الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

كتاب الكفاية في التفسير بالمأثور والدراية تأليف عبد الله خضر حمد

الكفاية في التفسير بالمأثور والدراية تأليف عبد الله خضر حمد

الكتاب الكفاية في التفسير بالمأثور والدراية
المؤلف د. عبد الله خضر حمد
الناشر دار القلم، بيروت - لبنان
الطبعة الأولى، 1438 هـ - 2017 م
عدد الأجزاء 8
عدد الصفحات: ٨٨٢
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
الموضوع: علوم القرأن
رقم الصفحة المقتبسة:  3 - 150
 

فهرس الموضوعات

  1. المقدمة
  2. المنهج في التفسير
  3. الفصل الأول مهاد عام حول علوم القرآن
    1. توطئة
    2. القرآن في اللغة
    3. فوائد معرفة علوم القرآن
  4. القرآن لغة واصطلاحا
  5. ١ - تعريف القرآن لغة
  6. ٢ - تعريف القرآن في الاصطلاح
  7. شرح محترزات وقيود التعريف
  8. أولا: - مفهوم الوحي
    1. الوحي لغة
    2. الوحي في الاصطلاح الشرعي
    3. أنواع الوحي الإلهي
    4. أنواع الوحي
    5. الفرق بين الوحي والإلهام
    6. النبي والرسول والفرق بينهما
    7. شبه الجاحدين للوحي والرد عليها
  9. ثانيا: - نزول القرآن
  10. يطلق الإنزال في اللغة على معنيين
    1. إنزال القرآن فيها توجيهان
    2. تنزلات القرآن الكريم
  11. الحكمة من تنجيم القرآن
    1. الحكمة الأولى: تثبيت فؤاد النبي
    2. الحكمة الثانية: التدرج في التشريع
    3. الحكمة الثالثة: بيان بلاغة القرآن الكريم فقد نزل مفرقا في ثلاثة وعشرين عاما
    4. الحكمة الرابعة: مسايرة الحوادث والطوارئ في تجددها وتفرقها
    5. الحكمة الخامسة: : تنبيه المسلمين من وقت لآخر لأخطائهم التي وقعوا فيها وكيفية تصحيحها
    6. الحكمة السادسة: توثيق وقائع السيرة النبوية المباركة والتاريخ
    7. الحكمة السابعة: معرفة الناسخ والمنسوخ
    8. الحكمة الثامنة: تفضيل القرآن الكريم على غيره من الكتب السماوية
  12. وقت نزول القرآن الكريم
  13. ١ - الآيات والسور المتفق على نزولها ليلا
    1. أولا: أواخر آل عمران
    2. ثانيا: آيات الثلاثة الذين خلفوا من سورة التوبة
    3. ثالثا: أول سورة الفتح
    4. رابعا: صدر سورة العلق
    5. خامسا وسادسا: المعوذتان
  14. ٢ - الآيات والسور المختلف في نزولها ليلا
    1. أولا: آيات تحويل القبلة
    2. ثانيا: آية {اليوم أكملت لكم دينكم}
    3. ثالثا: {والله يعصمك من الناس} من سورة المائدة
    4. رابعا: سورة الأنعام
    5. خامسا: سورة مريم
    6. سادسا: أول الحج
    7. سابعا: آية الإذن في خروج النسوة في الأحزاب
    8. ثامنا: قوله تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}
    9. تاسعا: سورة المنافقون
    10. عاشرا: سورة المرسلات
  15. مدة نزول القرآن الكريم
  16. يوم إنزال القرآن
  17. شهر إنزال القرآن الكريم
  18. مقدار التنزيل
  19. ثالثا: - مراحل جمع القرآن الكريم وترتيبه
    1. جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-
    2. جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه
  20. رابعا: - المكي والمدني
    1. للعلماء في معنى المكي والمدني ثلاثة اصطلاحات
    2. الاصطلاح الأول: باعتبار المكان
    3. الاصطلاح الثاني: باعتبار المخاطب
    4. الاصطلاح الثالث: باعتبار زمن النزول
  21. الطريق إلى معرفة المكي والمدني
  22. المنهج الأول: السماعي النقلي
  23. المنهج الثاني: القياس الاجتهادي
    1. أولا: ضوابط القرآن المكي هي
    2. ثانيا: مميزات القرآن المكي
    3. ثالثا: ضوابط القرآن المدني
    4. رابعا: - مميزان القرآن المدني
  24. وللسور المدنية مميزات، منها
  25. فوائد معرفة المكي والمدني
  26. خامسا: - أسباب النزول
    1. طريق معرفة سبب النزول
  27. أقسام أسباب النزول
  28. فوائد معرفة سبب النزول
    1. ١- الاستعانة على فهم الآية وإزالة الإشكال عنها
    2. ٢ - معرفة الحكمة من تدرج التشريع
    3. ٣ - العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
  29. سادسا: - المحكم والمتشابه في القرآن الكريم
  30. سابعا- الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم
    1. أهمية النسخ في التفسير
  31. ثامنا: - القراءات
    1. القراءات لغة واصطلاحا
    2. نشأة القراءات
    3. والأحاديث المتواترة الواردة حول نزول القرآن على سبعة أحرف تدل على ذلك
    4. أقسام القراءات وبيان ما يقبل منها ومالا يقبل
    5. فوائد اختلاف القراءات
  32. التعريف بالقراء الأربعة عشر ورواتهم
  33. أولا: القراء العشرة ورواتهم
    1. ١ - ابن عامر
    2. ٢ - ابن كثير
    3. ٣ - عاصم
    4. ٤ - أبو عمرو
    5. ٥ - حمزة
    6. ٦ - نافع
    7. ٧ - الكسائى
    8. ٨ - أبو جعفر
    9. ٩ - يعقوب
    10. ١٠ - خلف
  34.  السبب الداعى للاقتصار على القراء المشهورين
  35. ثانيا: القراء الأربعة تتمة الأربعة عشر
    1. ١ - أبو الحسن البصرى
    2. ٢ - ابن محيصن
    3. ٣ - يحيى اليزيدى
    4. ٤ - الأعمش
  36. حكم ما وراء القراءات العشر
  37. تاسعا: - الإسرائيليات
    1. أسباب دخول الإسرائيليات في المجتمع الإسلامي
    2. حكم الإسرائيليات
  38. عاشرا: تفسير القرآن وشرفه
  39. المنهج الأمثل في تفسير القرآن
    1. ١ - تفسير القرآن بالقرآن
    2. ٢ - تفسير القرآن بالسنة
    3. ٣ - الانتفاع بتفسير الصحابة والتابعين
    4. ٤ - الأخذ بمطلق اللغة
    5. ٥ - مراعاة السياق
    6. ٦ - الاهتمام بعلوم القرآن إجمالا وخاصة سبب النزول
    7. ٧ - اعتبار القرآن أصلا يرجع إليه
  40. حادي عشر: - إعجاز القرآن
    1. أ- الإعجاز البياني
    2. ب- الإعجاز التشريعي
    3. ومن نماذج من الإعجاز التشريعي
    4. ت- الإعجاز العلمي
  41. الثاني عشر: ترجمة القرآن الكريم بغير لغته
  42. أقسام الترجمة
    1. أولا: الترجمة الحرفية
    2. ثانيا: الترجمة المعنوية والتفسيرية
  43. موقف العلماء من ترجمة القرآن الكريم
  44. أولا: الترجمة الحرفية لا تجوز وذلك
  45. ثانيا: الترجمة التفسيرية أو المعنوية
    1. شروط الترجمة
  46. الثالث عشر: فضائل القرآن
  47. الفصل الثاني
  48. أولا: - أنواع التفسير
  49. ١ - التفسير بالمأثور (بالرواية)، وأقسامه
  50. أقسام التفسير بالرواية
    1. أ- تفسير القرآن بالقرآن
    2. ب- تفسير القرآن بالسنة
    3. ت- تفسير القرآن بقول الصحابي
    4. ث- تفسير القرآن بقول التابعي
  51. أشهر تفاسير القرن الثالث والرابع
  52. ومن هذه التفاسير الموسوعية أيضا
  53. ٢ - التفسير بالدراية
  54. ٣ - التفسير الإشاري
  55. آراء العلماء التي نسترشد بها في تحديد شروط قبول التفسير الإشاري
    1. ١ - رأى ابن الصلاح
    2. ٢ - رأى الشاطبى
    3. ٣ - رأى تاج الدين بن عطاء الله
    4. ٤ - رأى حاجى خليفة
    5. ٥ - رأى سعد الدين التفتازانى
    6. ٦ - رأى محى الدين ابن عربي
    7. ٧ - رأي أبي حامد الغزالي
    8. ٨ - رأي الأستاذ محمد عبد العظيم الرزقانى
    9. ٩ - رأي الأستاذ محمد حسين الذهبي
    10. ١٠ - رأي الدكتور محمد كمال جعفر
    11. أمثلة على التفسير الإشاري
  56. ثانيا: - اتجاهات التفسير
    1. ١ - الاتجاه اللغوي
    2. ٢ - الاتجاه العلمي
    3. ٣ - الاتجاه الموضوعي
    4. ٤ - الاتجاه الفقهي
    5. ٥ - الاتجاه البلاغي
  57. أهمية التفسير البلاغي
    1. ١ - الوقوف على معجزة القرآن الكريم البلاغية التي تحدى بها الله تعالى العرب
    2. ٢ - توجيه التفسير للألفاظ والجمل القرآنية بما يرفع الإشكال ويوضح المعنى
    3. ٣ - فهم المعاني القرآنية من خلال معرفة القرائن وسياق النص ولهجات العرب
    4. ٤ - إثراء المعاني للألفاظ والجمل التي ظاهرها التماثل والتشابه
  58. خاتمة التمهيد
  59. أهم النتائج التي توصلنا إليها من هذا التمهيد
  60. العودة إلي علوم القرأن
 
المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل، فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: ١٠٢] . {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا] [النساء: ١] . يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: ٧٠، ٧١] .

أما بعد:

يعد تفسير القرآن الكريم الركيزة المهمة لدارسي العلوم الإسلامية، والدراسات المرتكزة عليها، كالدراسات الاسلامية، والثقافة الإسلامية ... الخ، والتفسير هو فهم القرآن الكريم، وفق إحدى مدارس المفسرين، كالمدرسة اللغوية، والمدرسة الموضوعية، والمدرسة اإلعجازية، وتفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بالسنّة النبوية، إلى غيرها من المدارس الأخرى، وتؤكد نتائج الدراسات التي أجريت أخيراً حول موضوع تفسير القرآن ومصادره، كدراسة عبد العليم صبّاح (١٩٩٩) ، ودراسة محمد عبد النبي محمود (٢٠٠٤) ، وغيرها من الدراسات بأن دراسة التفسير لها أهمية كبيرة للطلبة في كافة مراحل التعليم، سواء على الصعيد الجامعي، أو التعليم في الدراسات العليا، وأكدّت هذه الدراسات على أن للتفسير دوراً كبيراً في فهم مقصود المولى - عز وجل - في آياته في كافة الوقائع واألحداث، كما أشارت دراسة عبد الوافي المعلم (١٩٩٧) ، بأن عن طريق دراسة تفسير القرآن الكريم يمكن الوقوف على بعض الألفاظ الغريبة في القرآن الكريم، ومعرفة أسباب نزول الآيات القرآنية الكريمة.

وقد أفرد الإمام القرطبي في مقدمة تفسيره باباً سمّاه: "باب ما جاء في إعراب القرآن وتعليمه والحث عليه، وثواب من قرأ القرآن معرباً" [١]، ضمنه مجموعة من الأحاديث والأخبار التي تدل في مجموعها على تفضيل من قرأ القرآن معرباً وذم اللحن فيه وذلك "صوناً من تحريف الكلم عن مواضعه ودرءاً للخروج على مراد اهلل تبارك وتعالى" [٢].

(١) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي: ١/ ٢٣.

(٢) مدرسة التفسير في الأندس، مصطفى إبراهيم المشني، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ط ١، ١٩٨٦، ص: ٣٩٣.

ومن الأحاديث والأخبار في هذا الشأن ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه" [١].

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما: "جوّدوا القرآن وزينوه بأحسن الأصوات، وأعربوه فإنه عربي، والله يحب أن يعرب به" [٢].

وقال أبو بكر [٣]، وعمر [٤] رضي الله عنهما: "لبعض إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ حروفه" [٥].

وقال ابن عمر: "أعربوا القرآن" [٦].

قال السيوطي: "والمقصود من الإعراب في هذه النصوص ليس ما اطلع به علماء النحو، وإنما المقصود تفسير ألفاظه وتوضيح معانيه وبيان غريبه" [٧].

فالواجب على العلماء الكشف عن معاني كلام الله، وتفسير ذلك، وطلبه من مظانه، وتَعلُّم ذلك وتعليمه، كما قال تعالى: [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ] [آل عمران: ١٨٧] ، وقال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] [آل عمران: ٧٧] .

فذمّ الله تعالى أهل الكتاب قبلنا بإعراضهم عن كتاب الله إليهم، وإقبالهم على الدنيا وجمعها، واشتغالهم بغير ما أمروا به من اتباع كتاب الله، فعلينا أن ننتهي عما ذمَّهم الله تعالى

(١) أخرجه ابن أبي شيبة (٦/ ١١٦) ، وأبو يعلى الموصلي (٦٥٦٠) : ص ١١/ ٤٣٦، والحاكم: ٢/ ٤٧٧، والبيهقي في شعب الإيمان: ٣/ ٥٤٨. وإسناده ضعيف.

(٢) النشر ١/ ٢١٠، وانظره في "الوجيز" للقرطبي ص ٨٨، ويؤيده ما رُوي عن البراء بن عازب من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "زينوا القرآن بأصواتكم" وهو صحيح الإسناد. أخرجه أحمد ٤/ ٢٨٥، ٢٩٦، ٣٠٤، وأبو داود ٢/ ٧٤، برقم: ١٤٦٨، والنسائي ٢/ ١٧٩، ١٨٠، برقم: ١٠١٥، ١٠١٦، وابن ماجه ١/ ٤٢٦، برقم: ١٣٤٢، والدارمي ٢/ ٥٦٥، برقم: ٣٥٠٠، والحاكم في المستدرك ١/ ٥٧١ - ٥٧٥، والطيالسي في مسنده، انظر: منحة المعبود ٢/ ٣، برقم: ١٨٨٦.

(٣) هو: أبو بكر عبد الله بن أبي قحافة بن عامر، خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأفضل الأمة، وأحد المبشرين بالجنة، هو أشهر من أن يعرف. توفي سنة (١٣ هـ) وله (٦٣) سنة. وسيرته ومناقبه في أغلب كتب التاريخ، أفرد له المحب الطبري مجلدا خاصا من أربعة مجلدات في ترجمته للعشرة المبشرين بالجنة في كتابه المسمى (الرياض النضرة) . [انظر: تذكرة الحفاظ: ١\ ٤، وشذرات الذهب: ١\ ٢٤] .

(٤) هو: عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح. لقبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالفاروق، وتولى الخلافة بعد أبي بكر الصديق، ولقب بأمير المؤمنين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة. قتله أبو لؤلؤة المجوسي غلام المغيرة سنة ٢٣ هـ، وعمره (٦٣) سنة. [انظر: تذكرة الحفاظ: ١\ ٨، وشذرات الذهب: ١\ ٣٣] .

(٥) حكاه عنهما القرطبي في تفسيره: ١/ ٢٣، ولم أجده بهذا اللفظ وإنما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري فقال: ''أما بعد: فتفقهوا في السنة وتفقهوا في العربية وأعربوا القرآن فإنه عربي فتمعددوا فإنكم معديون''. أ. هـ. أي تشبهوا بجدكم معد بن عدنان، انظر: المصنف (١٠\ ٤٥٦) .

(٦) أخرجه أبو علي الصواف في "الفوائد" (٣/ ١٦١/٢) وأبو علي الهروي في "الأول من الثاني من الفوائد" (١٨/ ٢) عن ليث عن طلحة بن مصرف عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله مرفوعا وإسناده ضعيف. انظر: السلسلة الضعيفة والموضوعة، للألباني: ٣/ ٥٢١.

(٧) الإتقان، السيوطي: ٢/ ٢٢٤.

به، وأن نأتمر بما أمرنا به، من تَعَلُّم كتاب الله المنزل إلينا وتعليمه، وتفهمه وتفهيمه، قال الله تعالى: [أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نزلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] [الحديد: ١٦، ١٧] . ففي ذكره تعالى لهذه الآية بعد التي قبلها تنبيه على أنه تعالى كما يحيي الأرض بعد موتها، كذلك يلين القلوب بالإيمان بعد قسوتها من الذنوب والمعاصي، والله المؤمل المسؤول أن يفعل بنا ذلك، إنه جواد كريم.

المنهج في التفسير

المنهج لغة: نَهَجَ: الطريق الواضح و (المَنْهَجُ) و (المِنْهَاجُ) مثله و (نَهَجَ) الطريق (يَنْهَجُ) بفتحتين (نُهُوجًا) وضح واستبان و (أَنْهَجَ) بالألف مثله و (نَهَجْتُهُ) و (أَنْهَجْتُهُ) أوضحته يستعملان لازمين ومتعديين [١] نهج النهج: الطريق الواضح، وكذلك المنهج والمنهاج. وأنهج الطريق، أي استبان وصار نهجا واضحا بينا، قال يزيد بن الخذاق العبدى [٢]:

ولَقَدْ أَضَاءَ لَكَ الطَّرِيقُ وأَنْهجَتْ ... سُبُلُ المَسَالكِ والهُدَى يُعْدِي

ونهجت الطريق، إذا أبنته وأوضحته، يقال: اعمل على ما نهجته لك، ونهجت الطريق أيضا، إذا سلكته. وفلان يستنهج سبيل فلان، أي يسلك مسلكه [٣]، وفي التنزيل {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (المائدة: ٤٨) [٤].

والمنهج اصطلاحاً: هو فن التنظيم الصحيح لسلسلة من الأفكار العديدة، إما من أجل الكشف عن حقيقة حين نكون بها جاهلين، وإما من أجل البرهنة عليها للآخرين حين نكون بها عارفين "[٥] وهذا تعريف عام لمنهج البحث العلمي والتعريف الاصطلاحي العام هو قريب من التعريف اللغوي لأن كليهما يعتمد على التوضيح والاستبانة للطريق."

ويعرف المنهج بأنه "أداة التربية ووسيلتها، وهو ذلك الطريق الواضح الذي يسلكه المربي أو المدرس مع مَنْ يربيهم لتنمية معارفهم، ومهاراتهم، واتجاهاتهم، أو هو مجموع الخبرات التربويّة، والثقافيّة، والاجتماعيّة، والرياضيّة، والفنيّة، التي يهيئها المدرس لتلاميذه داخل المدرسة وخارجها بقصد مساعدتهم على النّمو الشامل في جميع النواحي وتعديل سلوكهم طبقاً لأهدافها التربويّة" [٦].

(١) مصباح المنير ٢/ ٦٢٧.

(٢) ديوان المفضليات، المفضل الضبي، تحقيق: احمد شاكر وعبدالسلام محمد هارون، دار المعرف، ط ٦: ١/ ٢٩٦.

(٣) صحاح تاج اللغة وصحاح العربية. تأليف: إسماعيل بن حماد الجوهري. تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار. الناشر: دار العلم للملايين - بيروت. الطبعة: الرابعة ١٤٠٧ هـ‍- ١٩٨٧ م. ١/ ٣٤٦، وابن منظور، لسان العرب (٢/ ٣٨٣) .

(٤) ابن منظور، لسان العرب (٢/ ٣٨٣) .

(٥) عبد الفتاح خضر، أزمة البحث العلمي في العالم العربي ص ١٢.

(٦) فلسفة التّربية: د. الدمرداش ود. منير، ١/ ٣٠١.

وانطلاقاً من هذا المفهوم الشامل للمنهج الدراسيّ المعاصر؛ فإنَّ للمنهج أربعة أركان رئيسية:

أولها: الأهداف التربويّة.

ثانيها: المادة العلميّة الشاملة للمعارف، وأوجه النشاط والخبرات التي تتكوّن منها مادة المنهج.

ثالثها: طُرق وأساليب التدريس المتبعة مع التلاميذ لدفعهم إلى التعلُّم وتحقيق أهدافه المرسومة.

رابعها: طُرق التقويم والقياس [١].

أمَّا المنهج الإسلاميّ فإنَّه يعرف بأنَّه قانون الحياة الذي أنزله الله سبحانه إلى الجنس الإنسانيّ ليحكّموه في حياتهم وشؤونهم المختلفة، وهو منهج يتجاوب مع الفطرة الإنسانيّة التي فطر الله تعالى الناس عليها، والله أعلم بها؛ لأنَّه خالقها، قال تعالى: [أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: ١٤] ، ذلك أنَّ الخالق أعلم بتصميم منهاج الحياة من الإنسان الذي يجهل طبيعة نفسه وطبيعة عقله، قال تعالى: [مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا [الكهف: ٥١] .

إنَّ الإنسان يعلم ما يبدو له من ظاهر الحياة الدنيا، قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: ٧] .

ومن هنا؛ فإنَّ الإطار العام لهذا المنهج التربويّ الربانيّ المُنْزَل في جميع الأديان متفق في تجاوبه مع الفطرة الإنسانيّة الكامنة في كل إنسان؛ لأنَّ الناس جميعاً صفتهم الفطرة مشتركة عقلاً، ونفساً، وروحاً، وقلباً، وجسماً، فهو منهاج متكامل للإنسان في هذه المجالات الخمسة، قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الروم: ٣٠] .

وبناءً على ما تقدّم؛ فإنَّا نقصد بـ "مناهج المفسّرين" : "الطُرق التي يتبعها المفسِّرون في تفسير كتاب الله تعالى" . ذلك أنَّ منهم الذي يعتمد على الرواية، ومنهم مَنْ يعتمد على الدّراية، ومنهم مَنْ يجمع بين الرواية والدّراية، ومنهم مَنْ يعتمد على الفهم الشَّخصيّ والمجال الذي تخصَّص فيه.

ومن هنا برزت عدّة مسمّيات، منها: "التَّفسير بالمأثور" ، "التَّفسير الموضوعيّ" ، "التَّفسير الصوفيّ الإشاريّ" ، "التَّفسير الصوفيّ النَّظريّ" ، "التفسير العلميّ" ، و "التَّفسير البدعيّ" الذي يؤول كلام الله ويحمّله معاني فاسدة وبعيدة عن النَّص القرآنيّ الكريم.

إن أصح الطرق في ذلك أن يُفَسَّر القرآن بالقرآن، ومن ثم بالسنة، فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، كما قال الشافعي-رحمه الله-: "كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن. قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: ١٠٥] ، وقال تعالى: {وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نزلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: ٤٤] ، وقال تعالى: {وَمَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: ٦٤] " [٢].

(١) مناهج الدّراسات الإسلامية: د. عابدين توفيق، ١/ ٣٢.

(٢) مجموع الفتاوى، شيخ الإسلام ابن تيمية: ١٣/ ٣٦٣، وتفسير ابن كثير: ١/ ٤.

وعن أيوب السختياني أن رجلا قال لمطرف بن عبد الله بن الشخير -وهو من كبار التابعين (ت ٩٥ هـ) : لا تحدثونا إلا بالقرآن، فقال له مطرف: "والله ما نريد بالقرآن بدلا، ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا" [١].

وقال مكحول الشامي -وهو من ثقات التابعين وفقهائهم- (ت ١١٣ هـ) : "القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن" [٢].

وعن حسان بن عطية -وهو أحد ثقات التابعين، مات بعد سنة ١٢٠ هـ- قال: "كان الوحي ينزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويحضره جبريل بالسنة التي تفسر ذلك" [٣].

وقال يحيى بن أبي كثير -وهو من صغار التابعين الثقات الأثبات، ت ١٢٩ هـ-: "السنة قاضية على الكتاب، وليس الكتاب بقاض على السنة" [٤].

(١) أخرجه أبو خيثمة في (كتاب العلم) ص ٤١ رقم (٩٧) ، وابن عبد البر في (جامع بيان العلم) ص ٥٦٣.

(٢) أخرجه المروزي في (السنة) رقم (١٠٤) ، وابن شاهين في (شرح مذاهب أهل السنة) رقم (٤٨) ، وابن بطة في (الإبانة الكبرى) رقم (٨٩) ، والخطيب في (الكفاية) ص ١٤، وأورده ابن عبد البر في (جامع ببان العلم) ص ٥٦٣، وعزاه إلى سعيد بن منصور.

وجاء هذا عن الإمام الأوزاعي -راويه عن مكحول، وهو من كبار أتباع التابعين، وأئمة الفقه المشهورين، ت ١٥٧ هـ- أنه قال: "الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب" . أورده ابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله) ص ٥٦٣، وعلق عليه فقال: "يريد أنها تقضي عليه وتبين المراد منه , وهذا نحو قولهم: ترك الكتاب موضعا للسنة، وتركت السنة موضعا للرأي" .

وجاء أيضا عن حماد بن زيد -وهو من أتباع التابعين، مات سنة ١٧٩ هـ- قال: "إنما هو الكتاب والسنة، والكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب" أخرجه الخطيب في (الفقيه والمتفقه) ١: ٢٣١ رقم (٢٣١) .

(٣) أخرجه بهذا اللفظ: ابن عبد البر في (جامع بيان العلم) ص ٥٦٣، وذكره القرطبي في تفسيره ١: ٣٩.

وأخرجه الخطيب في (الكفاية) ص ١٥، ولفظه: (كان جبرائيل ينزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقرآن، والسنة تفسر القرآن) .

وأخرجه الدارمي رقم (٥٨٨) في المقدمة: باب السنة قاضية على كتاب الله , والمروزي في (السنة) رقم (١٠٢) (٤٠٢) ، ونعيم بن حماد في زوائده على (الزهد) ص ٤٣٩ رقم (٩١) ، وابن بطة في (الإبانة الكبرى) رقم (٩٢) ، واللالكائى في (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) ١: ٨٣ رقم (٩٩) والخطيب البغدادي في (الفقيه والمتفقه) ١: ٢٦٦ - ٢٦٧ رقم (٢٦٨) (٢٦٩) (٢٧٠) ، وفي (الكفاية) ص ١٢ بنحوه. وصحح إسناده ابنُ حجر في (فتح الباري) ١٣: ٣٠٥.

(٤) أخرجه الدارمي رقم (٥٨٧) في المقدمة: باب السنة قاضية على كتاب الله، والمروزي في (السنة) رقم (١٠٣) ، وابن شاهين في (شرح مذاهب أهل السنة) رقم (٤٧) ، وابن بطة في (الإبانة الكبرى) رقم (٩٠) (٩١) ، والخطيب في (الكفاية) ص ١٤. وأورده ابن قتيبة في (تأويل مختلف الحديث) ص ٣٨٠ وعلق عليه فقال: "أراد أنها مبينة للكتاب، منبئة عما أراد الله تعالى فيه" . وأورده السيوطي في (مفتاح الجنة) ص ٩١، وعقب عليه فقال: "قال البيهقي: ومعنى ذلك أن السنة مع الكتاب أقيمت مقام البيان عن الله ,كما قال الله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ، لا أن شيئًا من السنن يخالف الكتاب" .

قلت -القائل السيوطي-: "والحاصل أن معنى احتياج القرآن إلى السنة؛ أنها مبينة له، ومفصلة لمجملاته, لأن في لِوَجازته كنوز تحتاج إلى من يعرف خفايا خباياها فيبرزها، وذلك هو المنزل عليه -صلى الله عليه وسلم-، وهو معنى كون السنة قاضية عليه، وليس القرآن مبينا للسنة ولا قاضيا عليها، لأنها بينة بنفسها إذ لم تصل إلى حد القرآن في الاعجاز والإيجاز، لأنها شرح له، وشأن الشرح أن يكون أوضح وأبين وأبسط من المشروح، والله أعلم" .

وجاء هذا عن الأوزاعي قال: "إن السنة جاءت قاضية على الكتاب، ولم يجيء الكتاب قاضيا على السنة" . أخرجه الحاكم في (معرفة علوم الحديث) ص ٦٥.

وقال الفضل بن زياد: سمعت أحمد بن حنبل -وسئل عن الحديث الذي روي أن السنة قاضية على الكتاب- قال: "ما أجسر على هذا أن أقوله، ولكن السنة تفسر الكتاب، وتعرف الكتاب، وتبينه). أخرجه الخطيب في (الكفاية) ص ١٤ - ١٥، وأورده ابن عبد البر في (جامع بيان العلم) ص ٥٦٤، والقرطبي في تفسيره ١: ٣٩."

وجاء في (مسائل الإمام أحمد) رواية ابنه عبد الله رقم (١٥٨٦) : "قال عبد الله: سألت أبي , قلت: ما تقول في السنة تقضي على الكتاب؟ قال: قد قال ذلك قوم منهم مكحول والزهري. قلت: فما تقول أنت؟ قال: أقول: السنة تدل على معنى الكتاب" . وأخرجه الخطيب في (الفقيه والمتفقه) ١: ٢٣٠ - ٢٣١.

وفهم ابن القيم من عبارة الإمام أحمد معنى الإنكار، فقال في (الطرق الحكمية) ص ١٠٧: "وقد أنكر الإمام أحمد على من قال: السنة تقضي على الكتاب، فقال: بل السنة تفسر الكتاب وتبينه" .

وقال الإمام الطبري -رحمه الله-: "تأويلُ القرآن غيرُ مدرك إلا ببيان من جعل الله إليه بيان القرآن" [١].

وقال ابن تيمية -رحمه الله-: "اتفق الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة الدين؛ أن السنة تُفَسِّر القرآن، وتبينه، وتدل عليه، وتعبر عن مجمله" [٢].

وقال الشاطبي -رحمه الله-: "لا ينبغي في الاستنباط من القرآن الاقتصار عليه دون النظر في شرحه وبيانه، وهو: السنة" [٣].

ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه" [٤]، قال ابن القيم -رحمه الله- معلقا على الحديث: "هذا هو السنة بلا شك" [٥]، وقال ابن كثير: "يعني: السنة، والسنة أيضا تنزل عليه بالوحي، كما ينزل القرآن؛ إلا أنها لا تتلى كما يتلى القرآن" [٦]، إلا أنها لا تتلى كما يتلى القرآن، وقد استدل الإمام الشافعي، رحمه الله وغيره من الأئمة على ذلك بأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذلك.

والغرض أنك تطلب تفسيرَ القرآن منه، فإن لم تجدْه فمن السنة، كما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "بم تحكم؟" . قال: بكتاب الله. قال: "فإن لم تجد؟" . قال: بسنة رسول الله. قال: "فإن لم تجد؟" . قال: أجتهد برأيى. قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره، وقال: "الحمد لله الذي وفَّق رَسُولَ رسولِ الله لما يرضى رسول الله" [٧]، وهذا الحديث في المساند والسنن بإسناد جيد، كما هو مقرر في موضعه، وحينئذ،

(١) تفسير الطبري ٢: ١٨١.

(٢) مجموع الفتاوى ١٧: ٤٣٢.

(٣) الموافقات ٣: ٣٦٩.

(٤) رواه الإمام أحمد في المسند (٤/ ١٣١) ، وأبو داود في السنن برقم (٤٦٠٤) ، والبيهقي في السنن الكبرى ٩/ ٣٣٢، والطبراني في "الكبير" (٢٠/ ٢٨٣) ، والمروزي في السنة (٤٠٣، ٢٤٤) ؛ والخطيب في الكفاية (١/ ٨٠) ؛ وابن عبد البر في التمهيد (١/ ١٤٩ - ١٥٠) ، وابن حبان في صحيحه كما في الإحسان ١/ ١٨٨ رقم (١٢) ، والطحاوي في (شرح معاني الآثار) ٤/ ٢٠٩، من حديث المقدام بن معدى كرب، رضي الله عنه، وصححه العلامة الألباني في "مشكاة المصابيح" (١/ ٥٧/ ١٦٣) .

(٥) التبيان في أقسام القرآن ص ١٥٦.

(٦) تفسير ابن كثير: ١/ ٧.

(٧) رواه الإمام أحمد في المسند (٥/ ٢٣٠) وأبو داود في السنن برقم (٣٥٩٢) والترمذي في السنن برقم (١٣٢٨) من طرق عن شعبة عن أبي عون عن الحارث بن عمرو عن ناس من أصحاب معاذ عن معاذ به، وقال الترمذي: "هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده عندي بمتصل، وأبو عون الثقفي اسمه محمد بن عبيد الله" . وللشيخ ناصر الألباني مبحث ماتع بين فيه كلام العلماء في نقد الحديث. انظر: السلسلة الضعيفة برقم (٨٨١) .

إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة، رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك، لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم، كالأئمة الأربعة والخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، وعبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا جابر بن نوح، حدثنا الأعمش، عن أبي الضُّحَى، عن مسروق، قال: قال عبد الله - يعني ابن مسعود: والذي لا إله غيره، ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت؟ وأين نزلت؟ ولو أعلم مكان أحد أعلم، بكتاب الله منى تناله المطايا لأتيته [١].

وقال الأعمش أيضًا، عن أبي وائل، عن ابن مسعود قال: "كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن" [٢].

وقال أبو عبد الرحمن السلمي: "حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعا" [٣].

ومنهم الحبر البحر عبد الله بن عباس، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترجمان القرآن وببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له حيث قال: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل" [٤].

قال ابن مسعود: "نعْم ترجمان القرآن ابنُ عباس" [٥].

فهذا إسناد صحيح إلى ابن مسعود: أنه قال عن ابن عباس هذه العبارة. وقد مات ابن مسعود، رضي الله عنه، في سنة اثنتين وثلاثين على الصحيح، وعُمِّر بعده ابن عباس ستًا وثلاثين سنة، فما ظنك بما كسبه من العلوم بعد ابن مسعود؟ .

وقال الأعمش عن أبي وائل: "استخلف علِيّ عبد الله بن عباس على الموسم، فخطب الناس، فقرأ في خطبته سورة البقرة، [وفي رواية: سورة النور] ، ففسرها تفسيرًا لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا" [٦].

ولهذا غالب ما يرويه إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير في تفسيره، عن هذين الرجلين: عبد الله بن مسعود وابن عباس، ولكن في بعض الأحيان ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب، التي أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "بَلِّغوا عني ولو آية، وحَدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حَرَج، ومن كذب عَلَىَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" رواه

(١) تفسير الطبري (١/ ٨٠) وجابر بن نوح ضعيف لكنه توبع، فرواه البخاري في صحيحه برقم (٥٠٠٢) عن عمر بن حفص عن أبيه عن الأعمش به.

(٢) رواه الطبري في تفسيره (١/ ٨٠) من طريق الحسين بن واقد عن الأعمش به.

(٣) رواه الطبري في تفسيره (٨٢) : ص ١/ ٨٠، إسناده صحيح.

(٤) رواه الإمام أحمد في المسند (١/ ٢٦٦، ٣١٤، ٣٢٧) وأصله في صحيح البخاري برقم (٧٥) .

(٥) أخرجه الطبري في تفسيره (١٠٥) : ص ١/ ٩٠.

(٦) رواه الطبري في تفسيره (٨٥) ، و (٨٦) : ص ١/ ٨١، والفسوي في تاريخه: ١/ ٤٩٥، من طريق الأعمش به.

البخاري عن عبد الله [١]، ولهذا كان عبد الله بن عمرو يوم اليرموك قد أصاب زاملتين من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك.

وتجدر الإشارة بأن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد، لا للاعتضاد، كما أنها على ثلاثة أقسام:

أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق، فذاك صحيح.

والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه.

والثالث: ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته لما تقدم، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني، ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في هذا كثيرًا، ويأتي عن المفسرين خلاف بسبب ذلك، كما يذكرون في مثل هذا أسماء أصحاب الكهف، ولون كلبهم، وعدّتهم، وعصا موسى من أي الشجر كانت؟ وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وتعيين البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، ونوع الشجرة التي كلَّم الله منها موسى، إلى غير ذلك مما أبهمه الله تعالى في القرآن، مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دنياهم ولا دينهم. ولكن نَقْلُ الخلاف عنهم في ذلك جائز، كما قال تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: ٢٢] ، فقد اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا المقام وتعليم ما ينبغي في مثل هذا، فإنه تعالى أخبر عنهم بثلاثة أقوال، ضعف القولين الأولين وسكت عن الثالث، فدل على صحته إذ لو كان باطلا لرده كما ردهما، ثم أرشد على أن الاطلاع على عدتهم لا طائل تحته، فقال في مثل هذا: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} فإنه ما يعلم بذلك إلا قليل من الناس، ممن أطلعه الله عليه، فلهذا قال: {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا} أي: لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته، ولا تسألهم عن ذلك فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب. فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف: أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام، وأن تنبه على الصحيح منها وتبطل الباطل، وتذكر فائدة الخلاف وثمرته، لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته، فتشتغل به عن الأهم فالأهم. فأما من حكى خلافًا في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص، إذ قد يكون الصواب في الذي تركه. أو يحكي الخلاف ويطلقه ولا ينبه على الصحيح من الأقوال، فهو ناقص أيضًا. فإن صحح غير الصحيح عامدا فقد تعمد الكذب، أو جاهلا فقد أخطأ، وكذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته، أو حكى أقوالا متعددة لفظًا ويرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنى، فقد ضيع الزمان، وتكثر بما ليس بصحيح، فهو كلابس ثوبي زور، والله الموفق للصواب.

قال سفيان بن عيينة عن عبد الله بن أبي يزيد: "كان ابن عباس إذا سئل عن الآية في القرآن قال به، فإن لم يكن وكان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر به، فإن لم يكن فعن أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، فإن لم يكن اجتهد برأيه" [٢].

إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين، كمجاهد بن جَبْر، فإنه كان آية في التفسير، كما قال محمد

(١) صحيح البخاري (٣٢٧٤) : ص ٣/ ١٢٧٥، ومسند الإمام احمد (٦٤٥٠) : ص ٢/ ١٥٩.

(٢) سنن الدارمي (١٦٨) : ص ١/ ٢٦٥.

بن إسحاق: حدثنا أبان بن صالح، عن مجاهد، قال: عَرضْتُ المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه، وأسأله عنها "[١]."

وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا طَلْق بن غنام، عن عثمان المكي، عن ابن أبي مُلَيْكَة قال: "رأيت مجاهدًا سأل ابن عباس عن تفسير القرآن، ومعه ألواحه، قال: فيقول له ابن عباس: اكتب، حتى سأله عن التفسير كله" [٢].

ولهذا كان سفيان الثوري يقول: "إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به" [٣].

وكسعيد بن جُبَيْر، وعِكْرِمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، ومسروق ابن الأجدع، وسعيد بن المسيب، وأبي العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، والضحاك بن مُزاحم، وغيرهم من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم، فتذكر أقوالهم في الآية فيقع في عباراتهم تباين في الألفاظ، يحسبها من لا علم عنده اختلافًا فيحكيها أقوالا وليس كذلك، فإن منهم من يعبّر عن الشيء بلازمه أو بنظيره، ومنهم من ينص على الشيء بعينه، والكل بمعنى واحد في كثير من الأماكن، فليتفطن اللبيب لذلك، والله الهادي.

وقال شعبة بن الحجاج وغيره: "أقوال التابعين في الفروع ليست حجة؟ فكيف تكون حجة في التفسير؟ ، يعني: أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم، وهذا صحيح، أما إذا أجمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة، فإن اختلفوا فلا يكون بعضهم حجة على بعض، ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن أو السنة أو عموم لغة العرب، أو أقوال الصحابة في ذلك" [٤].

فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام [٥]، لما رواه محمد بن جرير، رحمه الله، بسنده عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال في القرآن برأيه، أو بما لا يعلم، فليتبوأ مقعده من النار" [٦].

وفي رواية أخرى: "من قال في القرآن برأيه فأصاب، فقد أخطأ" [٧].

لأنه قد تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ما أمر به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ، لأنه لم يأت الأمر من بابه، كمن حكم بين الناس على جهل فهو في النار، وإن وافق حكمه الصواب في نفس الأمر، لكن يكون أخف جرمًا ممن أخطأ، والله أعلم، وهكذا سمى الله القَذَفة كاذبين، فقال: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: ١٣] ، فالقاذف كاذب، ولو كان قد قذف من زنى في نفس الأمر، لأنه أخبر بما لا يحل له الإخبار به، ولو كان أخبر بما يعلم، لأنه تكلف ما لا علم له به، والله أعلم.

(١) رواه الطبري في تفسيره (١٠٨) (ص ١/ ٩٠) .

(٢) تفسير الطبري (١٠٧) ص ١/ ٩٠.

(٣) أخرجه الطبري في تفسيره (١٠٩) : ص ١/ ٩١ من طريق أبي بكر الحنفي سمعت سفيان فذكره.

(٤) تفسير ابن كثير: ١/ ١٠، وانظر: تفسير البغوي: ١/ ١٧، ومقدمة في أصول التفسير ص: ٥٠،

(٥) انظر: شرح مقدمة التفسير: لابن تيمية: ١/ ١٣٩.

(٦) تفسير الطبري (٧٤) ص ١/ ٧٧، وأخرجه الترمذي في سننه: (٢٩٥٢) ، وقال حديث حسن، والنسائي في سنن النسائي الكبرى (٨٤ ٨٠) ، وأبو داود في سننه (٣٦٥٢) ، والحديث مداره على عبد الأعلى بن عامر قال أبو زرعة: ضعيف، وتركه ابن مهدي.

(٧) تفسير الطبري (٨٠) ص ١/ ٧٩. وانظر: سنن أبي داود برقم (٣٦٥٢) وسنن الترمذي برقم (٢٩٥٣) ، قال الترمذي: غريب، وسنن النسائي الكبرى برقم (٨٠٨٦) .

ولهذا تَحَرَّج جماعة من السلف عن تفسير ما لا علم لهم به، كما روى شعبة، عن سليمان، عن عبد الله بن مرة، عن أبي مَعْمَر، قال: قال أبو بكر الصديق، رضي الله عنه: أيّ أرض تقلّني وأي سماء تظلني؟ إذا قلت في كتاب "الله ما لا أعلم" [١].

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثنا محمد بن يزيد، عن العَوَّام بن حَوْشَب، عن إبراهيم التَّيْمِي، أن أبا بكر الصديق سئل عن قوله: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: ٣١] ، فقال: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني؟ إذا أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم. منقطع [٢].

وقال أبو عبيد أيضًا: "حدثنا يزيد، عن حميد، عن أنس، أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: ٣١] ، فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها، فما الأبّ؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر" [٣].

وقال عَبْد بن حُمَيْد: "حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس، قال: كنا عند عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وفي ظهر قميصه أربع رقاع، فقرأ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} فقال: ما الأب؟ ثم قال: إن هذا لهو التكلف فما عليك ألا تدريه" [٤].

وهذا كله محمول على أنهما، رضي الله عنهما، إنما أرادا استكشاف علم كيفية الأب، وإلا فكونه نبتا من الأرض ظاهر لا يجهل، لقوله: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا} الآية [عبس: ٢٧، ٢٨] .

وأخرج الطبري بسنده الصحيح عن ابن أبي مُلَيْكَة: "أن ابن عباس سئل عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها، فأبى أن يقول فيها" [٥].

وقال أبو عبيد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، قال: "سأل رجل ابن عباس عن {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} [السجدة: ٥] ، فقال له ابن عباس: فما {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: ٤] ؟ فقال له الرجل: إنما سألتك لتحدثني. فقال ابن عباس: هما يومان ذكرهما الله تعالى في كتابه، الله أعلم بهما. فكره أن يقول في كتاب الله ما لا يعلم" [٦].

وأخرج - أيضًا - ابن جرير الطبري: عن مَهْدي بن ميمون، عن الوليد بن مسلم، قال: "جاء طَلْق بن حبيب إلى جُنْدُب بن عبد الله، فسأله عن آية من القرآن؟ فقال: أحرِّج عليك إن كنت مسلمًا إلا ما قمتَ عني، أو قال: أن تجالسني" [٧].

وقال مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب: "إنه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن، قال: لا أقول في القرآن شيئًا" [٨].

(١) رواه الطبري في تفسيره (٧٩) : ص (١/ ٧٨) .

(٢) فضائل القرآن (ص ٢٢٧) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (١٠/ ٥١٣) عن محمد بن عبيد عن العوام بن حوشب به.

(٣) فضائل القرآن (ص ٢٢٧) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (١٠/ ٥١٢) عن يزيد به، ورواه الحاكم في المستدرك (٢/ ٥١٤) من طريق يزيد عن حميد به، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" .

(٤) ورواه ابن سعد في الطبقات (٣/ ٣٢٧) ، ورواه البخاري في صحيحه برقم (٧٢٩٣) عن سليمان بن حرب به مختصرًا ولفظه: "نهينا عن التكلف" .

(٥) تفسير الطبري (٩٨) : ص ١/ ٨٦.

(٦) فضائل القرآن: ٢٢٨.

(٧) تفسير الطبري (٩٩) : ص ١/ ٨٦.

(٨) رواه الطبري في تفسيره (٩٣) : ص ١/ ٨٥، من طريق ابن وهب عن مالك به.

وقال الليث، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب: "إنه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن" [١].

وقال شعبة، عن عمرو بن مُرَّة، قال: "سأل رجل سعيد بن المسيب عن آية من القرآن فقال: لا تسألني عن القرآن، وسل من يزعم أنه لا يخفى عليه منه شيء، يعني: عكرمة" [٢].

وقال ابن شَوْذَب: حدثني يزيد بن أبي يزيد، قال: "كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام، وكان أعلم الناس، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت، كأن لم يسمع" [٣].

وأخرج ابن جرير الطبري بسنده عن عبيد الله بن عمر، قال: "لقد أدركتُ فقهاء المدينة، وإنهم ليعظِّمون القول في التفسير، منهم: سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع" [٤].

وقال أبو عبيد: حدثنا عبد الله بن صالح، عن الليث، عن هشام بن عُرْوَة، قال: "ما سمعت أبي تَأوَّل آية من كتاب الله قط" [٥].

وقال أيوب، وابن عَوْن، وهشام الدَّسْتوائِي، عن محمد بن سيرين: "سألت عبَيدة السلماني، عن آية من القرآن فقال: ذهب الذين كانوا يعلمون فيم أنزل القرآن؟ فاتَّق الله، وعليك بالسداد" [٦].

وقال أبو عبيد: حدثنا معاذ، عن ابن عون، عن عبد الله بن مسلم بن يسار، عن أبيه، قال: "إذا حدثت عن الله فقف، حتى تنظر ما قبله وما بعده" [٧].

حدثنا هُشَيْم، عن مُغيرة، عن إبراهيم، قال: كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه [٨].

وقال شعبة عن عبد الله بن أبي السَّفْر، قال: "قال الشعبي: والله ما من آية إلا وقد سألت عنها، ولكنها الرواية عن الله عز وجل" [٩].

وقال أبو عبيد: حدثنا هشيم، حدثنا عمر بن أبي زائدة، عن الشعبي، عن مسروق، قال: "اتقوا التفسير، فإنما هو الرواية عن الله" [١٠].

(١) رواه الطبري في تفسيره (٩٥) : ص ١/ ٨٦، من طريق ابن وهب عن مالك به.

(٢) رواه الطبري في تفسيره (١٠١) : ص ١/ ٨٧، وابن أبي شيبة في المصنف (١٠/ ٥١١) من طريق محمد بن جعفر عن شعبة به.

(٣) رواه الطبري في تفسيره (١٠٠) : ص (١/ ٨٦) عن العباس بن الوليد عن أبيه عن ابن شوذب به.

(٤) تفسير الطبري (٩٢) : ص ١/ ٨٥.

(٥) فضائل القرآن: ٢٢٩.

(٦) رواه الطبري في تفسيره (٩٧) : ص ١/ ٨٦، من طريق ابن علية عن أيوب وابن عون به.

(٧) فضائل القرآن: ٢٢٩.

(٨) فضائل القرآن (ص ٢٢٩) ورواه أبو نعيم (٤/ ٢٢٢) من طريق جرير عن المغيرة به.

(٩) فضائل القرآن (ص ٢٢٩) .

(١٠) جاء من حديث أبي هريرة، ومن حديث أنس، وأبي سعيد الخدري، رضي الله عنهم. أما حديث أبي هريرة، فرواه أحمد في المسند (٢/ ٢٦٣) وأبو داود في السنن برقم (٣٦٥٨) والترمذي في السنن برقم (٢٦٤٩) وابن ماجة في السنن برقم (٢٦١) من طريق علي ابن الحكم عن عطاء عن أبي هريرة، وقال الترمذي: "حديث حسن" . وأما حديث أنس، فرواه ابن ماجة في السنن برقم (٢٦٤) من طريق يوسف بن إبراهيم عن أنس، وقال البوصيري في الزوائد (١/ ١١٧) : "هذا إسناد ضعيف" . وأما حديث أبي سعيد، فرواه ابن ماجة في السنن برقم (٢٦٥) من طريق محمد بن داب عن صفوان بن سليم عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبي سعيد، وقال البوصيري في الزوائد (١/ ١١٨) : "هذا إسناد ضعيف" .

فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به، فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعًا، فلا حرج عليه، ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير، ولا منافاة، لأنهم تكلموا فيما علموه، وسكتوا عما جهلوه، وهذا هو الواجب على كل أحد، فإنه كما يجب السكوت عما لا علم له به، فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه، لقوله تعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: ١٨٧] ، ولما جاء في الحديث المروى من طرق: "من سئل عن علم فكتمه، ألْجِم يوم القيامة بلجام من نار" [١].

فأما الحديث الذي رواه أبو جعفر بن جرير بسنده عن عائشة، قالت: لم يكن النبيُّ صلى الله عليه وسلم يفسر شيئًا من القرآن، إلا آيًا بعَددٍ، علمهنّ إياه جبريل عليه السلام "[٢]. فإنه حديث منكر غريب [٣]."

وتكلَّم عليه الإمام أبو جعفر بما حاصله أن هذه الآيات مما لا يعلم إلا بالتوقيف عن الله تعالى، مما وقفه عليها جبريل. وهذا تأويل صحيح لو صح الحديث، فإن من القرآن ما استأثر الله تعالى بعلمه، ومنه ما يعلمه العلماء، ومنه ما تعلمه العرب من لغاتها، ومنه ما لا يعذر أحد في جهله، كما صرح بذلك ابن عباس في رواية الأعرج عنه: "التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله" [٤].

قال ابن جرير: "وقد روى نحوه في حديث في إسناده نظر: حدثني يونس بن عبد الأعلى الصدفي، أنبأنا ابن وهب قال: سمعت عمرو بن الحارث يحدث عن الكلبي، عن أبي صالح، مولى أم هانئ، عن عبد الله بن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" أنزل القرآن على أربعة أحرف: حلال وحرام، لا يعذر أحد بالجهالة به. وتفسير تفسره [العرب، وتفسير تفسره العلماء، ومتشابه لا يعلمه إلا الله عز وجل، ومن ادعى علمه سوى الله فهو كاذب "[٥]."

والنظر الذي أشار إليه في إسناده هو من جهة محمد بن السائب الكلبي؛ فإنه متروك الحديث؛ لكن قد يكون إنما وهم في رفعه. ولعله من كلام ابن عباس، كما تقدم، والله أعلم بالصواب.

والطَّرِيقةُ التي اتَّبعها في التفسير:

أولا: ذكر الروايات حول اسم السورة.

(١) تفسير الطبري (٢٣٧٥) : ص ١/ ٨٤، ورواه أبو يعلى في مسنده (٨/ ٢٣) من طريق معن القزاز عن فلان بن محمد بن خالد، عن هشام بن عروة به، ورواه البزار في مسنده برقم (٢١٨٥) "كشف الأستار" عن محمد بن المثنى، عن محمد بن خالد بن عثمة، عن حفص - أظنه ابن عبد الله - عن هشام عن أبيه به.

(٢) تفسير الطبري (٩١) : ص ١/ ٨٤.

(٣) انظر: حاشية تفسير الطبري: ١/ ٨٤.

(٤) تفسير الطبري (٧١) : ص ١/ ٧٥.

(٥) تفسير الطبري (٧٢) : ص ١/ ٧٦.

ثانيا: ذكر مكان نزولها وعدد آياتها، وسبب نزولها -إن وجد-.

ثالثا: أغراض السورة ومحتويات السورة وفضائلها-إن وجد-.

رابعا: تفسير السورة: أذكر الآيةَ، ثم أذكر مَعْناها العام [١]، ثم أقوم بتَفْسيرَها من القُرْآن أو من السُّنَّة أو من أقوال الصحابة والتَّابعين، وأحْيانًا أذكر كل ما يتعلَّق بالآية من قضايا أو أحْكام، مع ذكر الأدِلةَ من الكِتَاب والسُّنة، وأقْوَال المذاهب الفِقْهِيَّة وأدِلتَهَا والتَّرْجِيحَ بَيْنَها.

خامسا: الاهتمام باللغة وعلومها، والإحتكام كثيرًا عند الترجيح والاختيار إلى المعروف من كلام العرب، والإعتماد على أشعارهم، والرجوع إلى مذاهبهم النحوية واللغوية.

سادسا: إختيار مذهب السلف في إثبات الصفات وإمرارها كما جاءت من غير تكييف، ولا تشبيه، ولا تعطيل.

سابعا: إضافة الأقوال إلى قائليها والأحاديث إلى مصنفيها، فإنه يقال: من بركة العلم أن يضاف القول إلى قائله.

ثامنا: الإضراب عن كثير من قصص المفسرين وأخبار المؤرخين إلا ما لا بد منه، وما لا غنى عنه للتبيين.

تاسعا: تقدير الإجماع وإعطائه اعتبارا كبيرًا في الإختيار والترجيح.

عاشرا: بيان أوجه القراءات السورة.

الحادي عشر: ذكر فوائد كل آية [٢].

الثاني عشر: الإعجاز البياني والدراسة الأسلوبية للسورة: إذ خصصت مبحثا للدراسة الأسلوبية لكل سورة، مبينا الظواهر الأسلوبية في المستويات (التركيبية والدلالية والصوتية) . وذلك في مجلد خاص نهاية التفسير.

كما تولدت رغبتنا في تخصيص مهاد عام حول (علوم القرآن واتجاهات التفسير) ، وذلك من خلال فصلين:

الفصل الأول: مهاد عام حول علوم القرآن، وقد اختص بشرح مفاهيم مفردات علوم القرآن الكريم، وبعد تعريف القرآن الكريم لغة واصطلاحا تناول البحث المواضيع الآتية:

(أولا: - مفهوم الوحي، ثانيا: - نزول القرآن، ثالثا: - مراحل جمع القرآن الكريم وترتيبه، رابعا: - المكي والمدني، خامسا: - أسباب النزول، سادسا: - المحكم والمتشابه في القرآن الكريم، سابعا: -الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، ثامنا: - القراءات، تاسعا: - الإسرائيليات، عاشرا: - تفسير القرآن وشرفه، حادي عشر: إعجاز القرآن، ثاني عشر: - ترجمة القرآن الكريم بغير لغته، الثالث عشر: - فضائل القرآن).

الفصل الثاني: فقد اختص بعلوم التفسير واتجاهاته، وذلك من خلال محورين:

المحور الأول: تناولنا فيه أنواع التفسير وذلك من خلال محاور:

(١ - التفسير بالمأثور، ٢ - التفسير بالدراية، ٣ - التفسير الإشاري).

في حين تطرقنا في المحور الثاني الى: اتجاهات التفسير، وذلك من خلال العناوين الآتية:

(١) وذلك معتمدا على كتاب: التفسير الميسر، نخبة من أساتذة التفسير، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف - السعودية، الطبعة: الثانية، مزيدة ومنقحة، ١٤٣٠ هـ - ٢٠٠٩ م.

(٢) أخذت جلّها من تفسير ابن عثيمين، مع تصرف بسيط وبعض الإضافات فيها.

(١ - الاتجاه اللغوي، ٢ - الاتجاه العلمي، ٣ - الاتجاه الموضوعي، ٤ - الاتجاه الفقهي، ٥ - الاتجاه البلاغي).

وفي الخاتمة: استظهرنا أهم النتائج التي توصلنا إليها في هذا التمهيد.

أقولُ ذلك ملتمِسًا العُذْرَ مِنْ عالِمٍ سَقَط عَلَى زَلَل، أو قارئ وَقَعَ على خَطَأ، فَمِثْل هذَا العَمَلِ الكبِير لا بُدَّ أنْ تَظْهرَ فيهِ بَعْض الأخطاءِ المطبعيةِ، والأوْهامِ الْيَسِيرةِ، وصَدَقَ المُزَنيُّ - رحمه الله - حين قال: "لَوْ عُورضَ كتابٌ سَبْعينَ مرةً لَوُجِدَ فيه خَطَأ، أبَى اللهُ أن يكون صَحِيحًا غَيْر كِتابِهِ" ، فالمرْجُو من أهْلِ العِلْمِ أن يُرْسِلُوا لِي ما لَدَيْهِم من مُلاحظاتٍ أو اسْتِدْراكٍ أو تَعْقِيبٍ حتى أتدَاركَ ذلك في الطبعةِ اللاحقةِ إن شَاءَ اللهُ.

ولا أنْسَى في خِتَامِ كَلِمَتي أنْ أرْفَعَ شُكْرِي إلى مَقَامِ والديَّ الَّلذَيْنِ كان لهما الفَضْلُ في تَنْشِئَتِي، وإرْشَادِي إلى العِلْمِ وحُبِّهِ، والاجْتِهادِ فِي طَلَبِهِ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا} [نوح: ٢٨] .

واللهَ أسْألُ أنْ يَنْفعَ به الجميعَ، وأنْ يجْعَلَهُ خالصًا لِوجْهِهِ الْكَرِيم، وأنْ يَكُونَ من الثَّلاث التي يَنْقطِعُ عَمَلُ ابْنِ آدمَ إذا مات إلا مِنْها، وأنْ يكْتُبَ لجميع من أسْهَمَ فيه الأجْرَ والمثوبَةَ، إنه وَلِيُّ ذلك والقادِرُ عليه، وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ على نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِه أجْمَعينَ. وكتبه:

عبدالله بن خضر بن حمد بن بيرداود

العراق/ أربيل: ٢/ شعبان/ ١٤٣٨ هـ

الفصل الأول مهاد عام حول علوم القرآن

توطئة

لقد فصل أبو شهبة في كتابه، المدخل لدراسة القرآن الكريم، المعنى المقصود بعلوم القرآن [١]، إذ بدأ أولا بكلمة علوم، فذكر أن معنى العلم _مفرد علوم_ في اصطلاح أهل التدوين، "جمله من المسائل المضبوطة بجهة واحدة" [٢]، والعلم في اللغة نقيض الجهل، وهو مصدر مرادف للفهم والمعرفة والإدراك، ويراد به إدراك الشيء على حقيقته، ثم نُقل بمعنى المسائل المختلفة المضبوطة ضبطاً علمياً والمتعلقة بعلم ما، ومن أحسن ما قيل في كلمة العلم أنها أشهر من أن تعرف.

وإن تعريف القرآن عند الأصوليين والفقهاء "هو كلام الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، المعجز بلفظه، المتعبد بتلاوته، المنقول بالتواتر، المكتوب في المصاحف، من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس" [٣]. تخصيص التعريف بهذا الشكل يخرج منه الكتب السماوية الأخرى _التي لم تنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وتخرج أيضا الأحاديث القدسية التي هي أيضا لفظا من الله تعالى، لكنها غير معجزة ولا يتعبد بتلاوتها [٤].

أما المركب الإضافي، علوم القرآن، فمكون من كلمتين، كلمة علوم وقرآن.

وقد عرف الكفافي والشريف علوم القرآن بأنه [٥]: علم أو دراسة تدور حول أي جانب من جوانب القرآن الكريم، وهذا يتضمن علوم كثيرة مثل علم: رسم القرآن، إعراب القرآن، تفسير القرآن، أسباب النزول، المكي والمدني، الناسخ والمنسوخ، غريب القرآن، القراءات، فضل القرآن، الأحرف السبعة، مجاز القرآن، أقسام القرآن، أمثال القرآن، حجج القرآن، نزول القرآن وتنجيمه، جمع القرآن وكتابته، المصاحف العثمانية، فواتح السور، المحكم والمتشابه، إعجاز القرآن، تشبيه القرآن واستعاراته، الإعجاز في نغم القرآن، ترجمة القرآن، ترتيب القرآن، العام والخاص، المطلق والمقيد، المنطوق والمفهوم، جدل القرآن، قصص القرآن، وغيرها [٧].

وأوضح الدكتور زرزور [٦] أن هذه العلوم من الأجدر أن تسمى "علوم التفسير" أو "علوم تفسير القرآن" ، لأن غرضها الرئيسي إنما هو لتسهيل فهم وتفسير القرآن. وقد دعم رأيه هذا بأن كتب التفسير الكبيرة عادة ما تشتمل على مقدمة تذكر فيها أهم هذه العلوم قبل البدء بالتفسير، أمثال كتاب الطبراني والأصفهاني. وأفضل كما ذكرت بالمقدمة، تقسيم محاور هذه العلوم الى: العلوم للمحافظة على المحتوى، العلوم للمحافظة على القراءة، والعلوم للمحافظة على التفسير، والعلوم لإظهار الإبداع القرآني.

والقرآن في اللغة:
 اختلفت فيه أقوال العلماء هل هو مصدر أم وصف؟ ثم هل هو مهموز أم غير مهموز؟

والذي نختاره أنه مصدر مهموز على وزن فُعلان بالضم كالغفران، والشكران، من قرأ يقرأ قراءةً، وقرآناً، ويشهد لهذا الاختيار ورود القرآن بمعنى القراءة في قوله تعالى {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) } [القيامة: ١٧ - ١٨] أي: قراءته عليك حتى تعييه [٨].

(١) أبو شهبة, محمد بن محمد, المدخل لدراسة القرآن الكريم ,بيروت, دار الجيل, ص ١٨.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المدخل لدراسة القرآن الكريم. أبو شهبة, مرجع سابق, ص ٢٠.

(٤) المصدر السابق.

(٥) الكفافي, د. محمد عبد السلام والأستاذ الشريف, عبد الله, في علوم القرآن دراسات ومحاضرات, بيروت_لبنان, دار النهضة العربية,١٩٧٢,ص ٢٧.

(٦) د. الصالح, صبحي, مباحث في علوم القرآن, الطبعة الخامسة والعشرون, بيروت_لبنان, دار العلم للملايين,٢٠٠٢ م, والقطان, مناع, مباحث في علوم القرآن, الطبعة الثانية, الرياض, مكتبة المعارف للنشر والتوزيع,١٤١٧ هـ/١٩٩٦ م.

(٧) د. زرزور, عدنان محمد, فصول في علوم القرآن, الطبعة الأولى, بيروت_لبنان, المكتب الإسلامي,١٤١٩ هـ/١٩٩٨ م, ص ١٠.

(٨) انظر: تفسير السمعاني: ١١٥٥، وتفسير الطبري: ٢٣/ ٤٩٩.

فـ "قرأ" : تأتي بمعنى الجمع والضم والتلاوة، والقراءة: ضم الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل، وقد نقل من هذا المعنى المصدري، وجعل اسماً للكلام المعجز، المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - من باب إطلاق المصدر على مفعوله، فأصبح كالعلم الشخصي له، ومنه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: ٣٧] .

ولعلوم القرآن معنيان:

أحدهما: معنى عام: وهوأنواع المعارف والعلوم المتصلة بالقرآن الكريم، سواء كانت خادمة له، أو دل القرآن على مسائلها وأحكامها [١].

فعلوم خادمة للقرآن كعلم التجويد، وعلم التفسير، وعلوم اللغة العربية، وعلم الناسخ والمنسوخ، ونحو ذلك، وعلوم دل القرآن على مسائلها وأحكامها، كعلم الفقه، وعلم التوحيد، وعلم الفرائض، وعلم التاريخ، ونحو ذلك.

وقد توسع بعض العلماء في ذلك حتى أدخلوا علم الطب، وعلم الفلك، والجبر، والهندسة، وغيرها.

ولكن ليس هنالك شك أن كل العلوم الدينية والعربية داخلة في معنى علوم القرآن في معناه العام.

والثاني: ومعنى خاص باعتباره علما مدونا:

إن علوم القرآن باعتباره فناً مدوناً عبارة عن مباحث أساسية ينبغي الإلمام بها لكل مقبل على فهم ودراسة القرآن الكريم وإلا ضل عن سواء السبيل، لذا يمكن تعريفه بأنه: "أنواع المعارف والعلوم الخادمة للقرآن الكريم كعلم النزول، وعلم الرسم، وعلم التجويد والقراءات، وعلم أسباب النزول، وعلم الناسخ والمنسوخ وعلم التفسير ونحو ذلك" [٢].

وفي القرن الثاني بدأ تدوين هذه العلوم في كتب منفصلة، كل علم يدرس ويدون على حده، ثم جمعت هذه العلوم في كتاب واحد لتأخذ الشكل المسمى بعلوم القرآن المتعارف عليه الآن. وقد ذكر الدكتور صبحي الصالح [٣] أن بداية ظهور الشكل المعاصر لعلوم القرآن إنما بدأ في كتاب "البرهان في علوم القرآن" للحوفي (ت ٤٣٠ هـ) . بينما حدد كفافي والشريف بداية بلورة المفهوم المعاصرلعلوم القرآن في القرن الثامن على يد الزركشي (ت ٧٩٤ هـ) في كتابه "البرهان في علوم القرآن" [٤].

فوائد معرفة علوم القرآن

ولمعرفة علوم القرآن فوائد جمة، منها [٥]:

١ - أن دراسة القرآن الكريم وفهمه وتفسيره إنما تتطلب معرفة المفسر لهذه العلوم، لمعرفة أسباب النزول، لمعرفة الناسخ والمنسوخ وغيرها من علوم القرآن حتى يتفادى الخطا والزلل، والإسلام يحث على العلم والمعرفة، وبالعلم ترقى الأمم، فكيف إذا تكون ثقافة الدارس لعلوم القرآن، فهي أشرف الثقافات والعلوم.

(١) انظر: مناهل العرفان: ٢٣، ودراسات في علوم القرآن الكريم، فهد الرومي: ٣٢.

(٢) مناهل العرفان: ٢٣.

(٣) مباحث في علوم القرآن، د الصالح: ص ١٢٤.

(٤) في علوم القرآن, الكفافي والشريف, مرجع سابق, ص ٣٣.

(٥) انظر: المدخل لدراسة القرآن الكريم. أبو شهبة, مرجع سابق, ص ٢٦.

علوم القرآن من أهم العلوم، وأعلاها، وأنفعها، إذ هو السبيل لفهم كتاب الله، ومعرفة أحكامه، وحكمه، ولذا تظهر علوم القرآن الكريم من جوانب عديدة أبرزها ما يأتي:

٢ - يساعد على فهم وتدبر القرآن الكريم، واستنباط أحكامه، ومعرفة حكمه، وحل مشكله، وفهم متشابهه، بصورة صحيحة دقيقة، لأنه لا يمكن أن يفهم القرآن ويفسره من لا يعرف نطقه، ورسمه، وأوجه قراءته، وأسباب نزوله، وناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ونحو ذلك، فهو الأساس، والمفتاح لفهم القرآن الكريم.

٣ - زيادة الثقة واليقين بهذا القرآن العظيم، خاصة لمن يتعمق في معرفة إعجازه، وأحكامه، وحكمه، ويقف على دقيق أسراره، إذ الجهل بمثل هذه العلوم يجعل المسلم عرضة للشبهات التي يقصد من ورائها زعزعة اليقين.

٤ - معرفة الجهود العظيمة ـ الممتدة عبر التاريخ وفي كل القرون ـ التي بذلها العلماء لخدمة هذا الكتاب، ودور هذه الجهود في حفظه من التغيير والتبديل، وفي تيسير فهمه.

٥ - التسلح بعلوم قيمة تمكن من الدفاع عن هذا الكتاب العزيز ضد من يتعرض له من أعداء الإسلام، ويبث الشكوك والشبهات في عقائده وأحكامه، وتعاليمه، وهو من أعظم الواجبات.

٦ - زيادة ثقافة الفرد المسلم بالمصدر الأول لدينه، وأعظم ما يملكه في وجوده، إذ ينبغي لكل مسلم أن يأخذ حظه من القرآن مهما كان تخصصه، ومهنته، وحرفته.

٧ - نيل الأجر والثواب، إذ تعلم مثل هذه العلوم من أوسع أبواب العبودية لله - عز وجل -.

٨ - تطهير القلب، وتهذيب النفس، وزيادة الإيمان، إذ تعلم علوم القرآن يربط المسلم بصورة قوية بكتاب الله الذي أنزله الله شفاء للناس ورحمة.

وبعد هذه التوطئة لعلوم القرآن سوف نتناول القرآن لغة واصطلاحا:
 
 

١ - تعريف القرآن لغة

اختلف العلماء في تعريف القرآن لغة، على أقوال:

القول الأول: أن كلمة القرآن مهموزة على وزن فُعلان، مشتق من (القرء) بمعنى الجمع. وهذا قول قتادة [١]، والزجاج [٢]، وأبو عبيدة [٣].

وفي سبب تسميته بالقرآن وجهان:

أحدهما: أنه سمّى قرآنا، لأنه يجمع السور فيضمها، قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: ١٧] ، أي: "تأليف بعضه إلى بعض، ثم قال {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: ١٨] ، أي: فإذا ألّفنا منه شيئا، فضممناه إليك فخذ به، واعمل به وضمّه إليك، وقال عمرو ابن كلثوم في هذا المعنى [٤]:"

ذراعى حرّة أدماء بكر ... هجان اللّون لم تقرأ جنينا

(١) حكاه عنه الماوردي في النكت والعيون: ١/ ٢٤.

(٢) انظر: معاني القرآن: ١/ ٣٠٥، وتهذيب اللغة: ٣/ ٢٩١٣.

(٣) انظر: مجاز القرآن: ١/ ١، والبرهان للزركشي: ٣/ ٥٧٦.

(٤) البيت من معلقته، وانفرد أبو عبيدة بهذه الرواية، أنظر شرح العشر للتبريزى ١١١، وهو فى جمهرة الأشعار ٧٦، والأضداد للأصمعى ٦، والطبري ٢٩/ ١٠٢، والجمهرة ١/ ٢٢٨، والقرطبي ٣/ ١١٤، واللسان والتاج (قرأ) .

أي لم تضمّ فى رحمها ولدا قط، [١] ... وفى آية أخرى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} [النحل: ٩٨] ، أي: إذا تلوت بعضه فى إثر بعض، حتى يجتمع وينضمّ بعضه إلى بعض ومعناه يصير إلى معنى التأليف والجمع "[٢]."

والثاني: أنه سُمي قرآنًا؛ لأن القارئ يُظهرُه ويبينه ويلقيه من فيه، أخذ من قول العرب: ما قَرَأَتِ الناقة سلًا قَط، أي: ما رمت بولد. حكاه قطْرب [٣]، وأبو هيثم [٤]، واللحياني [٥]، واستشهدوا بقول الشاعر [٦]:

أَرَاها الوليد أن الخلا فتشذّرتْ ... مرَاحًا ولم يقرأ جنينًا ولا دمَا

معناه: "لم ترمِ بجنين، وسمي قرء المرأة من هذا على مذهب أهل العراق، والقرآن يلفظه القارئ من فيه ويلقيه، فسمي قرآنًا، ومعنى قرأت القرآن: لفظت به مجموعًا" [٧].

قال أبو إسحاق: "وهذا القول ليس بخارج من الصحة وهو حسن. قَرَأْتُه، أي: جَمَعْتُه" [٨].

وذكر الأشعري [٩] -رحمه الله- هذا المعنى في بعض كتبه فقال: "إن كلام الله يسمى قُرآنًا؛ لأن العبارةَ عنه قرن بعضه إلى بعض" [١٠].

قال الفراء: "ظن أن القرآن سمي من القرائن، وذلك أن الآيات يصدق بعضها بعضًا، ويشبه بعضها بعضًا، فهي قرائن، فمذهب هؤلاء أنه غير مهموز" [١١].

القول الثاني: أن كلمة القرآن مشتقة من (قرأ) بمعنى ألقى وأظهر. وهذا قول ابن عباس [١٢].

(١) «أي لم تضم ... قط»: رواه أبو الطيب اللغوي عن أبى عبيدة (الأضداد ٨٠ ب) ، وهو فى الأضداد للاصمعى ٦، وأخذه البخاري، وقال ابن حجر: هو قول أبى عبيدة أيضا قاله فى المجاز رواية أبى جعفر المصادرى عنه، وأنشد قول الشاعر: «هجان» البيت.

والسلى بفتح المهملة وتخفيف اللام. وحاصله أن القرآن عنده من «قرأ» بمعنى جمع، لا من «قرأ» بمعنى تلا. (فتح الباري ٨/ ٣٤٠)

(٢) مجاز القرآن: ١/ ٢ - ٣.

(٣) انظر: تهذيب اللغة "٣/ ٢٩١٢،" التفسير الكبير "٥/ ٨٦."

(٤) تهذيب اللغة "٣/ ٢٩١٢،" اللسان "٦/ ٣٥٦٥."

(٥) تهذيب اللغة "٣/ ٢٩١٢،" اللسان "٦/ ٣٥٦٥."

(٦) البيت لحميد بن ثور في "ديوانه" ص ٢١، "لسان العرب" ٦/ ٣٥٦٥ (قرأ) .

(٧) تهذيب اللغة "٣/ ٢٩١٢،" اللسان "٦/ ٣٥٦٥."

(٨) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩١٢.

(٩) هو: علي بن إسماعيل بن أبي بشر، أبو الحسن تتلمذ في العقائد على الجبائي زوج أمه، وبرع في علمي الكلام والجدل على طريقة المعتزلة، ثم رجع فرد عليهم، وشُهر بمذهب ينسب إليه، وقيل إنه رجع بعده إلى مذهب السلف، له: "مقالات الإسلاميين" ، و "الإبانة" ، توفي سنة ٣٢٤ هـ. انظر: "شذرات الذهب" ٢/ ٣٠٣، "الأعلام" ٤/ ٢٦٣.

(٤) في (م) : (كتاب) .

(١٠) البرهان، للزركشي: ١/ ٢٧٨. ونقله الواحدي في التفسير البسيط: ٣/ ٥٧٦، وهذا مذهب الأشاعرة واعتقاد السلف إثبات صفة الكلام لله تعالى على الوجه اللائق به سبحانه من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل على حد قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: ١١] .

(١١) نقلا عن التفسير البسيط: ٣/ ٥٧٧، والتفسير الكبير: ٥/ ٨٦.

(١٢) حكاه عنه الماوردي في النكت والعيون: ١/ ٢٣.

وذلك استشهاداً بقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: ١٨] ، يعني إذا بيناه فاعمل به [١].

وعلى هذا القول فإن: "القرآن مأخوذ من (قرأ) بمعنى: تلا، وهو مصدر مرادف للقراءة، وقد ورد بهذا المعنى في قوله تعالى: [إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ] {القيامة: ١٧ - ١٨} ، أي: قراءته، ومنه قول حسان بن ثابت -رضي الله تعالى عنه- في رثاء عثمان بن عفان-رضي الله تعالى عنه- [٢]:"

ضَحَّوْا بِأَشْمَطَ [٣] عُنْوَانُ السُّجُودِ بِهِ ... يَقْطَعُ اللَّيْلَ تَسْبِيحًا وَقُرْآنَا [٤]

أي: قراءة "[٥]."

فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يسمى "قرآنًا" بمعنى القراءة، وإنما هو مقروء؟

قيل: كما جاز أن يسمى المكتوب: كتابًا، بمعنى: كتاب الكاتب [٦]، كما قال الشاعر في صفة كتاب طَلاقٍ كتبه لامرأته [٧]:

تُؤَمِّل رَجْعةً مِنّى، وفيها ... كِتابٌ مثلَ ما لَصِق الغِرَاء

القول الثالث: أن "لفظ القرآن ليس مشتقاً، ولا مهموزاً، وأنه قد ارتجل وجعل عَلَمَاً للكتاب المنزل، كما أطلق اسم التوراة على كتاب موسى، والإنجيل على كتاب عيسى صلى الله عليهما وسلم" . وها قول الإمام الشافعي-رحمه الله- [٨].

والقول الراجح هو أن القرآن مأخوذ من (قرأ) بمعنى: تلا، وهو مصدر مرادف للقراءة يدل على ذلك الآية السابقة: : [إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ] {القيامة: ١٧ - ١٨} أي قراءته - وقوله: [وَقُرْآَنَ الفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا] {الإسراء: ٧٨} ، أي: قراءة الفجر [٩]. والله أعلم.


٢ - تعريف القرآن في الاصطلاح

إن القرآن الكريم مصدر العلوم وأصل الحقائق الثابتة ومرجع العلماء يرجع إليه الفقهاء والأصوليون لمعرفة الأحكام الشرعية إجمالاً وتفصيلاً ويرجع إليه علماء اللغة لإظهار إعجازه

(١) انظر: النكت والعيون: ١/ ٢٣.

(٢) البيت لحسان بن ثابت، ديوانه: ٤١٠، وضحى: ذبح شاته ضحى النحر، وهي الأضحية. واستعاره حسان لمقتل عثمان في ذي الحجة سنة ٣٥، رضي الله عنهما، انظر: "المغني" ١/ ٢١٨، رقم ٣٦٣، "البحر المحيط" ٢/ ٣٢، والعنوان: الأثر الذي يظهر فتستدل به على الشيء.

(٣) الشمط: في الرَّجُل شيب اللحية. انظر: لسان العرب، مادة (شمط) : ٧/ ٣٣٥ - ٣٣٦.

(٤) البيان والتبيين، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ص ١٣٤، تحقيق: فوزي عطوى، دار صعب- بيروت، ط/الأولى ١٩٦٨ م.

(٥) لسان العرب لابن منظور ١/ ٢٩.

(٦) انظر: تفسير الطبري: ١/ ٩٧.

(٧) البيت من شواهد الطبري في تفسيره: ١/ ٩٧، ولم أتعرف على قائله.

(٨) مناقب الشافعي، أبوبكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي ١/ ٢٧٦، تحقيق أحمد صقر، مكتبة دار التراث - القاهرة، ط/ ١٩٧١ م.

(٩) الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي ٢/ ٢٩٨، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية - القاهرة، ط/ الثانية ١٣٨٤ هـ - ١٩٦٤ م.

والإفادة من أسلوبه ومعاني كلماته الإفرادية والتركيبية، ويرجع إليه علماء القراءات لتحقيق هدفهم في معرفة كيفية النطق بألفاظه الكريمة.

ذكر الإمام السيوطي في الإتقان: "أن القرآن كلام الله المنزل، ثم أخذ في تفصيل معنى الكلام وكيفية التنزيل، وعقد بعد ذلك فصلاً في تواتر نقل القرآن وذكر أن الأمة متعبدة بفهم معانيه، وإقامة حدوده، وحروفه على الصفة المتلقاه، ثم ذكر أن القرآن معجز، وأخذ في تفصيل القدر المعجز منه" [١]، وعليه فيمكن تلخيص كلامه على مقتضى الحد الجامع المانع فيقال: هو كلام الله المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- بواسطة جبريل، المتواتر، المعجز، المتعبد بتلاوته وتطبيق أحكامه.

وقال الشوكاني [٢]: "القرآن كلام الله تعالى، المنزل على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، المكتوب في المصاحف، المنقول إلينا نقلًا متواترًا، المتعبد بتلاوته، المتحدى بأقصر سورة منه" [٣]، وهذا التعريف مزيد فيه على ما سبق قوله: "المكتوب في المصاحف" وهذا قيد غير لازم، ولا يشترط في إثبات القرآن أن يكون في المصاحف؛ لأن هذا القيد لا يشمل ما كان محفوظاً في الصدور، والكل يسمى قرآناً سواء كان مكتوباً أو محفوظاً.

وقيل القرآن: "هو الكلام المعجز، المنزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- المكتوب في المصاحف المنقول بالتواتر المتعبد بتلاوته" [٤].

وقيل القرآن: "هو كلام الله المعجز المنزل على خاتم الأنبياء، والمرسلين محمد -صلى الله عليه وسلم- بواسطة أمين الوحي جبريل عليه السلام، المنقول إلينا بالتواتر، المتعبد بتلاوته، المبدوء بسورة الفاتحة، والمختتم بسورة الناس، والمتحدى بأقصر سورة منه" [٥].

وقولهم في التعريف: "كلام" جنس يشمل كل كلام، خصص هذا الجنس بالإضافة إلى لفظ الجلالة ليخرج كل كلام سوى كلام الله، بيد أن كلام الله منه ما هو متعبد بتلاوته، ومنه غير ذلك، فتكون نسبة التخصيص هنا نسبية بالنسبة لما سوى كلام الله، والكلام صفة لله قائمة به، أثبتها ربنا عز وجل لنفسه، بدون تشبيه ولا تكييف ولا تعطيل، وعُرِّف القرآن في العقيدة الطحاوية بأنه: "كلام الله، منه بدا، بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسوله وحياً، وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر" [٦].

وهذا التعريف فيه زيادة تفصيل في جانب، وخلا من قيود مهمة في جانب آخر، فمثلا قوله: "بالحقيقة" : إما أن تكون صفة كاشفة، أو تأكيداً معنوياً وعلى كلا التقديرين دخولها في

(١) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ١/ ١٥٨ - ١٧٠، بتصرف.

(٢) هو محمد بن علي بن محمد الشوكاني، الإمام العلامة الرباني، ولد في هجرة شوكان سنة ثلاث ... وسبعين ومائة وألف من الهجرة، تولى منصب قاضي قضاة القطر اليماني، وكان نابذا للتقليد داعياً للاجتهاد، صاحب التصانيف، توفى عام خمسين ومأتين وألف، انظر: البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع للشوكاني ٢/ ٢٠٧، دار المعرفة- بيروت، (بدون) . والأعلام للزركلي ٦/ ٢٩٨.

(٣) إرشاد الفحول، محمد بن على الشوكاني ١/ ٨٦، تحقيق: أحمد عزو عناية، دار الكتاب العربي، ط/الأولى ١٤١٩ هـ- ١٩٩٩ م (بتصرف بسيط) .

(٤) مناهل العرفان في علوم القرآن، للزرقاني ١/ ١٥.

(٥) نفحات من علوم القرآن، محمد أحمد معبد ص ١٣، مكتبة طيبة- المدينة المنورة، ط/ الأولى ١٩٨٦ م.

(٦) شرح العقيدة الطحاوية ١/ ٢٥٤، القاضي علي بن علي أبي العز الدمشقي، تحقيق عبدالله عبدالمحسن التركي، مؤسسة الرسالة، ط/ الثانية ١٤٢٠ هـ.

التعريف معيب، كما يلاحظ الباحث أن هذا التعريف خلا من وصف القرآن بالمعجز؛ فهل الإعجاز صفة مختصة بكلام الله؟ وهل في الحديث القدسي أو النبوي شيء من الإعجاز فتدخل في التعريف؟ على كلا الأمرين سيخرج غير القرآن من التعريف بقولهم: "المتعبد بتلاوته" أي: بإقامة حروفه وألفاظه، وبأنه لا يجزئ في الصلاة غيره.

وعُرِّف كذلك بأنه: "كلام الله تعالى المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- للبيان، والإعجاز، المجموع بين دفتي المصحف، المتعبد بتلاوته، المنقول بالتواتر" [١].

نستنتج مما سبق أن كل التعريفات تدور في الجملة حول معنى واحد غير أن في بعضها زيادة قيود، وإسهاب، والأصل في الحدود أن تكون جامعة مانعة، وعليه فإن الباحث يرى أن التعريف المختار هو: أن القرآن كلام الله المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- لفظاً، للبيان، والتحدي، والإعجاز، المتعبد بتلاوته، وبأحكامه، المنقول بالتواتر.

شرح محترزات وقيود التعريف

قوله: كلام الله: الكلام صفة من صفات الله أثبتها سبحانه لنفسه، وأثبتها له رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وقولنا كلام الله الكلام جنس في التعريف يشمل كل كلام وإضافته إلى (الله) يخرج كلام غيره من الإنس والجن والملائكة، "فقد كلم سبحانه عبده ورسوله موسى بلا واسطة، بل أسمعه كلامه الذي هو صفته اللائقة بذاته كما شاء وعلى ما أراد، قال الله عز وجل: [تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ البَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ] {البقرة: ٢٥٣} [وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا] {النساء: ١٦٤} ، فأكده بالمصدر مبالغة في البيان والتوضيح" [٢].

وقوله: "المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم-" : خرج بقوله المنزل: كلام الله الذي استأثر به نفسه سبحانه: قال تعالى: [قُلْ لَوْ كَانَ البَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا] {الكهف: ١٠٩} ، وخرج بقوله على محمد -صلى الله عليه وسلم- الكتب السماوية السابقة لنزول القرآن كالتوراة والانجيل وغيرها، قال تعالى: [نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ] {الشعراء: ١٩٣ - ١٩٤} .

وقوله: "لفظاً" : قيدٌ خرج به الحديث القدسي والنبوي، إذ لم ينزل كل واحد منهما لفظاً، وإنما نزل الحديث النبوي معنى على الصحيح، وفي الحديث القدسي خلاف مشهور.

وقوله: "للبيان" : أي: للبيان التشريعي وغيره، وهو من مهام محمد -صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى: [بِالبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] {النحل: ٤٤} .

وقوله: "والتحدي" : "إن القرآن قد تحدى الإنس والجن جميعاً، مكيهم، ومدنيهم، وعربيهم، وعجميهم، أن يأتوا ولو بمثل أقصر سورة من سور القرآن فعجزوا أجمعين" [٣]، قال تعالى:

(١) اللآليء الحسان في علوم القرآن ص ٩، د/ موسى شاهين لاشين، مطبعة الفجر الجديد، (بدون) .

(٢) معارج القبول بشرح سلم الوصول حافظ بن أحمد بن علي الحكمي ١/ ٢٤٧، تحقيق: عمر بن محمود أبو عمر، دار ابن القيم - الدمام، ط/الأولى ١٤١٠ هـ - ١٩٩٠ م.

(٣) مناهل العرفان في علوم القرآن ١/ ٢١٨.

[قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا] {الإسراء: } ، وقال تعالى:

[وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] {البقرة: ٢٣} .

وقوله: "والاعجاز" : "فالقرآن كتاب معجز بكليته وبجزئيته بكل وجوه الإعجاز، وهذا الإعجاز للبشرية كلها هو مقصد من مقاصد إنزال القرآن، إثباتاً لرسالة ونبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-، كما أن إعجازه" في فصاحته وبلاغته، وأنباء الغيب، وأخبار الأمم السابقة، وما حواه القرآن من إعجاز علمي، وتشريعي محكم دقيق صالح لكل زمان ومكان "[١]."

وقوله: "المتعبد بتلاوته" : المأمور بقراءته في الصلاة، وغيرها، ومتعبد بإقامة ألفاظه، وهذا قيد خرجت به الأحاديث القدسية، وهي المسندة إلى الله عز وجل إن قلنا أنها منزلة من عند الله بألفاظها، والأحاديث النبوية، وإن كانت مما نؤجر على قرأتها، واستخراج الأحكام الشرعية منها؛ ولكن لا يصح القراءة بها في الصلاة، ولا متعبدون بإقامة ألفاظها على الصحيح.

وقوله: "المنقول بالتواتر" : "المتواتر هو: ما نقله جمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب عن مثلهم إلى منتهاه" [٢]، أي: من النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أصحابه إلى التابعين وهكذا حتى وصل إلينا دون نقص أو تحريف مصداقاً لقول الله تعالى: [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] {الحجر: ٩} ، وهذا قيد خرجت به القراءات المنقولة إلينا بطريق الآحاد، والأحاديث القدسية، وهي المسندة إلى الله عز وجل إن قلنا إنها منزلة من عند الله بألفاظها.

وسوف يتناول البحث في هذا المبحث المحاور الآتية:

أولا: - مفهوم الوحي

الوحي لغة:
 مصدر وحيْتُ، وأوحيت وحياً، ومعناه الإشارة، والكتابة، والرسالة، والإلهام، والكلام الخطي، وكل ما ألقيته إلى غيرك [٣].

قال الزبيدي: "أوحى إليه: كلمه بكلام يخفيه" [٤].

قال في (المصباح) : "الوحي الإشارة، والكتابة، وكل ما ألقيته إلى غيرك ليَعْلمه وَحْي كيف كان قاله ابن فارس وهو مصدر وَحَى إليه يَحِي من باب وعد وأوحى إليه بالألف مثله، وجمعه وُحِيّ، والأصل فُعول مثل فلوس وبعض العرب يقول وحيت إليه ووحيت له، وأوحيت إليه وله ثم غلب استعمال الوحي فيما يُلقى إلى الأنبياء من عندالله تعالى ولغة القرآن الفاشية أوحى بالألف والوَحَا السرعة وَحِيّ مثل سريع وزناً ومعنىً، فعيل بمعنى فاعل، وذكاةٌ وُحِيّةٌ أي سريعة أيضا ويقال وحيت الذبيحة أحيها من باب وعد أيضا ذبحتها ذبحاً وَحِيّاً، ووحّى الدواء الموت توحية عجّله، وأوحاه بالألف مثله، واستوحيت فلاناً استصرخته" [٥].

(١) الواضح في علوم القرآن: ١٦٧، د/ مصطفى ديب البغا ومحي الدين ديب مستو، دار الكلم الطيب ودار العلوم الإنسانية ـ دمشق، ط الأولى ١٤١٧ هـ.

(٢) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ١/ ٢٦٤.

(٣) انظر: اللسان مادة (وحي) ومختار الصحاح، ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس ٦/ ٩٣، مادة (وحي) ، ومشكل القرآن وغريبه لابن قتيبة ٢/ ١١٢، والمفردات للراغب الأصفهاني (وحي) ٨٥٨ - ٨٥٩، والبرهان: ١/ ٢٨٠، وفتح الباري ١/ ٩، ١/ ١٤.

(٤) تاج العروس: الزبيدي ١٠/ ٣٥٨، مادة: (وحي) .

(٥) المصباح المنير، أحمد بن محمد بن علي الفيومي المصري، مكتبة لبنان، ١٩٨٧ م، ص ٢٥٠.

قال في (الأساس) : "وَحَى إليه، وأوحى إليه بمعنى، ووحيت إليه، وأوحيت إذا كلمته بما تخفيه عن غيره، وأوحى الله إلى أنبيائه. {وأوحى ربك إلى النحل} [النحل: ٦٨] " [١].

قال الراغب: "أصل الوحي: الإشارة السريعة، ولتضمن السرعة قيل:" أمر وُحِيٌّ "وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب، وبإشارة ببعض الجوارح، وقد حُمل على ذلك قوله تعالى عن زكريا: {فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: ١١] " [٢].

قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "الوحي الإعلام السريع الخفي إما في اليقظة وإما في المنام" [٣].

بهذا يظهر أن الوحي في الأصل: الخفاء والسرعة، وعلى هذا فالوحي في اللغة: "الإعلام الخفي السريع الخاص بمن يوجه إليه بحيث يخفى على غيره" [٤].

جاء في بيان المعاني: "واعلم أن معنى الوحي الإيماء بالتكليم خفية عن أن يفهمه الغير، وأصله الإشارة السريعة على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب وباشارة بعض الجوارح وبالكتابة، وحمل عليه قوله تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام {فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [المريم: ١١] ، ولم يتكلم، وحمل على الإيماء قول الشاعر [٥]:"

نظرت إليْها نظرةً فَتَحَيَّرَتْ ... دَقَائِق فِكْري فِى بَدِيْع صِفَاتِهَا

فَأوحَى إِلَيْهَا الطرفُ أنَّي أحبّهَا ... فأثَّر ذَاكَ الوَحيُ في وَجنَاتِهَا

وقول الآخر [٦]:

أشارت بطرف العين خيفة أهلها ... اشارة محزون ولم تتكلم

فأيقنت أن الطرف قد قال مرحبا ... وأهلا وسهلا بالجبيب المتيم

وحمل على الاشارة قوله تعالى: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً} [آل عمران: ٤١] .

هذا وقد اتخذت الملوك والأمراء حروفا وكلمات بأرقام اصطلحوا عليها وعبروا عنها باسم شفره، كناية عن هذا المعنى، واستنباطا منه، منعا من أن يفهم الغير ما يتخابرون به، لأن الله تعالى علم البشر كيف يتخاطبون، وكيف يتنعمون، وكيف يعذبون ويعذبون، مما وصفه من أحوال أهل الجنة والنار، وقصه في كتابه المنزل هذا وكتبه السابقة أيضا، وجعل أوائل السور رموزا بينه وبين حبيبه، فلا يعرف معناها إلا هما كما سنبينه في مواضعه إن شاء الله، هذا وان القول الجامع في معنى وحي الله لأنبيائه، هو إعلام خفي سريع خاص بمن بوحيه اليه، بحيث يخفي عن غيره الملاحق له، كما كان يوحي اليه في فراش عائشة فيعلم ما هو المراد وهي لا

(١) أساس البلاغة: ٢/ ٣٢٤، مادة: (وحي) .

(٢) الفمردات في غريب القرآن: ٨٥٨، أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانى (المتوفى: ٥٠٢ هـ) ، دار القلم، الدار الشامية - دمشق بيروت، الطبعة: الأولى - ١٤١٢ هـ.

(٣) مجموع الفتاوى لابن تيمية: ج ١٢ ص ٣٩٨.

(٤) الوحي المحمدي: محمد رشيد رضا ص ٣٧.

(٥) البيتان دون نسبة في منار القاري: ١/ ٢٤، وبيان المعاني: ١/ ٥٤.

(٦) البيت لعمر بن أبي ربيعة في شرح ابيات مغني اللبيب: ١/ ٤٧٦، والأغاني: ١/ ٣٥٦، وشرح الشواهد الشعرية في أمات الكتب النحوية، محمد بن محمد حسن شُرَّاب: ٣/ ٢٧، وغير منسوب في شرح شذور الذهب: ٣٦، والخزانة: ١/ ٢٢٦. وفيهما أن الإشارة نوع من الكلام، أو أن الكلام قد يكون بالإشارة.

تدري ما هو، وكذلك كان يوحي اليه بمحضر من أصحابه فيعي ما يتلقاه، وهم لا يعلمون شيئا منه إلا تغيّر حال الرسول عما كان عليه قبل الوحي لأنه عليه السلام كان يعتريه ثقل وشدة حال نزوله حتى أنه ليعرق في الوقت البارد، من عظم ما يلاقي من هيبة كلام الرب جل جلاله [١].

والوحي بمعناه اللغوي يتناول:

١ - الأوامر الإلهية للملائكة، كقوله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ} [الأنفال: ١٢] .

٢ - تبليغ الملائكة للأنبياء، ومنه تبليغ الآيات إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم-بواسطة ملك الوحي جبريل عليه السلام الموكل بالوحي كما ورد في قوله سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: ٣ - ٤] [٢]. وهذان الجنسان من أعلى وأعظم درجات الوحي.

٣ - الإلهام الفطري للإنسان، كالوحي إلى أُم موسى، والوحي للحواريين كما ورد في الآيات التاليات: : {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: ٧] ، وفي قوله تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: ١١١] [٣].

٤ - الإلهام الغريزي للحيوان، كالوحي إلى النحل، قال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل: ٦٨] [٤]. أي: "أنَّ الله سخرها عن طريق الغريزة أنْ تصنع هذه الأشياء العجيبة" [٥].

٥ - الإشارة السريعة برمز أو إيماء كما ورد رمزاً قوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: ١١] ، فقد ذكر ابن كثير أن زكريا أشار إلى قومه إشارة سريعة ولم يتكلم [٦].

وأما الإيماء، فمثاله قول الشاعر [٧]:

نظرت إليها نظرةً فتحيرت ... دقائق فكري في بديع صفاتها

فأوحى إِليها الطرف أني أحبها ... فأثر ذاك الوحي في وجناتها

٦ - الكتابة، ومن ذلك قول لبيد [٨]:

فمدافعُ الرَّيَّان عُرِّي رَسْمُها ... خَلَقاً كما ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلامُها

(١) انظر: بيان المعاني، عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني (المتوفى: ١٣٩٨ هـ) ، مطبعة الترقي - دمشق، الطبعة: الأولى، ١٣٨٢ هـ - ١٩٦٥ م: ص ١/ ٥٤.

(٢) للتفصيل أنظر: تفسير ابن كثير: ٣/ ٣٩٨.

(٣) انظر: أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة، نخبة من العلماء، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية، ط ١، ١٤٢١ هـ: ص: ١/ ١٢٣.

(٤) انظر: أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة، نخبة من العلماء، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية، ط ١، ١٤٢١ هـ: ص: ١/ ١٢٣.

(٥) منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري: حمزة محمد قاسم: ١/ ٢٤.

(٦) مختصر تفسير ابن كثير، محمد علي الصابوني، دار القرآن الكريم، بيروت، ١٤٠٢ هـ/١٩٨١ م، م ٢، ص ٤٤٤.

(٧) البيتان دون نسبة في منار القاري: ١/ ٢٤، وبيان المعاني: ١/ ٥٤.

(٨) ديوانه: ٢٩٧.

فالْوُحِىُّ جمع وَحْيٍ وهو الكتابة، وإنما سميت الإِشارة والكتابة وحياً لدلالتهما على المعنى بسرعة لا يدانيهما فيها غيرهما. والعرب تسمي السرعة وحياً، فيقولون: تَوَحَّى الرجل إذا جاء بسرعة، فهما يرجعان إلى أصل واحد وهو السرعة [١].

٧ - وسوسة الشيطان وتزيينه الشر في نفس الإنسان، قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: ١٢١] ، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: ١١٢] ، وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج: ٥٢] [٢].

وإنما سمي "الإلهام" و "التسخير الغرْيزي" و "الوسوسة الشيطانية" وحياً، لأنّها إعلام في خفاء، والعرب تسمي الإعلام الخفي وَحْياً [٣].

قال الكسائي: "تقول: وحيت إليه، إذا كلمته بكلام تخفيه عن غيره" [٤].

ولغة القرآن: (أوحى) ، بالألف -ولم يستعمل مصدرها- وإنما جاء فيه مصدر الثلاثي: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: ٤] .

وعليه فان المعنى المستفاد من مادة الكلمة يشتمل على السرعة والخفاء ولو نظرنا لما استخدم هذه الأيام من وسائل الاتصال الحديثة فان فيها السرعة والخفاء، وسترى ذلك واضحاً في معنى الوحي في نظر العلم.

في العلم: وهو ما توصل إليه علماء الصناعة من اكتشافات، وما فيه من الدقة، وما اكتشف من معلومات حو ل النمل والنحل والمخلوقات. فمن ذلك:

التنويم المغناطيسي.

الهاتف واللاسلكي، والراديو، والفاكس، والإنترنت وغيرها.

التسجيلات الإلكترونية على أشرطة التسجيل وأسطواناته فتنقل صوت الغائب والميت وهكذا.

أعمال النمل، والنحل وحشرات الإكسيكلوب وما فيه من الدقة والإتقان.

العبقرية: ويعرِّفُها أفلاطون بأنها حال إلهية مولدة للإلهامات العلوية للبشر. ويقرر الفلاسفة بأنها حال علوية لا شأن للعقل بها. ويقول عباد الطبيعة بأنها هبة من الطبيعة نفسها لا تحصلها دراسة، ولا يوجدها تفكير.

الحالات الروحانية التي يفتح على الإنسان بها بما لا مقدور له عليه [٥].

في العقل: "ما جرى للنبي محمد-صلى الله عليه وسلم- وما أخبر به. ويشهد له المعجزات التي أظهرها أو خبَّر بها. وقد اعترف العقلاء بما أخبر به في زمانه وبعده، وما زال العقل مستسلما. والعقل هو مناط التكليف" [٦].

(١) انظر: منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري، حمزة محمد قاسم: ١/ ٢٤

(٢) انظر: أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة، نخبة من العلماء، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية، ط ١، ١٤٢١ هـ: ص: ١/ ١٢٣.

(٣) انظر: منار القاري: ١/ ٢٤ - ٢٥.

(٤) لسان العرب (وحي) .

(٥) مناهل العرفان، محمد عبدالعظيم الزرقاني، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، ج ١، ص ٦٣ - ٧٣.

(٦) الوحي في القرآن الكريم، د. أمين محمد سلام المناسية، مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية، مجلد ٢٠، ع ٢ - ٢٠٠٤: ص: ٣٥٨.

الوحي في الاصطلاح الشرعي

هو إعلام الله نبياً من أنبيائه أو رسولاً من رسله ما يشاء من كلام أو معنى بطريقة تفيد النبي أو الرسول العلم اليقيني القاطع بما أعلمه الله به، على وجه الخفية والسرعة [١]. وهذا ما يسمى بالناموس وهو الوسيلة للإعلام الربّاني لإبلاغ خلقه من البشر والمتمثل بملك الوحي جبريل عليه السلام [٢].

أو أن يُعلِم الله تعالى مصطفاه من عباده بما أراد إطلاعه عليه من ألوان الهداية والعلم، بطريقة سرّية سريعة غير معتادة للبشر [٣].

أو إعلام الله تعالى النبي من أنبيائه بحكم شرعي ونحوه [٤].

أو عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله بواسطة أو بغير واسطة، والأول بصوت يتمثل لسمعه أو بغير صوت. والفرق بينه وبين الإلهام وجدان تستيقنه النفس، وتنساق إلى ما يطلب من غير شعور منها من أين أتى، وهو أشبه بوجدان الجوع والعطش والحزن والسرور [٥].

أنواع الوحي الإلهي


تكرر وورود كلمة (الوحي) في القرآن الكريم كثيراً، فبلغ ثمانياً وسبعين مرة [٦]، والوحي جنس ونوع وصورة. فأجناسه اثنان، وأنواعه ثلاثة، وصوره أكثر من ذلك. وقد كشف، قوله تعالى {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: ٥١] ، أن أنواع الوحي متنوعة، فهذا ما يخص البشر دون غيره، فيتنوع الوحي بتنوع الموحى إليهم، وأما الصور فهي تنوع المثال في طريقة الوحي للنوع الواحد، فيمكن القول: بأن الوحي منه ظاهر، وخفي. ومنه متلو، وغير متلو؛ فالقرآن متلو، والسنة غير متلوة.

وإذا قلنا بالتعميم فإن أنواع الوحي هي:

الإلهام الفطري للإنسان. يقذفه الله تعالى في قلب مصطفاه على وجه من العلم الضروري.

الإلهام الغريزي للحيوان.

والإشارة السريعة من الإنسان.

الوحي النفسي [٧].

والتبليغ بطرقه المختلفة مناماً ويقظةً.

وأما صور الوحي الإلهي إلى نبينا- صلى الله عليه وسلم- فهي:

الرؤيا الصادقة.

ما يلقيه الملك في روعه.

(١) عبد الرحمن حسن حبنكة ١ الميداني، العقيدة الإسلامية وأسسها، ط ٣، دار القلم، دمشق، ١٤٠٣ هـ/١٩٨٣ م، ص ٥٢٨ بتصرف فقد قدمت النبي على الرسول لسبق النبوة للرسالة.

(٢) المصدر السابق.

(٣) مناهل العرفان، محمد عبدالعظيم الزرقاني، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، ج ١، ص ٦٣.

(٤) ذكره محمد رشيد رضا بأنه تعريف أستاذه للوحي. الوحي المحمدي، ص ٤٥ ..

(٥) الوحي المحمدي، ص ٤٥ ..

(٦) انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبدالباقي، دار الفكر- بيروت، ١٩٧٢ م.

(٧) وقد تكلم عليه محمد رشيد رضا في كتابه الوحي المحمدي بما لا مزيد عليه.

أن يسمع كصلصلة الجرس.

مثل دوي النحل.

الملك بصورته الملائكية.

الملك بصورة بشرية معروفة.

الملك بصورة بشرية غير معروفة.

أن يأتيه الملك مناماً.

التكليم الإلهي يقظة (خلاف النوم) . كقوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: ١٦٤] .

ومن أدلته النقلية:

قول الله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) } [الحاقة: ٤٤ - ٤٦] .

ومن الحديث:

ما ورد عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البخاري في صحيحه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: أن الحارث بن هشام سأل رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس- وهو أشده علي- فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال. وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول" [١].

وقد روى الحديث أيضا الربيع بن حبيب عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن عائشة رضي الله عنها [٢].

الفرق بين الوحي والإلهام

من المعلوم عند المسلمين أن الوحي الذي هو أساس الأحكام قسمان: متلو وهو القرآن الكريم، وغير متلو وهو السنة النبوية الشريفة، وأما الإلهام فهو نوع من أنواع الوحي لكنه لا تنبني عليه الأحكام الشرعية وإليك بيان ذلك.

إن القرآن الكريم هو الأساس الذي بني عليه دين الإسلام، فهو المعجزة الخالدة، به نزل جبريل عليه السلام على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ليبلغه الناس، وكونه أساس حجية الأحكام عند المسلمين أمر مسلم لا يحتاج إلى تبيين.

وأما السنة النبوية الشريفة وأنها من أسس حجية الأحكام فتدل عليه الأدلة التالية:

ثبوت عصمة النبي صلى الله عليه وسلم في التبليغ عن ربه في الكتاب والسنة.

تقرير الله تمسك الصحابة بالسنة، في عصره صلى الله عليه وسلم [٣].

الكتاب الكريم لقوله تعالى {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: ١٥٨] .

(١) البخاري حديث رقم (٢) وطرفه (رواية بلفظ آخر) رقم (٣٢١٥) .

(٢) الجامع الصحيح (مسند الربيع بن حبيب) ، ضبط وتخريج مجمد إدريس، مراجعة وتقديم عاشور بن يوسف، دار الحكمة، بيروت، ومكتبة الاستقامة، سلطنة عمان، ط ١، ١٤١٥ هـ/١٩٩٥ م، حديث رقم ٢، واللفظ الأول للبخاري حديث رقم (٢) .

(٣) أنظر حجية السنة، عبدالغني عبدالخالق، (من منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي) ، ط ١، دار القرآن الكريم: بيروت، ١٤٠٧ هـ/١٩٨٦ م، ص ٢٨٢ وما بعدها.

السنة الشريفة نفسها كإخباره- صلى الله عليه وسلم -وهو المعصوم من الكذب -بأنه قد أوحي إليه القرآن وغيره؛ وأن ما بينه وشرعه-من الأحكام-فإنما هو؛ بتشريع الله تعالى ومن عنده؛ وليس من عنده صلى الله عليه وسلم.

تعذر العمل بالقرآن وحده، إذ لا بد أن تبينه السنة.

السنة نفسها فإن منها ما يقصد به تشريع الأحكام ومنها ما لا يقصد به ذلك.

الإجماع [١].

وأما بالنسبة للإلهام فإنه وإن كان نوعاً من أنواع الوحي فليس له حجة في بناء الأحكام عليه. وذلك لعدة أمور:

١ - لم نجد في كتاب الله تعالى، وسنة نبيه ما يشير إلى أنه حجة.

٢ - لم يرد عن سلف الأمة الصالح من اعتمده حجة.

٣ - إجماع أمة الإسلام على عدم حجيته.

٤ - لو قبل الناس الإلهام حجة لفتح باب لا يمكن إغلاقه لأن الكمال في الناس مستحيل، كما أن دعوى الإلهام دعوى واسعة تفتح باب الكذب والتزوير.

٥ - قبول الإلهام يفتح بابا للشيطان على الناس.

وهكذا فإن الإلهام ليس حجة في بناء الأحكام عليه، لكن إذا صح الإلهام مع عدم المخالفة للشرع فقد يستفاد منه في بعض الهدايات والله أعلم.

النبي والرسول والفرق بينهما

النبوة لغة: من النبأ، وهو الإخبار؛ وأيضاً هي بمعنى العلو والارتفاع [٢]، وكلُّ رسولٍ نبيّ [٣]؛ والرسول لفظةٌ مشتقّةٌ من الإرسال، وتعني التوجيه والبعث [٤].

أما اصطلاحا: فقد اختلف أهل العلم فيها، وافترقوا على مذاهب:

أولاها: أنه لا فرق بين النبي والرسول، بل هو من قبيل الترادف، فيطلق النبي على الشخص الذي اصطفاه الله لإنذار قومه، والرسول تطلق عليه من جهلة تكليفه بمهمة التبليغ والإرسال. وهو مذهبٌ ضعيف كما نصّ عليه القاضي عياض وبيّنه رحمه الله [٥].

ثانيهما: أن النبي لم يؤمر بالتبليغ، في حين أن الرسول هو المأمور بتبليغ شرعه، وهو قولٌ مخالفٌ للأدلة أيضا، فكلاهما مبلّغٌ عن الله تعالى.

ثالثهما: وهو مذهب جمهور أهل العلم، والذي نرجّحه، أن الرّسول هو المبعوث إلى قومٍ برسالة جديدة وشرعٍ جديد، في حين أن النبيّ هو مذَكِّرٌ لقومه برسالةٍ سابقةٍ، فيكون كلّ رسولٍ نبيّاً، وليس كلُّ نبيٍّ رسولا [٦].

(١) مختصراً من كتاب حجية السنة، عبدالغني عبدالخالق، ص ٢٤٣ - ٣٨٢.

(٢) لسان العرب لابن منظور، الجزء ٧، مادة نبأ.

(٣) فالرسول أخص من النبي، فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً، ولكن الرسالة أعم من جهة نفسها، فالنبوة جزء من الرسالة، إذ الرسالة تتناول النبوة وغيرها، بخلاف الرسل فإنهم لا يتناولون الأنبياء وغيرهم، بل الأمر بالعكس. فالرسالة أعم من جهة نفسها، وأخص من جهة أهلها "٢٤ ولننتقل الآن لبيان أجناس وأنواع وصور الوحي."

(٤) كتاب الشفا للقاضي عياض، ٢/ ٧٢٦.

(٥) المرجع السابق: ٢/ ٧٢٩ فما فوقها.

(٦) انظر: لوامع الأنوار البهية للسفاريني، المجلد الأول، ص: ٤٩.

و (الأنبياء) جمع نبي ويمد مهموزاً فيقال: نبيء، كما هي قراءة ورش عن نافع في جميع القرآن أو في غالبه، وهو عائد إلى الاشتقاق الأول الذي تقدم في كلمة النبوَّة [١].

شبه الجاحدين للوحي والرد عليها [٢]:

لقد تفنن الحاقدون من أعداء الإسلام. وما زالوا يخططون ويجددون وضع الشبه واختلاقها، وهذا لا يؤثر على عظمة دين الإسلام فتنبه! ومن ذلك قولهم:

١ - لو كان الوحي ممكنا لأوحى الله إلى أفراد البشر عامة، ولم يخص به عدداً قليلاً ... ورده أن هذا من سذاجة القول فان الأعمال العادية التي يتفاوت الناس في إنجازها لا توكل أحياناً لكل الأفراد فكيف بالوحي وهو شديد الخطورة يحتاج إلى مؤهلات لا تتوفر إلا في نوادر البشر.

٢ - إن الوحي الذي تدعونه، وتدّعون تنجيمه جاء بهذا القرآن غير مرتب، ولا منظم، فلم يفرد كل غرض من أغراضه بفصل أو باب ... وهذا كلام من لا يعرف حقيقة القرآن الذي بهر نظمه وتنسيقه أصحاب الاختصاصات والفنون المختلفة في اللغة والحساب مع أن القرآن ليس كتاب تأليف، بل كتاب وحي ومنهج حياة، وأين موقعه إذا ما قورن بالكتب السماوية التي بين أيدي المدعين عليه.

٣ - اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بمرض الهستريا والهلوسة ... ورده أن صاحب الهستريا والهلوسة لا يستطيع أن يحل مشاكله، ولا أن يقود نفسه! ! والنبي -صلى الله عليه وسلم- قاد أمة ونظم شعوبا وقضى على إمبراطوريات، وتحدى العباقرة الأصحاء.

٤ - إنكم تستدلون على الوحي بإعجاز القرآن، وتستدلون على إعجاز القرآن بما فيه من أسرار، ونحن لا ندرك الإعجاز ولا تلك الأسرار ٠٠٠ وجوابه إنّ قِصَر أفهامكم، وضعف عقولكم حجة عليكم لا لكم. وقد أدرك ذلك أهل الاختصاص واعترفوا به. كما أن في القرآن ما تعرفون من أنواع الإعجاز ولا قدرة لكم على الوقوف أمامه. ٥ - إعجاز القرآن بالعربية للعرب لا يدل على أنه وحي الله بل كلام محمد نسبه إلى ربه ٠٠٠ والرد على هذه الفرية كذبها القرآن بأسلوبه المتنوع؛ فمرة بألفاظ (قُل) ، وأخرى بآيات العتاب، وأخرى بالنهي. ومن غير المعقول أن يأمر الإنسان نفسه وينتقدها ويفضحها أمام الناس، بل المعروف أن الإنسان يتستر على عيوبه ونقائصه ولا يكشفها للآخرين هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن محمداً - صلى الله عليه وسلم- معروف للعرب الذين نشأ بينهم وتربى عندهم، وقام بخدمتهم فلِمَ لم يشهر كتابه ومؤلفه إلا بعد هذه المدة المديدة من الزمان وكذلك إن محمداً صلى الله عليه وسلم ما كان يجيب على التساؤلات حتى يأتيه الوحي ويخبره بجواب الله عن تلك الأمور. كما أن أخبار القرآن فيها من أنواع الغيب المستقبلي فكيف يؤلف هذا؟ ! ومزيداً على ذلك إعجاز الائتلاف الموجود في القرآن لم يشتمل عليه مؤلف لا قديماً ولا حديثاً ولا يمكن أن يحصل له مثيل في المستقبل. ألا تراه جمع في ثلاث وعشرين سنة دون أن يكون فيه اختلاف أو تعارض فافهم؟ ! {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: ٨٢] ، وأين أنت من محمد صلى الله عليه وسلم الذي اعترف بأمانته وطهره من عاصره وشب معه، فهو حرب على الكذب والخنا والفساد والجهالة.

(١) عقيدة المؤمن: أبو بكر الجزائري، ص ٢٥٨.

(٢) انظر: مناهل العرفان للزرقاني: ١/ ٧٦، وما بعدها بتصرف بسيط، وللتوسع: اقرأ في المجلد العاشر من مجلة الأزهر عام ١٣٥٨ هـ ما كتبه محمد فريد وجدي، وما كتبه الزرقاني في المجلد الخامس من مجلة الهدية الإسلامية عام ١٣٥١ هـ وما كتبه محمد عبدالله دراز في كتابه النبأ العظيم.

من خلال ما تقدم يمكن استخلاص أنَّ الحاجة الماسة لوجود الوحي ملحة جداً لقطع الطريق على المعترضين من المغرضين. وذلك أن الوحي يعطي القول الفصل والحجة التي لا مزيد عليها لبيان الإله الحقيقي الذي يستحق العبادة، وبيان الحلال والحرام وما يحتاج إليه الناس في جميع شؤونهم دون الشعور بالظلم والتحيز والكيل بأكثر من مكيال. يضاف إلى ذلك حصول القناعة والرضا المترتبة حينما يثق الإنسان بأن هذا هو حكم الله تعالى، وليس حكماً قابلاً للنقض صدر من إنسان يعتوره الهوى وحب المصالح. فالله تعالى مبرأ من التحيز والظلم بخلاف البشر.

والقيام بأمر النبوة والرسالة وظيفة ثقيلة تحتاج إلى من يقدر على حملها، ومصداق ذلك قوله تعالى {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: ٥] ، والنبوة والرسالة يقدر عليها الرجال بصفة عامة أكثر من النساء لما يكتنفها من ظروف وأخطار المرأة في منأى عنها. وما ورد من أقوال بأن النبوة قد حصلت للنساء فأقوال فيها نظر لضعف المرأة عن هذه المهام الجسام إلا إذا اعتبرنا ذلك مقصوراً عليها وحدها. وعدم وقوعه هو الراجح عند جمهور العلماء، فالوحي إذن وظيفة شريفة يستحق من يتميز بها الطاعة والاحترام والتقدير والإجلال والنصرة والمتابعة. وهذا لايقدره إلا من خالطت بشاشة الإيمان قلبه فاستحق بذلك المغفرة والرحمة من الله تعالى. وبعكسه من أنكر الوحي وكذب الأنبياء فعوقب بالنار والخلود الأبدي فيها وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه [١].

ثانيا: - نزول القرآن

يطلق الإنزال في اللغة على معنيين: -

أحدهما: الهبوط من علو: يقال: نزل فلان من الجبل، ومنه قوله تعالى {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: ١٧] .

الثاني: الحلول: يقال: (نزل فلان بالمدينة) ، أي: حلَّ بها [٢]، ومنه قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} [المؤمنون: ٢٩] .

وكلا المعنيين يشعر بالمكانية والجسمية فلا مجال لتحققهما في كلام الله ووحيه فالتعبير إذن هو من قبيل المجاز ولا يمكن حمله على الحقيقة 
 
وقد ذهب العلماء إلى أن إنزال القرآن فيها توجيهان:

أ- أن يقصد من إنزال القرآن إنزال حامله وهو الروح الأمين جبريل عليه السلام.

ب- أن يقصد من الإنزال لازمة وهو الإعلام فمعنى إنزال القرآن على النبي -صلى الله عليه وسلم- إيصاله إليه وإعلامه به.

واختير لفظ الإنزال أيضاً لحكمة عظيمة وهي بيان شرف هذا القرآن وعلو منزلته وأنه من العالم العلوي ومن هنا اختيرت لفظة الإنزال على لفظة الإعلام والإيصال قال تعالى {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الإسراء: ١٠٥] [٣].

(١) انظر: مَنْهَجِيَّةُ البَحْثِ في التَّفْسِيرُ المَوْضُوعِي للكلمة، والآية، والسورة القرآنية، د. أمين محمد سلام المناسية البطوش (بحث منشور في الشبكة الالكترونية (بتصرف بسيط) .

(٢) المعجم الوسيط - د. إبراهيم أنيس - ٢/ ٩٥١.

(٣) انظر: إتقان البرهان: ص ١٤٦ وما بعدها.

تنزلات القرآن الكريم

في هذه المسألة طرفان، أحدهما متفق عليه، والآخر مختلف فيه، أما الطرف المتفق عليه، فهو أن القرآن لم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من السماء جملة واحدة، بل كان ينزل الوحي به من عند الله، مفرقا حسب الحوادث والأحوال.

وقد جاءت الآيات تقرر ذلك بوضوح تام لا لبس فيه، وتقرر حكمة النزول على تلك الصفة:

١ - قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: ٣٢] .

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله: "لأنه كلما نزل عليه شيء من القرآن ازداد طمأنينةً وثباتاً، وخصوصاً عند ورود أسباب القلق؛ فإن نزول القرآن عند حدوث السبب، يكون له موقع عظيم، وتثبيت كثير، أبلغ مما لو كان نازلاً قبل ذلك ثم تذكره عند حلول سببه."

{وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا} ، أي: مهلناه ودرجناك فيه تدريجاً، وهذا كله يدل على اعتناء الله بكتابه القرآن، وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، حيث جعل إنزال كتابه جارياً على أحوال الرسول ومصالحه الدينية "[١]."

٢ - قال تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: ١٠٦] .

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله: " {عَلَى مُكْثٍ} على مهل، ليتدبروه ويتفكروا في معانيه ويستخرجوا علومه، {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزيلاً} ، شيئًا فشيئًا مفرَّقًا في ثلاث وعشرين سنَة" [٢].

ومما يؤكد نزول القرآن مفرَّقاً: انقطاع الوحي في حادثة الإفك التي اتهمت فيها عائشة رضي الله عنها بالزنى، وقد انتظر النبي صلى الله عليه وسلم نزول القرآن؛ لعظيم وقع المصيبة بتهمة زوجه حتى نزل قوله {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: ١١] .

ومما يؤكد نزول القرآن مفرَّقاً - أيضاً: الآيات الأولى من سورة "عبس" ؛ وذلك عندما أعرض النبي صلى الله عليه وسلم عن تعليم ابن أم مكتوم الأعمى طمعاً في إسلام كبار قريش.

وأما الذي وقع الخلاف فيه، فهو أول وأصل نزول القرآن: هل نزل مرة واحدة إلى السماء الدنيا، ثم نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم مفرقا، أو كان نزوله على صفة واحدة، مفرقا حسب الوقائع، كما سبق.

وسبب ذلك الخلاف هو فهم بعض الآيات التي تدل على نزول القرآن في وقت واحد، مثل قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: ١٨٥] ، وقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: ١] ، مع تصريح ابن عباس رضي الله عنه بذلك الفهم.

(١) تفسير السعدي: ٥٨٢.

(٢) تفسير السعدي: ٤٦٨.

وقد اختلف العلماء في هذا النزول على أقوال:

أولها: أن القرآن قد نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليلة القدر جملةً واحدة، ثم نزل بعد ذلك منجَّماً في ثلاث وعشرين سنة. قاله ابن عباس وهو قول الأكثرين. وهو الراجح.

قال عنه الزركشي "إنه أشهر وأصح وإليه ذهب الأكثرون" [١].

ووصفه ابن حجر بأنه: "الصحيح المعتمد" [٢]. وقال ذلك عنه -أيضا- القسطلاني في لطائف الإشارات [٣].

وذكر السيوطي أن القرطبي حكى الإجماع على أنه نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا [٤].

وحكاية الإجماع في ذلك لا تصح لوجود المخالف في ذلك وتعدد المذاهب فيه.

وأدلة هذا القول:

١ - أنه ظاهر الآيات الثلاث في قوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} [القدر: ١] وقوله سبحانه: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة} [الدخان: ٣] وقوله جل وعلا: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} [البقرة: ١٨٥] .

فقد دل ظاهر هذه الآيات الثلاث أن القرآن الكريم أنزل جملة في ليلة واحدة توصف بأنها مباركة من شهر رمضان. وهذا وصف مغاير لصفة نزول القرآن الكريم على الرسول صلى الله عليه وسلم حيث إنه من المعلوم المقطوع به أن القرآن نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم منجما مفرقا في نحو ثلاث وعشرين سنة حسب الوقائع والأحداث.

فتعين أن يكون هذا النزول الذي دل عليه ظاهر الآيات نزولا آخر غير النزول المباشر على النبي صلى الله عليه وسلم.

٢ - أنه صريح الآثار الواردة عن ابن عباس، والتي لها حكم الرفع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن الأخبار التي استند إليها أصحاب هذا المذهب:

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة" . ثم قرأ: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: ٣٣] ، {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: ١٠٦] "[٥]."

(١) البرهان: ١/ ٢٢٨.

(٢) فتح الباي: ٩/ ٤.

(٣) انظر: لطائف الإشارات: ٢٢.

(٤) الإتقان (١/ ١٤٨) ، ومناهل العرفان (١/ ٣٩) ، تفسير القرطبي (٢/ ٢٩٧) .

(٥) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن (٣٦٨) ، وانظر طبعة المغرب بتحقيق أحمد الخياطي (٢/ ٢٠٢) وأخرجه الحاكم في المستدرك (٢/ ٢٢٢) و (٢/ ٣٦٨) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي وأخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (١/ ٣٦٨) وشعب الإيمان (٢/ ٤١٥) رقم ٢٢٤٩، والنسائي في التفسير (٢/ ١٣١) رقم ٣٩٢ وقال المحقق صحيح. وأخرجه ابن جرير في تفسيره (١٥/ ١٧٨) و (٣٠/ ٢٥٨) . وانظر: فضائل القرآن للنسائي (٥٩) ، وابن الضريس (٧٢) . والمرشد الوجيز (١٤ - ) وذكره ابن كثير في فضائل القرآن (٦) عن أبي عبيد ثم قال: هذا إسناد صحيح.

وقال أبو عبيد: ولا أدري كيف قرأ يزيد في حديثه "فرقناه" مشددة أم لا؟ إلا أنه لا ينبغي أن تكون على هذا التفسير إلا بالتشديد "فرقناه" .

وقراءة الجمهور بالتخفيف، وقرأ بالتشديد أبي، وعبد الله بن مسعود وعلي وابن عباس، وأبو رجاء وغيرهم. انظر تفسير ابن جرير (١٥/ ١٧٨) ، والبحر المحيط (٦/ ٨٧) . ومعجم القراءات القرآنية (٣/ ٣٤٢) .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "فصل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة في السماء الدنيا، فجعل جبريل عليه السلام ينزله على النبي صلى الله عليه وسلم ويرتله ترتيلا" [١].

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أنزل القرآن جملة واحدة حتى وضع في بيت العزة في السماء الدنيا ونزله جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم بجواب كلام العباد وأعمالهم" [٢].

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أنزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر إلى السماء الدنيا وكان بمواقع النجوم وكان الله ينزله على رسوله صلى الله عليه وسلم بعضه في إثر بعض قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: ٣٢] "[٣]."

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أُنْزِلَ الْقُرْآنُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا جُمْلَةً، ثُمَّ أُنْزِلَ نُجُومًا" [٤].

وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "أنزل القرآن إلى السماء الدنيا في ليلة القدر فكان الله إذا أراد أن يوحي منه شيئا أوحاه أو أن يحدث منه شيئا أحدثه" [٥].

وعن مقسم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: سأله عطيه بن الأسود فقال: إنه وقع في قلبي الشك في قوله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} [البقرة: ١٨٥] وقوله: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} [القدر: ١] وقوله: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة} [الدخان: ٣] وقد أنزل في شوال، وذي القعدة، وذي الحجة، والمحرم، وشهر ربيع الأول؟ فقال ابن عباس -

(١) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (١/ ٣٦٨) ، والطبراني في الكبير (١٢/ ٢٦) رقم ١٢٣٨١، والحاكم في المستدرك (٢/ ٢٢٣) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وأخرجه النسائي في فضائل القرآن (٥٩ - ٦٠) وزاد في آخره: قال سفيان: خمس آيات، ونحوها. وانظر المرشد الوجيز لأبي شامة (٢٠) . وذكره السيوطي في الدر المنثور بنحوه (١/ ٤٥٧) وزاد نسبته للفريابي وابن جرير ومحمد بن نصر وابن مردويه والضياء المقدسي في المختارة. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (٧/ ١٥٧) وقال: رواه الطبراني عن شيخه عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم وهو ضعيف.

(٢) أخرجه الطبراني في الكبير (١٢/ ٢٦) رقم (١٢٣٨٢) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (٧/ ١٤٠) وقال عنه: رواه الطبراني والبزار باختصار ورجال البزار رجال الصحيح، وفي إسناد الطبراني عمرو بن عبد الغفار وهو ضعيف. وذكره السيوطي في الدر المنثور (٨/ ٥٦٧) وزاد نسبته لابن الضريس وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل.

(٣) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (١/ ٣٦٧) وفي شعب الإيمان (٣/ ٣٢٠) رقم (٣٦٥٩) ، والحاكم في المستدرك (٢/ ٢٢٢) وقال: هذا حديث صحيح على شرطهما ولم يخرجاه. وابن الضريس في فضائل القرآن (٧٢) . وذكره أبو شامة في المرشد الوجيز (١٧) وذكر السيوطي -نحوه- في الدر المنثور وزاد نسبته لابن جرير وابن مردويه ومحمد بن نصر والطبراني وأخرجه النسائي في تفسيره (٢/ ٥٣٩) رقم (٧٠٩) وقال المحقق: صحيح

(٤) أخرجه الطبراني في الكبير (١١/ ٢٤٧) رقم (١١٨٣٩) والهيثمي في مجمع الزوائد (٧/ ١٤٠) وقال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير وفيه عمران القطان وثقه ابن حبان وغيره، وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات.

(٥) أخرجه النسائي في فضائل القرآن (٥٩) ، والبيهقي في الأسماء والصفات (١/ ٣٦٨) . والحاكم في المستدرك (٢/ ٢٢٢) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي وأخرجه ابن الضريس بنحوه في فضائل القرآن (٧١ - ) .

رضي الله عنهما-: إنه أنزل في رمضان، وفي ليلة القدر، وفي ليلة مباركة؛ جملة واحدة، ثم أنزل بعد ذلك على مواقع النجوم رسلا [١] في الشهور والأيام "[٢]."

وعن سعيد بن جبير قال: "نزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر في رمضان فجعل في بيت العزة، ثم أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة جواب كلام الناس" [٣].

وعن سعيد بن جبير أيضا قال: "نزل القرآن جملة من السماء العليا إلى السماء الدنيا ليلة القدر، ثم نزل مفصلا" [٤].

وعن الربيع بن أنس في قوله: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} قال: "أنزل الله القرآن جملة في ليلة القدر كله" [٥].

وعن إبراهيم النخعي في قوله عز وجل: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة} قال: "أنزل جملة على جبريل عليه السلام، وكان جبريل يجيء بعد إلى محمد صلى الله عليه وسلم" [٦].

ووجه الاستدلال بهذه الأحاديث والآثار التي أخرجها الأئمة وصححوا بعضها، والتي يعضد بعضها بعضا أنها وإن كانت موقوفة في جملتها على ابن عباس رضي الله عنهما فإن لها حكم الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأن قول الصحابي الذي لا يأخذ عن الإسرائيليات، فيما لا مجال للرأي فيه له حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وابن عباس لن يقول ما قال من هذا التفصيل والتحديد بمحض رأيه ومن عند نفسه فهو إذا محمول على سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم أو ممن سمعه منه من الصحابة والصحابة كلهم عدول.

٣ - عدم معارضته للقول الثاني مع توجيه أدلة هذا القول والرد عليها.

٤ - ضعف الأقوال الأخرى.

٥ - انتفاء المحذور العقدي بالتصريح بسماع جبريل للقرآن من الله عز وجل دون واسطة.

٦ - شهرة القول وكثرة القائلين به، والمصححين له، حتى حكى القرطبي [٧] الإجماع عليه.

القول الثاني: أنه ابتُدئ إنزال القرآن في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك منجَّما في أوقات مختلفة حسب الحوادث والوقائع وحاجات الناس، وهذ قول التابعي الجليل الشعبي [٨]، ومحمد ابن إسحاق [٩]، واختاره النسفي [١٠].

(١) رسلا: قطعة قطعة وفرقة فرقة. انظر: حاشية تفسير الطبري (٣/ ٤٤٦) .

(٢) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (١/ ٣٦٩ - ) وأخرجه الطبري في تفسيره بسنده (٣/ ٤٤٨) ولم يسم فيه السائل. وأخرجه الطبراني في الكبير (١١/ ٣٠٩) رقم (١٢٠٩٥) والهيثمي في مجمع الزوائد (٦/ ٣١٦) وقال عنه: وفيه سعد بن طريف وهو متروك. وذكره السيوطي في الدر المنثور (١/ ٤٥٦) وزاد نسبته لابن أبي حاتم، وابن مردويه، ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة.

(٣) أخرجه ابن الضريس في فضائل القرآن (٧٢) . وذكره السيوطي في الدر المنثور (١/ ٤٥٧) ولم ينسبه لغير ابن الضريس.

(٤) أخرجه سعيد بن منصور في سننه بسنده (٢/ ٢٩٤) رقم (٧٩) وفيه حكيم بن جبير ضعيف. وذكره السيوطي في الدر المنثور (٧/ ٣٩٩) ولم ينسبه لغير سعيد بن منصور.

(٥) أخرجه عبد بن حميد كما ذكر السيوطي في الدر المنثور (٨/ ٥٦٧) .

(٦) أخرجه سعيد بن منصور في سننه بسنده (٢/ ٢٩٢) رقم (٧٨) وذكره السيوطي في الدر المنثور (٧/ ٣٩٩) ولم ينسبه لغير سعيد بن منصور.

(٧) الإتقان (١/ ١٤٨) ، ومناهل العرفان (١/ ٣٩) ، تفسير القرطبي (٢/ ٢٩٧) .

(٨) انظر: تفسير الطبري: ٢٤/ ٥٣١.

(٩) نسبه له الفخر الرازي في تفسيره: ٥/ ٨٥.

(١٠) انظر تفسيره: ١/ ٩٤، حيث قال: " {الذي أنزل فيه القرآن} : أي ابتدئ فيه إنزاله وكان في ليلة القدر .." ، وأشار إلى الإنزال جملة بصيغة التضعيف في تفسير سورة القدر (٤/ ٣٧٠) فقال: "روي أنه أنزل جملة" .

وأدلتهم [١]:

١ - الواقع الفعلي لنزول القرآن الكريم على الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه نزل منجما مفرقا حسب الحوادث والوقائع على نحو من ثلاث وعشرين سنة.

٢ - قوله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: ١٠٦] ، فصريح القرآن، وواقع نزوله يدل على تنجيمه وتفريقه.

٣ - أن الآيات الثلاث الواردة في وصف نزول القرآن المراد بها ابتداء نزول القرآن الكريم على الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه ابتدأ نزوله في ليلة القدر من شهر رمضان وهي الليلة المباركة وفي هذا جمع بين هذه الآيات وقوله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: ١٠٦] .

٤ - أن ما جاء من الآثار الدالة على نزول القرآن جملة واحدة إلى بيت العزة في السماء الدنيا وإن كانت صحيحة الإسناد فهي موقوفة على ابن عباس وغير متواترة. وهذه مسألة غيبية عقدية ولا يؤخذ في الغيبيات إلا بما تواتر يقينا في الكتاب والسنة فصحة الإسناد لا تكفي وحدها لوجوب اعتقاده. فكيف وقد نطق القرآن بخلافه.

وهذا القول قول قويّ، إلاّ أنّه يُردّ من أوجه ثلاثة:

الأوّل: أنّ أثر الشّعبي رحمه الله رواه عنه الطّبري [٢]، بإسناد ضعيف، ففيه:

أ- عمران أبو العوّام، وهو صدوق يهم [٣].

ب- وفيه عمرو بن عاصم الكلابي، فهو صدوق في حفظه شيء [٤].

الثّاني: أنّ الثّابت عن الشّعبي هو ما يوافق الجمهور، رواه عنه الطّبري بإسناد صحيح [٥].

الثّالث: أنّه مخالف لما ذكره ابن عبّاس رضي الله عنه، وأقوال الصّحابة هي الحجّة في كلّ باب عند انعدام النّصوص.

الرابع: كما يجاب على أدلة القول الثاني - على سبيل الإيجاز - بما يأتي:

١ - أن صفة نزول القرآن المباشر على الرسول صلى الله عليه وسلم وكونه نزل عليه مفرقا، وكونه صريح قوله تعالى: {وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث} هو محل إجماع ولا خلاف حوله ولا يعارض النزول جملة.

٢ - القول بأن المراد بالآيات الثلاث من سور البقرة، والدخان، والقدر، هو ابتداء النزول؛ هو صرف لها عن ظاهرها بغير صارف ويجعلها تحتاج إلى تقدير محذوف.

(١) انظر: مباحث في علوم القرآن. د. صبحي الصالح. (٥١) وتفسير جزء «عم» للشيخ محمد عبده ص (١٢٢) ط. بولاق.

(٢) انظر: تفسير الطبري: ٢٤/ ٥٣١.

(٣) كما في "التّقريب" (٢/ ٨٣) .

(٤) كما في "التّقريب" (٢/ ٧٢) .

(٥) انظر: تفسير الطبري (٢٨٢٠) : ص ٣/ ٤٤٧، و: ص ٢٤/ ٥٣٢، ولفظه: "" بلغنا أن القرآن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا ". كما عد السخاوي في جمال القراء: ١/ ٢٠، الشعبي من القائلين بالقول الأول مع ابن عباس وابن جبير."

فقوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} أي ابتدأنا إنزاله. وهو يقتضي حمل القرآن على أن المراد به بعض أجزائه وأقسامه [١] فقوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} أي أنزلنا بعضه.

٣ - أن القول بأن المسألة عقدية لا بد لها من أدلة متواترة قطعية الثبوت لإفادة العلم اليقيني ولا يكفي فيها الآثار الموقوفة؛ قول غير مسلم. واستبعاد الاستدلال بأحاديث الآحاد على العقائد غير صحيح فالعبرة بصحة الحديث فمتى صح الحديث احتج به سواء كان آحادا أم متواترا وسواء كان في الأحكام أم العقائد [٢].

القول الثالث: أنّه نزل إلى السماء الدّنيا في ثلاث وعشرين ليلةِ قدر، في كلّ ليلة ينزل ما يقدّر الله إنزاله تلك السّنة.

وهذا قول ابن جريج [٣]، وأبو عبد الله الحسين بن الحسن الحليمي [٤]، ومقاتل بن حيان [٥]، وقال بنحوه مقاتل بن سليمان [٦]، ونسبه السيوطي للفخر الرازي [٧]،

كما ينسب هذا القول في كثير من كتب علوم القرآن للماوردي [٨].

وهذا القول ضعيف مدفوع أيضا بمذهب الصّحابيّ.

قال عنه ابن حجر: "وهذا أورده ابن الأنباري من طريق ضعيفة ومنقطعة أيضا" [٩].

وقال عنه القرطبي: "قلت: وقول مقاتل هذا خلاف ما نقل من الإجماع" أن القرآن أنزل جملة واحدة "[١٠]."

وحكاية القرطبي للإجماع هنا غير مسلمة لما علمته من الأقوال في ذلك.

(١) انظر: مفاتبح الغيب: ٥/ ٨٥.

(٢) انظر: المدخل لدراسة القرآن الكريم (٥٢) .

(٣) انظر: تفسير الطبري (٣/ ٤٤٧) . وتفسير أبي الليث السمرقندي (١/ ٥٦٣) والدر المنثور للسيوطي (١/ ٤٥٧) .

(٤) قاله في كتابه المنهاج (٢/ ٢٣٤ - ) ، وانظر: البرهان (١، ٢٢٩) ، ولطائف الإشارات للقسطلاني (١/ ٢٢) ، والمرشد الوجيز (١٩) .

(٥) انظر: الإتقان للسيوطي (١/ ١٤٨) ، والزيادة والإحسان لابن عقيلة المكي (١/ ٢١٥) بتحقيق د. محمد صفاء حقي. رسالة ماجستير غير منشورة. قسم القرآن وعلومه في كلية أصول الدين. الرياض.

(٦) انظر: حاشية المرشد الوجيز بتحقيق طيار آلتي قولاج (١٨) . وتفسير مقاتل بن سليمان (١/ ٢٢ خ) ، وتفسير أبي الليث السمرقندي (١/ ٥٦٢) .

(٧) انظر: مفاتيح الغيب: ٥/ ٨٥. وهي نسبة غير محررة فقد ذكر الفخر الرازي في تفسيره هذا القول وجعله محتملا، وتوقف في الترجيح بينه وبين القول بنزوله جملة واحدة من اللوح المحفوظ ثم نزوله منجما بعد ذلك. لكنه في موضع آخر وبعد صفحة واحدة رجح القول الثاني. فقال: ".. التنزيل مختص بالنزول على سبيل التدريج والإنزال مختص بما يكون النزول فيه دفعة واحدة، ولهذا قال الله تعالى: {نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل} إذا ثبت هذا فنقول: لما كان المراد ههنا من قوله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} . نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا. لا جرم ذكره بلفظ الإنزال دون التنزيل وهذا يدل على أن هذا القول راجح على سائر الأقوال" .

(٨) انظر: المرشد الوجيز لأبي شامة (١٨، ١٩) ، والبرهان (١/ ٢٢٩) ، والإتقان (١/ ١٤٨) ، والزيادة والإحسان لابن عقيلة (١/ ٢١٥) ، وهي نسبة غير محررة من حيث تحديد القول، وتعيين القائل.

(٩) فتح الباري (٩/ ٤) ، ونقله القسطلاني في لطائف الإشارات (١/ ٢٢) .

(١٠) تفسير القرطبي (٢/ ٢٩٨) ، وانظر الإتقان (١/ ١٤٨) .

القول الرابع: أن القرآن نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ وأن الحفظة نجمته على جبريل في عشرين ليلة، وأن جبريل نجمه على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة. حكاه بعض المفسرين عن ابن عباس [١].

قال ابن حجر: "وهذا -أيضا- غريب" [٢].

وقال أبو شامة: "وهو قول مردود لأنه ليس بين الله وجبريل واسطة في تلقي القرآن الكريم" [٣].

وقال ابن العربي متعقبا هذا القول: "ومن جهلة المفسرين أنهم قالوا: إن السفرة ألقته إلى جبريل في عشرين ليلة وألقاه جبريل إلى محمد - عليهما السلام - في عشرين سنة وهذا باطل، ليس بين جبريل وبين الله واسطة، ولا بين جبريل ومحمد صلى الله عليهما واسطة" [٤].

وقد نقل أبو شامة في المرشد الوجيز عن تفسير علي بن سهل النيسابوري عن جماعة من العلماء أن جبريل هو من أملاه على السفرة. قال: "قال جماعة من العلماء: تنزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى بيت يقال له بيت العزة، فحفظه جبريل عليه السلام، وغشى على أهل السماوات من هيبة كلام الله فمر بهم جبريل وقد أفاقوا فقالوا: {ماذا قال ربكم قالوا الحق} [سبأ: ٢٣] يعني القرآن وهو معنى قوله: {حتى إذا فزع عن قلوبهم} [سبأ: ٢٣] فأتى به جبريل إلى بيت العزة فأملاه جبريل على السفرة الكتبة. يعني الملائكة وهو قوله تعالى: {بأيدي سفرة} {كرام بررة} [عبس: ١٥ - ١٦] " [٥].

وذهب إلى هذا المعنى من إملاء جبريل القرآن على السفرة علم الدين السخاوي في جمال القرآن في معرض حديثه عن حكمة إنزاله جملة فقال: ".. وزاد سبحانه في هذا المعنى بأن أمر جبريل عليه السلام بإملائه على السفرة الكرام البررة -عليهم السلام- وإنساخهم إياه، وتلاوتهم له" [٦] فيكون قولا خامسا.

وقد حاول ابن عقيلة المكي الإجابة عما تضمنه ذلك الخبر من عدم أخذ جبريل للقرآن من الله. فقال بعد أن ساق الخبر: "فهذا يقضي أن جبريل ما أخذه إلا عن السفرة. قلت: لا تنافي، لاحتمال أن جبريل -عليه السلام- سمعه من الله سبحانه وتعالى كما تقدم بصفة التجلي فعلمه جميعه ثم أمره الله أن يأخذه من اللوح المحفوظ فيضعه في بيت العزة عند السفرة، ثم أمر الله سبحانه وتعالى السفرة أن تنجمه على جبريل عليه السلام في عشرين ليلة لكل سنة ليلة وإنما كان التنجيم من السفرة على جبريل لما ذكره الحكيم الترمذي: إن سر وضع القرآن في السماء الدنيا ليدخل في حدها لأنه رحمة لأهلها. فأخذ جبريل عن السفرة إشارة إلى أنه صار مخصوصا بهم فلا يؤخذ إلا عنهم" [٧].

(١) انظر: الدر المنثور: ٥/ ٣٤٥، وحكاه الماوردي عن ابن عباس في النكت والعيون (٦/ ٣١١) ، وابن كثير في تفسيره: ٧/ ٥٤٤، الإتقان: السيوطي: ج ١ ص ٥٤. وأخرجه - بنحوه - ابن أبي حاتم، وانظر الزيادة والإحسان (١/ ١٧٢، ٢١٨) .

(٢) فتح الباري لابن حجر (٩/ ٤ - ) ، ونقل القسطلاني كلام ابن حجر في كتابه لطائف الإشارات (١/ ٢٢) .

(٣) المرشد الوجيز: ١٩.

(٤) أحكام القرآن لابن العربي (٤/ ١٩٦١ - ) وانظر تفسير القرطبي (٢٠/ ١٣٠) .

(٥) ? المرشد الوجيز (٢٣) ، وانظر تفسير القرطبي (٢٠/ ١٣٠) .

(٦) جمال القراء وكمال الإقراء للسخاوي (١/ ٢٠) .

(٧) ? الزيادة والإحسان لابن عقيلة (١/ ١٧٢) بتحقيق: د. محمد صفاء حقي

ولا يخفى ما في هذا القول الأخير من ضعف، في كون جبريل عليه السلام يأخذ القرآن إلى السفرة ثم يأخذه منهم؛ ، دون إنكار صلة السفرة بالقرآن، قال تعالى: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (١٦) } [عبس: ١٣ - ١٦] .

والاتفاق حاصل والإجماع قائم على صفة نزول القرآن الكريم المباشر على الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه نزل منجما مفرقا من بعثته صلى الله عليه وسلم إلى قرب وفاته ينزل أحيانا ابتداء بغير سبب وهو أكثر القرآن الكريم وأحيانا أخرى ينزل مرتبطا بالأحداث والوقائع والأسباب.

وأما نزوله جملة فهو ظاهر القرآن في قوله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} وقوله: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة} وقوله سبحانه: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} فهو أنزل في ليلة اسمها ليلة القدر، وصفتها أنها مباركة، وشهرها شهر رمضان. وهو صريح الأخبار الواردة عن ابن عباس، والتي لها حكم الرفع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.

وما دام أن النزول جملة لا يعارض صراحة النزول السابق، ولا يرتبط به من خلال تلك النصوص. بل هو نزول خاص، ووجود معين حيث القرآن الكريم كلام الله ومنزل من عند الله يتلقاه جبريل عليه السلام من الله بلا واسطة عند نزوله به على الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة.

وإن كان قد نزل به إلى بيت العزة فذلك نزول خاص. وأحد وجودات القرآن الكريم المتعددة. حيث يوجد القرآن الكريم في اللوح المحفوظ [١].

ويوجد - أيضا - في الصحف المطهرة الموجودة في أيدي الكرام البررة من الملائكة كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (١٦) } [عبس: ١١ - ١٦] .

ويوجد - كذلك - في بيت العزة من السماء الدنيا كما دلت على ذلك الأخبار عن ابن عباس. وجائز أن يكون الوجودان الأخيران مختلفين متغايرين وجائز أن يكونا وجودا واحدا بأن يكون القرآن الكريم في تلك الصحف في بيت العزة وبأيدي أولئك الملائكة الكرام كما يوجد في الأرض بنزوله على الرسول صلى الله عليه وسلم والنزول مقترن بما عدا الأول من الوجودات المذكورة.

يقول البيهقي - رحمه الله: "وقوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} يريد به والله أعلم إنا أسمعناه الملك، وأفهمناه إياه، وأنزلناه بما سمع فيكون الملك منتقلا به من علو إلى سفل" [٢].

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بعد عرض قرر فيه أن القرآن الكريم كلام الله منزل من عند الله كما هو صريح القرآن، قال: "فعلم أن القرآن العربي منزل من الله لا من الهواء، ولا من اللوح، ولا من جسم آخر، ولا من جبريل، ولا من محمد، ولا غيرهما، وإذا كان"

(١) عد الشيخ عبد العظيم الزرقاني هذا الوجود تنزلا. وجعله التنزل الأول والصواب أنه وجود إذ لم يرد لفظ النزول مقترنا به فلا يصح أن يعد نزولا أو تنزلا. وانظر: المدخل لدراسة القرآن للشيخ محمد أبو شهبة (٤٧) .

(٢) كتاب الأسماء والصفات للبيهقي (١/ ٣٦٢) .

أهل الكتاب يعلمون ذلك [١] فمن لم يقر بذلك من هذه الأمة كان أهل الكتاب المقرون بذلك خيرا منه من هذا الوجه.

ثم قال: "وهذا لا ينافي ما جاء عن ابن عباس وغيره من السلف في تفسير قوله: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} أنه أنزله إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم أنزله بعد ذلك منجما مفرقا بحسب الحوادث. ولا يتنافى أنه مكتوب في اللوح المحفوظ قبل نزوله، كما قال تعالى: {بل هو قرآن مجيد} {في لوح محفوظ} وقال تعالى: {إنه لقرآن كريم} {في كتاب مكنون} {لا يمسه إلا المطهرون} وقال تعالى: {كلا إنها تذكرة} {فمن شاء ذكره} {في صحف مكرمة} {مرفوعة مطهرة} {بأيدي سفرة} {كرام بررة} . وقال تعالى: {وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم} . فإن كونه مكتوبا في اللوح المحفوظ وفي صحف مطهرة بأيدي الملائكة لا ينافي أن يكون جبريل نزل به من الله سواء كتبه الله قبل أن يرسل به جبريل أو بعد ذلك وإذ كان قد أنزله مكتوبا إلى بيت العزة جملة واحدة في ليلة القدر فقد كتبه كله قبل أن ينزله ..." [٢].

فعلى هذا الوجه لا إشكال في القول بأن للقرآن تنزلين: نزول جملة، ونزول مفرق، ولا يترتب عليه محذور. وإنما يقع المحذور ويحصل الإشكال في القول بأن جبريل يأخذ القرآن من الكتاب أو من بيت العزة عند نزوله به على الرسول صلى الله عليه وسلم من دون سماع من الله تعالى. كما نقل أبو شامة عن الحكيم الترمذي - في معرض حديثه عن حكمة نزول القرآن جملة - قوله: "ثم أجرى من السماء الدنيا الآية بعد الآية عند نزول النوائب .." [٣].

وكما قد يفهم من ظاهر بعض الآثار فمثل هذا القول، ومثل هذا الفهم للقول بأن للقرآن تنزلين؛ لا يصح. فهو أولا لم يرد في تلك النصوص المفسرة والمفصلة لنزول القرآن جملة. وثانيا أنه يلزم منه أن جبريل عليه السلام لم يسمع القرآن من الله عز وجل وأن القرآن نزل من مخلوق لا من الله وهذا باطل.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله: "والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل، وهو الذي نزل عليه به، وجبريل سمعه من الله تعالى، كما نص على ذلك أحمد وغيره من الأئمة. قال تعالى: {قل نزله روح القدس من ربك بالحق} فأخبر سبحانه أنه نزله روح القدس وهو الروح الأمين، وهو جبريل من الله بالحق .." [٤].

وذكر ابن تيمية عن أبي حامد الإسفرائيني قوله: "مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار أن القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال: مخلوق فهو كافر، والقرآن حمله جبريل مسموعا من الله، والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل، والصحابة سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي نتلوه نحن بألسنتنا، وفيما بين الدفتين، وما في صدورنا: مسموعا، ومكتوبا، ومحفوظا .." [٥].

(١) إشارة إلى قوله تعالى: والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين الأنعام، من الآية / ١١٤.

(٢) الفتاوى لابن تيمية (١٢/ ١٢٦ - )

(٣) ? المرشد الوجيز (٢٦) .

(٤) الفتاوى (١٢/ ٢٩٨) باختصار.

(٥) الفتاوى (١٢/ ٣٠٦) .

فالقرآن كلام الله لفظه ومعناه سمعه منه جبريل، وبلغه عن الله إلى محمد، ومحمد سمعه من جبريل وبلغه إلى أمته، فهو كلام الله حيث سمع، وكتب، وقرئ، كما قال تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} [١].

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أيضا: "ومن قال إن جبريل أخذ القرآن من الكتاب لم يسمعه من الله كان هذا باطلا من وجوه: منها أن يقال إن الله سبحانه وتعالى قد كتب التوراة لموسى بيده فبنو إسرائيل أخذوا كلام الله من الكتاب الذي كتبه هو سبحانه وتعالى فيه فإن كان محمد أخذه عن جبريل، وجبريل عن الكتاب كان بنو إسرائيل أعلى من محمد بدرجة" [٢].

وقد أبان الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - مذهب أهل السنة فقال: "فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة قاطبة أن الله تعالى لم يزل متكلما إذا شاء، ومتى شاء، وكيف شاء، وأن جبريل عليه السلام، سمع القرآن الكريم من الله تعالى وبلغه محمد صلى الله عليه وسلم" [٣].

وهذا الخلاف - كما ترى - ليس له كبير أثر في واقع تنزيل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قيل إن هذا التنزيل سببه إظهار كرامة القرآن وعظيم منزلته في العالَم العلو.

قال بدر الدين الزركشي - رحمه الله: "فإن قيل: ما السر في إنزاله جملة إلى السماء؟"

قيل: فيه تفخيم لأمره وأمر مَن نزل عليه، وذلك بإعلان سكان السموات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم "[٤]."

والراجح أن القرآن الكريم له تنزلان: -

الأول: نزوله جملة واحدة في ليلة القدر إلى بيت العزة من السماء الدنيا.

الثاني: نزوله من السماء الدنيا إلى الأرض مفرقاً منجماً في نيف وعشرين سنة [٥].

الحكمة من تنجيم القرآن

إن لتنجيم القرآن الكريم حكم، نذكر منها:

الحكمة الأولى: تثبيت فؤاد النبي? وذلك من خلال الآتي: -

أ- أن في تجدد الوحي، وتكرار نزوله من جانب الحق إلى رسوله? يملأ قلب الرسول الكريم سروراً، ويشعر بالعناية الإلهية.

ومما لا شك فيه أن كثرة نزول الوحي أقوى بالقلب وأشد عناية بالمرسل إليه، فيحصل للنبي - صلى الله عليه وسلم - الأُنْس والارتباط بالله تعالى يقول الإمام أبو شامة [٦]: كك "فإن الوحي إذا كان يتجدد في كل حادثة كان أقوى بالقلب، وأشد عناية بالمرسل إليه، ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك إليه وتجدد"

(١) المصدر السابق (١٢/ ٥٦٦) .

(٢) ? الفتاوى (١٢/ ١٢٧ - )

(٣) الجواب الواضح المستقيم في التحقيق في كيفية إنزال القرآن الكريم للعلامة الشيخ محمد بن إبراهيم، مطبعة الحكومة بمكة المكرمة، عام ١٣٦٩ هـ: ص ٣.

(٤) البرهان في علوم القرآن: ١/ ٢٣٠.

(٥) مباحث في علوم القرآن - مناع القطان - ص ١٠٤.

(٦) أبو شامة هو العلامة عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي أبو القاسم شهاب الدين، فقيه شافعي له كتاب (المرشد الوجيز فيما يتعلق بالقرآن العزيز) ، وكتب أخرى، توفي سنة ٦٦٥ هـ، انظر الأعلام ٢٩٩.

العهد به وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجناب العزيز، فيحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة، ولهذا كان أجود ما يكون في رمضان لكثرة لقائه جبريل "[١]."

ومنها تسليته - صلى الله عليه وسلم - ببيان ما يثبت قلبه على الحق ويشحذ عزمه للمضي قدمًا في طريق دعوته لا يبالي بظلمات الجهالة التي يواجهها من قومه، فما حصل للنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - قد حصل للأنبياء السابقين قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: ٦] {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) } [الأنعام: ٣٣ - ٣٤] ، وكلما اشتد أذى المشركين للرسول - صلى الله عليه وسلم - نزلت الآيات لطمأنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتسليته، وتهديد المشركين والمكذبين بأن الله يعلم أحوالهم وسيجازيهم على ذلك أشد الجزاء، قال تعالى: {فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [يس: ٧٦] ، {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يونس: ٦٥] ، {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل: ١٠] ، {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف: ٣٥] ، {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: ١٢٧] ، {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود: ١١٥] ، فكان لاتصال الوحي بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وتتابع نزول الآيات عليه تسليةً له بعد تسلية تشد من أزره وتحمله على الصبر والمصابرة، وكان لذلك أبلغ الأثر في مواساته والتخفيف عنه، ولو أن القرآن نزل جملةً واحدة لكان لانقطاع الوحي بعد ذلك أثر كبير في استشعار الوحشة والغربة.

ب- ومنها تسليته - صلى الله عليه وسلم - بذكر قصص الأنبياء السابقين، قال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: ١٢٠] ، {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: ١١١] ، {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف: ٣٥] .

ج- أن في التنجيم تيسيراً عليه من الله في حفظه وفهمه ومعرفة أحكامه وحكمه.

فقد نزل القرآن مفرقًا لكي يسهل حفظه وفهمه، فكانت الآيات تنزل على النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وكان النبي يعلمها أصحابه فكلما نزلت الآية أو الآيات حفظها الصحابة، وتدبروا معانيها، ووقفوا عند أحكامها [٢] بل صار الصحابة والتابعون يعلمون من بعدهم بنفس الطريقة فصارت سنة متبعة فعن أبي العالية الرِّياحي [٣] أنه قال "تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذه خمسًا خمسًا" [٤].

(١) انظر البرهان ١ ٢٣١، الإتقان ١ ١٢١.

(٢) المدخل لدراسة القرآن الكريم ٧١، مباحث في علوم القرآن ٩٥.

(٣) اسمه رُفَيْع بن مهران، من رواة الحديث، ثقة كثير الارسال، التقريب ٢١٠.

(٤) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، كتاب فضائل القرآن، في تعليم القرآن كم آية ١٠ ٤٦١، وأخرجه أبو نعيم في الحلية ٢ ٢١٩، أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (١٩٥٩) .

وقال عبد الله بن مسعود "كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن" [١].

وفي بعض الروايات أن أبا عبد الرحمن السلمي [٢] قال حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن أنهم كانوا يستقرئون من النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها، فتعلمنا القرآن والعمل جميعًا [٣].

ثم إن أدوات الكتابة لم تكن ميسورة للكُتَّاب على ندرتهم، فلو أنزل القرآن جملة واحدة لعجزوا عن حفظه وكتابته، فاقتضت حكمة الله العليا أن ينزله إليهم مفرقًا ليسهل عليهم حفظه ويتهيأ لهم استظهاره [٤].

د- أن هذا التنزيل فيه نوع من الإعجاز، حيث تحدى كفار قريش في كل مرة أن يأتوا بمثل هذا التنزيل - ولا شك أن هذه المعجزة تقوي أزر الرسول الكريم? .

قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (٣٤) } [الطور: ٣٣ - ٣٤] ، وقوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [هود: ١٣] ، وقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: ٢٣] .

هـ- أن في هذا النزول دحض شبهات كفار قريش ورداً على أسئلتهم، وتسلية للرسول الكريم? وتأييداً له.

فالمشركين تمادَوا في غيهم وأسئلتهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - فكانوا يسألون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أسئلة تعجيز وتحد ومبالغة مثل متى الساعة، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [الأعراف: ١٨٧] ، فينزل الجواب من الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: ١٨٧] .

ومثل ما المراد بالروح {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء: ٨٥] ، فيقول القرآن: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: ٨٥]

فرد الله عليهم بقوله: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: ٣٣] ، وحيث عجبوا من نزول القرآن منجمًا بين الله لهم الحق في ذلك، فإن تحديهم به مفرقًا مع عجزهم عن الإتيان بمثله أدخل في الإعجاز، وأبلغ في الحجة من أن ينزل جملة ويقال لهم: جيئوا بمثله، ولهذا جاءت الآية عقب اعتراضهم {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: ٣٢] ، أي: لا يأتونك بصفة عجيبة

(١) المصنف ٣ ٣٨٠.

(٢) هو عبد الله بن حبيب بن رُبَيِّعَة الكوفي المقرئ، مشهور بكنيته، ولأبيه صحبة، التقريب ٢٩٩.

(٣) انظر المصنف للصنعاني ٣ ٣٨٠، والمصنف لابن أبي شيبة، كتاب فضائل القرآن، في تعليم القرآن كم آية ١٠ ٤٦٠، وقال الهيثمي في المجمع، باب السؤال عن الفقه، رواه أحمد وفيه عطاء بن السائب اختلط في آخر عمره. مجمع الزوائد ١ ١٦٥ وأخرجه الصنعاني في المصنف بنحوه، كتاب فضائل القرآن، باب تعليم القرآن وفضله ٣ ٣٨٠.

(٤) مناهل العرفان ١ ٥٦.

يطلبونها كنزول القرآن جملة إلا أعطيناك من الأحوال ما يحق لك في حكمتنا وبما هو أبين معنى في إعجازهم وذلك بنزوله مفرقًا [١].

الحكمة الثانية: التدرج في التشريع، وذلك من خلال:


أ- التدرج في انتزاع العادات الضارة، وذلك بالتخلي عنها شيئًا فشيئًا والتدرج في نقل الناس من حياة الفوضى والتفلت إلى حياة النظام والتقييد بالمعايير الإسلامية الصحيحة، فقد بُعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم وهم يعبدون الأصنام، ويشركون بالله ومع الله، ويسفكون الدماء ويشربون الخمر ويزنون، ويقتلون الأولاد خشية الفقر، ويتعاملون بالربا الفاحش، ويلعبون الميسر، ويستقسمون بالأزلام، وينكحون نساء الآباء ويجمعون بين الأختين ويكرهون الفتيات على البغاء، وذكر العلماء في كتب التاريخ أن الحروب كانت تقع بين القبائل العربية لأوهى الأسباب ومجرد حب الانتقام، حتى أدى هذا إلى قطع حبال المودة بينهم وجعلهم شيعًا متباغضة يتربص كل فريق منهم بغيره الدوائر، واعتادوا على كثير من هذه الأخلاق المنحطة وتغلغلت فيهم حتى صارت جزءًا لا يتجزأ منهم ومن المعلوم أنه يصعب على المرء والمجتمع ترك هذه الأمور مرة واحدة لأن للعقائد حتى ولو كانت باطلة وللعادات ولو كانت مستهجنة سلطانًا على النفوس، والناس أَسْرى ما أَلفوا ونشأوا عليه، فلو أن القرآن نزل جملة واحدة وطالبهم بالتخلي عما هم منغمسون فيه من كفر وجهل وشرك مرة واحدة لما استجاب إليه أحد ولكن القرآن نجح معهم في هدم العادات الباطلة وانتزاعها بالتدريج بسبب نزول القرآن عليهم شيئًا فشيئًا [٢].

وأبلغ دليل على ذلك هو انتزاع الخمر من ذلك المجتمع الذي كان يشربه كالماء، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "حرمت الخمر ثلاث مرات، قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهم يشربون الخمر ويلعبون الميسر، فسألوا رسول الله عنهما فأنزل الله - عز وجل - على نبيه - صلى الله عليه وسلم - {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: ٢١٩] ، فقال الناس: ما حرم علينا إنما قال فيهما إثم كبير، وكانوا يشربون الخمر حتى إذا كان يوم من الأيام صلى رجل من المهاجرين أمَّ أصحابه في المغرب خَلَط في قراءته فأنزل الله فيها آية أغلظ منها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: ٤٣] ، وكان الناس يشربون حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مفيق، ثم أنزلت آية أغلظ من ذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: ٩٠] ، فقالوا: انتهينا يا رب، فقال الناس: يا رسول الله ناس قتلوا في سبيل الله أو ماتوا على فرشهم كانوا يشربون الخمر ويلعبون الميسر وقد جعله الله رجسًا ومن عمل الشيطان فأنزل الله {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: ٩٣] ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لو حرمت عليهم لتركوها كما تركتم" [٣].

(١) انظر مباحث في علوم القرآن ٩٤.

(٢) انظر مناهل العرفان ١ ٥٦، المدخل لدراسة القرآن الكريم ٧٢.

(٣) أخرجه الإمام احمد في المسند، انظر الفتح الرباني، كتاب التفسير، باب قول الله (يسألونك عن الخمر والميسر) ١٨ ٨٥، ٨٦ وإسناده ضعيف، وله شواهد تقويه منها حديث عمر بن الخطاب (اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًّا) فنزلت الآيات الثلاثة بالتدريج، حديث صحيح أخرجه الإمام أحمد في المسند ١٨ ٨٦، وأخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأشربة، باب في تحريم الخمر ٣ ٣٢٥، وأخرجه الترمذي في سننه كتاب التفسير، باب ومن سورة المائدة ٥ ٢٥٣، ٢٥٤، ٢٥٥ وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ٢ ٢٧٨.

ومن هذا الحديث نستنبط أن الخمر حرمت على مراحل فتاب الناس والصحابة منها حتى جرت في سكك المدينة، ولو حرمت دفعة واحدة لاستمروا عليها، ولذلك تقول عائشة رضي الله عنها "إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل [١] فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء (لا تشربوا الخمر) لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل: لا تزنوا قالوا: لا ندع الزنا أبدًا" [٢].

ب-التدرج في تربية هذه الأمة الناشئة علمًا وعملًا، فبدأت الآيات تنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - سالكة التدرج في تربية الأمة، فأول ما نزلت الآيات المتعلقة بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره والتوحيد وما يتعلق بذلك من أمور العقيدة، بدأت الآيات أولًا بفطامهم عن الشرك والإباحية وإحياء قلوبهم بعقائد التوحيد والجزاء، فإذا اطمأنت قلوبهم بالإيمان وأشربوا حبه انتقل بهم بعد ذلك إلى العبادات فبدأهم بالصلاة ثم الزكاة ثم الصوم ثم الحج ثم الأمور الأخرى، ولذلك كان مدار الآيات في القسم المكي على إثبات العقائد والفضائل التي لا تختلف باختلاف الشرائع، بخلاف القسم المدني فكان مدار التشريعات فيه على الأحكام العملية وتفصيل ما أجمل قبل ذلك [٣].

لذا أنزل القرآن مفرقًا فحصلت النتيجة المطلوبة وهي التغير في العادات من حسن إلى أحسن ومن شر إلى خير ومن تفرق في الكلمة إلى اتحاد واعتصام بحبل الله المتين فكانت خير الأمم.

الحكمة الثالثة: بيان بلاغة القرآن الكريم
 فقد نزل مفرقًا في ثلاثة وعشرين عامًا، وكلما نزلت آية أو آيات قال لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - "ضعوا هذه الآيات في موضع كذا من سورة كذا" [٤]، ومع ذلك فهو مترابط في الألفاظ والمعاني، حسن التنسيق، محكم النسج، دقيق السبك، متناسق الآيات والسور، متين الأسلوب، قوي الاتصال، لا يكاد يوجد بين أجزائه تفكك كأنه عِقْدٌ فريد نظمت حباته بما لم يعهد له مثيل في كلام البشر {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: ١] .

وكل ذلك فيه دلالة على أن القرآن مُنَزَّلٌ من الله تعالى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، وأنه كلام الله تعالى ولا يمكن أن يكون كلام محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا كلام مخلوق سواه، وصدق الله إذ يقول: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: ٦] .

الحكمة الرابعة: مسايرة الحوادث والطوارئ في تجددها وتفرقها:

فكانت تحدث حوادث لم يكن لها حكم معروف في الشريعة الإسلامية، فيحتاج المسلمون إلى معرفة ذلك فتنزل الآية من الله تبارك وتعالى لحكم تلك الحوادث، ومن ذلك حادثة

(١) سور القرآن على أربع أقسام وأنواع فمنها السبع الطوال أولها البقرة، ومنها المئون، والمثاني، والمفصل: ما وَلِيَ المثاني من قصار السور، وسمي بذلك لكثرة الفصول التي بين السور بالبسملة، انظر الإتقان ١ ١٧٩، ١٨٠.

(٢) أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب تأليف القرآن ص ١٠٨٧ (٤٩٩٣) .

(٣) المدخل لدراسة القرآن ٧٤.

(٤) الترمذي تفسير القرآن (٣٠٨٦) ، أبو داود الصلاة (٧٨٦) ، أحمد (١/ ٦٩) .

خولة بنت ثعلبة [١]، حين ما جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تشتكي زوجها، وتصف لنا ذلك عائشة رضي الله عنها ذلك فتقول "تَبَارَكَ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ كُلَّ شَيْءٍ إِنِّي لَأَسْمَعُ كَلَامَ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ وَيَخْفَى عَلَيَّ بَعْضُهُ وَهِيَ تَشْتَكِي زَوْجَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهِيَ تَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَلَ شَبَابِي وَنَثَرْتُ لَهُ بَطْنِي حَتَّى إِذَا كَبِرَتْ سِنِّي وَانْقَطَعَ وَلَدِي ظَاهَرَ مِنِّي اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ فَمَا بَرِحَتْ حَتَّى نَزَلَ جِبْرَائِيلُ بِهَؤُلَاءِ الْآيَاتِ {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: ١] " [٢].

وكذلك حادثة الإفك فعندما حصل ما حصل من المنافقين والمشركين واتهموا السيدة عائشة رضي الله عنها أنزل الله تعالى براءتها من فوق سبع سماوات وأدان الذين رموها بدون شهود ولا بينة فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) } [النور: ١١ - ١٢] ، إلى قوله تعالى {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (٢٠) } [النور: ٢٠] [٣].

والقرآن مليء بتلك القصص والمواقف المشابهة، ومما هو طبيعي ومعروف أن هذه الحوادث لم تكن لتقع في وقت واحد فنزل القرآن في هذه الحوادث مفرقًا لذلك.

الحكمة الخامسة: : تنبيه المسلمين من وقت لآخر لأخطائهم التي وقعوا فيها وكيفية تصحيحها،
 وتحذيرهم من عواقب المخالفة وبيان الامتنان عليهم بالنصر مع القلة، ولنقرأ ما قصه الله تعالى في سورة آل عمران بشأن غزوة بدر وأحد من الامتنان والتنبيه والتحذير، ففي غزوة أحد خالف الرُّماة نصيحة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متأولين فكانت النتيجة أن أوتي المسلمون من جهتهم وأن شاعت الهزيمة بينهم وشُجَّ وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - وكسرت رُباعيته فأنزل الله تعالى الآيات محذرًا المخالفين: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: ١٥٢] [٤].

وكذلك في غزوة حنين والأحزاب وغير ذلك كثير، ففي يوم حنين أعجب المسلمون بكثرتهم فكانت الهزيمة فقال تعالى لهم: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (٢٤) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (٢٦) } [التوبة: ٢٤ - ٢٦] ،

(١) خولة بنت ثعلبة الأنصارية الخزرجية، صحابية، وهي التي ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت، فنزلت فيها سورة قد سمع، الإصابة ٤ ٢٨٩، أسد الغابة ٥ ٤٤٢.

(٢) انظر ابن ماجه، كتاب الطلاق، باب الظهار ١ ١٦٦ (٢٠٦٣) ، والنسائي في كتاب الطلاق، باب الظهار ٦ ١٨٦ (٣٤٦٠) ، والحديث صحيح.

(٣) انظر الحديث في البخاري، كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضًا ص ٥٣٠ (٢٦٦١) ، وانظر مسلم في كتاب التوبة، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف (٢٧٧٠) .

(٤) وانظر القصة في البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة أحد ص ٨٣٢ (٤٠٤٣) .

وتعلم المسلمون من ذلك أن النصر ليس بالعدد والعُدَّة فحسب، وإنما هو من عند الله {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: ١٢٦] "[١]."

الحكمة السادسة: توثيق وقائع السيرة النبوية المباركة والتاريخ، 
وذلك عن طريق معرفة الحادثة ووقتها وأين كانت ومتى، فنستطيع أن نرتب السيرة النبوية من خلال الحوادث وضمها إلى قصص الأنبياء وسير المرسلين وحياة الأمم السابقين [٢].

الحكمة السابعة: معرفة الناسخ والمنسوخ:

إن في القرآن الكريم ناسخًا ومنسوخًا ولا يمكن أن يكون ذلك إذا نزل القرآن جملةً على المصطفى عليه الصلاة والسلام، إذ لا يُتصور النسخ إلا مع التفريق ولا يمكن أن يحدث ذلك إلا على تباعد الزمن فإن حكمة التربية الانتقالية قد تقتضي تشريعًا تجيء به آية إلى أجل مسمى ثم تجيء آية أخرى بتشريع آخر، ولا يكون هذا إلا مع تنجيم النزول [٣].

الحكمة الثامنة: تفضيل القرآن الكريم على غيره من الكتب السماوية:

لقد جمع الله له النزولين: النزول جملة واحدة، والنزول مفرقاً وبذلك شارك الكتب السماوية في الأولى، وانفرد في الفضل بالثانية، وهذا يعود بالتفضيل لنبينا محمد? على سائر إخوانه من الأنبياء - عليهم السلام - وإن الله جمع له من الخصائص ما لغيره، وزاد عليها [٤]، وكذلك تفخيم المنزل وهو القرآن الكريم، وتعظيم قدر من سوف ينزل عليه وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، وتكريم من سوف ينزل إليهم وهم المسلمون. وذلك بإعلام سكان السماوات بأن هذا القرآن آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم [٥].

يقول السخاوي في جمال القراء: "فإن قيل: ما في إنزاله جملة إلى سماء الدنيا؟ قلت: في ذلك تكريم بني آدم، وتعظيم شأنهم عند الملائكة، وتعريفهم عناية الله عز وجل بهم، ورحمته لهم، ولهذا المعنى أمر سبعين ألفا من الملائكة لما أنزل سورة الأنعام أن تزفها [٦]."

وزاد سبحانه في هذا المعنى بأن أمر جبريل عليه السلام بإملائه على السفرة الكرام البررة - عليهم السلام - وإنساخهم إياه، وتلاوتهم له وفيه أيضا إعلام عباده من الملائكة وغيرهم أنه علام الغيوب لا يغرب عنه شيء إذ كان في هذا الكتاب العزيز ذكر الأشياء قبل وقوعها "[٧]."

(١) وانظر منهج الفرقان ٢٦، ٢٧.

(٢) الواضح في أصول القرآن ٥٢.

(٣) القرآن الكريم إبراهيم أبو الخشب ٤٤.

(٤) المرجع السابق.

(٥) انظر: المرشد الوجيز: ٢٤.

(٦) ? قال ابن الصلاح في الخبر الوارد بذلك: وفي إسناده ضعف ولم نر له إسنادا صحيحا .. ) فتاوى ابن الصلاح (١/ ٢٤٨) .

(٧) جمال القراء للسخاوي (١/ ٢٠) ، وانظر: المرشد الوجيز (٢٧) والإتقان للسيوطي ٠١/ ١٤٩).

يقول السخاوي: "وفيه أيضا التسوية بينه وبين موسى عليه السلام في إنزال كتابه جملة، والتفضيل لمحمد صلى الله عليه وسلم في إنزاله عليه منجما ليحفظه. قال الله عز وجل: {كذلك لنثبت به فؤادك} [الفرقان: ٣٢] وقال عز وجل: {سنقرئك فلا تنسى} [الأعلى: ٦] " [١].

وقت نزول القرآن الكريم

أكثر نزول القرآن الكريم نهارا حضرا، وقد نزل يسير منه في السفر وقليل منه في الليل.


١ - الآيات والسور المتفق على نزولها ليلاً:


لقد تتبع العلماء ذلك فذكروا ما وقفوا عليه منه، فمن ذلك:

أولاً: أواخرُ آلِ عمران:

عن عائشةَ رضي الله عنها أنَّ بلالاً أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُؤْذِنه لصلاةِ الصبح فوجده يبكي فقال: يا رسول الله ما يُبكيك؟ قال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: ١٩٠] إلى قوله: {سبحانك فقنا عذاب النار} . ثم قال: {وَيْلٌ لمن قَرَأَهَا ولَمْ يَتَفَكَرْ فِيْهَا} "[٢]."

وعن إبراهيم بن سويد النخعي حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء قال: دخلت أنا وعبيد ابن عمير على عائشة رضي الله عنها فقال عبد الله بن عمير: حدثينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فبكت وقالت: قام ليلة من الليالي فقال: "يا عائشة! ذريني أتعبد لربي" ، قالت: قلت: والله إني لأحب قربك وأحب ما يسرك قالت: فقام فتطهر ثم قام يصلي فلم يزل يبكي حتى بل حجره، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، وجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله! تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ ! قال: "أفلا أكون عبدا شكورا؟ لقد نزلت علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: ١٩٠] " [٣].

فهذه الروايات الصحيحة تؤكد نزول هذه الآيات ليلاً على النبي - صلى الله عليه وسلم -.

ثانياً: آيات الثلاثة الذين خلفوا من سورة التوبة:

فقد جاء عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ ـ وَهُوَ أَحَدُ الثَّلاثَةِ الَّذِينَ تِيبَ عَلَيْهِمْ ـ قال: "فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَوْبَتَنَا عَلَى نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ بَقِيَ الثُّلُثُ الْآخِرُ مِنْ اللَّيْلِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ أُمِّ سَلَمَةَ، وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ مُحْسِنَةً فِي شَأْنِي، مَعْنِيَّةً فِي أَمْرِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم:" يَا أُمَّ سَلَمَةَ تِيبَ عَلَى كَعْبٍ، قَالَتْ: أَفَلا أُرْسِلُ إِلَيْهِ فَأُبَشِّرَهُ؟

(١) ? جمال القراء للسخاوي (١/ ٢٠) . وانظر ما استحسنه أبو شامة فنقله من كلام للحكيم الترمذي في تفسيره بهذا الشأن. المرشد الوجيز (٢٦) .

(٢) أخرجه ابن حبَّان في صحيحه ح رقم ٦٢٠، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (٣/ ١٧٦) "لعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في التفكر، وابن المنذر، وابن حبان في صحيحه، وابن مردويه، والأصبهاني في الترغيب، وابن عساكر، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم. انظر: صحيح ابن حبان بأحكام الأرناؤوط (٢/ ١٣١) ."

(٣) رواه ابن حبان في صحيحه ح رقم ٦٢٠، والمنذري في الترغيب والترهيب، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب ح رقم ١٤٦٨، وفي السلسلة الصحيحة ح رقم ٦٨.

قَالَ: "إِذًا يَحْطِمَكُمْ النَّاسُ فَيَمْنَعُونَكُمْ النَّوْمَ سَائِرَ اللَّيْلَةِ، حَتَّى إِذَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَاةَ الْفَجْرِ آذَنَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَكَانَ إِذَا اسْتَبْشَرَ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةٌ مِنْ الْقَمَرِ" [١].

فهذه الروايات الصحيحة التي هي في البخاري ومسلم من رواية كعب ابن مالك تؤكد نزول هذه الآيات ليلاً بما لا يجعل مجالاً للاختلاف في ذلك، بل نزلت ليلاً في الثلث الأخير كما قال كعب بن مالك: "فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَوْبَتَنَا عَلَى نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ بَقِيَ الثُّلُثُ الْآخِرُ مِنْ اللَّيْلِ" [٢]

ثالثاً: أول سورة الفتح:

عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَسِيرُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسِيرُ مَعَهُ لَيْلًا فَسَأَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنْ شَيْءٍ فَلَمْ يُجِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا عُمَرُ نَزَرْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَلاثَ مَرَّاتٍ كُلُّ ذَلِكَ لا يُجِيبُكَ، قَالَ عُمَرُ: فَحَرَّكْتُ بَعِيرِي ثُمَّ تَقَدَّمْتُ أَمَامَ الْمُسْلِمِينَ وَخَشِيتُ أَنْ يَنْزِلَ فِيَّ قُرْآنٌ فَمَا نَشِبْتُ أَنْ سَمِعْتُ صَارِخًا يَصْرُخُ بِي، قَالَ: فَقُلْتُ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ فِيَّ قُرْآنٌ وَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: "لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ثُمَّ قَرَأَ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا" [٣].

فهذه الرواية الصحيحة تؤكد أنها نزلت ليلاً بعد صلح الحديبية بين مكة والمدينة، كما جاء في الحديث: "لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ثُمَّ قَرَأَ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} وليس في ذلك خلاف."

رابعاً: صدر سورة العلق:

لا شك أن الآيات الأولى من القرآن نزلت ليلاً، وقد ثبت أن ابتداء نزول القرآن كان في شهر رمضان ليلاً، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥) } [البقرة: ١٨٥] البقرة: ١٨٥)، وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) } [الدخان: ٣] ، وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) } [القدر: ١ - ٣] ، فبركة تلك الليلة، وشرفها وسمو قدرها؛ لأن الله تعالى جعلها مبدأ الوحي إلى رسوله الكريم.

قال ابن عاشور: "فيجوز أن يراد به القرآنُ كلُّه فيكون فعل: (أنزلنا) مستعملاً في ابتداء الإِنزال لأن الذي أُنزل في تلك الليلة خمس الآيات الأول من سورة العلق ثم فتر الوحي ثم عاد إنزاله منجماً ولم يكمل إنزال القرآن إلا بعد نيف وعشرين سنة، ولكن لما كان جميع"

(١) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: التفسير، باب: "وعلى الثلاثة الذين خلفوا" ح رقم ٤٦٧٧، ومسلم كتاب: التوبة، باب: حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه ح رقم ٢٧٦٩.

(٢) من حديث طويل أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله تعالى لقد تاب الله على النبي .. ٦/ ٢٠٩، وفي المغازي باب حديث كعب بن مالك، ٥/ ١٣٠ وأخرجه مسلم، كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب، ٤/ ٢١٢٠ رقم ٢٧٦٩.

(٣) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: التفسير، باب: سورة الفتح (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً) ح رقم ٤٨٣٣.

القرآن مقرراً في علم الله تعالى مقدارُه وأنه ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - منجَّماً حتى يتم، كان إنزاله بإنزال الآيات الأُول منه لأن ما ألحق بالشيء يعد بمنزلة أوله "[١]."

وهذا هو الذي يقتضيه حديث بَدْء الوحي كما جاء عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: "أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ ـ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ ـ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ:" مَا أَنَا بِقَارِئٍ "، قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ:" مَا أَنَا بِقَارِئٍ "، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ فَقُلْتُ:" مَا أَنَا بِقَارِئٍ "فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَرْجُفُ فُؤَادُهُ فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ: لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي ..." [٢].

فهو يدل على نزول الوحي عليه في وقت تعبده ليلاً.

وقد جاء عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "نَزَلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الإِنْجِيلُ لِثَلاثِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الزَّبُورُ لِثَمَانِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْقُرْآنُ لأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ" [٣].

قال ابن حجر (ت: ٨٥٢ هـ) : "فيحتمل أن تكون ليلة القدر في تلك السنة كانت تلك الليلة فأنزل فيها جملة إلى سماء الدنيا ثم أنزل في اليوم الرابع والعشرين إلى الأرض أول اقرأ باسم ربك" [٤].

فهذه الروايات المختلفة تشير إلى أن ابتداء نزول القرآن كان ليلاً، ولا شك أن أول ما نزل من القرآن هو صدر سورة العلق.

خامساً وسادساً: المعوذتان:

عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم: "أُنْزِلَ أَوْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَاتٌ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ" . وفي رواية أخرى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم: "أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتْ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) وَ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) " [٥].

(١) التحرير والتنوير (٣٠/ ٤٥٦) اعتنى به وخرج أحاديث عبد الحميد الدخاخني، ط: دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، ط ١، ١٤١٧ هـ ـ ١٩٩٧ م.

(٢) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: بدء الوحي، باب: بدء الوحي ح رقم ٣، ومسلم في كتاب الإيمان، باب: بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ح رقم ٢٣٠.

(٣) أخرجه أحمد في المسند ح رقم ١٦٩٨٤، والبيهقي في سننه ح رقم ١٨٤٢٩، وأبو يعلى في مسنده ح رقم ٢١٩٠، والهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ح رقم ٩٥٩، وقال: رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط، وفيه عمران بن داود القطان ضعفه يحيى ووثقه ابن حبان. وقال أحمد: أرجو أن يكون صالح الحديث. وبقية رجاله ثقات، وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة إسناده حسن ورجاله ثقات ح رقم ١٥٧٥.

(٤) فتح الباري لابن حجر (٩/ ٥) تحقيق على بن عبد العزيز الشبل، ورقم وكتبها وأبوابها وأحاديثها الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، ط: دار السلام، الرياض، ط ١/ ١٤٢١ هـ ـ ٢٠٠٠ م.

(٥) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل قراءة المعوذتين، ح رقم ٨١٤.

فهذه الروايات الصحيحة تؤكد نزولهما ليلاً.


٢ - الآيات والسور المختلف في نزولها ليلاً:

هنالك آيات تكلم العلماء في نزولها ليلاً؛ ولكن اختلفت فيها أقوالهم بسبب ضعف الرواية وعدم صحتها، أو لأنها محتملة، أو لتعارضها مع روايات أخرى، وهي على النحو التالي:

أولاً: آيات تحويل القبلة:

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: بَيْنَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلاةِ الصُّبْحِ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: "إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّأْمِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ" [١].

وعنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَنَزَلَتْ: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ في السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِى سَلِمَةَ وَهُمْ رُكُوعٌ في صَلاةِ الْفَجْرِ وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً فَنَادَى أَلا إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ. فَمَالُوا كَمَا هُمْ نَحْوَ الْقِبْلَةِ "[٢]."

وعَنْ الْبَرَاءِ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ أَوَّلَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ نَزَلَ عَلَى أَجْدَادِهِ ـ أَوْ قَالَ أَخْوَالِهِ ـ مِنْ الْأَنْصَارِ، وَأَنَّهُ صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلاةٍ صَلَّاهَا صَلاةَ الْعَصْرِ وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى مَعَهُ فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ مَسْجِدٍ وَهُمْ رَاكِعُونَ فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قِبَلَ مَكَّةَ فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ الْبَيْتِ "[٣]."

قال ابن حجر: "الأقوى أن نزولها كان نهارا، والجواب عن حديث ابن عمر أن الخبر وصل وقت العصر إلى من هو داخل المدينة وهم بنو حارثة، ووصل وقت الصبح إلى من هو خارج المدينة وهم بنو عمرو بن عوف أهل قباء، وقوله قد أنزل عليه الليلة مجاز من إطلاق الليلة على بعض اليوم الماضي والذي يليه" ، وقال السيوطي بعد نقله لكلام ابن حجر "فهذا يقتضي أنها نزلت نهارا بين الظهر والعصر" [٤].

والأرجح أنها نزلت ليلاً؛ لأن حديث أنس لا يعارض رواية ابن عمر، لأن حديث أنس في وقت بلوغ الخبر لبني سلمة كما في قوله: "فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِى سَلِمَةَ وَهُمْ رُكُوعٌ في صَلاةِ الْفَجْرِ وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً فَنَادَى أَلا إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ" ، وابن عمر يتحدث عن وقت نزولها، وقرينة النص تدل على ذلك: "إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا" فهو يتحدث عن نفس الليلة، وهو يؤكد أنها نزلت ليلاً، وهي

(١) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: التفسير باب: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ إِلَى قَوْلِهِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنْ الظَّالِمِينَ} ح رقم ٤٤٩٠، ومسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة باب: تحويلة القبلة من القدس إلى الكعبة ح رقم ٥٢٦.

(٢) أخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة باب: تحويلة القبلة من القدس إلى الكعبة ح رقم ٥٢٧.

(٣) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: التفسير باب: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ح رقم ٤٤٨٦، ومسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة باب: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة ح رقم ٥٢٥.

(٤) الإتقان في علوم القرآن (١/ ٤٩) .

الرواية الوحيدة التي تنص على زمان النزول، وحديث البراء لا يتحدث عن وقت النزول، وإنما يتحدث عن أول صلاة صلاها، وقد تكون هي أول صلاة لراوي الحديث، ودائماً تقليب النظر والتأمل والتفكر في السماء يكون بالليل أكثر من النهار، كما أن نزولها ليلاً يواكب مقتضيات التحول؛ إذ الفجر بداية يوم جديد وهو بداية تحول لعهد جديد، وهو التحول من بيت المقدس إلى بيت الله الحرام؛ ولهذا قال القاضي جلال الدين البلقيني (ت: ٨٢٤) : "والأرجح بمقتضى الاستدلال نزولها بالليل لأن قضية أهل قباء كانت في الصبح وقباء قريبة من المدينة فيبعد أن يكون رسول الله أخر البيان لهم من العصر إلى الصبح" [١]. والله أعلم

ثانياً: آية {اليوم أكملت لكم دينكم} :

عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: "قَالَتِ الْيَهُودُ لِعُمَرَ: لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ يَهُودَ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (٣) } [المائدة: ٣] نَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذي أُنْزِلَتْ فِيهِ لاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا. قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ:" فَقَدْ عَلِمْتُ الْيَوْمَ الَّذي أُنْزِلَتْ فِيهِ وَالسَّاعَةَ وَأَيْنَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ نَزَلَتْ. نَزَلَتْ لَيْلَةَ جَمْعٍ وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِعَرَفَاتٍ "[٢]."

وفي رواية أخرى "أُنْزِلَتْ بِعَرَفَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ)" [٣]. وفي رواية: (نزلت عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ "[٤]."

فالرواية الأولى أنها "نَزَلَتْ لَيْلَةَ جَمْعٍ وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِعَرَفَاتٍ" ، والرواية الثانية أنها "أُنْزِلَتْ بِعَرَفَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ" ، والرواية الثالثة أنها "نزلت عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ" فهنالك اتفاق في المكان في عرفات، واليوم وهو يوم الجمعة، وهنالك اختلاف في الزمان الذي نزلت فيه، والراجح أنها نزلت يوم عرفة عشية والرسول - صلى الله عليه وسلم - واقف على الموقف لم يدفع، وكان يوم جمعة، وهذا ما نص عليه عدد من أهل العلم منهم ابن جرير (ت: ٣١٠ هـ) [٥]، وشيخ الإسلام ابن تيمية [٦]، وابن كثير (ت: ٧٧١ هـ) [٧]، والسيوطي [٨].

قال ابن جرير بعد أن سرد جميع الروايات التي ذكرت في سبب نزولها: "وأولى الأقوال في وقت نزول الآية، القولُ الذي روي عن عمر بن الخطاب: أنها نزلت يوم عرفة يوم جمعة، لصحة سنده، وَوَهْيِ أسانيد غيره" [٩].

وقال القرطبي "أنها نزلت في يوم جمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقف بعرفة على ناقته العضباء، فكاد عضد الناقة ينقد من ثقلها فبركت" [١٠].

(١) الإتقان في علوم القرآن (١/ ٤٩) .

(٢) أخرجه مسلم في كتاب: التفسير، باب (١) ح رقم ٧٧١١.

(٣) أخرجه مسلم في كتاب التفسير، باب (١) ح رقم ٧٧١٠.

(٤) مسند أحمد بن حنبل ح رقم ١٨٨، والواحدي في أسباب نزول القرآن الكريم (١/ ١٨٢، وإسناده صحيح على شرط الشيخين. انظر: مسند أحمد بن حنبل (١/ ٢٨) .

(٥) جامع البيان في تأويل آي القرآن (٤/. ٢٦٩٨) .

(٦) مجموع الفتاوى (٢٠/ ١٥٢) .

(٧) تفسير القرآن العظيم ابن كثير (٣/ ٢٨) .

(٨) الإتقان في علوم القرآن (١/ ٤٤) .

(٩) جامع البيان (٤/ ٢٧٠٣)

(١٠) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (٦/ ٦١) .

وما جاء أنها نزلت ليلة جمع مراد بها عشية عرفة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دفع بعد المغيب، كما جاء في الحديث: "فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلاً حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ خَلْفَهُ وَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى: أَيُّهَا النَّاسُ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ" [١]. والله أعلم.

ثالثاً: {والله يعصمك من الناس} من سورة المائدة:

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُحْرَسُ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ (٦٧) } [المائدة: ٦٧] ، فَأَخْرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَأْسَهُ مِنَ الْقُبَّةِ فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ انْصَرِفُوا فَقَدْ عَصَمَنِي اللَّهُ" [٢].

فهذه الرواية وإن لم تنص على وقت النزول ولكن يفهم من دلالات النص أنها نزلت ليلاً؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحرس ليلاً، قال السيوطي: "فأخرج رأسه من القبة فقال: يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله. في هذا الحديث دليل على أنها ـ أي الآية ـ ليلية نزلت ليلا فراشية - والرسول في فراشه" [٣].

رابعاً: سورة الأنعام:

عن ابن عباس -رضي الله عنهما -قال: "نزلتْ سورةُ الأنعامِ بمكةَ ليلا جملةً، حولَها سبعونَ ألفَ مَلَكٍ يجأَرون بالتسبيحِ" [٤]،

فإن صحت هذه الرواية تكون نزلت هذه السورة جملة ليلاً. والله أعلم.

خامساً: سورة مريم:

روى الطبراني عن أبي مريم الغساني قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: ولدت لي الليلة جارية فقال: "والليلة نزلت عليّ سورة مريم سمها مريم" [٥] فالحديث ضعيف لم يصح في سنده، ولذا لم يثبت في وقت نزولها شيء.

(١) أخرجه مسلم في كتاب: الحج، باب: حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ح رقم ٣٠٠٩.

(٢) أخرجه الترمذي ح رقم ٣٠٤٦، وقال: حديث غريب، والبيهقي في السنن الكبرى ح رقم ١٨١٨٦، والحاكم في المستدرك ح رقم ٣٢٢١، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وعلق الذهبي في التلخيص: صحيح، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي.

(٣) تفسير الجلالين (٢/ ٣٣٣) ، ولباب النقول في أسباب النزول للسيوطي (١/ ٨٢) .

(٤) أخرجه أبو عبيدة في فضائل القرآن ص ١٢٩ ح رقم ٣٧٢، والطبراني في المعجم الكبير ح رقم ١٢٩٣٠، ورواه ابن الضريس في فضائل القرآن ص ١٥٧، والسيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (٣/ ٢٤٣) وزاد نسبته لابن مردويه، وابن كثير في تفسيره (٣/ ٢٣٧) وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف كما في التقريب ص ٦٩٦ برقم ٤٧٦٨، وله شاهد من حديث ابن عمر وأنس رضي الله عنهم أخرجهما الطبراني في الصغير (١/ ٨١) والأوسط كما في مجمع البحرين (٦/ ٢٢) ح رقم ٣٣١٦، ٣٣١٧، وضعف الهيثمي في الزوائد إسناده حيث قال: رواه الطبراني في الصغير وفيه يوسف بن عطية الصفار وهو ضعيف جدا (٧/ ٢٠) ، وقد جاء في الضعفاء الكبير للعقيلي (٩/ ٤٢٢) قال البخاري: يوسف بن عطية منكر الحديث، وقال محققو كتاب الإتقان في مركز الدراسات القرآنية بمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة النبوية: "ولعله يتقوى بشواهده، وانظر شواهده في مجمع الزوائد (٧/ ١٩، ٢٠) من حديث ابن عمر وأنس وأسماء بنت يزيد مع بعض الاختلاف" .

(٥) رواه الطبراني في المعجم الكبير ح رقم ٨٣٤ وهو ضعيف جدا مداره على سليمان بن سلمة الخبائري، متروك كما في المغني في الضعفاء للذهبي (١/ ٢٨٠) وبه ضعفه الهيثمي في المجمع (٨/ ٥٥) ، وفيه أيضاً: أبو بكر بن أبي مريم ضعيف كما في التقريب ص ١١١٦ برقم ٨٠٣١. وانظر: الإتقان للسيوطي (١/ ١٤٢) .

سادساً: أول الحج:

ذكره ابن حبيب ومحمد بن بركات السعدي في كتابه الناسخ والمنسوخ، وجزم به السخاوي (ت: ٦٤٣) [١].

قال السيوطي في الإتقان: "وقد يستدل له بما أخرجه ابن مردويه عن عمران بن حصين أنها نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد نعس بعض القوم وتفرق بعضهم فرفع بها صوته الحديث" [٢]، والحديث جاء عن عَبْد اللَّهِ بن أَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بن خَالِدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بن سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ، قَالَ: "نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) } [الحج: ١] (الحج آية ١) وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ وَقَدْ نَعَسَ بَعْضُ الْقَوْمِ، وَتَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ، فَرَفَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَوْتَهُ ..." [٣] الحديث.

فلم تنص أي رواية على أن ذلك كان ليلاً إلا رواية الطبراني حيث جاء فيها: "نزلت هذه الآية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) } [الحج: ١] ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر وقد نعس بعض القوم وتفرق بعضهم فرفع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صوته" علماً بأن جميع الروايات تثبت أنها نزلت في سفر، وما جاء فيها من قول الراوي "وقد نعس بعض القوم وتفرق بعضهم فرفع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صوته" فقط هو الذي يشير للنزول الليلي.

سابعاً: آية الإذن في خروج النسوة في الأحزاب:

عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "خَرَجَتْ سَوْدَةُ بَعْدَمَا ضُرِبَ الْحِجَابُ لِحَاجَتِهَا وَكَانَتْ امْرَأَةً جَسِيمَةً لا تَخْفَى عَلَى مَنْ يَعْرِفُهَا، فَرَأَىهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - فَقَالَ: يَا سَوْدَةُ أَمَا وَاللَّهِ مَا تَخْفَيْنَ عَلَيْنَا فَانْظُرِي كَيْفَ تَخْرُجِينَ، قَالَتْ: فَانْكَفَأَتْ رَاجِعَةً وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَيْتِي، وَإِنَّهُ لَيَتَعَشَّى وَفِي يَدِهِ عرْقٌ فَدَخَلَتْ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي خَرَجْتُ لِبَعْضِ حَاجَتِي فَقَالَ لِي عُمَرُ كَذَا ... وَكَذَا، قَالَتْ: فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ ثُمَّ رُفِعَ عَنْهُ وَإِنَّ الْعرْقَ فِي يَدِهِ مَا وَضَعَهُ فَقَالَ:" إِنَّهُ قَدْ أُذِنَ لَكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَاجَتِكُنَّ "[٤]."

وعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كُنَّ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ إِذَا تَبَرَّزْنَ إِلَى الْمَنَاصِعِ وَهُوَ صَعِيدٌ أَفْيَحُ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - احْجُبْ نِسَاءَكَ. فَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُ فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ زَوْجُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي عِشَاءً وَكَانَتِ امْرَأَةً طَوِيلَةً فَنَادَاهَا عُمَرُ أَلا قَدْ عَرَفْنَاكِ يَا سَوْدَةُ. حِرْصًا عَلَى أَنْ يُنْزِلَ الْحِجَابَ. قَالَتْ عَائِشَةُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْحِجَابَ "[٥]."

(١) جمال القراء وكمال الإقراء (١/ ١٤) .

(٢) الإتقان في علوم القرآن (١/ ١٤٢) .

(٣) الحديث أخرجه أحمد في المسند ح رقم ١٩٩١٥، النسائي ح رقم ع ٦٠، والترمذي ح رقم ٣١٦٨، والحاكم في المستدرك (١/ ٣٦) ، الطبراني في المعجم الكبير ح رقم ٣٤٠، وقال الترمذي صحيح الإسناد، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي، وقال الحاكم: صحيح على شرطهما جميعا ولم يخرجاه ولا واحد منهما، وقال الذهبي: صحيح الإسناد.

(٤) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: التفسير، باب: سورة الأحزاب ح رقم ٤٥١٦، ومسلم كتاب: السلام، باب: إباحة الخروج للنساء لقضاء الحاجة ح رقم ٥٧٩٦.

(٥) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب: السلام، باب: إِبَاحَةُ الْخُرُوجِ لِلنِّسَاءِ لِقَضَاءِ حَاجَةِ الإِنْسَانِ ح رقم ٥٧٩٩.

قال القاضي جلال الدين البلقيني: "وإنما قلنا أن ذلك كان ليلا لأنهن إنما كن يخرجن للحاجة ليلا كما في الصحيح عن عائشة في حديث الإفك" [١].

فهذه الروايات ليس فيها ما ينص على نزولها في الليل ولكنها محتملة.

ثامناً: قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} :

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَبَعَثَ إِلَى نِسَائِهِ فَقُلْنَ: مَا مَعَنَا إِلَّا الْمَاءُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم: مَنْ يَضُمُّ أَوْ يُضِيفُ هَذَا؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: أَنَا فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ فَقَالَ: أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي، فَقَالَ: هَيِّئِي طَعَامَكِ وَأَصْبِحِي سِرَاجَكِ وَنَوِّمِي صِبْيَانَكِ إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا وَنَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فَأَطْفَأَتْهُ فَجَعَلَا يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا يَأْكُلَانِ فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ أَوْ عَجِبَ مِنْ فَعَالِكُمَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) } [الحشر: ٩] [٢].

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: "أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَابَنِي الْجَهْدُ، فَأَرْسَلَ إِلَى نِسَائِهِ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُنَّ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم: أَلا رَجُلٌ يُضَيِّفُهُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ يَرْحَمُهُ اللَّهُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ فَقَالَ لامْرَأَتِهِ: ضَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لا تَدَّخِرِيهِ شَيْئًا، قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا عِنْدِي إِلَّا قُوتُ الصِّبْيَةِ قَالَ: فَإِذَا أَرَادَ الصِّبْيَةُ الْعَشَاءَ فَنَوِّمِيهِمْ وَتَعَالَيْ فَأَطْفِئِي السِّرَاجَ وَنَطْوِي بُطُونَنَا اللَّيْلَةَ فَفَعَلَتْ ثُمَّ غَدَا الرَّجُلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ ضَحِكَ مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) } [الحشر: ٩] " [٣].

فليس فيها ما هو صريح في وقت نزولها على أنها نزلت ليلاً، ولكنها محتملة، لأنه قد يكون هنالك تراخٍ بين سبب النزول ووقت النزول.

تاسعاً: سورة المنافقون:

عَنْ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي سَعْدٍ الْأَزْدِيِّ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ قَالَ: "غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ مَعَنَا أُنَاسٌ مِنْ الْأَعْرَابِ فَكُنَّا نَبْتَدِرُ الْمَاءَ، وَكَانَ الْأَعْرَابُ يَسْبِقُونَّا إِلَيْهِ، فَسَبَقَ أَعْرَابِيٌّ أَصْحَابَهُ فَيَسْبَقُ الْأَعْرَابِيُّ فَيَمْلَأُ الْحَوْضَ وَيَجْعَلُ حَوْلَهُ حِجَارَةً وَيَجْعَلُ النِّطْعَ عَلَيْهِ حَتَّى يَجِيءَ أَصْحَابُهُ، قَالَ: فَأَتَى رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ أَعْرَابِيًّا فَأَرْخَى زِمَامَ نَاقَتِهِ لِتَشْرَبَ فَأَبَى أَنْ يَدَعَهُ فَانْتَزَعَ قِبَاضَ الْمَاءِ فَرَفَعَ الْأَعْرَابِيُّ خَشَبَتَهُ فَضَرَبَ بِهَا رَأْسَ الْأَنْصَارِيِّ فَشَجَّهُ، فَأَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيّ رَأْسَ الْمُنَافِقِينَ فَأَخْبَرَهُ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيّ ثُمَّ قَالَ: لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ. يَعْنِي الْأَعْرَابَ، وَكَانُوا يَحْضُرُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ الطَّعَامِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ إِذَا انْفَضُّوا مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ فَأْتُوا مُحَمَّدًا بِالطَّعَامِ فَلْيَأْكُلْ هُوَ وَمَنْ عِنْدَهُ، ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، قَالَ زَيْدٌ: وَأَنَا رِدْفُ رَسُولِ اللَّهِ"

(١) إتمام الدراية لقراء النقاية، للسيوطي (١/ ٢٤) ، والإتقان في علوم القرآن (١/ ١٤٤) .

(٢) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب: مناقب الأنصار، باب: قَوْلِ اللَّهِ {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ح رقم ٣٧٩٨.

(٣) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب: مناقب الأنصار، باب: قَوْلِ اللَّهِ {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ح رقم ٤٨٨٩.

- صلى الله عليه وسلم - فَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ فَأَخْبَرْتُ عَمِّي فَانْطَلَقَ فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَحَلَفَ وَجَحَدَ قَالَ: فَصَدَّقَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَذَّبَنِي، قَالَ: فَجَاءَ عَمِّي إِلَيَّ فَقَالَ: مَا أَرَدْتَ إِلَّا أَنْ مَقَتَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَذَّبَكَ وَالْمُسْلِمُونَ، قَالَ: فَوَقَعَ عَلَيَّ مِنْ الْهَمِّ مَا لَمْ يَقَعْ عَلَى أَحَدٍ، قَالَ: فَبَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ قَدْ خَفَقْتُ بِرَأْسِي مِنْ الْهَمِّ إِذْ أَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَعَرَكَ أُذُنِي وَضَحِكَ فِي وَجْهِي فَمَا كَانَ يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا الْخُلْدَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَحِقَنِي فَقَالَ: مَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ قُلْتُ: مَا قَالَ لِي شَيْئًا إِلَّا أَنَّهُ عَرَكَ أُذُنِي وَضَحِكَ فِي وَجْهِي، فَقَالَ: أَبْشِرْ ثُمَّ لَحِقَنِي عُمَرُ فَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ قَوْلِي لِأَبِي بَكْرٍ فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سُورَةَ الْمُنَافِقِينَ "[١]."

وفي ذلك دليل على نزولها ليلاً وتلاوتها للناس بعد أن أصبحوا. والله أعلم.

عاشراً: سورة المرسلات:

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي غَارٍ فَنَزَلَتْ وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا فَإِنَّا لَنَتَلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ إِذْ خَرَجَتْ حَيَّةٌ مِنْ جُحْرِهَا فَابْتَدَرْنَاهَا لِنَقْتُلَهَا فَسَبَقَتْنَا فَدَخَلَتْ جُحْرَهَا فَقَال رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم: "وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا" [٢].

وفي رواية أخرى له في البخاري: "قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي غَارٍ بِمِنًى إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِ وَالْمُرْسَلاتِ وَإِنَّهُ لَيَتْلُوهَا وَإِنِّي لَأَتَلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ وَإِنَّ فَاهُ لَرَطْبٌ بِهَا إِذْ وَثَبَتْ عَلَيْنَا حَيَّةٌ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم: اقْتُلُوهَا فَابْتَدَرْنَاهَا فَذَهَبَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم: وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا" [٣].

قال السخاوي في جمال القراء: "روي عن ابن مسعود أنها نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن بحراء" [٤].

قال السيوطي: "قلت هذا أثر لا يعرف ثم رأيت في صحيح الإسماعيلي وهو مستخرجه على البخاري أنها نزلت ليلة عرفة بغار منى، وهو في الصحيحين بدون قوله ليلة عرفة، والمراد بها ليلة التاسع من ذي الحجة فإنها التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبيتها بمنى" [٥].

فإن صحت هذه الرواية تكون دليلاً على نزولها ليلاً. والله أعلم.

وقد ذكر أبو القاسم الحسن بن محمد النيسابوري (ت ٤٠٦) في كتابه التنبيه على فضل علوم القرآن من وجوه شرف علوم القرآن؛ معرفة تفصيل نزول القرآن الكريم زمانا، ومكانا، وأوصافا. فقال:

"من أشرف علوم القرآن علم نزوله وجهاته، وترتيب ما نزل بمكة والمدنية، وما نزل بمكة وحكمه مدني، وما نزل بالمدينة وحكمه مكي، وما نزل بمكة في أهل المدينة، وما نزل بالمدينة في أهل مكة، وما يشبه نزول المكي في المدني، وما يشبه نزول المدني في المكي، وما نزل بالجحفة، وما نزل ببيت المقدس، وما نزل بالطائف، وما نزل بالحديبية، وما نزل ليلا، وما نزل نهارا، وما نزل مشيعا، وما نزل مفردا، والآيات المدنيات، وما حمل من مكة إلى المدينة، وما"

(١) أخرجه الترمذي ح رقم ٣٣١٣، والطبراني في المعجم الكبير ح ٥٠٤١، وابن أبي شيبة في مسنده ح رقم ٥٢١ وقَالَ الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وقال الألباني في حكمه على أحاديثه: صحيح الإسناد.

(٢) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: الحج، باب: خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ ح رقم ٣٣١٧.

(٣) أخرجه البخاري في كتاب: الحج، باب: مَا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ مِنْ الدَّوَابِّ ح رقم ١٨٣٠.

(٤) جمال القراء وكمال الإقراء (١/ ١٤٦) .

(٥) الإتقان في علوم القرآن (١/ ٥١) .

حمل من المدينة إلى مكة، وما حمل من المدينة إلى الحبشة، وما نزل مجملا، وما نزل مفسرا، وما اختلف فيه فقال بعضهم: مدني، وقال بعضهم: مكي، فهذه خمسة وعشرون وجها من لم يعرفها، ويميز بينها، لم يحل له أن يتكلم في كتاب الله تعالى "[١]."

وقد فسرت وفصلت هذه الأنواع مع التمثيل لها بما وردت به الروايات في البرهان للزركشي، والإتقان للسيوطي، والزيادة والإحسان لابن عقيلة المكي مما لا حاجة معه لزيادة الكلام في بسطه ونقله "[٢]."

وما ذكره النيسابوري هنا من وجوب معرفة هذه الأنواع والتمييز بينها وجعل ذلك شرطا للتفسير لا يسلم له وفيه نظر. فليس كله مما له أثر في التفسير.

مدة نزول القرآن الكريم

اختلف العلماء في تحديد? مدة نزول القرآن الكريم? على الرسول صلى الله عليه وسلم على أقوال:

أحدها: أنها ثماني عشرة سنة. روي هذا القول غير المشتهر عن الحسن. وأنه كان يقول ذكر لنا أنه كان بين أوله وآخره ثماني عشرة سنة، وأنه أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم ثماني سنين في مكة قبل الهجرة وعشر سنين بعدها [٣].

وهو قول ضعيف ينتج عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم توفي عن ثمان وخمسين سنة وهو ما لم يقل به أحد.

قال ابن عطية: "وهذا قول مختل لا يصح عن الحسن والله أعلم" [٤].

والثاني: أنها عشرون سنة: روي عن ابن عباس، وعكرمة، والشعبي وقتادة، واختاره ابن جزي الكلبي [٥].

والثالث: أنها ثلاث وعشرون سنة. وهو قول الجمهور [٦].

والرابع: أنها خمس وعشرون سنة. وهو قول من يذهب إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم عاش خمسا وستين سنة خلافا للمشهور [٧].

وتجدر الإشارة بأن منشأ هذا الاختلاف يعود إلى عدة أسباب:

أحدها: الخلاف في مدة إقامته-عليه الصلاة والسلام- بمكة بعد البعثة، فقيل: ثمان، وقيل عشر، وقيل ثلاث عشرة، وقيل خمس عشرة سنة. بناء على اختلاف الروايات في ذلك. فإذا أضيف إليها عشر سنين وهي مدة إقامته-عليه الصلاة والسلام-بالمدينة بعد الهجرة المتفق عليها كما

(١) التنبيه على فضل علوم القرآن. لأبي القاسم النيسابوري. منشور في مجلة المورد العراقية. بتحقيق محمد عبد الكريم كاظم. عدد (٤) ، مجلد (١٧) ، عام ١٤٠٩ هـ. الصفحات (٣٠٥ - ٣٢٢) .

(٢) ? انظر البرهان للزركشي (١/ ١٩٢) ، والإتقان للسيوطي (١/ ٣٦ - ) والزيادة والإحسان لابن عقيلة المكي (١/ ٢٦٣) .

(٣) انظر: تفسير الطبري: (١٥/ ١٧٩ - ١٨٠) ، والمحرر الوجيز: (١٠/ ٣٧٥) ، وزاد المسير: (١/ ٥) ، والبحر المحيط: (٦/ ٨٧) ، وفضائل القرآن، لابن الضريس: (٧٤) .

(٤) المحرر الوجيز: ١٠/ ٣٥٧.

(٥) تفسير ابن جزي الكلبي (١/ ٦، ٤/ ٢١٠) .

(٦) انظر البرهان (١/ ٢٢٨) ، والإتقان ١/ ١٤٦ وانظر علوم القرآن من خلال مقدمات التفاسير، رسالة دكتوراه، د. محمد صفاء حقي، ٢/ ٤١٢.

(٧) انظر البرهان (١/ ٢٢٨) ، والإتقان ١/ ١٤٦ وانظر علوم القرآن من خلال مقدمات التفاسير، رسالة دكتوراه، د. محمد صفاء حقي، ٢/ ٤١٢.

نص على ذلك ابن كثير حيث قال: "أما إقامته بالمدينة عشرا فهذا مما لا خلاف فيه .." [١]، فينتج عن ذلك الأقوال السابقة.

والثاني: ومن الأسباب كذلك: اختلاف الاعتبار الذي يبدأ منه حساب تلك المدة، هل هو من بداية الرؤيا الصادقة، أو من البعثة التي تلاها فتور في نزول الوحي، أو من الرسالة وتتابع الوحي بعد ذلك.

والثالث: ومنها ايضا: التسامح والتساهل في تحديد الوقت، وجبر الكسور في حساب السنوات اختصارا وعادة، يقول ابن كثير: "إن العرب كثيرا ما يحذفون الكسور من كلامهم" [٢].

والرابع: ومنها: الخلاف في عمره -عليه الصلاة والسلام-. حيث قيل إنه ستون سنة، وقيل ثلاث وستون، وقيل خمس وستون.

والمعتمد كما يقول ابن حجر أنه صلى الله عليه وسلم عاش ثلاثا وستين سنة وأن ما ورد مما يخالف ذلك فهو محمول إما على إلغاء الكسر في السنين أو جبر الكسر في الشهور [٣].

وأضاف ابن كثير معنى جديدا في الجمع وهو: اعتبار قرن جبريل بالرسول صلى الله عليه وسلم في نزول الوحي حيث روي أنه قرن به عليه السلام ميكائيل في ابتداء الأمر. يلقي إليه الكلمة والشيء ثم قرن به جبريل [٤].

كما أنه بعث صلى الله عليه وسلم على رأس أربعين سنة. كما قال النووي: "واتفقوا أنه صلى الله عليه وسلم أقام بالمدينة بعد الهجرة عشر سنين وبمكة قبل النبوة أربعين سنة وإنما الخلاف في قدر إقامته بمكة بعد النبوة وقبل الهجرة. والصحيح أنها ثلاث عشرة فيكون عمره ثلاثا وستين وهذا الذي ذكرناه أنه بعث على رأس أربعين سنة هو الصواب المشهور الذي أطبق عليه العلماء" [٥].

وقد حاول الشيخ محمد الخضري اختيار تحديد دقيق للمدة فذكر أن مدة مقامه صلى الله عليه وسلم بمكة هي اثنتا عشرة سنة، وخمسة أشهر، وثلاثة عشر يوما من يوم ١٧ رمضان سنة ٤١ من ميلاده الشريف إلى أول ربيع الأول سنة ٥٤ منه.

ومدة إقامته بالمدينة بعد الهجرة هي تسع سنوات، وتسعة أشهر، وتسعة أيام من أول ربيع الأول سنة ٤٥ إلى تاسع ذي الحجة سنة ٦٣ من ميلاده الشريف، وهي سنة عشر من هجرته صلى الله عليه وسلم [٦].

فصارت المدة بين مبتدأ التنزيل ومختتمه اثنتان وعشرون سنة وشهران واثنان وعشرون يوما [٧].

وهذا التحديد هو ما أشار إليه الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني في كتابه مناهل العرفان حيث ذكره وتعقبه فقال: "لكن هذا التحقيق لا يزال في حاجة إلى تحقيقات ثلاث: ذلك لأنه أهمل"

(١) فضائل القرآن لابن كثير. بتحقيق: ابن إسحاق الحويني الأثري: ٣٦.

(٢) فضائل القرآن لابن كثير: ٣٦.

(٣) انظر: فتح الباري: ٩/ ٤.

(٤) فضائل القرآن الكريم لابن كثير: ٣٦

(٥) شرح صحيح مسلم للنووي (١٥/ ٩٩) ، وانظر الزيادة والإحسان (١/ ٢٥٢) .

(٦) انظر تاريخ التشريع الإسلامي للشيخ محمد الخضري بك. ص ٨ وتاريخ القرآن لأبي عبد الله الزنجاني ص ٧١. فقد ذكر تحديد الفترة المكية كما هنا.

(٧) انظر: تاريخ التشريع: ٥.

من حسابه باكورة الوحي إليه صلى الله عليه وسلم عن طريق الرؤيا الصادقة ستة أشهر على أنها ثابتة في الصحيح. ثم جرى فيه على أنه ابتداء نزول القرآن كان ليلة السابع عشر من رمضان وهي ليلة القدر على بعض الآراء، غير أنه يخالف المشهور الذي يؤيده الصحيح.

ثم ذهب فيه مذهب القائلين بأن آخر ما نزل من القرآن هو آية: {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: ٣] وذلك في تاسع ذي الحجة سنة عشر من الهجرة، وسترى في مبحث آخر ما نزل من القرآن أن هذا المذهب غير صحيح [١] "[٢]."

ومما يعترض به على هذا التحديد أن يوم الفرقان ١٧ رمضان هو يوم الجمعة يقول الخضري عن يوم الفرقان، ويوم ابتداء إنزال القرآن الكريم: "... فهما متحدان في الوصف، وهو أنهما جميعا يوافقان الجمعة ١٧ رمضان وإن لم يكونا في سنة واحدة" [٣].

والقول بأن يوم ابتداء إنزال القرآن يوافق يوم الجمعة معارض لما ثبت في صحيح مسلم عن يوم الاثنين وقوله صلى الله عليه وسلم حين سئل عنه: "ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت - أو أنزل علي فيه" [٤].

كما حدد الشيخ محمد محمد أبو شهبة مدة نزول القرآن الكريم بأنها اثنتان وعشرون سنة وخمسة أشهر، ونصف الشهر. راعى في هذا التحديد ما ذهب إليه الجمهور من أنه صلى الله عليه وسلم ولد في الثاني عشر من ربيع الأول عام الفيل، وتوفي في الثاني عشر أيضا من ربيع الأول عام إحدى عشرة من الهجرة.

وبين ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم نبئ على رأس الأربعين من ميلاده الشريف وذلك من الثاني عشر من ربيع الأول وقد بدئ الوحي إليه بالرؤيا الصادقة ومكث على ذلك إلى السابع عشر من رمضان وجملة ذلك ستة أشهر وخمسة أيام حين نزل عليه صدر سورة اقرأ. وآخر آية نزلت عليه من القرآن هي قوله تعالى: {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله} الآية [البقرة: ٢٨١] ، وقد روي أن ذلك قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بتسعة أيام، وقيل بأحد عشر يوما، وقيل بواحد وعشرين يوما فلو أخذنا بالمتوسط تكون جملة المدة التي لم ينزل فيها القرآن ستة أشهر وستة عشر يوما. وجملة عمر صلى الله عليه وسلم ثلاث وستون عاما، ومدة نبوته ثلاث وعشرون سنة فإذا أنقصنا منها ستة أشهر وستة عشر يوما يكون الباقي اثنتين وعشرين سنة وخمسة أشهر وأربعة عشر يوما.

ثم قال أبو شهبة بعد هذا معبرا عن فرحه به: "والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. ثم انتقد حساب الخضري السابق بأنه بني على أن آخر آية نزلت هي قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} الآية [المائدة: ٣ [" [٥].

وما ذكره أبو شهبة - رحمه الله - من تحديد فيه نظر كذلك. إذ جعل يوم السابع عشر من رمضان بداية إنزال القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم وقد تقدم أنه يوافق يوم الجمعة - على قول الخضري - وأنه بهذا يعارض ما ثبت في الصحيح?

(١) الصواب في آخر ما نزل، قوله تعالى: {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} [البقرة / ٢٨١]

(٢) مناهل العرفان: ١/ ٤٥.

(٣) تاريخ التشريع ص: ٦، ٧

(٤) أخرجه مسلم في صحيحه من حديث طويل (٢/ ٨١٩) رقم (١١٦٢) . وراجع ص (٤٩) .

(٥) ? المدخل لدراسة القرآن الكريم: ٥٥، ٥٦.

وكذلك أنه بناه على الأخذ بأحد الأقوال في مدة بقاء الرسول صلى الله عليه وسلم بعد آخر آية نزلت عليه دون دراسة ترجيحية له. فيبقى ملخص القول أن المدة نحوا من ثلاث وعشرين سنة تقريبا لا تحديدا [١].

يوم إنزال القرآن

الصحيح أن أول يوم أنزل فيه القرآن هو يوم الاثنين. لحديث أبي قتادة الأنصاري الصحيح، وفيه: وسئل عن صوم يوم الاثنين. قال: "ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت - أو أنزل علي فيه" [٢].

وفي رواية أخرى: .. فقال: "فيه ولدت، وفيه أنزل علي" [٣].

وأخرج الواحدي عن أبي قتادة: "أن رجلا قال لرسول الله: أرأيت صوم يوم الإثنين:" قال فيه أنزل علي القرآن "[٤]."

وقد ذكر ابن سعد في طبقاته عن ابن عباس قال: "نبئ نبيكم صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين" [٥].

وعن أنس قال: استنبأ النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين [٦].

قال الواحدي: "وأول يوم أنزل القرآن فيه يوم الاثنين" [٧].

وذكر البلقيني أنه يوم الاثنين نهارا [٨].

ولذا قال ابن القيم: "ولا خلاف أن مبعثه -صلى الله عليه وسلم- كان يوم الاثنين" [٩].

وقال ابن كثير: "وهكذا قال عبيد بن عمير وأبو جعفر الباقر وغير واحد من العلماء أنه -عليه الصلاة والسلام- أوحي إليه يوم الاثنين. وهذا ما لا خلاف فيه بينهم" [١٠].

شهر إنزال القرآن الكريم

اختلف في شهر إنزال القرآن الكريم على الرسول صلى الله عليه وسلم، على أقوال:

الأول: أنه شهر رجب، في السابع عشر منه. وهو قول غير مشهور لكنه مذكور [١١].

الثاني: أنه في شهر ربيع الأول. قيل في أوله، والمشهور في ثامنه سنة إحدى وأربعين من عام الفيل. وقد جعله ابن القيم قول الأكثرين [١٢].

(١) انظر: نزول القرآن الكريم والعناية به في عهد النبي-صلى الله عليه وسلم-، عبدالودود مقبول حنيف (بحث منشور في الشبكة الالكترونية) . (بتصرف بسيط) .

(٢) أخرجه مسلم في صحيحه من حديث طويل. كتاب الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام، حديث ١١٦٢، (٢/ ٨١٩) .

(٣) صحيح مسلم (٢/ ٨٢٠) .

(٤) أسباب النزول للواحدي: ١٣ - ١٤.

(٥) طبقات ابن سعد: ١/ ١٩٣.

(٦) طبقات ابن سعد: ١/ ١٩٤.

(٧) أسباب النزول للواحدي. تحقيق السيد أحمد صقر: ١٣.

(٨) فتح الباري: ١٢/ ٣٥٦.

(٩) زاد المعاد: ١/ ١٨

(١٠) السيرة النبوية لابن كثير: ١/ ٣٩٢.

(١١) انظر: فتح الباري - كتاب التعبير (١٢/ ٣٥٧) . وزاد المعاد لابن القيم (١/ ١٨) . والزيادة والإحسان لابن عقيلة المكي (١/ ٢٥٠) .

(١٢) انظر المصادر السابقة.

وقيل في الثاني عشر من ربيع الأول يوم الاثنين كما روي عن جابر وابن عباس أنهما قالا: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وفيه بعث، وفيه عرج به إلى السماء، وفيه هاجر، وفيه مات [١].

وعن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين في ربيع الأول، وأنزلت عليه النبوة يوم الاثنين في أول شهر بيع الأول وأنزلت عليه البقرة في ربيع الأول [٢].

الثالث: أنه في شهر رمضان، قال الواحدي: "وأول شهر أنزل فيه القرآن شهر رمضان" [٣]، قال الله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} [البقرة: ١٨٥] .

وجعله ابن كثير: المشهور. فقال: والمشهور أنه بعث عليه الصلاة والسلام في شهر رمضان كما نص على ذلك عبيد بن عمير، ومحمد بن إسحاق وغيرهما "[٤]."

قال ابن القيم: "وإليه ذهب جماعة منهم يحيى الصرصري حيث يقول في نونيته: شمس النبوة منه في رمضان، وأتت عليه أربعون فأشرقت" [٥].

وقال ابن إسحاق: ابتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتنزيل في رمضان - ثم استدل له فقال- قال الله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} [البقرة: ١٨٥] وقال سبحانه: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} [القدر: ١] وقال تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة} [الدخان: ٣] [٦].

واختلف في أي الأوقات من رمضان: فقيل في سابعه [٧]، وقيل في الرابع عشر [٨]، وقيل في السابع عشر منه.

فقد أخرج ابن سعد عن الواقدي عن أبي جعفر الباقر، قال نزل الملك على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من شهر رمضان. ورسول الله يوميئذ ابن أربعين سنة. وجبريل الذي كان ينزل عليه بالوحي [٩].

وقيل في الرابع والعشرين من رمضان، قال أبو عبد الله الحليمي: "يريد ليلة خمس وعشرين" [١٠].

وقال ابن كثير: "ولهذا ذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن ليلة القدر ليلة أربع وعشرين" [١١].

(١) انظر السيرة النبوية لابن كثير (١/ ١٩٩) ، و (١/ ٣٩٢) . وقال: رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن عفان عن سعيد بن ميناء عنهما.

(٢) ذكره ابن كثير في السيرة النبوية (١/ ٢٠٠) بسنده وقال عنه: وهذا غريب جدا، رواه ابن عساكر.

(٣) أسباب النزول للواحدي: ١٤.

(٤) انظر السيرة النبوية: ١/ ٣٩٢.

(٥) زاد المعاد: ١/ ١٨.

(٦) انظر: مختصر السيرة لابن هشام (٣٩) والسيرة النبوية للذهبي (٧٥) .

(٧) انظر فتح الباري (١٢/ ٣٥٦)

(٨) انظر فتح الباري (١٢/ ٣٥٦)

(٩) أخرجه ابن سعد في الطبقات بسنده (١/ ١٩٤) . وانظر: السيرة النبوية لابن كثير (١/ ٣٩٢) والزيادة والإحسان في علوم القرآن لابن عقيلة المكي (١/ ٢٥٠ - ٢٥١) . وانظر: تاريخ التشريع للخضري (٦، ٧) . فقد ذكر هذا التاريخ لكن جعله يوم الجمعة.

(١٠) المرشد الوجيز لأبي شامة (١٣) .

(١١) السيرة النبوية لابن كثير (١/ ٣٩٢) .

واستدل لهذا بحديث واثلة بن الأسقع [١].

وجعله السخاوي في النزول المباشر على الرسول صلى الله عليه وسلم فقال بعد أن ساقه بنحوه: "فهذا الإنزال يريد به - صلى الله عليه وسلم أول نزول القرآن عليه- ثم قال: وقوله عز وجل: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} يشمل الإنزالين" [٢].

أما البيهقي فقد حمل حديث واثلة بن الأسقع على أن المراد به الإنزال جملة فقال: "قلت: وإنما أراد - والله أعلم - نزول الملك بالقرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا" [٣].

ويشهد لهذا المعنى ما رواه ابن أبي شيبة عن أبي قلابة قال: ".. أنزلت الكتب كاملة ليلة أربع وعشرين من رمضان .." [٤].

وقد ذهب صفي الرحمن المباركفوري في كتابه الرحيق المختوم إلى تحديد دقيق، ورأي جديد وهو أن يوم نزول القرآن وشهره كان يوم الاثنين لإحدى وعشرين مضت من رمضان ليلا. الموافق عشرة أغسطس سنة ٦١٠ م، وكان عمره صلى الله عليه وسلم إذ ذاك أربعون سنة قمرية وستة أشهر و ١٢ يوما، وذلك نحو ٣٩ سنة شمسية وثلاثة أشهر و ٢٢ يوما.

وهو قول لم يقل به أحد قبله وقد بناه على ما يأتي [٥]:

أولا: كونه يوم الاثنين بناء على ما صح من حديث أبي قتادة الأنصاري وفيه ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت أو أنزل علي فيه، وهو ما اتفق عليه أهل السير.

ثانيا: وكونه شهر رمضان عملا بالآيات الثلاث في سور: البقرة، الدخان، والقدر. وكونه شهر الجوار والتحنث بحراء.

ثالثا: كونه لإحدى وعشرين مضت من رمضان. بناء على أن حساب التقويم العلمي لذلك الشهر في تلك السنة لا يوافق يوم الاثنين إلا يوم السابع، والرابع عشر، والحادي والعشرين، والثامن والعشرين. ولأن ليلة القدر إنما تقع في الوتر من ليالي العشر من شهر رمضان، تعين كون ذلك يوم واحد وعشرين [٦].

(١) أخرجه أحمد في المسند (٤/ ١٠٧) وأبو عبيد في فضائل القرآن (٣٦٨) وأخرجه ابن الضريس بسنده عن أبي الخلد (٧٤) بزيادة في آخره. وابن جرير في تفسيره (٢/ ١٤٥) . والواحدي في أسباب النزول (١٤) . والطبراني في المعجم الكبير (٢٢/ ٧٥) حديث (١٨٥) . غير أنه وقع في النسخة: «وأنزل القرآن لأربع عشرة» بدلا من أربع وعشرين. فلعله خطأ. وذكره الألباني في الصحيح رقم (١٥٧٥) وقال عنه: «هذا إسناد حسن، رجاله ثقات، وفي القطان كلام يسير، وله شاهد من حديث ابن عباس مرفوعا نحوه، وأخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (١، ٣٦٧) ، وقال عنه: خالفه عبيد الله بن أبي حميد وليس بالقوي فرواه عن أبي المليح عن جابر بن عبد الله من قوله. ورواه إبراهيم بن طهمان عن قتادة من قوله لم يجاوز به إلا أنه قال: لاثنتي عشرة» وكذلك وجده جرير بن حازم في كتاب أبي قلابة دون ذكر صحف إبراهيم. وانظر السيرة النبوية لابن كثير (١/ ٣٩٣) . وتفسير الماوردي بتحقيق الباحث (٢/ ٥٦٩) والمرشد الوجيز (١٢) والزيادة والإحسان لابن عقيلة المكي (١/ ٢٥٢) .

(٢) جمال القراء: (١/ ٢٢)

(٣) الأسماء والصفات للبيهقي (١/ ٣٦٧) ، والمرشد الوجيز (١٤) .

(٤) المرشد الوجيز: ١٣.

(٥) انظر: نزول القرآن الكريم والعناية به في عهد لرسول-صلى الله عليه وسلم-: ٦٤.

(٦) انظر: الرحيق المختوم ص (٦٦) وحاشيته (٢) .

وهذا جهد طيب ومنهج جيد في التحديد إلا أنه يرد عليه ما يأتي [١]:

أولا: أن كون ذلك يوم الاثنين لإحدى وعشرين مضت من شهر رمضان ليلا. يجعل تلك الليلة هي ليلة الثلاثاء اثنتين وعشرين فلا تصير بذلك من ليالي الوتر التي تتحرى بها ليلة القدر. [٢].

ثانيا: أن الاستدلال بالآيات الثلاث في سور: البقرة، والدخان، والقدر. على ابتداء النزول ليس صريحا، وقد فسرت بأن المراد بها النزول جملة إلى السماء الدنيا. وهو ما يتفق مع الروايات الأخرى الواردة عن ابن عباس وغيره في ذلك.

ثالثا: أن حمله تلك الآيات على ابتداء النزول يعني أن ليلة القدر صارت معروفة على وجه اليقين لأن معرفة ابتداء نزول القرآن ميسور للصحابة رضي الله عنهم لو تعلق به أمر تعيين ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. ومعلوم أنها قد أخفيت عينها. فاختلف في تحديدها. وإذا سلم هذا الإيراد كان دليلا على نزول القرآن في غير شهر رمضان. وكان ترجيحا للقول بنزوله في شهر ربيع الأول إلا أن تكون ليلة تسع وعشرين على ما ذكر من الحساب.

وقد رجح ابن حجر كون ابتداء النزول في رمضان فقال: "قلت: ورمضان هو الراجح لما تقدم من أنه الشهر الذي جاء فيه الرسول صلى الله عليه وسلم حراء فجاءه الملك وعلى هذا يكون سنه حينئذ أربعين سنة وستة أشهر" [٣].

كما رجح في موضع آخر أنه في آخر شهر رمضان ولم يحدده بتاريخ فقال: ".. فيستفاد من ذلك أن يكون آخر شهر رمضان، وهو قول آخر يضاف لما تقدم ولعله أرجحها" [٤].

وجعل ابن حجر شهر رمضان زمانا لنزول القرآن جملة، ونزوله مفرقا أيضا، فقال عن حديث مدارسة جبريل عليه السلام للرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن ".. وفيه إشارة إلى أن ابتداء نزول القرآن كان في شهر رمضان لأن نزوله إلى السماء الدنيا جملة واحدة كان في رمضان كما ثبت من حديث ابن عباس" [٥].

وذكر ابن عرفة في تفسيره مثل هذا التوجيه بعد أن ساق بعض الأقوال في معنى قوله تعالى: {أنزل فيه القرآن} قال: "قال الضحاك: أنزل القرآن في فرضه وتعظيمه، والحض عليه. وقيل: الذي أنزل القرآن فيه. قال ابن عرفة: ولا يبعد أن يراد الأمران فيكون أنزل القرآن فيه تعظيما له وتشريفا .. وقيل: أنزل فيه القرآن جملة إلى سماء الدنيا. قال ابن عرفة فالقرآن على هذا الاسم للكل، وعلى القول الثاني: بأنه أنزل فيه بعضه يكون القرآن اسم جنس يصدق على القليل والكثير" [٦].

وإلى مثل ذلك ذهب أبو شامة في تعليقه على ما نسب للشعبي من أن الله عز وجل ابتدأ إنزال القرآن في ليلة القدر فقال: "هو إشارة إلى ابتداء إنزال القرآن على النبي صلى الله عليه"

(١) انظر: نزول القرآن الكريم والعناية به في عهد لرسول-صلى الله عليه وسلم-: ٦٤.

(٢) يصدق تعليله على ما ذكره من موافقة يوم الاثنين لثمان وعشرين من رمضان حيث تكون ليلة تسع وعشرين. وهي من ليالي الوتر، ولكنه لم يذكره ولم يختره.

(٣) ? فتح الباري، كتاب التعبير: ١٢/ ٣٥٦.

(٤) ? فتح الباري، كتاب التعبير: ١٢/ ٣٥٧.

(٥) ? فتح الباري، كتاب بدء الوحي: ١/ ٣١.

(٦) تفسير ابن عرفة برواية تلميذه الأبي: ٢/ ٥٣٩.

وسلم فإن ذلك كان وهو متحنث بحراء في شهر رمضان - ثم قال - وقد بينت ذلك في شرح حديث المبعث وغيره [١].

وهذا وإن كان الأمر فيه كذلك إلا أن تفسير الآية به بعيد مع ما قد صح من الآثار عن ابن عباس: أنه نزل جملة إلى السماء الدنيا "[٢]، ففرق أبو شامة بهذا بين جعل رمضان شهر نزول القرآن والاستدلال له بالآيات."

وقال في موضع آخر مبينا صلة شهر رمضان بالقرآن: "... ويجوز أن يكون قوله: {أنزل فيه القرآن} إشارة إلى كل ذلك، وهو كونه أنزل جملة إلى السماء الدنيا، وأول نزوله إلى الأرض، وعرضه وإحكامه في شهر رمضان. فقويت ملابسة شهر رمضان للقرآن: إنزالا جملة وتفصيلا وعرضا وإحكاما فلم يكن شيء من الأزمان تحقق له من الظرفية للقرآن ما تحقق لشهر رمضان فلمجموع هذه المعاني قيل: {أنزل فيه القرآن} [٣]."

مقدار التنزيل

لقد ثبت نزول القرآن الكريم على الرسول صلى الله عليه وسلم منجما مفرقا ابتداء أو حسب الحاجة والوقائع. وغالب القرآن الكريم نزل آيات مفرقات وبعضه نزل سورا كاملة، ونزلت سورتان من قصار السور معا هما المعوذتان.

فأول ما نزل من القرآن الكريم الآيات الخمس الأولى من سورة العلق. وهي قوله تعالى: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} {خلق الإنسان من علق} {اقرأ وربك الأكرم} {الذي علم بالقلم} {علم الإنسان ما لم يعلم} ثم نزل باقيها بعد نزول سورة المدثر.

كما نزلت الخمس الآيات الأولى من سورة الضحى إلى قوله: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} وصح نزول عشر آيات من قصة الإفك جملة واحدة من سورة النور. وصح كذلك نزول عشر آيات جملة من أول سورة المؤمنون. ونزلت آية {اليوم أكملت لكم دينكم} (المائدة: ٣) في عرفة في يوم جمعة.

وصح نزول قوله {غير أولي الضرر} وحدها، وهي بعض آية. فقد أخرج البخاري من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: لما نزلت: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} (النساء: ٩٥) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا فكتبها فجاء ابن أم مكتوم فشكا ضرارته: فأنزل الله: {غير أولي الضرر} [٤].

وكذا قوله: {وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم} (التوبة: ٢٨) نزلت بعد نزول أول الآية، فهي بعض آية [٥].

وقد تنزل السورة كاملة ومن ذلك سورة الفاتحة، والإخلاص، والكوثر، والمسد، والنصر، والمرسلات، والصف .. وغيرها [٦].

(١) كتاب للمؤلف سماه في كتابه الذيل على الروضتين: شرح الحديث المقتفى في مبعث النبي المصطفى. انظر المرشد الوجيز (٢٠) حاشية (٢) .

(٢) المرشد الوجيز لأبي شامة المقدسي: ٢٠.

(٣) المرشد الوجيز لأبي شامة المقدسي: ٢٤.

(٤) أخرجه البخاري. كتاب التفسير، باب ١٨ لا يستوي القاعدون من المؤمنين .. (٥/ ١٨٢ - ) وانظر: سنن أبي داود (٣/ ١٧) والمرشد الوجيز (٣٤ - ) وأسباب النزول للواحدي (١٦٨ - ) وانظر الإتقان (١/ ١٥٥) .

(٥) انظر تفسير الطبري (١٤/ ١٩٤) . والتبيان للشيخ طاهر الجزائري (٥٩) .

(٦) انظر: الإتقان (١/ ١٣٦) . والزيادة والإحسان (١/ ٣٩٩) .

وأما ما ورد من نزول سورة الأنعام جملة يشيعها سبعون ألف ملك. فلم يخل من خلاف. فقد قال ابن الصلاح في فتاويه: "الحديث الوارد في أنها نزلت جملة رويناه من طريق أبي بن كعب وفي إسناده ضعف، ولم نر له إسنادا صحيحا. وقد روي ما يخالفه فروي أنها لم تنزل جملة واحدة بل نزلت آيات منها بالمدينة اختلفوا في عددها، فقيل ثلاث، وقيل: ست، وقيل غير ذلك [١]."

وقد قال ابن عقيلة المكي في توجيه هذا الاعتراض. بأن نزول غالبها في حكم نزولها كلها. قال: "أقول: من قال: إن السورة نزلت كلها فإنما يعني - والله أعلم- الغالب، ولا يضر أن ينزل بعضها بعد ذلك وتمامها، فإن القرآن غالبه إنما ينزل مفرقا آيات. ومثل هذه السورة العظيمة إذا نزل غالبها فيحكم لها بالكل، فإنه نادر الوقوع" [٢].

وقد نزلت سورتا المعوذتين معا بسبب سحر لبيد بن الأعصم اليهودي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله جل شأنه المعوذتين فقرأهما وتعوذ بهما فانحل السحر [٣].

فتبين مما سبق أن القرآن نزل مفرقا: الآية، والآيتان، والخمس، والعشر، وأقل وأكثر. كما نزل جزء الآية. ونزلت سورة كاملة، ونزلت سورتا المعوذتين معا.

ولا شك أن هذه المتابعة الدقيقة من قبل العلماء لجزئيات نزول القرآن الكريم في وقته، وصفته، ومقداره، ويوم إنزاله، وشهره، وكون ذلك ليلا ونهارا، حضرا وسفرا؛ دليل عناية الأمة البالغة بالقرآن الكريم التي ميز الله بها كتابه فصارت من خصائصه التي تفرد بها، وجعلها الله وسيلة حفظ كتابه الذي تكفل به في قوله سبحانه: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: ٩] .

كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتلقى القرآن من جبريل فيحفظه ولا ينساه {سنقرئك فلا تنسى} فيبلغه أصحابه، ويحفظهم إياه، ويأمرهم بكتابته. فتوفر للقرآن الكريم بالغ العناية به، وكامل وسائل حفظه، والمحافظة عليه. وتلك نعمة ومنة من الله تعالى على الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ولا يشكرون [٤]. 

(١) فتاوى ابن الصلاح (١/ ٢٤٨) ، والبرهان (١/ ١٩٩) ، والإتقان (١/ ١٣٧) .

(٢) الزيادة والإحسان (١/ ٤٠١) .

(٣) انظر: أسباب النزول للواحدي. (٥١٥) والجامع لأحكام القرآن (٢٠/ ٢٥٤) ، والزيادة والإحسان (١/ ٤٠٥) .

(٤) انظر: نزول القرآن الكريم والعناية به في عهد لرسول-صلى الله عليه وسلم-: ٦٨ - ٧١، والزيادة والإحسان: ١/ ٤٠٥.

عن الكاتب

Tanya Ustadz

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية