الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

تفسير سورة المائدة | تفسير الإمام الشافعي الفران المجلد الثاني

تفسير سورة المائدة | تفسير الإمام الشافعي الفران المجلد الثاني

 اسم الكتاب ـ تفسير الإمام الشافعي المجلد الثاني
المؤلف: الإمام الشافعي؛ محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان ابن شافع الهاشمي القرشي المطلبي، أبو عبد الله
 المحقق: أحمد مصطفى الفران
 حالة الفهرسة: مفهرس فهرسة كاملة
 سنة النشر: 1427 - 2006
 عدد المجلدات: 3
رقم الطبعة: 1
عدد الصفحات: 1529
نبذة عن الكتاب:  أصل هذا الكتاب رسالة دكتوراة من جامعة القرآن الكريم والدراسات الإسلامية بالخرطوم - تم دمج المجلدات في ملف واحد للتسلسل تاريخ إضافته: 04 / 11 / 2008


 فهرست الموضوعات 

  1. سورة المائدة
  2.     قال الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد (١)
  3.     قال الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم
  4.     قال الله عز وجل: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم
  5.     قال الله عز وجل: (يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله
  6.     قال الله عز وجل: (اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم
  7.     قال الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا
  8.     قال الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما
  9.     قال الله عز وجل: (وعزرتموهم)
  10.     قال الله عز وجل: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير (١٩)
  11.     قال الله عز وجل: (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين (٢٧)
  12.     قال الله عز وجل: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض
  13.     قال الله عز وجل: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم (٣٨)
  14.     قال الله عز وجل: (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم)
  15.     قال الله عز وجل: (فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم)
  16.     قال الله عز وجل: (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين (٤٣)
  17.     قال الله عز وجل: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس)
  18.     قال الله عز وجل: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق)
  19.     قال الله عز وجل: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا
  20.     قال الله عز وجل: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك)
  21.     قال الله عز وجل: (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون (٥٠)
  22.     قال الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم)
  23.     قال الله عز وجل: (وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون (٥٨)
  24.     قال الله عز وجل: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس)
  25.     قال الله عز وجل: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين)
  26.     قال الله عز وجل: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا
  27.     قال الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم (٩٤)
  28.     قال الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة
  29.     قال الله عز وجل: (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون (٩٦)
  30.     قال الله عز وجل: (ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون (٩٩)
  31.     قال الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم (١٠١)
  32.     قال الله عز وجل: (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون (١٠٣)
  33.     قال الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم)
  34.     قال الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت)
  35. العودة الي كتاب تفسير الإمام الشافعي لـ أحمد مصطفي الفران المجلد الأول  
  36. العودة الي كتاب تفسير الإمام الشافعي لـ أحمد مصطفي الفران المجلد الثاني  

 

سورة المائدة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال الله ﷿: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (١)
الأم: جماع الوفاء بالنذر والعهد ونقضه:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: جماع الوفاء بالنذر وبالعهد، كان بيمين أو
غيرها في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) الآية.
وهذا من سعة لسان العرب الذي خوطبت به، وظاهره عام على كل عقد، ويشبه - واللَّه تعالى أعلم - أن يكون أراد اللَّه ﷿، أن يوفى بكل عقد كان بيمين أو غير يمين.
وكل عقد نذر، إذا كانت في العقد لله طاعة، ولم يكن فيما أمر بالوفاء منها
معصية.
الأم (أيضًا): باب (دواب الصيد التي لم تسمَّ):
قال الشَّافِعِي ﵀: فإن قال قائل: ما دلَّ على ما وصفت، والعرب
تقول: للإبل الأنعام، وللبقر البقر، وللغنم الغنم؟
قيل: هذا كتاب الله تعالى كما وصفت، فإذا جَمَعْتَها قلت نعمًا كلها، وأضفت الأدنى منها إلى الأعلى، وهذا
 
٢ ‏/ ٦٩٢
 
معروف عند أهل العلم بها، وقد قال الله تعالى: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) الآية.
الأم (أيضًا): كتاب (الأطعمة وليس في التراجم. .):
قال الشَّافِعِي ﵀: أصل ما يحرم أكله من البهائم والدواب والطير
شيئان، ثم يتفرقان فيكون منها شيء محرم نصًا في سنة رسول الله ﷺ، وشيء محرم في جملة كتاب اللَّه ﷿ خارج من الطيبات، ومن بهيمة الأنعام، فإنَ الله ﷿
يقولْ: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ) الآية.
الأم (أيضًا): ما حرَّم المشركون على أنفسهم:
قال الشَّافِعِي ﵀: وأعلمهم ﷾ أنَّه لم يحرّم عليهم ما حرَّموا بتحريمهم، وقال: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ)
يعني - والله أعلم -: من الميتة.
الأم (أيضًا): تفريع ما يحل ويحرم:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه تعالى: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) الآية.
فاحتمل قول اللَّه ﵎:
(أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ) إحلالها دون ما سواها، واحتمل إحلالها بغير
حظر ما سواها.
 
٢ ‏/ ٦٩٣
 
قال الله ﷿: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢)
الأم: كتاب (الحج):
أخبرنا الربيع بن سليمان المرادي كصر سنة سبع ومائتين، قال:
أخبرنا محمد بن إدريس الشَّافِعِي ﵀، قال: أصل إثبات فرض الحج
خاصة في كتاب اللَّه تعالى، ثم في سُنَّة رسوله ﷺ، وقد ذكر اللَّه ﷿ الحج في غير
موضع من كتابه، فحكى أنه قال لإبراهيم ﵇: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) .
وقال ﵎: (لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ) الآية.
مع ما ذكر به الحج.
الأم (أيضًا): ما جاء في أمر النكاح:
قال الشَّافِعِي ﵀: والأمر في الكتاب، والسنة، وكلام الناس يحتمل
معاني:
أحدها: أن يكون اللَّه ﷿ حرّم شيئًا، ثم أباحه، فكان أمره إحلال ما حرّم، كقول اللَّه ﷿: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) الآية، ليس حتمًا أن يصطادوا؛ إذا حلُّوا.
 
٢ ‏/ ٦٩٤
 
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في الصيد والذبائح. . .:
قال الشَّافِعِي ﵀: فكان معقولًا عن اللَّه ﷿، إذا أذن في كل ما أمسك الجوارح، أنهم إنما اتخذوا الجوارح، لما لم ينالوه إلا بالجوارح، وإن لم ينزل ذلك نصّا من كتاب الله ﷿. ..
وقال تعالى: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) الآية.
أحكام القرآن (أيضًا): ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في التفسير في آيات متفرقة:
قال الشَّافِعِي ﵀: في قوله تعالى: (لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ) الآية، يعني:
لا تستحلوها وهي: كل ما كان لله ﷿، من الهدي وغيره.
وفي قوله تعالى: (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ) الآية، من أتاه: تصدونهم عنه.
قال الشَّافِعِي رحمه المُه: وفي قوله ﷿: (شَنَئَانُ قَوْمٍ) الآية، على خلاف الحق.
آداب الشَّافِعِي ومناقبه: باب (في المناسك):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه تعالى: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) الآية.
فأخبر أنَّه أباح شيئًا كان حرَّمه، ولم يوجب الصيد عند الإحلال.
 
٢ ‏/ ٦٩٥
 
قال الله ﷿: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣)
الأم: ما جاء في نكاح إماء المسلمين وحرائر أهل الكتاب وإمائهم
قال الشَّافِعِي ﵀: فقلت له - أي: للمحاور - قد حرّم الله الميتة
فقال: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) الآية، واستثنى إحلاله للمضطر.
أفيجوز لأحد أن يقول: لما حلَّت الميتة بحال لواحد موصوف، وهو المضطر.
حلَّت لمن ليس في صفته؟ قال: لا.
الأم (أيضًا): المدَّعي والمدَّعَى عليه
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله جلَ وعز: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ)
قرأ الربيع إلى قوله: (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) الآية.
وقال في الآية الأخرى: (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) فلما أباح في حال
الضرورة، ما حرَّم جملة، أيكون لي إباحة ذلك في غير حال الضرورة، فيكون التحريم فيه منسوخًا، والإباحة قائمة؟ قال: لا، قلنا: ونقول له التحريم بحاله والإباحة على الشرط، فمتى لم يكن الشرط فلا تحل؟
قال: نعم.
 
٢ ‏/ ٦٩٦
 
الأم (أيضًا): ما يحل بالضرورة:
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال في ذكر ما حرّم: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الآية، فيحل ما حرَّم من ميتة، ودم، ولحم الخنزير، وكل ما حرم مما لا يغير العقل من الخمر للمضطر.
والمضطر: الرجل يكون بالموضع، لا طعام فيه معه، ولا شيء يسد فورة
جوعه، من لبن وما أشبهه، ويبلغه الجوع ما يخاف منه الموت أو المرض، وإن لم يخف الموت، أو يضعفه، ويضره، أو يعتل، أو يكون ماشيًا فيضعف عن بلوغ حيث يريد، أو راكبًا فيضعف عن ركوب دابته، أو ما في هذا المعنى من الضرر البين، فأي هذا ناله، فله أن يأكل من المحرّم، وكذلك يشرب من المحرّم غير المسكر، مثل الماء تقع فيه الميتة وما أشبهه.
الأم (أيضًا): كتاب (إبطال الاستحسان):
قال الشَّافِعِي ﵀: وأعلمهم أنَّه أكمل لهم دينهم فقال ﷿: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)
وأبان اللَّه ﷿ لخلقه، أنَّه تولى الحكم فيما أثابهم وعاقبهم عليه على ما علم من سرائرهم، وافقت سرائرهم علانينهم، أو خالفتها، وإنَّما جزاهم بالسرائر، فأحبط عمل كل من كفر به.
 
٢ ‏/ ٦٩٧
 
مختصر المزني: كتاب (الصيد والذبائح):
قال الشَّافِعِي ﵀: ولو شقّ السبع بطن شاة، فوصل إلى معاها.
ما يستيقن أنهّا إن لم تذك ماتت، فذكيت فلا بأس بكلها، لقول اللَّه ﷿: (وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ) الآية.
والذكاة: جائزة بالقرآن الكريم.
وقال الشَّافِعِي ﵀: ولو أدرك الصيد، ولم يبلغ سلاحه، أو معلَّمه ما
يبلغ الذابح، فأمكنه أن يذبحه فلم يفعل، فلا يأكل.
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في الصيد والذبائح:
قال الشَّافِعِي ﵀: ولما ذكر اللَّه ﷿ أمره بالذبح، وقال: (إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ) كان معقولًا عن اللَّه ﷿، أنَّه إنَّما أمر به، فيما يمكن فيه الذبح والذكاة، وإن لم يذكره.
أحكام القرآن (أيضًا): باب (ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في التفسير في آيات
متفرقة):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقوله ﷿: (إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ) فما وقع عليه
اسم الذكاة من هذا، فهو ذكيُّ.
 
٢ ‏/ ٦٩٨
 
قال الشَّافِعِي ﵀: - قال اللَّه تعالى -: (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ)
الآية، الأزلام ليس لها معنى إلا: القِدَاحُ.
الزاهر في غريب ألفاظ الشَّافِعِي: باب (الصيد والذبائح):
بعد أن ذكر عبارة الشَّافِعِي: (ولو وقع الصيد على جبل فتردى عنه كان
مترديًا لا يؤكل. . .) .
قال الأزهرى: والمتردية في القرآن: مِنْ رديت، أي: طرحت، فتردى، أي: سقط (من رأس جبل أو في بئر) .
والموقوذة والوقيذة: التي تقتل بشيء ثقيل، مثل الحجر المدملك، والعصا
الضخمة.
* * *
قال الله ﷿: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٤)
الأم: ما يحرم من جهه ما لا تأكل العرب:
قال الشَّافِعِي ﵀: أصل التحريم، نص كتاب، أو سنَّة، أو جملة كتاب، أو سنَّة، أو إجماع. . .
 
٢ ‏/ ٦٩٩
 
وقال ﷿: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ) الآية، وإنَّما تكون الطيبات
والخبائث عند الآكلين كانوا لها، وهم العرب الذين سألوا عن هذا، ونزلت فيهم الأحكام، وكانوا يكرهون من خبيث المأكل ما لا يكرهها غيرهم.
الأم (أيضًا): باب (موضع الذكاة في المقدوو على ذكاته وحكم غير المقدوو
عليه):
قال الشَّافِعِي ﵀: وما نالته الكلاب والصقور والجوارح كلها، فقتلته.
ولم تدْمِه احتمل معنيين:
أحدهما: ألَّا يؤكل حتى يخرق شيئًا؛ لأن الجارح ما خرق، وقد قال
الله ﵎: (الْجَوَارِحِ) الآية.
ومعنى الثاني: أن فعلها كله ذكاة، فبأي فعلها قتلت حل، وقد يكون هذا
جائزًا، فيكون فعلها غير فعل السلاح؛ لأن فعل السلاح فعل الآدمي، وأدنى ذكاة الآدمي، ما خرق حتى يدمي، وفعلها عمد القتل، لا على أن في القتل فعلين:
أحدهما: ذكاة، والآخر: غير ذكاة، وقد تسمى جوارح؛ لأنها تجرح، فيكون اسمًا لازمًا، وأكل ما أمسكن مطلقًا، فيكون ما أمسكن حلالًا بالإطلاق، ويكون الجَرْح إن جرحها هو اسم موضوع عليها، لا أنها إن لم تجرح لم يؤكل ما قتلت.
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في الحج:
أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا الربيع:
 
٢ ‏/ ٧٠٠
 
أخبرنا الشَّافِعِي ﵀ قال: أصل الصيد: الذي يؤكل لحمه، وإن كان
غيره يسمى صيدًا، ألا ترى إلى قول اللَّه تعالى: (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) الآية؛ لأنَّه معقول عندهم: أنه إنَّما يرسلونها على ما يؤكل.
أحكام القرآن (أيضًا): ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في الصيد والذبائح:
قرأت في كتاب السنن - رواية حرملة بن يحيى
عن الشَّافِعِي ﵀ قال: قال اللَّه ﵎: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) الآية.
قال الشَّافِعِي ﵀: فكان معقولًا عن الله ﷿، إذ أذن في كل ما
أمسك الجوارح، أنهم إنما اتخذوا الجوارح، لما لم ينالوه إلا بالجوارح، وإن لم
ينزل ذلك نصًا من كتاب اللَّه ﷿.
أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، أخبرنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع
أخبرنا الشَّافِعِي ﵀ قال: الكلب المعلم: الذي إذا أشلِيَ: استشلى.
وإذا أخذ: حَبَسَ ولم يأكل، فإذا فعل هذا مرة بعد مرة: كان معلَّمًا، يأكل صاحبه مما حبس عليه، وإن قَتَل: ما لم يأكل.
وقد تسمى جوارح؛ لأنَّها تجرح، فيكون اسمًا لازمًا.
وأحِل ما أمسكن مطلقًا.
 
٢ ‏/ ٧٠١
 
آداب الشَّافِعِي ومناقبه: باب (في اللباس والأشربة، والأضاحي والصيد):
أخبرنا أبو محمد، قال أخبرني أبي، قال سمعت يونس بن عبد الأعلى، قال:
قال الشَّافِعِي ﵀: في قوله تعالى: (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ) الآية، (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) الآية.
فما أطاع: إن أمرته ائتمر وإن نهيته انتهى فهو: المُكَلَّت، وإذا أمسك، فلم يأكل: فكل، وإن أكل: فلا تأكل، للحديث الذي رواه عدي بن حاتم عن النبي ﷺ.
قال الشَّافِعِي ﵀: وفي هذا اختلاف.
* * *
قال الله ﷿: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٥)
الأم: نكاح نساء أهل الكتاب:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال - الله تعالى -: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) الآية، والمحصنات منهن الحرائر،
 
٢ ‏/ ٧٠٢
 
فأطلقنا مما استثنى الله من إحلاله، وهن الحزائر من أهل الكتاب؛ والحرائر غير الإماء كما قلنا، لا في نكاح مشركة غير كتابية.
وقال غيرنا: كذلك كان يلزمه أن يقول: وغير حرة، حتى يجتمع فيها أن
تكون حرة كتابية، فإذا كان نكاح إماء المؤمنين ممنوعًا إلا بشرطين
كان فيه الدلالة على أنَّه: لا يجوز نكاح غير إماء المؤمنين مع الدلالة الأولى، فإماء أهل الكتاب محرمات من الوجهين في دلالة القرآن - والله تعالى أعلم.
الأم (أيضًا): ما جاء في نكاح إماء المسلمين وحرائر أهل الكتاب وإمائهم:
قال الشَّافِعِي ﵀: ووجدنا الله ﷿ قال: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) الآية، فلم نختلف نحن وأنتم أنهن الحرائر من أهل الكتاب، خاصة إذا خصص، وتكون الإماء منهن من جملة المشركات المحرمات.
الأم (أيضًا): المدَّعي والمدَّعَى عليه:
قال الشَّافِعِي ﵀: ثم قال - الله تعالى -: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) الآية، فأحل صنفًا واحدًا من المشركات بشرطين:
أحدهما: أن تكون المنكوحة من أهل الكتاب.
والثاني: أن تكون حرَّة؛ لأنَّه لم يختلف المسلمون في أن قول الله ﷿: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) الآية، هن: الحرائر.
 
٢ ‏/ ٧٠٣
 
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في النكاح والصداق وغمِر ذلك:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله ﷿: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) الآية، فأيهما كان، فقد أبيح فيه نكاح حرائر أهل الكتاب.
أحكام القرآن (أيضًا): ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في الصيد والذبائح:
قال الشَّافِعِي ﵀: - في رواية حرملة عنه -، قال الله ﷿: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) الآية، فاحتمل ذلك: الذبائح، وما سواها من طعامهم الذي لم نعتقده محرمًا علينا، فآنيتهم أولى؛ ألا يكون في النفس منها شيء، إذا غُسِلت.
ثم بسط الكلام: في إباحة طعامهم الذي يغيبون على صنعته، إذا لم نعلم
فيه حرامًا، وكذلك الآنية، إذا لم نعلم نجاسة.
أحكام القرآن (أيضًا): ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في آيات متفرقة:
قال الشَّافِعِي ﵀؛ في قوله ﷿:
(وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) الآية، - أي -: الحرائر من أهل الكتاب غير ذوات الأزواج.
(مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ) الآية، - أي -: عفائف غير فواسق.
 
٢ ‏/ ٧٠٤
 
الزاهر الإحصان الذي به يرجم من زنى:
قال الشَّافِعِي ﵀: وقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ)
هنّ: ذوات الأزواج، ويكن العفائف.
ومن قرأ والمُحْصِناتُ: - بكسر الصاد -
ذهب إلى أنهن أسلمن فحصَّن فروجهنَّ.
* * *
قال الله ﷿: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦)
الأم: الطهارة:
أخبرنا الربيع بن سليمان قال:
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله تعالى قال: قال الله ﷿: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) الآية.
قال الشَّافِعِي ﵀: فكان بينًا عند من خوطب بالآية، أن غسلهم إنما
كان بالماء، ثم أبان في هذه الآية، أن الغسل بالماء، وكان معقولًا عند من خوطب بالآية، أنَّ الماء ما خلق الله ﵎، مما لا صنعة فيه للآدميين، وذكر الماء عامًا، فكان ماء السماء، وماء الأنهار، والأبار، والقِلات، والبحار، العذب
 
٢ ‏/ ٧٠٥
 
من جميعه والأجاج سواء؛ في لأنَّه يطهر من توضأ، واغتسل منه، وظاهر القرآن يدلُّ على أن كلّ ماء طاهر، ماء بحر وغيره، وقد رُوِي فيه عن النبي ﷺ حديث يوافق ظاهر القرآن في إسناده من لا أعرفه.
أخبرنا مالك، عن صفوان بن سليم، عن سعيد بن سلمة - رجل من آل
ابن الأزرق - أنَّ المغيرة بن أبي بردة - وهو من بني عبد الدار - خبَّره أنَّه سمع أبا هريرة ﵁ يقول: سأل رجل النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر
ومعنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؛ فقال النبي ﷺ:
هو الطهور ماؤه الحل ميتته» الحديث.
الأم (أيضًا): الماء الراكد:
قال الشَّافِعِي ﵀: فأمر رسول الله ﷺ بغسل دم الحيضة، ولم يوقِّت فيه شيئًا، وكان اسم الغسل يقع على غسلةٍ مرة أو أكثر، كما قال الله تعالى:
(فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) الآية، فأجزأت مرة؛ لأنَّ كل هذا يقع عليه اسم الغسل، فكانت الأنجاس كلها قياسًا على دم الحيضة لوافقته معاني الغسل والوضوء في الكتاب والمعقول، ولم نقسه على الطب، لأنَّه تعبد.
الأم (أيضًا): باب (إبطال الاستحسان):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وأمر - الله تعالى - بالوضوء فقال: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ) الآية، فكان مكتفى بالتنزيل في هذا عن الاستدلال فيما
نزل فيه، مع أشباهٍ له.
 
٢ ‏/ ٧٠٦
 
الأم (أيضًا): ما يوجب الوضوء وما لا يوجبه:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه تعالى:
(إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ) الآية.
فكان ظاهر الآية أن من قام إلى الصلاة فعليه أن يتوضأ، كانت محتملة أن تكون نزلت في خاص، فسمعت من أرضى علمه بالقرآن، يزعم أنَّها نزلت في القائمين من النوم.
قال الشَّافِعِي ﵀: وأحسب ما قال كما قال؛ لأن في السُنة دليلًا على
أنّ يتوضأ من قام من نومه، أخبرنا سفيان، عن الزهري، - عن أبي سلمة -،عن أبي هريرة ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: «إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا، فإنه لا يدري أين باتت يده» الحديث.
أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة ﵁، عن النبي ﷺ
قال: «إذا استيقظ أحدكم من نومه، فليغسل يده، قبل أن يدخلها في وضوءه، فإنه لا يدرى أين باتت يده» الحديث.
أخبرنا سفيان قال، أخبرنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة ﵁، عن النبي ﷺ قال:
«إذا استيقظ أحدكم من منامه، فلا يغمس يده في الإناء حتى
يغسلها ثلاثًا، فإئه لا يدري أين باتت يده» الحديث.
 
٢ ‏/ ٧٠٧
 
الأم (أيضًا): باب (في الاستنجاء):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﵎: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) الآية.
فذكر اللَّه تعالى الوضوء، وكان مذهبنا: أن ذلك إذا قام النائم
من نومه.
الأم (أيضًا): الوضوء من الملامسة والغائط:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﵎: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) الآية.
فذكر اللَّه ﷿ الوضوء على من
قام إلى الصلاة، وأشبه أن يكون من قام من مضجع النوم.
وذكر طهارة الجُنُب.
ثم قال بعد ذكر طهارة الجنب: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) الآية.
فأشبه أن يكون أوجب الوضوء من الغائط، وأوجبه من الملامسة، وإنما ذكرها موصولة بالغائط، بعد ذكر الجنابة، فأشبهت الملامسة، أن تكون: اللمس باليد، والقُبْلة غير الجنابة.
أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد اللَّه، عن أبيه قال:
«قبلة الرجل امرأته، وجسُّها بيده من الملامسة، فمن قبَّلَ امرأته أو جسَّها بيده فعليه الوضوء» الحديث.
 
٢ ‏/ ٧٠٨
 
قال الشَّافِعِي ﵀: وبلغنا عن ابن مسعود ﵁، قريب من قول ابن عمر ﵁ وإذا أفضى الرجل بيده إلى امرأته، أو ببعض جسده إلى بعض جسدها، لا حائل بينه وبينها بشهوة، أو بغير شهوة، وجب عليه الوضوء، ووجب عليها، وكذلك إن لمسته هي وجب عليه، وعليها الوضوء، وسواء في ذلك كله، أيّ بدنيهما أفضى إلى الآخر، إذا أفضى إلى بشرتها، أو أفضت إلى بشرته بشيء من بشرتها، فإن أفضى بيده إلى شعرها، ولم يماسّ لها بشرًا فلا وضوء عليه، كان ذلك لشهوة، أو لغير شهوة، كما يشتهيها ولا يمسها، فلا يجب عليه الوضوء، ولا معنى للشهوة؛ لأنَّها في القلب، إنَّما المعنى في الفعل، والشعر مخالف للبشرة.
قال الشَّافِعِي ﵀: ولو احتاط فتوضأ إذا لمس شعرها، كان أحبَّ إليَّ.
ولو مسَّ بيده ما شاء فوجد بدنها، من ثوب رقيق خام، أو بتٍّ (١)، أو غيره.
أو صفيق، متلذذًا، أو غير متلذذ، وفعلت هي ذلك، لم يجب على واحد منهما وضوء؛ لأنَّ كلاهما لم يلمس صاحبه، إنَّما لمس ثوب صاحبه.
قال الربيع:
سمعت الشَّافِعِي ﵀ يقول: اللمس بالكفِّ، ألا ترى أنَّ رسول اللَّه ﷺ نهى عن الملامسة؟
قال الشاعر:
وألمست كفي كله أطلب الغِني ... ولم أدر أن الجود من كفِّه يُعدِي
فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغِني ... أفدت وأعداني فبددت ما عندي
(١) البَتُّ: الطيلسان من خّز ونحوه، انظر القاموس المحيط، ص / ١٨٨،
 
٢ ‏/ ٧٠٩
 
الأم (أيضًا): الوضوء من الغائط والبول والريح:
قال الشَّافِعِي ﵀: ومعقول إذ ذكر الله ﵎ الغائط في آية
الوضوء، أن الغائط: الخلاء، فمن تخلى وجب عليه الوضوء.
أخبرنا سفيان قال:
حدثنا الزهري قال: أخبرني عبَّاد بن تميم، عن عمه عبد الله بن زيد قال: شُكيَ إلى رسول الله ﷺ الرجل يخيل إليه الشيء في الصلاة، فقال: «لا ينفتل حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا» الحديث.
الأم (أيضًا): باب (المضمضة والاستنشاق):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله ﵎:
(إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) الآية.
فلم أعلم مخالفًا في أن الوجه مفروض غسله في الوضوء، ما ظهر منه دون ما بطن، وأن ليس على الرجل أن يغسل عينيه، ولا أن ينضح فيهما، فكانت المضمضة والاستنشاق أقرب إلى الظهور من العينين، ولم أعلم المضمضة والاستنشاق على المتوضأ فرضًا، ولم أعلم
خلافًا أن المتوضئ لو تركهما عامدًا أو ناسيًا، وصلَّى لم يُعِد، وأحبُّ إلِيَّ أن يبدأ المتوضئ بعد غسل يديه، أن يتمضمض ويستنشق ثلاثًا يأخذ بكفه غرفة لفيه وأنفه، ويُدخل الماء أنفه ويستبلغ بقدر ما يرى أنه يأخذ بخياشيمه، ولا يزيد على ذلك، ولا يجعله كالسَّعوط، وإن كان صائمًا رفق بالاستنشاق لئلا يدخل رأسه.
 
٢ ‏/ ٧١٠
 
الأم (أيضًا): باب (غسل الوجه):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﵎: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)
فكان معقولًا أن الوجه: ما دون منابت شعر الرأس إلى الأذنين، واللحيين
والذقن، وليس ما جاوز منابت شعر الرأس الأغم من النزعتين من الرأس.
وكذلك أصلع مُقدَّم الرأس ليست صلعته من الوجه، وأحبّ إليَّ لو غسل
النزعتين مع الوجه، وإن ترك ذلك لم يكن عليه في تركه شيء، فإذا خرجت لحية الرجل فلم تكثر حتى تواري من وجهه شيئًا، فعليه غسل الوجه كما كان قبل أن تنبت، فإذا كثرت حتى تستر موضعها من الوجه فالاحتياط غسلها كلها.
الأم (أيضًا): باب (غسل اليدين):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله ﷿: (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) الآية، فلم أعلم مخالفًا في أن المرافق مما يغسل، كأنهم ذهبوا إلى أن معناها: فاغسلوا
وجوهكم وأيديكم إلى أن تغسل المرافق، ولا يجزئ في غسل اليدين أبدًا إلا أن
 
٢ ‏/ ٧١١
 
يُؤتى على ما بين أطراف الأصابع إلى أن تغسل المرافق، ولا يجزئ إلا أن يُؤتى بالغسل على ظاهر اليدين وباطنهما وحروفهما، حتى ينقضي غسلهما، وإن ترِكَ من هذا شيء وإن قل لم يجز، ويبدأ باليمنى من يديه قبل اليسرى، فإن بدأ باليسرى قبل اليمنى، كرهتُ ذلك، ولا أرى عليه الإعادة.
الأم (أيضًا): باب (مسح الرأس):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) الآية.
وكان معقولًا في الآية، أن من مسح من رأسه شيئًا فقد مسح برأسه، ولم تحتمل الآية إلا هذا، وهو أظهر معانيها، أو مسح الرأس كله، ودلَّت السنة على أن ليس على المرء مسح الرأس كله، وإذا دلَّت السنة على ذلك، فمعنى الآية: أن من مسح شيئًا من رأسه أجزأه.
قال الشَّافِعِي ﵀: إذا مسح الرجل بأي رأسه شاء، وإن كان لا شعر
عليه، وبأي شعر رأسه شاء، بإصبع واحدة، أو بعض إصبع، أو بطن كله، أو أمر من يمسح به أجزأه ذلك، فكذلك إن مسح نزعتيه، أو إحداهما، أو بعضهما أجزأه، لأنه من رأسه.
قال الشَّافِعِي ﵀: أخبرنا يحيى بن حسَّان، عن حمَّاد بن زيد، وابن
عُليَّة، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن عمرو بن وهب الثقفي، عن المغيرة
 
٢ ‏/ ٧١٢
 
ابن شعبة لأحته أن رسول الله ﷺ:
«توضأ ومسح بناصيته، وعلى عمامته، وخفيه» الحديث.
أخبرنا مسلم، عن ابن جريج، عن عطاء «أن رسول الله ﷺ توضأ فحسر العمامة عن رأسه، ومسح مقدم رأسه (أو قال ناصيته) بالماء» الحديث.
قال الشَّافِعِي ﵀: وإذا أذن الله ﷾ بمسح الرأس، فكان
رسول الله ﷺ معتمًا فحسر العمامة فقد دلَّ على أن المسح على الرأس دونها، وأحبُّ لو مسح على العمامة مع الرأس، وإن ترك ذلك لم يضره.
قال الشَّافِعِي ﵀: وأحبُّ لو مسح رأسه ثلاثًا، وواحدة تجزئه.
وأحبُّ أن يمسح ظاهر أذنيه وباطنهما، بماء غير ماء الرأس، ويأخذ
بإصبعيه الماء لأذنيه، فيدخلهما فيما ظهر من الفرجة التي تفضي إلى الصماخ، ولو ترك مسح الأذنين لم يعد، لأنَّهما لو كانتا من الوجه غسلتا معه، أو من الرأس مسحتا معه، أو وحدهما أجزئتا منه، فإذا لم يكونا هكذا، فلم يذكرا في الفرض، ولو كانتا من الرأس كفى ماسحهما أن يمسح بالرأس، كما يكفي مما يبقى من الرأس.
الأم (أيضًا): باب (غسل الرجلين):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله ﵎: (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)
ونحن نقرأها: (وَأَرْجُلَكُمْ) بفتح اللام - على معنى: اغسلوا وجوهَكم
وأيديَكم وأرجلَكم وامسحوا برؤوسكم.
 
٢ ‏/ ٧١٣
 
قال الشَّافِعِي ﵀: ولم أسمع مخالفًا في أنَّ الكعبين اللذين ذكر الله ﷿ في الوضوء، الكعبان النائتان، وهما: مجمع مفصل الساق والقدم، وأن عليهما الغسل، كأنه يذهب فيهما إلى: اغسلوا أرجلكم حتى تغسلوا الكعبين، ولا يجزئ المرء إلا غسل ظاهر قدميه وباطنهما، وعرقوبيهما وكعبيهما، حتى يستوظف كل ما أشرف من الكعبين عن أصل الساق، فيبدأ فينصب قدميه، ثم يصب عليهما الماء بيمينه، أو يصب عليه غيره، ويخلل أصابعهما حتى يأتي الماء على ما بين أصابعهما، ولا يجزئه ترك تخليل الأصابع، إلا أن يعلم أن الماء قد أتى على جميع ما بين الأصابع.
الأم (أيضًا): باب (تقديم الوضوء ومتابعته):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله ﷿: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) الآية، وتوضأ رسول الله ﷺ كما أمره اللَّه ﷿، وبدأ بما بدأ الله تعالى به، قال: فأشبه - والله تعالى أعلم -
أن يكون على المتوضئ في الوضوء شيئان:
١ - أن يبدأ بما بدأ اللَّه - به -، ثم رسوله ﵊ به منه.
٢ - ويأتي على (كمال ما أمر) .
فمن بدأ بيده قبل وجهه، أو رأسه قبل يديه، أو رجليه قبل رأسه، كان
عليه عندي أن يعيد حتى يغسل كلًا في موضعه، بعد الذي قبله، وقبل الذي
بعده، لا يجزئه عندي غير ذلك، وإن صلى أعاد الصلاة بعد أن يعيد الوضوء،
 
٢ ‏/ ٧١٤
 
ومسح الرأس وغيره في هذا سواء، فإذا نسي مسح رأسه حتى غسل رجليه، عاد فمسح رأسه ثم غسل رجليه بعده.
الأم (أيضًا): باب (علة من يجب عليه الغسل والوضوء):
قال الشَّافِعِي ﵀؛ قال الله ﷿: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ) الآية.
فلم يرخص الله في التيمم إلا في الحالتين:
١ - السفر والإعواز من الماء.
٢ - أو المرض فإن كان الرجل مريضًا بعض المرض
تيمم حاضرًا أو مسافرًا، أو واجدًا للماء أو غير واجدٍ له.
قال الشَّافِعِي ﵀: والمرض: اسم جامع لمعان لأمراض مختلفة، فالذي
سمعت أن المرض الذي للمرء أن يتيمم فيه الجراح، والقَرْح دون الغور كله
مثله الجراح؛ لأنَّه يخاف في كله إذا ماسه الماء أن ينطف، فيكون من النَّطف: التلف، والمرض المخوف: وأقلُّه ما يخاف هذا فيه، فإن كان جائفًا خيف في وصول الماء إلى الجوف معاجلة التلف، جاز له أن يتيمم، وإن كان القرح
الخفيف غير ذي الغور الذي لا يُخاف منه إذا غسل بالماء التلف، ولا النطف، لم يجز فيه إلا غسله؛ لأن العلة التي رخص الله فيها للتيمم زائلة عنه.
الأم (أيضًا): باب (كيف التيمم):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله ﷿: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) الآية.
أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن أبي الحويرث
 
٢ ‏/ ٧١٥
 
(عبد الرحمن بن معاوية)، عن الأعرج، عن ابن الصمَّة «أن رسول الله ﷺ تيمم فمسح وجهه وذراعيه» الحديث.
قال الشَّافِعِي ﵀: ومعقول إذا كان التيمم بدلًا من الوضوء، على
الوجه واليدين، أن يُؤتى بالتيمم على ما يؤتى بالوضوء عليه فيهما، وإن الله ﷿ إذا ذكرهما؛ فقد عفا في التيمم عما سواهما من أعضاء الوضوء والغسل.
قال الشَّافِعِي ﵀: ولا يجوز أن يتيمم الرجل إلَّا أن ييمِّم وجهه، وذراعيه إلى المرفقين، ويكون المرفقان فيما ييمم، فإن ترك شيئًا من هذا لم يُمر عليه التراب قل أو كثر، كان عليه أن ييمِّمه، وإن صلى قبل أن ييمِّه أعاد الصلاة.
قال الشَّافِعِي ﵀: ولا يجزئه إلا أن يضرب ضربة لوجهه، وأحبُّ
إليَّ أن يضربها بيديه معًا، فإن اقتصر على ضربها بإحدى يديه وأمرَّها على
جميع وجهه أجزأه. ..
ويضرب بيديه معًا لذراعيه، لا يجزيه غير ذلك، اذا يمَّم نفسه؛ لأنَّه لا
يستطيع أن يمسح يدًا إلَّا باليد التي تخالفها، فيمسح اليمنى باليسرى، واليسرى باليمنى.
ويخلل أصابعه بالتراب، ويتتبع مواضع الوضوء بالتراب، كما يتتبعها بالماء.
قال الشَّافِعِي ﵀: لا يجزيه في التيمم إلا أن يأتي بالغبار على ما يأتي
عليه الوضوء، من وجهه ويديه إلى المرفقين.
الأم (أيضًا): باب (جماع المسح على الخفين):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله ﵎: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) الآية،
 
٢ ‏/ ٧١٦
 
فاحتمل أمر الله ﷿ بغسل القدمين أن يكون على كل متوضئ، واحتمل أن يكون على بعض المتوضئين دون بعض، فدل مسح رسول الله ﷺ على الخفين، لأنهما على من لا خفين عليه، إذا هو لبسهما على كمال الطهارة، كما دل صلاة
رسول اللَّه ﷺ صلاتين بوضوء واحد، وصلوات بوضوء واحد، على أن فرض الوضوء على من قام إلى الصلاة على بعض القائمين دون بعض، لا أن المسح خلاف لكتاب اللَّه ﷿، ولا الوضوء على القدمين، وكذلك ليست سُنَّة من سنَّته ﷺ بخلافٍ لكتاب الله ﷿.
قال الشَّافِعِي ﵀: أخبرنا عبد اللَّه بن نافع، عن داود بن قيس، عن
زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أسامة بن زيد قال: دخل رسول الله ﷺ وبلال، فذهب لحاجته، ثم توضأ، فغسل وجهه، ثم خرجا قال أسامة فسألت بلالًا ماذا صنع رسول الله ﷺ؟
فقال بلال ﵁، ذهب لحاجته ثم توضأ، فغسل
وجهه ويديه، ومسح برأسه، ومسح على الخفين
قال الشَّافِعِي ﵀: وفي حديث بلال دليل على أن: «رسول الله ﷺ مسح على الخفين في الحضر؛ لأن (بئر جمل) في الحضر، قال: فيمسح المسافر والمقيم معًا» الحديث.
الأم (أيضًا): باب (التراب الذي يتيمم به ولا يتيمم):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﵎: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا)
وكلّ ما وقع عليه اسم صعيد لم تخالطه نجاسة، فهو صعيد طيب، يُتيمم
به، وكل ما حال عن اسم صعبد لم يتيمم به، ولا يقع اسم صعيد إلا على تراب ذي غبار.
 
٢ ‏/ ٧١٧
 
الأم (أيضًا): جماع التيمم للمقيم والمسافر:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله ﵎: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ) الآية.
وقال في سياقها: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ)
إلى: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) الآية.
فدلَّ حكم اللَّه ﷿ على أنه أباح التيمم في حالين:
أحدهما: السفر والإعواز من الماء.
والآخر: للمريض في حضر كان أو سفر.
قال الشَّافِعِي ﵀: ودلَّ ذلك على أنَّ للمسافر طلب الماء لقوله:
(فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) وكان كلّ من خرج مجتازًا من بلد إلى غيره يقع عليه اسم السفر، قَصُر السفر أم طال، ولم أعلم من السنة دليلًا على أنَّ لبعض المسافرين أن يتيمم دون بعض، وكان ظاهر القرآن، أنَّ كل مسافر سفرًا بعيدًا، أو قريبًا يتيمم.
قال الشَّافِعِي ﵀: أخبرنا ابن عيينة، عن ابن عجلان، عن نافع، عن
ابن عمر ﵄: «أنه أقبل من (الجُرفِ)، حتى إذا كان بالمِربَدِ تيمم، فمسح وجهه ويديه، وصلَّى العصر، ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة فلم يُعِد الصلاة» الحديث. (والجُرْف قريب من المدينة) .
 
٢ ‏/ ٧١٨
 
الأم (أيضًا): المدَّعي والمدَّعَى عليه:
قال الشَّافِعِي ﵀: أرأيت قول الله ﵎: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) الآية.
أليس بيَن في كتاب الله ﷿، بأن فَرَضَ غسل القدمين أو
مسحهما؟
قال: بلى. قلت: لم مسحت على الخفين، ومن أصحاب رسول الله ﷺ والناس إلى اليوم من ترك المسح على الخفين، ويعنف من مسح؛ قال: ليس في ردَّ من رده حجة، وإذا ثبت عن النبي ﷺ شيء لم يضره من خالفه.
الأم (أيضًا): باب (الصوم):
قال الشَّافِعِي ﵀ ومثل هذا لا يخالفه المسح على الخفين، قال الله ﷿: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) الآية.
فلما مسح النبي ﷺ على الخفين.
استدللنا على أن فرض الله ﷿ غسل القدمين، إنما هو على بعض المتوضئين دون بعض، وأنَّ المسح لمن أدخل رجليه في الخفين بكمال الطهارة؛ استدلالًا بسنة رسول الله ﷺ؛ لأنَّه لا يمسح والفرض عليه غسل القدم.
الأم (أيضًا): الخلاف في اليمين مع الشاهد:
قال الشَّافِعِي ﵀: وجعلتَ - الخطاب: للمحاور - تيمم الجُنب سُنَّة.
ولم تبطلها برد عمر ﵁، وخلاف ابن مسعود ﵁ التيمم، وتأولهما قول الله ﷿:
(وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا) الآية، والطهور بالماء.
 
٢ ‏/ ٧١٩
 
الأم (أيضًا): باب (ما روى مالكٌ عن عثمان ﵁ وخالفه في تخمير المحرم وجهه):
قال الشَّافِعِي ﵀: وفرَّق الله بين حكم الوجه والرأس، فقال: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) الآية، فَعَلِمنا أن الوجه ما دون - شعر - الرأس، وأن الذقن من الوجه، وقال: (وَاَمسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) الآية، فكان الرأس غير الوجه.
مختصر المزني: باب (الطهارة بالماء):
حدثنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال - الله تعالى - في الطهارة:
(فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) الآية.
فدل على أن الطهارة بالماء كله.
حدثنا الربيع:
أخبرنا الشَّافِعِي: حدثنا الثقة، عن ابن أبي ذئب، عن الثقة عنده، عمن
حدثه، أو عن عبيد الله بن عبد الرحمن العدوي، عن أبي سعيد الخدري ﵁ أنَّ رجلًا سأل رسول الله ﷺ فقال: إن بئر بضاعة يطرح فيها الكلاب والحيَّض
فقال النبي ﷺ: «إن الماء لا ينجسه شيء)» الحديث.
 
٢ ‏/ ٧٢٠
 
مختصر المزني (أيضًا): باب (سنة الوضوء):
قال الشَّافِعِي ﵀: وإن بدأ بذراعيه قبل وجهه، رجع إلى ذراعيه
فغسلهما حتى يكونا بعد وجهه، حتى يأتي الوضوء ولاءً، كما ذكره الله ﵎، قال: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) .
هكذا قرأه المزني إلى الكعبين.
مختصر المزني (أيضًا): باب (التيمم):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﵎: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً) الآية.
ورُوي عن النبي ﷺ أنه تيمم فمسح وجهه وذراعيه، ومعقول إذا كان بدلًا من الوضوء على الوجه واليدين، أن يُؤتى بالتيمم على ما يؤتى بالوضوء عليه.
وعن ابن عمر ﵄ أنَّه قال: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين.
قال الشَّافِعِي ﵀: والتيمم أن يضرب بيديه على الصعيد: وهو
التراب، من كل أرض، سبخها ومدرها وبطحائها وغيره، مما يعلق باليد منه
غبار، ما لم تخالطه نجاسة، وينوي بالتيمم الفريضة، فيضرب على التراب ضربة، ويفرق أصابعه حتى يثير التراب، ثم يمسح بيده وجهه - كما وصفت في الوضوء - ثم يضرب ضربة أخرى كذلك، ثم يمسح ذراعه اليمنى، فيضع كفه اليسرى على ظهر كفه اليمنى وأصابعها، ثم يمرها على ظهر الذراع إلى مرفقه، ثم يدير كفه إلى بطن الذراع، ثم يقبل بها إلى كوعه، ثم يمرها على - ظهر إبهامه، ويكون بطن كفه اليمنى لم يمسها شيء من يده، فيمسح بها اليسرى كما وصفت
 
٢ ‏/ ٧٢١
 
في اليمنى، ويمسح إحدى الراحتين بالأخرى، ويخلل بين أصابعهما، فإن أبقى شيئًا مما كان يمر عليه الوضوء حتى صلى، أعاد ما بقي عليه من التيمم، ثم يصلي، وإن بدأ بيديه قبل وجهه، كان عليه أن يعود ويمسح يديه حتى يكونا بعد وجهه، مثل الوضوء سواء، وإن قدَّم يسرى يديه على اليمنى أجزأه.
قال الشَّافِعِي ﵀: ولا يجمع بالتيمم صلاتي فرضٍ، بل يجدد لكل
فريضة طلبًا للماء، وتيممًا بعد الطلب الأول، لقوله جل وعزَ:
(إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ) الآية.
وقول ابن عباس: «لا تصلَّى مكتوبة إلا بتيمم» الحديث.
الرسالة: باب (البيان الثاني):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله ﵎:
(إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا) الآية.
وقال: (وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا)
فأتى كتاب الله على البيان في الوضوء، دون
الاستنجاء بالحجارة، وفي الغسل من الجنابة.
ثم كان أقلّ غسل الوجه والأعضاء مرة مرة، واحتمل ما هو أكثر منها.
فبيّن رسول الله ﷺ الوضوء مرة، وتوضأ ثلاثًا، ودل على أن أقل غسل الأعضاء يجزئ، وأن أقلّ عدد الغسل واحدة.
وإذا أجزأت واحدة فالثلاث اختيار.
 
٢ ‏/ ٧٢٢
 
الرسالة (أيضًا): باب (ما نزل عامًا دلَّت السنة خاصَّة على أنّه يراد به الخاص):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال الله: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)
فقصد جل ثناؤه قَصدَ القدمين بالغسل، كما قصد الوجه واليدين.
فكان ظاهر هذه الآية أنَّه لا يجزئ في القدمين إلا ما يجزئ في الوجه من
الغسل، أو الرأس من المسح، وكان يحتمل أن يكون أريد بغسل القدمين، أو مسحهما بعض المتوضئين دون بعض.
فلما مسح رسول الله ﷺ على الخفين، وأمر به من أدخل رجليه في الخفين، وهو كامل الطهارة، دلت سنة رسول الله ﷺ على أنَّه إنَّما أريد بغسل القدمين
أو مسحهما بعض المتوضئين دون بعض.
الرسالة (أيضًا): الفرائض المنصوصة التي سنَّ رسول الله معها:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله ﵎: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا) الآية.
وسنَّ رسول الله ﷺ الوضوء كما
أنزل اللَّه، فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ومسح برأسه، وغسل رجليه إلى الكعبين.
 
٢ ‏/ ٧٢٣
 
أخبرنا عبد العزيز بن محمد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن
ابن عباس ﵄، عن النبي ﷺ:
«أنه توضأ مرة مرة» الحديث.
أخبرنا مالك، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه أنه قال لعبد اللَّه بن زيد:
- وهو جَدُّ عمرو بن يحيى -: «هل تستطيع أن تريَني كيف كان رسول الله ﷺ يتوضأ؟
فقال عبد الله: نعم، فدعا بوَضُوء، فأفرغ على يديه، فغسل يديه مرتين.
ثم مضمض واستنشق ثلاثًا، ثم غسل وجهه ثلاثًا، ثم غسل يديه مرتين مرتين
إلى المرفقين، ثم مسح برأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقَدَّم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردَّهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه» الحديث.
فكان ظاهر قول اللَّه ﷿: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)
أقلّ ما وقع عليه اسم الغسْل، وذلك مرة، واحتمل كثر، فسنَّ رسولُ اللَّه الوضوء مرة، فوافق ذلك ظاهر القرآن، وذلك أقلّ ما يقع عليه اسم الغسل، واحتمل أكثر، وسنَّه مرتين وثلاثًا، فلما سنَّه مرة، استدللنا على لأنَّه لو كانت مرة لا تجزئ، لم يتوضأ مرة ويصلي، وأن ما جاوز مرة اختيار لا فرض في الوضوء، لا يجزئ أقل منه.
وهذا مثل ما ذكرت من الفرائض قبله: لو ئركِ الحديث فيه استُغني فيه
بالكتاب، وحين حُكِي الحديث فيه دلَّ على اتباع الحديث كتاب الله.
ولعلهم إنما حَكَوْا الحديث فيه، لأنّ أكثر ما توضأ رسول الله ﷺ ثلاثًا، فأرادوا أن الوضوء ثلاثًا اختيار، لا أنَّه واجب لا يجزئ أقل منه، ولما ذكِر منه في
 
٢ ‏/ ٧٢٤
 
أن: «من توضأ وُضوءه هذا - وكان ثلاثًا - ثم صلى ركعتين لا يحدِّث نفسه
فيهما غُفِرَ له» الحديث.
فأرادوا طلب الفضل في الزيادة في الوضوء، وكانت
الزيادة فيه نافلة.
وغَسَلَ رسول الله ﷺ في الوضوء المرفقين والكعبين، وكانت الآية محتملة أن يكونا مغسولين، وأن يكون مغسولًا إليهما، ولا يكونان - مغسولين، ولعلهم حَكَؤا الحديث إبانة لهذا أيضًا.
وأشْبَهُ الأمرين بظاهر الآية أن يكونا مغسولين، وهذا بيان السنة مع بيان
القرآن، وسواء البيان في هذا وفيما قبله، ومستغنى بفرضه بالقرآن عند أهل
العلم، ومختلفان عند غيرهم.
الرسالة (أيضًا): باب (الاستحسان):
قال الشَّافِعِي ﵀: قلتُ: فرض الله الوضوء على من قام إلى الصلاة
من نومه، فقال: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) الآية.
فَقَصَدَ قَصدَ الرجلين، كما قَصَدَ قَصْدَ ما سواهما من أعضاء الوضوء.
فلما مسح رسول الله ﷺ على الخفين لم يكن لنا - واللَّه أعلم - أن نمسح على عَمامة، ولا برُقع، ولا قُفازين، قياسًا عليهما، وأثبتنا الفرض في أعضاء الوضوء كلها، وأرخصنا بمسح النبي ﷺ في المسح على الخفين، دون ما سواهما.
 
٢ ‏/ ٧٢٥
 
قال: فتعد هذا خلافًا للقرآن؟
قلت: لا تخالف سنة لرسول اللَّه كتاب اللَّه بحال.
قال: فما معنى هذا عندك؟
قلت: معناه أن يكون قصد بفرض إمساس القدمين الماء من لا خُفي عليه لَبِسَهُما كامِلَ الطهارة.
قال: أو يجوز هذا في اللسان؟
قلت: نعم، كما جاز أن يقوم إلى الصلاة من
هو على وضوء، فلا يكون المراد بالوضوء، استدلالًا أن رسول الله ﷺ صلَّى صلاتين وصلوات بوضوء واحد.
فكذلك دلت سنة رسول الله ﷺ بالمسح، أنه قصد بالفرض في غسل القدمين، من لا خُفَّيْ عليه، لَبِسَهُما كامِلَ الطهارة.
اختلاف الحديث (أيضًا): باب (المختلفات التي يوجد على ما يوجد منها دليل على غسل القدمين ومسحهما):
حدثنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي: نحن نقرأ آية الوضوء: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) الآية.
بنصب (أَرْجُلَكُمْ)
على معنى فاغسلوا وجوهَكم وأيديَكم وأَرْجُلَكُمْ، وامسحوا برؤوسكم، وعلى ذلك عندنا دلالة السنة - واللَّه أعلم -.
قال الشَّافِعِي ﵀: والكعبان اللذان أمِر بغسلهما، ما أشرف من مجمع
مفصل الساق والقدم، والعرب تسمى كُل ما أشرف واجتمع كعبًا حتى تقول: كعب سمن.
 
٢ ‏/ ٧٢٦
 
قال الشَّافِعِي ﵀: فذهب عوام أهل العلم أن قول الله:
(وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) كقوله: (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ)
وأن المرافق والكعبين مما يُغسَل.
حدثنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي ﵀ قال: أخبرنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك.
عن ابن أبي ذئب، عن عمران بن بشير، عن سالم سَبَلاَن - مولى النضريين
قال: خرجنا مع عائشة ﵂ زوج النبي ﷺ إلى مكة، فكانت تخرج بأبي حتى يصلي بها، قال: فأتى عبد الرحمن بن أبي بكر بِوَضُوء، فقالت: عائشة ﵂: أسبغ الوضوء، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول:
«ويل للأعقاب من النار يوم القيامة» الحديث.
قال الشَّافِعِي ﵀: وأخبرنا سفيان، عن محمد بن عجلان، عن سعيد
بن أبي سعيد، عن أبي سلمة، عن عائشة ﵂، أنها قالت:
لعبد الرحمن، أسبغ الوضوء يا عبد الرحمن، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: ويل للأعقاب من النار" الحديث.
قال الشَّافِعِي ﵀: فلا يجزئ متوضئًا إلا أن يغسل ظهور قدميه.
وبطونهما، وأعقابهما، وكعبيه معًا.
 
٢ ‏/ ٧٢٧
 
اختلاف الحديث: باب (غسل الجمعة):
حدثنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه جل ثناؤه: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ)
قال: فدلَّت السنة على أن الوضوء من الحدث.
وقال - بعد ذكر آية النساء٤٣ -: فكان الوضوء عامًّا في كتاب اللَّه من
الأحداث. ..
الزاهر باب (التيمم):
وذكر الشَّافِعِي ﵀: قول اللَّه ﷿:
(وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) الآية.
فعطف بعض الكلام على بعض ب (أو) ثم قال: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) ب (الفاء)، وظاهر التنزيل يدل على أن له التيمم بأي شَرطِ شُرِطَ
في الآية، ولم يجد الماء، سواء كان مريضًا فلم يجد الماء، أو كان مسافرًا، أو جاء من الغائط، أو لمس النساء، ولم يجد الماء فله التيمم.
حدثنا محمد بن إسحاق السعدي قال: حدثنا أبو زُرعَة، عن قبيصة، عن
عمار بن رُزَيق، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس ﵄ في قول اللَّه ﷿: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى) الآية.
قال: هذا في الرجل يكون به الجُدَرِي أو القُروح يخاف إن توضأ أو اغتسل أن يؤذيه أذى شديدًا، فليتيمم.
 
٢ ‏/ ٧٢٨
 
قال الأزهري ﵀: ولا يجوز في قوله ﷿:
(أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ) الآية، غير معنى (الواو) حتى يستقيم التأويل، على ما أجمع عليه فقهاء الأمصار، وما علمت أن أحدًا شرح من معنى هذه الآية ما شرحته، فتبينه تجده كما فسرته - إن شاء الله تعالى -.
* * *
قال الله ﷿: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (٨)
الأم: باب (ما يجب على المرء من القيام بشهادته):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله ﵎: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)
ثم ذكر آيات الشهادة والشهود.
قال الشَّافِعِي ﵀: والذي أحفظ عن كل من سمعت منه من أهل
العلم في هذه الآيات، أنه في الشاهد، وقد لزمته الشهادة، وأن فرضًا عليه أن يقوم بها على والديه وولده، والقريب والبعيد، وللبغيض (القريب والبعيد)، ولا يكتم عن أحدٍ، ولا يحابي بها، ولا يمنعها أحدًا.
 
٢ ‏/ ٧٢٩
 
قال الله ﷿: (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ)
الزاهر باب (الإجارات):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقوله تعالى: (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) الآية، من هذا.
تأويله نصرتموهم، بأن تردُّوا عنهم أعداءهم.
وقال ابن الأعرابي: التعزير: النصر بالسيف، والتأديب دون الحدِّ، والعَزر: المنع.
قال: والعَزرُ: التوقيف علي باب الدين.
ويقال للنصر: تعزير أيضًا، لأن من نصرته فقد منعت عنه عدوَّه.
* * *
قال الله ﷿: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩)
الأم: كتاب الجزية:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ثم أخبر جل وعزَّ أنَّه جعله - لرسوله ﷺ فاتح رحمته عند فترة رُسُله، فقال:
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ) .
 
٢ ‏/ ٧٣٠
 
قال الله ﷿: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١)
وقال: (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ)
الأم: كتاب جراح العمد (أصل تحريم القتل من القرآن):
أخبرنا الربيع ﵀ قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: - بعد أن ذكر الآيات التي تدل على أصل
تحريم القتل من القرآن الكريم - وقال ﷿: (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ) الآية.
وقال الله ﷿ (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ)
 
٢ ‏/ ٧٣١
 
إلى: (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) .
الزاهر باب اللعان:
قال أبو عبيد: باء فلان بذنب: إذا احتمله وصار عليه.
قال: ويكون باء بكذا: إذا أقرَّ به، قال الله ﷿:
(إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) .
* * *
قال الله ﷿: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤)
الأم: باب (هل لمن أصاب الصيد أن يفديه بغير النعم؟):
قال الشَّافِعِي ﵀:
أخبرنا سفيان، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار قال:
كل شيء في القرآن أو، أو، له - يعني: يخير للإنسان بفِعله - أية شاء، قال ابن جريج إلا في قوله: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) الآية، فليس بمخيَّرٍ فيها.
قال الشَّافِعِي ﵀: وكما قال ابن جريج، وعمرو، في المحارب وغيره في
هذه المسألة أقول.
قيل للشافعي: فهل قال أحد: ليس هو بالخيار؟
قال: نعم.
 
٢ ‏/ ٧٣٢
 
الأم (أيضًا): حد قاطع الطريق:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله ﵎: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا) الآية.
أخبرنا إبراهيم، عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس ﵄.
في قطَّاع الطريق إذا قتلوا وأخذوا المال: قُتلوا وصُلِّبوا. وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال: قُتلوا ولم يُصَلَّبوا.
وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا: قُطعت أيديهم وأرجلهم من
خلاف.
وإذا هربوا: طلبوا حتى يوجدوا، فتقام عليهم الحدود.
وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالًا: نُفُوا من الأرض.
قال الشَّافِعِي ﵀: وبهذا نقول، وهو موافق معنى كتاب اللَّه تبارك
وتعالى، وذلك أنَّ الحدود إنَّما نزلت فيمن أسلم، فأمَّا أهل الشرك فلا حدود فيهم إلا القتل، أو السِّباء، أو الجزية، واختلاف حدودهم باختلاف أفعالهم، على ما قال ابن عباس ﵄ إن شاء الله تعالى -:
(إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا) الآية.
فمن تاب قبل أن يُقدر عليه سقط حق الله عنه، وأخذ بحقوق بني آدم.
ولا يُقطع من قطاع الطرق: إلا من أخذ قيمة
ربع دينار فصاعدًا، قياسًا على السنة في السارق.
وإن قتل أو قطع، فأراد أهل الجراح عفو الجراح فذلك لهم، دران أراد
أولياء المقتولين عفو دماء من قُتِلُوا، لم يكن ذلك يحقن دماء من عَفَوا عنه، وكان على الإمام أن يقتلهم إذا بلغت جنايتهم القتل.
 
٢ ‏/ ٧٣٣
 
الأم (أيضًا): باب (الحدود):
قال الشَّافِعِي ﵀: الحدُّ حدَّان:
١ - حد لله ﵎، ما أراد من تنكيل من غشيه عنه، وما أراد من
تطهيره به، أو غير ذلك مما هو أعلم به، وليس للآدميين في هذا حق.
٢ - وحدٌّ أوجبه اللَّه تعالى على من أتاه من الآدميين فذلك إليهم.
ولهما في كتاب اللَّه ﵎ اسمه أصل، فأما أصل حد اللَّه تبارك
وتعالى في كتابه، فقوله ﷿:
(إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) إلى قوله: (رَحِيمٌ) الآية.
فأخبر اللَّه - تبارك اسمه - بما عليهم من الحد، إلا أن
يتوبوا من قبل أن يُقْدَر عليهم.
قال الربيع ﵀:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: الاستثناء في التوبة للمحارِب وحده، الذي
أظنُّ أنَّه يذهب إليه
وقال الربيع: والحجة عندي في أنَّ الاستثناء لا يكون إلا في
المحارب خاصة، حديث ماعز حين أتى النبي ﷺ، فأقر بالزنا، فأمر النبي ﷺ برَجْمِه، ولا نشك أنَّ ماعزًا لم يأت النبي ﷺ، فيخبره إلا تائبًا إلى
الله ﷿ قبل أن يأتيه، فلما أقام عليه الحد، دلَّ ذلك على أنَّ الاستثناء في المحارب خاصة.
 
٢ ‏/ ٧٣٤
 
الأم (أيضًا): في المرتد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وإذا كانت في المحاربين امرأة، فحكمها حكم
الرجال، لأني وجدت أحكام اللَّه ﷿ على الرجال والنساء في الحدود واحدة -
ثم ذكر آية الزنا وآية السرقة -.
الأم (أيضًا): صفة النفي:
أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي ﵀: النفي ثلاثة وجوه:
منها نفى نصًّا بكتاب اللَّه ﷿
وهو قول اللَّه ﷿ في المحاربين: (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) الآية
وذلك النفي: أن يُطْلَبوا فيمتنعوا فمتى قُدِرَ عليهم أقيم عليهم حدّ اللَّه ﵎، إلا أن يتوبوا قبل أن يُقْدَرَ عليهم، فيسقط عنهم حقّ اللَّه، وتثبت عليهم حقوق الآدميين.
الأم (أيضًا): المستأمن في دار الإسلام:
قال الشَّافِعِي ﵀: قيل: - أي: للمحاور - أرأيت اللَّه ﷿ ذكر المحارب، وذكر حدَّه ثم قال: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) الآية،
 
٢ ‏/ ٧٣٥
 
ولم يختلف أكثر المسلمين في أنَّ رجلًا لو أصاب لرجل دمًا، أو مالًا، ثم تاب أقيم عليه ذلك، فقد فرَّقنا بين حدود اللَّه ﷿، وحقوق الآدميين بهذا وبغيره.
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه في الحدود:
أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي ﵀: ونفيهم - أي: المحاربين - أن يطلبوا، فَيُتفَوا من بلدٍ
إلى بلدٍ، فإذا ظُفِر فيهم، أقيم عليهم أيُّ هذه الحدود كان حدَّهم.
قال الشَّافِعِي ﵀: وليس للأولياء الذين قتلهم قطاع الطريق عفو.
لأن اللَّه حذهم: بالقتل، أو بالقتل والصلب، أو: القطع، ولم يذكر الأولياء، كما ذكرهم في القصاص - في الآيتين - فقال:
(وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا)
وقال في الخطأ: (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا)
وذكر القصاص في القتلى، ثم قال:
(فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) .
فذكر - في الخطأ والعمد - أهل الدم، ولم يذكرهم في المحاربة، فدل على
أن حكم قتل المحاربة مخالف لحكم قتل غيره - واللَّه أعلم -.
* * *
قال الله ﷿: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨)
الأم: الأمان:
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال عز ذكره: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) الآية.
فزعمت في هذا وغيره، أنك تطرح عن الأسارى والتجار، بان
 
٢ ‏/ ٧٣٦
 
يكونوا في دار ممتنعة، ولم تجد دلالة على هذا في كتاب اللَّه ﷿، ولا في سنة رسوله ﷺ ولا إجماع، فتزيل ذلك عنهم بلا دلالة وتخصهم بذلك دون غيرهم!.
الأم (أيضًا): في المرتد:
قال الشَّافِعِي ﵀: إني وجدت أحكام اللَّه ﷿ على الرجال والنساء في الحدود واحدة، قال اللَّه ﵎:
(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ)
وقال: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا)
الآية، ولم يختلف المسلمون في أن تقْتَل المرأة إذا قَتَلَت.
الأم (أيضًا): ما يحرم من النساء بالقرابة:
قال الشَّافِعِي ﵀: قول اللَّه ﷿: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا)
فسن رسول الله ﷺ القطع في ربع دينار، وفي السرقة من الحرز.
الأم (أيضًا): كتاب (الحدود وصفه النفى):
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي ﵀ قال: قال اللَّه ﵎: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ) الآية.
 
٢ ‏/ ٧٣٧
 
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال قائلون كل من لزمه اسم سرقةٍ قُطِع بحكم اللَّه
تعالى، ولم يلتفت إلى الأحاديث!
فقلت لبعض الناس: قد احتج هؤلاء بما يرى من ظاهر القرآن، فما الحجة عليهم؟
قال: إذا وجدتَ لرسول اللَّه ﷺ سُنَّة، كانت سُنَّةُ رسول الله ﷺ دليلًا على
معنى ما أراد الله تعالى، قلنا: هذا كلما وصفت، والسنة الثابتة عن رسول الله ﷺ: أن القطع في ربع دينار فصاعدًا.
قال الشَّافِعِي ﵀: أخبرنا سفيان، عن ابن شهاب، عن عمرة بنت
عبد الرحمن، عن عائشة ﵂، أن رسول الله ﷺ قال: «القطع في ربع دينار فصاعدا»، الحديث.
أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر ﵄
«أن رسول الله ﷺ قطع سارقًا في مِجَنٍ قيمته ثلاثة دراهم» الحديث.
قال الشَّافِعِي ﵀: وهذان الحديثان متفقان؛ لأن ثلاثة دراهم في زمان
النبي ﷺ كانت ربع دينار، وذلك أن الصرف كان على عهد رسول الله ﷺ اثني
عشر درهمًا بدينار، وكان كذلك بعده فَرض عمر الدية اثنى عشر ألف درهم على أهل الوَرِقِ، وعلى أهل الذهب ألف دينار.
قال الشَّافِعِي ﵀: وليس في أحد حجة مع رسول الله ﷺ، وعلى المسلمين اتباعه، فلا إلى حديث صحيح ذهب من خالفنا، ولا إلى ما ذهب إليه من ترك الحديث، واستعمل ظاهر القرآن! .
 
٢ ‏/ ٧٣٨
 
الأم (أيضًا): ما جاء في أقطع اليد والرجل يسرق
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﷿ (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا) الآية.
فلم يذكر اليد والرجل إلا في المحارب، فلو قال
قائل: يَعْتَلُّ بعِلَّتِكم أقطع يده ولا أزيد عليها؛ لأنَّه إذا قطعت يده ورجله ذهب بطشه ومشيه، وكان مستهلكًا، أتكون الحجة عليه إلا ما مضى من السنة والأثر.
وإن اليد والرجل هي مواضع الحد، وإن تلفت.
الأم (أيضًا): المدَّعي والمدَّعَى عليه:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال لي - أي: المحاور -: أراك تنكر عليَّ قولي في
اليمين مع الشاهد، هي خلاف القرآن، قلت: نعم، ليست بخلافه، القرآن عربي، فيكون عام الظاهر، وهو يراد به الخاص.
قال: ذلك مِثلَ ماذا؟
قلت: مثل قول
الله ﷿: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) الآية.
فلما كان اسم السرقة يلزم سُرَّاقًا لا يُقطعون، مثل مَن سرق من غير حرزٍ، ومن سرق أقل من ربع دينارٍ، كانت في هذا دلالة على أنَّه أريد به بعض السُّراق دون بعض، وليس هذا خلافًا لكتاب اللَّه ﷿، فكذلك كل كلام احتمل معاني فوجدنا سُنَّة تدلُّ على أحد معانيه دون غيره من معانيه، استدللنا بها، وكل سنَّةٍ موافقة للقرآن لا مخالفة، وقولك خلاف القرآن فيما جاءت فيه سنة، تدل على أن القرآن على خاصٍّ دون عامٍّ جَهلٌ.
 
٢ ‏/ ٧٣٩
 
الأم (أيضًا): إقامة الحدود في دار الحرب:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: يقيم أمير الجيش الحدود حيث كان من
الأرض، إذا وُلِّيَ ذلك، فإن لم يولِّ فعلى الشهود الذين يشهدون على الحد، أن يأتوا بالشهود عليه إلى الإمام والي ذلك، ببلاد الحرب أو ببلاد الإسلام، ولا فرق بين دار الحرب، ودار الإسلام فيما أوجب اللَّه على خلقه من الحدود؛ لأن اللَّه ﷿ يقول: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) الآية.
الرسالة ً: باب (العلل في الأحاديث):
قال الشَّافِعِي ﵀: ولجاز أن يقال: سنَّ النبيُّ ﷺ ألَّا يقطع من لم تبلغ سرقته رُبْعَ دينار قبل التنزيل، ثم نزل عليه قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) الآية.
فمن لزمه اسم سرقةٍ قُطِعَ!.
* * *
قال الله ﷿: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ)
مناقب الشَّافِعِي: باب (ما يستدل به على معرفة الشَّافِعِي بأصول الكلام.
وصحة اعتقاده فيها):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فرض - اللَّه - على القلب غير ما فرض
على اللسان، وفرض على السمع غير ما فرض على العينين، وفرض على
 
٢ ‏/ ٧٤٠
 
اليدين غير ما فرض على الرجلَين، وفرض على الفرج غير ما فرض على
الوجه.
فأما فَرْضُ الله على القلب من الإيمان: فالإقرار والمعرفة والعقد، والرضا
والتسليم: بأن اللَّه لا إله إلا هو وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، وأنُّ محمدًا ﷺ عبده ورسوله، والإقرار بما جاء من عند اللَّه من نبيٍّ أو كتاب.
فذلك ما فرض اللَّه جل ثناؤه على القلب، وهو عمله - وذكر الآيات التي
تتعلق بذلك ومنها -
وقال: (مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) الآية.
فذلك ما فرض الله على القلب من الإيمان، وهو عمله، وهو
رأس الإيمان.
قال الشَّافِعِي ﵀: وفرض اللَّه على اللسان: القول والنعبير عن القلب
بما عقد، وأقرَّ به، فقال: في ذلك: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ) الآية، فذلك
ما فرض اللَّه على اللسان من القول، والتعبير عن القلب وهو عمله، والفرض عليه من الإيمان.
* * *
قال الله ﷿: (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ)
الأم: ما أحدث الذين نقضوا العهد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ورجم رسول الله ﷺ يهوديين موادعَين زنيا، بأن جاؤوه، ونزل عليه: (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) الآية،
 
٢ ‏/ ٧٤١
 
فلم يجز إلا أن يُحكم على كل ذمي وموادع، في مال مسلم ومعاهد، أصابه بما أصاب، ما لم يُصِرُّ إلى إظهار المحاربة، فإذا صار إليها لم يحكم عليه بما أصاب بعد إظهارها والامتناع، كما لم يحكم على من صار إلى الإسلام ثم رجع عنه بما فعل، في المحاربة والامتناع، مثل: طليحة وأصحابه.
الأم (أيضًا): الحكم بين أهل الذمة:
قال الشَّافِعِي ﵀: لم أعلم مخالفًا من أهل العلم بالسيَر، أن رسول الله ﷺ لما نزل بالمدينة، وادع يهود كافة على غير جزية، وأن قول اللَّه ﷿: (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) إنَّما نزلت في اليهود الموادعين، الذين لم يُعطَوا جزية، ولم يقروا بأن يجري عليهم الحكم.
وقال بعض: نزلت في اليهوديَين اللذين زنيا.
قال الشَّافِعِي ﵀: وإذا وادع الإمام قومًا من أهل الشرك، ولم يشترط
أن يجري عليهم الحكم، ثم جاؤوه متحاكمين فهو بالخيار، بين أن يحكم بينهم، أو يدع الحكم، فإن اختار أن يحكم بينهم، حَكَمَ بينهم حُكْمه بين المسلمين، لقول الله ﷿: (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) الآية، والقسط: حكم الله ﷿ الذي أنزله عليه ﷺ.
الأم (أيضًا): عدة المشركات:
قال الشَّافِعِي ﵀: فلا يحلّ لمسلم إذا تحاكم إليه مشرك، أن يحكم له
ولا عليه إلا بحكم الإسلام، لقول اللَّه ﷿ لنبيه ﷺ في المشركين: (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) .
 
٢ ‏/ ٧٤٢
 
والقسط: حكم اللَّه تعالى الذي أنزل على نبيه ﷺ.
الأم (أيضًا): باب (حد الذمتين إذا زنوا)
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﵎ لنبيه ﷺ في أهل الكتاب: (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ) قرأ إلى: (بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) الآية، ففي هذه الآية بيان - واللَّه أعلم - أن اللَّه ﵎ جعل لنبيه ﷺ الخيار، في أن يحكم بينهم أو يعرض عنهم.
وجعل عليه إنْ حَكَم، أن يحكم بينهم بالقسط، والقسط: حكم اللَّه ﵎ الذي أنزل على نبيه ﷺ المحض الصادق، أحدث الأخبار عهدًا بالله ﵎. ..
قال الشَّافِعِي ﵀: فأمر اللَّه ﷿ نبيه ﷺ بالحكم بينهم بما أنزل اللَّه بالقسط.
ثم حكم رسول الله ﷺ بينهم بالرجم، وتلك سنَّة على الثيب المسلم إذا زنى.
ودلالة على أن ليس لسلم حكم بينهم أبدًا أن يحكم بينهم إلا بحكم الإسلام.
قال الشَّافِعِي ﵀: قال لي قائل: إن قول اللَّه ﵎:
(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) ناسخ لقوله ﷿: (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) الآية.
فقلت له: الناسخ إنما يؤخذ بخبر عن النبي ﷺ
أو عن بعض أصحابه لا مخالف له، أو أمر أجمعت عليه عوام الفقهاء فهل
معك من هذا واحد؟
قال: لا. قال: فهل معك ما يبين أنَّ الخيار غير منسوخ؟
قلت: قد يحتمل قول اللَّه ﷿: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ)
 
٢ ‏/ ٧٤٣
 
إن حكمت، وقد روى بعض أصحابك عن سفيان الثوري، عن سماك بن
حرب، عن قابوس بن مُخارق، أن محمد بن أبي بكر كتب إليه علي بن أبي
طالب ﵁ في مسلم زنى بذمية، أن يحدَّ السلم، وتدفع الذمية إلى أهل دينها.
قال الشَّافِعِي ﵀: فإذا كان هذا ثابتًا عندك، فهو يدلك على أن الإمام
مخير في أن يحكم بينهم، أويترك الحكم عليهم.
قال الشَّافِعِي ﵀: قال منهم قائل: وكيف لا تحكم بينهم إذا
جاؤوك مجتمعين أو متفرقين؟
قلت: أما متفرقين فإن اللَّه ﷿ يقول:
(فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) الآية.
فدلَّ قولُ اللَّه ﵎: (فَإِنْ جَاءُوكَ) على أنهم مجتمعون، ليس إن جاءك بعضهم دون بعض، ودلَّ على أن له الخيار إذا جاؤوه في الحكم أو الإعراض عنهم، وعلى أنه إن حكم، فإنما يحكم بينهم حكمه بين المسلمين.
قال الشَّافِعِي ﵀: ولم أسمع أحدًا من أهل العلم ببلدنا، يخالف في أن
اليهوديينِ اللذين رجم رسول الله ﷺ في الزنا، كانا موادَعين لا ذميين.
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال لي بعض من يقول القول الذي أحكي خلافه.
أنه ليس للإمام أن يحكم على موادعين، وإن رضيا حُكمَه، وهذا خلاف السنة.
ونحن نقول إذا رضيا حكم الإمام، فاختار الإمام الحكم، حكم عليهما.
الأم (أيضًا): الحكم بين أهل الكتاب.:
قال الشَّافِعِي ﵀: فقال لي قائل: ما الحجة في أن لا يحكم بينهم الحاكم
حتى يجتمعوا على الرضا؛ ثم يكون بالخيار، إن شاء حكم، وإن شاء لم يحكم؛
 
٢ ‏/ ٧٤٤
 
فقلتُ له: قول اللَّه ﷿ ضَّ لنبيه: (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) الآية.
قال الشَّافِعِي ﵀: (فَإِنْ جَاءُوكَ)، وجاؤوك كأنها على المتنازعين.
لا على بعضهم دون بعض، وجعل له الخيار فقال: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) الآية.
قال الشَّافِعِي ﵀: قال: - أي المحاور - فما حجتك في أن لا تجيز
بينهم إلا شهادة المسلمين؟
قلت: قول الله ﷿: (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) الآية، والقسط: حكم اللَّه الذي أنزله على نبيه.
وقول اللَّه ﷿: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ)
والذي أنزل اللَّه: حكم الإسلام.
فحكم الإسلام لا يجوز إلا بشهادة العدول المسلمين، وقد قال اللَّه: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ)
وقال تعالى: (حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ)
فلم يختلف المسلمون في أنَّ شَرْطَ اللَّه في الشهود: المسلمين، الأحرار، العدول إذا كانت المعاني في الخصومات التي يتنازع
فيها الآدميون معينة، وكان فيما تداعوا الدماء، والأموال وغير ذلك، لم ينبغ أن يباح ذلك، إلا بمن شرط اللَّه من البينة - وشرط الله: المسلمين - أو بسنَّة رسول الله ﷺ أو إجماع من المسلمين.
الأم (أيضًا): باب (في الأقضية):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال - اللَّه - لنبيه ﷺ في أهل الكتاب: (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) إلى: (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الآية.
 
٢ ‏/ ٧٤٥
 
قال الشَّافِعِي ﵀: فأعلمَ اللَّه نبيه ﷺ: أن فرضًا عليه، وعلى من قبله، والناس، إذا حكموا، أن يحكموا بالعدل، والعدل: اتباع حكمه المنزل.
* * *
قال الله ﷿: (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣)
الأم: الحكم بين أهل الذمة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: والذي قالوا يشبه ما قالوا، لقول اللَّه ﷿:
(وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ) الآية.
وقال ﵎:
(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ)
يعني: - واللَّه تعالى أعلم - إن تولّوا عن حكمك بغير
رضاهم، وهذا يشبه أن يكون ممن أتى حاكمًا غير مقهور على الحكم، والذين حاكموا إلى رسول الله ﷺ في امرأة منهم ورجل زنيا موادعون، وكان في التوراة الرجم، ورجوا أن لا يكون من حكم رسول الله ﷺ الرجم، فجاؤوا
بهما، فرجمهما رسول الله ﷺ.
 
٢ ‏/ ٧٤٦
 
أحكام القرآن: فصل (فيمن لا يجب عليه القتال)
قال الشَّافِعِي ﵀: فإذا وادع الإمام قومًا - من أهل الشرك -، ولم
يشترط أن يجري عليهم الحكم، ثم جاؤوه متحاكمين، فهو بالخيار: بين أن يحكم بينهم، أو يدع الحكم.
فإن اختار أن يحكم بينهم، حكم بينهم حكمه بين المسلمين، فإن امتنعوا -
بعد رضاهم بحكمه - حاربهم.
قال الشَّافِعِي ﵀: وليس للإمام الخيار في أحد من المعاهدين - الذين
يجري عليهم الحكم - إذا جاؤوه في حَدِّ لله ﷿، وعليه أن يقيمه.
قال الشَّافِعِي ﵀: وإذا أبى بعضهم على بعض، ما فيه له حق عليه.
فأتى طالب الحق إلى الإمام، يطلب حقه، فحق لازم للإمام - واللَّه أعلم - أن يحكم له على من كان له عليه حق منهم؛ وإن لم يأته المطلوب راضيًا بحُكمه.
وكذلك إن أظهر السخط لحكمه، لما وصفت من قول الله ﷿:
(وَهُمْ صَاغِرُونَ) .
فكان الصَّغار - واللَّه أعلم -: أن يجري عليهم
حكم الإسلام.
وبسط الكلام في التفريع، وكأنه وقف - حين صنَّف كتاب الجزية - أن
آية الخيار، وردت في الموادعين؛ فرجع عما قال - في كتاب الحدود في المعاهدين - فأوجب الحكم بينهم بما أنزل اللَّه ﷿؛ إذا ترافعوا إلينا.
 
٢ ‏/ ٧٤٧
 
قال الله ﷿: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)
الأم: قتل الحر بالعبد:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﷿ في أهل التوراة:
(وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) الآية.
ولا يجوز - واللَّه أعلم - في حكم اللَّه ﵎ بين
أهل التوراة، أن كان حكمًا بينًا، إلا ما جاز في قوله:
(وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ)
ولا يجوز فيها إلا أن تكون كل نفس محرمة القتل، فعلى من قتلها القَوَد، فيلزم في هذا: أن يُقتل المؤمن بالكافر المعاهد، والمستأمن، والصبي، والمرأة من أهل الحرب، والرجل بعبده، وعبد غيره، مسلمًا كان أو كافرًا، والرجل بولده إذا قتله.
الأم (أيضًا): جماع القصاص فيما دون النفس:
قال الشَّافِعِي ﵀: ذكر اللَّه ما فرض على أهل التوراة فقال الله ﷿:
(وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) إلى قوله: (فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) الآية.
وروي في حديث، عن عمر ﵁ أنه قال:
«رأيت رسول الله ﷺ يعطي القَوَدَ من
نفسه، وأبا بكر يعطي القَوَد من نفسه، وأنا أعطي القَوَد من نفسي».
 
٢ ‏/ ٧٤٨
 
قال الشَّافِعِي ﵀: ولم أعلم مخالفًا في أن القصاص في هذه الأمة، كلما
حكم الله ﷿ أنه حكم به بين أهل التوراة، ولم أعلم مخالفًا في أن القِصاص بين الحرِّين المسلمين في النفس وما دونها من الجراح التي يستطاع منها القصاص بلا تلف يخاف على المستقاد منه من موضع القود.
الأم (أيضًا) باب (دية أهل الذمة):
قال الشَّافِعِي ﵀: فقال - لي - بعض من يذهب مذهب بعض
الناس، أن مما قتلنا به المؤمن بالكافر، والحر بالعبد آيتين، قلنا: فاذكُر إحداهما.
فقال: إحداهما: قول اللَّه ﷿ في كتابه: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)
قلت: وما أخبرنا اللَّه ﷿ أنه حَكَمَ به على أهل التوراة حُكْم بينِنا؛ قال: نعم، حتى يبين لأنَّه قد نسخه عئا فلما قال: (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) الآية، لم يجز إلا أن تكون كل نفس بكل نفس؛ إذا كانت النفس المقتولة محرمة أن لقْتَل.
قلنا: فلسنا نريد أن نحتج عليك بأكثر من قولك: إن هذه الآية عامة، فزعمت أنَّ فيها خمسة أحكام مفردة، وحكمًا سادسًا جامعًا، فخالفت جميع الأربعة الأحكام التي بعد الحكم الأول، والحكم الخامس والسادس جماعَتُها في موضعين:
١ - في الحرُّ يقتل العبد.
٢ - والرجل يقتل المرأة.
قال الشَّافِعِي ﵀: والآية الأخرى: قال اللَّه ﷿
(وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) الآية.
فقوله: يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) دلالة على أن من قُتل مظلومًا، فلوليه أن يَقْتل قاتلَه، قيل له: فيعاد
 
٢ ‏/ ٧٤٩
 
عليك ذلك الكلام بعينه في الابن يقتله أبوه، والعبد يقتله سيده، والمستأمن يقتله المسلم. قال: فلي من كل هذا مخرج. ..
الأم (أيضًا): كتاب (اللعان):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال - الله تعالى - في القتل: (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)
إلى قوله: (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) الآية.
فأبان الله ﷿ إن ليس حتمًا أن يأخذ هذا
من وجب له، ولا أنَّ حتمًا أن يأخذه الحاكم لمن وجب له، ولكن حتمًا أن
يأخذه الحاكم لمن وجب له إذا طلبه.
الأم (أيضًا): القصاص في العبيد والأحرار:
قال الشَّافِعِي ﵀: إذا كان الحر القاتل للعبد، فلا قود بينهما في نفس
ولا غيرها، وإذا قتل العبد الحرَّ أو جرحه، فلأولياء الحر أن يستقيدوا منه في النفس، وللحرِّ أن يستقيد منه في الجراح إن شاء، أو يأخذ الأرش في عنقه إن شاء ويدع القود، قال محمد بن الحسن: إنَ المدنيين زعموا: أنهم إنما تركوا إقادة العبد من الحرِّ، لنقص نفس العبد عن نفس الحرِّ، وقد يَقِيدون المرأة من الرجل وهي أنقص نفسًا منه.
قال الشَّافِعِي ﵀: ولا أعرف من قال هذا له، ولا أحتج به عليه من
المدنيين، إلا أن يقوله له من ينسبونه إلى علم فيتعلق به، وإنَّما منعنا من قود
العبد من الحر، ما لا اختلاف بيننا فيه؛ والسبب الذي قلناه له مع الاتباع، أن الحرَّ كامل الأمر في أحكام الإسلام، والعبد ناقص الأمر في عام أحكام الإسلام.
وفي الحدود فيما ينصف منها. . .، وأمّا المرأة فكاملة الأمر في الحريّة والإسلام، وحدُّها وحدُّ الرجل في كل شيءِ سواء. . .
 
٢ ‏/ ٧٥٠
 
وقول محمد بن الحسن ينقض بعضه بعضًا، أرأيت إذا قتله به وأقاد النفس
التي هي جماع البدن كله من الحرّ بنفس العبد، فكيف لا يُقِصه منه في مُوضِحَة، إذا كان الكل بالكلّ، فالبعض بالبعض أولى، فإن جاز لأحد أن يفرق بينهم جاز لغيره أن يُقِصُّه منه في الجراح، ولا يقصه منه في النفس، ثم جاز لغيره أن يبعض الجراح، فيقصه في بعضها، ولا يقصه في بعضٍ في الموضع الذي ذكر اللَّه ﷿ في القصاص، فقال: (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ الآية، إلى قوله: (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) .
قال الشَّافِعِي ﵀: والنقص لايمنع القود، وإنَّما تمنع الزيادة.
فإن قال قائل: فأوجدنيه يقول مثل هذا، قيل: نعم، وأعظم منه، يزعم: أن لو رجلًا لو قتل أباه قُتل به، ولو قتله أبوه لم يُقتل به؛ لفضل الأبوة على الولد، وحرمتهما واحدة، ويزعم أن رجلًا لو قتل عبده لم يقتله به، ولو قتله عبده قتله به، ولو قتل مستأمنًا لم يقتل به، ولو قتله المستأمن يقتل به.
الأم (أيضًا): باب (القصاص بين المماليك):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﷿ في كتابه: (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) الآية، قرأ الربيع إلى: (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) فما استُطِيع منه
القصاص، فليس فيه إلا القصاص كما قال الله ﷿، وليس فيه دية ولا مال، وما كان من خطأ فعليه ما سمى اللَّه في الخطأ من الدية المسلَّمة إلى أهله، فمن حكم بغير هذا فهو مدُّع، فعليه البينة في نفس العبد، وغير ذلك.
 
٢ ‏/ ٧٥١
 
فمن وجب له القصاص في عبدٍ أو حرٍّ لم يكن له أن يصرفه إلى عقل، ومن
وجب له عقل فليس له أن يصرفه إلى قَوَدٍ، في حرٍّ ولا مملوك، فمن فرّق بين
المملوك في هذا وبين الحر، فليأت عليه بالبرهان من كتاب اللَّه ﷿ الناطق، ومن السنة المعروفة. ..
قال الشَّافِعِي ﵀: والكتاب يدلّ على هذا، وذلك أنَّ اللَّه ﷿ حين ذكر القصاص جملة قال: (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ)
إلى: (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) الآية.
وقد احتج بهذا محمد بن الحسن رحمه اللَّه تعالى على أصحابنا.
وهو حجة عليه، وذلك أنَّه يقال له: إن كان العبد ممن دخل في هذه الآية، فلم يفرق الله بين القصاص في الجروح والنفس، وإن كان غير داخل في هذه الآية، فاجعل العبدين بمنزلة البعيرين لا يُقَصُّ أحدهما من الآخر.
الأم (أيضًا): باب (القود بين الرجال والنساء):
قال الشَّافِعِي ﵀: فإن زعم - يعني: محمد بن الحسن - أنَّ القصاص
في النفس ليس من معنى العقل بسبيل، فكذلك ينبغي له أن يقول في الجراح.
لأنّ الله ﵎ ذكرها ذكرًا واحدًا، فلم يفرق بينهما في هذا الموضع الذي حكم بها فيه، فقال جلَّ ثناؤه:
(النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) إلى: (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ)
فلم يوجب في النفس شيئًا من القود إلا أوجب فيما سمّى مثله.
الأم (أيضًا): باب (القصاص في كسر اليد والرجل):
قال الشَّافِعِي ﵀: معقول في كتاب اللَّه ﷿ في القصاص إذ قال جل وعلا: (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) الآية، إنما هو: إفاتة شيء بشيء، فهذا سواء.
 
٢ ‏/ ٧٥٢
 
وفي قوله: (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) الآية، إنما هو: أن يفعل بالجارح مثل ما فعل
بالجروح، فلا نقِص من واحد إلا في شيء يفات من الذي أفات، مثل عين وسن وأذن ولسان وغير هذا مما يفات.
الأم (أيضًا): باب (الإحصار بالعدو):
قال الشَّافِعِي رحمة الله: فقلت له - للمحاور -: إن القصاص وإن كان
يجب لمن له القصاص، فليس القصاص واجبًا عليه أن يقتص.
قال: وما دل على ذلك؟
قلت: قال الله ﷿: (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) الآية، أفواجب على من
جُرح أن يَقتص ممن جَرحه، أو مباح له أن يقتص، وخير له أن يعفو؛ قال: له أن يعفوَ، ومباح له أن يقتص.
الأم (أيضًا): ما جاء في أَقْطع اليد والرجل يسرق:
قال الشَّافِعِي ﵀: فإن قال قائل: قال اللَّه ﷿:
(وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ)
قال: فأتأوَّلُ ما كانت حال المقتص منه، مثل حال المقتص له.
وأقول: أنت لا تقص من جُرْح واحدٍ، إذا أشبه الاستهلاك وتجعله دية، والإتيان على قوائمه عين الاستهلاك، ما الحجة عليه إلا أن للقصاص موضعًا، فكذلك للقطع موضع - والله ﷾ أعلم -.
الأم (أيضًا): الحكم في قتل العمد:
قال الشَّافِعِي ﵀: وإن أحبّ الولاة، أو المجروح، العفو في القتل بلا
مال ولا قَوَد، فذلك لهم.
فإن قال قائل: فمن أين أخذت العفو في القتل بلا مال
 
٢ ‏/ ٧٥٣
 
ولا قود؟
قيل: من قول الله جل ثناؤه: (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ)
ومن الرواية عن رسول الله ﷺ في أن العفو عن القصاص كفارة: أو قال شيئًا يرغب به في العفو عنه.
فإن قال قائل: فإنَّما قال رسول الله ﷺ:
«من قُتل له قتيل فأهله بين خِيرَتين إن أحبُّوا فالقود، وإن أحبُّوا فالعقل» الحديث.
قيل له: نعم، هو فيما يأخذون من القاتل من القتل والعفو بالديّة، والعفو بلا واحد منهما ليس بأخذ من القاتل، إنَّما هو ترك له كما قال - أي: رسول الله ﷺ:
«ومن وجد عين ماله عند معدم فهو أحق به» الحديث.
ليس، أن ليس له تركه؛ ولا ترك شيء يوجب له، إنَّما يقال هو له، وكلّ ما قيل له أخْذه فله تركه.
مختصر المزني: باب (الخلاف في قتل المؤمن بالكافر):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقلت له - أيْ: للمحاور - فليس في المسلم يقتل
المستأمن علَّة، فكيف لم تقتله بالمستأمن معه ابن له، ولا ولي له غيره، يطلب
القود؟
قال: هذا حربي.
قلت: وهل كان الذميّ إلا حربيًا فأعطى الجزية فحَرُم دمه، وكان هذا
حربيًا فطلب الأمان فحَرُم دمه؟
قال آخر منهم: يقتل المسلم بالكافر؛ لأنّ الله ﷿ قال: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)
قلت له: أخبرنا الله ﷿ أنه كتب عليهم في التوراة
هذا الحكم، أفحكم هو بيننا؟
قال: نعم.
قلت: أفرأيت الرجل يقتل العبد والمرأة،
 
٢ ‏/ ٧٥٤
 
أيقتل بهما؟
قال: نعم.
قلت: ففقأ عينه أو جرحه فيما دون النفس جراحات فيها
القصاص؛ قال: لا يقاد منه واحد منهما.
قلت: فأخبر اللَّه ﷿ أن حكمه حيث
حَكَمَ أن: (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) الآية، فعطلت هذه الأحكام الأربعة: الحر.
والعبد، والرجل، والمرأة، وحكمًا جامعًا كثر منها: (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) الآية.
فزعمت أنَّه لا يقتص واحد منهما منه في جرح، وزعمت أنه يقتل النفس بالنفس كل واحد واحد منهما، فما تخالفُ في هذه الآية كثر مما وافقتها فيه، إنَّما وافقتها في النفس بالنفس، ثم خالفت في النفس بالنفس في ثلاثة أنفس، في الرجل يقتل ابنه، وعبده، والمستأمن، ولم تجعل من هذه نفسًا بنفسٍ؟ ..
قال الشَّافِعِي ﵀: قال قائل: قلنا هذه آيات اللَّه تعالى: ذكر المؤمن
يُقتل خطأ، فجعل فيه دية مسلمة إلى أهله وكفارة، وذكر ذلك في المعاهد، قلت: أفرأيت المستأمن فيه دية مسلمة إلى أهله وكفارة؟
قال: نعم. قلت: فلِمَ لم تقتل به مسلمًا قتله؟!.
فائدة:
الزاهر ومن باب (التفليس):
وذكر الشَّافِعِي ﵀: في كتاب (التفليس) حديثًا رفعه إلى النبي ﷺ أنه قال: «نفس المؤمن معلقة بدَينه» الحديث.
قال الأزهري ﵀: نفس الإنسان لها ثلاثة مواضع:
أحدها: بَدَنُهُ، قال اللَّه ﷿: (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ. . . وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) الآية.
 
٢ ‏/ ٧٥٥
 
ثانيها: والنفس: الرُّوح، الذي إذا فارق البدن لم تكن بعده حياة، وهو
الذي أراد النبي ﷺ بقوله:
«نفس المؤمن معلقة بدَينه.» الحديث، كان روحه
تعذَّب بما عليه من الدَّين حتى يؤدى عنه.
ثالثها: النفس: الدَّمُ، الذي في جسد الحيوان.
وقال أبو إسحاق إبراهيم بن السري: لكل إنسان نفسان:
أحدهما: نفس التمييز: وهي التي تفارقه إذا نام فيزايله عقله، يتوفاها الله
تعالى كما قال: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) .
والأخرى: نفس الحياة: وهي التي إذا نام الإنسان تنفس بها وتحرك بقوتها.
وإذا توفى اللَّه تعالى نفس الحياة توفى معها نفس التمييز، وإذا توفى نفس التمييز لم يتوفَ معها نفس الحياة، وهو الفرق بين توفي أنفس النائم، وتوفي أنفس الحي.
* * *
قال الله ﷿: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ)
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في القضايا والشهادات:
أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي: في قوله ﷿: (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ)
يحتمل: تساهلهم في أحكامهم، ويحتمل: ما يَهوَوْنَ، وأيهما كان فقد نهيَ
عنه، وأمِرَ أن يُحكم بينهم بما أنزل اللَّه على نبيه ﷺ.
 
٢ ‏/ ٧٥٦
 
الزاهر باب (الأقضية):
قال الأزهري ﵀: قال الله ﷿: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)
أي: طريقًا واضحًا، أمرنا بالاستقامة عليه، والعرب تقول: شرع السالخ
إهاب الذبيحة، إذا شق بين الرِّجلين وفتحه. ..
فالشرع هو: الإبانة، والله تعالى هو الشارع لعباده الدين، وليس لأحدٍ يشرع فيه ما ليس منه إلا أن يشرع نبيٌّ بأمر اللَّه تعالى، فإن شَرع النبي هو شرع الله ﷿.
قال بعض أهل اللغة في قول اللَّه ﷿: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)
فالشرعَة: ابتداء الطريق، والمنهاج: معظمه.
* * *
قال الله ﷿: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ)
الأم: الحكم بين أهل الذمة:
قال الشَّافِعِي ﵀: وقوله ﵎: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ) الآية.
يعني - واللَّه تعالى أعلم -:
إن تولوا عن حكمك بغير رضاهم، وهذا يشبه أن يكون: ممن أتى حاكمًا غير مقهور على الحكم، والذين حاكموا إلى رسول الله ﷺ في امرأة ورجل زنيا
 
٢ ‏/ ٧٥٧
 
موادعون، وكان في التوراة الرجم، ورجوا ألا يكون حكم رسول الله ﷺ الرجم، فجاؤوا بهما، فرجمهما رسول الله ﷺ.
قال الشَّافِعِي ﵀: ثم على الإمام أن يحكم على الموادعين حكمه على
المسلمين، إذا جاؤوه، فإن امتنعوا بعد رضاهم بحكمه حاربهم، وسواء في أن له الخيار في الموادعين إذا أصابوا حد اللَّه، أو حدًا فيما بينهم؛ لأن المصاب منه الحدّ لم يسلم، ولم يقر بأن يجري عليه الحكم.
الأم (أيضًا): عدة المشركات:
قال الشَّافِعِي ﵀: وقول اللَّه ﵎: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ)
قال: وأهواءهم: يحتمل سبيلهم، فأمره ألا يحكم إلا بما أنزل اللِّه إليه، ولا
يحلَ لمسلم أن يحكم إلا بحكم اللَّه المنزل على نبيه ﷺ.
الأم (أيضًا): الحكم بين أهل الكتاب:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال - المحاور له - فإئا نزعم أنَّ الخيار منسوخ
لقول اللَّه ﷿: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) الآية.
قلت له: فاقرأ الآية:
 
٢ ‏/ ٧٥٨
 
(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فسمعتُ من أرضى علمُه يقول: وأن احكم
بينهم إن حكمتَ على معنى قوله: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) الآية.
فتلك مفسًرة، وهذه مجملة، وفي قوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا) الآية، دلالة على أنهم إن تولوا لم يكن عليه الحكم بينهم، ولو كان قوله: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ)
إلزامًا منه للحكم بينهم، ألزمهم الحكم متولين، لأنهم إنَّما تولوا بعد الإتيان، فأما ما لم يأتوا، فلا يقال لهم تولوا، وهم والمسلمون إذا لم يأتوا يتحاكمون لم يحكم بينهم، إلا أنَّه يتفقد من المسلمين ما أقاموا عليه، مما يحرم عليهم فيغيِّر عليهم، وإن كان أهل الذمة دخلوا بقول الله ﷿: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ) الآية، في معنى المسلمين.
انبغى للوالي أن يتفقد منهم ما أقاموا عليه مما يحرم عليهم، وإن تولى عنه زوجان على حرام ردّهما، حتى يفزق بينهما، كما يرد زوجين من المسلمين لو تولَّيا عنه، وهما على حرام حتى يفرِّق بينهما.
قال الشَّافِعِي ﵀: والدلالة على ما قال أصحابنا، أن رسول الله ﷺ أقام بالمدينة وبها يهود، وبخيبر، وفَدَك، ووادي القُرَى، وباليمن كانوا، وكذلك في زمان أبي بكر ﵁، وصدرًا من خلافة عمر ﵁، حتى أجلاهم، وكانوا بالشام
والعراق واليمن ولاية عمر بن الخطاب وعثمان وعلي ﵃ ولم
يسمع لرسول الله ﷺ فيهم بحكم، إلا رَجمه يهوديين موادعين تراضيا بحكمه بينهم، ولا لأبي بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ﵃ أجمعين.
 
٢ ‏/ ٧٥٩
 
الأم (أيضًا): باب (في الأقضية):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال - اللَّه ﵎: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) فأعلمَ اللَّه نبيه ﷺ أن فرضًا عليه، وعلى من قبله، والناس إذا حكموا، أن يحكموا بالعدل.
والعدل: اتباع حكم المنزل، قال اللَّه ﷿ لنبيه ﷺ حين أمره بالحكم بين أهل الكتاب:
(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) الآية.
الأم (أيضًا): باب (الحدود):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال اللَّه تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ)
ولا يجوز أن يحكم بينهم في شيء من الدنيا إلا بحكم المسلمين؛ لأنَّ حكم
الله واحد لا يختلف.
الأم (أيضًا): كتاب (إبطال الاستحسان):
قال الشَّافِعِي ﵀: أعلم اللَّه - سبحانه - نبيه ﷺ بما فرض من اتباع كتابه فقال: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ)
وقال: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) الآية.
 
٢ ‏/ ٧٦٠
 
الأم (أيضًا): كتاب (إبطال الاستحسان):
قال الشَّافِعِي ﵀: قيل: قال اللَّه ﷿ لنبيه ﷺ: (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)
وقال: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) .
* * *
قال الله ﷿: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)
الأم: الحكم في قتل العمد:
قال الشَّافِعِي ﵀: وكان الشريف من العرب إذا قتل، يجاوز قاتله إلى
من لم يقتله، من أشراف القبيلة التي قتله أحدها، وربما لم يرضوا إلا بعدد
يقتلونهم، فقتل بعض غَنِي شأس بن زهير، فجمع عليهم أبوه زهير بن
جذيمة، فقالوا له، أو بعض من ندب عنهم، سل في قَتل شأس فقال: إحدى
ثلاث لا يغنيني غيرها، قالوا: وما هي؟
قال: تحيون لي شأسًا، أو تملؤون ردائي من نجوم السماء، أو تدفعون إليَّ: غَنِيًا بأسرها فأقتلها، ثم لا أرى أني أخذت منه عوضًا.
 
٢ ‏/ ٧٦١
 
وقتل كليب وائل، فاقتتلوا دهرًا طويلًا، واعتزلهم بعضهم، فأصابوا ابنًا
له يقال له: بجير، فأتاهم، فقال: قد عرفتم عزلتي، فبُجير بكليب، وكفوا عن الحرب، فقالوا: بجير بشسع نعل كليب، فقاتلهم، وكان معتزلًا.
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال: إنه نزل في ذلك وغيره، مما كانوا يحكمون به
في الجاهلية هذا الحكم الذي أحكيه كله بعد هذا، وحكم اللَّه ﵎
بالعدل فسوُّى في الحكم بين عباده، الشريف منهم والوضيع، (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) .
* * *
قال الله ﷿: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)
الأم: ذبائح نصارى العرب:
قال الشَّافِعِي ﵀: أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن عبد اللَّه بن دينار، عن
سعد الفلجة مولى عمر، أو ابن سعد الفلجة، أنَّ عمر بن الخطاب ﵁ قال: «ما نصارى العرب بأهل كتاب، وما تحل لنا ذبائحهم، وما أنا بتاركهم حتى يُسلموا، أو أضرب أعناقهم» الحديث.
 
٢ ‏/ ٧٦٢
 
قال الشَّافِعِي ﵀: أخبرنا الثقفي، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن
عبيدة، عن علي ﵁ أنه قال:
«لا تأكلوا ذبائحَ نصارى بني تغلب، فإنهم لم يتمسكوا من دينهم إلا بشرب الخمر» الحديث.
قال الشَّافِعِي ﵀: كأنهما ذهبا إلى أنهم لا يضبطون موضع الدين.
فيعقلون كيف الذبائح، وذهبوا إلى أن أهل الكتاب هم: الذين أوتوه، لا من دان به بعد نزول القرآن، وبهذا نقول: لا تحل ذبائح نصارى العرب بهذا المعنى - واللَّه أعلم -.
وقد روى عكرمة، عن ابن عباس ﵄ أنَّه: أحل ذبائحهم
وتأوّل: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) الآية.
وهو لو ثبت عن ابن عباس، كان المذهب إلى قول عمر وعلي ﵄ أولى، ومعه العقول، فأمّا: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ) فمعناها: على غير حكمهم، وهذا القول في صيدهم، من
أكلت ذبيحته أكل صيده، ومن لم تحل ذبيحته لم يحلُّ صيده إلا بأن تدرك ذكاته.
الأم (أيضًا): نصارى العرب:
قال الشَّافِعِي ﵀: والذي يُروى من حديث ابن عباس رضي الله
عنهما في إحلال ذبائحهم، إنما هو من حديث عكرمة، أخبرنيه فيه ابن
الدراوردي، وابن أبي يحيى، عن ثور الديلمي، عن عكرمة، عن ابن عباس
 
٢ ‏/ ٧٦٣
 
﵄ أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب، فقال قولًا حِكئًا هو:
إحلالها وتلا: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) الآية.
ولكن صاحبنا سكت عن اسم عكرمة، وثور لم يلق ابن عباس ﵄ والله أعلم -.
مختصر المزني: باب (تبديل أهل الذمة دينهم):
قال المزني ﵀:
قد قال الإمام الشَّافِعِي ﵀: في كتاب النكاح، وقال في كتاب الصيد
والذبائح: إذا بدلت بدين يحل نكاح أهله فهو حلال، وهذا عندي أشبه، وقال ابن عباس ﵄: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) الآية.
قال المزني ﵀: فمن دان منهم دين أهل الكتاب قبل نزول الفرقان
وبعده سواء عندي في القياس، وبالله التوفيق.
أحكام القرآن: فصل فيمن لا يجب عليه الجهاد:
قال الشَّافِعِي ﵀: وإن كان الصابئون والسامرة من بني إسرائيل.
ودانوا دين اليهود والنصارى: نكِحت نساؤهم، وأكلت ذبائحهم، وإن
خالفوهم في فرع من دينهم؛ لأنهم فروع قد يختلفون بينهم.
وإن خالفوهم في أصل الدينونة: لم تؤكل ذبائحهم، ولم تنكح نساؤهم.
 
٢ ‏/ ٧٦٤
 
قال الله ﷿: (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (٥٨)
الأم: باب (جماع الأذان):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﵎: (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا) الآية.
وقال: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)
فذكر الله ﷿ الأذان للصلاة، وذكر يوم
الجمعة، فكان بينًا - والله تعالى أعلم - أنه أراد المكتوبة بالآيتين معًا، وسن
رسول اللَّه ﷺ الأذان للمكتوبات، ولم يحفظ عنه أحد علمته، أنَّه أمر بالأذان لغير صلاة مكتوبة، بل حفظ الزهري عنه ﷺ أنه كان يأمر في العيدين المؤذن فيقول: ولا أذان إلا لمكتوبة، وكذلك لا إقامة.
الأم (أيضًا): صلاة الجماعة:
أخبرنا الربيع بن سليمان قال:
أخبرنا الشَّافِعِي محمد إدريس المطيي قال: ذكر اللَّه ﵎ اسمه
الأذان بالصلاة فقال ﷿: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) الآية.
وقال: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)
فأوجب اللَّه ﷿ واللَّه أعلم - إتيان الجمعة، وسن رسول الله ﷺ الأذان
 
٢ ‏/ ٧٦٥
 
للصلوات المكتوبات، فاحتمل أن يكون أوجب إتيان صلاة الجماعة في غير
الجمعة، كما أمر بإتيان الجمعة، وترك البيع.
واحتمل: أن يكون أذن بها، لتُصلى لوقتها.
* * *
قال الله ﷿: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)
الأم: مبتدأ التنزيل والفرض على النبي ﷺ ثم على الناس:
قال الشَّافِعِي ﵀: ثم يقال: أتاه جبريل ﵇ عن اللَّه ﷿، بأن يُعلمهم نزول الوحي عليه، ويدعوهم إلى الإيمان به، فكَبُر ذلك عليه، وخاف التكذيب، وأن يُتناول، فنزل عليه:
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) الآية.
فقال: يعصمك من قتلهم أن يقتلوك حين تبلغ، ما أنزل إليك. . .، ما أمِرْتَ به.
الرسالة: باب (ما أبان الله لخلقه من فرضه على ورسوله اتباع ما أَوحَيَ إليه ...):
قال الشَّافِعِي ﵀: فأعلمَ اللَّه رسوله منَّهُ عليه بما سبق في علمه من
عصمته إياه من خلقه، فقال: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) .
 
٢ ‏/ ٧٦٦
 
قال الله ﷿: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ)
الأم: جماع الوفاء بالنذر والعهد ونقضه:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال اللَّه ﵎ في الأيمان:
(لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ) الآية.
وقال رسول الله ﷺ:
«من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه» الحديث.
فأعلم أن طاعة اللَّه ﷿، أن لا يفي باليمين إذا رأى غيرها خيرًا منها، وأن يكفر بما فرض اللَّه ﷿ من الكفارة، وكل هذا يدل على أنَّه إنما يوفى بكل عقد نذر، وعهد لمسلم، أو مشرك، كان مباحًا لا معصية لله ﷿ فيه، فأما ما فيه لله معصية، فطاعة اللَّه ﵎ في نقضه إذا مضى، ولا ينبغي للإمام أن يعقده.
الأم (أيضًا): لغو اليمين:
قيل للشافعي رحمه الله تعالى: فإئا نقول إنَّ اليمين التي لا كفارة فيها، وإن
حَنِث فيها صاحبها، إنها يمين واحدة، إلا أن لها وجهين: وجه: يعذر فيه صاحبه،
 
٢ ‏/ ٧٦٧
 
ويرجى له ألا يكون عليه فيها إثم؛ لأنه لم يعقد فيها على إثم، ولا كذب، وهو: أن يحلف بالله على الأمر لقد كان، ولم يكن، فإذا كان ذلك جهده، ومبلغ علمه فذلك اللغو الذي وضع اللَّه تعالى فيه المؤونة عن العباد.
وقال: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ) الآية.
والوجه الثاني: أنَّه إن حلف عامدًا للكذب، استخفافًا باليمين بالله كاذبًا.
فهذا الوجه الثاني الذي ليست فيه كفارة؛ لأنّ الذي يعرض من ذلك، أعظم
من أن يكون فيه كفارة، وإنه ليقال له تقَرَّب إلى اللَّه بما استطعت من خير.
أخبرنا سفيان قال: حدثنا عمرو بن دينار، وابن جريج، عن عطاء قال:
ذهبت أنا وعبيد بن عمير إلى عائشة ﵂ وهي معتكفة في (ثبِير) .
فسألناها عن قول الله ﷿: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) قالت هو: «لا والله، وبلى والله» الحديث.
قال الشَّافِعِي ﵀: ولغو اليمين كما قالت عائشة رضي اللَّه تعالى عنها
- واللَّه تعالى أعلم.
الأم (أيضًا): باب (ما جاء في خلاف عائشة ﵂ في لغو اليمين):
فقلت للشافعي: ما لغو اليمين؟
قال - اللَّه أعلم - أما الذي نذهب إليه، فهو: ما قالت عائشة ﵂.
 
٢ ‏/ ٧٦٨
 
قال الشَّافِعِي ﵀: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن
عائشة ﵂ أنها قالت:
«لغو اليمين قول الإنسان: لا والله، وبلى والله»، الحديث.
فقلت للشافعي ﵀: وما الحجة فيما قلت؟
قال - اللَّه أعلم -: - إنما - اللغو في لسان العرب: الكلام غير المعقود عليه - فيه -. وجماع اللغو يكون: الخطأ.
قال الشَّافِعِي ﵀: فخالفتموه وزعمتم أنَّ اللغو حلف الإنسان على
الشيء يستيقن أنه كما حلف عليه، ثم يوجد على خلافه.
قال الشَّافِعِي ﵀: وهذا ضد اللغو، هذا هو الإثبات في اليمين يقصدها، يحلف - عليه - لا يفعله يمنعه السبب - التثبت - لقول اللَّه ﵎: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) الآية، ما عقدتم: ما عقدتم به عقد الإيمان عليه.
ولو احتمل اللسان ما ذهبتم إليه، ما منع احتماله ما ذهبت إليه عائشة ﵂، وكانت أولى أن تتبع منكم، لأنَّها أعلم باللسان منكم، مع عِلْمها بالفقه.
الأم (أيضًا): باب (الخلاف في عدل الصيام والطعام):
وقلت - أي قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﷿:
(فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ) الآية.
فجعل الرقبة مكان إطعام عشرة مساكين قال - أي: المحاور -: نعم.
الأم (أيضًا): البحيرة والوصيلة والسائبة والحام:
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال في الحالف: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) الآية.
وكان حكمه ﵎ فيما ملكه الآدميون من الآدميين، أنهم يخرجونهم من ملكهم بمعنيين:
 
٢ ‏/ ٧٦٩
 
أحدهما: فَكّ الملك عنهم بالعتق طاعة لله ﷿ برًا جائزًا، ولا يملكهم آدمي بعده.
والآخر: أن يخرجهم مالكهم إلى آدمي مثله، ويثبت له الملك عليهم، كما
يثبت للمالك الأول بأي وجه صيرهم إليه.
الأم (أيضًا): ما يُعتق به المكاتب
قال الشَّافِعِي ﵀: وأبان - اللَّه ﷿ - في كتابه أن عتق العبد إنما يكون بإعتاق سيده إياه، فقال: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) الآية.
فكان بينًا في كتاب الله ﷿ أن تحريرها: إعتاقها، وأن عتقها إنَّما هو: بأن يقول للمملوك: أنت حُرٌّ.
مختصر المزني: باب الإطعام في الكفارة:
قال الشَّافِعِي ﵀: ولو أطعم تسعة وكسا واحدًا لم يَجزه حتى يُطعمَ
عشرة كما قال اللَّه ﷿ (أَوْ كِسْوَتُهُمْ) الآية.
الرسالة: باب (الاستحسان):
قال الشَّافِعِي ﵀: فإن قال قائل: وما الذي يَغرَمُ الرجل من جنايته.
وما لزمه غير الخطأ؟
وذكر عدة آيات (عن وجوب المهر للمرأة، وإيتاء الزكاة، وهدي الإحصار، وكفارة الظهار، وكفارة قتل الصيد أثناء الإحرام -
ثم ذكر وقال - الله تعالى في كفارة اليمين المنعقدة -: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) .
 
٢ ‏/ ٧٧٠
 
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه - الشافعى ﵀ في التفسير في آيات متفرقة:
قال البيهقي ﵀:
قال الشَّافِعِي ﵀: في قوله ﷿:
(لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) الآية ليس فيه إلا قول عائشة ﵂: حَلِفُ الرجل على الشيء: يستيقنه
ثم يجده على غير ذلك - روى ذلك يونس عن الإمام الشَّافِعِي ﵀.
قلت - أي البيهقي ﵀: وهذا بخلاف رواية الربيع عن الشَّافِعِي
من قول عائشة ﵂، ورواية الربيع أصح، وهو الصحيح من المذهب أيضًا.
أحكام القرآن (أيضًا): ما يؤثر عنه - الشافعى - في الأيمان والنذور:
قال الشَّافِعِي ﵀: ويجزي بكفارة اليمين مُدٌّ، بمدِّ النبي ﷺ من حنطة.
قال الشَّافِعِي ﵀: وما يقتات أهل البلدان من شيء، أجزأهم منه مدٌّ.
قال الشَّافِعِي ﵀: وأقل ما يكفي من الكسوة، كل ما وفع عليه اسم
الكسوة: من عمامة، أو سراويل، أو إزار، أو مِقنَعة، وغير ذلك، للرجل والمرأة والصبي؛ لأن اللَّه ﷿ أطلقه، فهو مطلق.
قال الشَّافِعِي ﵀: وليس له إذا كفر بالإطعام، أن يطعم أقل من
عشرة، أو بالكسوة أن يكسو أقل من عشرة.
 
٢ ‏/ ٧٧١
 
قال الشَّافِعِي ﵀: إذا أعتق في كفارة اليمين، لم يجزه إلا رقبة مؤمنة.
ويجزئ كل ذي نقص، بعيب لا يُضِر بالعمل إضرارًا بينًا - وبسط الكلام في
شرحه.
آداب الشَّافِعِي ومناقبه: باب (في اللباس والأشربة والأضاحي والصيد والأطعمة والكفارات):
قال الإمام الشَّافِعِي ﵀: وفي قوله: (أَوْ كِسْوَتُهُمْ) الآية.
قال: أدنى الكسوة يكفي، وإن كانوا صبيانًا صغارًا، كساهم قُمُصًا صغارًا؛ لأنَّه وقع عليه اسم (الكسوة) .
* * *
قال الله ﷿: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣)
آداب الشَّافِعِي ومناقبه: باب (في اللباس والأشربة والأضاحي والصيد والأطعمة والكفارات):
أخبرنا أبو محمد قال: أخبرني أبي قال: سمعت يونس بن عبد الأعلى قال:
قال لي الشَّافِعِي ﵀: في قوله ﷿: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا) الآية.
قال: إذا ما اتقوا: لم يقربوا ما حُرِّمَ عليهم.
 
٢ ‏/ ٧٧٢
 
قال الله ﷿: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٩٤)
الأم: ما حَرُمَ بدلالة النص:
قال الشَّافِعِي ﵀: وكان الصيد ما امتنع بالتوحش كلّه، وكانت الآية
محتملة أن يحرم على المحرم ما وقع عليه اسم صيد، وهو يجزي بعض الصيد دون بعض، فدلَّت سنة رسول الله ﷺ على أن من الصيد شيئًا ليس على المحرم جزاؤه.
كل ما يباح للمحرم قتله، ولم يكن في الصيد شيء يتفرق إلا بأحد معنيين:
إما بأن يكون اللَّه ﷿ أراد أن يفدي الصيد المباح أكله، ولا يفدي ما لا يباح أكله، وهذا أولى معنييه به - والله أعلم -؛ لأنَّهم كانوا يصيدون ليأكلوا، لا ليقتلوا، وهو يشبه دلالة كتاب اللَّه ﷿، قال الله تعالى: (لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ) الآية.
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في الحج:
قال الشَّافِعِي ﵀: أولا ترى إلى قول اللَّه ﷿: (لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ) الآية.
وقوله: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) .
فدلَّ - جل ثناؤه - على أنه إنما حرَّم عليهم في الإحرام من صيد البر -
ما كان حلالًا لهم - قبل الإحرام أن يأكلوه.
 
٢ ‏/ ٧٧٣
 
زاد في موضع آخر: لأنَّه - والله أعلم - لا يشبه أن يكون حرّم في الإحرام
خاصة، إلا ما كان مباحًا قبله، فأمَّا ما كان محرَّمًا على الحلال، فالتحريم الأول كافٍ منه.
قال الشَّافِعِي ﵀: ولولا أن هذا معناه، ما أمر رسول الله ﷺ: بقتل الكلب العقور، والعقرب، والغراب، والحِدَأةِ، والفأرة، في الحل والحرم، ولكنه إنما أباح لهم قتل ما أضرَّ، مما لا يؤكل لحمه. وبسط الكلام فيه.
أخبرنا أبو سعيد، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا الربيع.
أخبرنا الشَّافِعِي ﵀: أخبرنا مسلم، عن ابن جريج، عن عطاء، قال:
لا يُفْدِي المحرم من الصيد إلا ما يؤكل لحمه.
أحكام القرآن (أيضًا): ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي ﵀ في الصيد والذبائح.
قال الشَّافِعِي ﵀: فكان معقولًا عن الله ﷿، إذ أذن في كل ما أمسك الجوارح، أنهم إنما اتخذوا الجوارح لما لم ينالوه إلا بالجوارح، وإن لم ينزل ذلك نصًّا من كتاب الله ﷿
فقال اللَّه ﷿: (لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ) الآية.
* * *
قال الله ﷿: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (٩٥)
الأم: باب (قتل الصيد خطا):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﵎: (لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا) الآية.
يُجزي الصيد، من قتله عمدًا أو خطأ. . .
 
٢ ‏/ ٧٧٤
 
وكان المالك لما وجب بالصيد أهل الحرم، لقوله الله تعالى: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) الآية، ولم أعلم بين المسلمين اختلافًا أن ما كان ممنوعًا أن يتلف، من
نفس إنسان، أو طائر، أو دابة أو غير ذلك مما يجوز ملكه فأصابه إنسان عمدا، فكان على من أصابه فيه ثمن مُؤذى لصاحبه، وكذلك فيما أصاب من ذلك خطأ، لا فرق بين ذلك إلا المأثم في العمد.
أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء قول اللَّه ﷿: (لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا) الآية.
قلت له: فمن قتله خطأ أيغرم؟
قال: نعم يعظم بذلك حرمات اللَّه، ومضت به السنن.
أخبرنا مسلم بن خالد، وسعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن عمرو بن
دينار قال: رأيت الناس يُغزمون في الخطأ.
أخبرنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا) الآية، لقتله ناسيًا لحُرْمِه؛ فذلك الذي يُحكم عليه، ومن قتله متعمدًا لقتله، ذاكرًا لحُرْمِه، لم يحكم عليه.
قال عطاء ﵀: يحكم عليه، وبقول عطاء نأخذ.
الأم (أيضًا): باب (بقر الوحش وحمار الوحش والثيتل والوعل):
قلت للشافعي: أرأيت الهرم يصيب بقرة الوحش، أو حمار الوحش.
فقال: في كل واحد منهما بقرة. فقلت للشافعي: ومن أين أخذت هذا؟ فقال: قال اللَّه ﵎: (لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) الآية.
 
٢ ‏/ ٧٧٥
 
قال الشَّافِعِي ﵀: ومثل ما قتل من النعَم يدل على أن المثل على
مناظرة البُدْن، فلم يجز فيه إلا أن ينظر إلى مثل ما قتل من دواب الصيد، فإذا جاوز الشاة، رُفِع إلى الكبش، فإذا جاوز الكبش رُفع إلى بقرة، فإذا جاوز البقرة رُفِع إلى بدنة، ولا يُجاوز شيء مما يُؤدَّى من دواب الصيد بَدَنة، وإذا كان أصغر من شاة ثنية، أو جَدعة خُفضَ إلى أصغر منها، فهكذا القول في دوابّ الصيد.
أخبرنا مسلم، عن ابن جريج، عن عطاء أنه قال: في بقرة الوحش بقرة.
وفي حمار الوحش بقرة وفي الأروى بقرة.
أخبرنا سعيد، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق الهمداني، عن الضحاك بن
مزاحم، عن ابن عباس ﵄ أنه قال: في بقرة الوحش بقرة، وفي الإبل بقرة.
قال الشَّافِعِي ﵀: وبهذا نقول.
الأم (أيضًا): فدية الطائر يصيبه المحرم:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه تعالى: (لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)
إلى قوله: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) الآية.
وقول الله ﷿: (مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) يدلُّ على: أنه لا يكون المِثل من النعم إلا فيما له مثل منه، والمثل لدواب الصيد؛ لأن النعم دواب رواتع في الأرض، والدواب من الصيد، كهي
في الرتوع في الأرض، وأنها دواب مواشٍ لا طوائر، وأن أبدانها تكون مثل
 
٢ ‏/ ٧٧٦
 
أبدان النعم، ومقاربة لها، وليس شيء من الطير يوافق خَلْق الدواب في حال، ولا معانيها معانيها. ..
قال الشَّافِعِي ﵀: ولا أرى في الطائر إلا قيمته بالآثار والقياس.
الأم (أيضًا): ما حَرُمَ بدلالة النص:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﷿:
(لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) الآية.
وكان الصيد ما امتنع بالتوحش كله، وكانت الآية محتملة أن يحْرُم على المحرم ما وقع عليه اسم صيد.
وهو يجزي بعض الصيد دون بعض، فدلت سنة رسول الله ﷺ على أن من الصيد شيئًا ليس على المحرم جزاؤه، كل ما يباح للمحرم قتله.
الأم (أيضًا): المدَّعي والمدَّعَى عليه:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه جل وعز: (لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)
الآية، فلم قلتم يجزئ مَن قتله خطأ، وظاهر القرآن يدل على أنَّه إنما يجزيه من قتله عمدًا؛ قال: بحديث عن عمر وعبد الرحمن ﵄ في رجلين أوطِئا ظبيًا. قلت: قد يُؤطآنِه عامدين، فإذا كان هذا عندك هكذا، فقد حكم عمر وعبد الرحمن ﵄ وحكم ابن عمر ﵄ على قتله
 
٢ ‏/ ٧٧٧
 
صيد بجزاء واحد، وقال الله ﷿ ث: (مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) الآية، والمثل واحد لا أمثال، وكيف زعمت أن عشرة لو قتلوا صيدًا جزوه بعشرة أمثال؟
قال: شبهته بالكفارات في القتل على النفر الذين يكون على كلّ واحد منهم رقبة.
قلنا: ومن قال لك يكون على كلّ واحد منهم رقبة، ولو قيل لك ذلك أَفَندع ظاهر الكتاب، وقول عمر وعبد الرحمن، وابن عمر ﵃ بأن تقيس ثم تخطئ أيضا القياس، أرأيت الكفارات أَمُؤقتات؛ قال: نعم. قلت: فجزاء الصيد مؤقت. قال: لا، إلا بقيمته.
قلنا: أفجزاء الصيد إذا كانت قيمته بدية المقتول أَشبَهُ أم بالكفارات؛ فمائة
عندك لو قتلوا رجلًا لم يكن عليهم إلا دية واحدة، فلو لم يكن فيه إلا القياس
كان بالديّة أشبه.
وقيل له: حَكَم عمر ﵁ له في اليربوع بحفرة، وفي الأرنب بعناق، فلم زعمت واللَّه تعالى يقول في جزاء الصيد: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) أن هذا لا يكون هديًا، وقلت: لا يجوز ضحية، وجزاء الصيد ليس من الضحايا، بسبيل جزاء الصيد قد يكون بدنة، والضحية عندك شاة، وقيل له: قال اللَّه ﷿: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) الآية.
وحكم عمر، وعبد الرحمن، وعثمان، وابن عباس، وابن
عمر، وغيرهم رضوان اللَّه عليهم أجمعين، في بلدان مختلفة، وأزمان شتى بالمثل من النعم فحكم حاكمهم في النعامة ببدنة، والنعامة لا تسوي بدنة، وفي حمار الوحش ببقرة، وهو لا يسوى بقرة، وفي الضبع بكبش، وهو لا يسوي كبشًا، وفي الغزال بعنز، وقد يكون أكثر ثمنًا منها أضعافًا، ومثلها، ودونها، وفي الأرنب بعناق، وفي
 
٢ ‏/ ٧٧٨
 
اليربوع بحفرة، وهما لا يسويان عناقًا ولا جفرة أبدًا، فهذا يدل على أنهم نظروا إلى أقرب ما يقتل من الصيد شبهًا بالبَدَن، لا بالقيمة، ولو حكموا بالقيمة لاختلفت أحكامهم، لاختلاف أسعار ما يقتل في الأزمان والبلدان.
الأم (أيضًا): باب (إبطال الاستحسان):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال اللَّه جل ثناؤه: (لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ)
فكان معقولًا عن اللَّه ﷿ في الصيد: النعامة، وبقر الوحش، وحماره،والثَّيتَلُ، والظبيُ الصغير والكبير، والأرنب، واليربوع وغيره، ومعقولًا أن النعم: الإبل، والبقر، والغنم، و- إن - في هذا ما يصغر عن الغنم، وعن الإبل، وعن البقر، فلم يكن المثل فيه في المعقول، وفيما حكم به، من حَكَمَ من صدر هذه الأمة إلا أن يحكموا في الصيد بأولى الأشياء شبهًا منه من النعَم، ولم يجعل لهم إذ كان المثل يقرب قرب الغزال من العنز، والضبع من الكبش، أن يبطلوا اليربوع مع
بُعدِه من صغير الغنم، وكان عليهم أن يجتهدوا كما أمكنهم الاجتهاد.
الأم (أيضًا): باب (أين محل هدي الصيد؟):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه تعالى: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) الآية، فلما
كان كلَ ما أريد به هدي من ملك ابن آدم هديًا، كانت الأنعام كلها، وكل ما أُهدي فهو بمكة - واللَّه أعلم -. . .
 
٢ ‏/ ٧٧٩
 
فلو أطعم في كفارة صيد بغير مكة، لم يجز عنه، وأعاد الإطعام بمكة أو
بـ «منى» فهو من مكة، لأنَّه لحاضر الحرم، ومثل هذا كل ما وجب على محرم بوجه من الوجوه من فدية أذى، أو طيبٍ، أو لبسٍ أو غيره، لا يخالفه في شيء؛ لأن كله من جهة النسُك، والنسُك إلى الحرم، ومنافعه للمساكين الحاضرين الحرم. ..
أخبرنا سعيد، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ)
قال: من أجل أنَّه أصابه في حرم يريد البيت كفارة ذلك عند البيت.
أخبرنا سعيد، عن ابن جريج، أن عطاء قال له مرة أخرى: يتصدق الذي
يصيب الصيد بمكة، قال الله ﷿ ّ: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ)
قال: فيتصدق بمكة.
قال الشَّافِعِي ﵀: يريد عطاء: ما وصفت من الطعام، والنعَم كلّه
هدي - واللَّه أعلم -.
الأم (أيضًا): باب (كيف يعدل الصيام):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله تعالى: (أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا) الآية.
أخبرنا سعيد، عن ابن جريج، أنَّه قال لعطاء: ما قوله: (أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا)
قال: إن أصاب ما عدله شاة فصاعدًا، أقيمت الشاة طعامًا، ثم جعل مكان كل مدٍّ يومًا يصومه.
 
٢ ‏/ ٧٨٠
 
قال الشَّافِعِي ﵀: وهذا إن شاء اللَّه كما قال عطاء، وبه أقول.
الأم (أيضًا): باب (هل لمن أصاب الصيد أن يفديه بغير النعم؟):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﵎: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ)
إلى قوله: (صِيَامًا)
فكان المصيب مأمورًا بأن يفْدِيه، وقيل له: (مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا) الآية، فاحتمل أن يكون جعل له الخيار، بأن يفتديَ بأيّ ذلك شاء، ولا
يكون له أن يخرج من واحد منها، وكان هذا أظهر معانيه، وأظهرها الأولى بالآية.
وقد يحتمل أن يكون أمر بهدي إن وجده، فإن لم يجده فطعام، فإن لم يجده
فصوم، كما أمر في التمتع، وكما أمر في الظهار، والمعنى الأول أشبههما وذلك أن رسول اللَّه ﷺ أمر كعب بن عُجرة بأن يكفر بأيِّ الكفارات شاء في فدية الأذى.
أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن عطاء ﵀ قال:
(هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا) الآية.
قال عطاء: فإن أصاب إنسان نعامة كان عليه - إذا كان ذا يسارِ - أن يهدي جزورًا، أو عدلها طعامًا، أوعدلها صيامًا، أيتهن شاء من أجل قول اللَّه ﷿ ضَّة (فَجَزَآء) كذا وكذا.
وكل شيء في القرآن أو، أو، فليختر منه صاحبه ما شاء.
قال ابن جريج فقلت لعطاء رحمهما اللَّه: أرأيت إن قدر على الطعام ألَّا
يقدر على عدل الصيد الذي أصابه؟
قال: ترخيص اللَّه عسى أن يكون عنده طعام وليس عنده ثمن الجزور، وهي الرخصة.
 
٢ ‏/ ٧٨١
 
قال الشَّافِعِي ﵀: إذا جعلنا إليه ذلك، كان له أن يفعل أية شاء، وإن
كان قادرًا على اليسير معه، والاختيار والاحتياط له أن يفدي بنَعَم، فإن لم يجد فطعام، وإلا يصوم إلا بعد الإعواز منهما.
أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار
في قول اللَّه ﷿:
(فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) له أيتهن شاء.
أخبرنا سعيد، عن ابن جريج، عن الحسن بن مسلم قال: من أصاب من
الصيد ما يبلغ فيه شاة، فذلك الذي قال اللَّه: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ)
وأما: (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ) الآية.
فذلك الذي لا يبلغ أن يكون فيه هدي العصفور يُقتل فلا يكون فيه هدي، قال: (أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا) الآية.
عدل النعامة، وعدل العصفور.
قال ابن جريج: فذكرت ذلك لعطاء، فقال عطاء: كل شيء في القرآن أو، أو، يختار منه صاحبه ما يشاء.
قال الشَّافِعِي ﵀: وبقول عطاء ﵀ في هذا أقول.
قال اللَّه ﷿ في جزاء الصيد: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا) .
الأم (أيضًا): الطير غير الحمام:
قال الشَّافِعِي ﵀: الضُّوَعُ: طائر دون الحمام، وليس يقع عليه اسم
الحمام، ففيه قيمته، وفي كل طائر أصابه المحرم غير حمام ففيه قيمته، كان أكبر من
 
٢ ‏/ ٧٨٢
 
الحمام أو أصغر، وذلك أن اللَّه ﵎ قال في الصيد:
(فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ الآية.
قال الشَّافِعِي ﵀: فخرج الطائر من أن يكون له مثل، وكان معروفًا
بأنه داخل في التحريم، فالمثل فيه بالقيمة، إذا كان لا مثل له من النعم، وفيه أن هذا قياس على قول عمر وابن عباس ﵄ في الجرادة، وقول من وافقهم فيها، وفي الطائر دون الحمام، وقد قال عطاء في الطائر قولًا - إن كان قاله، لأنَّه يومئذ ثمن الطائر - فهو موافق قولنا، وإن كان قاله تحديدًا له، خالفناه فيه للقياس على قول ابن عمر وابن عباس ﵄، وقوله وقول غيره في الجراد.
الأم (أيضًا): المحرم يقتل الصيد الصغير أو الناقص:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﵎: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) فالمثل مثل صفة ما قتل وشبهه، الصحيح بالصحيح، والناقص
بالناقص، والتام بالتام.
قال الشَّافِعِي ﵀: ولا تحتمل الآية إلا هذا، ولو تطوع فأعطى
بالصغير والناقص تامًا كبيرًا، كان أحبّ إليَّ ولا يلزمه ذلك.
الأم (أيضًا): باب (الصيد للمحرم)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن
عطاء، في النفر بشتركون في قتل الصيد، قال: عليهم كلهم جزاء واحد.
 
٢ ‏/ ٧٨٣
 
قال الشَّافِعِي ﵀: وهذا موافق كتاب الله ﷿، لأن الله ﵎ يقول: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) الآية، وهذا مِثلٌ.
ومن قال عليه مِثلان
فقد خالف معنى القرآن.
الأم (أيضًا): باب (من نذر أن يمشي إلى بيت الله ﷿:
قال الشَّافِعِي ﵀: وإذا نذر أن يهدي شاة عوراء أو عمياء أو عرجاء.
أو ما لا يجوز أضحية أهداه، ولو أهدى تامًا كان أحب إليَّ لأن كل هذا هدي، ألا ترى إلى قول اللَّه ﷿: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا) الآية.
فقد يُقْتل الصيدَ، وهو صغير وأعرج وأعمى، وإنما يجزيه بمثله، أولا ترى. أنه يقتل الجرادة والعصفور وهما من الصيد، فيجزي الجرادة بتمرة، والعصفور بقيمته؛ ولعله قبضة، وقد سمى
الله ﷿ هذا كله هديًا.
الأم (أيضًا): باب (ما جاء في الصيد):
قال الربيع ﵀:
سألت الشَّافِعِي: عمن قتل من الصيد شيئًا وهو محرم، فقال ﵀: من
قتل من الدواب شيئًا جزاه بمثله من النعم، لأن اللَّه ﵎ يقول: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ)
والمثل لا يكون إلا لدواب الصيد، فأما الطير فلا
مثل له، ومثله قيمته، إلا أن في حمام مكة اتباعًا للآثار: شاة.
 
٢ ‏/ ٧٨٤
 
الأم (أيضًا): باب (ما روى مالك عن عثمان ﵁ وخالفه في تخمير المحرم وجهه):
قلت للشافعي: - أي: الربيع - فمن أين قلت: أي صَيدٍ صِيدَ من أجل
مُحْرِم فكل منه لم يغرم فيه؟
فقال ﵀: لأن اللَّه جل ثناؤه إنما أوجب غُرمه على من قتله، فقال ﷿: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) فلما كان القتل غير محرم، لم يكن على الهرم فيما جنى غيره فدية، كما لو قتل من أجله مسلمًا، لم يكن على المقتول من أجله عقل، ولا كفارة، ولا قود، فإن اللَّه قضى: (أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) .
الأم (أيضًا): باب (حكاية قول الطائفة التي ردَّت الأخبار كلها):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقلت له للمحاور: قال اللَّه ﷿: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ)
وكانوا يعرفون المثل، وجعل الحكم إلى ذوي عدل على المثل يجتهدان فيه؛ لأن الصفة تختلف، فتصغر وتكبر، فما أمَرَ العدلين أن يحكما بالمثل إلا على
الاجتهاد، ولم يجعل الحكم عليهما حتى أمرهما بالمثل.
وهذا يدل على مثل ما دلت عليه الآية قبله، من أنه محظور عليه - إذا
كان في المثل اجتهاد - أن يحكم بالاجتهاد إلا على المثل، ولم يؤمر فيه، ولا في
 
٢ ‏/ ٧٨٥
 
القبلة إذا كانت مغيبة عنه، فكان على غير إحاطة من أن يصيبها بالتوجُّه، أن يكون يصلي حيث شاء من غير اجتهاد، بطلب الدلائل فيها وفي الصيد معًا، ويدل على أنه لا يجوز لأحدٍ أن يقول في شيء من العلم إلا بالاجتهاد.
والاجتهاد فيه كالاجتهاد في طلب البيت في القبلة، والمثل في الصيد.
ولا يكون الاجتهاد - في الفقه - إلا لمن عرف الدلائل عليه، من خبر
لازم (كتاب، أو سنة، أو إجماع) ثم يطلب ذلك بالقياس عليه، بالاستدلال
ببعض ما وصفت، كما يطلب ما غاب عنه من البيت، واشتبه عليه من مثل
الصيد، فأما من لا آلة فيه، فلا يحل له أن يقول في العلم شيئًا.
الأم (أيضًا): الخلاف في هذا الباب: (حج المرأة والعبد)
قال الشَّافِعِي ﵀: فإن الله تعالى يقول: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًاا) الآية.
فيقول: إن الله ﷿ لما ذكر الهدي في هذا الموضع، وجعل بدله غيره، وجعل في الكفارات أبدالًا، ثم ذكر في المحصر الدم، ولم يذكر غيره، كان شرط اللَّه جل ثناؤه الإبدال في غيره، مما يلزم، ولا يجوز للعالم أن يجعل ما أنزل مما يلزم في النسك مفسرًا دليلًا على ما أنزل مجملًا، فيحكم في الجمل حكم المفسر، كما قلنا في ذكر رقبة مؤمنة في قتل، مثلها رقبة في الظهار، وإن لم يذكر مؤمنة فيه، وكما قلنا في الشهود حين ذكروا عدولًا، وذكروا في موضع أخر، فلم يشترط فيهم العدول.
هم عدول في كل موضع على ما شرط اللَّه تعالى في غيره حيث شرطه.
فاستدللنا - واللَّه أعلم - على أن حكم الجمل حكم المفسر، إذا كانا في معنى واحد، والبدل ليس زيادة، وقد يأتي موضع من حكم اللَّه لا نقول هذا فيه، هذا
 
٢ ‏/ ٧٨٦
 
ليس بالبين أن لازمًا أن نقول: هذا في دم الإحصار كل البيان، وليس بالبيِّن
وهو مجمل - واللَّه أعلم -.
الأم (أيضًا): باب (حكاية قول من ردَّ خبر الخاصة):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقلت له - أي: للمحاور -: قال اللَّه ﷿: (ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) الآية.
فإن حَكَم عدلان في موضع بشيء، وآخران في موضع بكثر أو أقل منه، فكل قد اجتهد، وأدَّى ما عليه، وإن اختلفا.
الأم (أيضًا): باب (من عاد لقتل الصيد):
قال الشَّافِعِي ﵀: ومن قتل صيدًا فحُكم عليه، ثم عاد لآخر، قال يحكم عليه كلما عاد أبدًا، فإن قال قائل، ومن أين قلته؟
قلت: إذا لزم أن يحكم عليه بإتلاف الأول، لزمه أن يحكم عليه بإتلاف الثاني، وكل ما بعده، كما يكون عليه لو قتل نفسًا ديته، وأنفسًا بعده دية دية في كل نفس، وكما يكون عليه لو أفسد متاعًا
لأحد، ثم أفسد متاعًا لآخر، ثم أفسد متاعًا كثيرًا بعده قيمة ما أفسد في كل حال.
فإن قال: فما قول اللَّه ﷿: (وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ) ففي هذا دلالة على أنه لا يحكم عليه؟
قال الشَّافِعِي ﵀: ما يبلغ علمي أن فيه دلالة على ذلك.
فإن قال قائل فما معناه؟
قيل اللَّه أعلم ما معناه، أما الذي يشبه معناه - واللَّه أعلم - فأن
 
٢ ‏/ ٧٨٧
 
يجب عليه بالعود النقمة - وقد تكون النقمة - بوجوه: في الدنيا المال، وفي
الآخرة النار.
قال الشَّافِعِي ﵀: فإن قال قائل فما قول اللَّه ﷿: (عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ) .
قيل: اللَّه أعلم بمعنى ما أراد، فأما عطاء بن أبي رباح ﵀ فيذهب إلى:
(عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ) الآية، في الجاهلية، ومن عاد في الإسلام بعد التحريم
لقتل الصيد مرة، فينتقم اللَّه منه.
أخبرنا سعيد، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء في قول اللَّه ﷿: (عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ) الآية، قال: عفا اللَّه عما كان في الجاهلية، قلتْ وقوله: (وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ) الآية.
قال: ومن عاد في الإسلام فينتقم اللَّه منه، وعليه في ذلك كفارة.
قال: وإن عمد فعليه الكفارة؟
قلت له: هل في العود من حد يُعلم؟
قال: لا.
قلت: أفترى حقًا على الإمام أن يعاقبه فيه.
قال: لا، ذنب أذنبه فيما بينه وبين اللَّه تعالى، ويفتدى.
قال الشَّافِعِي ﵀: ولا يعاقبه الإمام فيه؛ لأن هذا ذنب جعلت
عقوبته فديته، إلا أن يزعم أنَّه يأتي ذلك عامدًا مستخِفًَّا.
 
٢ ‏/ ٧٨٨
 
قال الله ﷿: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦)
الأم: باب (تحريم الصيد):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﷿: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) الآية.
قال الشَّافِعِي ﵀: والبحر اسم جامع، فكل ما كثر ماؤه واتسع قيل
هذا بحر، فإن قال قائل: فالبحر المعروف: البحر هو المالح.
قيل: نعم، ويدخل فيه العذب، وذلك معروف عند العرب.
الأم (أيضًا): باب (قتل الصيد خطأ):
قال الشَّافِعِي ﵀: الصيد كله ممنوع في كتاب اللَّه تعالى، قال اللَّه ﷿:
(أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) الآية.
فلما كان الصيد محرمًا كله في الإحرام، وكأن اللَّه ﷿ حكم
في شيء منه بعدلِ بالغ الكعبة، كان كذلك كل ممنوع من الصيد في الإحرام
لايتفرق، كما لم يفرق المسلمون بين الغرم في الممنوع من الناس والأموال في
العمد والخطأ.
 
٢ ‏/ ٧٨٩
 
الأم (أيضًا): فدية الطائر يصيبه المحرم:
قال الشَّافِعِي ﵀: فإن قال قائل: فكيف تفدي الطائر ولا مثل له من
النعم؟
قيل: فَدَيْتُه بالاستدلال بالكتاب، ثم الآثار، ثم القياس، والمعقول.
فإن قال فأين الاستدلال بالكتاب؟
قيل: قال اللَّه ﷿: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) الآية.
فدخل الصيد المأكول كله في التحريم، ووجدت اللَّه ﷿ أمر فيما له مثل منه أن يفدى بمثله، فلما كان الطائر لا مثل له من النعم، وكان محرمًا، ووجدت رسول اللَّه ﷺ يقضي بقضاء
في الزرع بضمانه، والمسلمون يقضون فيما كان محرمًا أن يُتلف بقيمته، فقضيت في الصيد من الطائر بقيمته بأنه محرم في الكتاب، وقياسًا على السنة والإجماع.
الأم (أيضًا): صيد البحر:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) الآية.
فكل ما كان فيه صيد، في بئر كان أو ماء مستنقع أو غيره، فهو بحر، وسواء كان في الحل والحرم يصاد ويؤكل؛ لأنَّه مما لم يمنع بحرمة
شيء، وليس صيده إلا ما كان يعيش فيه أكثر عيشه، فأما طائره فإنما يأوي إلى أرض فيه، فهو من صيد البر إذا أصيب جُزِيَ.
الأم (أيضًا): ما حرم بدلالة النص:
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال ﷿: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) الآية.
فذكر جل ثناؤه
 
٢ ‏/ ٧٩٠
 
إباحة صيد البحر للمحرم، ومتاعًا له يعني: طعامًا - واللَّه أعلم -.
ثم حرم صيد البر، فأشبه أن يكون إنما حَرم عليه بالإحرام ما كان كله مباحًا له قبل الإحرام.
الأم (أيضًا): ما يحرم من جهة ما لا تأكل العرب:
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله ﷿: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) الآية.
فكان شيئان حلالين، فأثبت تحليل أحدهما (وهو صيد البحر وطعامه)، وطعامه مالحه، وكل ما فيه متاع لهم يستمتعون
بكله، وحَرَّم عليهم صيد البر، أن يستمتعوا بأكله في كتابه وسنة نبيه ﷺ، واللَّه ﷿ لا يحرم
عليهم من صيد البر في الإحرام إلا ما كان حلالًا لهم قبل الإحرام - واللَّه أعلم -.
الأم (أيضًا): باب (في الحج):
قال الشَّافِعِي ﵀: ولا بأس بأن يصيد المحرم جميع ما كان معاشه في
الماء من السمك وغيره، قال الله ﷿: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) الآية.
فقال بعض أهل العلم بالتفسير: طعامه: كل ما كان فيه وهو يشبه ما قال - واللَّه تعالى أعلم -.
الأم (أيضًا): لغو اليمين:
قال الشَّافِعِي ﵀: إن اللَّه ﷿ قد جعل الكفارات في عمد المأثم فقال تعالى: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) الآية.
 
٢ ‏/ ٧٩١
 
الأم (أيضًا): باب (قتل الصيد خطأ):
قال الشَّافِعِي ﵀: الصيد في الإحرام ممنوع بقول اللَّه ﷿: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) الآية.
وكان لله فيه حكم فيما قتل منه عمدًا بجزاء مثله، وكان المنع بالكتاب مطلقًا عامًّا على جميع الصيد.
مختصر المزني: كتاب (الصيد والذبائح):
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه جل ثناؤه:
(أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) الآية.
وهذا عموم، فمن خصَّ منه شيئًا فالمخصوص لا
يجوز عند أهل العلم إلا بسنة، أو إجماع الذين لا يجهلون ما أراد اللَّه.
مختصر المزني (أيضًا): باب (ما يأكل المحرم من الصيد):
قال الشَّافِعِي ﵀: فإن عرض في نفس امرئ من قول اللَّه:
(وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) الآية.
قيل له: إن الله جل ثناؤه منع المحرم من قتل الصيد فقال
(لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)
وقال في الآية الأخرى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ) الآية.
فاحتمل أن يصيدوا صيد البحر، وأن يأكلوه إن لم يصيدوه، وأن يكون ذلك طعامه، ثم لم يختلف الناس في أن للمحرم أن يصيد صيد البحر ويأكل طعامه، وقال في سياقها: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) الآية، فاحتمل ألا تقتلوا صيد البر مادمتم حرمًا، وأشبه ذلك ظاهر القرآن - واللَّه أعلم -.
 
٢ ‏/ ٧٩٢
 
ثم دلت السنة على أن تحريم الله صيد البر في حالين:
أن يقتله رجل، وأمر في ذلك الموضع بأن يفديه، وألا يأكله إذا أمر بصيده.
فكان أولى المعاني بكتاب اللَّه ما دلت عليه سنة رسول الله ﷺ، وأولى المعاني بنا ألا تكون الأحاديث مختلفة؛ لأن علينا في ذلك تصديق خبر أهل الصدق ما أمكن تصديقه، وخاص السنة إنما هو خبر خاصة لا عامة.
مختصر المزني (أيضًا): باب (ما يحل للمحرم قتله):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال اللَّه جل وعز:
(وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) الآية.
فدل على أن الصيد الذي حُرِّم عليهم ما كان لهم قبل
الإحرام حلالًا، لأنه لا يشبه أن يحرّم في الإحرام خاصة إلا ما كان مباحًا قبله.
* * *
قال الله ﷿: (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (٩٩)
الأم: مبتدأ التنزيل والفرض على النبي ﷺ ثم على الناس:
قال الشَّافِعِي ﵀: ففرض الله عليه - على نبيه ﷺ إبلاغهم، وعبادته، ولم يفرض عليه قتالهم، وأبان ذلك في غير آية من كتابه، ولم يأمره بعزلتهم، وأنزل عليه - آيات في ذلك منها -
قوله: (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ)
مع أشياء كثيرة ذكرت في القرآن في غير موضع في مثل هذا المعنى.
 
٢ ‏/ ٧٩٣
 
قال الله ﷿: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (١٠٢)
الأم: اللعان:
قال الشَّافِعِي ﵀: أخبرنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن
عامر بن سعد، عن أبيه، أن النبي ﷺ قال:
«إن أعظم المسلمين في المسلمين جرمًا، من سأل عن شيء لم يُحَرَّم، فحُرِّم من أجل مسألته» الحديث.
وأخبرنا ابن عيينة، عن ابن شهاب، عن عامر بن سعد، عن أبيه، عن النبي ﷺ مثل معناه، قال الله ﷿:
(لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)
إلى قوله: (بِهَا كَافِرِينَ) الآيتان.
قال الشَّافِعِي ﵀: كانت المسائل فيها فيما لم ينزل - إذا كان الوحي
ينزل - بمكروه، لما ذكرت من قول الله ﵎، ثم قول رسوله ﷺ، وغيره فيما في معناه.
 
٢ ‏/ ٧٩٤
 
وفي معناه: كراهية لكم أن تسألوا عما لم يحرّم، فإن حرَّمه الله في كتابه، أو
على لسان رسوله ﷺ حُرِّم أبدًا، إلا أن ينسخ الله تحريمه في كتابه، أو ينسخ على لسان رسوله ﷺ سُنَّة بسُنة.
* * *
قال الله ﷿: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (١٠٣)
الأم: ما حرم المشركون على أنفسهم:
قال الشَّافِعِي ﵀: حرّم المشركون على أنفسهم من أموالهم أشياء، أبان
الله ﷿ أنها ليست حرامًا بتحريمهم، وقد ذكرتُ بعض ما ذكر اللَّه تعالى، منها، وذلك مثل: البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، كانوا يتركونها في الإبل والغنم كالعتق، فيحرمون ألبانها ولحومها ومِلكَها، وقد فسرته في غير هذا الموضع، فقال ﵎:
(مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ) الآية.
الأم (أيضًا): الخلاف في الصدقات المحرمات
قال الشَّافِعِي ﵀: قال الله ﷿: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ) الآية.
فهذه الحُبُسُ التي كان أهل الجاهلية يحبسونها، فأبطل
 
٢ ‏/ ٧٩٥
 
الله شروطهم فيها، وأبطلها رسول الله ﷺ بإبطال اللَّه إياها، وهي: أن الرجل كان يقول إذا نتج فحل إبله، ثم ألقح فأنتج منه، هو حام، أي: حمى ظهره، فيُحرّم ركوبه، ويجعل ذلك شبيهًا بالعتق له، ويقول في البحيرة والوصيلة على معنى يوافق بعض هذا، ويقول لعبده: أنت حر سائبة، لا يكون لي ولاؤك، ولا علي عَقَلُك.
قال: فهل قيل في السائبة غير هذا؟
فقلت: نعم، قيل: إنه أيضًا في البهائم:
قد سيَّبتك.
قال الشَّافِعِي ﵀: فلما كان العتق لا يقع على البهائم، ردَّ رسول الله ﷺ ملك البحيرة والوصيلة والحام إلى مالكه، وأثبت العتق وجعل الولاء لمن أعتق السائبة، وحكم له بمثل حكم النسب، ولم يحبس أهل الجاهلية - علمته - دارًا ولا أرضًا تبررًا بحبسها، وإنما حبس أهل الإسلام.
الأم (أيضًا): باب (المواريث):
قال الشَّافِعِي ﵀: كان أهل الجاهلية يُبحرون البحيرة، وُيسيبون السائبة، وُيوصلون الوصيلة، وُيعفون الحام، وهذه من الإبل والغنم، فكانوا يقولون في الحام: إذا ضرب في إبل الرجل عشر سنين، وقيل: نتج له عشرة (حام)، أي: حمى ظهره فلا يحلُّ أن يركب.
ويقولون في الوصيلة: هي من الغنم إذا وصلت بطونًا تومًا، ونتج
نتاجها، فكانوا يمنعونها مما يفعلون بغيرها مثلها.
 
٢ ‏/ ٧٩٦
 
وُيسيِّبون السائبة، فيقولون: قد أعتقناك سائبة، ولا ولاء لنا عليك، ولا
ميراث يرجع منك ليكون أكمل لتبررنا فيك، فأنزل الله ﷿:
(مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ) الآية.
فردَّ اللَّه، ثم رسوله ﷺ الغنم إلى
مالكها إذا كان العتق لا يقع على غير الآدميين، وكذلك لو أنَّه أعتق بعيره، لم يمنع بالعتق منه، إذا حكم اللَّه ﷿ أن يُرَد إليه ذلك، ويبطل الشرط فيه، فكذلك أبطل الشروط في السائبة، ورده إلى ولاء من أعتقه، مع الجملة التي وصفنا لك.
الأم (أيضًا): الخلاف (في الولاء):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقلت له - أي: للمحاور - قال اللَّه ﵎:
(مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ) الآية.
قال وما معنى هذا؟
قلت: سمعت من أرضى من أهل العلم يزعم أن الرجل كان يعتق عبده
في الجاهلية سائبة فيقول: لا أرثه، ويفعل في الوصيلة من الإبل، والحام أن لا يركب، فقال الله ﷿
(مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ) الآية.
على معنى ما جعلتم، فأبطل شروطهم فيها، وقضى أن الولاء لمن أعتق.
ورد البحيرة، والوصيلة، والحام إلى ملك مالكها؛ إذا كان العتق في حكم
الإسلام أن لا يقع على البهائم.
الأم (أيضًا): البحيرة والوصيلة والسائبة والحام:
أخبرنا الربيع بن سليمان ﵀ قال:
 
٢ ‏/ ٧٩٧
 
قال الشَّافِعِي ﵀: قال اللَّه ﵎: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ) الآية.
فلم يحتمل إلا ما جعل اللَّه ذلك نافذًا على ما جعلتموه، وهذا إبطال ما جعلوا منه على غير طاعة الله ﷿.
قال الشَّافِعِي ﵀: كانوا يبحرون البحيرة، ويسيبون السائبة، ويوصلون الوصيلة، ويحمون الحام، على غير معان، سُمِعت كثيرًا من طوائف العرب. ..
فكان مما حكوا مجتمعين على حكايته أن قالوا: البحيرة: الناقة تنتج بطونًا.
فيشق مالكها أذنها، ويخلِّي سبيلها، ويحلب لبنها في البطحاء، ولا يستجيزون الانتفاع بلبنها، ثم زاد بعضهم على بعض، فقال بعضهم: تنتج خمسة بطون فتبحر، وقال بعضهم: وذلك إذا كانت تلك البطون كلها إناثًا.
والسائبة: العبد يعتقه الرجل عند الحادث مثل البرء من المرض أو غيره من
وجوه الشكر، أو أن يبتدئ عتقه فيقول: قد أعتقتك سائبة.
يعنى سيبتك: فلا
تعود إليَّ ولا ليَ الانتفاع بولائك، كما لا يعود إليَّ الانتفاع بملكك.
وزاد بعضهم فقال: السائبة وجهان هذا أحدهما، والسائبة أيضا يكون من وجه آخر: وهو البعير ينجح عليه صاحبه الحاجة، أو يبتدئ الحاجة أن يسيبه فلا يكون عليه سبيل.
قال الشَّافِعِي ﵀: ورأيت مذهبهم في هذا كله فيما صنعوا أنَّه كالعتق.
قال: والوصيلة: الشاة تنتج الأبطن، فإذا ولدت آخر بعد الأبطن التي وقتوا لها، قيل: وصلت أخاها، وزاد بعضهم تنتج الأبطن الخمسة عَناقين عناقين في
 
٢ ‏/ ٧٩٨
 
كل بطن، فيقال: هذه وصلية تصل كل ذي بطن بأخ له معه.
وزاد بعضهم فقال: قد يوصلونها في ثلاثة أبطن، ويوصلونها في خمسة، وفي سبعة.
قال: والحام: الفحل يضرب في إبل الرجل عشر سنين، فيُخفى، ويقال: قد حمى هذا ظهره، فلا ينتفعون من ظهره بشيء.
وزاد بعضهم فقال: يكون لهم من صلبه، وما أنتج مما خرج من صلبه عشر من الإبل، فيقال: قد حمى هذا ظهره.
قال الشَّافِعِي ﵀: وأهل العلم من العرب أعلم بهذا ممن لقيت من
أهل التفسير. ..
وكان فعلهم يجمع أمورًا منها أمر واحد: ير في الأخلاق، وطاعة لله ﷿ في منفعته، ثم شرطوا في ذلك الشيء شرطًا ليس من البر، فأنفذ البِر، ورُد الشرط الذي ليس من البر، وهو: أنَّ أحدهم كان يعتق عبده سائبة، ومعنى يعتق سائبة:
هو أن يقول: أنت حر سائبة، فكما أخرجتك من ملكي وملكتك نفسك، فصار ملكك لا يرجع إليَّ بحال أبدًا، فلا يرجع إليَّ ولاؤك، كما لا يرجع إليَّ ملكك، فكان العتق جائزًا في كتاب اللَّه ﷿ بدأ فيه، ثم في سُنَّة رسول الله ﷺ، ثم عند عوام المسلمين، وكان الشرط بأن العتق سائبة لا يثبت ولاؤه لمعتقه شرطًا مبطلًا
في كتاب اللَّه ﵎ بقوله ﷿:
(مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ) الآية -
واللَّه تعالى أعلم - لأنَّا بينا أن قول اللَّه جل وعلا:
(وَلَا سَائِبَةٍ) لا يحتمل إلا معنيين:
أحدهما: أن العبد إذا أعتق سائبة لم يكن برًا، كما لم تكن البحيرة
والوصيلة والحام على ما جعل مالكها من تبحيرها وتوصيلها وحماية ظهورها.
فلما أبطل اللَّه جل ذكره شرط مالكها فيها، كانت على أصل ملك مالكها قبل أن يقول مالكها ما قال.
 
٢ ‏/ ٧٩٩
 
الأم (أيضًا): الخلاف في السائبة والكافر يعتق المؤمن:
قال الشَّافِعِي ﵀: ومن مختصر ما يدخل عليه في قول الله ﷿:
(مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ) الآية.
أنه لابد بحكم اللَّه ﵎ أن يبطل أمر السائبة كله، أو بعض أمره دون بعض؛ لأن اللَّه ﵎ قد ذكره مبطلًا
مع ما أبطل قبله وبعده من البحيرة والوصيلة والحام.
فإن قال: يبطل أمر السائبة كله فلا يجعل عتقه عتقًا، كما لا تجعل البحيرة
والوصيلة والحام خارجة عن ملك مالكيها، فهذا قول قد يحتمله سياق الآية.
ولكن اللَّه ﷿ قد فرق بين إخراج الآدميين من ملك مالكيهم، وإخراج البهائم، فأجزنا العتق في السائبة بما أجاز الله ﵎ من العتق، وأمر به منه، ولما أجزنا العتق في السائبة كنا مضطرين إلى أن نعلم أن الذي أبطل الله ﷿ من السائبة التسييب، وهو: إخراج العتق للسائبة ولاء السائبة من يديه، فلما أبطله
الله ﵎ كان ولاؤه للمعتق - بنص كتاب الله في رده ثم سنة نبي اللَّه ﷺ في أن الولاء للمعتق - مع دلائل الآي في كتاب اللَّه ﷿، فيما يُنسب فيه أصل الولاء إلى من أعتقهم.
الأم (أيضًا): تفر - البحيرة والسائبة والوصيلة والحام:
قال الشَّافِعِي ﵀: ولما قال الله ﷿:
(مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ) الآية.
فكان في قول الله ﷿ ْ (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ)
دلالة على ما جعل اللَّه، لا على ما جعلتم، وكان دليلًا على أن قضاء اللَّه
جل وعز ألا ينفذ ما جعلتم، وكانت البحيرة والوصيلة والحام من البهائم التي لا يقع عليها عتق، وكان مالكها أخرجها من ملكه إلى غير ملك آدمي مثله، وكانت
 
٢ ‏/ ٨٠٠
 
الأموال لا تملك شيئًا، إنما يملك الآدميون، كان المرء إذا أخرج من ملكة شيئًا إلى غير مالك من الآدميين بعينه أو غير عينه، كمن لم يخرج من ملكه شيئًا.
قال الشَّافِعِي ﵀: وإذا كانت البحيرة والوصيلة والسائبة والحام
نذرًا، فأبطلها اللَّه ﷿، ففي هذا لغيره دلالة، أن من نذر ما لا طاعة لله فيه لم يبر نذره، ولم يكفره؛ لأن اللَّه ﵎ أبطله ولم يذكر أن عليه فيه كفارة، والسنة عن رسول الله ﷺ قد جاءت بمثل الذي جاء به كتاب اللَّه ﵎.
قال الشَّافِعِي ﵀: أخبرنا مالك، عن طلحة بن عبد الملك الأيلي، عن
القاسم بن محمد، عن عائشة ﵂ أن النبي ﷺ قال: «من ندر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» الحديث.
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا ابن عيينة، وعبد الوهاب بن عبد المجيد، عن
أيوب بن أبي تميمة، عن أبي قِلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين ﵁ أن رسول اللَّه ﷺ قال:
«لا نذر في معصية، ولا فيما لا يملك ابن آدم» الحديث.
مناقب الشَّافِعِي: باب (ما يستدل به على معرفة الشَّافِعِي ﵀ بالجرح والتعديل):
أخبرنا أبو طاهر الفقيه، وأبو عبد اللَّه الحافظ، وأبو زكريا بن أبي إسحاق.
وأبو سعيد بن أبي عمرو قالوا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال:
سمعت محمد بن عبد اللَّه بن عبد الحكم يقول:
 
٢ ‏/ ٨٠١
 
سمعت الشَّافِعِي ﵀ يقول: قال «مالك ﵀»: الحُبُسُ الذي جاء
محمد ﷺ بإطلاقه هو الذي في كتاب الله تعالى:
(مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ) الآية.
قال محمد بن عبد الله: كلَّم به مالك أبا يوسف عند أمير المؤمنين - هارون الرشيد -.
* * *
قال الله ﷿: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ)
أحكام القرآن: ما يؤثر عن - الشَّافِعِي - في التفسير في آيات متفرقة سوى ما مضى:
قال الشَّافِعِي ﵀: في قوله ﷿: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) الآية، قال: هذا مثل قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ)
ومثل قوله ﷿:
(فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) .
ومثل هذا - في القرآن - على ألفاظ.
* * *
قال الله ﷿: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ)
وقال الله ﷿: (فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا)
 
٢ ‏/ ٨٠٢
 
وقال الله ﷿: (أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ)
الأم: تفريع ما يمنع من أهل الذمة:
قال الشَّافِعِي ﵀: فإن الله ﷿ يقول:
(شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ)
قرأ الربيع إلى: (فَيُقسِمَانِ بِاللَّهِ) الآية، فما معناه؟
قيل: - والله تعالى أعلم -.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أخبرنا أبو سعيد (معاذ بن موسى الجعفري)
عن بُكَير بن معروف، عن مقاتل بن حيان، قال بكير، قال مقاتل: أخذت هذا التفسير عن مجاهد، والحسن، والضحاك في قوله ﵎:
(اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) الآية.
أن رجلين نصرانيين من أهل دَارِين.
أحدهما: تميمي.
 
٢ ‏/ ٨٠٣
 
والآخر: يماني، صحبهما مولى لقريش في تجارة فركبوا البحر، ومع القرشي
مال معلوم، قد علمه أولياؤه من بين آنيةٍ، وبر، وَرِقةٍ، فمرض القرشي، فجعل وصية إلى الدارَييْنِ فمات، وقبض الداريان المال والوصية، فدفعاه إلى أولياء الميت، وجاءا ببعض ماله، وأنكر القوم قلة المال، فقالوا للدرايين إنّ صاحبنا قد خرج ومعه مال أكثر مما أتيتمانا به، فهل باع شيئًا، أو اشترى شيئًا فوضع فيه؟
أو هل طال مرضه فأنفق على نفسه؟
قالا: لا، قالوا: فإنكما خنتمانا، فقبضوا المال، ورفعوا أمرهما إلى رسول الله ﷺ فأنزل اللَّه ﷿:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) إلى آخر الآية.
فلما نزلت أن يحبسا من بعد الصلاة، أمر النبي ﷺ فقاما بعد الصلاة، فحلفا بالله رب السموات، ما ترك مولاكم من المال إلا ما أتيناكم به، وإنَّا لا نشتري بأيماننا ثمنًا قليلًا من الدنيا:
(وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ) الآية.
فلما حلفا خُلِّي سبيلهما، ثم إنهم وجدوا بعد ذلك
إناء من آنية الميت، فأخذوا الدارين فقالا: اشتريناه منه في حياته، وكذبا، فكُلفا البينة، فلم يقدرا عليها، فرفعوا ذلك إلى رسول الله ﷺ فأنزل اللَّه ﷿: (فَإِنْ عُثِرَ)
فيقول فإن أطُّلِعَ: (عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا) يعني الداريين، أي كتما
حقًا: (فَآخَرَانِ) من أولياء الميت:
(يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ)
فيحلفان بالله إن مال صاحبنا كان كذا وكذا.
وإن الذي نطلب قِبَل الداريين لَحَقٌّ: (وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ)
هذا قول الشاهدين أولياء الميت: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا)
يعني الداريين والناس.
 
٢ ‏/ ٨٠٤
 
قال الشَّافِعِي ﵀: من كان في مثل حال الدارين من الناس، ولا أعلم
الآية تحتمل معنى - غير حمله على ما قال، وإن كان لم يُوضح بعضه؛ لأن الرجلين اللذين كشاهدي الوصية، كانا أميني الميت، فيشبه أن يكون: إذا كان شاهدان منكم، أو من غيركم أمينين على ما شهدا عليه، فطلب ورثة الميت أيمانهما، أحْلِفَا بأنهما أمينان، لا في معنى الشهود.
فإن قال: فكيف تسمى في هذا الوضع شهادة؟
قيل كما سميت أيمان المتلاعنين شهادة، وإنما معنى شهادة بينكم، أيمان
بينكم إذا كان هذا المعنى - واللَّه تعالى أعلم -.
فإن قال قائل فكيف لم تحتمل الشهادة؟
قيل: ولا نعلم المسلمين اختلفوا في
أنه ليس على شاهد يمين، قبلت شهادته أو ردت، ولا يجوز أن يكون إجماعهم خلافاَِ لكتاب اللَّه ﷿، ويشبه قول اللَّه ﵎: (فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا) الآية.
يوجد - مالٌ - من مال الميت في أيديهما، ولم يذكرا قبل
وجوده أنه في أيديهما، فلما وجد ادعيا ابتياعه، فأحلف أولياء الميت على مال الميت، لما ادعيا حين وجد في أيديهما منه، وإنما أحلفوا أن الدارين أقرَّا بأنه مال الميت فصار مالًا من مال الميت بإقرارهما، وادعيا لأنفسهما شراءه، فلم تقبل دعواهما بلا بينة، فاحلف وارثاه على ما ادعيا، وإن كان أبو سعيد لم يبينه في حديثه هذا التبيين فقد جاء بمعناه:
قال الشَّافِعِي ﵀: وليس في هذا رد لليمين، إنَّما كانت يمين الدارين
على ادعاء الورثة من الخيانة، ويمين ورثة الميت على ما ادعى الداريان مما وجد في أيديهما، وأقرَّا أنه للميت، وأنه صار لهما من قبله، وإنما أجزنا رد اليمين من غير هذه الآية.
فإن قال قائل: فإن اللَّه ﷿ يقول:
(أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ)
فذلك - واللَّه تعالى أعلم - أن الإيمان كانت عليهم بدعوى الورثة، أنهم
 
٢ ‏/ ٨٠٥
 
اختانوا، ثم صار الورثة حالفين بإقرارهم، أن هذا كان للميت، وادعائهم
شراءه منه، فجاز أن يقال: أن ترد أيمان - بعد أيمانهم - تثنَّى عليهم الأيمان بما يجب عليهم، إن صارت لهم الأيمان، كما يجب على من حلف لهم، وذلك قول الله - والله أعلم -: (يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا) يحلفان كما أحلفا، وإذا كان هذا كما وصفت فليست هذه الآية بناسخة ولا منسوخة لأمر الله ﷿ بإشهاد ذوي عدل منكم، ومن نرضى من الشهداء.
الأم (أيضًا): باب (حد الذميين إذا زنوا):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ومن أجاز شهادة أهل الذمة فأعدَلَهم عنده
أعظمهم بالله شركًا، أسجدهم للصليب، وألزمهم للكنيسة، فقال قائل: فإن الله ﷿ يقول حين الوصية: (اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) الآية.
قال الشَّافِعِي ﵀: والله أعلم بمعنى ما أراد من هذا، وإنَّما يفسر ما
احتمل الوجوه ما دلت عليه سنة، أو أثر عن بعض أصحاب رسول الله ﷺ لا مخالف له، أو أمر اجتمعت عليه عوام الفقهاء، فقد سمعت من يتأول هذه الآية:
على من غير قبيلتكم من المسلمين، ويحتج فيها بقول اللَّه ﷿: (تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ)
إلى: (الْآثِمِينَ) الآية.
فيقول الصلاة للمسلمين، والمسلمون يتأثمون من كتمان الشهادة لله، فأما المشركون فلا صلاة لهم قائمة، ولا يتأثمون من كتمان الشهادة للمسلمين، ولا عليهم.
 
٢ ‏/ ٨٠٦
 
قال الشَّافِعِي ﵀: وسمعت من يذكر أنها منسوخة بقوله تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) - واللَّه أعلم -.
ورأيت مفتي أهل دار الهجرة والسنة يفتون أن لا تجوز شهادة غير المسلمين
العدول.
قال الشَّافِعِي ﵀: وذلك قولي -.
قال الشَّافِعِي ﵀: وقلت لمن يخالفنا في هذا فيجيز شهادة أهل الذمة
ما حجتك في إجازتها؟
فاحتج بقول اللَّه ﷿: (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) الآية.
قلت له إنما ذكر اللَّه جل ثناؤه هذه الآية في وصية مسلم في السفر، أفتجيزها في وصية مسلم بالسفر؟
قال: لا. قلت: أو تحلفهم إذا شهدوا؟ قال: لا.
قلت: ولِمَ وقد تأولت أنها في وصية مسلم؟
قال: لأنها منسوخة، قلت: فإن نسخت فيما أنزلت فيه فلِمَ تثبتها
فيما لم تنزل فيه؟
قال الشَّافِعِي ﵀: فإن احتج من يجيز شهادتهم بقول اللَّه ﷿: (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) الآية، فقال: من غير أهل دينكم، فكيف لم تجزها فيما ذكرت فيه من الوصية على المسلمين في السفر؟
الأم (أيضًا): المدّعى والمدَّعَى عليه:
قال الشَّافِعِي ﵀: فرجع بعضهم إلى قولنا، فقال: لا تجوز شهادة أهل
الذمة.
وقال: القرآن يدل على ما قلتم، وأقام أكثرهم على إجازتها، فقلت له:
لو لم يكن عليكم حجة فيما ادعيتم في الآيتين إلا إجازة شهادة أهل الذمة كنتم
 
٢ ‏/ ٨٠٧
 
محجوجين، ليس لكم أن تتألوا على أحد ما قلتم؛ لأنكم خالفتموه، وكنتم أولى بخلافٍ ظاهر ما تأولتم من غيركم.
قال: فإنما أجزنا شهادة أهل الذمة بآية أخرى، قلنا: وما هي؟
قال: قول الله ﷿: (حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) الآية.
فقلت له: أناسخة هذه الآية عندك لـ: (شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ)
أو منسوخة بها؛ قال ليست بناسخة ولا منسوخة، ولكن كل فيما نزل فيه. قلت: فقولك إذًا لا يجوز إلا الأحرار المسلمون ليس كما قلت.
قال: فأنت تقول بهذا؟
قلت: لست أقول به، بل سمعت من أرضى يقول فيه غير ما قلت.
قال: فإنا نقول هي في المشركين.
فقلت: فقل هي في جماعة المشركين أهل الأوثان وغيرهم؛ لأن
كلهم مشرك، وأجِزْ شهادة بعضهم لبعض.
قال: لا. قلت: ممن قال هي في أهل الكتاب خاصة؟!.
قال الشَّافِعِي ﵀: قلت قول الله ﷿: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) الآية.
وقوله: (حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) الآية.
فشَرَطَ العدل في هاتين الآيتين.
الأم (أيضًا): باب (اليمين مع الشاهد):
قال الشَّافِعِي ﵀: والحجة فيما وصفتُ من أن يُستحلف الناس فيما بين
البيت والمقام، وعلى منبر رسول الله ﷺ، وبعد العصر قول اللَّه ﷿: (تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ) قال المفسرون: هي صلاة العصر.
 
٢ ‏/ ٨٠٨
 
الأم (أيضًا): باب (رد اليمين):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقد قال اللَّه ﷿ (تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ) الآية.
وقال اللَّه ﷿: (فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ)
فبهذا وما أدركنا عليه أهل العلم ببلدنا يحكونه عن مفتيهم وحكامهم
قديمًا وحديثًا قلنا: برد اليمين.
الأم (أيضًا): الحكم بين أهل الكتاب:
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال تعالى: (حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ)
فلم يختلف المسلمون أن شرط اللَّه في الشهود: المسلمين، الأحرار.
العدول، إذا كانت المعاني في الخصومات التي يتنازع فيها الآدميون معينة، وكان فيما تداعوا الدماء والأموال وغير ذلك، لم ينبغ أن يباح ذلك إلا بما شرط اللَّه من البينة، وشَرْطُ الله: المسلمين، أو بسنة رسول الله ﷺ، أو إجماع من المسلمين.
الأم (أيضًا): باب (شرط الذين تقبل شهادتهم):
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه ﷿:
(اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) الآية.
وقال ﷿: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) الآية.
 
٢ ‏/ ٨٠٩
 
قال الشَّافِعِي ﵀: وكان الذي يعرفِ من خوطب بهذا أنه أريد به
الأحرار، المرضيون، المسلمون من قبل أن رجالنا، ومن نرضاه من أهل ديننا لا المشركون، لقطع اللَّه الولاية بيننا وبينهم بالدين، ورجالنا أحرارنا، والذي نرضى أحرارنا لا مماليكنا، الذين يغلبهم من يملكهم على كثير من أمورهم، وأنا لا نرضى أهل الفسق منا.
وأن الرضا إنما يقع على العدل منا، ولا يقع إلا على
البالغين؛ لأنه إنما خوطب بالفرائض البالغون دون من لم يبلغ.
اختلاف الحديث: باب (الدعوى والبينات):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال اللَّه تعالى في الوصية: (اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ)
فكان حكمه أن تقبل الوصية باثنين، وكذلك يقبل في الحدود وجميع
الحقوق اثنان، في غير الزنا.
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في القضايا والشهادات:
قال الشَّافِعِي ﵀: فذكر الله ﷿ شهود الزنا، وذكر شهود الطلاق والرجعة، وذكر شهود الوصية.
يعني: في قوله تعالى: (اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ)
فلم يذكر معهم امرأة.
مناقب الشَّافِعِي: باب (ما يستدل به على معرفة الشَّافِعِي ﵀ بأصول
الفقه):
قال الشَّافِعِي ﵀: وقال تعالى حين الوصية: (اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ)
وشَرطُ العدل واجتماعهما في أنهما شهادة، يدل على ألَّا تقبل فيها إلا
العدول - وبسط الكلام فيه -.
 
٢ ‏/ ٨١٠
 
آداب الشَّافِعِي ومناقبه باب (في الأحكام):
قال الشَّافِعِي ﵀: في قوله - تعالى -: (شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ) إلى آخر الآية / ١٠٨، معنى الشهادة هاهنا، إنما هي: الحلف، كما قال: (فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ) .
وليس: بالشهادة التي تشهد، إنما هي: تداع في حقوق، فليس لها معنى إلا الأيمان على من ادُّعِيَ عليه.
 
٢ ‏/ ٨١١
 

عن الكاتب

Tanya Ustadz

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية