الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

السنة الخامسة والسنة السادسة من الهجرة النبوية

السنة الخامسة والسنة السادسة من الهجرة النبوية

السنة الخامسة والسنة السادسة من الهجرة النبوية
كتاب نور اليقين في سيرة سيد المرسلين للخضري

محتويات

السَّنة الخامِسَة

غزوة دومة الجندل

وفي ربيع الأول من هذا العام بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن جمعاً من الأعراب بدُومة الجندل يظلمون من مَرَّ بهم، وأنهم يريدون الدنو من المدينة فتجهز لغزوهم، وخرج في ألف من أصحابه، بعد أن وَلَّى على المدينة سِبَاعبن عُرْفُطة الغِفاري، ولم يزل يسير الليل ويكمُن النهار حتى قرب منهم، فلما بلغهم الخبر تفرقوا، فهجم المسلمون على ماشيتهم ورعائهم، فأُصيب مَنْ أُصيبَ، وهرب من هرب، ثم نزل بساحتهم فلم يلقَ أحداً، وبثّ السرايا فلم يجد منهم أحداً، فرجع عليه الصلاة والسلام غانماً، وصالح وهو عائد عيينةَبن حِصْنٍ الفَزاري، وهو الذي كان يسمّيه عليه الصلاة والسلام الأحمق المطاع، لأنه كان يتبعه ألف قَنَاة، وأقطعه عليه الصلاة والسلام أرضاً يرعى فيها بهمه على بعد ستة وثلاثين ميلاً من المدينة لأن أرضه كانت قد أجدبت.

غزوةبن المُصْطَلِق

في شعبان، بلغه عليه الصلاة والسلام أن الحارثبن أبي ضرار، سيدَ بني المصطلق الذين ساعدوا قريشاً على حرب المسلمين في أُحُد، يجمع الجموع لحربه، فخرج له عليه الصلاة والسلام في جمع كثير، وولَّى على المدينة زيدَبن حارثة، وخرج معه من نسائه عائشةُ وأُم سلمة. وخرج معه ناس من المنافقين لم يخرجوا قطُّ في غزوة مثلها، يرجون أن يصيبوا من عَرَضِ الدنيا، وفي أثناء مسيره عليه الصلاة والسلام التقى بعَيْنِ بني المصطلق، فسأله عن أحوال العدو فلم يجبْ فأمر بقتله. ولما بلغ الحارث رئيس الجيش مجيء المسلمين لحربه، وأنهم قتلوا جاسوسه، خاف هو وجيشه خوفاً شدياً حتى تفرق عنه بعضهم، ولما وصل المسلمون إلى الْمُرَيْسِيع تَصَافَّ الفريقان للقتال، بعد أن عرض عليهم الإسلام فلم يقبلوا، فتراموا بالنبل ساعة، ثم حمل المسلمون عليهم حملة رجل واحد، فلم يتركوا لرجل من عدوهم مجالاً للهرب، بل قتلوا عشرة منهم وأسروا باقيهم مع النساء والذرية، واستاقوا الإبل والشياه، وكانت الإبل ألفي بعير، والشياه خمسة آلاف، واستعمل الرسول على ضبطها مولاه شُقران، وعلى الأسرى بُرَيدة. وكان في نساء المشركين بَرَّة بنت الحارث سيد القوم، وقد أخذ من قومها مئتا بيتٍ أسرى وُزِّعَتْ على المسلمين، وهنا يظهر حُسْن السياسة ومنتهى الكرم، فإن بني المصطلق من أعزِّ العرب داراً فأسْرُ نسائهم بهذه الحال صعب جداً، فأراد عليه الصلاة والسلام أن يجعل المسلمين يَمُنُّونَ على النساء بالحرية من تلقاء أنفسهم، فتزوج برّة بنت الحارث التي سمّاها جُوَيْرِيَةَ، فقال المسلمون: أصهار رسول الله لا ينبغي أسرهم في أيدينا فمنّوا عليهم بالعتق، فكانت جويريةُ أيمنَ امرأةٍ على قومها كما قالت عائشة رضي الله عنها، وتسبَّب عن هذا الكرم العظيم وهذه المعاملة الجليلة أن أسلم بنو المصطلق عن بكرة أبيهم، وكانوا للمسلمين بعد أن كانوا عليهم.

وقد حصل في هذه الغزوة نادرتان، لولا أنْ صاحَبَتْهُما حكمةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لعادتا بالتفريق على المسلمين.

فأولاهما: أن أجيراً لعمربن الخطاب اختصم مع حليف للخزرج، فضرب الأجيرُ الحليف حتى سال دمه، فاستصرخ بقومه الخزرج، واستصرخ الأجير بالمهاجرين، فأقبل الذعر من الفريقين، وكادوا يقتتلون لولا أن خرج عليهم رسول الله فقال: «ما بال دعوى الجاهلية؟» وهي ما يقال في الاستغاثة: يا لَفُلان. فأخبر الخبر، فقال: «دَعُوا هذه الكلمة فإنها منتنة»، ثم كلم المضروبَ حتى أسقط حقه وبذلك سكنت الفتنة، فلما بلغ عبد اللهبن أُبَيَ هذا الخصام غضبَ، وكان عنده رهط من الخزرج، فقال: ما رأيت كاليوم مذّلة أو قد فعلوها؟ نافرونا في ديارنا، والله ما نحن والمهاجرون إلا كما قال الأوَّل: سمِّن كلبك يأكلك، أما والله: لَئِن } (المنافقون: 8)، ثم التفت إلى مَنْ معه، وقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم ثم لم يرضوا بما فعلتم حتى جعلتم أنفسكم غرضاً للمنايا دون محمد فأيتمتم أولادكم، وَقَلَلْتُم وكثروا، فلا تنفقوا عليهم حتى يَنْفَضُّوا من عنده، وكان في مجلسه شاب حديثُ السن، قوي الإسلام، اسمه زيدبن أرقم، فأخبر رسول الله الخبر فتغير وجهه، وقال: «يا غلام لعلك غضبت عليه فقلت ما قلت؟» فقال: والله يا رسول الله لقد سمعته. قال: «لعلّه أخطأ سمعك»، فاستأذن عمر الرسول في قتل ابن أُبَيّ أو أن يأمر أحداً غيره بقتله فنهاه عن ذلك. وقال: «كيف يا عمر إذا تحدث الناسُ أن محمداً يقتل أصحابه؟» ثم أذن بالرحيل في وقت لم يكن يرتحل فيه حين اشتد الحر يقصد بذلك عليه الصلاة والسلام شَغْلَ الناس عن التكلم في هذا الموضوع، فجاءه أسيدبن حُضير وسأله عن سبب الارتحال في هذا الوقت، فقال: «أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ زعم أنه إن رجعَ إلى
المدينة ليخرجنَّ الأعزّ منها الأذل». قال: أنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئتَ، هو والله الذليلُ وأنت العزيزُ، ثم سارَ عليه الصلاة والسلام بالناس سيراً حثيثاً حتى آذتهم الشمس، فنزل بالناس فلم يلبثوا أن وجودا مَسَّ الأرض حتى وقعوا نياماً.
وكلّم رجالٌ من الأنصار عبدَ اللهبن أُبيّ في أن يطلب من الرسول الاستغفار فلوى رأسه واستكبر. وهنا نزل على الرسول سورةُ المنافقين التي فضحت عبد اللهبن أُبيّ وإخوانه وصدَّقت زيدبن أرقم. ولما بلغَ ذلك عبد اللهبن عبد اللهبن أُبيّ، استأذن رسول الله في قتل أبيه حذراً من أن يُكَلِّف بذلك غيره، فيكون عنده من ذلك أضغان وأحقاد، فأمره عليه الصلاة والسلام بالإحسان إلى أبيه.

حديث الإفك

النادرة الثانية: وهي أفظعُ من الأولى وأجلبُ منها للمصائب، وهي رميُ عائشة الصدّيقة، زوج رسول الله بالإفك، فاتَّهموها بصفوانبن المعَطَّل السلمي، وذلك أنهم لما دنوا من المدينة أذن عليه الصلاة والسلام ليلة بالرحيل، وكانت السيدة عائشة قد مضت لقضاء حاجتها حتى جاوزت الجيش، فلما قضت شأنها أقبلت إلى رَحْلها، فلمست صدرها فإذا عِقْدٌ لها من جزْع ظَفَارِ قد انقطع فرجعت تلتمس عقدها، فحبسها ابتغاؤه، فأقبل الرهط الذين كانوا يَرْحلُونَها، فاحتملوا هودجها ظانِّين أنها فيه، لأن النساء كنَّ إذ ذاك خفافاً لم يَغْشَهُنَّ اللحم، فلم يستنكر القوم خِفَّةَ الهودج، وكانت عائشة جارية حديثة السن، فجاءت منزل الجيش بعد أن وجدت عقدها، وليس بالمنزل داعٍ ولا مُجيب، فغلبتها عيناها فنامتْ، وكان الذي يسيرُ وراء الجيش يفتقد ضائعه صفوانبن المُعَطَّل، فأصبح عند منزلها فعرفها لأنه كان رآها قبل الحجاب، فاسترجع، فاستيقظت باسترجاعه وسترت وجهها بجلبابها، فأناخ راحلته وأركبها من غير أن يتكلما بكلمة، ثم انطلق يقود بها الراحلة حتى وصل الجيش وهو نازل للراحة، فقامت قيامة أهل الإفك، وقالوا ما قالوا في عائشة وصفوان، والذي تَوَلى كبر الإفك عبد اللهبن أُبيّ.

ولما قدموا المدينة مرضت عائشة شهراً، والناس يفيضون في قول الإفك، وهي لا تشعر بشيء، وكانت تعرف في رسول الله رقة إذا مرضت، فلم يعطها نصيباً منها في هذا المرض، بل كان يمر على باب الحجرة لا يزيد على قوله: «كيف حالكم؟» مما جعلها في ريب عظيم. فلما نَقِهَتْ خرجت هي وأُم مِسطحبن أثاثة ــــ أحد أهل الإفك ــــ للتبرّز خارج البيوت، فعثرت أُم مسطح في مِرْطها فقالت: تعس مِسطح فقالت عائشة: بئس ما قلتِ أتسبين رجلاً شهد بدراً؟ فقالت يا هَنْتاهُ أو لم تسمعي ما قالوا؟ فسألتها عائشة عن ذلك فأخبرتها الخبر، فازدادت مرضاً على مرضها. ولما جاءها عليه الصلاة والسلام كعادته، استأذنته أن تمرّض في بيت أبيها، فأذن لها، فسألتْ أمها عمّا يقول الناس، فقالت: يا بنيّة هوِّني عليك، فوالله لقلّما كانت امرأة قطّ وضيئه عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، فقالت عائشة: سبحان الله أوَ قد تحدث الناس بهذا؟ وبكت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لها دمع، ولا تكتحل بنوم. وفي خلال ذلك كان عليه الصلاة والسلام يستشير كبارَ أهل بيته فيما يفعل، فقال له أسامة لما يعلمه من براءة عائشة: أهلك أهلك ولا نعلم عليهم إلا خيراً. وقال عليبن أبي طالب: لم يُضَيِّقِ الله عليك، والنساء سواها كثير، وسلِ الجاريةَ تَصْدُقْكَ. فدعا عليه الصلاة والسلام بَريرة جارية عائشة، وقال لها: هل رأيت من شيء يَرِيْبُكِ؟ فقالت: والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمراً قطّ أغمِصه غير أنها جارية حديثة السِّنِّ، تنام عن عجينها، فتأتي الداجن فتأكله.

فقام عليه الصلاة والسلام من يومه وصعد المنبر والمسلمون مجتمعون وقال: «مَنْ يَعْذرُني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي؟ والله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً وما يدخل على أهلي إلا معي». فقال سعدبن معاذ: أنا يا رسول الله أَعذِرُك منه، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعدُبن عبادة الخزرجي وقال: كذبتَ لعَمْرُ الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببتَ أنه يُقتل، فقام أُسيدبن حُضير، وقال لسعدبن عبادة: كذبتَ لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادلُ عن المنافقين. وكادت تكون فتنة بين الأوس والخزرج لولا أن رسول الله نزل من فوق المنبر وخَفَّضَهم حتى سكتوا. أما عائشة فبقيت ليلتين لا يرقأ لها دمع، ولا تكتحل بنوم. وبينما هي مع أبويها إذ دخل النبي عليه الصلاة والسلام فسلّم ثم جلس فقال: «أما بعد، يا عائشة إنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف وتاب، تاب الله عليه»، فتقلص دمعُ عائشة، وقالت لأبويها: أجيبا رسول الله، فقالا: والله ما ندري ما نقول، فقالت: إني والله لقد علمتُ أنكم سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلتُ لكم إني بريئة لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر ــــ والله يعلم أني منه بريئة ــــ لتُصَدِّقُنِّي فوالله لا أجدُ لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف حيث قال: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (يوسف: 18).

ثم تحولتْ واضطجعت على فراشها، ولم يزاولْ رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه حتى نزلت عليه الآيات من سورة النور ببراءة السيدة المطهرة عائشة الصدّيقة: {إِنَّ الَّذِينَ جَآءوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلّ امْرِىء مّنْهُمْ مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ وَالَّذِى تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ(11) لَّوْلآ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَاذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ(12) لَّوْلاَ جَآءو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآء فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ(13) وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِى مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ(15) وَلَوْلآ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَاذَا سُبْحَانَكَ هَاذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ(16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ(17) وَيُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمُ الاْيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِى الَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ(19) وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ(20) يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآء
وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَاكِنَّ اللَّهَ يُزَكّى مَن يَشَآء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(21) وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِى الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النور: 22) فقال أبو بكر: بل نحب ذلك يا رسول الله، وأعاد النفقة على مِسطح. فهذه مضار المنافقين الذين يدخلون بين الأمم مظهرين لهم المحبة وقلوبهم مملوءة حقداً يتربصون الفتن، فمتى رأوا باباً لها وَلَجوه فنعوذ بالله منهم.

غزوة الخندق

لم يقرّ لعظماء بني النضير قرار بعد جلائهم عن ديارهم وإرث المسلمين لها، بل كان في نفوسهم دائماً أن يأخذوا ثأرهم ويستردّوا بلادهم، فذهب جمع منهم إلى مكة، وقابلوا رؤساء قريش، وحرّضوهم على حرب رسول الله ومنّوهم المساعدة، فوجدوا منهم قبولاً لما طلبوه، ثم جاؤوا إلى قبيلة غطفان وحرّضوا رجالها كذلك، وأخبروهم بمبايعة قريش لهم على الحرب، فوجدوا منهم ارتياحاً، فتجهزت قريش وأتباعها يرأسهم أبو سفيان، ويحمل لواءهم عثمانبن طلحةبن أبي طلحة العبدري، وعددهم أربعة آلاف، معهم ثلاثمائة فرس، وألف وخمسمائة بعير. وتجهزت غطفان يرأسهم عُيَيْنَةُبن حِصن الذي جازى إحسان رسول الله كفراً، فإنه كما قدّمنا أقطعه أرضاً يرعى فيها سوائمه، حتى إذا سمن خفُّه وحافره، قام يقود الجيوش لحرب من أنعم عليه، وكان معه ألف فارس. وتجهزت بنو مرّة يرأسهم الحارثبن عوف المري وهم أربعمائة، وتجهزت بنو أشجع يرأسهم أبو مسعودبن رُخَيلَةَ، وتجهزت بنو سليم يرأسهم سفيانبن عبد شمس، وهم سبعمائة، وتجهزت بنو أسد يرأسهم طليحةبن خويلد الأسدي، وعدة الجميع عشرة آلاف محارب قائدهم العام أبو سفيان. ولما بلغه عليه الصلاة والسلام أخبار هاتِه التجهيزات، استشار أصحابه فيما يصنع أيمكث بالمدينة أم يخرج للقاء هذا الجيش الجرّار؟ فأشار عليه سلمان الفارسي بعمل الخندق وهو عمل لم تكن العرب تعرفه، فأمر عليه الصلاة والسلام المسلمين بعمله، وشرعوا في حفره شمالي المدينة من الحرّه الشرقية إلى الحرّة الغربية وهذه هي الجهة التي كانت عورة تُؤتى المدينة من قبلها. أما بقية حدودها فمشتبكة بالبيوت والنخيل، لا يتمكن العدو من الحرب جهتها، وقد قاسى المسلمون صعوبات جسيمة في حفر الخندق، لأنهم لم يكونوا في سعة من العيش حتى يتيسر لهم العمل، وعمل معهم عليه الصلاة والسلام، فكان ينقل التراب متمثلاً بشعر ابن رواحة:

اللهمَّ لولا أنت ما اهتديناولا تصدَّقْنا ولا صلّينافَأَنْزِلَنْ سكينةً عليناوثبِّتِ الأقدامَ إن لاقيناوالمشركون قد بَغَوا عليناوإن أرادوا فتنةً أبينا وأقام الجيش في الجهة الشرقية مسنداً ظهره إلى سَلْع وهو جبل مطل على المدينة وعدّتهم ثلاثة آلاف، وكان لواء المهاجرين مع زيدبن حارثة، ولواء الأنصار مع سعدبن عبادة. أما قريش فنزلت بمَجْمع الأسيال، وأما غطفان فنزلت جهة أُحُد. وكان المشركون معجبين بمكيدة الخندق التي لم تكن العرب تعرفها، فصاروا يترامون مع المسلمين بالنبل. ولما طال المطال عليهم أكره جماعة منهم أفراسهم على اقتحام الخندق، منهم: عكرمةبن أبي جهل، وعمروبن عَبْدِ وَدَ وآخرون، وقد برز عليبن أبي طالب رضي الله تعالى عنه لعمروبن عبد ود فقتله وهرب إخوانه، وهوى في الخندق نوفلبن عبد الله، فاندقت عنقه، ورُمي سعدبن معاذ رضي الله عنه بسهم قطع أَكْحله، وهو شريان الذراع، واستمرت المناوشة والمراماة بالنبل يوماً كاملاً حتى فاتت المسلمين صلاة ذاك اليوم وقضوها بعد، وجعل عليه الصلاة والسلام على الخندق حُرَّاساً حتى لا يقتحمه المشركون بالليل، وكان يحرس بنفسه ثُلمة فيه مع شدة البرد، وكان عليه الصلاة والسلام يبشّر أصحابه بالنصر والظفر ويَعِدهم الخير.

أما المنافقون فقد أظهروا في هذه الشدة ما تكنُّه ضمائرهم حتى قالوا: {مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً} (الأحزاب: 12) وانسحبوا قائلين: إن بيوتنا عورة نخاف أن يُغير عليها العدو {وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً} (الأحزاب: 13) واشتدت الحال بالمسلمين، فإن هذا الحصار صاحَبَه ضيق على فقراء المدينة، والذي زاد الشدة عليهم ما بلغهم من أن يهود بني قريظة الذين يُساكنونهم في المدينة قد انتهزوا هذه الفرصة لنقض العهود، وسبب ذلك أن حُيَيَّبن أَخْطَب سيد بني النضير المجلين توجه إلى كعببن أسد القرظي سيد بني قريظة، وكان له كالشيطان إذ قال للإنسان اكفر، فحسَّن له نقض العهد، ولم يزل به حتى أجابه لقتال المسلمين.

ولما بلغت هذه الأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل مسلمةبن أسلم في مائتين، وزيدبن حارثة في ثلاثمائةٍ لحراسة المدينة، خوفاً على النساء والذراري، وأرسل الزبيربن العوّام يستجلي له الخبر، فلما وصلهم وجدهم حانقين، يظهر على وجوههم الشر، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أمامه، فرجع وأخبر الرسول بذلك. وهناك اشتد وَجَلُ المسلمين وزلزلوا زلزالاً شديداً، لأن العدو جاءهم من فوقهم ومن أسفل منهم وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وظنوا بالله الظنون، وتكلم المنافقون بما بَدا لهم، فأراد عليه الصلاة والسلام أن يرسل لعُيَيْنَةَبن حِصْنٍ، ويصالحه على ثلث ثمار المدينة لينسحب بغطفان، فأبى الأنصار ذلك قائلين: إنهم لم يكونوا ينالون منّا قليلاً من ثمارنا ونحن كفار، أفبعد الإسلام يشاركوننا فيها؟ وإذا أراد الله العناية بقوم هيأ لهم أسباب الظفر من حيث لا يعلمون. فانظر إلى هذه العناية من الله للمتمسكين بدينه القويم. جاء نُعيمبن مسعود الأشجعي وهو صديق قريش واليهود ومن غطفان، فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت وقومي لا يعلمون بإسلامي فمُرني بأمرك حتى أُساعدك. فقال: «أنت رجل واحد وماذا عسى أن تفعل؟ ولكن خَذِّل عنّا ما استطعت فإن الحرب خدْعه».

الخدعة في الحرب

فخرج من عنده وتوجه إلى بني قريظة الذين نقضوا عهود المسلمين، فلما رأوه أكرموه لصداقته معهم، فقال: يا بني قريظة تعرفون ودّي لكم وخوفي عليكم، وإني محدِّثكم حديثاً فاكتموه عنّي، قالوا: نعم، فقال: لقد رأيتم ما وقع لبني قينقاع والنضير من إجلائهم وأخذ أموالهم وديارهم، وإن قريشاً وغطفان ليسوا مثلكم فهم إذا رأوا فرصة انتهزوها وإلا انصرفوا لبلادهم. وأما أنتم فتساكنون الرجل ــــ يريد الرسول ــــ ولا طاقة لكم بحربه وحدكم، فأرى ألاّ تدخلوا في هذه الحرب حتى تستيقنوا من قريش وغطفان أنهم لن يتركوكم ويذهبوا إلى بلادهم بأن تأخذوا منهم رهائن سبعين شريفاً منهم، فاستحسنوا رأيه وأجابوه إلى ذلك.
ثم قام من عندهم وتوجه إلى قريش فاجتمع برؤسائهم، وقال: أنتم تعرفون ودّي لكم، ومحبتي إيّاكم، وإني محدّثكم حديثاً فاكتموه عني، قالوا: نفعل، فقال لهم: إن بني قريظة قد ندموا على ما فعلوه مع محمد وخافوا منكم أن ترجعوا وتتركوهم معه فقالوا له: أيُرضيك أن نأخذ جمعاً من أشرافهم ونعطيهم لك، وتردّ جناحنا الذي كسرت ــــ يريد بني النضير ــــ فرضي بذلك منهم. وها هم مرسلون إليكم فاحذروهم ولا تذكروا مما قلت لكم حرفاً.

ثم أتى غطفان فأخبرهم بمثل ما أخبر به قريشاً، فأرسل أبو سفيان وفداً لقريظة يدعوهم للقتال غداً فأجابوا: إنّا لا يمكننا أن نقاتل في السبت ــــ وكان إرساله لهم ليلة السبت ــــ ولم يُصِبنا ما أصابنا إلا من التعدّي فيه، ومع ذلك فلا نقاتل حتى تعطونا رهائن منكم حتى لا تتركونا وتذهبوا إلى بلادكم، فتحققت قريش وغطفان كلام نُعيمبن مسعود، وتفرقت القلوب فخاف بعضهم بعضاً، وكان عليه الصلاة والسلام قد ابتهل إلى الله الذي لا ملجأ إلا إليه ودعاه بقوله: «اللهمّ مُنْزِلَ الكتاب، سريعَ الحساب اهزم الأحزاب، اللهمّ اهزمهم وانصرنا عليهم» وقد أجابَ الله دعاءه عليه الصلاة والسلام، فأرسل على الأعداء ريحاً باردة في ليلة مظلمة، فخاف العرب أن تتفق اليهود مع المسلمين ويهجموا عليهم في الليلة المدلهمَّة فأجمعوا أمرهم على الرحيل قبل أن يصبح الصباح. ولما سمع عليه الصلاة والسلام الضوضاء في جيش العدو، قال لأصحابه: «لا بدّ من حادث، فمَن منكم ينظر لنا خبر القوم؟» فسكتوا حتى كرر ذلك ثلاثاً. وكان فيهم حُذيفةبن اليمان، فقال عليه الصلاة والسلام: «تسمع صوتي منذ الليلة ولا تجيب» فقال: يا رسول الله البرد شديد، فقال: «اذهب في حاجة رسول الله واكشف لنا خبر القوم» فخاطر رضي الله عنه بنفسه في خدمة نبيِّه، حتى اطّلع على جليّة الخبر، وأن الأعداء عازمون على الرحلة.

هزيمة الأحزاب

وقد بلغ من خوفهم، أن كان رئيسهم أبو سفيان يقول لهم: ليتعرَّف كلٌّ منكم أخاه، وليمسك بيده حذراً من أن يدخل بينكم عدو، وقد حلّ عقَالَ بعيره يريد أن يبدأ بالرحيل، فقال له صفوانبن أمية: إنَّك رئيس القوم فلا تتركهم وتمضي، فنزل أبو سفيان وأذن بالرحيل، وترك خالدبن الوليد في جماعة ليحموا ظهور المرتحلين حتى لا يدهموا من ورائهم، وأزاح الله عن المسلمين هذه الغمّة التي تحزّب فيها الأحزاب من عرب ويهود على المسلمين، ولولا لطف الله وعنايته بهذا الدين مِنَّةً منه وفضلاً لساءت الحال.
وكان جلاء الأحزاب في ذي القعدة، وكان حقّاً على الله أن يسمّيه نعمة بقوله في سورة الأحزاب: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً(9) إِذْ جَآءوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الاْبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ(10) هُنَالِكَ ابْتُلِىَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً(11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً(12) وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مّنْهُمْ ياأَهْلَ .يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواْ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ النَّبِىَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً(13)

غزوة بني قُرَيْظة

ولما رجع عليه الصلاة والسلام بأصحابه، وأراد أن يخلع لباس الحرب، أمره الله باللحوق ببني قريظة، حتى يطهِّر أرضه من قوم لم تعد تنفع معهم العهود، ولا تربطهم المواثيق، ولا يأمن المسلمون جانبهم في شدة، فقال لأصحابه: «لا يُصَلِّيَنَّ أحد منكم العصر إلا في بني قريظة» فساروا مسرعين، وتبعهم عليه الصلاة والسلام راكباً على حماره، ولواؤه بيد عليبن أبي طالب، وخليفته على المدينة عبد الله ابن أم مكتوم، وكان عدد المسلمين ثلاثة آلاف، وقد أدرك جماعة من الأصحاب صلاة العصر في الطريق فصلاّها بعضهم حاملين أمر الرسول بعدم صلاتها على قصد السرعة، ولم يصلِّها الآخرون إلا في بني قريظة بعد مضي وقتها حاملين الأمر على حقيقته فلم يُعنِّف فريقاً منهم.

ولما رأى بنو قريظة جيش المسلمين ألقى الله الرعب في قلوبهم، وأرادوا التنصّل من فعلتهم القبيحة وهي الغدر بمن عاهدوهم وقت الشغل بعدو آخر، ولكن أنَّى لهم ذلك وقد ثبت للمسلمين غدرهم؟ فلما رأوا ذلك تحصنوا بحصونهم وحاصرهم المسلمون خمساً وعشرين ليلة، فلما رأوا أن لا مناص من الحرب، وأنهم إن استمروا على ذلك ماتوا جوعاً، طلبوا من المسلمين أن ينزلوا على ما نزل عليه بنو النضير من الجلاء بالأموال وترك السلاح، فلم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم، فطلبوا أن يجلوا بأنفسهم من غير مال ولا سلاح فلم يرض أيضاً، بل قال: لا بدّ من النزول والرضا بما يحكم عليهم خيراً كان أو شراً، فقالوا له: أرسل لنا أبا لُبابة نستشيره، وكان أوسياً من حُلفاء بني قريظة، له بينهم أولاد وأموال، فلما توجه إليهم استشاروه في النزول على حكم الرسول. فقال لهم: انزلوا، وأومأ بيده إلى حلقه، يريد: أن الحكم الذبح، ويقول أبو لبابة: لم أبارح موقفي حتى علمتُ أني خنت الله ورسوله، فنزل من عندهم قاصداً المدينة خجلاً من مقابلة رسول الله، وربط نفسه في سارية من سواري المسجد حتى يقضي الله فيه أمره. ولما سأل عنه عليه الصلاة والسلام أخبر بما فعل، فقال: أما لو جاءني لاستغفرت له، أما وقد فعل ما فعل فنتركه حتى يقضي الله فيه. ثم إن بني قريظة لما لم يروا بدّاً من النزول على حكم رسول الله فعلوا، فأمر برجالهم فكُتِّفوا، فجاءه رجال من الأوس وسألوه أن يعاملهم كما عامل بني قينقاع حلفاء إخوانهم الخزرج، فقال لهم: ألا يرضيكم أن يحكم فيهم رجل منكم؟ فقالوا: نعم. واختاروا سيدهم سعدبن معاذ الذي كان جريحاً من السهم الذي أُصيب به في الخندق، وكان مقيماً بخيمة في المسجد معدّة لمعالجة الجرحى، فأرسل عليه الصلاة والسلام مَنْ يأتي به، فحملوه على حماره، والتفّ عليه جماعة من الأوس يقولون له: أحسن في مواليك، ألا ترى ما فعل ابن أُبَيّ في مواليه؟ فقال رضي الله عنه: لقد
آن لسعد ألاّ تأخذه في الله لومةُ لائم.

ولما أقبل على الرسول وأصحابه وهم جلوس، قال عليه الصلاة والسلام: «قوموا إلى سيّدكم فأنزلوه»، ففعلوا، وقالوا له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاّك أمر مواليك لتحكم فيهم. وقال له الرسول: «احكم فيهم يا سعد». فالتفت سعد للناحية التي ليس فيها رسول الله وقال: عليكم عهدُ الله وميثاقه أن الحكم كما حكمت؟ فقالوا: نعم، فالتفت إلى الجهة التي فيها الرسول وقال: وعلى مَنْ هنا كذلك؟ وهو غاضٌّ طرفه إجلالاً، فقالوا: نعم، فقال: فإني أحكم أن تقتلوا الرجال، وتسبوا النساء والذرية، فقال عليه الصلاة والسلام: «لقد حكمتَ فيهم بحكم الله يا سعد» لأن هذا جزاء الخائن الغادر. ثم أمر بتنفيذ الحكم فنفذ عليهم، وجمعت غنائمهم، فكانت ألفاً وخمسمائة سيف، وثلاثمائة درع، وألفي رمح، وخمسمائة ترس وحَجَفَةٍ، ووجد أثاثاً كثيراً، وآنية، وأَجمالاً نواضِحَ، وشياهاً، فخمَّس ذلك كله مع النخل والسبي للراجل ثلث الفارس، وأعطى النساء اللاتي يُمرضن الجرحى، ووجد في الغنيمة جِرار خمر فأُريقت. وبعد تمام هذا الأمر انفجر جرح سعدبن معاذ فمات رضي الله عنه وأرضاه. كان في الأنصار كأبي بكر في المهاجرين. وقد كان له العزم الثابت في جميع المشاهد التي تقدمت الخندق، وكان عليه الصلاة والسلام يحبه كثيراً وبشّره بالجنة على عظيم أعماله.
وعقب رجوع المسلمين إلى المدينة تاب الله على أبي لُبابة بقوله: وَءاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَءاخَرَ سَيّئاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(102)
وبتمام هذه الغزوة أراح الله المسلمين من شر مجاورة اليهود الذين تعودوا الغدر والخيانة، ولم يبقَ إلا بقية من كبارهم بخيبر مع أهلها وهم الذين كانوا السبب في إثارة الأحزاب. وسيأتي للقارىء قريباً اليوم الذي يعاقبون فيه.

زواج زينب بنت جحش

وفي هذا العام تزوج عليه الصلاة والسلام زينب بنت جحش ــــ وأمها أميمة عمته ــــ بعد أن طلقها مولاه زيدبن حارثة. وكان من أمر زواجها لزيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم خطبها له فتأففَ أهلها من ذلك لمكانها في الشرف العظيم، فإن العرب كانوا يكرهون تزويج بناتهم من الموالي، ويعتقدون أن لا كفؤ مِنْ سواهم لبناتهم، وزيد ــــ وإن كان الرسول تبناه ــــ ولكن هذا لا يُلْحِقه بالأشراف، فلما نزل قوله تعالى في سورة الأحزاب: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً(36) أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} (الأحزاب: 37). وأخفى في نفسه ما أبداه الله، فَبَتَّ الله حكمه بإبطال هذه القاعدة وهي: تحريم زوج المتبنَّى بقوله في سورة الأحزاب: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} (الأحزاب: 37). ثم إن الله حرم التبني على المسلمين لما فيه من الأضرار، وأنزل فيه في سورة الأحزاب: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلَاكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَىْء عَلِيماً(40)

يقول المؤرخون وذوو المقاصد السافلة منهم في هذه القصة أقوالاً لا تجوز إلا ممّن ضاع رشده، ولم يفْقَه حقيقة ما يقول، فإنهم يذكرون أن الرسول توجه يوماً لزيارة زيد فرأى زوجه مصادفة لأن الريح رفعت الستر عنها فوقعت في قلبه، فقال: سبحان الله فلما جاء زوجها ذكرت له ذلك، فرأى من الواجب عليه فراقها، فتوجه وأخبر الرسول بعزمه فنهاه عن ذلك... إلخ. وهذا مما يكذبه أن نساء العرب لم تكن قبل ذلك تعرف ستر الوجوه، وزينب بنت عمته أسلمت قديماً ورسول الله بمكة، فكيف لم يرها، وقد مضى على إسلامها نحو عشر سنوات وهي بنت عمته، إلا حينما رفعت الريح الستر مصادفة، ورسول الله هو الذي زوجها زيداً؟ فلو كان له فيها رغبة حب أو عشق لتزوجها هو ولا مانع يمنعه من ذلك. ومن منّا يتصور السيد الأكرم يقول لقومه إنه مرسل من ربه، ويتلو عليهم صباح مساء أمر الله له بقوله في سورة الحِجْرِ المكية: لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مّنْهُمْ} (الحجر: 88). وفي سورة طه المكية أيضاً: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْواجاً مّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحياةِ الدُّنْيَا} (طه: 131). ثم هو بعد ذلك يدخل بيت رجل من متَّبعيه، وينظر إلى زوجه مصادفة ثم يشتهي زواجها؟ إن هذا لأمر عظيم تشعر بذلك صدورنا. ولو حدث أمر مثل ذلك من أقل الناس لعيب عليه، فكيف بمن اجتمعت كلمة المؤرخين على أنه أحسن الناس خُلُقاً، وأبعدهم عن الدنايا، وأشدّهم ذكاء وفراسة حتى مدحه الله بقوله في سورة ن: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} (الأحزاب: 37). والذي أبداه الله هو زواجه بها، ولم يبدِ غير ذلك وهذا القرآن أعظم شاهد.

الحجاب

وفيه نزلت آية الحجاب وهو خاص بنساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عمربن الخطاب قبل نزول آيته يحبّه ويذكره كثيراً، ويودّ أن ينزل فيه قرآن، وكان يقول: لو أُطَاع فيكن ما رأتكنَّ عين، فنزل في سورة الأحزاب: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْئَلُوهُنَّ مِن وَرَآء حِجَابٍ ذالِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (الأحزاب: 53). فقال بعضهم: أَنُنْهى أن نكلم بنات عمّنا إلا من وراء حجاب؟ لئن مات محمد لأتزوجن عائشة فنزل بعد الآية المتقدمة: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذالِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً} (الأحزاب: 53). أما غير أزواجه عليه الصلاة والسلام من المؤمنات، فأمرن بغضّ الأبصار، وحفظ الفروج، كما أمر بذلك الرجال، وأُمرن ألاّ يبدين زينتهنّ للأجانب إلا ما ظهر منها كالخاتم في الإصبع، والخضاب في اليد، والكحل في العين، أما ما خَفي منها فلا يحلّ إبداؤه كالسوار للذراع، والدُّمْلُج للعضد، والخلخال للرجل، والقِلادة للعنق، والإكليل للرأس، والوشاح للصدر، والقرط للأذن. والمراد بالزينة الظاهرة والخفية موضعها، وأُمرن أيضاً بأن يضربن بخمرهنّ على الجيوب كيلا تبقى صدورهنَّ مكشوفة، فإن النساء إذ ذاك كانت جيوبهنّ واسعة تبدو منها نحورهنّ وصدورهنّ وما حواليها، وكنّ يسدلن الخُمُر من ورائهنّ، ونُهين عن أن يضربن بأرجلهنّ ليعلم أنهنّ ذوات خلخال. وإذا كان النهي عن إظهار صوت الحلي بعدما نهين عن إظهار الحلي، عُلِمَ بذلك أن النهي عن إظهار مواضع الحلي أبلغ وأبلغ، قال تعالى في

سورة النور: {وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءابَآئِهِنَّ أَوْ ءابَآء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرّجَالِ أَوِ الطّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْراتِ النّسَآء وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور: 31). وكان النساء في أول الإِسلام كما كنّ في الجاهلية متبذلات، تبرز المرأة في دِرْع وخمار، لا فرق بين الحُرّة والأَمَة، وكان الفتيان وأهل الشطارة يتعرضون للإماء إذا خرجن بالليل إلى مقاضي حوائجهنّ في النخيل والغيطان، وربما تعرضوا للحُرّة بعلَّة الأَمَة يقولون: حسبناها أَمَةً، فأُمرنَ أن يخالفن بزيهنّ زِيّ الإماء بأن يدنين عليهنّ من جلابيبهنّ ليغطي الوجه والأعطاف ليحتشمن، ويُهَبْن فلا يطمع فيهنّ طامع، قال تعالى في سورة الأحزاب: {يأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لاِزْواجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً(59)

أما حَجْبُ المرأة عمّن يريد خطبتها فهو أمر لم يكن يُفعل في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا في عهد السلف الصالح، فإن الشّارع الحكيم سنّ ذلك ليكون الرجل على علم مما يُقدِم عليه، حتى يتم الوفاق والوئام بين الزوجين في أمر أجمع عليه أئمة الدين.
قال حجة الإسلام الغزالي في «الإحياء»: وقد ندب الشرع إلى مراعاة أسباب الألفة ولذلك استحبّ النظر، فقال: «إذا أوقع الله في نفس أحدكم من امرأة، فلينظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينهما» ــــ أي: يؤلف بينهما ــــ من وقوع الأَدَمَة على الأَدَمة، وهي الجلدة الباطنة، والبشرة: الجلدة الظاهرة، وإنما ذكر ذلك للمبالغة في الائتلاف، وقال عليه الصلاة والسلام: «إن في أعين الأنصار شيئاً فإِذا أراد أحدكم أن يتزوج منهنّ فلينظر إليهنّ» قيل: كان في أعينهنَّ عمش. وقيل: صغر. وكان بعض الصالحين لا ينكحون كرائمهم إلا بعد النظر احترازاً من الغرور، وقال الأعمش: كل تزويج يقع على غير نظر فآخره هم وغم.
ولا يبعد أن يكون فساد الزمن والابتعاد عن التربية الدينية التي تسوق إلى مكارم الأخلاق قد حَسَّنا عند عامة المسلمين في العصور الأولى حجب المرأة مطلقاً حسماً للمفاسد ودَرْءاً للفتنة.

فرض الحج

وفي هذا العام ــــ على ما عليه الأكثرون ــــ فرض الله على الأمة الإسلامية حج البيت من استطاع إليه سبيلاً، ليجتمع المسلمون من جميع الأقطار، فيتجهوا إلى الله ويبتهلوا إليه أن يؤيدهم بنصره ويُعينهم على اتباع دينه القويم. وفي ذلك من تقوية الرابطة واتحاد القلوب ما فيه للمسلمين الفائدة العظمى.

السَّنة السَّادسَة

سرية 1

ولعشر خلون من محرم السنة السادسة، أرسل عليه الصلاة والسلام محمدبن مَسلمة في ثلاثين راكباً لشن الغارة على بني بكربن كلاب الذين كانوا نازلين بناحية ضَرِيَّة، فسار إليهم يكمن النهار ويسير الليل حتى دهمهم فقتل منهم عشرة، وهرب باقيهم، فاستاقت السرية النَّعَمَ والشياه، وعادوا راجعين إلى المدينة، وقد التقوا وهو عائدون بثُمامةبن أُثال الحنفي، من عظماء بني حنيفة، فأسروه وهم لا يعرفونه، فلما أتَوا به رسول الله عرفه وعامله بمنتهى مكارم الأخلاق، فإنه أطلق إساره بعد ثلاث أبي فيها الانقياد للإسلام بعد أن عرض عليه. ولما رأى ثمامة هذه المعاملة، وهذه المكارم، رأى من العبث أن يتبع هواه ويترك ديناً عماده المحامد، فرجع إلى رسول الله وأسلم غير مكره وخاطب الرسول بقوله: يا محمد والله ما كان على الأرض من وجه أبغض إليّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحبّ الدين كله إليّ. والله ما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك، فقد أصبح أحبّ البلاد إليّ.% فسرّ عليه الصلاة والسلام كثيراً بإسلامه لأن من ورائه قوماً يطيعونه. ولما رجع ثُمامة إلى بلاده مَرَّ بمكة معتمراً وأظهر فيها إسلامه، فأرادت قريش إيذاءه، فذكروا احتياجهم لحبوب اليمامة التي منها ثُمامة فتركوه، ومع ذلك فقد حلف هو ألا يرسل إليهم من اليمامة حبوباً حتى يؤمنوا، فجهدوا جداً، ولم يرَوا بدّاً من الاستغاثة برسول الله، فعاملهم عليه الصلاة والسلام بما جُبِل عليه من الشفقة والمرحمة، وأرسل لثمامة أن يُعيد عليهم ما كان يأتيهم من أقوات اليمامة ففعل. وقد كان لهذا الرجل الكريم الأصل قدم راسخة في الإِسلام عقب وفاة الرسول حينما ارتدّ أكثر أهل بلاده، فكان ينهى قومه عن اتباع مُسيلمة، ويقول لهم: إياكم وأمراً مظلماً لا نور فيه، وإنه لشقاء كتبه الله على من اتبعه، فثبت معه كثير من قومه رضي الله عنه.

غزوة بني لِحيان

بنو لحيان هم الذين قتلوا عاصمبن ثابت وإخوانه، ولم يزل رسول الله حزيناً عليهم متشوقاً للقصاص من عدوهم حتى ربيع الأول من هذه السنة، فأمر أصحابه بالتجهّز، ولم يُظهر مقصده كما هي عادته عليه الصلاة والسلام في غالب الغزوات، لتعمى الأخبار عن الأعداء، وولى على المدينة ابن أُم مكتوم، وسار في مائتي راكب معهم عشرون فرساً، ولم يزل سائراً حتى مقتل أصحاب الرجيع، فترحم عليهم ودعا لهم، ولما سمع به بنو لحيان تفرقوا في الجبال، فأقام عليه الصلاة والسلام بديارهم يومين يبعث السرايا فلا يجدون أحداً، ثم أرسل بعضاً من أصحابه ليأتوا عُسْفَان حتى يعلم بهم أهل مكة فُيداخلهم الرعب، فذهبوا إلى كُرَاع الغميم، ثم رجع عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، وهو يقول: «آيبون، تائبون، لربنا حامدون، أعوذ بالله من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في الأهل والمال».

غزوة الغابة

كان للنبي عليه الصلاة والسلام عشرون لِقْحَة ترعى بالغابة، فأغار عليها عُيينةبن حصن في أربعين فارساً واستلبها من راعيها، فجاءت الأخبار رسول الله عليه الصلاة والسلام، والذي بلَّغه هو سَلَمَةُبن الأكوع، أحد رماة الأنصار، وكان عَدّاءً فأمره الرسول بأن يخرج في أثر القوم ليشغلهم بالنبل حتى يدركهم المسلمون، فخرج يشتد في أثرهم حتى لحقهم، وجعل يرميهم بالنبل، فإذا وجّهت الخيل نحوه رجع هارباً، فلا يُلحق، فإذا دخلت الخيل بعض المضايق علا الجبل، فرمى عليها الحجارة حتى ألقوا كثيراً مما بأيديهم من الرماح والأبراد ليخفّفوا عن أنفسهم، حتى لا يلحقهم الجيش، ولم يزل سلمة على ذلك حتى تلاحق به الجيش، فإن الرسول دعا أصحابه فأجابوه، وأول من انتهى إليه المقدادبن عمرو، فقال له: «اخرج في طلب القوم حتى ألحقك» وأعطاه اللواء فخرج، وتبعته الفرسان حتى أدركوا أواخر العدو، فحصلت بينهم مناوشات قتل فيها مسلم ومشركان، واستنقذ المسلمون غالبَ اللقاح، وهرب أوائل القوم بالبقية، وطلب سلمةبن الأكوع من رسول الله أن يرسله مع جماعة في أثر القوم، ليأخذهم على غرّة، وهم نازلون على أحد مياههم، فقال له عليه الصلاة والسلام: «مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ» ثم رجع بعد خمس ليال.

سرية 2

كان بنو أسد الذين مَرّ ذكرهم كثيراً ما يؤذون مَنْ يمرّ بهم من المسلمين، فأرسل لهم عليه الصلاة والسلام عُكَّاشةبن مِحْصَن في أربعين راكباً ليُغير عليهم، ولما قارب بلادهم علموا به فهربوا، وهناك وجدوا رجلاً نائماً فأمّنوه ليدلّهم على نَعَم القوم، فدلّهم عليها فاستاقوها، وكانت مائة بعير ثم قدموا المدينة ولم يلقوا كيداً.

سرية 3

وفي ربيع الأول بلغه عليه الصلاة والسلام أن من بذي القَصّة يريدون الإغارة على نَعَم المسلمين التي ترعى بالهيفاء، فأرسل لهم محمدبن مسلمة في عشرة من المسلمين، فبلغ ديارهم ليلاً، وقد كَمَن المشركون حينما علموا بهم، فنام المسلمون، ولم يشعروا إلا والنبل قد خالطهم، فتواثبوا على أسلحتهم ولكن تغلب عليهم الأعداء فقتلوهم، غير محمدبن مسلمة تركوه لظنهم أنه قُتِل، فعاد إلى المدينة، وأخبر الرسول عليه الصلاة والسلام، فأرسل أبا عبيدة عامربن الجراح في ربيع الآخر ليقتصَّ من الأعداء، فلما وصل ديارهم وجدهم تشتتوا هاربين فاستاق نَعَمَهم ورجع.

سرية 4

عاكَسَ بنو سُليم الذين كانوا من المتحزبين في غزوة الخندق المسلمين في سيرهم، فأرسل عليه الصلاة والسلام زيدَبن حارثة في ربيع الآخر ليُغير عليهم في الجَمُوم فلما بلغوا ديارهم وجدوهم تفرقوا، ووجدوا هناك امرأة من مُزينة دلّتهم على منازل بني سُليم، أصابوا بها نَعَماً وشاءً، ووجدوا رجالاً أسروهم، وفيهم زوج تلك المرأة، فرجعوا بذلك إلى المدينة، فوهب الرسول لهذه المرأة نفسها وزوجها.

سرية 5

بلغ الرسول أن عِيراً لقريش أقبلت من الشام تريد مكة، فأرسل لها زيدبن حارثة في مائة وسبعين راكباً ليعترضها، فأخذها وما فيها وأسر مَن معها من الرجال، وفيهم أبو العاصبن الربيع، زوج زينب بنت رسول الله، وكان من رجال مكة المعدودين تجارة ومالاً وأمانةً، فاستجار بزوجه زينب فأجارته، ونادت بذلك في مجمع قريش، فقال عليه الصلاة والسلام: «المسلمون يد واحدة، يُجير عليهم أدناهم، وقد أجرنا من أجرتِ» وهذا أبلغ ما قيل في المساواة بين أفراد المسلمين وردّ عليه الرسول ماله بأسره لا يفقد منه شيء، فذهب إلى مكة. فأدى لكل ذي حقَ حقَّه، ورجع إلى المدينة مسلماً، فردّ عليه رسول الله زوجه.

سرية 6

وفي جمادى الآخرة أرسل عليه الصلاة والسلام زيدَبن حارثة في خمسة عشر رجلاً، للإغارة على بني ثعلبة، الذين قتلوا أصحاب محمدبن مسلمة وهم مقيمون بالطَّرَفِ. فتوجهت السرية لذلك، ولما رآهم الأعداء ظنوهم طليعة لجيش رسول الله، فهربوا وتركوا نَعَمهم وشاءهم، فاستاقها المسلمون ورجعوا إلى المدينة بعد أربع ليالٍ.

سرية 7

وفي رجب أرسل عليه الصلاة والسلام زيدَبن حارثة، ليُغيرَ على بني فَزَارة لأنهم تعرضوا لزيد وهو راجع بتجارة من الشام، فسلبوا ما معه، وكادوا يقتلونه، فلما جاء المدينة، وأخبر الرسول الخبر، أرسله مع رجاله للقصاص من فَزارة المقيمين في وادي القُرى. فساروا حتى دهموا العدو وأحاطوا بهم، وقتلوا منهم جمعاً كثيراً، وأخذوا امرأة من كبارهم أسيرة، فاستوهبها عليه الصلاة والسلام ممّن أسرها وفدى بها أسيراً كان بمكة.

سرية 8

وفي شعبان أرسل عليه الصلاة والسلام عبد الرحمانبن عوف مع سبعمائة من الصحابة لغزو بني كلب في دُومة الجَنْدل، وقد وصّاهم عليه الصلاة والسلام قبل السفر بقوله: «اغزوا جميعاً في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله، ولا تَغُلُّوا ولا تغدروا ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا وليداً، فهذا عهد الله وسيرة نبيّه فيكم» ثم أعطاه اللواء فساروا على بركة الله حتى حلّوا بديار العدو، فدعوهم إلى الإسلام ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع أسلم رئيس القوم الأَصْبَغبن عمرو النصراني، وأسلم معه جمع من قومه، وبقي آخرون راضين بإعطاء الجزية، فتزوج عبد الرحمان بنت رئيسهم، كما أمره بذلك عليه الصلاة والسلام، وهذه أقرب واسطة لتمكين صلات الودّ بين الأمراء بحيث يهمّ كلاًّ ما يهمّ الآخر، فنِعما هي سياسة السلم والمحبة.

سرية 9

وفي شعبان أرسل عليه الصلاة والسلام عليبن أبي طالب في مائة لغزو بني سعدبن بكر بفَدَك لأنه بلغه أنهم يجمعون الجيوش لمساعدة يهود خيبر على حرب المسلمين مقابل تمر يُعطَونه من تمر خيبر، فسارت السرية، وبينما هم سائرون التقوا بجاسوس للعدوّ، وكانوا قد أرسلوه إلى خيبر ليعقد المعاهدة مع يهودها، فطلبوا منه أن يدلّهم على القوم وهو آمنٌ، فدلهم على موضعهم، فاستاق منه المسلمون نَعَم القوم، وهرب الرعاةُ، فحذَّروا قومهم، فدَاخَلَهم الرعب، وتفرقوا، فرجع المسلمون ومعهم خمسمائة بَعير وألفا شاةٍ، وردّ الله كيدَ المشركين فلم يمدُّوا اليهود بشيء.

قتل أبي رافع

وكان المحرّك لأهل خيبر على حرب المسلمين، وهو سيدهم، أبو رافع سَلاّمبن أبي الحُقيق الملقب بتاجر أهل الحجاز، لما كان له من المهارة في التجارة، وكان ذا ثروة طائلة يُقَلِّبُ بها قلوبَ اليهود كما يريد، فانتدب له عليه الصلاة والسلام مَنْ يقتله، فأجاب لذلك خمسة رجال من الخزرج رئيسهم عبد اللهبن عَتِيْك، ليكون لهم مثل أجر إخوانهم من الأوس الذين قتلوا كعبَبن الأشرف، فإن من نِعم الله على رسوله أن كان الأوس والخزرج يتفاخرون بما يفعلونه من تنفيذ رغبات رسول الله، فلا تعمل الأوسُ عملاً إلا اجتهد الخزرجُ في مثله، فأمرهم الرسول بذلك بعد أن وصَّاهم ألاّ يقتلوا وليداً ولا امرأة، فساروا حتى أتوا خيبر، فقال عبد الله لأصحابه: مكانَكم، فإني منطلقٌ للبوّاب ومتلطِّف له لعلّي أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب، ثم تقنَّع بثوب كأنه يقضي حاجته، وقد دخل الناس، فهتف به البوّاب: ادخل يا عبد الله إن كنت تريد الدخول، فإني أُريد أن أُغلق الباب، فدخل وكَمَن حتى نام البوَّاب، فأخذ المفاتيح، وفتح ليسهُل له الهرب، ثم توجه إلى بيت أبي رافع، وصار يفتح الأبواب التي تُوصل إليه، وكلما فتح باباً أغلقه من الداخل حتى انتهى إليه، فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله، فلم يمكنه تمييزه، فنادى يا أبا رافع قال: من؟ فأهوى بالسيف نحو الصوت فلم يغن شيئاً، وعند ذلك قالت امرأته: هذا صوت ابن عتيك، فقال لها: ثكلتك أُمُّكِ وأين ابن عتيك الآن؟ فعاد عبد الله للنداء مُغيِّراً صوته، قائلاً: ما هذا الصوت الذي نسمعه يا أبا رافع؟ قال: لأمك الويل، إن رجلاً في البيت ضربني بالسيف، فعمد إليه فضربه أخرى لم تُغنِ شيئاً، فتوارى ثم جاءه كالمُغيث وغَيَّر صوته، فوجده مستلقياً على ظهره، فوضع السيف في بطنه، وتحامل عليه حتى سمع صوت العظم، ثم خرج من البيت، وكان نظره ضعيفاً فوقع من فوق السُلَّم فكسرت رجله، فعصَبها بعمامته، ثم انطلق إلى أصحابه، وقال: النجاة، قتِل

والله أبو رافع، فانتهوا إلى الرسول، فحدَّثوه ثم قال لعبد الله: «ابسط رجلك» فمسحها علْيه الصلاة والسلام فكأنه لم يشتَكِها قطّ، وعادت أحسن ما كانت فانظر ــــ رعاك الله ــــ إلى ما كان عليه المسلمون من استسهال المصاعب ما دامت في إرضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرضي الله عنهم وأرضاهم.

سرية 10

ولما قُتل كعبٌ ولّى اليهود مكانه أُسَيربن رِزام، فأرسل عليه الصلاة والسلام مَنْ يستعلم له خبره، فجاءته الأخبار بأنه قال لقومه: سأصنع بمحمد ما لم يصنعه أحدٌ قبلي، أسير إلى غطفان فأجمعهم لحربه، وسعى في ذلك. فأرسل عليه الصلاة والسلام عبد اللهبن رواحة الخزرجي في ثلاثين من الأنصار لاستمالته، فخرجوا حتى قدموا خيبر، وقالوا لأسير: نحن آمنون حتى نعرض عليك ما جئنا له؟ قال: نعم، ولي مثل ذلك، فأجابوه، ثم عرضوا عليه أن يقدم على رسول الله ويترك ما عزم عليه من الحرب فيولِّيه الرسول على خيبر، فيعيش أهلها بسلام، فأجاب إلى ذلك وخرج في ثلاثين يهودياً كلُّ يهودي رديفٌ لمسلم، وبينما هم في الطريق ندم أُسَير على مجيئه، وأراد التخلّص مما فعل بالغدر بمن أمَّنوه فأهوى بيده إلى سيف عبد اللهبن رواحة، فقال له: أغدراً يا عدو الله؟ ثم نزل وضربه بالسيف فأطاح عامّة فخذه، ولم يلبث أن هلك، فقام المسلمون على مَن معه من اليهود فقتلوهم عن آخرهم. وهذه عاقبة الغدر.

قصة عُكْل وعُرَيْنَة

قدِمَ على رسول الله في شوّال جماعة من عُكْل وعُرَيْنَة، فأظهروا الإسلام وبايعوا رسول الله. وكانوا سِقاماً، مصفرةً ألوانهم، عظيمةً بطونهم، فلم يوافقهم هواء المدينة، فأمر لهم عليه الصلاة والسلام بذَوْد من الإبل معها راعٍ، وأمرهم باللحوق بها في مرعاها ليشربوا من ألبانها وأبوالها ففعلوا، ولما تم شفاؤهم جازوا الإحسان كفراً، فقتلوا الراعي ومَثَّلُوا به، واستاقوا الإبل، فلما بلغ ذلك رسول الله أرسل وراءهم كُرزبن جابر الفِهري في عشرين فارساً فلحقوا بهم، وقبضوا على جميعهم، ولما جيء بهم إلى المدينة أمر عليه الصلاة والسلام أن يمثل بهم كما مَثَّلُوا بالراعي، فقُطعت أيديهم وأرجلُهم وسُمِّرَتْ أعينُهم وألقوا بالحرّة حتى ماتوا، فهكذا يكون جزاءُ الخائن الذين لا يُنتظر منه صلاح، وعَمَلُ هؤلاء الشريرين مما يدل على فساد الأصل، ولؤم العشيرة، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عن المُثْلَة.

سرية 11

جلس أبو سفيانبن حرب يوماً في نادي قومه، فقال: ألا رجل يذهب لمحمد فيقتله غدراً فإنه يمشي بالأسواق لنستريحَ منه؟ فتقدم له رجل وتعهد له بما أراد، فأعطاه راحلةً ونفقةً وجهّزه لذلك. فخرج الرجل حتى وصل إلى المدينة صُبْحَ سادسةٍ من خروجه، فسأل عن رسول الله فَدُلَّ عليه وهو بمسجد بني عبد الأشهل، فلما رآه عليه الصلاة والسلام قال: «إن هذا الرجل ليريد غدراً، وإن الله مانعي منه» فذهب لينحني على الرسول، فجذبه أُسيدبن حضير من إزاره، وهنالك سقط الخنجر، فندم الرجلُ على فعلته، ثم سأله عليه الصلاة والسلام عن سبب عمله فصدقه بعد أن توثّق من حفظ دمه، فخلّى عليه الصلاة والسلام سبيله. فقال الرجل: والله يا محمد ما كنت أخافُ الرجال، فما هو إلا أَنْ رأيتك فذهب عقلي وضعفت نفسي، ثم إنك اطّلعت على ما هَممتُ به مما لم يعلمه أحد، فعرفتُ أنك ممنوع، وأنك على حق، وأن حزب أبي سفيان حزبُ الشيطان، ثم أسلم. وعند ذلك أرسل عليه الصلاة والسلام عمروبن أمية الضَّمْرِي، وكان رجلاً جريئاً فاتكاً في الجاهلية، وأصحبه برفيق، ليقتلا أبا سفيان غيلة جزاء اعتدائه، فلما قدما مكة توجها ليطوفا بالبيت قبل أن يؤديا ما أرسلا له، فعرف عَمْراً أحدُ رجال مكة، فقال: هذا عمروبن أُميّة ما جاء إلا بشر، فلما رآهم علموا به لم يجد مناصاً من الهرب، فاصطحب معه رفيقه، ورجعا إلى المدينة، وكأَنَّ الله سبحانه أراد أن يعيش أبو سفيان حتى يُسَلِّمَ بيده مفاتيحَ الكعبة للمسلمين، ويعتنق الدين الحنيفي القويم.

غزوة الحُدَيْبيَة

رأى عليه الصلاة والسلام في نومه أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام آمنين محلِّقين رؤوسَهم ومقصِّرين، فأخبر المسلمين أنه يريد العمرة، واستنفر الأعراب الذين حول المدينة ليكونوا معه، حذراً من أن تردّهم قريش عن عمرتهم، ولكن هؤلاء الأعراب أبطؤوا عليه لأنهم ظنوا ألاّ ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً، وتخلَّصوا بأن قالوا: شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا، فخرج عليه الصلاة والسلام بمن معه من المهاجرين والأنصار تبلغ عدّتهم ألفاً وخمسمائة، وولى على المدينة ابن أُم مكتوم، وأخرج معه زوجه أم سلمة، وأخرج الهَدْيَ ليعلم الناس أنه لم يأت محارباً، ولم يكن مع أصحابه شيء من السلاح إلا السيوف في القُرُب، لأن الرسول لم يرضَ أن يحملوا السيوف مجردة وهم معتمرون، ثم سار الجيش حتى وصل عُسْفان فجاءه عينه يخبره أن قريشاً أجمعت رأيها أن يصدّوا المسلمين عن مكة وألاّ يدخلوها عليهم عَنْوةً أبداً. وتجهزوا للحرب، وأعدّوا خالدبن الوليد في مائتي فارس طليعة لهم ليصدّوا المسلمين عن التقدم، فقال عليه الصلاة والسلام: «هل من رجل يأخذ بنا على غير طريقهم؟» فقال رجل من أسلم: أنا يا رسول الله. فسار بهم في طريق وعرة، ثم خرج بهم إلى مستوٍ سهل يملك مكة من أسفلها، فلما رأى خالد ما فعل المسلمون رجع إلى قريش وأخبرهم الخبر. ولما كان عليه الصلاة والسلام بثنيّة المُرَار بركت ناقته. فزجروها فلم تقم، فقالوا: خلأَتِ القَصْوَاء، فقال عليه الصلاة والسلام: «ما خلأت وما ذلك لها بخُلق، ولكن حبسها حابسُ الفيل. والذي نفسُ محمد بيده لا تدعوني قريش لِخَصْلَة فيها تعظيمُ حرمات الله إلا أجبتهم إليها» مع أن المسلمين لو قاتلوا أعداءهم في مثل هذا الوقت لظفروا بهم، ولكن كَفَّ الله أيدي المسلمين عن قريش، وكَفَّ أيدي قريش عن المسلمين كيلا تُنتهك حُرمات البيت الذي أراد الله أن يكون حرماً آمناً، ويوطد المسلمون من جميع الأقطار دعائمَ أخوتهم

فيه. ثم أمرهم عليه الصلاة والسلام بالنزول أقصى الحديبية وهناك جاء بُدَيلبن وَرْقَاء الخُزاعي رسولاً من قريش، يسأل عن سبب مجيء المسلمين، فأخبره عليه الصلاة والسلام بمقصده، فلما رجع بُديل إلى قريش وأخبرهم بذلك، لم يثقوا به لأنه من خزاعة الموالية لرسول الله كما كانت كذلك لأجداده، وقالوا: أيريد محمدٌ أن يدخل علينا في جنوده معتمراً تسمع العرب أنه قد دخل علينا عنوة، وبيننا وبينهم من الحرب ما بيننا؟ والله لا كان هذا أبداً ومنا عَيْن تَطْرف. ثم أرسلوا حُلَيْسَبن علقمة سَيِّد الأحابيش وهم حلفاء قريش، فلما رآه عليه الصلاة والسلام قال: «هذا مِنْ قوم يعظّمون الهدْي، ابعثوه في وجهه حتى يراه»، ففعلوا، واستقبله الناس يُلَبُّون، فلما رأى ذلك حُلَيْس رجع، وقال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدُّوا. أتحجُّ لخم وجذام وحمير، ويُمنع عن البيت ابن عبد المطلب؟ هلكْت قريش، وربِّ البيت إن القوم أَتَوا معتمرين.

فلما سمعت قريش منه ذلك قالوا له: اجلسْ إنما أنت أعرابي لا علم لك بالمكايد، ثم أرسلوا عُرْوَةَبن مسعود الثقفي سيد أهل الطائف فتوجه إلى رسول الله، وقال: يا محمد قد جمعتَ أوباشَ الناس، ثم جئت إلى أهلك وعشيرتك لِتَفُضَّها بهم إنها قريش قد خرجت تعاهد الله ألا تدخلها عليهم عَنْوة أبداً. وايمُ الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك. فنال منه أبو بكر، وقال: نحن ننكشف عنه؟ ويحك

وكان عروة يتكلم وهو يمسّ لحية رسول الله، فكان المغيرةبن شعبة يقرع يده إذا أراد ذلك، ثم رجع عروة وقد رأى ما يصنع بالرسول أصحابه، لا يتوضأ وضُوءاً إلا كادوا يقتتلون عليه يتمسحون به، وإذا تكلموا خَفَضوا أصواتهم عنده، ولا يُحِدُّون النظر إليه. فقال: والله يا معشر قريش جئتُ كسرى في ملكه وقيصرَ في عظمته، فما رأيتُ مَلِكاً في قومه مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قوماً لا يُسلمونه لشيء أبداً، فانظروا رأيكم، فإنه عرض عليكم رشداً فاقبلوا ما عرض عليكم، فإني لكم ناصح، مع أني أخاف ألا تنصروا عليه. فقالت قريش: لا تتكلم بهذا، ولكن نردّه عامنا ويرجع إلى قابل. ثم إن الرسول اختار عثمانبن عفان رسولاً من عنده إلى قريش حتى يعلمهم مَقْصِده، فتوجَّه وتوجَّه معه عشرة استأذنوا الرسول في زيارة أقاربهم، وأمر عليه الصلاة والسلام عثمان أن يأتي المستضعفين من المؤمنين بمكة فيبشرهم بقرب الفتح وأنَّ اللّه مُظِهر دينه، فدخل عثمان مكة في جوار أبَانبن سعيد الأموي فَبَلَّغ ما حمل، فقالوا: إن محمداً لا يدخلها علينا عَنْوة أبداً. ثم طلبوا منه أن يطوف بالبيت، فقال: لا أطوف ورسول الله ممنوع، ثم إنهم حبسوه، فشاعَ عند المسلمين أن عثمان قُتِلَ، فقال عليه الصلاة والسلام حينما سمع ذلك: «لا نبرح حتى نُناجزهم الحرب».

بيعة الرضوان

ودعا الناسَ للبيعة على القتال فبايعوه تحت شجرة هناك ــــ سميت بعد بشجرة الرضوان ــــ على الموت، فشاعَ أمر هذه البيعة في قريش فداخلهم منها رعب عظيم، وكانوا قد أرسلوا خمسين رجلاً عليهم مكرزُبن حفص ليطوفوا بعسكر المسلمين لعلهم يصيبون منهم غِرَّة، فأسرهم حارس الجيش محمدبن مسلمة وهرب رئيسهم، ولما علمت بذلك قريش جاء جمع منهم وابتدؤوا يناوشون المسلمين حتى أسر منهم اثنا عشر رجلاً وقُتل من المسلمين واحد.

صلح الحُدَيبية

وعند ذلك خافت قريش وأرسلت سهيل بنَ عَمْرو للمكالمة في الصلح، فلما جاء قال: يا محمد إن الذي حصل ليس من رأي عقلائنا بل شيء قام به السفهاء منّا فابعث بمن أسرت، فقال: حتى ترسلوا مَنْ عندكم. وعندئذٍ أرسلوا عثمان والعشرة الذين معه، ثم عرض سهيل الشروط التي تريدها قريش وهي:
1 ــــ وضع الحرب بين المسلمين وقريش عشر سنوات.
2 ــــ من جاء المسلمين من قريش يردّونه، ومن جاء قريشاً من المسلمين لا يلزمون بردّه.
3 ــــ أن يرجع النبي من غير عمرة هذا العام، ثم يأتي العام المقبل فيدخلها بأصحابه بعد أن تخرج منها قريش، فيقيم بها ثلاثة أيام ليس مع أصحابه من السلاح إلا السيف في القراب والقوس.
4 ــــ من أراد أن يدخل في عهد محمد من غير قريش دخل فيه، ومن أراد أن يدخل في عهد قريش دخل فيه.
فقبل عليه الصلاة والسلام كل هذه الشروط. أما المسلمون فداخلهم منها أمر عظيم وقالوا: سبحان الله كيف نَرُدُّ إليهم من جاءنا مسلماً، ولا يردّون مَنْ جاءهم مُرْتداً؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «إنه من ذهب منّا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم فرددناه إليهم فسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً».Y

أما الأمر الثالث: وهو صدُّ المسلمين عن الطواف بالبيت فكان أشد تأثيراً في قلوبهم، لأن الرسول أخبرهم أنه رأى في منامه أنهم دخلوا البيت آمنين، وقد سأل عمر أبا بكر في ذلك فقال رضي الله عنه: وهل ذكر أنه في هذا العام؟ ثم كتبت شروط الصلح بين الطرفين، وكان الكاتب عليبن أبي طالب، فأملاه عليه الصلاة والسلام: «بسم الله الرحمان الرحيم». فقال سُهيل: اكتب باسمك اللهمّ، فأمره الرسول بذلك، ثم قال: «هذا ما صالح عليه محمد رسول الله» فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله ما خالفناك، اكتب محمدبن عبد الله. فأمر عليه الصلاة والسلام عليّاً بمحو ذلك وكتابة محمدبن عبد الله، فامتنع، فمحاها النبي بيده، وكتبت نسختان نسخة لقريش ونسخة للمسلمين.

وبعد كتابة الشروط جاءهم أبو جَنْدلبن سُهيل يَحْجِلُ في قيوده، وكان من المسلمين الممنوعين من الهجرة، فهرب للمسلمين هذه المرة ليحموه، فقال عليه الصلاة والسلام: «اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرَجاً ومخرجاً، إنَّا قد عقدنا بين القوم صُلحاً وأعطيناهم وأعطونا على ذلك عهداً فلا نغدر بهم».
هذا، وقد دخلت قبيلة خُزاعة في عهد رسول الله ودخل بنو بكر في عهد قريش.

ولما انتهى الأمر، أمر عليه الصلاة والسلام أصحابه أن يحلقوا رؤوسهم، وينحروا الهدْي ليتحلَّلوا من عمرتهم، فاحتمل المسلمون من ذلك همَّاً عظيماً، حتى إنهم لم يبادروا بالامتثال، فدخل عليه الصلاة والسلام على أُم المؤمنين، أُم سلمة، وقال لها: «هلك المسلمون أمرتهم فلم يمتثلوا»، فقالت: يا رسول الله اعذرهم، فقد حمَّلت نفسك أمراً عظيماً في الصلح، ورجع المسلمون من غير فتح فهم لذلك مكروبون، ولكن اخرجْ يا رسول الله وابدأهم بما تريد فإذا رأوْكَ فعلت تبعوك، فتقدم عليه الصلاة والسلام إلى هَدْيِهِ فنحره ودعا بالحلاّق فحلق رأسه، فلما رآه المسلمون تواثبوا على الهدي فنحروه وحلقوا، ثم رجع المسلمون إلى المدينة، وقد أمن كلّ فريق الآخر. ولما قرَّ قرارهم جاءتهم مهاجرة أُم كلثوم بنت عقبةبن أبي معيط، أخت عثمان لأمه، فطلبها المشركون فقالت: يا رسول الله إني امرأة، وإن رجعت إليهم فتنوني في ديني، فأنزل الله في سورة الممتحنة: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا جَآءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَءاتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْئَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(10)

وقد تمكن أبو بصير عتبةبن أسيد الثقفي ــــ رضي الله عنه ــــ من الفرار إلى رسول الله، فأرسلت قريش في أثره رجلين يطلبان تسليمه، فأمره عليه الصلاة والسلام بالرجوع معهما، فقال: يا رسول الله أتردّني إلى الكفار يفتنوني في ديني بعد أن خلّصني الله منهم؟ فقال: «إن الله جاعل لك ولإخوانك فرجاً»، فلم يجد بداً من اتّباعه، فرجع مع صاحبيه، ولما كان بذي الحُلَيفة عدا على أحدهما فقتله، وهرب منه الآخر، فرجع إلى المدينة وقال: يا رسول الله وفَتْ ذمتك، أما أنا فنجوت، فقال له: «اذهب حيث شئت ولا تُقِمْ بالمدينة» فذهب إلى محل بطريق الشام تمرّ به تجارة قريش، فأقام به واجتمع معه جمع ممّن كانوا مسلمين بمكة ونَجوا، وسار إليه أبو جندلبن سهيل، واجتمع إليه جمع من الأعراب، وقطعوا الطريق على تجارة قريش حتى قطعوا عنهم الأمداد، فأرسل رجال قريش لرسول الله يستغيثون به في إبطال هذا الشرط ويعطونه الحق في إمسَاك من جاءه مسلماً، فقبل منهم ذلك، وأزاح الله عن المسلمين هذه الغمّة التي لم يتمكنوا من تحمّلها في الحديبية حينما أمرهم عليه الصلاة والسلام بردّ أبي جندل، وعلموا أن رأي رسول الله أفضل وأحسن من رأيهم حيث كان فيه أمن تسبب عنه اختلاط الكفار بالمسلمين، فخالطت بشاشة الإسلام قلوبهم حتى قال أبو بكر رضي الله عنه: ما كان فتح في الإسلام أعظمَ من فتح الحديبية ولكن الناس قصر رأيهم عمّا كان بين محمد وربِّه، والعبادُ يَعْجَلُون، والله لا يَعْجَلُ لعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد.

وفي رجوعه عليه الصلاة والسلام من الحديبية نزلت عليه سورة الفتح، وقال سبحانه في أولها: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} (الفتح:1) وفي تسمية هذه الغزوة بالفتح المبين تصديق لما قدّمنا لك عن الصدِّيق.

عن الكاتب

A. Fatih Syuhud

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية