (١٠).
ويسمون التعريف الأول: التعريف بالمعنى الاسمى والثانى: التعريف بالمعنى المصدرى.
هذا التعريف هو الشائع الآن فى مصنفات البلاغيين المعاصرين، والجارى على ألسنتهم وهو تعريف واف جامع مانع، خال من جميع المؤاخذات، يشتمل على العناصر الفنية للاستعارة، وهى:
* نقل اللفظ المستعار من معناه الوضعى إلى معناه الاستعارى.
* العلاقة بين المعنيين الوضعى والاستعارى.
* القرينة التى تمنع من إرادة المعنى اللغوى الوضعى فقوله تعالى: وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ (١١) فيه استعارة النور للهدى المعنوى الذى جاء به الإسلام فالنور مستعار، والهدى مستعار له. والعلاقة وتسمى «الجامع» هى الكشف والإظهار فى كل من النور والهدى أما القرينة المانعة من إرادة
(٧) الوساطة بين المتنبى وخصومه (٤١).
(٨) النكت فى إعجاز القرآن (٧٩) ضمن ثلاث رسائل فى إعجاز القرآن.
(٩) الإيضاح (٥/ ٣٧) شرح د./ محمد عبد المنعم خفاجى.
(١٠) البلاغة الواضحة (٤. مبحث الاستعارة) حامد عونى.
(١١) الأعراف (١٥٧).
 
١ ‏/ ٥٣٢
 
المعنى الحقيقى للنور الحسى فهى قوله تعالى: «أنزل معه» لأن محمدا- ﷺ لم يجئ بنور حسى يدرك بالأبصار، بل بنور معنوى يدرك بالعقول والقلوب.
وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ (١٢)
فيه استعارة التوفية «الموت» للإنامة «النوم» والجامع بين المستعار له والمستعار منه هو فقد الوعى والحركة فى كل منهما.
أما القرينة فهى «بالليل» لأنه وقت النوم، أما الموت الحقيقى فلا وقت له، لأنه يأتى ليلا ونهارا فى أى لحظة فيهما.
هذا هو مفهوم الاستعارة بوجه عام.
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
(١٢) الأنعام (٦٠).
 
١ ‏/ ٥٣٣
 
ا لاستعارة التّصريحيّة
التصريح لغة: الإبانة والإظهار، ضد الغموض والإخفاء (١) أما فى الاصطلاح البلاغى فهى .. ما صرّح فيها بلفظ المشبه به دون المشبه .. (٢)
أو هى كما قال السكاكى: «أن يكون الطرف المذكور من طرفى التشبيه هو المشبه به» (٣).
وأساس هذا التقسيم للاستعارة إلى تصريحية وغيرها هو قولهم:
«الاستعارة تشبيه حذف أحد طرفيه» وطرفا التشبيه هما: المشبه والمشبه به. وعلى هذا قالوا: إن الاستعارة التصريحية هى ما كان المذكور فيها من طرفى التشبيه هو المشبه به، والمحذوف هو المشبه، وهذا موضع إجماع عند البلاغيين (٤).
فهى عندهم «أن تعتمد نفس التشبيه، وهو أن يشترك شيئان فى وصف، وأحدهما أنقص من الآخر، فيعطى الناقص اسم الزائد، مبالغة فى تحقيق ذلك الوصف كقولك: رأيت أسدا، وأنت تعنى رجلا شجاعا، وغنت لنا ظبية، وأنت تريد امرأة» (٥).
وقد حفل القرآن الكريم بصور لا حصر لها من الاستعارة التصريحية. ومن ذلك قوله تعالى:
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) أى من الضلال إلى الهدى. استعير لفظ «الظلمات» للضلال، لتشابههما فى عدم اهتداء صاحبهما، وكذلك استعير لفظ «النور» للإيمان لتشابههما فى الهداية» (٧).
وهما استعارتان تصريحيتان؛ لأن كلا من الظلمات والنور هما المشبه به، وهو المذكور فى الكلام. أما المشبه، وهما: الضلال والإيمان فقد حذفا من الكلام.
والقرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقى للظلمات والنور حالية تفهم من المقام، إذ ليس المراد أن يخرجهم من ظلام حسى، إلى نور حسى. بدليل قوله تعالى فى عجز الآية:
إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ
وفى الصراط هنا استعارة تصريحية؛ لأن المراد منه دين الله ﷿. شبه بالصراط وهو الطريق الحسى، تصويرا للمعنوى المدرك
(١) لسان العرب مادة: صرح.
(٢) معجم المصطلحات البلاغية (١/ ١٥٥).
(٣) مفتاح العلوم (١٧٦).
(٤) شروح التلخيص (٤/ ٤٥) وما بعدها.
(٥) حسن التوسل (١٣٤) الحلبى.
(٦) إبراهيم (١).
(٧) معجم المصطلحات البلاغية (١/ ١٥٥).
 
١ ‏/ ٥٣٤
 
بالعقول بالحسى المدرك بالبصر، اعتناء بشأنه ومبالغة فى إظهاره.
وقوله تعالى:
إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (٨) فيه استعارة فى قوله طَغَى استعارة الطغيان، وهو من صفات العقلاء، لزيادة الماء وخروجه عن مجراه وغمره الأرض على جانبى مجراه.
والعلاقة بين الطغيان الحقيقى، وهو الظلم، وبين المعنى الاستعارى، وهو كثرة الماء وفيضانه على جانبى مجراه هو مجاوزة الحد المعهود فى كل منهما (٩) والقرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقى للطغيان وهو: الظلم هى الفاعل الْماءُ لأن الماء ليس عاقلا ولا مكلفا حتى يوصف بالظلم والطغيان وبلاغة الاستعارة هى الإيضاح والإيجاز وهذا وصف عام فى كل استعارة.
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
(٨) الحاقة (١١).
(٩) حاشية الشهاب على البيضاوى (٨/ ٢٣٦).
 
١ ‏/ ٥٣٥
 
الاستعارة الأصليّة
الاستعارة الأصلية فى اصطلاح البلاغيين هي التى تكون فى أسماء الأجناس غير المشتقة (الجامدة) وقد أوضح الإمام السكاكى معناها فقال:
«أن يكون المستعار اسم جنسى، كرجل وقيام وقعود، ووجه كونها أصلية أن الاستعارة مبناها على تشبيه المستعار له بالمستعار منه» (١).
يقصد أن يتم هذا التشبيه الاستعارى بلا واسطة بين المستعار له «المشبه» والمستعار منه (المشبه به) كما سيأتى فى الاستعارة «التبعية» وقد اتفق جمهور البلاغيين على هذا الضابط الذى ذكره السكاكى للاستعارة الأصلية (٢). وحصر متأخروهم وقوع الاستعارة الأصلية فى هذين النوعين، وهما:
* أسماء الأعيان (الذوات الحسية) الجامدة، كأسد.
* ثم المصادر الجامدة، مثل: الكرم- الحلم- الصيام- النطق.
وورود الاستعارة الأصلية فى القرآن مستفيض جدا، ومنها قوله تعالى:
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ.
استعار الظلمات للضلال والجهل والكفر، وكل من المستعار، وهو الظلمات، والمستعار له، وهو الضلال، اسمان جامدان غير مشتقين، وهما من أسماء المعانى التى تدرك بالعقل. فالاستعارة- إذن- أصلية، لجريانها فى الأسماء الجامدة.
والأمر المشترك بينهما، ويسمى «الجامع» (٣) هو الحيرة والارتباك فى كل منهما. والقرينة المانعة، من إرادة المعنى الحقيقى للظلمات حالية تفهم من المقام ثم استعارة «النور» للإيمان، على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية؛ لأن كلا من «النور» وهو المستعار، و«الإيمان» وهو المستعار له اسمان جامدان غير مشتقين، والجامع بينهما هو الهداية والاطمئنان. والقرينة حالية كذلك.
وهاتان الاستعارتان تفيدان المبالغة فى وصف الضلال بالظلمات، وفى وصف الإيمان بالنور.
(١) مفتاح العلوم (١٧٦/ ١٧٩).
(٢) ينظر: المصباح لابن ابن مالك (٦٥) وعروس الأفراح لبهاء الدين السبكى. ضمن شروح التلخيص (٤/ ١٠٨)
والمطول لسعد الدين (٣٧٦).
والأطول لعصام الدين (٢/ ١٢٦).
ومعترك الأقران لجلال الدين السيوطى (١/ ٢٨٠) والإيضاح للخطيب القزوينى (٥/ ٨٧) شرح د/ محمد عبد المنعم خفاجى.
(٣) والنكت فى إعجاز القرآن (٨٧٠) للرمانى ضمن ثلاث رسائل فى إعجاز القرآن.
 
١ ‏/ ٥٣٦
 
والأولى تفيد التنفير والترهيب من الضلال وبشاعته.
والثانية تفيد الترغيب فى الإيمان وآثاره الطيبة.
ومن الاستعارة التصريحية الأصلية قوله تعالى: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ هذا حديث عن منزلة القرآن عند الله.
والاستعارة التصريحية الأصلية فى كلمة «أم» وأم الكتاب أصل الكتاب. فاستعار «الأم» للأصل «وهو أبلغ لأن الأم أجمع وأظهر فى ما يرد إليه مما ينشأ عنه».
والاستعارة- هنا- تصريحية لذكر المشبه به فيها، وأصلية لأن الاسم المستعار فيها اسم جنس جامد غير مشتق، والقرينة هى إضافة «أم» إلى الكتاب؛ لأن الكتاب لا أم له ولد منها.
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
 
١ ‏/ ٥٣٧
 
ا لاستعارة التّبعيّة
الاستعارة التبعية فى اصطلاح البيانيين هى ما كان اللفظ المستعار فيها واحدا من الفصائل الثلاث الآتية:
* الأفعال: ماضية كانت أو مضارعة أو أمرا.
* الصفات المشتقة: مثل اسمى الفاعل والمفعول.
* الحروف؛ مثل فى وعلى واللام.
وهى عكس الاستعارة الأصلية، وكلتاهما تصريحيتان وهما قسمان للاستعارة التصريحية وقد عرف الإمام السكاكى الاستعارة التبعية فقال:
«ما تقع فى غير أسماء الأجناس كالأفعال والصفات المشتقة، وكالحروف» (١).
وقال ابن بن مالك:
«هى ما تقع فى الأفعال والصفات والحروف؛ لأنها لا توصف فلا تحتمل الاستعارة بنفسها، وإنما المحتمل لها فى الأفعال والصفات مصادرها. وفى الحروف متعلقات معانيها. فتقع الاستعارة هناك، ثم تسرى فى هذه الأشياء» (٢).
يريد أن يقول: إن الأفعال والصفات لا تصلح فى ذاتها لوقوع الاستعارة فيها؛ فالاستعارة تجرى أولا فى مصادر الأفعال والصفات أصالة. ثم تسرى من المصادر إلى الأفعال والصفات وكذلك الحروف مثل فى وعلى، لا توصف. فلا تصلح لأن تكون استعارة على جهة الأصالة. بل تقع الاستعارة فى متعلق معناها الكلى، كالظرفية المطلقة فى حرف الجر «فى» والاستعلاء الكلى فى حرف الجر «على» تم تسرى الاستعارة منهما إلى الحرف.
ولذلك سميت استعارة تبعية، لأنها وقعت تابعة لوقوعها فى مصادر الأفعال والصفات المشتقة، وفى متعلق معانى الحروف الكلية.
ويوضح الخطيب القزوينى فكرة أن الأفعال والصفات والحروف لا تصلح لوقوع الاستعارة فيها مباشرة، فيقول: «وذلك لأن الاستعارة تعتمد التشبيه، والتشبيه يعتمد كون المشبه موصوفا، وإنما يصلح للموصوفية
(١) مفتاح (١٧٩) للإمام السكاكى.
(٢) المصباح (٦٥) لبدر الدين ابن بن مالك.
 
١ ‏/ ٥٣٨
 
الحقائق كما فى «جسم أبيض» و«بياض صاف» دون معانى الأفعال والصفات المشتقة منها- أى من الأفعال- والحروف» (٣) ومن أمثلتها فى القرآن الكريم:
أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ (٤)
ففي قوله «أتى» استعارة تبعية فى زمن الفعل لها شبه الإتيان فى المستقبل «يأتى» بالإتيان فى الماضى «أتى» على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية ثم اشتق من «الإتيان» أَتى بمعنى يأتى، والجامع بين الإتيان فى الماضى والإتيان فى المستقبل هو تحقق الوقوع فى كل منها.
فقد جرت الاستعارة أولا فى المصدر «الإتيان» ثم سرت إلى الفعل، وهذا معنى «التبعية» فى هذه الاستعارة أما قرينة الاستعارة المانعة من المعنى الحقيقى، وهو الإتيان فى الماضى فهى قوله تعالى: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ لأن النهى عن الاستعجال يكون فى ما يأتى مستقبلا، لا فى ما أتى ماضيا.
وقوله تعالى: وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ (٥) فيه استعارتان تبعيتان:
الأولى فى زمن الفعل تَرَكْنا بمعنى:
نترك، لأنه سيكون يوم القيامة.
وقد شبّه فيها الترك فى المستقبل بالترك فى الماضى، والجامع بينهما تحقق الوقوع فى كل منهما، والقرينة حالية تفهم من المقام.
والثانية فى معنى الفعل يَمُوجُ شبه الاضطراب الشديد فى حركة الناس يوم القيامة بالاضطراب الشديد فى حركة موج البحر، وهما مصدران. ثم سرى التشبيه من المصدر الاضطراب الشديد إلى الفعل يَمُوجُ بمعنى يضطرب اضطرابا شديدا.
والقرينة حالية تفهم من المقام كذلك، لأن التموج من خصائص الماء لا الناس.
أما الاستعارة التبعية فى الصفات المشتقة فمنها قوله تعالى:
وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً (٦)
فى مُبْصِرَةً هنا استعارة جرت فى اسم الفاعل، يعنى: مضيئة، ومبصرة أبلغ من مضيئة؛ لأنها أظهر فى مقام النعمة (٧).
شبهت الإضاءة بالإبصار، وهما مصدران، ثم سرى التشبيه من المصدر (الإبصار) إلى الصفة (مبصرة) على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية، والقرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقى للإبصار، كون النهار زمنا لا يوصف بالإبصار- كما يوصف به الأحياء.
والاستعارة التبعية فى الحرف مثل قوله تعالى حكاية عن قول فرعون للسحرة:
(٣) الإيضاح (٥/ ٨٨) للخطيب القزوينى.
(٤) النحل (١).
(٥) الكهف (٩٩).
(٦) الإسراء (١٢).
(٧) النكت فى إعجاز القرآن (٨٨) للرمانى.
 
١ ‏/ ٥٣٩
 
وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ (٨)
استعار متعلق الحرف (فى) الكلى، وهو مطلق الظرفية لمتعلق الحرف (على) وهو مطلق الاستعلاء. ثم سرى التشبيه إلى معنى الحرفين، فاستعيرت (فى) ل (على) لتفيد هذه الاستعارة المبالغة فى تصوير المعنى المراد حتى لكأن فرعون من شدة غيظه على إيمان السحرة لم يكتف بإلصاقهم بجذوع النخل، وإنما غرس أجسادهم فيها غرسا.
والاستعارة التبعية فى معنى الفعل كثيرة الورود فى القرآن الكريم. يليها الاستعارة فى زمن الفعل، ثم فى الحروف (٩).
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
(٨) طه (٧١).
(٩) الفرق بين الاستعارة فى معنى الفعل وفى زمن الفعل أن معنى الفعل فى الأولى هو الذى تغير من الحقيقة إلى المجاز، أما زمنه ماضيا أو مضارعا أو أمرا فيظل كما هو.
أما فى زمن الفعل فإن معنى الفعل يظل كما هو حقيقة لغوية لا مجاز فيه. وزمنه هو الذى تغير من المضارع إلى الماضى، أو من الماضى إلى المضارع.
 
١ ‏/ ٥٤٠
 
الاستعارة التّمثيلية
الاستعارة التمثيلية هى القسم الثالث من الاستعارة التصريحية، بعد الاستعارة الأصلية، والاستعارة التبعية.
ويسميها الخطيب القزوينى: المجاز المركب، وقال فى تعريفها:
«وأما المجاز المركب فهو اللفظ المركب المستعمل فى ما شبّه بمعناه الأصلى تشبيه التمثيل للمبالغة فى التشبيه: أى تشبيه إحدى صورتين منتزعتين من أمرين أو أمور بالأخرى. ثم تدخل المشبه فى المشبه به مبالغة فى التشبيه» (١).
يعنى يكون الوصف الجامع أو المشترك بين كل من المشبه (المستعار له) والمشبه به (المستعار منه) هيئة أو صورة مؤلفة من عنصرين أو أكثر من عنصرين.
والاستعارة التمثيلية تختلف عن غيرها من الاستعارات فالوصف المشترك بين الطرفين فى غيرها مفرد وفيها هيئة أو صورة مركبة فاستعارة «النور» ل «الإيمان» استعارة مفردة، لأن الوصف الجامع بينهما مفرد، وهو الهداية أما الاستعارة التمثيلية فالوصف الجامع فيها هيئة أو صورة كما سيأتى.
أما جلال الدين السيوطى فقد أوجز فى تعريف الاستعارة التمثيلية حيث قال:
«هى أن يكون وجه الشبه فيها- أى الوصف المشترك بين الطرفين- منتزعا من متعدد» (٢).
وإلى هذا ذهب المدنى كذلك (٣).
وسماها قدامة بن جعفر «التمثيل» (٤).
وعلى هذا المنهج سار شراح التلخيص (٥).
والإمام عبد القاهر الجرجانى ساق لها عدة أمثلة تحت عنوان «التمثيل» (٦).
ومن أمثلتها فى القرآن الكريم قوله تعالى:
لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ (٧).
قال الإمام جار الله الزمخشرى فى توجيه هذه الآية بلاغيا:
«هذا تمثيل لمنع الشحيح، وإعطاء المسرف، وأمر بالاقتصاد الذى هو بين الإسراف والتقتير» (٨).
وقوله «تمثيل» يعنى: استعارة تمثيلية.
وفى توضيح هذا الإجمال يقول الشهاب:
«يعنى أنهما استعارتان تمثيليتان، شبه فى
(١) الإيضاح (٥/ ١٠٨).
(٢) معترك الأقران (١/ ٢٨٣).
(٣) أنوار الربيع (١/ ٢٥١).
(٤) نقد الشعر (١٨١).
(٥) شروح التلخيص (٤/ ١٤٧).
(٦) دلائل الإعجاز (٤٣٠).
(٧) الإسراء (٢٩).
(٨) الكشاف (٢/ ٤٤٧).
 
١ ‏/ ٥٤١
 
الأولى يعنى: «ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك- فعل الشحيح فى منعه بمن يده مغلولة لعنقه، بحيث لا يقدر على مدها، وفى الثانية شبه السرف ببسط اليد، بحيث لا تحفظ شيئا» (٩).
يعنى أن غل اليد إلى العنق صورة حسية شبه بها صورة البخيل الحريص على المنع والاحتفاظ بماله.
وأن صورة بسط اليد وهى حسية كذلك شبه بها صورة المسرف الشديد الإسراف فى بذل ماله، بحيث جعله مباحا لكل من أراد أخذه بلا أية ضوابط. فالتشبيه فيهما وقع بين صورتين مركبتين، لا بين مفرد ومفرد.
والجامع بين الطرفين هيئة أو صورة مركبة من عنصرين فأكثر.
ومن الاستعارة التمثيلية فى القرآن الكريم قوله تعالى: وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ (١٠).
ففي الآية استعارتان تمثيليتان، لأن المعنى أن مثل الأرض يوم القيامة لتصرف الله الكامل فيها ومثل السموات بهيمنة الله على كل ما فيها، مثل الشيء يكون فى يد الآخذ به المتصرف فيه (١١).
والاستعارة التمثيلية، لا توصف بأنها أصلية أو تبعية لاعتبارين:
الأول: أن ألفاظها المركبة منها كثيرا ما تجمع بين الأسماء الجامدة والأفعال والصفات، كما فى لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ.
ففيها أسماء أجناس مثل: يد- عنق.
وفيها أفعال وصفات مشتقة وحروف، مثل تجعل، تبسط، إلى،. وقد تقدم أن الاستعارة التصريحية الأصلية هى ما جرت فى أسماء الأجناس الجامدة، وأسماء المعانى.
وأن التصريحية التبعية هى ما جرت فى الأفعال والصفات المشتقة والحروف.
لذلك فإن الاستعارة التمثيلية لا يقال إنها أصلية أو تبعية. ولكن تصريحية تمثيلية فقط.
الاعتبار الثانى: أن الاستعارة التمثيلية كل الألفاظ التى ركبت منها تظل على معانيها الحقيقية لا يدخلها مجاز. وإنما المجاز يقتصر فيها على مجموع كلماتها، حيث تنقل صورتها من الحقيقة إلى المجاز.
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
(٩) حاشية الشهاب على البيضاوى (٦/ ٢٧).
(١٠) الزمر (٦٧).
(١١) معجم المصطلحات البلاغية.
 
١ ‏/ ٥٤٢
 
الاستعارة المرشّحة
الترشيح لغة: هو التقوية (١)، وأما اصطلاحا فإن كل الأقوال فيه تجمع على شىء واحد، هو أن يذكر فى الكلام ما يناسب المشبه به، وهو المستعار فى أسلوب الاستعارة.
والترشيح وصف عارض للاستعارة، ولا يدخل فى عناصرها الأولية المكونة لها، وهو ليس بلازم فيها وكان ممن وضع لها تعريفا فخر الدين الرازى حيث قال «هى التى قرنت بما يلائم المستعار منه، وهى أن يراعى جانب المستعار، ويولى ما يستدعيه، ويضم إليه ما يقتضيه» (٢).
وكذلك قال الحلبى فى تعريفها (٣).
وجمهور البلاغيين يسمون الاستعارة التى قرنت بما يناسب المشبه به (اللفظ المستعار):
الاستعارة المرشحة، أو الاستعارة الترشيحية (٤).
وهى أقوى أنواع الاستعارة، وأكثرها مبالغة لأن الاستعارة تقوم على تناسى التشبيه، وذكر ما يلائم المشبه به (اللفظ المستعار) يساعد على تناسى التشبيه؛ لذلك قالوا فى بيان قيمة الاستعارة المرشحة:
«وأجل الاستعارات الاستعارة المرشحة» (٥).
ومن أمثلتها فى القرآن الكريم، قوله تعالى:
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٦).
استعار الاشتراء للاختيار والاستبدال أى استبدلوا الضلالة بالهدى، لأنه لا بيع ولا شراء على الحقيقة، وهى استعارة تصريحية لذكر المشبه به «الاشتراء» تبعية لجريانها فى الفعل وقد ذكر فى هذه الاستعارة ما يلائم المشبه به، وهو نفى الربح فى قوله تعالى:
فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ لأن الربح والتجارة يلائمان المشبه به وهو الاشتراء.
وفى بيان هذا يقول الإمام الزمخشرى:
حيث إن شراء الضلالة بالهدى وقع مجازا فى معنى الاستبدال. فما معنى ذكر الربح والتجارة كأن ثمة مبايعة على الحقيقة؟
قلت هذا من الصنعة البديعة، التى تبلغ بالمجاز الذروة العليا، وهو أن تساق كلمة مساق المجاز ثم تقفّى بأشكال لها وأخوات، إذا تلاحقن لم تر كلاما أحسن منه ديباجة، وأكثر ماء ورونقا وهو المجاز المرشح.
(١) اللسان، مادة: رشح.
(٢) نهاية الإيجاز فى دراية الإعجاز (٩٢).
(٣) حسن التوسل (١٣٤).
(٤) مفتاح العلوم (١٧٦).
* المصباح (٢٦٦).
* شروح التلخيص (٤/ ١٣٠).
* المطول للسعد (٣٧٨).
* الأطول لعصام الدين (٢/ ١٤٢).
* البرهان فى علوم القرآن (٣/ ٤٢٨).
* خزانة الأدب للحموى (٤٩).
* معترك الأقران فى إعجاز القرآن (١/ ٢٨١).
(٥) تحرير التحبير لابن أبى الأصبع (٩٩).
(٦) البقرة (١٦).
 
١ ‏/ ٥٤٣
 
وذلك نحو قول العرب فى البليد: كأن فى أذنى قلبه خطلا، وإن جعلوه كالحمار. ثم رشحوا ذلك دوما لتحقيق البلادة، فادعوا لقلبه أذنين وادعوا لهما الخطل ليمثلوا البلادة تمثيلا يلحقها ببلادة الحمار (٧).
يعنى أن هذا الترشيح يبعد المشبه به عن جنسه وينسى السامع أصله، وفى هذا مبالغة فى إثبات المعنى المجازى المراد.
ومن الاستعارة المرشحة فى القرآن الكريم قوله تعالى:
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ (٨).
فالنقض: هو الفسخ وفك التركيب، وإيقاعه على العهد من أجل تشبيه العهد بالحبل المبرم، وقوله تعالى:
مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ أى من بعد إحكام برمه وتوثيقه، ترشيح للاستعارة؛ لأنه من ملائمات المشبه به، وهو الحبل. ففي هذا الترشيح زيادة تناس للنسبية، حتى لكأن العهد صار حبلا فعلا.
وقد استعير النقض- كذلك- لعدم الوفاء بموجب العهد، إخراجا للمعنوى المعقول فى صورة المادى المحسوس، اعتناء به، وتنويها ببشاعته، وهى استعارة تصريحية تبعية.
ومثلها الاستعارتان فى قوله تعالى:
وَيَقْطَعُونَ ويُوصَلَ وكل هذه الاستعارات يرشح بعضها بعضا.
لأنه لا نقض، ولا حبل، ولا قطع، ولا وصل على الحقيقة فى الأمور المعنوية.
والاستعارات المرشحة، لها ورود ملحوظ فى آيات الذكر الحكيم، وهى- كما تقدم- من أبلغ الاستعارات ومن أعلاها شأنا، للمبالغة فى إثبات المعنى المجازى المراد، عن طريق تناسى التشبيه، وصيرورة المشبه من جنس المشبه به.
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
(٧) الكشاف (١/ ١٩٢ - ١٩٣).
(٨) البقرة (٢٧).
 
١ ‏/ ٥٤٤
 
الاستعارة المجرّدة
من معانى التجريد فى اللغة التعرية والتخلية، يقال جرّد فلان من ماله، أى أخذ منه، وخلت منه يده (١) والتجريد فى الاستعارة ضد الترشيح، وهو عند علماء البيان يدور معناه حول ذكر ما يلائم المشبه دون المشبه به.
فيرى الفخر الرازى أن الاستعارة تكون تجريدية إذا عقبت بصفات ملائمة للمستعار له- يعنى المشبه- أو تفريع كلام ملائم له (٢).
أما بدر الدين ابن بن مالك فيقول:
«تجريد الاستعارة هو أن تقرن بما يلائم المستعار له» (٣).
وكذلك قال الخطيب القزوينى (٤).
أما العلوى فقد أطال فى تعريفها مع التمثيل لها فقال:
«فأما الاستعارة المجردة فإنما لقّبت بهذا اللقب لأنك إذا قلت:
رأيت أسدا يجندل الأبطال بنصله، ويشك الفرسان برمحه، فقد جردت قولك «أسدا» من لوازم الآساد وخصائها، إذ ليس من شأنها تجريد الأبطال، ولا شك الفرسان بالرماح والنصال (٥) وإلى هذا ذهب السبكى (٦)، والتفتازانى (٧)، والزركشى (٨)، والسيوطى (٩).
وقد وردت الاستعارة المجردة فى كتاب الله العزيز فى عدة مواضع، منها قوله تعالى:
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٠).
استعيرت الإذاقة لشدة الإحساس بالآلام واستعير اللباس لما أحاط بهم من عقاب الله تعالى.
وقوله ﷿:
«فأذاقها» تجريد، روعى فيه جانب المشبه، الذى هو «الإصابة» بآلام الجوع والخوف، والمشبه به فى الاستعارة الثانية (لباس) فكان يلائمه أن يقال: فألبسها ولكنه قال:
«فأذاقها» وهو لا يلائم «اللباس» وإنما يلائم «اللباس» أن يقال: فكساها الله لباس الجوع والخوف (١١).
(١) اللسان، ترتيب القاموس، مادة: جرد.
(٢) نهاية الإيجاز فى دراية الإعجاز (٩٢).
(٣) المصباح (٦٦).
(٤) الإيضاح (٥/ ١٤١) وما بعدها.
(٥) الطراز (١/ ٢٣٦).
(٦) عروس الأفراح ضمن شروح التلخيص (٤/ ١٢٨).
(٧) الطول (٣٧٧).
(٨) البرهان فى علوم القرآن (٣/ ٤٢٨).
(٩) معترك الأقران (١/ ٢٨١).
(١٠) النحل (١١٢).
(١١) حاشية الشهاب على البيضاوى (٦/ ٣٧١).
 
١ ‏/ ٥٤٥
 
وذكر ما يلائم المشبه- هنا- أبلغ من ذكر ما يلائم المشبه به؛ لأن المقام يقتضى التجريد دون الترشيح؛ لأن فى الإذاقة إشارة إلى شدة الإحساس بالألم لأنه شعور به من داخل الإنسان.
أما إحاطة اللباس فلا تعدو أن تكون مجرد إحساس من الخارج الملاصق لأجسامهم من خارجها. فالترشيح فى مقامه أبلغ من التجريد. والتجريد فى مقامه أبلغ من الترشيح فى البيان القرآنى المعجز ووجه أبلغية التجريد على الترشيح فى هذه الآية أن «لباس» أضيف إلى الْجُوعِ وَالْخَوْفِ- وهما آفتان تصيبان المبتلى بهما من الداخل.
فالإحساس بهما يشعر به المبتلى بهما من داخله لا من خارجه والإذاقة هى وسيلة القذف والازدراد إلى جوف الذائق.
فلا يفهم من قول البلاغيين «الترشيح أبلغ من التجريد» لما فيه من شدة تناسى التشبيه، أن فى القرآن تفاوتا بين أساليبه بحيث يكون بعضها أبلغ من بعض؛ لأن أساليب القرآن تأتى دائما وافية بما يقتضيه المقام فالقرآن كله على درجة واحدة من البلاغة والبيان.
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
 
١ ‏/ ٥٤٦
 
الاستعارة المطلقة
الإطلاق فى اللغة ترك التقييد (١).
والإطلاق فى اصطلاح البيانيين هو خلو الاستعارة مما يلائم المشبه به، فلا تكون مرشحة. وخلوها مما يلائم المشبه فلا تكون مجردة.
قال الخطيب: هى التى لم تقترن بصفة ولا تفريع كلام (٢).
ومن الإطلاق نوع آخر له شواهد فى الشعر العربى وهو ما كانت الاستعارة فيه مشتملة على ما يلائم المشبه به والمشبه معا، ومع هذا لا يسميها البلاغيون لا مرشحة ولا مجردة، ولا مرشحة مجردة، بل هى عندهم استعارة مطلقة، على اعتبار أن الترشيح والتجريد لما تقابلا فيها تساقطا واعتبرا كأنهما لا وجود لهما فى الكلام.
ومن أمثلتها عندهم قول زهير بن أبى سلمى:
لدى أسد شاكى السلاح مقذف ... له لبد، أظفاره لم تقلّم
استعار «أسد» للرجل الشجاع، وشاكى السلاح يلائم المشبه- الرجل الشجاع- فهو تجريد، أما «له لبد- أظفاره لم تقلم» فهما ترشيح لأنهما يلائمان المشبه به (الأسد).
فهذه استعارة مطلقة لا مرشحة ولا مجردة.
ولا مرشحة مجردة فى اعتبار واحد (٣).
وقد تابع البلاغيون ما قاله الخطيب، فكان ذلك عندهم إجماعا (٤).
فالاستعارة المطلقة عندهم نوعان:
الأول، وهو الأصل، الاستعارات التى لم يذكر فيها ما يلائم المشبه (المستعار له) ولا ما يلائم المشبه به (المستعار منه).
والثانى: الاستعارات التى ذكر فيها ما يلائم كلا من المستعار له، والمستعار منه.
والإطلاق فى النوع الأول حقيقى واقعى، أما فى النوع الثانى فهو تقديرى اعتبارى والاستعارة المطلقة، باعتبار النوع الأول الحقيقى الواقعى كثيرة الورود فى القرآن الكريم. ومن أمثلتها قوله تعالى:
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ (٥).
استعار الصدع، وهو الشق فى نحو حائط وغيره للتبليغ، استعارة محسوس لمعقول، والجامع هو قوة التأثير فى كل منهما، على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية المطلقة.
(١) اللسان، ترتيب القاموس، مادة: طلق.
(٢) الإيضاح (٥/ ٦٩).
(٣) الإيضاح (٥/ ١٠٢).
(٤) معجم المصطلحات البلاغية (١/ ١٧١).
(٥) الحجر (٩٤).
 
١ ‏/ ٥٤٧
 
حيث لم تقترن الاستعارة فى الآية بما يلائم أى طرف من طرفى الاستعارة.
وقرينة الاستعارة هنا هى بِما تُؤْمَرُ لأن المعنى بلّغ ما أمرناك به تبليغا واضحا قويا يكون له تأثير فى القلوب كتأثير الصدع فى الأجسام ومنها كلمة، تَنَفَّسَ فى قوله تعالى:
وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ.
لأن فى تَنَفَّسَ استعارة تصريحية تبعية مطلقة والأصل: إذا ظهر وانتشر.
فاستعير التنفس للظهور وسرعة الانتشار، استعارة محسوس لمحسوس، والقرينة هى إسناد التنفس إلى ضمير الصبح، لأن التنفس من خصائص الكائنات الحية ذوات الأرواح.
وقد خلت هذه الاستعارة من ذكر ما يلائم كلا من المستعار له (المشبه) والمستعار منه (المشبه به).
ومنها قوله تعالى:
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا لأن فى قوله تعالى: بِحَبْلِ اللَّهِ استعارة تصريحية أصلية مطلقة استعير الحبل لدين الله، استعارة محسوس لمعقول لأن الحبل اسم جنس جامد غير مشتق. والقرينة هى إضافة الحبل إلى الله ﷿ (٦).
وفى استعارة المحسوس للمعقول إخراج المعنوى المدرك بالعقول، مخرج الحسى المدرك بالحواس الظاهرة اعتناء به، ومبالغة فى إظهاره.
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
(٦) النكت فى إعجاز القرآن ضمن ثلاث رسائل ... (٨٧).
 
١ ‏/ ٥٤٨
 
الاستعارة المكنيّة
مادة كنى يكنى تدور لغة حول الخفاء والغموض. والاستعارة المكنية- وتسمى الاستعارة بالكناية، والاستعارة المكنى عنها- هى قسمية الاستعارة التصريحية، التى يصرح فيها بذكر المشبه به، مع حذف المشبه؛ لأن الاستعارة- عموما- تشبيه حذف منه ثلاثة أركان.
وجه الشبه، ويسمى فى الاستعارة «الجامع» وأداة التشبيه، وهذان الحذفان لازمان فى كل استعارة ثم بعد حذفهما إما أن يحذف المشبه، ويذكر الشبه به فتكون الاستعارة تصريحية. وإما أن يحذف المشبه به، ويذكر المشبه فتكون الاستعارة مكنية.
ويشترط فيها أن يكون فى الكلام ما يدل دلالة قوية على المشبه به المحذوف؛ لأنه عمدة فى كل استعارة.
وكان الإمام عبد القاهر أول من لفت الأذهان إلى تقسيم الاستعارة باعتبار طرفيها إلى:
استعارة تصريحية.
استعارة مكنية.
ولكنه لم يسمهما بل اكتفى بإيراد الفروق بينهما مع التمثيل الوافى ببيان المراد من كل منهما (١).
وبهذا مهّد الإمام الطريق لمن جاء بعده فى تأصيل القول فى كل من الاستعارة التصريحية، والاستعارة المكنية فجاء من بعده السكاكى وقال فى تعريفها:
هى أن تذكر المشبه وتريد به المشبه به دالا على ذلك بنصب قرينة .. وهى أن تنسب إليه شيئا من لوازم المشبه به (٢).
وتابعه بدر الدين بن ابن مالك فقال:
«هى أن تذكر المشبه وتريد به المشبه به؛ وتدل بشيء من لوازمه- أى لوازم المشبه به- على المشبه» (٣).
يعنى تنسب إلى المشبه بعض خواص المشبه به، لتكون دليلا على المشبه به المحذوف.
ثم جاء الخطيب القزوينى، واستفاد من أقوال الذين سبقوه، ووضع تعريفا للاستعارة المكنية دار البلاغيون فى فلكه حتى الآن، قال ﵀:
(١) أسرار البلاغة (٤٤/ ٤٨).
(٢) مفتاح العلوم (١٧٩).
(٣) المصباح (٦٤).
 
١ ‏/ ٥٤٩
 
«قد يضمر التشبيه فى النفس، فلا يصرح بشيء من أركانه سوى لفظ المشبه، ويدل عليه- أى على المشبه به- بأن يثبت للمشبه أمر مختص بالمشبه به، من غير أن يكون هناك أمر ثابت حسا أو عقلا أجرى عليه اسم ذلك الأمر فيسمى التشبيه استعارة بالكناية، أو مكنيا عنها وإثبات ذلك الأمر للمشبه استعارة تخييلية» (٤).
فالاستعارة المكنية إنما هى تشبيه حذف منه ثلاثة أركان: وجه الشبه، وأداة التشبيه، والمشبه به، مع إبقاء ما يدل عليه فى الكلام.
حيث يثبت للمشبه بعض لوازم المشبه به الخاصة به.
أما قرينة الاستعارة المكنية فهى لفظية دائما لأنها تكمن فى إثبات أحد خواص المشبه به للمشبه، وهذا ما سماه الخطيب والبلاغيون بالاستعارة التخييلية. وللاستعارة المكنية ورود كثير فى الشعر العربى القديم والوسيط والحديث، وكذلك فى القرآن الكريم، وهو الذى نقصر عليه حديثنا فى هذه المباحث.
ومنها فى القرآن الكريم قوله تعالى:
وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ- وفى توجيهه بلاغيا يقول الإمام الزمخشرى:
«أن تجعل للذل جناحا خفيضا كما جعل لبيد للشمال يدا وللقرة زماما» (٥).
وهذا معناه أن فى التركيب استعارة مكنية كما فى بيت لبيد
وغداة ريح قد كشفت وقرة ... إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
فقد أجمع البيانيون أن فى بيت لبيد هذا استعارتين مكنيتين، إحداهما فى يد الشمال.
والثانية فى زمام القرة وهى الريح الباردة.
وفى الآية شبه الذل بطائر، تم حذف المشبه به وهو الطائر، وأثبت للمشبه (الذل) الجناح، وهو من لوازم المشبه به (الطائر) لا المشبه (الذل) وهذا الإثبات يؤدى مهمتين.
الأولى: الدلالة على المشبه به المحذوف.
الثانية: منع أن يكون المراد هو المعنى الحقيقى الوضعى لأن هذا الإثبات- كما تقدم- هو قرينة الاستعارة المكنية.
وبلاغة هذه الاستعارة هى إخراج المعنوى، وهو البر بالوالدين، فى صورة الحسى. اعتناء بشأنه، وإظهارا له ومنها قوله تعالى:
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ
شبه الغضب بذى عقل وإرادة وثورة، ثم حذف المشبه به (ذا الإرادة العاقل الثائر) ورمز إليه بشيء من لوازمه الخاصة به، وهو
(٤) الإيضاح (٥/ ١٢٣) وما بعدها.
(٥) الكشاف (٢/ ٤٤٥).
 
١ ‏/ ٥٥٠
 
السكوت. الذى نسب إلى «الغضب» على أنه فاعل له.
وهذا ما يسميه البلاغيون بالاستعارة التخييلية وهى قرينة المكنية.
وبلاغة هذه الاستعارة المبالغة فى تصوير حدة الغضب التى اعترت موسى ﵇، لما رجع من ميقات ربه، فوجد قومه (بنى إسرائيل) يعبدون العجل إلها من دون الله.
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
 
١ ‏/ ٥٥١
 
الكناية
تدور مادة كنى فى اللغة حول معانى الخفاء والستر والتغطية وعدم التصريح (١).
أما فى اصطلاح البلاغيين فهى:
«لفظ أطلق وأريد به لازم معناه مع جواز إرادة معناه الأصلى» (٢).
وهذا كلام الخطيب فى الإيضاح مع تصرف يسير بالزيادة أضفناه بقصد التوضيح.
وقبل الخطيب تباينت عبارة أهل العلم فى تعريف الكناية تباينا واسعا.
والكناية من الأساليب البديلة، مثل المجاز، يعدل إليها عن اللفظ الأصلى لنكتة بلاغية، تجعل التعبير بها أولى أو أوجب من التعبير باللفظ الذى وضع فى أصل اللغة للدلالة عن المعنى.
والبلاغيون قسموا الكناية بحسب المعنى الذى تدل عليه ثلاثة أقسام:
* كناية عن موصوف لم يصرح به فى الكلام.
* كناية عن صفة لم يصرح بها فى الكلام.
* كناية عن نسبة بين أمرين غير مصرح بها فى الكلام. ومعنى قولهم فى تعريف الكناية:
«لفظ أطلق وأريد به لازم معناه، مع جواز إرادة المعنى الأصلى، يتضح من تحليل العبارة الآتية: فلان كثير الرماد».
كان العرب يخبرون بهذه العبارة عن الشخص الذى يريدون وصفه بكثرة الكرم والبذل والعطاء والعلاقة بين كثرة الكرم وكثرة الرماد، هى الانتقال من كثرة الرماد إلى كثرة إيقاد النار، ثم الانتقال من كثرة إيقاد النار إلى كثرة طهو الطعام وإنضاج اللحم، ومن هذا ينتقل إلى كثرة الآكلين (الضيوف) ومن كثرة الضيوف إلى كثرة الكرم، وهو المطلوب.
ولا يمتنع إرادة كثرة الرماد مع إرادة المعنى الكنائى، الذى هو المراد من الكناية أساسا، وإرادته ليست بلازمة فى الدلالة على الكرم، لأن الإنسان قد يكون كريما من غير كثرة الرماد كأن يجود بأشياء أخرى كالنقود وغيرها.
وسمى هذا التعبير كناية؛ لأنه لم يصرح فيه بلفظ الكرم بل أخفى هذا الوصف.
(١) اللسان والمعاجم اللغوية، مادة: كنى.
(٢) بغية الإيضاح (٢/ ١٥٠) وما بعدها.
 
١ ‏/ ٥٥٢
 
وسميت الكناية لازم معنى اللفظ المستعمل فيها لأنه يلزم من كثرة الطهو كثرة الكرم.
فلفظ الكناية أيا كان ملزوم، ومعناها لازم لا ينفك عنها.
والكناية تجمع- على الأرجح- بين الحقيقة والمجاز؛ لأن لفظ الكناية لم يرد منه معناه الموضوع له مباشرة فيكون حقيقة، ولم تمتنع إرادته مع إرادة المعنى الكنائى فيكون مجازا.
لذلك يقال: إن الكناية لها جانبان: حقيقة ومجاز وأن قرينة الكناية غير مانعة من إرادة المعنى الأصلى، وقرينة المجاز مانعة.
فالكناية على هذا ليست حقيقة خالصة، وليست مجازا خالصا. وهذا هو الحق، الذى لا يجوز أن يحاد عنه والكناية من الأساليب الكثيرة الشيوع فى الكلام البليغ، وبخاصة فى القرآن الكريم؛ فلا تكاد تخلو منها سورة؛ لأن لها مقامات تؤثر هى فيها عن غيرها.
وفى القرآن الكريم نجد حقلا من حقول التعبير آثر القرآن الكريم التعبير الكنائى فيه دون غيره.
فمثلا العلاقات الجنسية، سواء كانت بين الأزواج، أو غير الأزواج نجد القرآن يعدل عدولا تاما عن التصريح بها وإيثار الكناية فى كل حديث عنها؛ لأن من دواعى العدول إلى الكناية فى البلاغة بوجه عام مقامات محددة منها ما يستقبح أو يستهجن ذكره صراحة، فيعدل إلى التعبير الكنائى عنه ترفعا وأدبا.
فخذ إليك مثلا قوله تعالى:
وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ (٣).
هذا توجيه من الله لراغبى الزواج من النساء المتوفى عنهن أزواجهن والمطلقات. بألا يخطبوهن فى عدتهن حتى تنقضى مدة العدة.
وهنا يؤثر القرآن الكريم التعبير الكنائى عما يكون بين الأزواج فيسميه سِرًّا ولا يفصح عنه. وإنما سمّى ما يستهجن ذكره سرا، لأنه لا يقع إلا فى السر، والكناية هنا عن صفة وهى مباضعة النساء.
* وكذلك آثر التعبير الكنائى عنه فى قوله تعالى:
نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ (٤).
فكنى عنه ب «الإتيان» وهو يطلق على عدة
(٣) البقرة (٢٣٥).
(٤) البقرة (٢٢٣).
 
١ ‏/ ٥٥٣
 
معان أخرى غير ما يكون بين الزوج وزوجته.
والكناية هنا عن موصوف هو مباضعة النساء، أو النكاح وقد جاء التعبير عنه ب «النكاح» عشرات المرات فى القرآن الكريم، والنكاح معناه أعم من مباضعة النساء فى أصل اللغة؛ لأن معناه العام هو: الضم وهو معنى عفيف لا ابتذال فيه ولا استقباح.
وقد يستعمل «النكاح» كناية عن مجرد «عقد الزواج» وإن لم يصاحبه دخول بالمعقود عليها. ومن ذلك قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ (٥).
وإطلاق النكاح على مجرد العقد نادر وروده فى القرآن الكريم.
أما وروده بمعنى مباضعة النساء فكثير كثير، ومنه قوله تعالى:
فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ (٦).
المراد من النكاح فى الآية هو «الوطء الفعلى» وليس مجرد العقد عليها، وهذا موضع إجماع بين الفقهاء إلا من لا يعتد بقوله.
كما كنى القرآن عن مباضعة النساء بالمس والملامسة وهما لفظان لا ابتذال فيهما ولا فحش ولا إثارة ومثال «المس» آية الأحزاب المذكورة آنفا، وهى:
مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ
أما الملامسة فمثالها قوله تعالى:
أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ (٧)
كما كنى عن المباضعة بالتغشية فى قوله تعالى:
فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا .. (٨)
والتغشى لفظ عفيف مهذب، وقد أدى معناه الكنائى هنا دون أن يخدش حياء، أو يثير غريزة ومما شاع استعماله فى كنايات القرآن عن العلاقات الزوجية لفظ «المباشرة» مكنيا به عن اتصال الزوج بزوجته. قال ﷿:
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ
(٥) الأحزاب (٤٩).
(٦) البقرة (٢٣٠).
(٧) المائدة (٦).
(٨) الأعراف (١٨٩).
 
١ ‏/ ٥٥٤
 
ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ (٩).
والواقع أن الآية الكريمة تضمنت عدة كنايات عن علاقات الأزواج بزوجاتهم.
وأول ما يفجؤنا فيها كناية «اللباس» هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ وهى كناية لطيفة تشع منها معان آسرة.
فمن معانى اللباس الستر والتجمل، والزوجة تعف زوجها وتغنيه عن الحرام، وهو يعفها ويغنيها عن التطلع إلى الحرام، وكل منهما يجمّل الآخر ويصونه ثم التعبير الكنائى بالمباشرة، ومن معانيها الملامسة والمماسة، والضم والمكاشفة والملاصقة. وكلها معان لا إسفاف فيها ولا ابتذال.
أما «الرفث» فهو كناية عن مقدمات الوطء، ومنها الكلام أيا كان ابتذاله ومجونه، لكن التعبير الكنائى عنه بالرفث فيه ستر وإخفاء لحقيقة ما يقال فى مخادع الأزواج.
إنه لفظ كنائى مهذب، يصور الواقع من وراء ستار، مخفيا قبحه وعوره.
ويكنى عنها كذلك ب «قضاء الوطر» وشاهد هذا قوله ﷿:
لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا (١٠)
عبارة مهذبة شريفة، لا يحس السامع منها أى انفعال غريزى مخرج له عن مشاعره الهادئة الرزينة. ومن كنايات القرآن الكريم عن المعانى الشديدة الحساسية بالعلاقات الغرزية بين الذكور والإناث التعبير عنها بالإفضاء فى قوله تعالى:
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتانًا وَإِثْمًا مُبِينًا وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقًا غَلِيظًا (١١).
إن لفظ «الإفضاء» تعبير مهذب راق عن العلاقات السرية وغير السرية، التى تكون فى حياة الأزواج.
ومن ذلك الكناية عنها بالقرب، كما جاء ذلك فى قوله تعالى:
وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ (١٢) وفى هذه الكناية اتساع فى المعانى المرادة، يشمل حتى مقدمات الجماع فى أثناء حيض الزوجة، حتى لا تقود تلك المقدمات إلى الوقوع فى المحظور، لأن قرب الحائض يكون سببا قويا فى الإصابة بالأمراض، وخاصة الجلدية لذلك كان النهى عن «القربان» لأن فيه تحوطا شديدا عن الوقوع فى المحظور.
(٩) البقرة (١٨٧).
(١٠) الأحزاب (٣٧).
(١١) النساء (٢٠ - ٢١).
(١٢) البقرة (٢٢٢).
 
١ ‏/ ٥٥٥
 
والكنايات التى تقدم الحديث عنها، كلها كنايات عما يقع فى دائرة الحلال بين الأزواج والزوجات، ومنها كنايات عن صفة، إلا الرفث فإنه كناية عن موصوف، هو الكلام الفاحش.
وأما ما يقع فى دائرة الحرام، فقد كنى عنه القرآن الكريم بالزنى، وإتيان الفاحشة، تنفيرا عنه، وتزهيدا فيه بعيدا عن الإسفاف والتبذل فى الألفاظ المكشوفة الفاضحة.
ومما يلفت النظر التعبير عن الزنى ب «السفاح» ومن شواهده قوله تعالى:
مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ (١٣)
وأصل السفح هو تدفق الدم المملوء بالسموم، الذى يندفع من الشاه بعد ذبحها.
وفى تكنية القرآن الكريم عن «الزنى» بالسفاح كناية لطيفة أخرى متولدة عن الكناية الأولى، شبه فيها ماء الرجل الذى يصب فى رحم الزانية بالدم المسفوح المملوء بالسموم القاتلة. لأن الدم المسفوح يضر بصحة البدن وحده، لذلك حرّمه الله على الآكلين. أما ماء الزناة فهو قاتل لشرف النسل وأخلاق الفضل والعفة والطهارة فتأمل هذه المعانى السامية، التى تشع من كنايات كتاب الله العزيز، لتدرك لماذا يعدل القرآن عن التصريح إلى الكناية التى هى الصفة الشائعة فى القرآن الكريم. ومنها فى غير العلاقات الزوجية، قوله تعالى فى الحديث عن عيسى ﵇ وأمه رضى الله عنها:
كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ
إنها كناية مهذبة طاهرة، عدل القرآن الكريم إليها عن: كانا يتغوطان ويتبولان. حيث كنى بأكل الطعام، وهو طاهر نظيف طيب، عن التغوط والتبول، وهما يثيران التقزز والاشمئزاز فى النفوس، فضلا عن خبثهما ونجاستهما.
ولو جاء التعبير بالتغوط والتبول لكان فى ذلك إيحاء بكشف عوراتهما أمام عيون الخيال البشرى، والقرآن يستر العورات فى الواقع، وفى التعبير.
وقد يقول قائل: إن التعبير بالتغوط جاء صريحا فى القرآن فى مواضع أخرى، مثل:
أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ (١٤) فلماذا عدل الله عنه فى الحديث عن عيسى ﵇، وأمه رضى الله عنها؟ ونقول: ما ورد فى أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ لا حرج فيه، لأنه لم يأت وصفا لإنسان معين، بل هو حديث عام يشمل جميع المكلفين.
أما فى الحديث عن عيسى وأمه، فهو حديث خاص عنهما فى المقام الأول. من أجل ذلك روعى معهما تحشمهما ووقارهما.
(١٣) النساء (٢٤).
(١٤) المائدة (٦).
 
١ ‏/ ٥٥٦
 
إضافة إلى أن الغائط نفسه كناية فى نفسه، لأنه عبارة عن المكان الذى تقضى فيه الحاجة، ولكنه إذا ما قيس بهذه الكناية كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ كان كالتصريح بالنسبة لها. ومن الكناية عن الموصوف فى القرآن الكريم قوله تعالى:
وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٥)
كناية عن سفينة نوح ﵇، وهى أبلغ مما لو قيل: حملنا على سفينة. لأن المقام مقام تمجيد لقدرة الله، وامتنان على نوح ﵇ وفى ذكر عناصر تركيب السفينة وهما الخشب والمسامير، تذكير بعظمة وقدرة الله، وجلال النعمة على نوح ومن آمن معه.
هذا، والكناية- عموما- أبلغ من التصريح، لأنها تقرن الدعوى بدليلها المصدق لها. فقوله تعالى فى عيسى وأمه «كانا يأكلان الطعام» أبلغ مما لو قيل: كانا مخلوقين .. لأن هذا القول يخلو من الدليل المادى المصاحب للدعوى أما «كانا يأكلان الطعام» فهو دليل صدق الدعوى.
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
المصادر والمراجع:
(١٥) القمر (١٣).
 
١ ‏/ ٥٥٧
 
البديع
البديع فى اللغة، هو الجديد والطريف والمخترع (١) أما فى اصطلاح البلاغيين.
فهو: علم يعرف به وجوه تحسين الكلام (٢).
وهو العلم الثالث من علوم البلاغة: المعانى والبيان ثم البديع. ومنزلته بين علوم البلاغة أن علمى المعانى والبيان علمان أساسيان فى بلاغة الكلام. ويأتى البديع يزيد الكلام البليغ حسنا راجعا إلى المعانى أولا، ثم إلى الألفاظ ثانيا. أو حسنا راجعا إلى الألفاظ أولا ثم إلى المعانى ثانيا.
وعلى هذا الاعتبار قسموا البديع قسمين:
أحدهما البديع المعنوى كالطباق والمقابلة ومراعاة النظير، والثانى: لفظى كالجناس والسجع (٣).
وقد وضعوا لقبوله فى الكلام شروطا منها:
* عدم الإكثار منه، وترك الإسراف فيه.
* ألا يكون متكلفا بل يقبل منه ما جرى على الطبع وعلى أساس هذا نقدوا كثيرا من الشعراء لإسرافهم فى الألوان البديعية، وتكلفهم بعض صوره فى شعرهم وقالوا إن المسرف فيه يكون عرضة للذم وكثرة الخطأ.
أما بديع القرآن فسوف نتناول أطرافا منه من خلال بعض آيات القرآن الكريم لنثبت بالأدلة القاطعة إنه كثير جدا فى القرآن الكريم، ومع هذه الكثرة لا نقول إنه سلم من كل عيب فحسب، بل هو سمة من سمات الإعجاز فى كتاب الله العزيز. وهذا هو الفرق بين كلام الله وكلام البشر.
نعرض فى هذا المبحث نصوصا من القرآن الكريم، محاولين توضيح ما فيها مما أطلقوا عليه «بديعا» سواء دخل عندهم فى المعنوى، أو اللفظى، ولنبدأ بقوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٤).
(١) اللسان والمعاجم اللغوية، مادة: بدع.
(٢) سر الفصاحة (١٩٣).
(٣) بغية الإيضاح (٣/ ٣) تعليق الشيخ عبد المتعال الصعيدى مكتبة الآداب ١٤٢٠ هـ.
(٤) البقرة (٢٦ - ٢٧).
 
١ ‏/ ٥٥٨
 
جاءت فى هاتين الآيتين ضروب عدة من البديع نذكرها فيما يلى:
(أ) المشاكلة: وذلك فى قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما وهى مشاكلة من النوع الثانى الذى ذكروه فى قولهم: «المشاكلة هى ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه فى صحبته تحقيقا أو تقديرا» (٥).
فهى مشاكلة تقديرية. وذلك بناء على ما ذكره المفسرون. فالزمخشرى يقول «ويجوز أن تقع هذه العبارة فى كلام الكفرة. فقالوا: أما يستحى رب محمد أن يضرب مثلا بالذباب- إشارة إلى قوله تعالى: لَنْ يَخْلُقُوا ذُبابًا (٦) فجاءت على سبيل المقابلة وإطباق الجواب على السؤال- وهو فن من كلامهم بديع وطراز عجيب منه قول أبى تمام:
من مبلغ أبناء يعرب كلها ... أنى بنيت الجار قبل المنزل
ويلاحظ أن اللفظ «المشاكل» هنا مجازى المعنى حقيقته الترك. فمعنى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أى لا يترك الضرب بالبعوضة ترك من يستحى أن يمثل بها لحقارتها ...
لأن الحياء تغير وانكسار يعترى الإنسان من تخوف ما يعاب به أو يذم (٧) وهو بهذا المعنى مستحيل فى جانب الله.
إذن فقد اجتمع هنا لونان بديعيان:
المشاكلة .. وقد تقدم شرحها.
(ب) والمماثلة أو التمثيل .. وقد سبق أنهم يعتبرونه لونا بديعا. وسبق كذلك أنه عندهم يطلق على عدة أمور: الاستعارة المفردة، الاستعارة التمثيلية، المثل السائر.
(ج) الإبهام: وذلك بناء على ما ذكره المفسرون- كذلك- من أن «ما» فى قوله تعالى: ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها أن «ما» الأولى إبهامية، وهى التى إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاما وزادته شيوعا وعموما (٨) وكون «ما» إبهامية مشروط بنصب «بعوضة» - كما هى القراءة المشهورة- وإن رفعت «بعوضة» فإن «ما» تصبح موصولة.
(د) التوجيه: وذلك فى قوله تعالى: فَما فَوْقَها فإن الفوقية هنا لها معنيان، أحدهما: فما تجاوزها فى المعنى الذى ضربت فيه وهو القلة والحقارة.
وثانيهما: فما زاد عليها فى الحجم.
ولما كان أحد هذين المعنيين لم تنصب قرينة على إرادته بعينه، وبقى الفهم والاعتقاد شركة بينهما حصل النوع البديعى الذى يسمونه «التوجيه»؛ وهو أن يكون للفظ معنيان لم تقم قرينة على إرادة أحدهما. والمتأمل يرى أن كلا المعنيين هنا صالح للفهم والاعتقاد.
(٥) الإيضاح (٦/ ٢٧).
(٦) الحج (٧٣).
(٧) الكشاف (١/ ٨٤).
(٨) المصدر نفسه (٨٦٠).
 
١ ‏/ ٥٥٩
 
(هـ) حسن التقسيم: حيث قسم الناس بالنسبة لضرب الأمثال بالبعوضة وما زاد عليها فى الحقارة أو ما زاد فى الحجم إلى فريقين: فريق مؤمن مصدق، وآخر كافر مكذب.
(و) المقابلة: حيث طابق بين «آمنوا» و«كفروا» و«يضل» و«يهدى»، وقد جمعت المقابلة هنا التكافؤ حسبما يرى ابن أبى الأصبع لأن «يهدى» و«يضل» مجازيان.
(ز) التعطف: وذلك فى ثلاثة مواضع «مثلا» و«مثلا»، «يضل» و«يضل»، «كثيرا» و«كثيرا».
(ح) البيان بعد الإبهام: وذلك أنه سبحانه قال: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا فبين أن فريقا يضل به وآخر يهدى، ولم يبين من المهدى ومن المضل، ثم عاد فقال: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ليعلم من هو الفريق المضل وفى هذا البيان معنى الاحتراس.
(ط) صحة التفسير: حيث فسر «الفاسقين» فى قوله تعالى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ بقوله تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ.
(ى) النزاهة: وذلك لأنه سبحانه حين أراد ذمهم لم يستعمل فيه هجين اللفظ، ولا قبيح المعانى، بل سجل عليهم نقضهم ميثاق الله، وترك ما أمر الله بفعله وفسادهم فى الأرض، وأخبر عنهم بأنهم هم الخاسرون لا غيرهم.
(ك) التكافؤ: وهو- كما عرفه ابن أبى الأصبع- أن يكون ركنا الطباق مجازين لا حقيقيين، وأن تكون أركان المقابلة مجازية كذلك. والتكافؤ بهذا المعنى وارد فى الآية
الثانية: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، حيث قابل بين النقض والتوثقة، والقطع والوصل، وهذه كلها أركان مجازية، فالنقض لا يكون إلا فى المركبات الحسية، وكذلك التوثقة، والقطع لا يكون إلا فى المتماسك الحسى، وقد استعمل هنا مرادا به الترك، والوصل صنو القطع، واستعمل هنا فى أمر معنوى هو: الإتيان والفعل.
(ل) الترشيح: وذلك أنه قال: يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ هو الذى رشح لإيقاع النقض على العهد، وهو لا يكون إلا فى المركب الحسى و«العهد» معنى من المعانى، فالذى رشح له أنهم يسمون العهد «حبلا» على سبيل الاستعارة. قال الزمخشرى: «فإن قلت من أين ساغ استعمال النقض فى إبطال العهد؟
قلت: من حيث تسميتهم العهد بالحبل على
 
١ ‏/ ٥٦٠
 
سبيل الاستعارة لما فيه من إثبات الوصلة بين المتعاهدين» (٩).
(م) التسجيع: وهذا ظاهر من فاصلتى الآيتين: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ، أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ فاتحدت الفاصلتان فى حرف النون مسبوقا بحرف مد فى الموضعين.
(ن) التذييل: وذلك فى قوله تعالى:
أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ فإنه تذييل جاء مؤكدا لما فهم من أوصاف الفاسقين.
(س) حسن النسق: حيث جاءت الجمل مرتبة ترتيبا حسنا خالية من عيوب النظم.
فقد بدأ- سبحانه- بأن له مطلق الإرادة يمثل بما شاء لما شاء. والناس إزاء هذا التمثيل ضربان: مؤمن مصدق، وكافر مستريب، وفى هذا يضل الله من يشاء وهم كثيرون، ويهدى من يشاء وهم كثيرون، ثم بين أنه لا يضل إلا الفاسقين، ثم شرع فى بيان صفات الفاسقين فبدأ بنقضهم عهد الله، وتركهم ما أمر الله به أن يؤتى، ثم عطف عليه كونهم مفسدين فى الأرض. ثم أخبر عنهم بأنهم الخاسرون.
والمتأمل يرى أن كل جزء تقدم على آخر فإنه كالسبب فيه أو أخص منه وما أتى بعده عام. أو حكم تقدمت مسبباته. فجاء التعبير محكم البناء، موصول العرى، متلاحم الفقرات.
(ع) الانسجام: وقد عرفه ابن أبى الأصبع: بأن يكون الكلام منحدرا كانحدار الماء المنسجم بسهولة سبك وعذوبة ألفاظ وسلامة تأليف، حتى يكون للكلام موقع فى النفوس وتأثير فى القلوب ما ليس لغيره وإن خلا من البديع (١٠).
وهذا الانسجام ينطبق على آيتينا هاتين بل ينطبق على كل موضع فى القرآن الكريم فهو وصف عام له، لم يختص به موضع دون آخر.
(ف) المجاز: هكذا عدوا المجاز من فنون البديع، وهو فى آيتنا ظاهر فى بعض مواضعها كالنقض فى الإبطال، والتوثق فى الحفاظ على عهد الله، والقطع فى الترك والوصل فى الفعل، ومن قبل هذا كان الاستحياء فى الترك أيضا.
(ص) الإدماج: وهو كما عرفه ابن أبى الأصبع (١١): أن يدمج غرض فى غرض أو بديع فى بديع بحيث لا يظهر إلا أحد الغرضين: وهذا قد مر بنا فى موضعين من النص الكريم:
أحدهما: دمج التكافؤ فى المقابلة فى قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُ
(٩) المصدر نفسه (١/ ٩٠).
(١٠) بديع القرآن (١٦٦).
(١١) المصدر نفسه (١٧٢).
 
١ ‏/ ٥٦١
 
مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا فإن «يضل» و«يهدى» مجازيان- كما سبق- وهذا تكافؤ مدمج فى المقابلة.
وثانيهما: دمج التكافؤ فى المقابلة- كذلك- فى قوله تعالى: يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ على ما سبق بيانه.
(ق) التفصيل: وهو الواقع بعد «أما»، و«أما» فى قوله تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ولا يقف بنا الأمر عند هذا الحد، فإن لنا أن نصف النص بما يأتى:
(ر) ائتلاف اللفظ مع المعنى: لأن كل لفظ فيه قد ائتلف مع معناه. فهما مقدران بقدر، وموضوعان بحكمة، وهذا اللون- وإن مثلوا له ببعض آيات القرآن- فإنه وصف عام ليس فى موطن دون موطن بل القرآن كله موصوف بائتلاف ألفاظه مع معانيه.
(ش) حسن الجوار: وهذا مثل سابقه:
وصف عام للقرآن حيث لم تقع فيه لفظة واحدة متنافرة مع سابق عليها أو لاحق لها، وهو ينطبق على آيتينا باعتبارهما جزءا من التنزيل الحكيم.
فهذه أكثر من عشرين لونا بحثوها فى ألوان البديع، وقد جاءت فى القرآن على أحسن موقع وأجمل مطلع.
وهل ترى فى هذا النص- وقد علمنا ما فيه من ألوان البديع- قصورا فى معناه الذى سيق من أجله؟ أم اقتسارا للفظ على المعنى؟
ليس فى النص شىء من هذا. بل هو واف بالمراد فى وضوح وقوة، وهذا هو الفارق بين كلام معجز، وكلام هو عرضة للخطأ والمغالاة.
وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
(هود: ٤٤)
هذه الآية الكريمة تصور لنا فى إيجاز نهاية قصة الطوفان فى عهد نوح ﵇، وقد اشتملت على الألوان البديعية الآتية:
(أ) المناسبة اللفظية التامة، بين «أقلعى» و«ابلعى». فقد جمع بين اللفظين وهما هنا موزونان مقفيان بزنة وقافية واحدة وهذا هو معنى المناسبة التامة.
(ب) المطابقة: بين «السماء» و«الأرض» فى قوله تعالى: يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وقد مر تعريف المطابقة فلا حاجة إلى ذكره.
 
١ ‏/ ٥٦٢
 
(ج) الاستعارة: فى قوله تعالى: «أقلعى» و«ابلعى».
(د) المجاز المرسل: فى قوله تعالى: «يا سماء» والحقيقة: يا مطر السماء والعلاقة:
المجاورة.
(هـ) الإشارة: وهى أن يدل اللفظ القليل على المعنى الكثير بحيث يكون اللفظ لمحة دالة. وذلك فى قوله تعالى: «وغيض الماء» لأن الماء لا يغيض حتى يقلع مطر السماء وتبلع الأرض ما يخرج منها من عيون الماء، فدل هذا التركيب القليل: «وغيض الماء» على أن كل ذلك قد حدث.
(و) الإرداف: فى قوله تعالى: «واستوت على الجودى» وقد مر بحث هذه العبارة.
(ز) التمثيل: وقد مر تعريفه والتمثيل له بهذه العبارة: «وقضى الأمر».
(ح) التعليل: لأن «غيض الماء» علة الاستواء.
(ط) صحة التقسيم: حيث استوعب- سبحانه- حالة الماء حين نقصه.
(ى) الاحتراس: من توهم متوهم أن الماء قد عم من لا يستحق الهلاك وقد تحقق «الاحتراس» بالدعاء على الهالكين.
(ك) الانفصال: لأن لقائل أن يقول: إن لفظة «القوم» يستغنى عنها المعنى إذ لو قيل:
«وقيل بعدا للظالمين» لتم الكلام.
(ل) المساواة: لأن لفظ الآية لا يزيد على معناه ولا ينقص عنه، وستأتى مخالفة هذا الوجه.
(م) حسن النسق: فى عطف القضايا بعضها على بعض حسبما وقعت: الأول فالأول.
(ن) ائتلاف اللفظ مع المعنى: لكون كل لفظة لا يصلح غيرها مكانها، وقد مر تعريفه.
(س) الإيجاز: لأن الله اقتص قصة السفينة بلفظها مستوعبة فى أخصر عبارة بألفاظ غير مطولة.
(ع) التسهيم: لأن أول الآية إلى قوله تعالى: «أقلعى» يقتضى آخرها، والتسهيم أن يكون فى أول الكلام ما يدل على آخره لأنه يقتضيه.
(ف) التهذيب: لأن مفردات الألفاظ موصوفة بصفات الحسن، كل لفظة سهلة مخارج الحروف، عليها رونق الفصاحة.
(ص) حسن البيان: لأن السامع لا يتوقف فى فهم معنى هذا الكلام لوضوحه، وصفائه.
(ق) التمكين: لأن الفاصلة مستقرة فى
 
١ ‏/ ٥٦٣
 
قرارها. مطمئنة فى مكانها غير قلقة ولا مستكرهة.
(ر) الانسجام: وهو تحدر الكلام بسهولة وعذوبة سبك.
(ش) الإبداع: وهو فى مجموع الآية.
هذا خلاصة ما ذكره ابن أبى الأصبع فى بديع هذه الآية. ولنا عليها ملاحظة مهمة.
ذلك أنه وصف الآية بالمساواة وجعل المساواة فنا من فنون البديع كما جعل الاستعارة كذلك. ثم عاد ووصف الآية بالإيجاز، والإيجاز والمساواة ضدان لا يجتمعان، فإما أن يكون الكلام مساويا أو غير مساو بأن يكون موجزا أو مطنبا، أما أن يوصف كلام واحد بعينه بأنه مساو، وموجز مرة أخرى فهذا شىء غير مفهوم على الإطلاق، ونحن- إذا جاريناه على أن الإيجاز من فنون البديع- فإن الآية موصوفة به لا بالمساواة إذ هى قد اشتملت على نوعى الإيجاز:
ففيها إيجاز الحذف. ويكفى فى تصور ذلك أن فى الآية قد بنى الفعل للمفعول فى عدة مواضع: «قيل يا أرض» و«غيض» و«قضى الأمر» و«قيل بعدا».
كما طوى ذكر السفينة وأضمر فاعل الفعل «استوت»، وحذف معمول «أقلعى» ... وهذا موسوم بإيجاز الحذف.
وفيها إيجاز قصر .. لأن بعض ألفاظها قد حوى كثيرا من المعانى مثل: «غيض الماء» و«قضى الأمر».
وبهذا يظهر خلط ابن أبى الأصبع فى عد الآية من باب المساواة مرة والإيجاز مرة أخرى.
وكيف ساغ له ذلك وهو البلاغى الضليع والناقد الأديب؟ لا أرى سببا وراء ذلك إلا ولوعه بألوان البديع وكثرة محصوله منها.
قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ. (يوسف الآيتان ٢٦ - ٢٧).
المعنى الإجمالى لهاتين الآيتين:
تكذيب يوسف ﵇ لدعوى امرأة العزيز، ثم تأييده فيما قال بشهادة شاهد من أهلها لفت نظر العزيز إلى قرائن الأحوال التى منها: علم العزيز صدق يوسف ﵇ وكذب امرأته على يوسف.
والناظر فيهما لا يجد تكلفا فى العبارات.
ولا نقصا فى المعنى، ومع هذا فقد جاءت فيها فنون شتى من البديع لم تخرج عن سمات البلاغة الأصلية، والبيان الآسر.
وتلك الفنون هى:
 
١ ‏/ ٥٦٤
 
١ - المناقضة: وهى- هنا- مناقضة المتكلم غيره فى معنى. فقد ادعت امرأة العزيز أن يوسف ﵇ راودها عن نفسها.
فنقض هذا المعنى فى قوله: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي.
٢ - الكناية: فى قوله أيضا: راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وحقيقته: طلبت منى الفحشاء.
والمراودة: أن تنازع غيرك فى الإرادة فتريد غير ما يريد (١٢)، فقد كان يوسف ﵇ عزوفا عنها فأرادت أن تثنيه عن رأيه لتحقق مقصودها.
٣ - النزاهة: لأن فى قوله: راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي بعدا عن الألفاظ المعيبة. وفيها كذلك الاعتدال فى الاتهام ويبدو هذا جليا إذا ما قورنت هذه العبارة بعبارة امرأة العزيز:
ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٣) فهى تدل على نفس حاقدة كائدة مغيظة إذ لم تكتف بمجرد الاتهام، بل بالغت فيه مقترحة الجزاء: إما السجن، وإما العذاب الأليم.
٤ - جناس الاشتقاق: وذلك فى قوله تعالى: وَشَهِدَ شاهِدٌ لأنهما يرجعان فى اللفظ إلى أصل واحد.
٥ - الاستقصاء: وهو فى قوله تعالى:
مِنْ أَهْلِها وصفا للشاهد، وفى هذا مدخل عظيم الأثر فى براءة يوسف ﵇، وإدانة امرأة العزيز.
٦ - حسن البيان: لأن المعنى فى هاتين الآيتين واضح لا يعوق عنه فهم ولا يغرب عن طالب.
٧ - حسن التفسير: لأن قوله تعالى: إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ، والآية التى بعدها- كل هذا تفسير للشهادة التى أشارت إليها العبارة السابقة.
٨ - حسن التقسيم: حيث قسم قرائن الواقعة قسمين باعتبار ما حدث من قدّ القميص.
٩ - المزاوجة: حيث زاوج بين الشرط والجزاء، فقدّ القميص من القبل يترتب عليه صدقها وكذبه. وقده من الدبر يترتب عليه كذبها وصدقه.
١٠ - الإيهام: حيث ساوى بين امرأة العزيز ويوسف ﵇ فى احتمال دعوى كل منهما فى الصدق والكذب، والقرائن التى أشار إليها الشاهد تخص دعواها بالكذب. وتثبت الصدق ليوسف ﵇.
١١ - المقابلة: حيث طابق بين القبل والدبر، والصدق والكذب.
١٢ - العكس والتبديل: حيث قدم الصدق مرة وأخّره مرة أخرى، وقدم الكذب تارة وأخره تارة أخرى.
(١٢) مفردات الراغب (٢٠٦).
(١٣) يوسف (٢٥).
 
١ ‏/ ٥٦٥
 
١٣ - التمكين: لأن الفاصلة فى الموضعين قارة فى مكانها لا نافرة ولا قلقة.
١٤ - التسهيم: لأن قوله فى الآية الأولى:
إِنْ كانَ قَمِيصُهُ إلى: فَكَذَبَتْ يدل على الفاصلة وكذلك القول فى الآية الثانية.
١٥ - التسجيع: لأن الفاصلتين فى الموضعين متماثلتان: «الكاذبين»، «الصادقين».
١٦ - لزوم ما لا يلزم: حيث التزم فى الفاصلة الياء المكسور ما قبلها وذلك نلحظه فى الموضعين.
١٧ - الإيجاز: ففي الآيتين لوحظ حذف بعض الكلمات منها: «قال» قبل: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها وحذف الفاعل فى «قد» فى الموضعين. وكان فى هذا الحذف من الفخامة والروعة ما فيه.
١٨ - حسن النسق: حيث رتبت الأجزاء ترتيبا حسنا فبدأ بتكذيب يوسف لدعوى امرأة العزيز ثم ذكر شهادة الشاهد الذى أيده. ثم تفصيل تلك الشهادة وما يترتب عليها فى عرض حسن ونسق جميل.
١٩ - الانسجام: وذلك من جزالة الألفاظ، وجودة السبك والترتيب المنطقى لأجزاء القضية.
٢٠ - الافتنان: وقد عرفه ابن أبى الأصبع بأن يأتى المتكلم فى كلامه بفنين إما متضادين أو مختلفين، وقد جاء ذلك ظاهرا فى الجمع بين البراءة والإدانة، ثم الإدانة والبراءة فى قوله تعالى حكاية عن شاهد واقعة امرأة العزيز: وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ.
وقد خطّأ نصيب الشاعر الكميت فى قوله:
أم هل ظعائن بالعلياء نافعة ... وإن تكامل فيها الأنس والشنب
قال نصيب للكميت: أين الأنس من الشنب، ألا قلت كما قال ذو الرمة:
لمياء فى شفتيها حوّة لعس ... وفى اللثات وفى أنيابها شنب (١٤)
فإن الشنب يذكر مع اللمس، والأنس يذكر مع الغنج. وبمثل هذا عاب ابن الأثير قول أبى نواس يصف الديك:
له اعتدال وانتصاب قد ... وجلده يشبه وشى البرد
كأنها الهداب فى الفرند ... محدوب الظهر كريم الجد
(١٤) الأغانى للأصفهانى (١/ ١٣٤).
 
١ ‏/ ٥٦٦
 
لأنه ذكر الظهر وقرنه بالجد، وهذا لا يناسب هذا، لأن الظهر من جهة الخلق والجد من جهة النسب (١٥).
وكذلك خطأه فى قوله:
وقد حلفت يمينا ... مبرورة لا تكذب
برب زمزم والحوض ... والصفا والمحصب
لأن ذكر الحوض مع الصفا والمحصب غير مناسب. وإنما يذكر الحوض مع الصراط والميزان.
وأما التكرار فى القرآن فعذب وراق.
كقوله تعالى: الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (١٦).
وقوله تعالى: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧).
وقوله: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٨).
وهو على تقاربه تجد له قوة وجزالة وأغراضه: إما المدح، وإما التهويل وإما للاستبعاد كما فى قوله تعالى: هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (١٩) ... إلى غير ذلك من الأغراض.
وهذا التكرار لا يخرج عندهم عما سموه الترديد أو التعطف. أو الجناس والمشاكلة ..
وقد جاء فى الشعر وغيره من كلام الناس فلم يسلم من العيب إلا فيما قل.
فمما عيب قول أبى الطيب:
فقلقلت بالسهم الذى قلقل الحشا ... قلاقل عيش كلهن قلاقل
غثاثة عيش أن تغث كرامتى ... وليس بغث أن تغث المآكل
قال ابن سنان معلقا عليهما: «فقد اتفق له أن كرر فى البيت الأول لفظة مكررة الحروف فجمع القبح بأسره فى صيغة اللفظة نفسها، ثم فى إعادتها وتكرارها، وأتبع ذلك بغثاثة فى البيت الثانى وتكرار «تغث» فلست تجد ما يزيد على هذين البيتين فى القبح» (٢٠).
وقال أبو تمام:
قسم الزمان ربوعها بين الصبا ... وقبولها ودبورها أثلاثا
وقد أخطأ أبو تمام فى ذكر «القبول» مع «الصبا»، لأن الصبا هى القبول لذلك عده النقاد غير مفيد.
ففي الآية الأولى جمع بين براءة امرأة العزيز- فرضا- وإدانة يوسف ﵇، وفى الآية الثانية جمع بين إدانتها- حقيقة- وبراءة يوسف ﵇.
وإلى هنا فإننا تناولنا ثلاثة نصوص من القرآن الكريم. وقد أبنّا على طريقتهم ما يحتمله النص من وجوه البديع، وهذه النصوص فى جملتها تتكون من خمس آيات:
(١٥) المثل السائر (٣/ ١٥٥).
(١٦) القارعة (١ - ٢).
(١٧) الانفطار (١٧ - ١٨).
(١٨) الواقعة (١٠).
(١٩) المؤمنون (٣٦).
(٢٠) سر الفصاحة (٩٣).
 
١ ‏/ ٥٦٧
 
وكان جملة ما ظهر لنا من فنون البديع فيها- بعد حذف المكرر- واحدا وأربعين فنا.
وهى:
١ - التمثيل ٢ - المشاكلة ٣ - الإبهام ٤ - التوجيه ٥ - حسن التقسيم ٦ - المقابلة ٧ - التعطف ٨ - البيان بعد الإبهام ٩ - صحة التفسير ١٠ - النزاهة ١١ - التكافؤ ١٢ - الترشيح ١٣ - التسجيع ١٤ - التذييل ١٥ - حسن النسق ١٦ - الانسجام ١٧ - المجاز ١٨ - الإدماج ١٩ - التفصيل ٢٠ - ائتلاف اللفظ مع المعنى ٢١ - حسن الجوار ٢٢ - الإشارة ٢٣ - الإرداف ٢٤ - التعليل ٢٥ - الاحتراس ٢٦ - الانفصال ٢٧ - المساواة ٢٨ - التسهيم ٢٩ - التهذيب ٣٠ - التمكن ٣١ - الإبداع ٣٢ - المناقصة ٣٣ - الكناية ٣٤ - الجناس اللفظى ٣٥ - الاستقصاء ٣٦ - المزاوجة ٣٧ - الإبهام ٣٨ - العكس والتبديل ٣٩ - لزوم ما لا يلزم ٤٠ - الإيجاز ٤١ - الافتنان.

* نتائج مهمة:
والباحث فى بديع القرآن مع إطلاق القول به حتى يشمل ما هو من المعانى والبيان يخرج بعدة نتائج:
أولا: أن العلماء قد اشترطوا لقبول البديع وحسنه وبلاغته شروطا منها: ألا يكون متكلفا ولا مسرفا فيه صاحبه، وأن يرسل مع الطبع والسجية ولا يكون على حساب المعنى.
وبديع القرآن قد تحقق فيه عدم التكلف وكونه لا على حساب المعنى.
أما الشرط الثانى- وهو عدم الإكثار- فلم يتحقق ذلك إذ إن نصوص القرآن قد اشتملت على كثير من ألوان البديع، وقد رأينا أن آية واحدة قد استخرج منها العلماء أكثر
من عشرين فنا من فنون البديع، ولم تزد كلماتها على سبع عشرة كلمة، بل إن ابن أبى الأصبع قد استخرج من حرف واحد وهو «ثم» - فى قوله تعالى: ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (٢١) - استخرج من هذا الحرف وحده ثمانية فنون بديعية. (٢٢)
ومع هذه الكثرة فى بديع القرآن لم تجد له إلا بلاغة وحسنا، ولم يؤثر عن أحد من العلماء والنقاد التقليل من قيمة البديع فى القرآن، وما رأيناهم قد استحسنوا فيما سواه ما كثر منه فى القصيدة أو البيت لأن التاريخ والنقد الأدبيين لم يجدا مكثرا من البديع أو مسرفا فيه إلا كان خطؤه أكثر من صوابه وإجادته أقل من رداءته.
ولم يكن الإقلال منه عاصما من التكلف فيه حتى يكون مع الإكثار عذر لذلك التكلف.
فقد أخطأ المقلون كما أخطأ المكثرون.
فمثلا .. قد ورد فى القرآن الكريم أسلوب مراعاة النظير فملح وحسن، كقوله تعالى:
(٢١) آل عمران (١١).
(٢٢) المثل السائر (٣/ ٣).
 
١ ‏/ ٥٦٨
 
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٢٣).
وتناول الشعراء هذا الأسلوب فأصابوا وأخطئوا.
وجاءت المبالغة فى القرآن قوية جزلة لا تنبو عن ذوق ولا ينكرها عقل. مثل قوله تعالى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ (٢٤).
ففي هذه الآية مبالغة مقبولة غير منكرة ولا نافرة تصف أثر الخوف وهذا يصوره زوغ الأبصار لشدة الاضطراب وهذا أمر واقع، عطف عليه أمر قريب من الواقع هو بلوغ القلوب الحناجر فإن القلب حين يضطرب تظهر آثار اضطرابه فى تهدج الصوت واضطرابه، والصوت يكون مسموعا بعد مروره بالحنجرة، فلذلك ساغ هذا التعبير وقوى به المعنى وحسن.
ومثل قوله تعالى: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ (٢٥). مبالغة فى صفاء الزيت.
وقوله تعالى: إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها (٢٦) .. مبالغة فى تصوير الظلمة المحيطة به.
وجاءت هذه المبالغة على ألسنة الشعراء فأصابوا وأبعدوا فى الخطأ.
قال الأعشى:
فتى لو ينادى الشمس ألقت قناعها ... أو القمر السارى لألقى المقالد
فقد غالى فى تصوير المعنى فعلق تبذل الشمس على مجالسته لها، وكذلك تخلى القمر السارى عن المقالد مرهون بتلك المجالسة، وهذه مبالغة موصوفة بالغلو. ولم يخل كلامه من التكلف؛ فقد أثبت للشمس قناعا وللقمر مقالد وجوز فى جانبهما المنادمة.
وقال أبو نواس:
وأخفت أهل الشرك حتى أنه ... لتخافك النطف التى لم تخلق
وهذا البيت معيب «لما فى ذلك من الغلو والإفراط الخارج عن الحقيقة».
وصحة التقسيم جاء فى الكتاب الحكيم على أبلغ وجه، وأصح منهج كقوله:
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا (٢٧).
وقوله تعالى: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٢٨).
(٢٣) الرحمن (٥ - ٦).
(٢٤) الأحزاب (١٠).
(٢٥) النور (٤٠).
(٢٦) النور (٤٠).
(٢٧) الرعد (١٢).
(٢٨) الواقعة (٨٨ - ٩٤).
 
١ ‏/ ٥٦٩
 
الآية الأولى: تبين قسمى أثر البرق عند الناس.
والآية الثانية: تبين أقسام الناس يوم العرض، فهم ثلاثة لا رابع لهم. فهذه قسمة صحيحة.
وقد أخطأ بعض الشعراء عند ما تناولوا هذا الفن. مثل قول البحترى:
قف مشوقا أو مسعدا أو حزينا ... أو معينا أو عاذرا أو عذولا
(٢٩) قال ابن الأثير: «فإن المشوق يكون حزينا والمسعد يكون معينا، وكذلك يكون عاذرا ..
وكثيرا ما يقع البحترى فى مثل ذلك».
وعابوا قول أبى الطيب:
فافخر فإن الناس فيك ثلاثة ... مستعظم أو حاسد أو جاهل
لأن المستعظم يكون حاسدا، والحاسد يكون مستعظما، ومن شرط التقسيم ألا تتداخل أقسامه بعضها فى بعض» (٣٠).
«وأما صحة التقسيم .. فأن تكون الأقسام المذكورة لم يخل بشيء منها، ولا تكررت ولا دخل بعضها فى بعض».
ومثل للمعيب منه بقول جرير:
صارت حنيفة أثلاثا فثلثهم ... من العبيد وثلث من مواليها
ثم علق عليه قائلا: فهذه قسمة فاسدة من طريق الإخلال لأنه قد أخل بقسم من الثلاثة. وقيل: إن بعض بنى حنيفة سئل من أى الأثلاث هو؟ قال: من الثلث الملغى» (٣١).
وهذه لمحة نقد بالغة الدقة.
وجاء الإيجاز فى القرآن الكريم بقسميه:
إيجاز الحذف وإيجاز القصر، فلم يبهم معه معنى ولا اختفى معه مراد. كقوله تعالى:
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ (٣٢)، وقوله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ (٣٣)، وقوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٣٤)، وقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى (٣٥)، وقوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ (٣٦)، وقوله تعالى: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ (٣٧)، وقوله تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ (٣٨).
والقرآن ملىء بمثل هذه الدرر الغوالى مع قوة المعنى ووضوحه وشدة أسره للأفهام.
وقد تناوله قوم فأصابوا وأخطئوا، فأما ما جاء فى القرآن فهو أبلغ منه وأوجز، ولعل مضرب الأمثال فى ذلك قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ (٣٩).
فإذا قورن به قول العرب: «القتل أنفى للقتل». فإن عبارة القرآن قد فاقته من عدة
(٢٩) ديوان البحترى (٢/ ١).
(٣٠) سر الفصاحة (٩٤).
(٣١) سر الفصاحة (٢٢٧).
(٣٢) يوسف (٨٢).
(٣٣) الفجر (٢٢).
(٣٤) سبأ (٥١).
(٣٥) الرعد (٣١).
(٣٦) الأنعام (٨٢).
(٣٧) يونس (٢٣).
(٣٨) البقرة (١٣٤).
(٣٩) البقرة (١٧٩).
 
١ ‏/ ٥٧٠
 
وجوه (٤٠) قد عنى العلماء بإفاضة القول فيها.
مع أن هذا القول الصادر عن العرب كانوا يعدونه أبلغ ما قيل فى معناه.
على أن كثيرا من الشعراء قد أوجزوا فأخلوا، وسر بلاغة الإيجاز وضوح المعنى ..
من ذلك قول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ابن مسعود:
أعاذل عاجل ما أشتهى ... أحب من الأكثر الرائث
(٤١) لأنه أراد: عاجل ما أشتهى مع القلة أحب إلى من الأكثر البطىء، فترك «مع القلة» وبه تمام المعنى.
ومنه قول عروة بن الورد:
عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم ... ومقتلهم عند الوغى كان أعذر
كأنه أراد أن يقول: عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم فى السلم وقتلهم فى الحرب أعذر، فترك «فى السلم» وبه تمام المعنى كذلك.
وكذلك قول الحارث بن حلزة:
والعيش خير فى ظلال النوك ... ممن عاش كدا
أراد: العيش الناعم فى ظلال الجهل خير من العيش الشاق فى ظلال العقل.
والوجه الذى يقرب هذه الأمثلة الثلاثة إلى الصواب أنه يمكن أن يقال: إن دليل الحذف فيها ما قابل المحذوف. فقوله: «ومقتلهم عند الوغى» دليل «فى السلم» المحذوف، وإلا لخرج الكلام مخرج الأحاجى والألغاز، ولما استحق أن يدخل فى باب الأدب.
ولو أننا تتبعنا سائر فنون البديع بمعناها العام لوجدنا أمثلتها فى القرآن لا تخرج عن البلاغة الأصلية مع الوفاء بحق المعنى، وحق اللفظ.
فليس فيه إحسان فى موضع، وإساءة فى آخر، بل هو على وتيرة واحدة فى جميع فنونه وطرق تعبيره، وهذا هو الفرق الذى رمناه بين بديع القرآن وبديع الناس.
فالناس- شعراؤهم وناثروهم- إذا أكثروا من استعمال البديع لم يسلم لهم منه إلا القليل، وإذا لم يكثروا منه- وهذا شرط قبوله- فإنهم ليسوا فى مأمن من السقوط والكلفة، كما وقع لبشار بن برد ومسلم بن الوليد وأبى تمام، وكما وقع للمتأخرين منهم حينما أسرفوا وغالوا فى السعى وراء البديع فضعف معه المعنى أو زال من أساسه كبديع الزمان الهمذانى وصفى الدين الحلى، وغيرهم من عشاق البديع.
والبديع فى القرآن فطرى جرى مع طبيعة
(٤٠) انظر- مثلا- بديع القرآن لابن أبى الأصبع.
(٤١) الرّائث: البطيء.
 
١ ‏/ ٥٧١
 
الأسلوب ولم يصر إليه حلية لفظ أو تزويق عبارة، وهو فيه سمة من سمات إعجازه وحسنه سواء أكان راجعا إلى المعنى أو راجعا إلى اللفظ وحسنه ذاتى لا عرضى، ولو ذهبنا ننحى ما جاء من بديع القرآن عن أصالة أسلوبه وروعة معانيه، لذهبنا بشرط الحسن فيه لقوة صوره وأصالة وروده فيه، وقد تقدم لنا أن كثيرا من فنون البديع من صميم طرق التعبير فى القرآن الكريم- كالمطابقة- لأنه كثيرا ما يقارن بين أنواع متضادة أو كالمتضادة، والمشاكلة والسجع ... وما إلى هذه الألوان الآسرة.
على أن هنا ملاحظتين إحداهما ترجع إلى البديع بعامة، والثانية ترجع إلى بديع القرآن بخاصة.
أما ما ترجع إلى البديع بعامة .. فإنه فن فى حاجة إلى الإنصاف وإعادة النظر، ونحن هنا أمام طريقين:
إما أن نطلق كلمة «البديع» على فنون البلاغة جميعا، وإما أن نرد كل حق إلى نصابه، فنرد ما للمعانى للمعانى، وما للبيان للبيان- مما يدرس ضمن فنون البديع- ولو فعلنا
ذلك لما بقى شىء يمكن أن يطلق عليه بديعا، لاختلاس هذه الفنون من علمى المعانى والبيان، إلا فيما ندر.
وأما ما يتعلق ببديع القرآن .. فإن بعض الباحثين مسرف فى إثبات الألوان كما فعل ابن أبى الأصبع فى كتابه الموسوم «بديع القرآن» مثل التفويف والتنكيت والانفصال، والتردد والاطراد، فإن إدراك جمال التعبير فى القرآن لا يحتاج إلى أكثر من الذوق وصفاء النفس فلا داعى لكثرة التلقيب والتنويع.
والحمد لله فى الأولى والآخرة ..
أ. د. عبد العظيم إبراهيم المطعنى
 
١ ‏/ ٥٧٢
 
إعراب القرآن
قال ابن جنى فى «الخصائص الكبرى»:
الإعراب: هو الإبانة عن المعانى بالألفاظ (١).
وقال ابن منظور فى «لسان العرب»: أعرب الكلام وأعرب به: بيّنه ... وعرّب منطقه: أى هذّبه من اللحن ... (٢).
وقال الراغب فى «مفرداته»: ... إعراب الكلام: إيضاح فصاحته. وخصّ الإعراب فى تعارف النحويّين بالحركات والسكنات المتعاقبة على أواخر الكلم (٣).
ومن هذا المنطلق اللغوى يعرّف إعراب القرآن فيقال: هو بيان معانيه باستعمال القواعد النحوية عند الحاجة إليها؛ فالإعراب فرع المعنى كما يقول علماء اللغة.
وفى القرآن معان كثيرة يتوقف فهمها على إعراب ألفاظها؛ لمعرفة الفاعل من المفعول، والصفة من الموصوف، والمبتدأ من الخبر، وغير ذلك مما يحتاج إليه المفسر فى الوقوف على المعنى المراد على وجه التحديد أو على وجه التقريب.
ويستطيع من خلال معرفة وجوه الإعراب أيضا أن يصحح من أقوال المفسرين ما يراه صحيحا، أو يرجح ما يراه راجحا؛ مستدلا على سلامة قوله بقاعدة أو بأكثر من قواعد الإعراب التى لا خلاف عليها بين المعربين.
ولا شك أن علماء النحو قد بذلوا جهودا مضنية فى وضع هذه القواعد وسبكها بدقة وفق مقتضيات اللغة.
وكان لأولهم قدم السبق فى تحريرها، وكان لمن جاء بعدهم فضل التحقيق والتطبيق.
وقد بذل المفسرون جهودا مشكورة فى استعمال هذه القواعد النحوية؛ لبيان معانى كتاب الله تعالى؛ فكانوا نعم العون للناظرين فيه على اختلاف درجاتهم فى الثقافة والفهم وتنوع مشاربهم فى العلم والمعرفة.
فعلماء البلاغة يجدون فيه بغيتهم إذا أرادوا أن يتعرفوا جمال تعبيره ورقة تصويره، وجودة نظمه وروعة بيانه، وأسرار إعجازه فى مناحيه الأربعة: البيانية، والتشريعية، والعلمية، والغيبية.
وعلماء الحديث يستعينون على فهمه بالقرآن، ويستعينون على فهم القرآن بعلم الإعراب وعلوم البلاغة.
(١) الخصائص الكبرى ج ١ ص ٣٥ لأبى الفتح عثمان بن جنى (... - ٣٩٢ هـ/ ٠٠٠ - ١٠٠٢ م) ت محمد على النجار الأستاذ بكلية اللغة العربية ط دار الهدى للطباعة والنشر
بدون تاريخ.
(٢) لسان العرب لابن منظور مادة (عرب) ط دار المعارف المصرية.
(٣) مادة (عرب) ص ٣٢٨، ٣٢٩ ط مصطفى البابى الحلبى وشركائه الطبعة الأخيرة ١٣٨١ هـ/ ١٩٦١ م.
 
١ ‏/ ٥٧٣
 
والمشتغلون بالعلوم الأخرى يستمدون فهم كتاب الله- تعالى- من أولئك المفسرين الذين نبغوا فى هذه العلوم اللغوية التى تعتمد بالدرجة الأولى على قواعد الإعراب.
لذا كانت دراسة علم النحو ضرورية لكل من يتصدى لتفسير كتاب الله- تعالى-، وبيان ما تضمنته الأحاديث النبوية أيضا؛ لأن السنة بيان للقرآن، يتوقف فهمه على فهمها بكل الوسائل المستعملة فى ذلك، وأولها معرفة وجوه الإعراب.
وقد شرط العلماء لمن يتصدى لعلم التفسير شروطا كثيرة، منها:
(أ) أن يقتصر منه على القدر الذى تدعو إليه الحاجة، ويترك ما زاد عليها للمتخصصين فى علم النحو؛ فإن القرآن من أوله إلى آخره كتاب هداية ومنهج حياة، فينبغى أن يكون مبلغ همّ المفسر لآياته بيان معانية ومراميه ومناحى إعجازه، وغير ذلك مما فيه حكم، وحكمة، وعظة، وعبرة.
(ب) أن يفهم أولا معنى ما يعربه مفردا كان أو مركبا؛ وذلك بالرجوع إلى كتب التفسير التى عنى أصحابها بالغوص فى المعانى إلى أعماقها واستخراج مكنوناتها ونفائسها، مستعينين فى ذلك بمتن اللغة وفقهها وصورها البيانية وإيحاءاتها فى دقة النظم وجمال التعبير وسلامة الأسلوب تماما من الخلل والزلل.
(ج) أن يراعى المعرب المعنى الصحيح الذى دل عليه لفظ الآية وسياقها وما إلى ذلك من أدلة التصحيح، ولو خالف بذلك الصناعة النحوية إذا كانت لا تعينه على المعنى الذى اتفق عليه أكثر المفسرين؛ فالقرآن قد نزل بلسان عربىّ مبين يحكم به ولا يحكم عليه؛ فالحجة فيه لأهل التفسير واضحة جليّة، لا يضرهم من خالفهم من النحويين ولا من غيرهم.
وهذا ميدان زلت فيه أقدام كثير من المتكلفين والمقلدين.
(د) أن يجتنب الوجوه الضعيفة فى الإعراب ويلزم نفسه بما صحّ منها، ولا سيما إذا كانت هذه الوجوه تخلّ بالمعنى أو توهن من شأنه فى العظة والاعتبار.
(هـ) أن يتتبع المعرب ما تحتمله الألفاظ من وجوه الإعراب؛ فيشير إليها، ويختار أحسنها مرجحا قوله بالدليل.
(و) أن يراعى الشروط المختلفة بحسب الأبواب؛ فإن العرب يشترطون فى باب شيئا ويشترطون فى آخر نقيض ذلك الشيء، على ما اقتضته حكمة لغتهم وصحيح أقيستهم؛ فإذا لم يتأمل المعرب ذلك اختلطت عليه الأبواب والشرائط.
 
١ ‏/ ٥٧٤
 
(ز) ألا يخرّج على خلاف الأصل، أو على خلاف الظاهر لغير مقتض.
(ح) وهذه الشروط تقتضى شرطا آخر هو أهمها جميعا، وهو أن يكون المعرب لكتاب الله- تعالى- مستجمعا لشروط المفسر من:
سلامة الفطرة، وصحة المعتقد، وصفاء الذهن، وخلوّ قلبه من الهوى، وخبرته الواسعة بفنون لغة العرب وغير ذلك مما هو مذكور فى محله (٤).
(٤) وينبغى أن يلتزم المعرب لكتاب الله- تعالى- الأدب فى التعبير عند الإعراب؛ فلا يتفوه بكلمة لا تليق بجلال القرآن أو تخلّ بفصاحته، أو تؤدى إلى شكّ فى سلامة نظمه ومحاسن أسلوبه.
(أ) مثل قول بعض المعربين: هذا حرف زائد؛ فإن الزائد قد يفهم منه أنه لا معنى له، وكتاب الله منزّه عن ذلك، فإن الحروف التى يبدو للمعربين أنها زائدة فى كلام الناس لا ينبغى أن يقولوا فيها إن وردت فى كتاب الله:
هى زائدة، إلا أن يقولوا: زائدة لملحظ بلاغى وفائدة لا تؤدّى بغيره.
أو يقولوا بقول بعض الورعين من المعربين:
هذا الحرف صلة أو هو حرف توكيد، أى:
جىء به لفائدة لا غنى عنه فى بيانها.
(ب) ومثل قول بعض المعربين: «الله» مفعول به منصوب. وهذا لا يليق بجلال الله تعالى.
والأولى أن يقال: لفظ الجلالة منصوب على العظمة، كما وجدناه فى بعض كتب المعربين.
(٥) (أ) وممن صنّف فى إعراب القرآن أبو البقاء عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبرى (٥٣٨ - ٦١٦ هـ/ ١١٤٣ - ١٢١٩ م).
فقد وضع فيه كتابا جامعا لسور القرآن كلها، سماه: «التبيان فى إعراب القرآن» - فى جزءين. طبع لأول مرة فى مصر سنة (١٣٩٩ هـ- ١٩٧٩ م).
وهو كتاب واف فى مقصوده، واضح فى أسلوبه، تميز عن سواه بحل كثير من مشكلات الإعراب فى كتاب الله- تعالى- وأتى فيه بما يشفى ويكفى.
قال ﵀ فى مقدمته: (والكتب المؤلفة فى هذا العلم كثيرة جدا، مختلفة ترتيبا وحدّا؛ فمنها المختصر حجما وعلما، ومنها المطول بكثرة إعراب الظواهر، وخلط الإعراب بالمعانى، وقلما تجد فيها مختصر الحجم كثير العلم، فلما وجدتها على ما وصفت، أحببت أن أملى كتابا يصغر حجمه ويكثر علمه، أقتصر فيه على ذكر الإعراب ووجوه القراءات؛ فأتيت به على ذلك).
(٤) راجع كتاب مغنى اللبيب عن كتب الأعاريب تحت عنوان: ذكر الجهات التى يدخل الاعتراض على المعرب من جهتها ج ٢ ص ٥٢٧، ٥٩٩ بتصرف.
 
١ ‏/ ٥٧٥
 
(ب) وقد صنف أبو محمد: عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصارى المصرى (٧٠٨ - ٧٦١ هـ/ ١٣٠٩ - ١٣٦٠ م) كتابا نفيسا فى هذا الفن سماه/ «مغنى اللبيب عن كتب الأعاريب» جمع فيه الكثير من قضايا الإعراب ومسائله المتعلقة بكتاب الله- تعالى- فأفاد وأجاد، وصار كتابه هذا مرجعا لا يستغنى عنه نحوى ولا مفسر.
قال فى مقدمته: (وضعت هذا التصنيف على أحسن إحكام وترصيف، وتتبّعت فيه مقفلات مسائل الإعراب فافتتحتها، ومعضلات يستشكلها الطلاب فأوضحتها ونقّحتها، وأغلاطا وقعت لجماعة من المعربين وغيرهم فنبهت عليها وأصلحتها).
ثم قال: (وينحصر فى ثمانية أبواب:
الباب الأول: فى تفسير المفردات وذكر أحكامها.
الباب الثانى: فى تفسير الجمل وذكر أقسامها وأحكامها.
الباب الثالث: فى ذكر ما يتردد بين المفردات والجمل، وهو الظرف والجار والمجرور، وذكر أحكامها.
الباب الرابع: فى ذكر أحكام يكثر دورها، ويقبح بالمعرب جهلها.
الباب الخامس: فى ذكر الأوجه التى يدخل على المعرب الخلل من جهتها.
الباب السادس: فى التحذير من أمور اشتهرت بين المعربين والصواب خلافها.
الباب السابع: فى كيفية الإعراب.
الباب الثامن: فى ذكر أمور كلية يتخرج عليها ما لا ينحصر من الصور الجزئية). أه.
والناظر فيه يجد علما غزيرا بما تضمّنه كتاب الله- تعالى- من الحقائق والدقائق التى لا يستغنى عنها من أراد أن يتفقّه فى كتاب الله- ﷿.
طبع هذا الكتاب بمطبعة المدنى، ونشره محمد على صبيح بتحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد. وطبعته المكتبة العصرية ببيروت سنة (١٩٩٢ م/ ١٤١٢).
(ج) وصنف فى هذا الفن: الأستاذ/ محمد عبد الخالق عضيمة- كتابا كبير الحجم من أحد عشر جزءا فى النحو والصرف بوجه عام، واهتم كثيرا بإعراب القرآن وبيان ما أشكل على الدارسين من وجوهه المختلفة. سماه: «دراسات لأسلوب القرآن الكريم».
وهو كتاب فريد، فى ترتيبه وتهذيبه وجمعه للمسائل النحوية فى الجو القرآنى لا غنى للدارسين فى العلوم العربية والشرعية عن مطالعته.
 
١ ‏/ ٥٧٦
 
طبع هذا الكتاب سنة (١٩٨٨ م) فى مطبعة حسّان بالقاهرة.
(د) وظهر مؤخرا كتاب بعنوان: «إعراب القرآن الكريم وبيانه» لمحيى الدين درويش.
طبع عدة مرات. المرة الثالثة منها فى المطبعة اليمانية، وطبع أيضا فى دار الإرشاد- حمص- سوريا. يقع الكتاب فى عشرة أجزاء، مرتب على حسب السور، يتكلم فيه المؤلف عن معانى الألفاظ بإيجاز ثم يعربها.
(هـ) وممن صنف فى إعراب القرآن- أبو إسحاق إبراهيم بن السرى الزجاج المتوفى سنة (٣١١ هـ/ ٩٢٣ م) كتابه المسمى: «معانى القرآن وإعرابه». تناول فيه إعراب القرآن كله بإيجاز. يقع الكتاب فى أربعة أجزاء، حققه الدكتور: عبد الجليل عبده شلبى، وطبع فى عالم الكتب، الطبعة الأولى ١٤٠٨ هـ/ ١٩٨٨ م.
(و) وقد صنف أبو جعفر النحاس المتوفى سنة (٣٣٨ هـ/ ٩٤٨ م) كتابه المسمى: «إعراب القرآن».
وهو كتاب يعنى بإعراب القرآن عناية موسعة، ذكر فيه أقوال النحويين ووجوه القراءات التى دندن حولها المعربون.
يقع الكتاب فى خمسة أجزاء طبع فى عالم الكتب الطبعة الثانية (١٤٠٥ هـ/ ١٩٨٥ م) بتحقيق د/ زهير غازى زاهر.
(ز) وصنف فى هذا الفن: عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله الأنبارى (٥١٣ هـ/ ٥٧٧ هـ/ ١١١٩/ ١١٨١ م) كتابا أسماه:
«البيان فى غريب إعراب القرآن». وقد حققه د/ طه عبد الحميد طه وراجعه الأستاذ:
مصطفى السقا طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة (١٤٠٠ هـ/ ١٩٨٠ م).
(ح) «تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه» للشيخ: محمد على طه الدرة ط دار الحكمة- دمشق- بيروت.
(ط) «مشكل إعراب القرآن» لمكى بن أبى طالب القيسى (٣٥٥ - ٤٣٧ هـ/ ٩٦٦ - ١٠٤٥ م).
يقع فى جزءين طبع فى مجمع اللغة العربية بدمشق (١٣٩٤ هـ/ ١٩٧٤ م) بتحقيق:
ياسين محمد السوّاس.
(ى) الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل فى وجوه التأويل» للزمخشرى:
محمود بن عمر بن محمد بن أحمد الخوارزمى (٤٦٧ - ٥٣٨ هـ/ ١٠٧٥ - ١١٤٤ م) وهو كتاب يكشف عن جمال النظم القرآنى وسحر بلاغته وفنون إعرابه، يقع فى أربعة مجلدات.
(ك) «تفسير البحر المحيط» لأبى حيان:
محمد بن يوسف (٦٥٤ - ٧٤٥ هـ/ ١٢٥٦ - ١٣٤٤ م) وهو كتاب حافل بمسائل الإعراب المتعلقة بكتاب الله- تعالى- يستدرك فيه ما
 
١ ‏/ ٥٧٧
 
فات الزمخشرى وغيره من المعربين، ويبين من خلال وجوه الإعراب ما تضمنته الآيات من المعانى مع بيان إعجاز القرآن فى بلاغته ونظمه وجمال تعبيره ودقة تصويره وعذوبة بيانه؛ حتى بدا وكأنه كتاب نحو وبلاغة.
يقع هذا الكتاب فى ثمانى مجلدات كبار، وهو مطبوع متداول، طبعته دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع عدة طبعات. الطبعة الثانية ١٤٠٣ هـ- ١٩٨٣ م.
وبهامشه:
١ - «تفسير النهر الماد من البحر» لأبى حيّان نفسه وهو مختصر «للبحر المحيط».
٢ - كتاب «الدرّ اللقيط من البحر المحيط» للإمام: تاج الدين الحنفى النحوى تلميذ أبى حيّان (٦٨٢ - ٧٤٩ هـ/ ١٢٥٣ - ١٣١٩ م).
(ل) «الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين للدّقائق الخفية» تأليف: سليمان بن عمر العجيلى الشافعى الشهير بالجمل، (المتوفى ١٢٠٤ هـ/ ١٧٩٠ م).
يقع فى أربعة مجلدات كبار طبعته مطبعة عيسى البابى الحلبى بمصر بدون تاريخ.
وبهامشه كتابان:
١ - «تفسير الجلالين» لجلال الدين السيوطى، وجلال الدين المحلى.
٢ - «إملاء ما منّ به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات فى جميع القرآن» لأبى البقاء: عبد الله بن الحسين العكبرى المتقدم ذكره.
وهذا الكتاب لا يقل شأنا عن كتاب البحر المحيط، بل هو أوسع منه دائرة فى بعض المواضع؛ فقد أفاد منه ومن غيره ممن جاء بعده إلا أنه لا يخوض فى أعماق المسائل النحوية المعقدة كما صنع أبو حيّان فى كتابه.
وطالب العلم لا يستغنى عن هذا وذاك؛ فإنه إن لم يجد ضالته فى كتاب وجدها فى آخر؛ فقد يوجد فى النهر ما لا يوجد فى البحر.
أ. د./ محمد بكر إسماعيل
 
١ ‏/ ٥٧٨

عن الكاتب

Tanya Ustadz

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية