الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

الباب الخامس الحج والعمرة

الفصل الأول: أحكام الحج والعمرة

 ا سم الكتاب الفِقْهُ الإسلاميُّ وأدلَّتُهُ الشَّامل للأدلّة الشَّرعيَّة والآراء المذهبيَّة وأهمّ النَّظريَّات الفقهيَّة وتحقيق الأحاديث النَّبويَّة وتخريجها
اسم المؤلف: د. وَهْبَة بن مصطفى الزُّحَيْلِيّ
المهنة:أستاذ ورئيس قسم الفقه الإسلاميّ وأصوله بجامعة دمشق - كلّيَّة الشَّريعة
الوفاة     8 أغسطس 2015 الموافق 23 شوال 1436 هـ
عدد الأجزاء: 10
التصنيف: الفقه المقارن

 المحتويات 

  1. الباب الخامس: الحج والعمرة
  2. الفصل الأول: أحكام الحج والعمرة
  3. المبحث الأول ـ تعريف الحج والعمرة ومكانتهما في الإسلام وحكمتهما وحكمهما
  4. أولا ـ تعريف الحج والعمرة
    1. تاريخ مشروعيته
  5. ثانيا ـ مكانة الحج والعمرة في الإسلام وحكمتهما
    1. هل الحج أفضل من الجهاد؟
    2. حكمة المشروعية
    3. فوائده الشخصية
    4. فوائد الحج الجماعية
  6. ثالثا ـ حكم الحج والعمرة
    1. كون فريضة الحج مرة
    2. نوع الفرضية
    3. هل وجوب الحج على الفور أو على التراخي؟
    4. حكم العمرة
  7. المبحث الثاني ـ شروط الحج والعمرة وموانعهما
  8. المطلب الأول ـ شروط الحج والعمرة
  9. الشروط العامة
    1. ١ - الإسلام
    2. ٢ - التكليف أي البلوغ والعقل
    3. إحجاج الصغير والمجنون
    4. إذن الولي
    5. ٣ - الحرية
    6. حكم الحج حال الصبا والرق
    7. الإذن للصبي وللعبد وللزوجة
    8. ٤ - الاستطاعة البدنية والمالية والأمنية الموجبة للحج
    9. قال الحنفية
    10. قال المالكية
    11. قال الشافعية
    12. قال الحنابلة
  10. الشروط الخاصة بالنساء
  11. النيابة في الحج والحج عن الغير
    1. أولا ـ ما يقبل النيابة من العبادات وما لا يقبلها
    2. ثانيا ـ إهداء ثواب الأعمال للميت
    3. ثالثا ـ مشروعية النيابة في الحج وأقوال الفقهاء فيما يجوز منها
    4. الحنفية
    5. المالكية
    6. الشافعية
    7. الحنابلة
    8. أدلة المشروعية
  12. رابعا ـ الاستئجار على الحج
    1. الإجارة على الحج عند المالكية
  13. خامسا ـ شروط الحج عن الغير
    1. حج الصرورة
    2. الحج النفل عن الغير
  14. سادسا ـ مخالفة النائب
    1. جزاء المخالفة
  15. المطلب الثاني ـ موانع الحج
  16. المبحث الثالث ـ مواقيت الحج والعمرة الزمانية والمكانية
  17. المطلب الأول ـ وقت الحج والعمرة
    1. ١ - وقت الحج
    2. ٢ - وقت العمرة
  18.  تفصيل القول في تكرار العمرة
  19.  متى تكره العمرة؟
  20. المطلب الثاني ـ ميقات الحج والعمرة المكاني
  21.  أولا ـ ميقات من كان مقيما بمكة
  22. ثانيا ـ أهل الحل
  23. ثالثا ـ الآفاقي أو أهل الآفاق
    1. من حاذى الميقات ومن لم يحاذه
    2. حكم الداخل إلى مكة بعد أن حج واعتمر
    3. هل الإحرام من الميقات أفضل أو من دار أهله؟
    4. جزاء من تجاوز الميقات بدون إحرام 
  24. المبحث الرابع ـ أعمال الحج والعمرة وصفة حجة النبي وعمرته
  25. المبحث الخامس - أركان الحج
  26. المبحث السادس - واجبات الحج
  27. المبحث السابع ـ سنن الحج والعمرة
  28. المبحث الثامن ـ كيفية أداء الحج والعمرة
  29. المبحث التاسع ـ كيفية التحلل من الحج
  30. المبحث العاشر ـ محظورات الإحرام أو ممنوعاته، ومباحاته   
  31. المبحث الحادي عشر ـ جزاء الجنايات
  32. المبحث الثاني عشر ـ الفوات 
  33. المبحث الثالث عشر ـ الهدي
  34. العودة إلي الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

 

 البَابُ الخامسُ: الحجّ والعُمْرة

 
فيه فصول ثلاثة:
الفصل الأول - أحكام الحج والعمرة.
الفصل الثاني - خصائص الحرمين - مكة والمدينة.
الفصل الثالث - آداب السفر للحج وغيره وآداب الحاج العائد بعد رجوعه من سفره.
ويلاحظ أنني أخرت بحث الحج عن الصلاة والزكاة والصوم؛ لأن الصلاة عماد الدين ولشدة الحاجة إليها لتكررها كل يوم خمس مرات، ثم الزكاة لكونها قرينة لها في أكثر المواضع في القرآن، ثم الصوم لتكرره كل سنة، وأما الحج ففي العمر مرة.
 
الفَصْلُ الأوَّل: أحكامُ الحجّ والعُمرة
وهو يشتمل على أمور ثلاثة:
الأول - بيان مقدمات هذه العبادة بمعرفة حكم كل من الحج والعمرة وشروطهما.
والثاني - مقومات الحج والعمرة وهي الأفعال المطلوبة والمتروكات بالإحرام، وفيه توضيح الأركان والواجبات والسنن.
والثالث - اللواحق وهي أحكام الأفعال التابعة للإحرام، من إحصار وفوات، وجزاء جنايات، وهدي. وهذا الفصل هو صلب موضوع هذا الباب الذي خصصته لبيان الدعامة الرابعة من دعائم الإسلام بعد بيان الدعامات الثلاث: وهي الصلاة والصوم والزكاة.
ويمكن بحث موضوعاته في المباحث الثلاثة عشر التالية:

المبحث الأول - تعريف الحج والعمرة ومكانتهما في الإسلام وحكمتهما وحكمهما.
المبحث الثاني - شروط الحج والعمرة (شروط الوجوب والصحة أو الأداء) وموانعهما.
 
المبحث الثالث - مواقيت الحج والعمرة الزمانية والمكانية.
المبحث الرابع - أعمال الحج والعمرة وصفة حجة النبي ﷺ وعمرته.
المبحث الخامس - أركان الحج والعمرة.
المبحث السادس - واجبات الحج.
المبحث السابع - سنن الحج والعمرة.
المبحث الثامن - كيفية أداء الحج والعمرة.
المبحث التاسع - كيفية التحلل من الحج.
المبحث العاشر - محظورات الإحرام ومباحاته.
المبحث الحادي عشر - جزاء الجنايات في الحج أو العمرة.
المبحث الثاني عشر - الإحصار والفوات.
المبحث الثالث عشر - الهدي.
وأبدأ ببيانها على الترتيب المذكور.


المبحث الأول - تعريف الحج والعمرة ومكانتهما في الإسلام وحكمتهما وحكمهما:


أولًا - تعريف الحج والعمرة:

 الحج لغة: القصد مطلقًا، وعن الخليل قال: الحج: كثرة القصد إلى من تعظمه.
وشرعًا: قصد الكعبة لأداء أفعال مخصوصة، أو هو زيارة مكان مخصوص
 
في زمن مخصوص بفعل مخصوص. والزيارة: هي الذهاب. والمكان المخصوص: الكعبة وعرفة. والزمن المخصوص: هو أشهر الحج: وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة، والعشر الأوائل من ذي الحجة، ولكل فعل زمن خاص، فالطواف مثلًا عند الجمهور: من فجر النحر إلى آخر العمر، والوقوف بعرفة: من زوال الشمس يوم عرفة لطلوع فجر يوم النحر. والفعل المخصوص: أن يأتي مُحْرمًا بنية الحج إلى أماكن معينة (١).

وتاريخ مشروعيته على الصحيح: 

أن الحج فرض في أواخر سنة تسع من الهجرة، وأن آية فرضه هي قوله تعالى: ﴿ولله على الناس حج البيت﴾ [آل عمران:٩٧/ ٣] نزلت عام الوفود أواخر سنة تسع وهو رأي أكثر العلماء، وأنه ﷺ لم يؤخر الحج بعد فرضه عامًا واحدًا، وإنما أخره ﵇ للسنة العاشرة لعذر، وهو نزول الآية بعد فوات الوقت (٢)، فكان حجه بعد الهجرة حجة واحدة سنة عشر، كما روى أحمد ومسلم.
والعمرة لغة: الزيارة، وقيل: القصد إلى مكان عامر، وسميت بذلك؛ لأنها تفعل في العمر كله. وشرعًا: قصد الكعبة للنسك وهو الطواف والسعي (٣). ولايغني عنها الحج وإن اشتمل عليها.

ثانيًا - مكانة الحج والعمرة في الإسلام وحكمتهما:

 الحج: هو الركن الخامس من أركان الإسلام، فرضه الله تعالى على المستطيع، والعمرة مثله، فهما أصلان عند الشافعية والحنابلة، لقوله تعالى:
(١) الدر المختار:١٨٩/ ٢، اللباب: ١٧٧/ ١، فتح القدير: ١٢٠/ ٢، مغني المحتاج: ٤٥٩/ ١ ومابعدها، المغني: ٢١٧/ ٣، الشرح الكبير مع الدسوقي: ٢/ ٢، كشاف القناع: ٤٣٧/ ٢.
(٢) حاشية ابن عابدين نقلًا عن ابن القيم: ١٩٠/ ٢.
(٣) مغني المحتاج: ٤٦٠/ ١، كشاف القناع:٤٣٦/ ٢ وما بعدها.
 
﴿وأتموا الحج والعمرة لله﴾ [البقرة:١٩٦/ ٢] وهي سنة عند المالكية والحنفية، كما سأبين، وقد اعتمر النبي ﷺ أربع عُمَر، كلهن في ذي القعْدة إلا التي مع حَجَّته (١): الأولى من الحديبية سنة ست من الهجرة، والثانية سنة سبع وهي عمرة القضاء، والثالثة سنة ثمان عام الفتح، والرابعة مع حجته سنة عشر، وكان إحرامها في ذي القعدة وأعمالها في ذي الحجة.
قال القاضي حسين من الشافعية: الحج أفضل العبادات لاشتماله على المال والبدن، وقال الحليمي: الحج يجمع معاني العبادات كلها، فمن حج فكأنما صام وصلى واعتكف وزكى ورابط في سبيل الله وغزا، ولأنا دعينا إليه، ونحن في أصلاب الآباء كالإيمان الذي هو أفضل العبادات.
والراجح عند الشافعية والحنابلة أن الصلاة أفضل منه (٢)؛ لأن الصلاة عماد الدين.

وهل الحج أفضل من الجهاد؟ 

اختلفت الأحاديث المشتملة على بيان فاضل الأعمال من مفضولها، فتارة تجعل الأفضل الجهاد، وتارة الإيمان، وتارة الصلاة، وتارة غير ذلك، من هذه الأحاديث: حديث الشيخين عن أبي هريرة قال: «سئل رسول الله ﷺ، أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله وبرسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: ثم الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: ثم حج مبرور»،ومنها حديث الجماعة إلا أبا داود عن أبي هريرة أيضًا: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» والمبرور: المقبول، ورجح النووي أنه الذي لا يخالطه شيء من الإثم.
(١) رواه مسلم عن أنس (شرح مسلم: ٢٣٤/ ٨ وما بعدها).
(٢) المرجعان والمكانان السابقان رقم (٣).
 
قال الشوكاني (١): وأحق ما قيل في الجمع بين الأحاديث: أن بيان الفضيلة يختلف باختلاف المخاطب، فإذا كان المخاطب ممن له تأثير في القتال، وقوة مقارعة الأبطال، قيل له: أفضل الأعمال: الجهاد، وإذا كان كثير المال، قيل له: أفضل الأعمال: الصدقة، ثم كذلك يكون الاختلاف على حسب اختلاف المخاطبين.
وقال المالكية (٢): الحج ولو تطوّعًا أفضل من الجهاد، إلا في حالة الخوف من العدو، فيفضل الجهاد على حج التطوع.

حكمة المشروعية: 

يتحقق بالحج والعمرة فرض الكفاية وهو إحياء الكعبة كل سنة بالعبادة، وتمتاز العمرة عن الحج بإمكانها في كل أيام العام أو العمر، فهي أيسر من الحج الذي يتقيد بأيام معلومات.


وللحج فوائد شخصية وجماعية، 

أما أهم فوائده الشخصية فهي ما يأتي: يكفِّر الحج الذنوب الصغائر ويطهر النفس من شوائب المعاصي، وقال بعض العلماء كبعض الحنفية: والكبائر أيضًا، بدليل الحديث السابق: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» فلا يقتصر لصاحبه من الجزاء على تكفير بعض ذنوبه، بل لا بد أن يدخل الجنة، ولقوله ﷺ أيضًا: «من حج، فلم يرفُث، ولم يفسُق، رجع من ذنوبه كيومَ ولدته أمُّه» (٣) أي بغير ذنب.
(١) نيل الأوطار: ٢٨٢/ ٤ ومابعدها.
(٢) الشرح الكبير: ١٠/ ٢.
(٣) رواه عن أبي هريرة البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه، والترمذي إلا أنه قال: «غفر له ماتقدم من ذنبه» والرفث: الفحش من القول، وقيل: هو الجماع. والفسق: المعصية.
 
وقال ﵇: «الحجاج والعُمَّار وفد الله، إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم» (١) وقال أيضًا: «يُغْفَر للحاج، ولمن استغفر له الحاج» (٢).
قال القاضي عياض: أجمع أهل السنة أن الكبائر لا يكفرها إلا التوبة، ولا قائل بسقوط الدين، ولو حقًا لله تعالى، كدين الصلاة والزكاة.
فالحج يغفر الذنوب، ويزيل الخطايا إلا حقوق الآدميين، فإنها تتعلق بالذمة، حتى يجمع الله أصحاب الحقوق، ليأخذ كل حقه، ومن الجائز أن الله تعالى يتكرم، فيرضي صاحب الحق بما أعد له من النعيم وحسن الجزاء، فيسامح المدين تفضلًا وتكرمًا، فلا بد من أداء حقوق الآدميين، أما حقوق الله فمبنية على تسامح الكريم الغفور الرحيم.
والحج يطهر النفس، ويعيدها إلى الصفاء والإخلاص، مما يؤدي إلى تجديد الحياة، ورفع معنويات الإنسان، وتقوية الأمل وحسن الظن بالله تعالى.
ويقوي الحج الإيمان، ويعين على تجديد العهد مع الله، ويساعد على التوبة الخالصة الصدوق، ويهذب النفس، ويرقق المشاعر ويهيج العواطف نحو بيت الله العتيق.
ويذكر الحج المؤمن بماضي الإسلام التليد، وبجهاد النبي ﷺ والسلف الصالح الذين أناروا الدنيا بالعمل الصالح.
والحج كغيره من الأسفار يعوِّد الإنسان على الصبر وتحمل المتاعب، ويعلم
(١) رواه عن أبي هريرة النسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، ولفظهما: «وفد الله ثلاثة: الحاج، والمعتمر، والغازي».
(٢) رواه البزار والطبراني في الصغير، وابن خزيمة في صحيحه والحاكم، ولفظهما: «اللهم اغفر للحاج، ولمن استغفر له الحاج».
 
الانضباط والتزام الأوامر، فيستعذب الألم في سبيل الله تعالى، ويدفع إلى التضحية والإيثار.
وبالحج يؤدي العبد لربه شكر النعمة: نعمة المال، ونعمة العافية، ويغرس في النفس روح العبودية الكاملة، والخضوع الصادق الأكيد لشرع الله ودينه، قال الكاساني (١): في الحج إظهار العبودية وشكر النعمة، أما إظهار العبودية فهو إظهار التذلل للمعبود، وفي الحج ذلك؛ لأن الحاج في حال إحرامه يظهر الشعث ويرفض أسباب التزين والارتفاق، ويظهر بصورة عبد سخط عليه مولاه، فيتعرض بسوء حاله لعطف مولاه. وأما شكر النعمة: فلأن العبادات بعضها بدنية وبعضها مالية، والحج عبادة لا تقوم إلا بالبدن والمال، ولهذا لا يجب إلا عند وجود المال وصحة البدن، فكان فيه شكر النعمتين، وشكر النعمة ليس إلا استعمالها في طاعة المنعم، وشكر النعمة واجب عقلًا وشرعًا.

وأما أهم فوائد الحج الجماعية: 

 فهو أنه يؤدي بلا شك إلى تعارف أبناء الأمة على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأوطانهم، وإمكان تبادل المنافع الاقتصادية الحرة فيما بينهم، والمذاكرة في شؤون المسلمين العامة، وتعاونهم صفًا واحدًا أمام أعدائهم، وغير ذلك مما يدخل في معنى قوله تعالى: ﴿ليشهدوا منافع لهم﴾ [الحج:٢٨/ ٢٢].
ويُشعر الحج بقوة الرابطة الأخوية مع المؤمنين في جميع أنحاء الأرض المعبر عنها في قوله تعالى: ﴿إنما المؤمنون إخوة﴾ [الحجرات:١٠/ ٤٩] ويحس الناس أنهم حقًا متساوون، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى.
(١) البدائع: ١١٨/ ٢.
 
ويساعد الحج على نشر الدعوة الإسلامية ودعم نشاط الدعاة في أنحاء المعمورة، على النحو الذي بدأ به النبي نشر دعوته بلقاء وفود الحجيج كل عام.
وأما الاعتماد على موسم الحج ليكون مؤتمرًا شعبيًا عامًا لمخاطبة المؤمنين، فهو غير مطلوب شرعًا؛ لأن المعول في السياسة الإسلامية على رأي أهل الخبرة والاختصاص والمشورة، فهم المرجع والمقصد، ولأن كثرة المسلمين الهائلة تمنع تحقيق الفائدة المرجوة، ولأن تخطيط السياسة ووضع المنهج الإسلامي منوط برأي الحكام المسلمين، ولم يعد بيد أحد من الأفراد العاديين شيء من النفوذ أو السلطة لتحقيق شيء يذكر.

ثالثًا - حكم الحج والعمرة: 

اتفق العلماء على فرضية الحج مرة في العمر، بدليل الكتاب والسنة.
أما الكتاب: فقول الله تعالى: ﴿ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلًا، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين﴾ [آل عمران:٩٧/ ٣] روي عن ابن عباس: «ومن كفر باعتقاده أنه غير واجب» وقال تعالى: ﴿وأتموا الحج والعمرة لله﴾ [البقرة:١٩٦/ ٢] وقال سبحانه: ﴿وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالًا، وعلى كل ضامر، يأتين من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله في أيام معلومات﴾ [الحج:٢٧/ ٢٢ - ٢٨].
وأما السنة: فقول النبي ﷺ: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقامِ الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان» (١).
(١) رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر ﵄.
 
كون فريضة الحج مرة: 

 الدليل على فرضية الحج مرة واحدة في العمر بأصل الشرع: هو حديث أبي هريرة، قال: «خطبنا رسول الله ﷺ فقال: يا أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجُّوا، فقال رجل: أكلَّ عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثًا، فقال النبي ﷺ: لو قلت: نعم، لوجَبَت ولما استطعتم» (١) وحديث ابن عباس بمعناه، وفيه تعيين الرجل وهو الأقرع بن حابس، وفيه أيضًا «من زاد فهو تطوع» (٢)، ويؤكده أن الأمر لا يقتضي التكرار، فلا يكون الأمر القرآني مفيدًا تكرار الحج.
وأما حديث البيهقي وابن حبان الآمر بالحج في كل خمسة أعوام فمحمول على الندب، ونصه عن الخدري: «أن رسول الله ﷺ قال: يقول الله ﷿: إن عبدًا صحّحت له جسمه، ووسَّعت عليه في المعيشة، تمضي عليه خمسة أعوام، لا يَفِد إلي لمحروم» أي من جمع له الصحة والقوة واليسار مندوب له الحج كل خمس سنين، وإلا كان محرومًا من الأجر ومطرودًا من رضوان الله تعالى.
وأجمع العلماء على أن الحج لا يجب إلا مرة (٣)، والزائد عن ذلك تطوع، قال ﷺ: «تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خَبَث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة» (٤).
وقد يجب الحج أكثر من مرة لعارض: كنذر بأن يقول: لله علي حجة؛ لأن النذر من أسباب الوجوب في العبادات والقرب المقصودة، وكذلك يجب في حالة القضاء عند إفساد التطوع.
(١) رواه أحمد ومسلم والنسائي (نيل الأوطار: ٢٧٩/ ٤، شرح مسلم: ١٠١/ ٩).
(٢) رواه أحمد والنسائي (نيل الأوطار، المكان السابق).
(٣) شرح مسلم:١٠١/ ٩، المجموع:٨/ ٧، نيل الأوطار: ٢٨٠/ ٤، الدر المختار: ١٩٠/ ٢، فتح القدير: ١٢٢/ ٢.
(٤) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن مسعود.
 
وقد يحرم الحج كالحج بمال حرام، وقد يكره كالحج بلا إذن ممن يجب استئذانه (١)، كأحد أبويه المحتاج إلى خدمته، والأجداد والجدات كالأبوين عند فقدهما، وكالدائن الغريم لمدين لا مال له يقضي به، وكالكفيل لصالح الدائن، فيكره خروجه بلا إذنهم أي الأب والدائن. والكراهة عند الحنفية تحريمية.
وذكر المالكية والشافعية والحنفية أنه مع عصيان الحاج بمال حرام، فإنه يصح الحج فرضًا أو نفلًا بالمال الحرام كالصلاة في الأرض المغصوبة، ويسقط عنه الفرض والنفل، إذ لا منافاة بين الصحة والعصيان. وخالف الحنابلة فلم يجيزوا الحج بالمال الحرام، إذ لا تصح عندهم الصلاة في الأرض المغصوبة.

نوع الفرضية: 

النُسُك إما فرض عين، وهو على من لم يحج بالشروط الآتية، وإما فرض كفاية: وهو إحياء الكعبة كل سنة بالحج والعمرة، وإما تطوع محض، ولا يتصور إلا في الأرقاء والصبيان، وإما مندوب كل خمس سنوات.
تكرار العمرة: لا بأس عند الشافعية والحنابلة والحنفية أن يعتمر في السنة مرارًا (٢)؛ لأن عائشة اعتمرت في شهر مرتين بأمر النبي ﷺ عمرة مع قرانها، وعمرة بعد حجها، ولأن النبي ﷺ قال فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما».
وكره المالكية تكرار العمرة في السنة، وقال النخعي: ما كانوا يعتمرون في السنة إلا مرة، ولأن النبي ﷺ لم يفعله.
(١) البدائع: ٢٢٣/ ٢، مغني المحتاج: ٤٦٠/ ١،٤٧٠، الشرح الكبير: ١٠/ ٢.
(٢) المغني:٢٢٦/ ٣، شرح مسلم: ١١٨/ ٩.
 
هل وجوب الحج على الفور أو على التراخي؟

  للعلماء في ذلك اتجاهان:
قال أبو حنيفة وأبو يوسف والمالكية في أرجح القولين والحنابلة (١): يجب الحج بعد توافر الاستطاعة وبقية الشروط الآتية على الفور في العام الأول، أي في أول أوقات الإمكان، فيفسق وترد شهادته بتأخيره سنينًا؛ لأن تأخيره معصية صغيرة، وبارتكابه مرة لا يفسق إلا بالإصرار، لأن الفورية ظنية، بسبب كون دليلها ظنيًا كما قال الحنفية، ويدل عليه أنه لو تراخى كان أداء، وإن أثم بموته قبله، وقالوا: لو لم يحج حتى أتلف ماله، وسعه أن يستقرض ويحج، ولو غير قادر على وفائه، ويرجى ألا يؤاخذه الله بذلك إذا كان ناويًا الوفاء لو قدر. وذكر الحنابلة أن من فرط فيه حتى توفي أخرج عنه من جميع ماله حجة وعمرة. واستدلوا بقوله تعالى: ﴿ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلًا﴾ [آل عمران:٩٧/ ٣] وقوله: ﴿وأتموا الحج والعمرة لله﴾ [البقرة:١٩٦/ ٢] والأمر على الفور عندهم.
واستدلوا أيضًا بأحاديث منها: «حجوا قبل أن لا تحجوا» (٢) وحديث «تعجَّلوا إلى الحج يعني الفريضة، فإن أحدكم لا يدري ما يعرِض له» (٣) وحديث «من لم يحبسه مرض أو حاجة ظاهرة أو مشقة ظاهرة أو سلطان جائر، فلم يحج، فليمت
(١) الدر المختار: ١٩١/ ٢ ومابعدها، البدائع: ١١٩/ ٢، الشرح الصغير: ٤/ ٢، كشاف القناع: ٤٦٥/ ٢، المغني: ٢٠٨/ ٣، ٢٤١.
(٢) حديث صحيح رواه الحاكم والبيهقي عن علي.
(٣) رواه أحمد وأبو القاسم الأصبهاني عن ابن عباس، وفي سنده أبو إسرائيل ضعيف الحفظ (نيل الأوطار:٢٨٤/ ٤).
 
إن شاء يهوديًا، وإن شاء نصرانيًا» (١) ورواية الترمذي: «من ملك زادًا وراحلة تبلغه إلى بيت الله، ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانيًا، وذلك لأن الله تعالى قال في كتابه: ﴿ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا﴾ (٢) [آل عمران:٩٧/ ٣] وهي مع غيرها تدل على وجوب الحج على الفور، فإنه ألحق الوعيد بمن أخر الحج عن أول أوقات الإمكان؛ لأنه قال: «من ملك .. فلم يحج» والفاء للتعقيب بلا فصل، أي لم يحج عقب ملك الزاد والراحلة، بلا فاصل.
وقال الشافعية (٣) ومحمد من الحنفية: وجوب الحج على التراخي، وليس معناه تعين التأخير، بل بمعنى عدم لزوم الفور، ويسن لمن وجب عليه الحج أوالعمرة بنفسه أو بغيره ألا يؤخر ذلك عن سنة الإمكان، مبادرة إلى براءة ذمته، ومسارعة إلى الطاعات، لقوله تعالى: ﴿فاستبقوا الخيرات﴾ [البقرة:١٤٨/ ٢] ولأنه إذا أخره عرّضه للفوات ولحوادث الزمان. ويجوز أن يؤخره من سنة إلى سنة؛ لأن فريضة الحج نزلت على المشهور عندهم سنة ست، فأخر النبي ﷺ إلى سنة عشر من غير عذر، فلو لم يجز التأخير لما أخره.
وهذا الرأي أولى ليسره على الناس وعدم الحكم بالتأثيم، ولأن الأحاديث التي احتج بها الجمهور كلها ضعيفة، والحج فرض سنة ست عند نزول سورة آل عمران، كما حقق الشافعية، ومن قال: إنه فرض سنة عشر فقد أخطأ؛ لأن السورة نزلت قبلها قطعًا، لكن تعجيل الحج ضروري للاحتياط.
(١) رواه سعيد بن منصور وأحمد وأبو يعلى والبيهقي عن أبي أمامة مرفوعًا، وفيه ليث بن أبي سليم ضعيف (المرجع السابق).
(٢) قال الترمذي: غريب، في إسناده مقال، وفيه ضعف.
(٣) شرح المجموع: ٨٢/ ٧ ومابعدها، المهذب: ١٩٩/ ١، الإيضاح: ص ١٧، مغني المحتاج: ٤٦٠/ ١، ٤٧٠.
 
حكم العمرة: 

 قال الحنفية على المذهب والمالكية على أرجح القولين (١): العمرة سنة (مؤكدة) مرة واحدة في العمر؛ لأن الأحاديث المشهورة الثابتة الواردة في تعداد فرائض الإسلام لم يذكر منها العمرة، مثل حديث ابن عمر: «بني الإسلام على خمس» فإنه ذكر الحج مفردًا، وروى جابر أن أعرابيًا جاء إلى رسول الله ﷺ، فقال: «يا رسول الله، أخبرني عن العمرة، أواجبة هي؟ فقال: لا، وأن تعتمر خير لك» (٢) وفي رواية «أولى لك».
وروى أبو هريرة: «الحج جهاد والعمرة تطوع» (٣).
وقال الشافعية في الأظهر، والحنابلة (٤): العمرة فرض كالحج، لقوله تعالى: ﴿وأتموا الحج والعمرة لله﴾ [البقرة:١٩٦/ ٢] أي ائتوا بهما تامين ومقتضى الأمر الوجوب، ولخبر عائشة ﵂ قالت: «قلت: يا رسول الله، هل على النساء جهاد؟ قال: نعم، جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة» (٥).
ويظهر لي أن الرأي الثاني أصح، لدلالة هذه الآية، ولضعف أحاديث الفريق الأول.
(١) الدر المختار: ٢٠٦/ ٢، فتح القدير: ٣٠٦/ ٢، البدائع: ٢٢٦/ ٢، مراقي الفلاح: ص١٢٦، الشرح الصغير: ٤/ ٢، القوانين الفقهية: ص١٤٢، بداية المجتهد: ١٣١٢/ ١. ويلاحظ أن الكاساني في البدائع اختار القول بوجوب العمرة كصدقة الفطر والأضحية والوتر.
(٢) رواه الترمذي وصححه أحمد والبيهقي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد (نيل الأوطار: ٢٨١/ ٤) لكن في إسناده الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف، وتصحيح الترمذي له فيه نظر؛ لأن الأكثر على تضعيف الحجاج، قال النووي: اتفق الحفاظ على ضعفه.
(٣) رواه الدارقطني والبيهقي وابن حزم، وإسناده ضعيف، كما قال الحافظ ابن حجر، وقال أيضًا: ولا يصح من ذلك شيء (نيل الأوطار، المكان السابق).
(٤) مغني المحتاج: ٤٦٠/ ١، الإيضاح في مناسك الحج للنووي، ص ٧١، المغني:٢٢٣/ ٣ ومابعدها.
(٥) رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما بأسانيد صحيحة.
 
وذكر الحنابلة عن أحمد: أنه ليس على أهل مكة عمرة، بدليل أن ابن عباس كان يرى العمرة واجبة، ويقول: يا أهل مكة، ليس عليكم عمرة، إنما عمرتكم طوافكم بالبيت. وروي أيضًا عن عطاء، لأن ركن العمرة ومعظمها بالطواف بالبيت، وهم يفعلونه، فأجزأ عنهم.

المبحث الثاني - شروط الحج والعمرة وموانعهما:
وفيه مطلبان:

المطلب الأول - شروط الحج والعمرة:
الشروط: إما عامة للرجال والنساء، أو خاصة بالنساء، وهي إن توفرت وجب الحج وأداؤه، وإلا فلا.

أما الشروط العامة: 

فمنها ما هو شرط وجوب وصحة أو أداء: وهو الإسلام والعقل، ومنها ما هو شرط للوجوب والإجزاء وليس بشرط للصحة: وهو البلوغ والحرية، ومنها ما هو شرط للوجوب فقط: وهو الاستطاعة.
وهذه الشروط هي ما يأتي (١):

- الإسلام:
 

فلا يجب الحج على الكافر وجوب مطالبة به في الدنيا حال كفره، ولا يصح منه، لعدم أهليته لأداء العبادة، فلو حج الكافر، ثم أسلم يجب
(١) البدائع: ١٢٠/ ٢ - ١٢٣،١٦٠، فتح القدير:١٢٠/ ٢ ومابعدها، الد ر المختار:١٩٣/ ٢ - ١٩٩، اللباب:١٧٧/ ١، القوانين الفقهية: ص١٢٧، الشرح الصغير:٦/ ٢ - ١٣، بداية المجتهد:٣٠٨/ ١ وما بعدها، المجموع:١٧/ ٧ - ٢٥، مغني المحتاج:٤٦١/ ١ - ٤٦٥، المهذب:١٩٥/ ١،١٩٨ كشاف القناع:٤٤٠/ ٢ - ٤٥٠، المغني: ٢٠٨/ ٣ - ٢٢٢،٢٤١، ٢٤٨ - ٢٥٠، متن الإيضاح للنووي: ص٩٩، المجموع: ١٧/ ١ - ٤٧، غاية المنتهى:٣٥٠/ ١ - ٣٦١.
 
عليه حجة الإسلام، ولا يعتد بما حج في حال الكفر. وكذا لا يجب عند الحنفية على الكافر في حق أحكام الآخرة، فلا يؤاخذ بالترك، لعدم خطاب الكافر بفروع الشريعة، ويؤاخذ عند الجمهور، لأنه مخاطب بالفروع.
ويرى المالكية أن الإسلام شرط صحة لا وجوب، فيجب الحج على الكافر ولا يصح منه إلا بالإسلام. والشافعية أوجبوا الحج على المرتد ولا يصح منه إلا إذا أسلم، أما الكافر الأصلي فلا يجب عليه.

- التكليف أي البلوغ والعقل:  

فلا يجب على الصغير والمجنون؛ لأنهما غير مطالبين بالأحكام الشرعية، فلا يلزمهما الحج، ولا يصح الحج أو العمرة أيضًا من المجنون؛ لأنه ليس أهلًا للعبادة، ولو حجّا ثم بلغ الصغير، وأفاق المجنون، فعليهما حجة الإسلام، وما فعله الصبي قبل البلوغ يكون تطوعًا. قال النبي ﷺ: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشب، وعن المعتوه حتى يعقل» (١)، وقال أيضًا: «أيُّما صبي حج به أهله، فمات أجزأت عنه، فإن أدرك فعليه الحج، وأيما رجل مملوك حج به أهله، فمات، أجزأت عنه، فإن أُعتق فعليه الحج» (٢).
ولا يبطل الإحرام بالجنون والإغماء والموت والسكر والنوم كالصوم.
ولو حج الصبي، صح حجه، ولم يجزئه عن حجة الإسلام.
ولو حج المجنون والصبي الذي لا يعقل (غير المميز) لم يصح أداؤه منهما، لأن أداءه يتوقف على العقل.
(١) رواه أبو داود وابن ماجه، والترمذي وقال: حديث حسن، وهو من رواية علي.
(٢) ذكره أحمد مرسلًا، ورواه الحاكم عن ابن عباس، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه (نصب الراية: ٦/ ٣، نيل الأوطار: ٢٩٣/ ٤) ورواه أيضًا الشافعي وسعيد بن منصور.
 
إحجاج الصغير والمجنون:
أـ قال الشافعية والمالكية والحنابلة (١): للولي من أب أو جد مثلًا حلالًا كان أو محرمًا، حج عن نفسه أم لا، أن يحرم عن الصغير المميز أو عن غير المميز، أو عن المجنون، فينوي الولي بقلبه جعل كل منهما محرمًا، أو يقول: أحرمت عنه، ولا يشترط حضورهما ولا مواجهتهما بالإحرام، ولا يصير الولي بذلك محرمًا. ولا يجوز الإحرام عن المغمى عليه والمريض.
والدليل على جواز الإحرام عن الصغير والمجنون: «أن النبي ﷺ لقي رَكْبًا بالرَّوْحاء، فقال: من القوم؟ قالوا: المسلمون، فقالوا: من أنت؟ فقال: رسول الله، فرَفَعت إليه امرأة صبيًا، فسألت: ألهذا حج؟ قال: نعم، ولكِ أجر» (٢).

إذن الولي: 

 لا يجوز للصبي المميز أن يحرم إلا بإذن وليه وهو الأب، أو الجد عند عدم الأب، والوصي والقيم كالأب على الصحيح عند الشافعية، ولا يتولاه الأخ والعم والأم على الأصح عندهم إذا لم يكن له إيصاء ولا ولاية من الحاكم.
وللولي أن يأذن لمن يحرم عن الصبي.
وحيث صار الصبي غير المميز أو المجنون محرمًا فعل الولي ما لا يتأتى منه، ولا يكفي فيه فعل الولي فقط، بل لابد من استصحابه معه، فيطوف به ويسعى،
(١) مغني المحتاج:٤٦١/ ١ ومابعدها، الإيضاح: ص ٩٩، المجموع:٣٤/ ٧ ومابعدها، الشرح الصغير:١٠/ ٢، المغني: ٢٥٢/ ٣ - ٢٥٤.
(٢) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس (نيل الأوطار: ٢٩٣/ ٤) وفي معناه حديث ضعيف عن جابر، قال: «حججنا مع رسول الله ﷺ ومعنا النساء والصبيان، فلبينا عن الصبيان، ورمينا عنهم»، رواه الترمذي وابن ماجه، وعن ابن عمر قال: «كنانحج بصبياننا، فمن استطاع منهم رمى، ومن لم يستطع رمي عنه».
 
ولكن يركع عنه ركعتي الإحرام والطواف، وإن أركبه الولي في الطواف والسعي، فليكن سائقًا أو قائدًا للدابة، فإن لم يفعل لم يصح طوافه.
ويجب على الصغير طهارة الخبث وستر العورة في الطواف، ولا يشترط طهارة الحدث (الوضوء).
ويحضر الولي الصغير والمجنون المواقف، وجوبًا في الواجبة، وندبًا في المندوبة، فإن قدر الصغير ونحوه على الرمي رمى وجوبًا، وإن عجز عن تناول الأحجار، ناولها له وليه. وإن عجز عن الرمي، استحب للولي أن يضع الحجر في يده، ثم يرمي به بعد رميه عن نفسه، فإن لم يكن رمى عن نفسه، وقع الرمي عن نفسه، وإن نوى به الصبي.
والخلاصة: إن كل ما أمكن الصبي فعله بنفسه، لزمه فعله، ولا ينوب غيره عنه، كالوقوف والمبيت بمزدلفة ونحوهما، وما عجز عنه، عمله الولي عنه.
ولو فرَّط المميز في شيء من أعمال الحج، كان وجوب الدم في مال الولي، ويجب عليه منعه من محظورات الإحرام. أما غير المميز فلا فدية في ارتكابه محظورًا على أحد.
والنفقة الزائدة بسبب السفر في مال الولي في الأصح؛ لأنه المورط له في ذلك.
وإذا جامع الصبي في حجه، فسد وقضى ولو في حال الصبا، كالبالغ المتطوع بجامع صحة إحرام كل منهما، فيعتبر فيه لفساد حجه ما يعتبر في البالغ، من كونه عامدًا عالمًا بالتحريم، مختارًا مجامعًا قبل التحللين.
ويكتب للصبي ثواب ما عمل من الطاعات، ولا يكتب عليه معصية بالإجماع.
 
ب - وقال أبو حنيفة في المشهور عنه: لا يصح حج الصبي، للحديث السابق: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ ..» الخ وقياسًا على النذر، فإنه لا يصح منه، ولأنه لا يجب عليه، ولا يصح منه، ولأنه لو صح منه لوجب عليه قضاؤه إذا أفسده، ولأنه عبادة بدنية، فلا يصح عقدها من الولي للصبي كالصلاة.

- الحرية: 

فلا يجب الحج على العبد؛ لأنه عبادة تطول مدتها، وتتعلق بقطع مسافة، وتشترط لها الاستطاعة بالزاد والراحلة، ويضيع حقوق سيده المتعلقة به، فلم يجب عليه كالجهاد.


حكم الحج حال الصبا والرق: 

وبناء على هذا الشرط وما قبله (١): من حج وهو غير بالغ، فبلغ، أو كان عبدًا فعتق، بعد انتهاء وقت عرفة، فعليه الحج كما تقدم، للحديث السابق: «أيما صبي حج به أهله ... فإن أدرك فعليه الحج، وأيما مملوك حج به أهله ... فإن أعتق فعليه الحج».
وإن بلغ الصبي، أو عتق العبد قبل الوقوف بعرفة، فأحرما ووقفا بعرفة، وأتما المناسك، أجزأهما عن حجة الإسلام، بلا خلاف؛ لأنه لم يفتهما شيء من أركان الحج، ولا فعلا شيئًا منها قبل وجوبه.
وإن حدث البلوغ قبل الوقوف بعرفات أو في حال الوقوف، وهما محرمان، أجزأهما الحج عند الشافعية والحنابلة أيضًا عن حجة الإسلام؛ لأن الواحد منهما أدرك الوقوف حرًا بالغًا، فأجزأه، كما لو أحرم تلك الساعة.
ولم يجزئهما عند المالكية والحنفية؛ لأنه يشترط لأداء الحج أن يكون المحرم
(١) البدائع:١٢١/ ٢، الشرح الصغير:١٠/ ٢، المجموع:٤٣/ ٧ - ٤٧، المغني:٢٤٨/ ٣ - ٢٥٠، كشاف القناع:٤٤٢/ ٢، اللباب: ١٧٧/ ١ ومابعدها.
 
وقت الإحرام حرًا مكلفًا (أي بالغًا عاقلًا)، وإحرامهما انعقد لأداء النفل، فلا ينقلب لأداء الفرض.
لكن قال الحنفية: لو جدد الصبي الإحرام قبل الوقوف بأن لبى أو نوى حجة الإسلام وأتم أعمال الحج من وقوف وطواف زيارة وسعي وغيرها، جاز، أما العبد لو فعل ذلك فلم يجز؛ لأن إحرام الصبي وقع صحيحًا غير لازم، لعدم الأهلية، فكان محتملًا للانتقاض، فإذا جدد الإحرام بحجة الإسلام، انتقض. وأما إحرام العبد فإنه وقع لازمًا، لكونه أهلًا للخطاب، فانعقد إحرامه تطوعًا، فلا يصح إحرامه الثاني إلا بفسخ الأول، وإنه لايحتمل الانفساخ. وبه يختلف إحرامهما عن الكافر والمجنون، فإنه لا ينعقد إحرامهما أصلًا لعدم الأهلية.

الإذن للصبي وللعبد وللزوجة: 

ليس للصبي المميز الإحرام بالحج إلا بإذن وليه ولا يصح إحرامه بغير إذنه؛ لأنه يؤدي إلى لزوم ما لم يلزم، فلم ينعقد عند غير الحنفية بنفسه كالبيع.
وليس للعبد أن يحرم بغير إذن سيده بلا خلاف، لأنه يفوت به حقوق سيده الواجبة عليه بالتزام ما ليس بواجب، فإن فعل انعقد إحرامه صحيحًا؛ لأنها عبادة بدنية، فصح من العبد الدخول فيها بغير إذن سيده، كالصلاة والصوم، ولسيده تحليله في الأصح عند الشافعية والحنابلة (١)؛ لأن في بقائه عليه تفويتًا لحقه من منافعه بغير إذنه، فلم يلزم ذلك سيده كالصوم المضر ببدنه، ويكون حينئذ كالمحصر.
وليس للزوجة الإحرام نفلًا (تطوعًا) إلا بإذن زوج، لتفويت حقه، وللزوج
(١) المجموع: ٣٦/ ٧ - ٤١، كشاف القناع:٤٤٢/ ٢ - ٤٤٩، المغني: ٢٥٠/ ٣.
 
إن أحرمت زوجته بغير إذنه تحليلها منه؛ لأن حقه لازم، فملك إخراجها من الإحرام كالاعتكاف، وتكون كالمحصر؛ لأنها في معناه.
وليس للوالدين منع ولدهما من حج الفرض والنذر، ولا تحليله منه، ولا يجوز للولد طاعتهما فيه، أي في ترك الحج الواجب أو التحليل، وكذا في كل ما وجب، كصلاة الجماعة، والجُمَع، والسفر للعلم الواجب؛ لأنها فرض، فلم يعتبر إذن الأبوين فيها، كالصلاة.

٤ - الاستطاعة البدنية والمالية والأمنية الموجبة للحج: 

وهي القدرة على الوصول إلى مكة، لقوله تعالى: ﴿ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلًا﴾ [آل عمران:٩٧/ ٣]، لكن للفقهاء بعض الاختلافات في حدود ووجوه الاستطاعة.


قال الحنفية (١): 

 الاستطاعة أنواع ثلاثة: بدنية ومالية وأمنية، أما الاستطاعة البدنية: فهي صحة البدن، فلا حج على المريض والزَّمِن والمُقْعَد والمفلوج والأعمى وإن وجد قائدًا، والشيخ الكبير الذي لا يثبت على الراحلة بنفسه، والمحبوس، والممنوع من قبل السلطان الجائر عن الخروج إلى الحج؛ لأن الله تعالى شرط الاستطاعة لوجوب الحج، والمراد منها استطاعة التكليف: وهي سلامة الأسباب ووسائل الوصول. ومن جملة الأسباب: سلامة البدن عن الآفات المانعة من القيام بما لا بد منه في سفر الحج، فسر ابن عباس ﴿من استطاع إليه سبيلًا﴾ [آل عمران:٩٧/ ٣] أن السبيل أن يصح بدن العبد، ويكون له ثمن زاد وراحلة، من غير أن يحجب.
(١) البدائع:١٢١/ ٢ - ١٢٥، اللباب: ١٧٧/ ١، الدر المختار: ١٩٤/ ٢ - ١٩٩.
 
وأما الاستطاعة المالية: فهي ملك الزاد والراحلة، بأن يقدر على الزاد ذهابًا وإيابًا، وعلى الراحلة - وسيلة الركوب، زائدًا ذلك عن حاجة مسكنه وما لا بد منه كالثياب وأثاث المنزل والخادم ونحو ذلك؛ لأنها مشغولة بالحاجة الأصلية، وزائدًا أيضًا عن نفقة عياله الذين تلزمه نفقاتهم إلى حين عودته.
ويشترط في القدرة على الراحلة شروط:
أـ أن تكون مختصة به، فلا يكفي القدرة على راحلة مشتركة يركبها مع غيره على التعاقب. والقدرة اليوم بالاشتراك في السيارات أو البواخر أو الطائرات.
ب - أن تكون بحسب أحوال الناس: فمن لا يستطيع الركوب على القتَب (وهو الرَّحْل أو الإكاف الصغير حول سنام البعير) ولم يجد شيئًا آخر كالهودج أو المحمل، لايجب عليه الحج.
جـ - أن تطلب بالنسبة للآفاقي: وهو من كان بعيدًا عن مكة بثلاثة أيام فأكثر. أما المكي أو القريب من مكة (وهو من كان بينه وبين مكة أقل من ثلاثة أيام)، فيجب عليه الحج متى قدر على المشي.
وأما الاستطاعة الأمنية: فهي أن يكون الطريق آمنًا بغلبة السلامة ولو بالرشوة؛ لأن استطاعة الحج لا تثبت بدونه، وهو شرط وجوب، في المروي عن أبي حنيفة. وقال بعضهم: إنه شرط أداء.
وأمن المرأة: أن يكون معها أيضًا مَحْرم بالغ عاقل أو مراهق مأمون غير فاسق، برحم أو صِهْريّة، أو زوج، يحج بها على نفقتها، ويكره تحريمًا أن تحج المرأة بغير المحرم أو الزوج، إذا كان بينها وبين مكة مدة سفر: وهي مسيرة ثلاثة أيام ولياليها فصاعدًا، فلو حجت بلا محرم جاز مع الكراهة، والأصح أنه لا يجب
 
عليها التزوج عند فقد المحرم، ووجود المحرم شرط وجوب، وقيل: شرط أداء. لكن لاتسافر المرأة مع أخيها رضاعًا في زماننا لغلبة الفساد، لكراهة الخلوة بها كالصهرة (الحماية) الشابة.
والذي اختاره الكمال بن الهمام في الفتح أن وجود المحرم مع توافر الصحة وأمن الطريق شروط وجوب الأداء، فيجب الإيصاء إن منع المرض أو خوف الطريق، أو لم يوجد زوج ولا محرم.
ثم إن شرط وجوب الحج من الزاد والراحلة وغير ذلك يعتبر وجودها وقت خروج أهل بلده، فإن جاء وقت الخروج والمال في يده، فليس له أن يصرفه في غيره.

وقال المالكية (١): 

 الاستطاعة: هي إمكان الوصول إلى مكة بحسب العادة، إما ماشيًا أو راكبًا، أي الاستطاعة ذهابًا فقط، ولا تعتبر الاستطاعة في الإياب إلا إذا لم يمكنه الإقامة بمكة أو في أقرب بلد يمكنه أن يعيش فيه، ولا يلزم رجوعه لخصوص بلده.
وتكون الاستطاعة بثلاثة أشياء، وهي:
أـ قوة البدن: أي إمكان الوصول لمكة إمكانًا عاديًا بمشي أو ركوب، ببرّ أو بحر، بلا مشقة فادحة، أي عظيمة خارجة عن العادة، أما المشقة المعتادة فلا بد منها، إذ السفر قطعة من العذاب. والاستطاعة بالقدرة على المشي مما تفرد به المالكية. حتى إن الأعمى القادر على المشي يجب عليه الحج إذا وجد قائدًا يقوده. ويكره للمرأة الحج بمشي بعيد.
(١) الشرح الكبير: ٥/ ٢ - ١٠، الشرح الصغير:١٠/ ٢ - ١٣، بداية المجتهد:٣٠٩/ ١، القوانين الفقهية: ص١٢٧.
 
ب - ووجود الزاد المبلِّغ بحسب أحوال الناس وبحسب عوائدهم، ويقوم مقام الزاد الصنعة إذا كانت لا تزري بصاحبها وتكفي حاجته.
ويدل ذلك على أن المالكية لم يشترطوا وجود الزاد والراحلة بالذات، فالمشي يغني عن الراحلة لمن قدر عليه، والصنعة التي تدر ربحًا كافيًا تغني عن اصطحاب الزاد أو النفقة عليه.
وتتحقق الاستطاعة بالقدرة على الوصول إلى مكة، ولو بثمن شيء يباع على المفلس من ماشية وعقار وكتب علم وآلة صانع ونحوها، أو حتى ولو صار فقيرًا بعد حجه، أو ولو ترك أولاده ومن تلزمه نفقته للصدقة عليهم من الناس إن لم يخش عليهم هلاكًا أو أذىً شديدًا، بأن كان الشأن عدم الصدقة عليهم أو عدم من يحفظهم.
ولا يجب الحج بالاستدانة ولو من ولده إذا لم يرج وفاء، وبالعطية من هبة أو صدقة بغير سؤال، ولا بالسؤال مطلقًا أي سواء أكانت عادته السؤال أم لا، لكن الراجح أن من عادته السؤال بالحضر، وعلم أو ظن الإعطاء في السفر ما يكفيه، يجب عليه الحج، أي أن معتاد السؤال في بلده يجب عليه الحج بشرط ظن الإعطاء، وإلا فلا يجب عليه.
جـ - توافر السبيل: وهي الطريق المسلوكة بالبر أو بالبحر متى كانت السلامة فيه غالبة، فإن لم تغلب فلا يجب الحج إذا تعين البحر طريقًا. ويكره للمرأة الحج في ركوب بحر إلا أن تختص بمكان في السفينة.
وهذا يتطلب كون الطريق آمنًا على النفس والمال من غاصب وسارق وقاطع طريق: إذا كان المال ذا شأن بالنسبة للمأخوذ منه، فقد يكون الدينار ذا بال بالنسبة لشخص، ولا شأن له بالنسبة لآخر.
 
ويزاد في حق المرأة: أن يكون معها زوج أو محرم بنسب أو رضاع أو صهرية (١) من محارمها، أو رفقة مأمونة عند عدم الزوج أو المحرم في حج الفرض ومنه النذر والحنث، سواء أكانت الرفقة نساء فقط، أم مجموعًا من الرجال والنساء. وإذا كانت المرأة معتدة من طلاق أو وفاة وجب عليها البقاء في بيت العدة، فلو فعلت صح حجها مع الإثم.

وقال الشافعية (٢):

  للاستطاعة المباشرة بالنفس بحج أو عمرة لمن كان بعيدًا عن مكة مسافة القصر (٨٩ كم) شروط سبعة تشمل أنواع الاستطاعة الثلاثة السابقة:
الأول - القدرة البدنية: بأن يكون صحيح الجسد، قادرًا أن يثبت على الراحلة بلا ضرر شديد أو مشقة شديدة، وإلا فهو ليس بمستطع بنفسه. وعلى الأعمى الحج والعمرة إن وجد قائدًا يقوده ويهديه عند نزوله، ويركبه عند ركوبه. والمحجور عليه بسفه يجب عليه الحج كغيره، لكن لا يدفع المال إليه لئلا يبذره، بل يخرج معه الولي بنفسه إن شاء لينفق عليه في الطريق بالمعروف، أو يرسل معه شخصًا ثقة ينوب عن الولي، ولو بأجرة مثله، إن لم يجد متبرعًا كافيًا، لينفق عليه بالمعروف.
الثاني - القدرة المالية: بوجود الزاد وأوعيته، ومؤنة (كلفة) ذهابه لمكة وإيابه (أي رجوعه منها إلى بلده، وإن لم يكن له فيها أهل وعشيرة).
فإن كان يكتسب كل يوم ما يفي بزاده، وسفره طويل (مرحلتان فأكثر أي ٩٨ كم)، لم يكلف الحج، حتى ولو كسب في يوم كفاية أيام؛ لأنه قد ينقطع عن
(١) لقوله ﷺ: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر يومًا وليلة إلا ومعها مَحْرم».
(٢) مغني المحتاج:٤٦٣/ ١ - ٠٤٧٠، المهذب:١٩٦/ ١ - ١٩٨، الإيضاح للنووي: ص١٦ - ١٧.
 
الكسب لعارض، وإذا قدر عدم الانقطاع، فالجمع بين تعب السفر والكسب، فيه مشقة عظيمة. وذلك خلافًا لمذهب المالكية السابق في الاكتفاء بالصنعة أثناء السفر. أما إن كان السفر قصيرًا، كأن كان بمكة، أو على دون مرحلتين منها، وهو يكتسب في يوم كفايةأيام، كُلِّف الحج، لقلة المشقة حينئذ.
الثالث - وجود الراحلة (وسيلة الركوب) الصالحة لمثله بشراء بثمن المثل، أو استئجار بأجرة المثل، لمن كان بينه وبين مكة مرحلتان فأكثر، قدر على المشي أم لا، خلافًا للمالكية، ولكن يستحب للقادر على المشي الحج خروجًا من خلاف من أوجبه. وهذا الشرط من القدرة المالية أيضًا.
ومن كان بينه ومن مكة دون مرحلتين، وهو قوي على المشي، يلزمه الحج، فإن ضعف عن المشي، بأن عجز أو لحقه ضرر ظاهر، فهو كالبعيد، فيشترط في حقه وجود الراحلة.
ويشترط كون الزاد والراحلة فاضلين عن دينه الحال أو المؤجل، لآدمي أم لله تعالى كنذر وكفارة، وعن مؤنة (١) أي نفقة من تلزمه نفقته مدة ذهابه وإيابه، لئلا يضيعوا، وقد قال ﷺ: «كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت» (٢).
والأصح كون الزاد والراحلة فاضلين أيضًا عن مسكنه اللائق به وعن خادمه المحتاج إليه لمنصب أو عجز، لاحتياجه لهما في الحال.
والأصح أنه يلزم المرء صرف مال تجارته إلى الزاد والراحلة وتوابعهما. ويلزم من له مستغلات (أماكن أو دور للاستثمار) يحصل منها نفقته أن يبيعها ويصرفها لما ذكرفي الأصح، كما يلزمه صرفها لوفاء دينه.
(١) التعبير بالمؤنة: أي الكلفة يشمل النفقة والكسوة والخدمة والسكنى وإعفاف الأب (تزويجه)، وكذا أجرة الطبيب وثمن الأدوية للقريب المحتاج إليها.
(٢) رواه أحمد وأبو داود والحاكم والبيهقي عن عبد الله بن عمرو، وهو صحيح.
 
الرابع - وجود الماء والزاد وعلف الدابة في المواضع المعتاد حمله منها، بثمن المثل: وهو القدر المناسب به في ذلك الزمان والمكان، وإن غلت الأسعار. فإن لم يوجدوا، أو وجد أحدهم، أو وجد بأكثر من ثمن المثل، لم يلزمه النسك (الحج والعمرة). وهذا شرط أيضًا في القدرة المالية.
الخامس - الاستطاعة الأمنية: أمن الطريق ولو ظنًا على نفسه وماله في كل مكان بحسب ما يليق به، والمراد هو الأمن العام، فلو خاف على نفسه أو زوجه أو ماله سبعًا أو عدوًا أو رَصديًّا (وهو من يرصد أي يرقب من يمر ليأخذ منه شيئًا)، ولا طريق له سواه، لم يجب الحج عليه، لحصول الضر.
وإذا تحقق الأمن بالخفارة أو الحراسة في غالب الظن، وجب استئجار الحارس على الأصح، إن كان قادرًا على أجر المثل.
السادس - أن يكون مع المرأة زوج، أو مَحْرم بنسب أو غيره، أو نسوة ثقات؛ لأن سفرها وحدها حرام، وإن كانت في قافلة أو مع جماعة، لخوف استمالتها وخديعتها، ولخبر الصحيحين: «لا تسافر المرأة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم» ولا يشترط كون الزوجة والمحرم ثقة؛ لأن الوازع الطبيعي أقوى من الشرعي.
وأما النسوة فيشترط فيهن الثقة لعدم الأمن، والبلوغ، لخطر السفر، ويكتفى بالمراهقات في رأي المتأخرين، وأن يكنَّ ثلاثًا غير المرأة؛ لأنه أقل الجمع، ولا يجب الخروج مع امرأة واحدة. وهذا كله شرط للوجوب. أما الجواز فيجوز للمرأة أن تخرج لأداء حجة الإسلام (الفرض) مع المرأة الثقة على الصحيح. والأصح أنه لا يشترط وجود محرم لإحداهن، والأصح أنه يلزم المرأة أجرة المحرم إذا لم يخرج إلا بها.
 
أما حج التطوع وغيره من الأسفار التي لا تجب، فليس للمرأة أن تخرج إليه مع امرأة، بل ولا مع النسوة الخلص، لكن لو تطوعت بحج، ومعها محرم، فمات، فلها إتمامه، ولها الهجرة من بلاد الكفر وحدها.
السابع - إمكان المسير: وهو أن يبقى من وقت الحج بعد القدرة بأنواعها ما يكفي لأدائه. وتعتبر الاستطاعة عند دخول وقته وهو شوال إلى عشر ذي الحجة، فلا يجب الحج إذا عجز في ذلك الوقت.

وقال الحنابلة (١): 

 الاستطاعة المشترطة: هي القدرة على الزاد والراحلة؛ لأن النبي ﷺ فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة، فوجب الرجوع إلى تفسيره: «سئل النبي ﷺ ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة» (٢) روى ابن عمر: «جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، مايوجب الحج؟ قال: الزاد والراحلة» (٣).
واتفق الشافعية في الأصح والحنابلة على أنه لا يلزم الحج إذا بذل المال ولد أو أجنبي، ولا يجب قبوله، لما في قبول المال من المنة.
ورأى الحنابلة كالشافعية أن من تكلف الحج ممن لا يلزمه، وأمكنه ذلك من غير ضرر يلحق بغيره، مثل أن يمشي ويكتسب بصناعة ونحوها، ولايسأل الناس، استحب له الحج، لقوله تعالى: ﴿يأتوك رجالًا وعلى كل ضامر﴾ [الحج:٢٧/ ٢٢] فقدم الرجال أي المشاة، ولأن في ذلك مبالغة في طاعة الله ﷿، وخروجًا من الخلاف. ويكره الحج لمن حرفته السؤال.
والزاد المشروطة عند الحنابلة كالشافعية: وهو ما يحتاج إليه في ذهابه
(١) المغني:٢١٨/ ٣ - ٢٢٢، كشاف القناع:٤٥٠/ ٢ - ٤٥٤.
(٢) رواه الدارقطني عن جابر وابن عمر وابن عمرو وأنس وعائشة ﵃.
(٣) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
 
ورجوعه، من مأكول ومشروب وكسوة، ويلزمه شراؤه بثمن المثل، أو بزيادة يسيرة لا تجحف بماله.
ويلزمه حمل الزاد والماء وعلف البهائم إن لم يجده في طريقه، فإن وجده في المنازل المعتادة، لم يلزمه حمله؛ لأن هذا يشق عليه ولم تجر العادة به.
ويشترط أيضًا القدرة على وعاء الزاد والماء؛ لأنه لا بد منه.
ويعتبر الزاد مع قرب المسافة وبعدها إن احتاج إليه؛ لأنه لا بد منه، فإن لم يحتج إليه لم يعتبر.
وأما الراحلة أو المركوب: فيشترط أن تكون صالحة لمثله، إما بشراء أو بكراء لذهابه ورجوعه، وأن يجد ما يحتاج إليه من آلتها التي تصلح لمثله. ويطلب وجود الراحلة مع بعد المسافة فقط عن مكة، ولو قدر على المشي، لأن الاستطاعة هي الزاد والراحلة، وبعد المسافة: ما تقصر فيه الصلاة، أي مسيرة يومين معتدلين، ولا تعتبر الراحلة فيما دون مسافة القصر، من مكي وغيره بينه وبين مكة دون المسافة، ويلزمه المشي للقدرة على المشي فيها غالبًا، ولأن مشقتها يسيرة، ولا يخشى فيها المشي للقدرة على المشي فيها غالبًا، ولا يخشى فيها عطب إذا حدث انقطاع بها، إلا مع عجز لكبر ونحوه كمرض، فتعتبر الراحلة، حتى فيما دون المسافة للحاجة إليها إذن. ولا يلزمه السير حبوًا وإن أمكنه لمزيد مشقته.
ويشترط أن يكون الزاد والراحلة فاضلًا عما يحتاج إليه لنفقة عياله الذين تلزمه مؤونتهم في مضيه ورجوعه، دون ما بعد رجوعه؛ لأن النفقة متعلقة بحقوق الآدميين، وهم أحوج، وحقهم آكد، وقد قال ﷺ: «كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت» (١).
(١) رواه أحمد وأبو داود والحاكم والبيهقي عن عبد الله بن عمرو.
 
وأن يكون ذلك فاضلًا عما يحتاج هو وأهله إليه من مسكن وخادم وما لابد منه، وأن يكون فاضلًا عن قضاء دينه؛ لأن قضاء الدين من حوائجه الأصلية، ويتعلق به حقوق الآدميين، فهو آكد.
وإن احتاج إلى الزواج وخاف على نفسه العنت (الإثم والأمر الشاق) قدم التزويج، لأنه واجب عليه ولا غنى به عنه، فهو كنفقته، وإن لم يخف قدم الحج؛ لأن الزواج تطوع، فلا يقدم على الحج الواجب.
ومن له عقار يحتاج إليه لسكناه، أو سكنى عياله، أو يحتاج إلى أجرته، لنفقة نفسه أو عياله، أو بضاعة متى نقصها اختل ربحها، لم يكفهم، أو سائمة يحتاجون إليها، لم يلزمه الحج، فإن كان له من ذلك شيء فاضل عن حاجته، لزمه بيعه في الحج. وإن كان له كتب يحتاج إليها، لم يلزمه بيعها في الحج، وإن كانت مما لا يحتاج إليها، باع منها ما يكفيه للحج.
وإن كان له دين على مليء باذل له يكفيه للحج، لزمه الحج؛ لأنه قادر، وإن كان على معسر أو تعذر استيفاؤه عليه، لم يلزمه.
ويشترط أيضًا أمن الطريق بحيث لا يوجد مانع من عدو ونحوه. ووجود زوج أو محرم للمرأة، فلا يجب عليها الحج ما لم يكن معها أحدهما. وإمكان المسير وهو أن تكمل فيه هذه الشرائط والوقت متسع يمكنه الخروج إلى الحج (١). وهذا موافق لمذهبي الحنفية والشافعية أيضًا، لكن عند الحنابلة روايتان في هذين الشرطين: رواية أنهما من شرائط الوجوب كالحنفية والشافعية، فلا يجب الحج بدونهما، ورواية أنهما من شرائط لزوم السعي إلى الحج، فمن مات يجب الحج
(١) البدائع: ١٢٣/ ٢ - ١٢٤ .....
 
عنه بعد موته لثبوته في ذمته، أما على الرواية الأولى فلم يجب عليه شيء، وهذا هو المذهب.
وليس للرجل منع امرأته من حجة الإسلام عند أكثر العلماء، وهو قول للشافعي؛ لأنه فرض، فلم يكن له منعها منه، كصوم رمضان والصلوات الخمس. ويستحب أن تستأذنه في ذلك، فإن أذن وإلا خرجت بغير إذنه. فأما حج التطوع فله منعها منه.
وقال الشافعية: للزوج منع الزوجة من الحج الفرض والمسنون؛ لأن حقه على الفور، والنسك على التراخي، وليس له منعها من الصوم والصلاة، والفرق: طول مدة الحج، بخلافهما.

الشروط الخاصة بالنساء: 

 أما الشروط الخاصة بالنساء فهي اثنان تفهم مما سبق بيانه في المذاهب وهما:
أحدهما - أن يكون معها زوجها أو مَحْرم لها، فإن لم يوجد أحدهما لا يجب عليها الحج. وهذا متفق عليه للحديث السابق: «لا تسافر المرأة ثلاثة إلا ومعها ذو محرم» (١) ولحديث: «لا تحجن امرأة إلا ومعها زوج» (٢)، وأوجب الشافعية على المرأة الحج مع نسوة ثقات، لا مع واحدة فقط، وأوجب المالكية عليها الحج مع رفقة مأمونة من النساء فقط أو الرجال فقط، أو المجموع من الجنسين. ودليل الشافعية والمالكية عموم آية: ﴿ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلًا﴾ [آل عمران:٩٧/ ٣] فإذا أمنت المرأة الفساد على نفسها لزمها الحج.
(١) متفق عليه عند البخاري ومسلم وأحمد عن ابن عمر (نيل الأوطار:٢٩٠/ ٤).
(٢) رواه الدارقطني وصححه أبو عوانة (نيل الأوطار: ٤٩١/ ٤).
 
وضابط المحرم عند العلماء: من حرم عليه نكاحها على التأبيد بسبب مباح لحرمتها أي بنسب أو رضاع أو مصاهرة. فخرج بالتأبيد: زوج الأخت وزوج العمة، وخرج بالمباح: أم الموطوءة بشبهة وبنتها، وخرج بحرمتها: الزوجة الملاعنة (١) هذا ويلاحظ أن الخلاف بين الشافعية والمالكية وبين باقي الفقهاء محصور في سفر الفريضة ومنه سفر الحج، فلا يقاس عليه سفر الاختيار بالإجماع، خطب النبي ﷺ فقال: «لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، فقام رجل، فقال: يا رسول الله، إن امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال: انطلق، فحج مع امرأتك» (٢).
والثاني - ألا تكون معتدة عن طلاق أو وفاة؛ لأن الله تعالى نهى المعتدات عن الخروج بقوله ﷿: ﴿لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن﴾ [الطلاق:١/ ٦٥] ولأن الحج يمكن أداؤه في وقت آخر، فأما العدة فإنها تجب في وقت مخصوص وهو ما بعد الطلاق أو الوفاء مباشرة، فكان الجمع بين الأمرين أولى.
ويلاحظ أن هذين الشرطين مع شروط سلامة البدن من الآفات المانعة من السفر كالمرض والعمى، وزوال المانع الحسي كالحبس، وأمن الطريق هي شروط وجوب الأداء عند الحنفية وهي خمسة، أما شروط الوجوب أو الفرضية فهي ثمانية عندهم: وهي الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والوقت والقدرة على الزاد ولو بمكة، والقدرة على الراحلة والقوة بلا مشقة.
ولو تكلف واحد ممن له عذر فحج عن نفسه، أجزأه عن حجة الإسلام إذا
(١) نيل الأوطار: ٢٩١/ ٤.
(٢) متفق عليه عن ابن عباس، واللفظ لمسلم (سبل السلام:١٨٣/ ٢).
 
كان عند الحنفية بالغًا عاقلًا حرًا؛ لأنه من أهل الفرض، إلا أنه لم يجب عليه، دفعًا للحرج عنه، فإذا تحمل الحرج وقع الحج موقعه.
ومنع الحنابلة خروج المرأة إلى الحج في عدة الوفاة، وأجازوا لها الخروج في عدة الطلاق المبتوت؛ لأن لزوم المنزل والمبيت فيه واجب في عدة الوفاة، والطلاق المبتوت لا يجب فيه ذلك. وأما عدة الرجعية إن خرجت للحج فتوفي زوجها، رجعت لتعتد في منزلها إن كانت قريبة، ومضت في سفرها إن كانت بعيدة.

النيابة في الحج والحج عن الغير (١):
بحث هذا الموضوع يقتضي ما يأتي:

أولًا - ما يقبل النيابة من العبادات وما لا يقبلها: العبادات أنواع ثلاثة (٢):
أـ عبادة مالية محضة كالزكاة والكفارة وتوزيع الأضاحي: يجوز النيابة فيها بالاتفاق في حالتي الاختيار والضرورة؛ لأن المقصود انتفاع أهلها بها، وذلك حاصل بأي شخص، أصيل أو نائب.
(١) قال بعض أئمة النحاة: منع قوم إدخال أل على غير وكل وبعض؛ لأن هذه لا تتعرف بالإضافة فلا تتعرف بالألف واللام، وقال ابن عابدين: إنها تدخل عليها؛ لأن الألف واللام هنا ليست للتعريف، ولكنها المعاقبة للإضافة. (رد المحتار:٣٢٣/ ٢).
(٢) فتح القدير:٣٠٨/ ٢ ومابعدها، البدائع:٢١٢/ ٢ ومابعدها، تبيين الحقائق:٨٣/ ٢ - ٨٥، الدر المختار:٣٢٦/ ٢ ومابعدها، الشرح الكبير مع الدسوقي:١٠/ ٢، الشرح الصغير:١٤/ ٢ - ١٥، القوانين الفقهية: ص ١٢٨، الفروق للقرافي:٢٠٥/ ٢، مغني المحتاج: ٤٦٨/ ١، متن الإيضاح: ص ١٧، غاية المنتهى:٣٥٨/ ١، القواعد لابن رجب: ص ٣١٨، المغني:٢٢٧/ ٣ - ٢٣٠.
 
ب - عبادة بدنية محضة كالصلاة والصوم: لا تجوز النيابة فيها؛ لأن المقصود وهو إتعاب النفس لا يحصل بالإنابة.
جـ - عبادة مركبة - بدنية ومالية معًا - كالحج: يجوز فيها عند الجمهور (غير المالكية) النيابة عند العجز أو الضرورة؛ لأن المشقة المقصودة تحصل بفعل النفس، وتحصل أيضًا بفعل الغير إذا كان بماله، فهذه العبادة تختلف عن الصلاة باشتمالها على القربة المالية غالبًا بالإنفاق في الأسفار.
وقال المالكية على الصحيح: لا تجوز النيابة عن الحي في حج الفرض أو النفل، بأجرة أو لا، والإجارة فيه فاسدة، لأنه عمل بدني لا يقبل النيابة، كالصلاة والصوم، إذ المقصود منه تأديب النفس بمفارقة الأوطان وتهذيبها بالخروج عن المعتاد، من لبس المخيط وغيره لتذكر المعاد والآخرة والقبر، وتعظيم شعائر الله في تلك البقاع، وإظهار الانقياد من الإنسان لما لم يعلم حقيقته، كرمي الجمار، والسعي بين الصفا والمروة وغيرهما، وهذه مصالح ومقاصد لا تتحقق إلا لمن باشرها بنفسه.
أما الميت إذا أوصى بالحج فيصح عنه مع الكراهة، ويكره التطوع عنه بالحج.

ثانيًا - إهداء ثواب الأعمال للميت: 

اتفق العلماء على وصول ثواب الدعاء والصدقة والهدي للميت، للحديث السابق: «إذا مات الإنسان، انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، وولد صالح يدعو له» (١).
(١) رواه مسلم عن أبي هريرة (رياض الصالحين: ص ٣٤٧).
 
وقال جمهور أهل السنة والجماعة (١): للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاة أو صومًا أو صدقة أو تلاوة قرآن، بأن يقول: اللهم اجعل ثواب ما أفعل لفلان، لما روي أن النبي ﷺ «ضحى بكبشين أملحين، أحدهما عن نفسه، والآخر عن أمته، ممن أقر بوحدانية الله تعالى، وشهد له بالبلاغ» (٢) فإنه جعل تضحية إحدى الشاتين لأمته. ولما روي أن رجلًا سأل النبي ﷺ فقال: «كان لي أبوان أبرهما حال حياتهما، فكيف لي ببرهما بعد موتهما؛ فقال له ﵊: إن من البر بعد البر: أن تصلي لهما مع صلاتك وأن تصوم لهما مع صيامك» (٣).
وأما قوله تعالى: ﴿وأن ليس للإنسان إلا ما سعى﴾ [النجم:٣٩/ ٥٣] فيراد به: إلا إذا وهبه له، كما حققه الكمال بن الهمام، أو أنه ليس له من طريق العدل، وله من طريق الفضل، ويؤكده مضمون آية أخرى: ﴿والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذ ريتَهم﴾ [الطور:٢١/ ٥٢].
وأما حديث «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث» فلا يدل على انقطاع عمل غيره. وأما حديث: «لا يصوم أحد عن أحد، ولا يصلي أحد عن أحد» فهو في حق الخروج عن العهدة، لا في حق الثواب.
وليس في ذلك شيء مما يستبعد عقلًا، إذ ليس فيه إلا جعل ما له من الأجر
(١) المراجع السابقة.
(٢) روي فيه سبعة أحاديث وهي عن عائشة وأبي هريرة، وجابر وأبي رافع وحذيفة بن أسيد الغفاري وأبي طلحة الأنصاري وأنس، فحديث عائشة وأبي هريرة رواه ابن ماجه (انظر نصب الراية:١٥١/ ٢ - ١٥٤).
(٣) رواه الدارقطني، ويؤكده مارواه أيضًا عن علي: «من مر على المقابر وقرأ: قل هو الله أحد، إحدى عشرة مرة، ثم وهب أجرها للأموات، أعطي من الأجر بعدد الأموات» وروى أبو داود عن معقل بن يسار: «اقرؤوا على موتاكم سورة يس».
 
لغيره، والله تعالى هو الموصل إليه، وهو قادر عليه، ولا يختص ذلك بعمل دون عمل.
وقال المعتزلة: ليس للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره، ولا يصل إليه، ولاينفعه، لقوله تعالى: ﴿وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى﴾ [النجم:٣٩/ ٥٣ - ٤٠] ولأن الثواب هو الجنة، وليس في قدرة العبد أن يجعلها لنفسه فضلًا عن غيره.
وقال مالك والشافعي: يجوز جعل ثواب العمل للغير في الصدقة والعبادة المالية وفي الحج، ولا يجوز في غيره من الطاعات كالصلاة والصوم وقراءة القرآن وغيره.

ثالثًا - مشروعية النيابة في الحج وأقوال الفقهاء فيما يجوز منها: 

يجوز الحج عن الغير الذي مات ولم يحج، أو عن المريض الحي الذي عجز عن الحج لعذر وله مال، وآراء الفقهاء هي ما يأتي (١):


قال الحنفية: 

من لم يجب عليه الحج بنفسه لعذر كالمريض ونحوه، وله مال، يلزمه أن يُحج رجلًا عنه، ويجزئه عن حجة الإسلام، أي أنه تجوز النيابة في الحج عند العجز فقط لا عند القدرة، بشرط دوام العجز إلى الموت. وأما المقصر الذي مات فتصح منه بل تجب الوصية بالإحجاج عنه ويكون من بلده، إن لم يعين مكانًا آخر، فهما حالتان: العجز وبعد الموت بالوصية.
(١) البدائع: ١٢٤/ ٢، ٢١٢، الدر المختار: ٣٢٦/ ٢ - ٣٣٣، الشرح الصغير:١٥/ ٢، بداية المجتهد:٣٠٩/ ١، مغني المحتاج: ٤٦٨/ ١ ومابعدها، المغني: ٢٢٧/ ٣ ومابعدها، كشاف القناع: ٢٤١ - ٢٤٤، ٤٥٥/ ٢ - ٤٥٩.
 
والمعتمد عند المالكية: 

أن النيابة عن الحي لا تجوز، ولا تصح مطلقًا إلا عن ميت أوصى بالحج، فتصح مع الكراهة وتنفذ من ثلث ماله. ولا حج على المعضوب إلا أن يستطيع بنفسه، للآية ﴿من استطاع إليه سبيلًا﴾ [آل عمران:٩٧/ ٣] وهذا غير مستطيع.


وأجاز الشافعية الحج عن الغير في حالتين:
أـ حالة المعضوب: وهو العاجز عن الحج بنفسه لكبر أو زمانة أو غير ذلك، الذي لا يثبت على الراحلة. بل يلزمه الحج إن وجد من يحج عنه بأجرة المثل بشرط كونها فاضلة عن حاجاته المذكورة فيمن حج بنفسه، لكن لا يشترط نفقة العيال ذهابًا وإيابًا؛ لأنه مستطيع بغيره؛ لأن الاستطاعة كما تكون بالنفس تكون ببذل المال وطاعة الرجال، فيجب على من عجز عن الحج بنفسه لهرم أو مرض لا يرجى برؤه الاستنابة إن قدر عليها بماله أو بمن يطيعه بأن كان متبرعًا موثوقًا به.
ب - وحالة من يأتيه الموت ولم يحج، فيجب على ورثته الإحجاج عنه من تركته، كما يقضى منها دينه، ويلزمهم أن يخرجوا من ماله بما يحج به عنه، بالنفقة الكافية ذهابًا وإيابًا.
والخلاصة: إن الاستطاعة للحج نوعان عند الشافعية: استطاعة مباشرة بنفسه، واستطاعة تحصيله بغيره، أما الأولى فيشترط لها الأمور السابقة: الراحلة لمن كان بينه وبين مكة مسافة القصر (مرحلتان) فصاعدًا، والزاد، وأمن الطريق، وصحة البدن، وإمكان المسير: وهو أن يبقى من الزمان بعد وجود الزاد والراحلة ما يمكن فيه السير المعهود إلى الحج.
وأما الثانية: فهي أن يعجز عن الحج بنفسه بموت أو كبر، أو زمانة أو مرض
 
لايرجى زواله أو هرم بحيث لا يستطيع الثبوت على الراحلة إلا بمشقة شديدة. وهذا العاجز الحي يسمى معضوبًا.
وتجب الاستنابة عن الميت إذا كان قد استطاع في حياته، ولم يحج، إذا كان له تركة، وإلا فلا يجب على الوارث. ويجوز للوارث والأجنبي الحج عنه سواء أوصى به أم لا.
وأما المعضوب فلا يصح عنه الحج بغير إذنه، وتلزمه الاستنابة إن وجد مالًا يستأجر به من يحج عنه فاضلًا عن حاجته يوم الاستئجار خاصة، سواء وجد أجرة راكب أو ماش، بشرط أن يرضى بأجر المثل. وإن لم يجد مالًا ووجد من يتبرع عنه بالحج من أولاده الذكور أو الإناث، لزمه استنابته.
وتجوز الاستنابة في حج التطوع للميت والمعضوب على الأصح.
ولو استناب المعضوب من يحج عنه، ثم زال العضب وشفي، لم يجزه على الأصح، بل عليه أن يحج (١).
وعلى هذا: من وجب عليه الحج فلم يحج حتى مات ينظر:
إن مات قبل أن يتمكن من الأداء سقط فرضه، ولم يجب القضاء.
وإن مات بعد التمكن من الأداء، لم يسقط الفرض، ويجب قضاؤه من تركته، ويجب قضاؤه عنه من الميقات؛ لأن الحج يجب من الميقات، ويجب من رأس المال؛ لأنه دين واجب، فكان من رأس المال كدين الآدمي. وإن اجتمع الحج ودين الآدمي، والتركة لا تتسع لهما، الأصح أنه يقدم الحج (٢).
(١) كتاب الإيضاح للنووي: ص١٦ ومابعدها، طبعة الجمالية بمصر، المهذب:١٩٩/ ١.
(٢) المهذب:١٩٩/ ١، المجموع:٨٩/ ٧ ومابعدها.
 
وأجاز الحنابلة كالشافعية الحج عن الغير في حالتين أيضًا:
١ - المعضوب: وهو من عجز عن السعي إلى الحج والعمرة لكبر أو زمانة، أو مرض لا يرجى برؤه، أو ثقل لا يقدر معه الركوب على الراحلة إلا بمشقة غير محتملة، أو أيست المرأة من محرم.
يلزم كل من هؤلاء الحج إن وجد من ينوب عنه حرًا، ومالًا يستنيبه به، فيحج عنه ويعتمر على الفور من بلده، أو من الموضع الذي أيسر منه إن كان غير بلده.
ويجوز أن يكون النائب رجلًا عن امرأة وبالعكس: امرأة عن رجل، بلا خلاف بين العلماء، لكن يكره عند الحنفية إحجاج المرأة لاشتمال حجها عادة على نوع من النقصان، فإنها لا ترمل في الطواف وفي السعي بين الصفا والمروة، ولاتحلق.
وإن لم يجد مالًا يستنيب به، فلا حج عليه بغير خلاف؛ لأن الصحيح (غير المريض) لو لم يجد ما يحج به، لم يجب، فالمريض أولى. وإن وجد مالًا ولم يجد من ينوب عنه، فعلى الروايتين السابقتين في إمكان المسير: هل هو من شرائط الوجوب وهو المذهب، فلا يجب عليه شيء بعد الموت. أم من شرائط لزوم السعي للحج، فيجب الحج عنه بعد موته.
ومن يرجى زوال مرضه وفك حبسه، ليس له أن يستنيب، فإن فعل لم يجزئه؛ لأنه يرجو القدرة على الحج بنفسه، فلم يكن له الاستنابة، ولا تجزئه إن فعل كالفقير.
وإن عوفي المعضوب قبل إحرام النائب لم يجزئه حج النائب عنه اتفاقًا للقدرة على المبدل قبل الشروع في البدل، كالمتيمم يجد الماء.
 
ومتى أحج المعضوب عن نفسه، ثم عوفي، لم يجب عليه حج آخر؛ لأنه أتى بما أمر به، فخرج عن العهدة، كما لو لم يبرأ. وقال الشافعية والحنفية: يلزمه حج آخر؛ لأن هذا بدل إياس، فإذا برأ تبينا أنه لم يكن مأيوسًا منه، فلزمه الأصل، كالآيسة إذا اعتدت بالشهور، ثم حاضت، لا تجزئها تلك العدة.
ولا يجوز الحج والعمرة عن حي إلا بإذنه فرضًا كان أو تطوعًا؛ لأنها عبادة تدخلها النيابة، فلم تجز عن البالغ العاقل إلا بإذنه كالزكاة.
٢ - الميت الذي وجب عليه الحج: من وجب عليه الحج، لاستكمال الشرائط السابقة المطلوبة، ثم توفي قبله، فرّط في الحج بأن أخره لغير عذر، أو لم يفرط كالتأخير لمرض يرجى برؤه أو لحبس أو أسر أو نحوه، أخرج عنه من جميع ما له حجة وعمرة، ولو لم يوص به. ويكون الإحجاج عنه من حيث وجب عليه، لا من حيث مكان موته؛ لأن القضاء يكون بصفة الأداء، بل يجب ألا يكون النائب من خارج بلده التي تبعد فوق مسافة القصر، ويجوز من نائب من بلد آخر دون مسافة القصر؛ لأن ما دونها في حكم الحاضر. وإن مات من وجب عليه الحج في الطريق أو مات نائبه في الطريق، حج عنه من حيث مات هو أو نائبه، فيما بقي مسافة وقولًا وفعلًا.
ويسقط الحج عن الميت بحج أجنبي عنه، ولو بلا إذن وليه؛ لأنه ﷺ شبَّهه بالدين، أي إن الحج عن الميت يجوز عنه بغير إذنه واجبًا كان أو تطوعًا، بخلاف الحي؛ لأنه ﷺ أمر بالحج عن الميت، مع العلم أنه لا إذن له، وما جاز فرضه جاز نفله كالصدقة.
وإن وصى المسلم بحج نفل ولم يعين محل الاستنابة، جاز أن يحج عنه من الميقات أي ميقات بلد الموصي، ما لم تمنع منه قرينة بأن يوصي أن يحج بقدر يكفي
 
للنفقة من بلده، فيتعين منها، فإن ضاق ماله عن الحج من بلده بأن لم يخلف مالًا يفي به، أو كان عليه دين، أخذ للحج بحصته، وحج به من حيث يبلغ، لشبهه بالدين.
والخلاصة: إن المالكية والحنفية يجيزون الحج عن الميت إذا أوصى وتنفذ الوصية من ثلث المال، وأجاز الجمهور غير المالكية عن الحي العاجز لمرض ونحوه. وحج النائب يكون عند الحنفية والحنابلة من بلد المنوب عنه، وعند الشافعية من الميقات.
وتنفذ الوصية عند الشافعية والحنابلة من رأس المال، لا من الثلث فقط.
وحج النائب عن الميت يكون على الفور عند الجمهور، لقوله تعالى: ﴿وأتموا الحج والعمرة لله﴾ [البقرة:١٩٦/ ٢] ﴿ولله على الناس حج البيت﴾ [آل عمران:٩٧/ ٣] والأمر على الفور، وعند الشافعي: على التراخي، وللنائب تأخيره؛ لأن النبي ﷺ أمّر أبا بكر على الحج وتخلف بالمدينة، لا محاربًا ولا مشغولًا بشيء وتخلف أكثر الناس قادرين على الحج، فدل على أن وجوبه على التراخي.

أدلة المشروعية: 

 استدل الفقهاء على مشروعية النيابة في الحج بحديث ابن عباس وغيره: «أن امرأة من خَثْعَم، قالت: يا رسول الله، إن أبي أدركته فريضة الله في الحج شيخًا كبيرًا، لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره؟ قال: فحُجِّي عنه» (١) فدل على جواز الحج عن الوالد غير القادر على الحج، علمًا بأن ذلك كان في حجة الوداع.
(١) رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن ابن عباس، وروى أحمد والترمذي وصححه مثله عن علي، ورواه أحمد، والنسائي بمعناه عن عبد الله بن الزبير بلفظ «جاء رجل من خثعم» يصف حال أبيه الكبير (نيل الأوطار:٢٨٥/ ٤ وما بعدها، سبل السلام: ١٨١/ ٢)
 
وعن ابن عباس أيضًا: «أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي ﷺ، فقالت: إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج، حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: نعم، حُجِّي عنها، أرأيتِ لو كان على أمِّك دين أكنت قاضيتَه؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء» (١).
ورواه الدارقطني بلفظ: «أتى النبي ﷺ رجل، فقال: إن أبي مات، وعليه حجة الإسلام، أفأحج عنه؟ قال: أرأيت لو أن أباك ترك دينًا عليه، أقضيتَه عنه؟ قال: نعم، قال: فاحجُجْ عن أبيك». دل على إجزاء الحج عن الميت من الولد، وشبَّهه بالدين، ودلت روايات أخرى على صحة الحج عن الميت من الوارث وغيره، إذ فيها «إن أختي نذرت أن تحج» ولم يستفصله أوارث هو أم لا؟
ودلت السنة أيضًا على اشتراط كون النائب قد حج عن نفسه، عن ابن عباس: «أن النبي ﷺ سمع رجلًا يقول: لبّيك عن شُبْرمة، قال: من شُبْرمة؟ قال: أخ لي، أوقريب لي، قال: حججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: حجَّ عن نفسك، ثم حج عن شبرمة» (٢).

رابعًا - الاستئجار على الحج: 

 لم يجز متقدمو الحنفية (٣) الاستئجار على الحج والأذان وتعليم القرآن والفقه ونحوه من القربات الدينية لاختصاص فاعلها بها، فلو قال رجل لآخر: «استأجرتك على أن تحج عني بكذا» لم يجز حجه، والمذهب وقوع الحج عن
(١) رواه البخاري، والنسائي بمعناه عن ابن عباس (المرجعان السابقان:٢٨٦/ ٤، و١٨٢/ ٢).
(٢) رواه أبو داود وابن ماجه، وقال: «فاجعل هذه عن نفسك، ثم احجج عن شبرمة» والدارقطني وفيه قال: «هذه عنك وحج عن شبرمة» (نيل الأوطار:٢٩٢/ ٤).
(٣) الدر المختار وحاشية ابن عابدين:٣٢٩/ ٢.
 
المحجوج عنه. وإنما يقول: أمرتك أن تحج عني، بلا ذكر إجارة، وتكون له نفقة مثله بطريق الكفاية؛ لأنه فرغ من نفسه لعمل ينتفع به المستأجر. وإنما جاز الحج عنه؛ لأنه لما بطلت الإجارة، بقي الأمر بالحج. والزائد عن نفقة المثل في الطريق وغيره يرد على الآمر إلا إذا تبرع به الورثة، أو أوصى الميت بأن الفضل للحاج.
ودليلهم على عدم جواز الإجارة على الحج وبقية الطاعات: أن أبي بن كعب كان يعلِّم رجلًا القرآن، فأهدى له قوسًا، فسأل النبي ﷺ عن ذلك، فقال له:
«إن سرك أن تتقلد قوسًا من نار، فتقلدها» (١)، وقال النبي ﷺ لعثمان بن أبي العاص: «واتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا» (٢) ولأنها عبادة يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة، فلم يجز أخذ الأجرة عليها كالصلاة والصوم.
وأجاز جمهور الفقهاء (٣) ومتأخرو الحنفية: الإجارة على الحج وبقية الطاعات، لقول النبي ﷺ: «إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتابُ الله» (٤)، وأخذ أصحاب النبي ﷺ الجُعْل على الرُّقية بكتاب الله، وأخبروا بذلك النبي، فصوبهم فيه (٥)، ولأنه يجوز أخذ النفقة على الحج، كما أقر متقدمو الحنفية أنفسهم، فجاز الاستئجار عليه، كبناء المساجد والقناطر.
وفائدة الخلاف بين الرأيين: أنه متى لم يجز أخذ الأجرة على الحج، فلا يكون إلا نائبًا محضًا، وما يدفع إليه من المال، يكون نفقة لطريقه، فلو مات أو
(١) رواه ابن ماجه (نيل الأوطار:٢٨٦/ ٥).
(٢) رواه أبو داود وابن ماجه (المرجع السابق).
(٣) القوانين الفقهية: ص ١٢٨، الشرح الصغير: ١٥/ ٢، مغني المحتاج:٤٦٩/ ١ ومابعدها، المغني:٢٣١/ ٣ ومابعدها.
(٤) رواه البخاري عن ابن عباس (المرجع السابق: ص٢٨٩).
(٥) رواه الجماعة إلا النسائي عن أبي سعيد الخدري (المرجع السابق).
 
أحصر أو مرض أو ضل الطريق، لم يلزمه الضمان لما أنفق؛ لأنه إنفاق بإذن صاحب المال. وما يلزم من الدماء للنائب بفعل محظور، فعليه في ماله؛ لأنه لم يؤذن له في الجناية، فكان موجبها عليه، كمالو لم يكن نائبًا. وإن أفسد الحجة فالقضاء عليه، ويرد ما أخذ؛ لأن الحجة لم تجزئ عن المستنيب لتفريطه وجنايته، وكذلك إن فاته الحج بتفريطه. أما إن فاته بغير تفريط احتسب له بالنفقة؛ لأنه لم يفت بفعله، فلم يكن مخالفًا، كما لو مات. وإن مات في بعض الطريق فإنه يحج عنه من حيث انتهى، وما فضل معه من المال، رده، إلا أن يؤذن له في أخذه، وينفق على نفسه بقدر الحاجة ولاتقتير. وإذا سلك النائب طريقًا يمكنه سلوك أقرب منه، ففاضل النفقة في ماله، وإن أقام بمكة مدة القصر، بعد إمكان السفر راجعًا، أنفق من مال نفسه.
وإن جاز الاستئجار على الحج عن حي أو ميت، اعتبر فيه شروط الإجارة من معرفة الأجرة، وعقد الإجارة، وما يأخذه أجرة له يملكه، ويباح له التصرف فيه، والتوسع به في النفقة وغيرها، وما فضل فهو له. وإن أحصر أو ضل الطريق، أو ضاعت النفقة منه، فهو في ضمانه والحج عليه. وإن مات انفسخت الإجارة؛ لأن المعقود عليه تلف، فانفسخ العقد، كما لو ماتت البهيمة المستأجرة، ويكون الحج أيضًا من موضع بلغ إليه النائب، وما لزمه من الدماء فعليه؛ لأن الحج عليه.

الإجارة على الحج عند المالكية:  

هؤلاء وإن أجازوا الإجارة على الحج عن الميت الذي أوصى به، لكنهم قالوا بكراهة إجارة الإنسان نفسه في عمل لله تعالى، حجًا أو غيره، كقراءة وإمامة وتعليم علم، إلا تعليم كتاب الله تعالى، وتصح إن أجر نفسه. والإجارة على الحج عندهم نوعان:
الأول - إجارة بأجرة معلومة تكون ملكًا للأجير، كسائر الإجارات، فما عجز عن كفايته، وفاه من ماله، وما فضل كان له.
 
الثاني - البلاغ: وهو أن يدفع إليه المال ليحج عنه، فإن احتاج إلى زيادة، أخذها من المستأجر، وإن فضل شيء رده إليه.
وإذا أوصى الميت أن يحج عنه من ماله، وكان صَرُورة (لم يحج)، نفذت الوصية من ثلث ماله، وإن لم يوص سقط عنه.
وينوي الأجير الحج لمن حج عنه، ويجوز أن يكون الأجير على الحج لم يحج حجة الفريضة عندهم وعند الحنفية، خلافًا للشافعية والحنابلة، كما سأبيِّن في الشروط.

خامسًا - شروط الحج عن الغير: 

اشترط
الحنفية (١) عشرين شرطًا للحج عن الغير أذكرها مع آراء الفقهاء الآخرين:
١ - نية النائب عن الأصيل عند الإحرام؛ لأن النائب يحج عن الأصيل لاعن نفسه، فلا بد من نيته، والأفضل أن يقول بلسانه: أحرمت عن فلان، ولبيت عن فلان، فيقول مثلًا: نويت الحج عن فلان وأحرمت به لله تعالى، ولبيك عن فلان، كما إذا حج عن نفسه، ولو نسي اسمه فنوى عن الأصيل صح، وتكفي نية القلب. وهذا الشرط متفق عليه .....
٢ - أن يكون الأصيل عاجزًا عن أداء الحج بنفسه، وله مال. فإن كان قادرًا على الأداء، بأن كان صحيح البدن، وله مال، لا يجوز حج غيره عنه. وهذا
(١) الدر المختار ورد المحتار:٣٢٧/ ٢ - ٣٣٣، فتح القدير:٣١٧/ ٢ - ٣٢١، البدائع:٢١٢/ ٢ ومابعدها، الشرح الصغير:١٥/ ٢، الشرح الكبير:١٨/ ٢، القوانين الفقهية: ص١٢٨، شرح المحلي: ٩٠/ ٢، كتاب الإيضاح: ص١٧،١٨، المهذب: ١/ ١٩٩، المجموع: ٧/ ٩٨، مغني المحتاج: ١/ ٤٧٠وما بعدها، المغني: ٣/ ٢٣٠،٢٤٣ - ٢٤٥، كشاف القناع: ٢/ ٤٦٢ وما بعدها .....
 
باتفاق الجمهور غير المالكية، أما المالكية فلم يجيزوا الحج عن الحي مطلقًا، وعليه: لا يجوز أن يستنيب في الحج الواجب من يقدر على الحج بنفسه إجماعًا.
وأجاز الكل الحج عن الميت، لكن إذا أوصى عند الحنفية والمالكية، أو وإن لم يوص عند الآخرين، ويجب الحج عنه إن كان قادرًا ومات مفرطًا عند الشافعية والحنابلة.
٣ - أن يستمر العجز كالحبس والمرض إلى الموت: وهذا باتفاق الحنفية والشافعية؛ فلو زال العجز قبل الموت، لم يجزئه حج النائب؛ لأن جواز الحج عن الغير ثبت بخلاف القياس لضرورة العجز الذي لا يرجى برؤه، فيتقيد الجواز به.
وقال الحنابلة: يجزئه؛ لأنه أتى بما أمر به، فخرج عن العهدة، كما لو لم يزل عذره.
٤ - وجوب الحج: فلو أحج الفقير أو غيره ممن لم يجب عليه الحج عن الفرض، لم يجز حج غيره، وإن وجب بعد ذلك.
٥ - وجود العذر قبل الإحجاج: فلو أحج صحيح غيره، ثم عجز، لا يجزيه. وهذان الشرطان مفهومان بداهة.
٦ - أن تكون النفقة من مال الأصيل، كلها أو أكثرها عند الحنفية، إلا الوارث إذا تبرع بالحج عن مورثه، تبرأ ذمة الميت، إذا لم يكن قد أوصى بالإحجاج عنه.
فإن تطوع النائب بالحج من مال نفسه، لم يقع عند الحنفية عن الميت، وكذا إذا أوصى الميت المورث أن يحج عنه بماله، ومات، فتطوع عنه وارثه بمال نفسه، لايجزئ الميت؛ لأن الفرض تعلق بماله، فإذا لم يحج بماله، لم يسقط عنه الفرض.
 
وأجاز الشافعية والحنابلة التطوع بالحج من الوارث أو الأجنبي عن الغير مطلقًا، سواء أوصى الميت أم لم يوص أو لم يأذن الوارث للأجنبي، كمن يتبرع بقضاء دين غيره.
٧ - أن يحرم من الميقات على النحو الذي طالب به الأصيل: فلو اعتمر، وقد أمره بالحج، ثم حج من مكة، لا يجوز، ويضمن، أي لو أمره بالإفراد بالحج، فتمتع بالعمرة، لم يقع حجه عنه، ويضمن باتفاق الحنفية، ولو أمره بالإفراد فقرن بالحج والعمرة فهو مخالف ضامن للنفقات عند أبي حنيفة، ويجوز ذلك عند الصاحبين عن الأصيل استحسانًا.
وإن أوصى الميت بالحج، وحدد المال أو المكان، فالأمر على ما حدده وعينه، وإن لم يحدد شيئًا فيحج عنه من بلده قياسًا لا استحسانًا، والعمل على القياس.
وقال الشافعية: يجب على النائب الحج من ميقات الأصيل؛ لأن الحج يجب من الميقات. ولو أمره بالإفراد فقرن عن الآمر، فيقع ذلك عن الآمر كما قال الصاحبان. أما إذا أمره بالإفراد فتمتع عن الآمر، لم يقع حجه عنه، ولايجوز ذلك عن حجة الإسلام، كما قال الحنفية. وسوى المالكية بين القران والتمتع إذا فعلا، وكان الإفراد يجزئ، إن كان الشرط من الوصي لا الأصيل
وقال الحنابلة: يجب على النائب الحج من بلد الأصيل؛ لأن الحج واجب على العاجز أو الميت من بلده، فوجب أن ينوب عنه منه؛ لأن القضاء يكون على وفق الأداء، كقضاء الصلاة والصيام. وكذلك الحكم في حج النذر والقضاء. وصحح الحنابلة الحج عن الأصيل في كل الحالات إفرادًا وقرانًا وتمتعًا، ويرجع على الأجير بفرق أجرة المسافة، أو توفير الميقات. فإن كان للأصيل وطنان، استنيب من أقربهما. وإن خرج الشخص للحج، فمات في الطريق، حج عنه من
 
حيث مات؛ لأنه أسقط بعض ما وجب عليه، فلم يجب ثانيًا. وكذلك إن مات نائبه، استنيب من حيث مات كذلك.
ولو أحرم شخص بالحج، ثم مات، صحت النيابة عنه فيما بقي من النسك؛ سواء أكان إحرامه لنفسه أم لغيره؛ لأنها عبادة تدخلها النيابة، فإذا مات بعد فعل بعضها، قضى عنه باقيها كالزكاة.
فإن لم يخلف الميت تركة تفي بالحج من بلده، حج عنه من حيث تبلغ.
وإن أوصى ميت بحج تطوع، فلم يف ثلثه بالحج من بلده، حج به من حيث بلغ، أو يعان به في الحج. ويستناب عن الميت ثقة بأقل ما يوجد، إلا أن يرضى الورثة بزيادة، أو يكون قد أوصى بشيء، فيجوز ما أوصى به ما لم يزد على الثلث.
٨ - الأمر بالحج: شرط الحنفية أن يأمر الأصيل بالحج عنه، فلا يجوز الحج عن الغير بغير إذنه، إلا الوارث، فإنه يجوز أن يحج عن المورث بغير إذنه، وتبرأ ذمة الميت إذا لم يكن أوصى بالحج عنه، ودليلهم حديث الخثعمية السابق. وفي نطاق المشيئة الإلهية: لو حج عنه أجنبي تسقط عنه حجة الإسلام إن شاء الله تعالى؛ لأنه إيصال للثواب، وهو لا يختص بأحد من قريب أو بعيد، قال أبو حنيفة: يجزيه إن شاء الله، وبعد الوصية يجزيه من غير المشيئة
٩ - وشرط الحنفية أيضًا عدم اشتراط الإجرة، فلا يجوز كما تقدم عندهم الاستئجار على الحج، فلو استأجر رجلًا، بأن قال: استأجرتك على أن تحج عني بكذا، لم يجز حجه عنه والمعتمد أنه يقع عنه، وإنما يقول: أمرتك أن تحج عني، بلا ذكر إجارة. وأجاز الجمهور كما بينا الاستئجار على الحج.
 
وأبان الحنابلة أنه يستحب أن يحج الإنسان عن أبويه إذا كانا ميتين أو عاجزين؛ لأن النبي ﷺ أمر أبا رزين فقال: «حج عن أبيك واعتمر» و«سألت امرأة رسول الله ﷺ عن أبيها مات ولم يحج، فقال: حج عن أبيك» وعن جابر: «من حج عن أبويه أو قضى عنهما مغرمًا، بعث يوم القيامة مع الأبرار». (١)
ويستحب البداءة بالحج عن الأم إن كان تطوعًا أو واجبًا عليهما؛ لأن الأم مقدمة في البر، قال أبو هريرة: «جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أُمُّك، قال: ثم من؟ قال: أُمُّك، قال: ثم من؟ قال: أمُّك، قال: ثم من؟ قال: أبوك» (٢). وإن كان الحج واجبًا على الأب دون الأم، بدأ به؛ لأنه واجب، فكان أولى من التطوع.
وقال الحنفية: من أهل بحجة عن أبويه، يجزيه أن يجعله عن أحدهما؛ لأن من حج عن غيره بغير إذنه، يجعل ثواب حجه له بعد أداء الحج، فلغت نيته قبل أدائه، وصح جعل ثوابه لأحدهما بعد الأداء، بخلاف المأمور بالحج، كما تقدم.
١٠ - أهلية النائب لصحة الحج: بأن يكون مكلفًا (بالغًا عاقلًا) بالاتفاق وأجاز الحنفية كون النائب مميزًا (مراهقًا) فلا يصح عندهم إحجاج صبي غير مميز.

حج الصَّرُورة: 

الصرورة: من لم يحج عن نفسه، أجاز الحنفية مع الكراهة التحريمية حج الصرورة ولم يشترطوا أن يكون النائب قد حج عن نفسه، عملًا بإطلاق حديث الخثعمية: «حجي عن أبيك» من غير استفسار عن سبقها الحج عن نفسها، وترك الاستفصال في وقائع الأحوال ينزل منزلة عموم المقال أو الخطاب.
أما سبب الكراهة فهو أنه تارك فرض الحج.
(١) روى الدارقطني كل تلك الأحاديث.
(٢) رواه مسلم والبخاري.
 
وكذلك قال المالكية: يكره الحج عن غيره أي في حالة الوصية بالحج قبل أن يحج عن نفسه، بناء على أن الحج واجب على التراخي، وإلا منع على القول بأنه على الفور وهو المعتمد عندهم.
وقال الشافعية والحنابلة: لا يصح الحج عن الغير ما لم يكن النائب قد حج عن نفسه حجة الإسلام، للحديث السابق الذي أمر به النبي ﷺ رجلًا يلبي عن شبرمة، فقال له: «حج عن نفسك، ثم عن شبرمة» ويحمل ترك الاستفصال في حديث الخثعمية على علمه ﵇ بأنها حجت عن نفسها أولًا، وإن لم يرو لنا طريق علمه بذلك، جمعًا بين الأدلة كلها، كما قال الكمال بن الهمام.
ويؤيده حديث آخر: «لا صرورة في الإسلام» (١).
كذلك لا يجوز أن يتنفل بالحج والعمرة، وعليه فرضهما، ولا يحج ولا يعتمر عن النذر، وعليه فرض حجة الإسلام؛ لأن النفل والنذر أضعف من حجة الإسلام، فلا يجوز تقديمهما عليها، كحج غيره على حجه. فإن أحرم عن غيره، وعليه فرضه، انعقد إحرامه لنفسه عما عليه، للرواية السابقة عن ابن عباس: «أن النبي ﷺ قال لمن يحج عن شبرمة: حججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: فاجعل هذه عن نفسك، ثم احجج عن شبرمة».
وعليه لو اجتمع على إنسان حجة الإسلام وقضاء ونذر، قدمت حجة الإسلام، ثم القضاء ثم النذر، ولو أحرم بغيرها وقع عنها، لا عما نوى.
١١ - أن يحج النائب راكبًا؛ لأن المفروض عليه هو الحج راكبًا، فينصرف
(١) رواه أبو داود بإسناد صحيح، بعضه على شرط مسلم، وباقيه على شرطه البخاري، قال الشافعي: أكره أن يسمى من لم يحج صرورة. وسمي صرورة؛ لأنه صرّ بنفسه عن إخراجها في الحج. وكذلك قال الحنابلة: تكره تسمية من لم يحج صرورة، للحديث المذكور: «لا صرورة في الإسلام».
 
مطلق الأمر بالحج إليه، فإذا حج ماشيًا فقد خالف، فيضمن النفقة، فمن أمر غيره بالحج عنه، فحج ماشيًا، ضمن النفقة.
والمعتبر عند الحنفية: ركوب أكثر الطريق، إلا إن ضاقت النفقة، فحج ماشيًا، جاز. وكون وجوب الحج راكبًا هو رأي الجمهور غير المالكية. أما المالكية فيوجبون الحج ماشيًا بلا مشقة شديدة، كما عرفنا.
١٢ - أن يحج النائب عن الأصيل من وطنه إن اتسع ثلث التركة، في حالة الوصية بالحج، وإن لم يتسع يحج عنه من حيث يبلغ. هذا رأي الحنفية.
ورأى الشافعية والحنابلة أنه يحج عنه من جميع مال الميت؛ لأنه دين واجب، فكان من رأس المال، كدين الآدمي.
١٣ - أن يحج النائب بنفسه إن عينه الأصيل، بأن قال: يحج عني فلان، لا غيره، فلا يجوز حج غيره، ولا يقع الحج عن الميت، ويضمن الحاج الأول والثاني نفقة الحج. أما إن فوض الأصيل النائب، فقال له: اصنع ماشئت، فله حينئذ أن يدفع المال إلى غيره، ويقع الحج عن الآمر.
١٤ - ألا يفسد النائب حجه: فلو أفسده، لم يقع عن الآمر، وإن قضاه عند الحنفية، كما سأبين؛ لأنه أمره بحجة صحيحة: وهي الخالية عن الجماع، ولم يفعل ذلك، فصار مخالفًا، فيضمن ما أنفق، ويقع الحج له لا عن الأصيل؛ لأن من أفسد حجة يلزمه قضاؤه.
١٥ - عدم المخالفة: فلو أمره بالإفراد، فقرن أو تمتع، ولو عن الميت، لم يقع عنه، ويضمن النفقة. ولو أمره بالعمرة فاعتمر، ثم حج عن نفسه، أو بالحج، فحج، ثم اعتمر عن نفسه، جاز، إلا أن نفقة إقامته للحج أو العمرة عن نفسه في ماله، فإذا فرغ عادت في مال الميت، وإن عكس لم يجز.
 
١٦ - أن يحرم بحجة واحدة: فلو أهل بحجة عن الآمر، ثم بأخرى عن نفسه، لم يجز، إلا إن رفض الثانية.
١٧ - أن يفرد الحج عن واحد لو أمره رجلان بالحج، فلو أهل عنهما، ضمن.
١٨، ١٩ - إسلام النائب والأصيل وتوفر العقل لديهما، فلا يصح الحج من المسلم للكافر، ولا من المجنون لغيره، ولا عكسه، لكن لو وجب الحج عن المجنون قبل طروء جنونه، صح الإحجاج عنه.
٢٠ - عدم الفوات أي عدم تفويت الوقوف بعرفة، كما سيأتي.

الحج النفل عن الغير: 

هذه الشرائط كلها عند الحنفية في الحج الفرض، أما الحج النفل عن الغير، فلا يشترط فيه شيء منها إلا الإسلام والعقل والتمييز، وكذا الاستئجار عليه، لاتساع باب النفل، فإنه يتسامح في النفل ولا يتسامح في الفرض (١).


سادسًا - مخالفة النائب: 

 الأصل في النائب بالحج عن الغير أن يلتزم ما وكله به الأصيل أو أمره به، فإذا خالف الأمر، ما الحكم؟
قال الحنفية (٢): يصير المأمور بالحج مخالفًا في الحالات التالية:
أـ إذا أمره بحجة مفردة أو بعمرة مفردة، فقرن بينهما: فهو مخالف ضامن
(١) حاشية ابن عابدين: ٣٢٩/ ٢.
(٢) البدائع: ٢١٣/ ٢ - ٢١٦.
 
عند أبي حنيفة؛ لأنه لم يأت بالمأمور به؛ لأنه أمر بسفر على نحو معين، لا غير، ولم يأت به، فخالف أمر الآمر، فضمن. وقال الصاحبان: يجزئ ذلك عن الآمر استحسانًا، ولا يُضمن فيه دم القران على الحاج؛ لأنه فعل المأمور به، وزاد خيرًا، فكان مأذونًا في الزيادة دلالة، فلم يكن مخالفًا، فهي مخالفة إلى خير.
ب - لو أمره بالحج عنه، فاعتمر: ضمن؛ لأنه خالف. ولو اعتمر، ثم حج من مكة، يضمن النفقة باتفاق الحنفية، لأمره له بالحج بسفر، وقد أتى بالحج من غير سفر.
جـ - لوأمره أن يعتمر، فأحرم بالعمرة واعتمر، ثم أحرم بالحج عن نفسه، لم يكن مخالفًا؛ لأنه فعل ما أمر به: وهو أداء العمرة بالسفر، وحجه عن نفسه بعدئذ كاشتغاله بعمل آخر من التجارة وغيرها، لكن النفقة في حجه تكون من ماله، لأنه عمل لنفسه.
د - إذا أمره أن يحج عنه، فحج عنه ماشيًا، يضمن؛ لأنه خالف؛ لأن الأمر بالحج ينصرف إلى الحج المتعارف في الشرع وهوالحج راكبًا؛ لأن الله تعالى أمر بذلك، فعند الإطلاق ينصرف إليه. فإذا حج ماشيًا، فقد خالف.
هـ - لو أمره اثنان بالحج عنهما، فأحرم عنهما معًا، فهو مخالف، ويقع الحج عنه، ويضمن النفقة لهما إن أنفق من مالهما؛ لأن كل واحد منهما أمره بحج تام ولم يفعل، فصار مخالفًا لأمرهما، فلم يقع حجه عنهما، فيضمن لهما. ووقع الحج عن الحاج؛ لأن الأصل أن يقع كل فعل عن فاعله، وإنما يقع لغيره بجعله، فإذا خالف لم يصر لغيره، فبقي فعله له.
وإن أحرم بحجة عن أحدهما بعينه، وقع عنه، ويضمن للآخر النفقة، وإن أحرم بحجة عن أحدهما بغير تعيين، فله أن يجعله عن أحدهما أيهما شاء، ما لم
 
يتصل بها الأداء. وكذلك لو أحرم الابن بالحج عن أحد أبويه، صح وإن لم يكن معينًا، ثم يعين أحدهما؛ لأن الإحرام ليس من الأداء، بل هو شرط جواز أداء أفعال الحج.
وإن أمره أحدهما بحجة، وأمره الآخر بعمرة: فإن أذنا له بالجمع وهو القران، فجمع، جاز. وإن لم يأذنا له بالجمع، فجمع، جاز عند الكرخي، ولم يجز عند القدوري وهو الأرجح؛ لأنه خالف؛ لأنه أمره بسفر ينصرف كله إلى الحج، وقد صرفه إلى الحج والعمرة، فصار مخالفًا.

جزاء المخالفة: 

 إذا فعل المأمور بالحج ما يوجب الدم (ذبح شاة مثلًا) أو غيره، فهو عليه. ولو قرن عن الآمر بأمره، فدم القران عليه. والحاصل: أن جميع الدماء المتعلقة بالإحرام في مال الحاج، إلا دم الإحصار خاصة، فإنه في مال المحجوج عنه؛ لأنه هو الذي أدخل الحاج في هذه العهدة، فكان من جنس النفقة والمؤنة، وذلك من مال المحجوج عنه.
فإن جامع الحاج القائم بالحج عن غيره قبل الوقوف بعرفة، فسد حجه، ويمضي فيه، والنفقة في ماله، ويضمن ما أنفق من مال المحجوج عنه قبل ذلك، وعليه القضاء من مال نفسه.
وـ من حج عن غيره، فمرض في الطريق، لم يجز له أن يدفع النفقة إلى من يحج عن الميت إلا أن يكون أذن له في ذلك؛ لأنه مأمور بالحج، لا بالإحجاج.
ز - لو أحج رجلًا يؤدي الحج، ويقيم بمكة، جاز؛ لأن فرض الحج، صار مؤدىً بالفراغ عن أفعاله. والأفضل أن يحج، ثم يعود إليه، لأنه كلما كانت النفقة أكثر، كان الثواب للآمر أكثر وأوفر.
 
وإذا فرغ المأمور بالحج من الحج، ونوى الإقامة خمسة عشر يومًا فصاعدًا، أنفق من مال نفسه؛ لأن نية الإقامة قد صحت، فصار تاركًا للسفر، فلم يعد مأذونًا بالإنفاق من مال الآمر، ولو أنفق ضمن؛ لأنه أنفق مال غيره بغير إذنه.
فإن أقام أيامًا بمكة من غير نية الإقامة: فإن أقام إقامة معتادة كثلاثة أيام، فالنفقة في مال المحجوج عنه، وإن زاد على المعتاد، فالنفقة من ماله.
والإقامة للتجارة والإجارة لا يمنعان جواز الحج، ويجوز حج التاجر والأجير والمكاري، لقوله ﷿: ﴿ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلًا من ربكم﴾ [البقرة:١٩٨/ ٢].
وقال الحنابلة (١):
أـ إذا أمره بحج، فتمتع أو اعتمر لنفسه من الميقات، ثم حج: فإن خرج إلى الميقات فأحرم منه بالحج، جاز ولا شيء عليه، وهو مذهب الشافعي أيضًا؛ لأنه إذا أحرم من الميقات، فقد أتى بالحج صحيحًا من ميقاته. وإن أحرم بالحج من مكة، فعليه دم لترك ميقاته، ويرد من النفقة بقدر ما ترك من إحرام الحج فيما بين الميقات ومكة؛ لأن إخلاله كان بما يجبره الدم، فلم تسقط نفقته، كما لو تجاوز الميقات غير محرم، فأحرم دونه.
ب - وإن أمره بالإفراد، فقرن، لم يضمن شيئًا عند الحنابلة والشافعية، وهو رأي الصاحبين، خلافًا لرأي أبي حنيفة المتقدم؛ لأنه مخالف. ودليلهم أنه أتى بما أمر به وزيادة، فصح ولم يضمن، كما لو أمره بشراء شاة بدينار فاشترى شاتين تساوي إحداهما دينارًا.
(١) المغني: ٢٣٤/ ٣ - ٢٣٦.
 
ثم إن كان أمره بالعمرة بعد الحج، ففعلها، فلا شيء عليه، وإن لم يفعل رد من النفقة بقدرها.
جـ - وإن أمره بالتمتع، فقرن، وقع عن الآمر عند الحنابلة والشافعية؛ لأنه أمر بهما، وإنما خالف في أنه أمره بالإحرام بالحج من مكة، فأحرم به من الميقات، ولا يرد شيئًا من النفقة.
وإن أفرد، وقع عن الأصيل أيضًا، ويرد نصف النفقة؛ لأنه أخل بالإحرام بالعمرة من الميقات، وقد أمره به، وإحرامه بالحج من الميقات زيادة لا يستحق به شيئًا.
د - إن أمره بالقران، فأفرد أو تمتع، صح،،ووقع النسكان عن الآمر، ويرد من النفقة بقدر ما ترك من إحرام النسك الذي تركه من الميقات.
هـ - إن استنابه رجلان: أحدهما للحج والآخر للعمرة، وأذنا له في القران، ففعل، جاز؛ لأنه نسك مشروع. وإن قرن من غير إذنهما، صح ووقع عنهما، خلافًا للحنفية، ويرد من نفقة كل واحد منهما نصفها؛ لأنه جعل السفر عنهما بغير إذنهما، وقد أتى بما أمر به، وإنما خالف في صفته، لا في أصله، فأشبه من أمر بالتمتع فقرن.
وإن أذن أحدهما دون الآخر، رد على غير الآمر نصف نفقته وحده.
ودم القران على النائب إذا لم يؤذن له فيه، لعدم الإذن في سببه. ويكون الدم على من وكلاه، إن أذنا، لوجود الإذن في سببه. فإن أذن أحدهما دون الآخر، فعلى الآذن نصف الدم، ونصفه على النائب.
وـ إن أمر بالحج، فحج، ثم اعتمر لنفسه، أو أمره بعمرة، فاعتمر، ثم حج عن نفسه، صح، ولم يرد شيئًا من النفقة؛ لأنه أتى بما أمر به على وجهه.
 
وإن أمره بالإحرام من ميقات، فأحرم من غيره، جاز؛ لأنهما سواء في الإجزاء.
وإن أمره بالإحرام من بلده، فأحرم من الميقات، جاز؛ لأنه الأفضل.
وإن أمره بالإحرام من الميقات، فأحرم من بلده، جاز؛ لأنه زيادة لا تضر.
وإن أمره بالحج في سنة، أو بالاعتمار في شهر، ففعله في غيره، جاز؛ لأنه مأذون فيه في الجملة.
ز - إن استنابه اثنان في نسك، فأحرم به عنهما، وقع عن نفسه دونهما، كما قال الحنفية؛ لأنه لا يمكن وقوعه عنهما، وليس أحدهما بأولى من صاحبه.
وإن أحرم عن نفسه وغيره، وقع عن نفسه؛ لأنه إذا وقع عن نفسه أيضًا، ولم ينوها، فمع نيته أولى.
وإن أحرم عن أحدهما غير معين، احتمل أن يقع عن نفسه أيضًا؛ لأن أحدهما ليس أولى من الآخر، فأشبه ما لو أحرم عنهما. واحتمل أن يصح؛ لأن الإحرام يصح بالمجهول، فصح عن المجهول، وإلا صرفه إلى من شاء منهما. فإن لم يفعل حتى طاف شوطًا، وقع عن نفسه، ولم يكن له صرفه إلى أحدهما؛ لأن الطواف لا يقع عن غير معين.

المطلب الثاني - موانع الحج:
يفهم من المطلب السابق في شروط الحج أن هناك موانع للحج هي ما يأتي (١):
(١) القوانين الفقهية: ص١٤٠ ومابعدها، الحضرمية: ص١٣٦ ومابعدها، كشاف القناع:٤٤٦/ ٢ - ٤٥٠، المغني: ٢٤٠/ ٣، البدائع:١٢٠/ ٢، الدر المختار: ٢٠٠/ ٢.
 
١ ً - الأبوة: للأبوين وإن علا أحدهما منع الولد غير المكي من الإحرام بتطوع حج أو عمرة، وليس لهما المنع من الفرض؛ لأن خدمة الأبوين جهاد كما في الصحيحين. ويسن استئذانهما في الفرض أيضًا.
٢ ً - الزوجية: للزوج عند الشافعية منع الزوجة من الحج الفرض والمسنون؛ لأنه حقه على الفور، والنسك عندهم على التراخي، ويسن لها أن تحرم بغير إذنه. وقال الجمهور: ليس للزوج منع الزوجة من الفرض؛ لأنه واجب على الفور، ولو أحرمت بالفرض لم يكن له تحليلها إلا أن يضر ذلك به.
٣ ً - الرق: للسيد منع عبده من الحج الفرض والمسنون، ويتحلل إذا منعه كالمحصر، وليس له منعه من الإتمام إذا أحرم بإذنه، ودليل جواز المنع أن منافع العبد مستغرقة للسيد.
٤ ً - الحبس ظلمًا أو بدين وهو معسر، فله التحلل.
٥ ً - استحقاق الدين: للمستحق الدائن منع الموسر من السفر، وليس له التحليل، وليس للمدين أن يتحلل، بل يؤدي الدين. فإن كان الدين مؤجلًا لم يمنعه الدائن من السفر.
٦ ً - الحجر: فلا يحج السفيه إلا بإذن وليه أو وصيه. وقد ذكر المالكية دون غيرهم هذه الحالة.
٧ ً - الإحصار بسبب عدو بعد الإحرام: بأن يمنع المحرم عن المضي في نسكه من جميع الطرق إلا بقتال أو بذل مال، فللمحصر التحلل إجماعًا بعد أن ينتظر مدة يرجى فيها كشف المانع.
فإذا يئس تحلل بموضعه حيث كان من الحرم وغيره، ولا هدي عليه عند المالكية، وإن كان معه هدي نحره.
 
وقال الجمهور: يتحلل بذبح ما يجزئ في الأضحية: شاة أو سُبْع بقرة أو سُبْع بدنة، ويحلق أو يقصر عند الشافعية، ولا قضاء عليه عندهم، ولا عمرة، فإن كان صرورة (لم يحج) فعليه حجة الإسلام. وعليه الحلق إن كان في الحرم، ولا حلق عليه إن كان الإحصار في الحل عند الحنفية، وعليه القضاء عندهم وعند المالكية والحنابلة، كما سيأتي بيانه، ولا حلق عليه في الراجح عند الحنابلة. ويتحلل بالنية أيضًا عند الشافعية والحنابلة.
وللمحصر خمس حالات كما ذكر المالكية: يصح الإحلال في ثلاث: وهي أن يكون العذر طارئًا بعد الإحرام، أو متقدمًا ولم يعلم به، أوعلم وكان يرى أنه لايصده. ويمتنع الإحلال في حالة رابعة، وهي إن صد عن طريق وهو قادر على الوصول من غيره.
ويصح في حالة خامسة: وهي إن شرط التحلل لفراغ زاد، أو مرض أو شك هل يصدونه أو لا، أو غير ذلك.
٨ ً - المرض: من أصابه المرض بعد الإحرام، لزمه عند المالكية والحنابلة والشافعية أن يقيم على إحرامه حتى يبرأ، وإن طال ذلك.
وأجاز الحنفية التحلل بالمرض كالمحصر بالعدو.

 

 المبحث الثالث - مواقيت الحج والعمرة الزمانية والمكانية:
وفيه مطلبان:

المطلب الأول - وقت الحج والعمرة:

 
- وقت الحج: 

للحج وقت معين، أشار إليه القرآن الكريم في آية: ﴿يسألونك عن الأهلة قل: هي مواقيت للناس والحج﴾ [البقرة:١٨٩/ ٢] وقوله تعالى: ﴿الحج أشهرٌ معلومات﴾ [البقرة:١٧٩/ ٢] أي معظمه في أشهر معلومات.
وأشهر الحج عند المالكية (١): هي الأشهر الثلاثة كلها: وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة (٢)، فهي كلها محل للحج، لعموم قوله سبحانه: ﴿الحج أشهرٌ معلومات﴾ [البقرة:١٩٧/ ٢] فوجب أن يطلق على جميع أيام ذي الحجة؛ لأن أقل الجمع ثلاثة. ويبتدئ وقت الإحرام من أول شوال في أول ليلة عيد الفطر، ويمتد لفجر يوم النحر (الأضحى)، فمن أحرم قبل فجر الأضحى بلحظة، وهوبعرفة، فقد أدرك الحج، وبقي عليه طواف الإفاضة والسعي بعدها؛ لأن الركن عندهم الوقوف بعرفة ليلًا، وقد حصل.
ويكره الإحرام قبل بدء شوال، لكنه ينعقد ويصح عندهم، كما يكر هـ الإحرام قبل مكانه المخصص له الآتي بيانه. والسبب في صحة الإحرام قبل ميقاته الزماني والمكاني: أنه وقت كمال، لا وقت وجوب.
(١) بداية المجتهد:٣١٥/ ١، الشرح الصغير: ١٧/ ٢ ومابعدها، الشرح الكبير: ٢١/ ٢ ومابعدها.
(٢) قال عمر وابنه وابن عباس: «أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة».
 
ويجزئ تأخر طواف الإفاضة إلى آخر شهر ذي الحجة.
فالمدة من بدء شوال لما قبيل فجر يوم الأضحى: وقت لجواز ابتداء الإحرام بالحج. ومن طلوع فجر الأضحى لآخر ذي الحجة: وقت لجواز التحلل من الحج. والأفضل لأهل مكة الإحرام من أول ذي الحجة على المعتمد.
وأشهر الحج عند الحنفية والحنابلة (١): شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، لما روي عن العبادلة الأربعة (ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير) ولقول النبي ﷺ: «يوم الحج الأكبر: يوم النحر» (٢)، فكيف يجوز أن يكون يوم الحج الأكبر ليس من أشهره؟ ولأن يوم النحر فيه ركن الحج، وهو طواف الزيارة، وفيه كثير من أفعال الحج، كرمي جمرة العقبة والنحر والحلق والطواف والسعي والرجوع إلى منى، ولأن الحج يفوت بمضي عشر ذي الحجة، ومع بقاء الوقت لا يتحقق الفوات.
وهذا يدل على أن المراد من قوله تعالى: ﴿الحج أشهرٌ معلومات﴾ [البقرة:١٩٧/ ٢] شهران وبعض الثالث، لا كله. وما بعد عشر ذي الحجة ليس من أشهره؛ لأنه ليس بوقت لإحرامه ولا لأركانه، فهو كالمحرَّم.
ولا يمتنع التعبير بلفظ الجمع عن شيئين وبعض الثالث، كالقروء الثلاثة يحتسب منها الطهر الذي طلقها فيه، وقوله تعالى في الآية السابقة: ﴿فمن فرض فيهن الحج﴾ أي في أكثرهن.
فإن قدم الإحرام بالحج على هذه الأشهر، جاز إحرامه، وانعقد حجًا، ولا ينقلب عمرة، لعموم قوله تعالى: ﴿وأتموا الحج والعمرة لله﴾ [البقرة:١٩٦/ ٢]
(١) فتح القدير: ٢٢٠/ ٢ ومابعدها، الكتاب مع اللباب: ١٩٨/ ١، المغني: ٢٧١/ ٣، ٢٩٥، كشاف القناع: ٤٧٢/ ٢.
(٢) رواه أبو داود، وروى البخاري أن النبي ﷺ قال في خطبته يوم النحر: «هذا يوم الحج الأكبر».
 
لكن لا يجوز له شيء من أفعال الحج إلا في أشهره، فمتى أحرم انعقد إحرامه؛ لأنه مأمور بالإتمام، ولأن الإحرام عند الحنفية شرط، فأشبه الطهارة في جواز التقديم على الوقت، ولأن الإحرام تحريم أشياء وإيجاب أشياء، وذلك يصح في كل زمان، فصار كتقديم الإحرام على الميقات المكاني، فهم شبهوا ميقات الزمان بميقات المكان، وعلى كل: يكره الإحرام بالحج قبل أشهر الحج، لما أخرجه البخاري عن ابن عباس: «من السنة ألا يُحرَم بالحج إلا في أشهر الحج».
وأما الشافعية (١) فقالوا كالحنفية والحنابلة: أشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة: وهو إلى أن يطلع الفجر من يوم النحر، لكنهم رأوا أنه إن أحرم شخص بالحج في غير أشهره، انعقد إحرامه بالعمرة؛ لأنها عبادة مؤقتة، فإذا عقدها في غير وقتها، انعقد غيرها من جنسها، كصلاة الظهر إذا أحرم بهاقبل الزوال، فإنه ينعقد إحرامه بالنفل، فهم شبهوا ميقات الزمان بوقت الصلاة، فلا يقع الحج قبل الوقت. ودليلهم الآية: ﴿الحج أشهرٌ معلومات﴾ [البقرة:١٩٧/ ٢] تقديره وقت الحج أشهر، أو أشهر الحج أشهر معلومات، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، ومتى ثبت أنه وقته، لم يجز تقديم إحرامه عليه كأوقات الصلوات.
ولا يصح في السنة الواحدة أكثر من حجة؛ لأن الوقت يستغرق أفعال الحجة الواحدة، فلا يمكن أداء الحجة الأخرى.

- وقت العمرة: 

 اتفق العلماء (٢) على أن العمرة تجوز في أي وقت من أوقات السنة، في أشهر الحج وغيرها، أي إن ميقات العمرة الزماني جميع العام، فهو وقت لإحرام العمرة، لعدم المخصص لها بوقت دون آخر، ولأن النبي ﷺ
(١) مغني المحتاج: ٤٧١/ ١، المهذب: ٢٠٠/ ١.
(٢) اللباب:٢١٥/ ١، بداية المجتهد: ٣١٥/ ١، المجموع: ١٣٣/ ٧ ومابعدها، المهذب: ٢٠٠/ ١، مغني المحتاج: ٤٧١/ ١، كشاف القناع: ٤٧٢/ ٢، المغني: ٢٢٦/ ٣، القوانين الفقهية: ص١٣٠.
 
اعتمر عمرتين في ذي القعدة وفي شوال (١)، وقال ﵊: «عمرة في رمضان تعدل حجة» (٢) وقال فيما رواه مسلم: «دخلت العمرة في الحج - مرتين، لا بل لأبد أبد» ومعناه في أصح الأقوال أن العمرة يجوز فعلها في أشهر الحج إلى يوم القيامة، والمقصود به إبطال ماكانت الجاهلية تزعمه من امتناع العمرة في أشهر الحج.

تفصيل القول في تكرار العمرة: 

لا يكره عند الجمهور تكرار العمرة في السنة، فلا بأس أن يعتمر في السنة مرارًا، لحديث عائشة السابق من اعتماره ﵇ عمرتين في ذي القعدة وشوال، أي في آخر شوال وأول ذي القعدة.
وحديث أنس في الصحيحين: «اعتمر ﷺ أربع عمر، كلهن في ذي القعدة التي مع حجته» وحديث أبي هريرة في الصحيحين أيضا: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما» وبناء عليه قال الشافعية: يسن الإكثار من العمرة، ولو في اليوم الواحد، إذ هي أفضل من الطواف على المعتمد، لكن حديث عائشة هو أقوى الأدلة، وأما الأحاديث الأخرى فليست دلالاتها ظاهرة من سنة واحدة.
وقال المالكية: تكره العمرة في السنة أكثر من مرة؛ لأنها عبادة تشتمل على الطواف والسعي، فلا تفعل في السنة إلا مرة، كالحج. ونوقش ذلك بأن الحج مؤقت لا يتصور تكراره في السنة، والعمرة غير مؤقتة، فتصور تكرارها كالصلاة.

متى تكره العمرة؟ 

 يكره فعل العمرة كراهة تحريم عند الحنفية في يوم عرفة (الوقفة) ويوم النحر (العيد) وأيام التشريق الثلاثة عقب العيد؛ لأنها أيام الحج، فكانت متعينة له.
(١) رواه أبو داود في سننه بإسناد صحيح عن عائشة.
(٢) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن أم معقل الصحابية ﵂، ورواه البخاري ومسلم عن ابن عباس.
 
وقال المالكية: يستثنى المحرم بحج من كون وقت العمرة جميع العام، فلا يصح إحرامه بعمرة إلا إذا فرغ من جميع أفعال الحج من طواف وسعي ورمي لجميع الجمرات، إن لم يتعجل، وبقدر رميها من اليوم الرابع بعد الزوال إن تعجل، أي إنه لا يصح إحرامه بالعمرة إلا بعد الفراغ بالفعل من رمي اليوم الرابع إن لم يتعجل، أو بقدره إذا تعجل بأن قدم طوافه وسعيه.
وكره الإحرام بعد رميه اليوم الرابع إلى الغروب منه، فإن أحرم بها بعد الرمي في اليوم الرابع وقبل الغروب صح إحرامه ووجب عليه تأخير طوافه وسعيه بعد الغروب، وإلا لم يعتد بفعله على المذهب، وأعادهما بعده، وإلا فهو باق على إحرامه أبدًا.
وقال الشافعية: يمتنع على الحاج الإحرام بالعمرة، ما دام عليه شيء من أعمال الحج، كالرمي؛ لأن بقاء حكم الإحرام كبقاء الإحرام نفسه، ولا تكره في وقت، ولا يكره تكرارها كما تقدم بيانه.
ورأى الحنابلة: أنه لا كراهة للعمرة بالإحرام بها يوم النحر ويوم عرفة وأيام التشريق، كالطواف المجرد؛ إذ الأصل عدم الكراهة، ولا دليل عليها.

المطلب الثاني - ميقات الحج والعمرة المكاني:
الميقات لغة: الحد، وشرعًا: موضع وزمان معين لعبادة مخصوصة. ولا يجوز للإنسان أن يجاوز الميقات إلا محرمًا بحج أو عمرة، وإلا وجب عليه دم أو العودة إليه. فإن قدم الإحرام على الميقات جاز بالاتفاق. وهو أفضل عند الحنفية إن أمن اقتراف المحظورات. ودليل الجواز والأفضلية قوله تعالى: ﴿وأتموا الحج والعمرة لله﴾ [البقرة:١٩٦/ ٢] وإتمامهما أن يحرم بهما من دويرة أهله، كما قال علي وابن مسعود، ولأن إتمام الحج مفسر به، والمشقة فيه أكثر والتعظيم أوفر.
 
ويختلف نوع الميقات بين من كان بمكة وبين الآفاقي: القادم لمكة من غير أهلها (١).

أولًا - ميقات من كان مقيمًا بمكة: 

من كان بمكة مكيًا أو آفاقيًا فميقاته في الحج: الحَرم - مكة نفسها؛ لأن رسول الله ﷺ أمر أصحابه أن يحرموا بالحج من جوف مكة، فقال: «حتى أهل مكة يهلّون منها» (٢) ومثله من منزله في الحرم خارج مكة، وندب إحرامه في المسجد الحرام.
وميقاته في العمرة: من أدنى الحِلّ ولو بأقل من خطوة من أي جانب شاء، ليتحقق وقوع السفر؛ لأن أداء الحج في عرفة، وهي في الحل، فيكون الإحرام من الحرم، وأداء العمرة في الحرم. فيكون الإحرام من الحِلّ ليجمع في إحرامه بين الحل والحرم، إذ هو شرط في كل إحرام. فإن أحرم بها في الحرم، انعقد وعليه دم إلا إن خرج بعد إحرامه إليه.
وأفضل بقاع الحل للإحرام بالعمرة: الجِعْرانة عند الشافعية؛ لأن النبي ﷺ اعتمر منها، كما روى الشيخان، ثم التنعيم لأمره ﷺ عائشة بالاعتمار منه، ثم الحديبية (٣). وأفضلها عند الحنفية والحنابلة: التنعيم؛ لأن النبي ﷺ «أمر
(١) فتح القدير: ١٣١/ ٢ - ١٣٤، البدائع: ١٦٣/ ٢ - ١٦٧، اللباب: ١٧٨/ ١ ومابعدها، القوانين الفقهية: ص ١٣٠، حاشية الباجوري: ٣٢٨/ ١، الشرح الكبير: ٢٢/ ٢، الشرح الصغير: ١٨/ ٢ - ٢٥، مغني المحتاج: ٤٧٣/ ١ - ٤٧٦، المهذب: ٢٠٢/ ١ - ٢٠٤، كشاف القناع: ٤٦٦/ ٢ - ٤٦٩، المغني: ٢٥٧/ ٣ - ٢٦٧.
(٢) رواه الشيخان. وروى مسلم عن جابر: «أمرنا النبي ﷺ لما حللنا أن نحرم من الأبطح» (نصب الراية: ١٦/ ٣).
(٣) الجعرانة: قرية في طريق الطائف على ستة فراسخ من مكة. والتنعيم: المكان المعروف بمساجد عائشة. والحديبية: بئر بين طريقي جدة والمدينة على ستة فراسخ من مكة.
 
عبد الرحمن بن أبي بكر أن يُعمر عائشة من التنعيم» (١) لأنها أقرب الحل إلى مكة، ثم الجعرانة، ثم الحديبية.
وللشخص عند المالكية: أن يحرم من الجعرانة أو التنعيم.

ثانيًا - أهل الحل: 

 وهم الذين منازلهم داخل المواقيت الخمسة كأهل بستان بني عامر وغيرهم، فهم داخل المواقيت وخارج الحرم.
قال المالكية: من كان منزله أقرب إلى مكة من الميقات، فميقاته من منزله في الحج أو العمرة.
وقال الشافعية والحنابلة: من سلك طريقًا لا ينتهي إلى ميقات، أحرم من محاذاته في بر أو بحر، فإن حاذى ميقاتين أحرم من محاذاة أقربهما إليه، فإن استويا في القرب إليه أحرم من محاذاة أبعدهما من مكة، وإن لم يحاذ ميقاتًا أحرم على مرحلتين من مكة. ومن مسكنه بين مكة والميقات، فيمقاته مسكنه.
ومن جاوز ميقاتًا وهو غير مريد للنسك، ثم أراده، فميقاته موضعه.
وقال الحنفية: ميقات أهل الحل للحج أو العمرة دويرة أهلهم، أو من حيث شاؤوا من الحل الذي بين دويرة أهلهم وبين الحرم، لقوله ﷿: ﴿وأتموا الحج والعمرة لله﴾ [البقرة:١٩٦/ ٢] وقد فسرها علي وابن مسعود بأن تحرم بهما من دويرة أهلك. فلا يجوز لهم أن يجاوزوا ميقاتهم للحج أو العمرة إلا محرمين. والحل الذي بين دويرة أهلهم وبين الحرم كشيء واحد، فيجوز إحرامهم إلى آخر أجزاء الحل.
(١) متفق عليه.
 
والخلاصة: إن ميقات الحج والعمرة لمن كان داخل المواقيت هو بالاتفاق: الحل وذلك من أماكنهم، ويجوز لهم عند الحنفية دخول مكة لحاجة من غير إحرام.

ثالثًا - الآفاقي أو أهل الآفاق: 

وهم الذين منازلهم خارج المواقيت التي وقَّت لهم ولمن مر عليها من غيرهم ممن أراد الحج أو العمرة رسول ُ الله ﷺ وهي خمسة، كما في حديث الصحيحين عن ابن عباس: «أنه ﷺ وقَّت لأهل المدينة ذا الحُلَيفة، ولأهل الشام الجُحْفة، ولأهل نجد قَرْن المنازل، ولأهل اليمن يَلَمْلَم، وقال: فهنّ لهنّ، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، لمن كان يريد الحج والعمرة،
فمن كان دونهن فمهَلُّه من أهله، وكذلك حتى أهل مكة يُهلُّون منها» (١) فإنه شمل أربعة مواقيت.
وأما ذات عرق: ففي صحيح مسلم عن جابر مرفوعًا قال: «مَهَلّ أهل المدينة من ذي الحليفة والطريقِ الآخر من الجحفة، ومَهلُّ أهل العراق من ذات عِرْق» (٢).
هذه هي المواقيت الخمسة لغير المقيم بمكة، منقسمة بحسب جهات الحرم، ولا يجوز أن يتجاوزها الإنسان مريدًا مكة بالحج أو بالعمرة، إلا محرمًا بأحد هذين النسكين وهي ما يأتي:
١ - ميقات أهل المدينة: ذو الحليفة (آبار علي): مكان على ستة أميال من المدينة، وعشر مراحل من مكة، فهو أبعد المواقيت (٤٦٠ كم).
٢ - ميقات أهل الشام ومصر والمغرب كله: الجُحفة (رابغ): موضع على
(١) نيل الأوطار: ٢٩٥/ ٤.
(٢) نيل الأوطار: ٢٩٥/ ٤.
 
ثلاث مراحل من مكة (١٨٧ كم). وبما أن أهل الشام الآن يمرون بميقات أهل المدينة وبهذا الميقات، فيخيرون بالإحرام منهما؛ لأن الواجب على من مرّ بميقاتين ألا يتجاوز آخرهما إلا محرمًا، ومن الأول أفضل.
٣ - ميقات أهل العراق وغيرهم من أهل المشرق: ذات عِرْق: قرية على مرحلتين من مكة مشرفة على وادي العقيق، في الشمال الشرقي من مكة (١٩٤كم).
٤ - ميقات أهل اليمن وتهامة والهند: يَلَمْلَم: جبل جنوبي مكة على مرحلتين منها.
٥ - ميقات أهل نجد والكويت والإمارات والطائف: قَرْن المنازل: جبل على مرحلتين من مكة، ويقال له أيضًا قرن الثعالب. وهو قريب من المكان المسمى الآن بالسيل (٩٤ كم).
ومن تجاوز الميقات دون إحرام وجب عليه الدم إلا إذا عاد إليه، ولا يسقط عنه الدم عند المالكية، وإن رجع إليه بعد إحرامه، على تفصيل سيأتي. وإذا تجاوز الميقات بنية الإقامة في مكان غير الحرم، جاز له ذلك إذا نوى الإقامة مدة خمسة عشر يومًا عند الحنفية، فهي أقل مدة الإقامة في مذهبهم؛ لأن حكم الوطن لا يثبت إلا بنية الإقامة لتلك المدة.

من حاذى الميقات ومن لم يحاذه: 

من سلك طريقًا في بر أو بحر أو جو بين ميقاتين، فإنه يجتهد حتى يكون إحرامه بحذو الميقات الذي هو إلى طريقه أقرب، ويحرم من محاذاة أقرب الميقاتين إليه، وإن كان الآخر أبعد إلى مكة. فإن استويا في القرب إليه، أحرم من محاذاة أبعدهما من مكة. وإن لم يعرف حذو الميقات المقارب لطريقه، احتاط فأحرم من بعد، بحيث يتيقن أنه لم يجاوز الميقات إلا
 
محرمًا؛ لأن الإحرام قبل الميقات جائز، وتأخيره عنه لا يجوز، فالاحتياط فعل ما لا شك فيه. وإن لم يحاذ ميقاتًا مما سبق، أحرم على مرحلتين (٨٩ كم) من مكة، إذ لا ميقات أقل مسافة من هذا القدر.

حكم الداخل إلى مكة بعد أن حج واعتمر: 

قال الشافعية (١): من حج واعتمر حجة الإسلام وعمرته، ثم أراد دخول مكة لحاجة لا تتكرر، كزيارة أوتجارة أو رسالة، أو كان مكيًا مسافرًا، فأراد دخولها عائدًا من سفره، فهل يلزمه الإحرام بحج أو عمرة؟ فيه تفصيل:
أـ إن دخلها لقتال بغاة أو قطاع طريق أو غيرهما من القتال الواجب أوالمباح، أو دخلها خائفًا من ظالم أو غريم يمسه، وهو معسر لا يمكنه الظهور لأداء النسك إلا بمشقة ومخاطرة، لم يلزمه الإحرام بلا خلاف؛ لأن النبي ﷺ دخل مكة يوم الفتح بغير إحرام (٢)؛ لأنه كان لا يأمن أن يقاتل.
ب - يستحب لكل داخل إلى مكة لا يتكرر دخوله الإحرام، ويكره الدخول بغير إحرام، فمن دخل مكة لحاجة لا تتكرر كالتجارة والزيارة وعيادة المريض، فالأصح عند الشافعية أنه يستحب له الإحرام، ولا يجب مطلقًا. وقال مالك وأحمد: يلزمه، وقال أبو حنيفة: إن كانت داره في الميقات أو أقرب إلى مكة، جاز دخوله بلا إحرام، وإلا فلا.
جـ - من كان يتكرر دخوله كالحطاب والحشاش والصياد والسقّاء والبريد والسائقين ونحوهم، يجوز دخوله بغير نسك، لما روى ابن عباس: «لا يدخل أحد
(١) المجموع: ١٠/ ٧ - ١٦، المهذب: ١٩٥/ ١، الدر المختار: ٢١٢/ ٢ ومابعدها، الشرح الصغير: ٢٤/ ٢، المغني: ٢٦٨/ ٣ وما بعدها.
(٢) رواه مسلم والنسائي عن جابر (نيل الأوطار: ٣٠٠/ ٤).
 
مكة إلامحرمًا، ورخص للحطابين» (١) ولأن في إيجاب الإحرام على هؤلاء مشقة.
وأما أهل الحرم: فلا إحرام عليهم بالدخول إلى مكة بلا خلاف، كما لا تشرع تحية المسجد لمن انتقل من موضع منه إلى موضع آخر منه.
ومن أراد دخول الحرم ولم يرد دخول مكة، فحكمه حكم دخول مكة، على التفصيل والخلاف السابق.
وإذا وجب الإحرام لدخول الحرم، فدخل بغير إحرام، عصى، ولا يلزمه القضاء عند الشافعية على المذهب، خوفًا من التسلسل، قال بعض الشافعية: كل عبادة واجبة إذا تركها لزمه القضاء أو الكفارة إلا الإحرام لدخول مكة، وإمساك يوم الشك إذا ثبت أنه من رمضان، فمن ترك مع أنه يجب عليه إمساكه، لم يلزمه قضاء الإمساك ولا الكفارة.
وقال أبو حنيفة: يلزمه القضاء؛ إذ يجب قضاء كل الواجبات.
د - من لا يكلف الحج كالعبد والصبي والكافر إذا أعتق العبد أو بلغ الصبي أو أسلم الكافر، وأرادوا الإحرام: فإنهم عند الحنابلة والمالكية يحرمون من موضعهم ولا دم عليهم؛ لأنهم أحرموا من الموضع الذي وجب عليهم الإحرام معه، فأشبهوا المكي ومن قريته دون الميقات إذا أحرم منها.
ويجب على جميعهم الدم عند الشافعية؛ لأن كل واحد منهم ترك الواجب عليه.
وقال الحنفية: لا دم على الكافر الذي يسلم، والصبي الذي يبلغ، وأما العبد فعليه دم.
(١) رواه ابن أبي شيبة، وفيه راو ضعيف (المرجع السابق، نصب الراية: ١٥/ ٣).
 
هل الإحرام من الميقات أفضل أو من دار أهله؟ 

قال الحنفية (١): الإحرام من بلده أفضل إن كان في أشهر الحج، وأمن على نفسه، لقوله تعالى: ﴿وأتموا الحج والعمرة﴾ [البقرة:١٩٦/ ٢] قال علي وابن مسعود: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك، ولقوله ﷺ: «من أحرم من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام بحج أوعمرة، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أو وجبت له الجنة» (٢)، ولأنه أكثر عملًا، وأحرم عمر من إيليا (القدس)، وقال للضبِّي بن معبد الذي أحرم من داره: «هديت لسنة نبيك ﷺ» (٣).
 

وقال جمهور الفقهاء (٤): الإحرام من الميقات أفضل، لأنه الموافق للأحاديث الصحيحة، ولفعل النبي ﷺ وأصحابه، فإنهم أحرموا من الميقات، ولا يفعلون إلا الفضل، وأحرم النبي بحجة الوداع من الميقات بالإجماع، وكذا في عمرة الحديبية، كما رواه البخاري في المغازي، ولأن في مصابرة الإحرام بالتقدم عن الميقات عسرًا وتغريرًا بالعبادة، وإن كان جائزًا.
ويدل له قوله ﷺ: «يستمتع أحدكم بحله ما استطاع، فإنه لا يدري ما يعرض له في إحرامه» (٥)، وروى الحسن «أن عمران بن حصين أحرم من مصره، فبلغ ذلك عمر، فغضب: وقال: يتسامع الناس أن رجلًا من أصحاب رسول الله ﷺ أحرم من مصره» وقال: «إن عبد الله بن عامر أحرم من خراسان، فلما قدم
(١) البدائْع: ١٦٤/ ٢، اللباب: ١٧٨/ ١.
(٢) رواه أبو داود وأحمد عن أم سلمة، وفي لفظ رواه ابن ماجه: «من أهل بعمرة من بيت المقدس غفر له» وهو ضعيف (نيل الأوطار: ٢٩٨/ ٤).
(٣) رواه النسائي وأبو داود.
(٤) بداية المجتهد: ٣١٤/ ١، مغني المحتاج: ٤٧٥/ ١، المغني: ٢٦٤/ ٣.
(٥) رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أبي أيوب.
 
على عثمان، لامه فيما صنع، وكرهه له» (١) قال البخاري: «كره عثمان أن يحرم من خراسان أو كرمان».
وهذا هو الأرجح لدي دفعًا للمشقة عن النفس، وبعدًا عن التعرض لفعل محظورات الإحرام. وأما حديث الإحرام من بيت المقدس فيه ضعف، وأما قول عمر للضبي: «هديت لسنة نبيك» فإنه يعني في القران بين الحج والعمرة، لا في الإحرام من قبل الميقات، فإن سنة النبي ﷺ الإحرام من الميقات. وأما قول عمر وعلي: «إتمام العمرة أن تنشئها من بلدك» فمعناه أن تنشئ لها سفرًا من بلد ك، تقصد له، ليس أن تحرم بها من دويرة أهلك. وهذا ما فسره به سفيان وأحمد، ولا يصح أن يفسر بالإحرام نفسه، فإن النبي ﷺ وأصحابه ما أحرموا بها من بيوتهم.

جزاء من تجاوز الميقات بدون إحرام: 

 لو جاوز الشخص ميقاتًا من المواقيت الخمسة، يريد الحج أو العمرة، بغير إحرام، ثم عاد قبل أن يحرم، وأحرم من الميقات، وجاوزه محرمًا، لا يجب عليه دم بالإجماع؛ لأنه لما عاد إلى الميقات قبل أن يحرم، وأحرم، التحقت تلك المجاوزة بالعدم، وصار هذا ابتداء إحرام منه.
أما لو أحرم بعدما جاوز الميقات قبل أن يعمل شيئًا من أفعال الحج، ثم عاد إلى الميقات، ففيه آراء للفقهاء (٢)، علمًا بأن هذه الآراء تنطبق عند الحنفية على المكي الذي ترك ميقاته، فأحرم للحج من الحل، والعمرة من الحرم:
١ - قال أبو حنيفة: إن عاد إلى الميقات، ولبى، سقط عنه الدم، وإن لم يلب
(١) رواهما سعيد والأثرم.
(٢) البدائع: ١٦٥/ ٢ - ١٦٧، الشرح الصغير: ٢٤/ ٢ ومابعدها، الشرح الكبير: ٢٤/ ٢ ومابعدها، مغني المحتاج: ٤٧٤/ ١ وما بعدها، المغني: ٢٦١/ ٣، ٢٦٦.
 
لا يسقط، لقول ابن عباس للذي أحرم بعد الميقات: «ارجع إلى الميقات، فلبّ، وإلا فلا حج لك» أوجب التلبية من الميقات، فلزم اعتبارها.
٢ - قال الصاحبان والشافعية والحنابلة: من جاوز الميقات، فأحرم، لزمه دم إن لم يعد، وإن أحرم ثم عاد قبل تلبسه بنسك كالطواف سقط عنه الدم، لبى أو لم يلب، علم تحريم ذلك أو جهله؛ لأن حق الميقات في مجاوزته إياه محرمًا، لا في إنشاء الإحرام منه، وسقوط الدم عنه لما روى ابن عباس عن النبي ﷺ أنه قال: «من ترك نسكًا، فعليه دم» (١). وإن تجاوز الميقات بغير إحرام لزمه العود ليحرم منه، إلا إذا ضاق الوقت أو كان الطريق مخوفًا.
وينطبق هذا على المكي بالحرم إن لم يخرج إلى الميقات، وأتى بأفعال العمرة، عليه دم، وأجزأته، فلو خرج إلى الحل بعد إحرامه سقط الدم، كما لو جاوز الميقات ثم عاد إليه محرمًا.
ولو أفسد المحرم من دون الميقات حجه، لم يسقط عنه الدم عند الحنابلة والشافعية. وقال الحنفية: يسقط؛ لأن القضاء واجب.
٣ - وقال المالكية: من تجاوز الميقات وأحرم، لم يلزمه الرجوع إليه، وعليه الدم، لتعديه الميقات حلالًا، ولا يسقط عنه رجوعه له بعد الإحرام، لتعديه.
فإن لم يكن أحرم وجب الرجوع للميقات إلا لعذر كخوف فوات لحجة لو رجع، أو فوات رفقة، أو خاف على نفس أو مال أو عدم قدرة على الرجوع، فلا يجب عليه الرجوع حينئذ، ويجب عليه الدم لتعديه الميقات حلالًا.
(١) روي موقوفًا ومرفوعًا، والموقوف رواه مالك وغيره بإسناد صحيح، بلفظ: «من نسي من نسكه شيئًا أو تركه، فليهرق دمًا».

عن الكاتب

Tanya Ustadz

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية