الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

المبحث السادس ـ هل تجب الزكاة في العمارات والمصانع، وكسب العمل والمهن الحرة؟

 

هل تجب الزكاة في العمارات والمصانع، وكسب العمل والمهن الحرة؟

ا سم الكتاب الفِقْهُ الإسلاميُّ وأدلَّتُهُ الشَّامل للأدلّة الشَّرعيَّة والآراء المذهبيَّة وأهمّ النَّظريَّات الفقهيَّة وتحقيق الأحاديث النَّبويَّة وتخريجها
اسم المؤلف: د. وَهْبَة بن مصطفى الزُّحَيْلِيّ
المهنة:أستاذ ورئيس قسم الفقه الإسلاميّ وأصوله بجامعة دمشق - كلّيَّة الشَّريعة
الوفاة     8 أغسطس 2015 الموافق 23 شوال 1436 هـ
عدد الأجزاء: 10
التصنيف: الفقه المقارن

 المحتويات 

  1.  المبحث السادس ـ هل تجب الزكاة في العمارات والمصانع، وكسب العمل والمهن الحرة؟
  2.     -المطلب الأول ـ زكاة العمارات والمصانع ونحوها
  3.     -المطلب الثاني ـ زكاة كسب العمل والمهن الحرة
  4. المبحث السابع ـ مصارف الزكاة
  5. المطلب الأول ـ من هم مستحقو الزكاة؟
  6.     -أولا ـ دليل تحديدهم
  7. ثانيا ـ هل يجب تعميم الأصناف الثمانية؟
  8.     -الفقراء
  9. ثالثا ـ بيان الأصناف الثمانية
  10.     -المساكين
  11.     -العاملون عليها
  12.     -المؤلفة قلوبهم
  13.     -في الرقاب
  14.     -الغارمون
  15.     -في سبيل الله
  16.     -ابن السبيل
  17. -رابعا ـ هل تعطى الزكاة لغير هذه الأصناف؟
  18. -خامسا ـ مقدار ما يعطى لمستحقي الزكاة
  19. -سادسا ـ من سأل الزكاة وكان غير مستحق
  20. سابعا ـ شروط المستحقين أو أوصافهم
  21.         ١ - أن يكون فقيرا
  22.             -الإعلام بكون المدفوع زكاة
  23.             -إذا ظهر كونه غنيا أو غير مستحق
  24.         -٢ - أن يكون مستحق الزكاة مسلما
  25.         -٣ - ألا يكون المستحق من بني هاشم
  26.         -٤ - ألا يكون ممن تلزم المزكي نفقته
  27.         -٥ - أن يكون بالغا عاقلا حرا
  28. المطلب الثاني ـ أحكام متفرقة في توزيع الزكاة
  29.     -أولا ـ دفع الزكاة إلى الإمام وإخراج الإنسان زكاة نفسه
  30.     -ثانيا ـ التوكيل في أداء الزكاة
  31.     -ثالثا ـ شرط المال المؤدى
  32.     -رابعا ـ نقل الزكاة لبلد آخر غير بلد المزكي
  33.     -خامسا ـ أخذ البغاة والخوارج الزكاة
  34.     -سادسا ـ الحيلة لإسقاط الزكاة
  35.     -سابعا ـ هل تجزئ الضريبة المدفوعة للدولة عن الزكاة؟
  36.     -ثامنا ـ حكم من مات وعليه زكاة أمواله، أو هل تسقط الزكاة بالموت؟
  37.     -تاسعا ـ إسقاط الدين لا يقع عن الزكاة
  38. عاشرا ـ الإبراء من الدين على مستحق الزكاة واحتسابه منها واعتبار ما أخرج، على ظن الوجوب، زكاة معجلة
  39.             آراء العلماء في الإبراء من الدين واحتسابه من الزكاة
  40.                 -الرأي الأول
  41.                 -الرأي الثاني
  42.                 -الترجيح
  43. -المبحث الثامن ـ آداب الزكاة وممنوعاتها
  44. مبحثان ملحقان بمصارف الزكاة
  45. - سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة
  46.     -المؤلفة قلوبهم
  47.     ١ - معنى المؤلفة قلوبهم، وهل نسخ سهمهم بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم، أو مازال باقيا لم ينسخ؟
  48.         -الحنفية
  49.         -بعض المالكية
  50.         -الشافعية
  51.         -الحنابلة
  52.         -الشيعة الجعفرية والزيدية
  53.         -الراجح
  54.     -٢ - الأحوال التي يستعمل فيها هذا السهم، ومدى حاجة الإسلام والمسلمين إليه في هذا الزمان
  55.     -٣ ـ تأليف قلوب الأفراد الذين يؤمل إسلامهم أو تأثيرهم في توجيه المجتمع لصالح الدعوة الإسلامية
  56.     -٤ - استخدام هذا المصرف في إيجاد مؤسسات لرعاية المسلمين الجدد
  57.     -٥ - تأليف قلوب بعض الحكومات والدول غير الإسلامية
  58.     -٦ - المشاركة في سهم المؤلفة قلوبهم في التبرعات التي تجمع للكوارث والنكبات التي تصيب بعض الدول غير الإسلامية كالزلازل والفيضانات
  59.     -٧ - صرف جزء من سهم المؤلفة قلوبهم في الأمور الدعائية لتحسين النظرة إلى الإسلام والمسلمين
  60. - مصرف الزكاة (في الرقاب)
  61.     -١ - معنى في الرقاب
  62.     -٢ - غياب الرق في العصر الحالي
  63.     -٣ - السوابق التاريخية في العهود الإسلامية لاستخدام هذا المصرف في غير المكاتبين
  64. ٤ - من مصارف «في الرقاب» في هذا الزمان «فكاك الأسرى» وتفصيل المذاهب الفقهية في سهم «في الرقاب»
  65.     -آراء العلماء في بيان المقصود من الرقاب بصفة عامة
  66.     -تفصيل المذاهب الفقهية في سهم «في الرقاب» وأدلتهم
  67.                 أدلة المذاهب
  68.                     -أدلة الاتجاه الأول للحنفية والشافعية ومن وافقهم من السلف
  69.                     -أدلة الاتجاه الثاني للمالكية والحنابلة ومن وافقهم من السلف
  70.                 -الرأي الراجح
  71.             -٥ - التطبيق الأصلي لهذا المصرف في إعانة المكاتب لتحرير نفسه من الرق
  72.             -٦ - هل تعطى الشعوب الإسلامية التي تئن تحت وطأة الحكومات الكافرة لتحرير نفسها من الاحتلال الذي تخضع له؟
  73.             -خاتمة البحث
  74.  العودة إليي الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي

 المبحث السادس - هل تجب الزكاة في العمارات والمصانع، وكسب العمل والمهن الحرة؟
أوضحت في بحث زكاة النقود حكم زكاة الأسهم والسندات، ويخصص هذا المبحث لزكاة الدخل أو المورد الذي يحصل عليه الإنسان من طريق المباني المؤجرة والمعامل الصناعية، والأعمال والمهن الحرة. وفيه مطلبان:

المطلب الأول - زكاة العمارات والمصانع ونحوها:
اتجه رأس المال في الوقت الحاضر لتشغيله في نواحٍ من الاستثمارات غير الأرض والتجارة، وذلك عن طريق إقامة المباني أو العمارات بقصد الكراء، والمصانع المعدة للإنتاج، ووسائل النقل من طائرات وبواخر (سفن) وسيارات، ومزارع الأبقار والدواجن وتشترك كلها في صفة واحدة هي أنها لا تجب الزكاة في عينها وإنما في ريعها وغلتها أو أرباحها.
وبالرغم من أن جمهور فقهائنا لم ينصوا على وجوب الزكاة في هذا النوع من المستغلات، وقالوا: لا زكاة في دور السكنى وأثاث المنزل وأدوات الحرفة ودواب الركوب، كما ذكرت سابقًا، فإني أرى ضرورة الزكاة في غلة العقارات بشروطها الآتية، لوجود علة وجوب الزكاة فيها وهي النماء، والحكم يدورمع علته وجودًا وعدمًا، ولتوفر حكمة تشريع الزكاة فيها أيضًا وهي التزكية والتطهير لأرباب المال أنفسهم، ومواساة المحتاجين، والمساهمة في القضاء على الفقر الذي يشغل أنظمة العالم الحاضرة.
وقد قرر مؤتمر علماء المسلمين الثاني ومؤتمر البحوث الإسلامية الثاني عام ١٣٨٥هـ /١٩٦٥ م: أن الأموال النامية التي لم يرد نص ولا رأي فقهي بإيجاب الزكاة فيها حكمها كالآتي:
 
لا تجب الزكاة في أعيان العمائر الاستغلالية والمصانع والسفن والطائرات وما أشبهها، بل تجب في صافي غلتها عند توافر شروط النصاب، وحولان الحول.
ومقدار الزكاة: هو ربع العشر في نهاية الحول، أي ربع عشر صافي الغلة في نهاية الحول (أي ٥،٢%) كزكاة التجارة والنقود. وفي الشركات لا ينظر إلى مجموع أرباح الشركات، وإنما ينظر إلى ما يخص كل شريك على حدة.
وهذا القرار يتفق مع المروي عن الإمام أحمد الذي يرى أنه تزكى هذه المستغلات من غلتها وإيرادها، ومع رأي بعض المالكية الذين يرون تزكية فوائد المستغلات عند
قبضها (١).
ويرى ابن عقيل الحنبلي والهادوية من الزيدية وجوب الزكاة في المستغل من كل شيء لأجل الاستغلال، فيشمل العقار المعد للكراء، وكل سلعة تؤجر وتعد للإجارة أي يقوم رأس المال في كل عام ويزكى زكاة التجارة (٢).

المطلب الثاني - زكاة كسب العمل والمهن الحرة:
العمل: إما حر غير مرتبط بالدولة كعمل الطبيب والمهندس والمحامي والخياط والنجار وغيرهم من أصحاب المهن الحرة.
وإما مقيد مرتبط بوظيفة تابعة للدولة أو نحوها من المؤسسات والشركات العامة أو الخاصة، فيعطى الموظف راتبًا شهريًا كما هو معروف. والدخل الذي يكسبه كل من صاحب العمل الحر أو الموظف ينطبق عليه فقهًا وصف «المال المستفاد» (٣).
(١) المغني:٢٩/ ٣،٤٧، شرح الرسالة:٣٢٩/ ١.
(٢) بدائع الفوائد لابن القيم: ١٤٣/ ٣، البحر الزخار: ١٤٧/ ٢.
(٣) انظر فقه الزكاة للدكتور يوسف القرضاوي: ٤٨٧/ ١ - ٢٥٠.
 
والمقرر في المذاهب الأربعة أنه لا زكاة في المال المستفاد حتى يبلغ نصابًا ويتم حولًا، ويزكى في رأي غير الشافعية المال المدخر كله ولو من آخر لحظة قبل انتهاء الحول بعد توفر أصل النصاب.
ويمكن القول بوجوب الزكاة في المال المستفاد بمجرد قبضه، ولو لم يمض عليه حول، أخذًا برأي بعض الصحابة (ابن عباس وابن مسعود ومعاوية) وبعض التابعين (الزهري والحسن البصري ومكحول) ورأي عمر بن عبد العزيز، والباقر والصادق والناصر، وداود الظاهري. ومقدار الواجب: هو ربع العشر، عملًا بعموم النصوص التي أوجبت الزكاة في النقود وهي ربع العشر، سواء حال عليها الحول، أم كانت مستفادة. وإذا زكى المسلم كسب العمل أو المهنة عند استفادته أو قبضه لايزكيه مرة أخرى عند انتهاء الحول.
وبذلك يتساوى أصحاب الدخل المتعاقب مع الفلاح الذي تجب عليه زكاة الزروع والثمار بمجرد الحصاد والدياس.

المبحث السابع - مصارف الزكاة:
فيه مطلبان: الأول - مستحقو الزكاة، والثاني - أحكام متفرقة في توزيع الزكاة.

المطلب الأول - من هم مستحقو الزكاة؟ أولًا - دليل تحديدهم: نصت الآية القرآنية ٦٠ من سورة التوبة على أصناف ثمانية تستحق الزكاة وهي قوله تعالى: ﴿إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة
 
قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل، فريضة من الله، والله عليم حكيم﴾ [التوبة:٦٠/ ٩] فدلت على أنه تصرف الزكاة إلى الأصناف الثمانية.
وروى الجماعة عن ابن عباس أن النبي ﷺ قال لمعاذ بن جبل حينما بعثه إلى اليمن «.. فإن هم أطاعوك لذلك - أي الإقرار بوجوب الزكاة عليهم - فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم ..» دل على أن الزكاة تؤخذ من قبل الإمام من أغنياء المسلمين، وتصرف في فقرائهم، وكونها في فقرائهم استدل به لمذهب مالك وغيره بأنه يكفي إخراج الزكاة في صنف واحد.

ثانيًا - هل يجب تعميم الأصناف الثمانية؟ قال الشافعية (١): يجب صرف جميع الصدقات الواجبة سواء الفطرة وزكاة الأموال إلى ثمانية أصناف، عملًا بالآية الكريمة ﴿إنما الصدقات ..﴾ [التوبة:٦٠/ ٩] أضافت الآية جميع الصدقات إلى هذه الأصناف بلام التمليك، وشركت بينهم بواو التشريك، فدلت على أن الصدقات كلها مملوكة لهم، مشتركة بينهم. فإن كان الذي يفرق الزكاة هو الإمام، قسمها على ثمانية أسهم، منها سهم العامل، وهو أول ما يبدأ به؛ لأنه يأخذه على وجه العوض، وأما غيره فيأخذه على وجه المواساة. وإن كان مفرق الزكاة هو المالك أو وكيله سقط نصيب العامل، وصرفت إلى الأصناف السبعة الباقية إن وجدوا، وإلا فللموجودين منهم، والمستحب أن يعم كل صنف إن أمكن، ولا يجوز أن يصرف لأقل من ثلاثة من كل صنف؛ لأن أقل الجمع ثلاثة، فإن دفع لاثنين ضمن نصيب الثالث إلا العامل، فإنه يجوز أن يكون واحدًا إن حصلت به الكفاية.
(١) المهذب:١٧٠/ ١ - ١٧٣، حاشية الباجوري: ٢٩١/ ١ - ٢٩٤، مغني: ١١٦/ ٣ ومابعدها.
 
والغالب وجوده الآن في البلاد أربعة: الفقير والمسكين والغارم وابن السبيل. وأجاز جمع من الشافعية دفع زكاة الفطر لثلاثة فقراء أو مساكين، واختار الرُّوياني من الشافعية صرف الزكاة إلى ثلاثة من أهل السهمان، قال: وهو الاختيار من حيث الفتوى لتعذر العمل بمذهبنا.
ومذهب الجمهور (الحنفية والمالكية والحنابلة) (١): جواز صرف الزكاة إلى صنف واحد، وأجاز الحنفية والمالكية صرفها إلى شخص واحد من أحد الأصناف. وندب عند المالكية صرفها إلى المضطر أي أشدهم حاجة على غيره. ويستحب صرفها في الأصناف الثمانية خروجًا من الخلاف وتحصيلًا للإجزاء يقينًا، ولا يجب الاستيعاب.
ودليلهم أن الآية تعني عدم جواز صرفها لغير هذه الأصناف، وأما فيهم فهي تدل على التخيير، أي إنها لبيان الأصناف التي يجوز الدفع إليهم، لا لتعيين الدفع فيهم.

وأما دليل جواز الاقتصار على شخص واحد من أحد الأصناف فهو أن الجمع المعرف بأل «الفقراء ..» ينبغي حملها على المجاز، وهو جنس الفقير، الذي يتحقق بواحد، لتعذر حملها على الحقيقة: وهو الاستغراق، أي الشمول لجميع الفقراء، إذ يصير المعنى أن كل صدقة لكل فقير، وهو غير معقول.
ثالثًا - بيان الأصناف الثمانية: مستحقو الزكاة هم ثمانية أصناف: وهم الفقراء والمساكين والعاملون عليها،
(١) الكتاب مع اللباب: ١٥٦/ ١، فتح القدير: ١٤/ ٢، البدائع: ٤٦/ ٢، الدر المختار: ٨٤/ ٢، القوانين الفقهية: ص١١٠ ومابعدها، بداية المجتهد: ٢٦٧/ ١، المغني: ٦٦٨/ ٢، الشرح الصغير: ٦٦٤/ ١، كشاف القناع: ٣٣٥/ ٢ ومابعدها.
 
والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمون، وفي سبيل الله، وابن السبيل (١).
١ - أما الفقراء: أصحاب السهم الأول: فهم جمع فقير، والفقير في رأي الشافعية والحنابلة: هو من ليس له مال ولا كسب يقع موقعًا من كفايته، أو حاجته. فليس له زوج ولا أصل ولا فرع يكفيه نفقته، ولا يحقق كفايته مطعمًا وملبسًا ومسكنًا كمن يحتاج إلى عشرة ولا يجد إلا ثلاثة، حتى وإن كان صحيحًا يسأل الناس أو كان له مسكن وثوب يتجمل به.

٢ - وأما المساكين أصحاب السهم الثاني فهم جمع مسكين: والمسكين: هو الذي يقدر على كسب ما يسد مسدًا من حاجته، ولكن لا يكفيه، كمن يحتاج إلى عشرة وعنده ثمانية لا تكفيه الكفاية اللائقة بحاله من مطعم وملبس ومسكن.
فالفقير عند الشافعية والحنابلة: أسوأ حالًا من المسكين، فالفقير: هو من لا مال له ولا كسب أصلًا، أو كان يملك أو يكتسب أقل من نصف ما يكفيه لنفسه ومن تجب عليه نفقته (ممونه) من غير إسراف ولا تقتير. والمسكين: هو من يملك أو يكتسب نصف ما يحتاجه فأكثر، ولكن لم يصل إلى قدر كفايته. والمراد بالكفاية في حق المكتسب: كفاية يوم بيوم، وفي حق غيره: ما بقي من عمره الغالب وهو اثنان وستون سنة.
ودليلهم على أن الفقير أسوأ حالًا من المسكين: بداءة الله تعالى بذكر الفقراء، وإنما يبدأ عادة بالأهم فالأهم. وقال تعالى: ﴿أما السفنية فكانت لمساكين
(١) البدائع: ٤٣/ ٢ - ٤٦، الدر المختار: ٧٩/ ١ - ٨٤، فتح القدير: ١٤/ ٢ - ٢٠، الشرح الكبير: ٤٩٢/ ١ - ٤٩٧، الشرح الصغير: ٦٥٧/ ١ - ٦٦٤، بداية المجتهد: ٢٦٦/ ١ - ٢٦٩، القوانين الفقهية: ص١٠٩ - ١١١، المهذب: ١٧٠/ ١ - ١٧٣، كشاف القناع: ٣١٦/ ٢ - ٣٣٢، المغني: ٦٦٥/ ٢ ومابعدها.
 
يعملون في البحر﴾ [الكهف:٧٩/ ١٨] فأخبر أن لهم سفينة يعملون فيها، وقد سأل النبي المسكنة واستعاذ من الفقر، فقال: «اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين» (١)، ولا يجوز أن يسأل شدة الحاجة، ويستعيذ من حالة أصلح منها. ولأن الفقير هو المفقور لغة: وهو الذي نزعت فقرة من فقار ظهره، فانقطع صلبه.
وقال الحنفية والمالكية: المسكين أسوأ حالًا من الفقير، كما نقل عن بعض أئمة اللغة، ولقوله تعالى: ﴿أو مسكينًا ذا متربة﴾ [البلد:١٦/ ٩٠] أي ألصق جلده بالتراب ليواري به جسده، مما يدل على غاية الضرر والشدة (٢)، ولأن المسكين: هو الذي يسكن حيث يحل، لأنه لا مسكن له، مما يدل على شدة الضرر والبؤس.

٣ - والصنف الثالث ـ العاملون عليها: وهم السعاة لجباية الصدقة، ويشترط فيهم العدالة والمعرفة بفقه الزكاة، ويدخل العاشر والكاتب وقاسم الزكاة بين مستحقيها وحافظ المال، والحاشر: الذي يجمع أرباب الأموال، والعريف: الذي يعرف أرباب الاستحاق. وعدّاد المواشي والكيال والوزان والراعي، وكل من يحتاج إليه في الزكاة لدخولهم في مسمّى «العامل» غير قاض ووال لاستغنائهما بمالهما في بيت المال. أما أجرة الكيل والوزن في حال تسليم الزكاة من المالك ومؤنة دفعها، فعلى المالك؛ لأن تسليمها عليه، فكذلك مؤنته. أما مؤنة ذلك حال الدفع إلى جباة الزكاة، فمن سهم العمال.
(١) رواه الترمذي.
(٢) ناقشهم الفريق الأول بأنه يجوز التعبير عن الفقير بالمسكين مطلقًا، وأن هذا النعت لا يستحقه بإطلاق اسم المسكنة. وناقش الفريق الثاني استدلال الأولين بآية السفينة بأنه قيل لهم: مساكين ترحمًا.
 
والذي يعطى للعامل: هو بمثابة الأجرة على العمل، فيعطاها ولو كان غنيًا، أما لو اعتبرت زكاة أو صدقة لما حلت للغني.

٤ - والصنف الرابع ـ المؤلفة قلوبهم: منهم ضعفاء النية في الإسلام، فيعطون ليتقوى إسلامهم. وهم نوعان: مسلمون وكفار.
أما الكفار فصنفان: صنف يرجى خيره، وصنف يخاف شره. وقد ثبت أن النبي ﷺ أعطى قومًا من الكفار، يتألف قلوبهم ليسلموا، ففي صحيح مسلم: أنه ﷺ أعطى أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس، وعباس بن مرداس، كل إنسان منهم مئة من الإبل. وأعطى أيضًا علقمة ابن علاثة من غنائم حنين (١).
واختلف العلماء في إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة حال كونهم كفارًا، فقال الحنابلة والمالكية: يعطون ترغيبًا في الإسلام؛ لأن النبي ﷺ «أعطى المؤلفة من المسلمين والمشركين».
وقال الحنفية والشافعية: لا يعطى الكافر من الزكاة لا لتأليف ولا لغيره، وقد كان إعطاؤهم في صدر الإسلام في حال قلة عدد المسلمين وكثرة عدوهم، وقد أعز الله الإسلام وأهله، واستغنى بهم عن تألف الكفار، ولم يعطهم الخلفاء الراشدون بعد رسول الله ﷺ، قال عمر ﵁: «إنا لا نعطي على الإسلام شيئًا، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر».
وأما المسلمون من المؤلفة: فهم أصناف يعطون بسبب احتياجنا إليهم:
١ - ضعفاء النية في الإسلام: يعطون ليتقوى إسلامهم.
(١) نيل الأوطار: ١٦٦/ ٤.
 
٢ - الشريف المسلم في قومه الذي يتوقع بإعطائه إسلام نظرائه، فقد أعطى النبي ﷺ أبا سفيان بن حرب وجماعة ممن ذكر، وأعطى الرسول ﷺ الزبرقان بن بدر وعدي بن حاتم، لشرفهما في قومهما.
٣ - المقيم في ثغر في ثغور المسلمين المجاورة للكفار، ليكفينا شر من يليه من الكفار بالقتال.
٤ - من يجبي الصدقات من قوم يتعذر إرسال ساع إليهم، وإن لم يمنعوها. وقد ثبت أن أبا بكر أعطى عدي بن حاتم حين قدم عليه بزكاته وزكاة قومه عام الردة.
وقد اختلف العلماء في بقاء سهم المؤلفة قلوبهم بعد النبي ﷺ: فقال الحنفية ومالك: قد سقط سهم المؤلفة بانتشار الإسلام وغلبته؛ لأن الله تعالى أعز الإسلام، وأغنى عنهم وعن استمالتهم إلى الدخول فيه. فيكون عدد الأصناف سبعة لا ثمانية، وذلك بإجماع الصحابة. قال مالك: لا حاجة إلى المؤلفة الآن لقوة الإسلام.
وقال الجمهور منهم خليل من المالكية: حكم المؤلفة باق لم ينسخ، فيعطون عند الحاجة، ويحمل ترك عمر وعثمان وعلي إعطاءهم: على عدم الحاجة إلى إعطائهم في خلافتهم، لا لسقوط سهمهم، فإن الآية من آخر ما نزل، وأعطى أبو بكر عدي بن حاتم والزبرقان بن بدر، كما ذكرت، ولأن المقصود من دفعها إليهم ترغيبهم في الإسلام لأجل إنقاذ مهجهم من النار، لا لإعانتهم لنا حتى يسقط بفشو الإسلام.
 
٥ - والصنف الخامس ـ في الرقاب: وهم عند الحنفية والشافعية: المكاتبون (١) المسلمون الذي لا يجدون وفاء ما يؤدون، ولو مع القوة والكسب؛ لأنه لا يمكن الدفع إلى الشخص الذي يراد فك رقبته إلا إذا كان مكاتبًا، ولو اشتري بالسهم عبيد، لم يكن الدفع إليهم، وإنما هو دفع إلى سادتهم، ولم يتحقق التمليك المطلوب في أداء الزكاة، ويؤكده قوله تعالى: ﴿وآتوهم من مال الله الذي آتاكم﴾ [النور:٣٣/ ٢٤] وفسر ابن عباس «في الرقاب» بأنهم المكاتبون.
وقال المالكية والحنابلة: يشترى بسهمهم رقيق، فيعتق؛ لأن كل موضع ذكرت فيه الرقبة، يراد بها عتقها، والعتق والتحرير لا يكون إلا في القن (العبد الخالص العبودية) كما في الكفارات.
وشرط إعطاء المكاتب هو كونه مسلمًا، محتاجًا.
وبما أنه لا يوجد الآن في العالم رقيق، لإلغائه وتحريمه دوليًا، فإن هذا السهم لا وجود له حقيقة، وما قد يوجد ليس له طريق شرعي جائز.

٦ - والصنف السادس ـ الغارمون: وهم المدينون، سواء استدان المدين عند الشافعية والحنابلة لنفسه أم لغيره، وسواء أكان دينه في طاعة أم معصية. فإن استدان لنفسه لم يعط إلا إذا كان فقيرًا، وإن استدان لإصلاح ذات البين ولو بين أهل ذمة، بسبب إتلاف نفس أو مال أو نهب، فيعطى من سهم الغارمين، ولو كان غنيًا، لقوله ﷺ: «لا تحل الصدقة لغني إلا خمسة: لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليهم، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل له جار مسكين، فتصدق على المسكين، فأهدى المسكين إليه» (٢).
(١) المكاتب: من كاتبه سيده على أقساط معينة، فإذا وفاها صار حرًا. والكتابة مندوبة لقوله تعالى: ﴿فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا﴾ [النور:٣٣/ ٢٤] من أجل تحرير الرقاب.
(٢) رواه أبو داود وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري ﵁.
 
وقال الحنفية: الغارم: من لزمه دين، ولا يملك نصابًا فاضلًا عن دينه. وقال المالكية: الغارم: هو من فدحه الدين للناس في غير سفه ولا فساد، أي من ليس عنده ما يوفي به دينه، إذا كان الدين في غير معصية كشرب خمر وقمار، ولم يستدن لأخذ الزكاة، كأن يكون عنده ما يكفيه وتوسع في الإنفاق بالدين لأجل أن يأخذ من الزكاة، فلا يعطى منها؛ لأنه قصد مذموم، بخلاف فقير استدان للضرورة، ناويًا الأخذ من الزكاة، فإنه يعطى قدر دينه منها لحسن قصده.
لكن إن تاب من استدان لمعصية، أو بقصد ذميم، فإنه يعطى على الأحسن.

٧ - والصنف السابع - في سبيل الله: وهم الغزاة المجاهدون الذين لا حق لهم في ديوان الجند؛ لأن السبيل عند الإطلاق هو الغزو، ولقوله تعالى: ﴿إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا﴾ [الصف:٤/ ٦١] وقوله: ﴿وقاتلوا في سبيل الله﴾ [البقرة:١٩٠/ ٢] وغير ذلك، فيدفع إليهم لإنجاز مهمتهم وعونهم ولو كانوا عند الجمهور أغنياء؛ لأنه مصلحة عامة. وأما من له شيء مقدر في الديوان فلا يعطى؛ لأن من له رزق راتب يكفيه، فهو مستغن به.
لكن لا يحج أحد بزكاة ماله، ولا يغزو (يجاهد) بزكاة ماله، ولا يُحَج بها عنه، ولا يُغْزى بها عنه لعدم الإيتاء المأمور به.
وقال أبو حنيفة: لا يعطى الغازي في سبيل الله إلا إذا كان فقيرًا.
والحج عند الحنابلة وبعض الحنفية من السبيل، فيعطى مريد الحج من الزكاة، لما روى أبو داود عن ابن عباس: «أن رجلًا جعل ناقة في سبيل الله، فأرادت امرأته الحج، فقال لها النبي ﷺ: اركبيها، فإن الحج من سبيل الله» فيأخذ مريد
 
الحج من الزكاة إن كان فقيرًا، ما يؤدي به فرض حج أو فرض عمرة، أو يستعين به في أداء الفرضين؛ لأنه يحتاج إلى إسقاط الفرض. وأما التطوع فله عنه مندوحة.

٨ - والصنف الثامن ـ ابن السبيل: هو المسافر أو من يريد السفر في طاعة غير معصية، فيعجز عن بلوغ مقصده إلا بمعونة، والطاعة: مثل الحج والجهاد وزيارة مندوبة.
يعطى ابن السبيل ما يبلغ به مقصده، إذا كان محتاجًا في سفره، ولو كان غنيًا في وطنه.

رابعًا - هل تعطى الزكاة لغير هذه الأصناف؟ اتفق جماهير فقهاء المذاهب (١) على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى غير من ذكر الله تعالى من بناء المساجد والجسور والقناطر والسقايات وكري الأنهار وإصلاح الطرقات، وتكفين الموتى، وقضاء الدين، والتوسعة على الأضياف، وبناء الأسوار وإعداد وسائل الجهاد، كصناعة السفن الحربية وشراء السلاح، ونحو ذلك من القرب التي لم يذكرها الله تعالى مما لا تمليك فيه؛ لأن الله ﷾ قال: ﴿إنما الصدقات للفقراء﴾ [التوبة:٦٠/ ٩] وكلمة «إنما» للحصر والإثبات، تثبت المذكور وتنفي ماعداه، فلا يجوز صرف الزكاة إلى هذه الوجوه؛ لأنه لم يوجد التمليك أصلًا.
لكن فسر الكاساني في البدائع سبيل الله. بجميع القرب، فيدخل فيه كل
(١) الدر المختار ورد المحتار: ٨١/ ٢، ٨٣، ٨٥، البدائع: ٤٥/ ٢، الشرح الكبير: ٤٩٧/ ١، المهذب: ١٧٠/ ١، ١٧٣، المغني: ٦٦٧/ ٢، القوانين الفقهية: ص١١١، أحكام القرآن لابن العربي: ٩٥٧/ ٢.
 
من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات إذا كان محتاجًا؛ لأن «في سبيل الله» عام في الملك، أي يشمل عمارة المساجد ونحوها مما ذكر، وفسر بعض الحنفية «سبيل الله بطلب العلم ولو كان الطالب غنيًا». قال أنس والحسن: «ما أعطيت في الجسور والطرق، فهي صدقة ماضية».
وقال مالك: سبل الله كثيرة، ولكني لا أعلم خلافًا في أن المراد بسبيل الله ههنا الغزو.

خامسًا - مقدار ما يعطى لمستحقي الزكاة: اختلف الفقهاء في مقدار ما يعطى للفقير والمسكين (١):
فقال الشافعية والحنابلة: يجوز أن يدفع إلى كل منهما ما تزول به حاجته أو كفايته من أداة يعمل بها إن كان فيه قوة، أو بضاعة يتجر فيها، حتى ولو احتاج إلى مال كثير للبضاعة التي تصلح له، ويحسن التجارة فيها؛ لأن الله أثبت الصدقات لهؤلاء الأصناف دفعًا لحاجتهم وتحصيلًا لمصلحتهم، فالمقصود من الزكاة سد الخلة ودفع الحاجة، فيعطى الفقير والمسكين ما يحقق حاجته وهو كفاية سنة. وقال ﷺ في حديث قبيصة عند مسلم: «فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش، أو سِدادًا من عيش» والسداد: الكفاية.
وكره أبو حنيفة إعطاء إنسان نصاب الزكاة وهو قدر مئتي درهم، ويجزئ إعطاء أي قدر.
(١) الدر المختار: ٨٨/ ٢،٩٣، فتح القدير: ٢٨/ ٢، الشرح الكبير مع الدسوقي: ٤٩٤/ ١، أحكام القرآن لابن العربي: ٩٦١/ ٢، المجموع: ٢٠٢/ ٦، المهذب: ١٧١/ ١، مغني المحتاج: ١١٤/ ٣، بداية المجتهد:٢٦٨/ ١ ومابعدها، كشاف القناع: ٣١٧/ ٢ ومابعدها.
 
وأجاز مالك إعطاء نصاب، ويرد الأمر إلى الاجتهاد، فإن الغرض إغناء الفقير حتى يصير غنيًا. لكن لا يعطى عند المالكية أكثر من كفاية سنة.
ودليل أبي حنيفة ومالك أن الآية ليس فيها تحديد مقدار ما يعطى كل واحد من الأصناف.
وأما مقدار ما يعطى للعامل: فاتفق الفقهاء (١) على أنه يدفع إليه الإمام بقدر عمله، أي ما يسعه أو يكفيه وأعوانه بالوسط، مدة ذهابهم وإيابهم، لكن قيد الحنفية ذلك بألا يزاد على نصف ما يقبضه.
وأما ما يعطى للغارم: فبقدر ما عليه من الدين إذا كان في طاعة وفي غير سرف، بل في أمر ضروري.
وكذلك ابن السبيل: يعطى ما يوصله إلى بلده (٢).

سادسًا - من سأل الزكاة وكان غير مستحق: هذه مسألة تشترك فيها الأصناف الثمانية كلها (٣)، وهي من سأل الزكاة وعلم الإمام أنه ليس مستحقًا، لم يجز له صرف الزكاة إليه. وإن علم استحقاقه، جاز الصرف إليه بلا خلاف.
وإن لم يعرف حاله فالصفات قسمان: خفية وجلية:
فالخفي: الفقر والمسكنة، فلا يطالب مدعيها ببينة لعسرها، فلو عرف له
(١) الكتاب مع اللباب: ١٥٥/ ١، الشرح الكبير: ٤٩٥/ ١، بداية المجتهد: ٢٦٩/ ١، المهذب: ١٧١/ ١، كشاف القناع: ٣٢٢/ ٢، الدر المختار: ٨١/ ٢.
(٢) بداية المجتهد: ٢٦٨/ ١ ومابعدها.
(٣) المجموع: ٢١٤/ ٦ ومابعدها، وانظر الشرح الصغير: ٦٦٨/ ١، كشاف القناع: ٣٣٤/ ٢.
 
مال، وادعى هلاكه، لم يقبل إلا ببينة، ولو ادعى عيالًا فلا بد من البينة في الأصح.
والجلي: نوعان: أحدهما - يتعلق الاستحقاق فيه بمعنى في المستقبل، وذلك في الغازي وابن السبيل، فيعطيان بقولهما بلا بينة ولا يمين. ثم إن لم يحققا ما ادعيا، ولم يخرجا، استرد منهما ما أخذا، ويترصد للخروج بحسب المعتاد على وجه التقريب.
والثاني - يتعلق الاستحقاق فيه بمعنى في الحال، وهذا النوع يشترك فيه بقية الأصناف، فالعامل إذا ادعى العمل طولب بالبينة، وكذلك المكاتب والغارم. وأما المؤلف قلبه: فإن قال: نيتي ضعيفة في الإسلام، قبل قوله؛ لأن كلامه يصدقه، وإن قال: أنا شريف مطاع في قومي، طولب بالبينة. قال الرافعي من الشافعية: واشتهار الحال بين الناس قائم مقام البينة في كل من يطالب بها من الأصناف، لحصول العلم أو الظن بالاستفاضة.

سابعًا - شروط المستحقين أو أوصافهم: اشترط الفقهاء في مستحق الزكاة شروطًا خمسة هي ما يأتي (١):
١ - أن يكون فقيرا ً إلا العامل فإنه يعطى ولو كان غنيًا لأنه يستحقه أجرة ولأنه فرغ نفسه لهذا العمل، فيحتاج إلى الكفاية، وإلا ابن السبيل إذا كان له في
(١) البدائع: ٤٣/ ٢ - ٤٨، فتح القدير: ٢١/ ٢ - ٢٩، الفتاوى الهندية: ١٧٦/ ١، الدر المختار وحاشية ابن عابدين: ٨١/ ٢ - ٩٠، ٩٤، الشرح الكبير: ٤٩٤/ ١ ومابعدها، بداية المجتهد: ٢٦٧/ ١ ومابعدها، الشرح الصغير: ٦٥٩/ ١ - ٦٦٨، مغني المحتاج: ١١٢/ ٣، بجيرمي الخطيب: ٣١٩/ ٢، المهذب: ١٧٤/ ١ - ١٧٥، المجموع: ٢٤٤/ ٦ - ٢٤٨، حاشية الباجوري: ٢٩٥/ ١، كشاف القناع: ٣١٧/ ٢ - ٣٤٤، المغني: ٦٤٦/ ٢ - ٦٥٠، ٦٦١، أحكام القرآن لابن العربي: ٩٤٥/ ٢ - ٩٦٣.
 
وطنه مال، فهو بمنزلة الفقير؛ لأن الحاجة هي المعتبرة، وهو الآن فقير يدًا، وإن كان غنيًا ظاهرًا، وإلا المؤلف والغازي في رأي الشافعية والحنابلة.
والفقر شرط عام لصرف جميع الصدقات المفروضة والواجبة كالعشور والكفارات والنذور وصدقة الفطر، لعموم قوله تعالى: ﴿إنما الصدقات للفقراء﴾ [التوبة:٦٠/ ٩].
وعليه لا يجوز صرف الزكاة وغيرها من الواجبات لغني، لقوله ﷺ: «لاتحل الصدقة لغني، ولا ذي مِرّة سوي» (١) وجاز دفع الزكاة لأربعة أو خمسة من الأغنياء: وهم العامل، والمؤلف، والغازي، والغارم لإصلاح ذات البين عند الشافعية والحنابلة، لقوله ﷺ: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لعامل، أو رجل اشتراها بماله، أوغاز في سبيل الله، أو لغارم، أو مسكين تُصدِّق عليه منها فأهدى منها لغني» (٢).
والغني عند الحنفية (٣): هو من ملك قدر نصاب فارغ عن حاجته الأصلية من أي مال. فيعطى من الزكاة من كان يملك أقل من نصاب شرعي، ولو كان صحيحًا قويًا قادرًا على الكسب؛ لأنه فقير والفقراء هم المصارف، ولأن حقيقة الحاجة لا يوقف عليها، فأدير الحكم على دليلها وهو فقد النصاب، فلا بأس أن يعطى من الزكاة من له مسكن وما يتأثث به في منزله وخادم وفرس وسلاح وثياب البدن،
(١) رواه أبو داود والترمذي من حديث عمرو بن العاص. والمرّة: القوة والشدة، والسوي: المستوي الخلْق، التام الأعضاء.
(٢) رواه أبو داود وابن ماجه.
(٣) الدر المختار: ٨٨/ ٢،٩٦، البدائع: ٤٨/ ٢، فتح القدير: ٢٧/ ٢ ومابعدها، قالوا: لو دفع الزكاة إلى أخته، ولها على زوجها مهر يبلغ نصابًا، وهو ملي مقر، ولو طلبت لا يمتنع عن الأداء، لا تجوز، وإلا جاز.
 
وكتب العلم إن كان من أهله؛ لأن هذه الأشياء من الحوائج الأصلية اللازمة التي لابد منها للإنسان، فإن كان له فضل عن ذلك تبلغ قيمته مئتي درهم، حرم عليه أخذ الصدقة. ويجوز أداء الزكاة للمكاتب وإن حصل نصابًا زائدًا عن بدل الكتابة، ولا يجوز دفع الزكاة إلى من يملك نصابًا من أي مال كان؛ لأن الغنى الشرعي مقدر به.
والغني عند المالكية (١): هو من ملك كفايته لمدة سنة، والفقير: هو من ملك من المال أقل من كفاية السنة، فيعطى من الزكاة ولو ملك نصابًا فأكثر لكنه لا يكفيه لعامه، ولو كان قويًا قادرًا على الكسب أي كسب ما يكفيه بصنعة تارك لها وغير مشتغل بها، ولو كان تركه التكسب بها اختيارًا على المشهور. ومن لم يجد كفاية سنة ويقوم بالإنفاق عليه نحو والد أو بيت مال بمرتب لا يكفيه من أكل وكسوة، أو من صنعة لا تكفيه، فيعطى من الزكاة.
والغني عند الشافعية (٢): من كانت عنده الكفاية في عمره الغالب وهو اثنان وستون سنة، إلا إذا كان له مال يتجر فيه، فيعتبر ربحه في كل يوم، فإن كان أقل من نصف الكفاية في ذلك اليوم، فهو فقير. وكذا إذا جاوز العمر الغالب فالعبرة بكل يوم على حدة، فإن كان له مال أو كسب لا يكفيه في نصف اليوم فهو فقير.
والفقير: هو من لا مال له أصلًا ولا كسب حلال، وله مال أو كسب حلال لا يكفيه بأن كان أقل من نصف الكفاية، ولم يكن له منفق يعطيه ما يكفيه كالزوج بالنسبة للزوجة. والمعتبر: كسب يليق بحاله ومروءته، وأما ما لا يليق به فهو كالمعدوم. وتحل الزكاة لطالب العلوم الشرعية؛ لأن تحصيل العلم فرض كفاية، ويخاف من الإقبال على الكسب الانقطاع عن التحصيل.
(١) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: ٤٩٤/ ١.
(٢) المجموع: ١٩٧/ ٦ - ٢٠٢، مغني المحتاج: ١٠٧/ ٣ - ١٠٨،٢٤٦.
 
والمسكين: هو من قدر على مال أو كسب حلال يساوي نصف ما يكفيه في العمر الغالب.
ولا يعطى الفقير أو المسكين من الزكاة إذا كان قادرًا على الكسب، للحديث السابق عند أبي داود بإسناد صحيح: «لا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب».
لكن تعطى الزكاة للعبد المكاتب ولو مع القدرة والكسب.
والخلاصة: لا يمنع الفقير مسكنه وثيابه وماله الغائب في مسافة مرحلتين (مسافة القصر) ودينه المؤجل وكسب لا يليق به، ولايشترط فيه الزمانة ولا التعفف عن المسألة في الجديد، والمكفي بنفقة قريب أو زوج ليس فقيرًا في الأصح. ولو اشتغل بعلم والكسب يمنعه من اشتغاله بذلك، فهو فقير.
والغني عند الحنابلة (١) في أظهر الروايتين عن أحمد: هو من ملك خمسين درهمًا أو قيمتها من الذهب، أو وجود ما تحصل به الكفاية على الدوام من كسب أو تجارة أو عقار أو نحو ذلك، لحديث أبي داود والترمذي: «الغنى: خمسون درهمًا أو قيمتها من الذهب» والفقير: من لا يجد شيئًا البتة (أي قطعًا)،أو يجد شيئًا يسيرًا من الكفاية دون نصفها من كسب أو غيره، مما لا يقع موقعًا من كفايته، كدرهمين من عشرة. والمسكين: من يجد معظم الكفاية أو نصفها من كسب أو غيره. فيعطى كل منهما كفايته مع عائلته سنة. ولا يعطى كل منهما من الزكاة إذا كان قادرًا على الاكتساب إذ إنه لاحظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب، كما روى أبو داود. لكن إذا تفرغ القادر على التكسب لطلب العلم، وتعذر الجمع بين طلب العلم والتكسب، يعطى من الزكاة، ولا يعطى إذا تفرغ للعبادة، لقصور نفعها.
(١) كشاف القناع: ٣١٧/ ٢، ٣١٩، ٣٣٤ ومابعدها، المغني: ٦٦١/ ٢.
 
والخلاصة: أن المانع من الصدقة وهو الغنى: هو أقل ما ينطلق عليه الاسم عند الشافعية والحنابلة أخذًا بالمعنى اللغوي للكلمة، وهو ملك النصاب عند الحنفية أخذًا بالمعنى الشرعي؛ لأن الشرع اعتبر في حديث معاذ مالك النصاب هو الغني. وقال مالك: ليس في ذلك حد إنما هو راجع إلى الاجتهاد، وذلك يختلف باختلاف الحالات والحاجات والأشخاص والأمكنة والأزمنة.
ويحرم سؤال الزكاة أو صدقة التطوع أو الكفارة ونحوها، وله ما يغنيه أي يكفيه؛ لأنه لا يحل له أخذها إذن، ووسائل المحرم محرمة.

الإعلام بكون المدفوع زكاة: إذا دفع المسلم الزكاة إلى من يظنه فقيرًا أو رآه ظاهر الحاجة، لم يحتج إلى إعلامه أنها زكاة.
إذا ظهر كونه غنيًا أو غير مستحق: إن دفعت إلى من ظاهره الفقر أو يظنه فقيرًا، فبان غنيًا، أو ظنه مسلمًا، فبان كافرًا، لم يجزه ذلك عن الفرض ويجب ردها منه، في رأي المالكية والشافعية وفي الراجح عند الحنابلة (١)؛ لأنه دفع الواجب إلى غير مستحقه، فلم يخرج من عهدته، كما لو دفعها إلى كافر أو ذي قرابة، كديون الآدميين. ثم إن كان المال باقيًا، استرجع منه، ودفع إلى فقير، وإن كان فائتًا، أخذ البدل، وصرف إلى فقير. فإن لم يكن للمدفوع إليه مال، لم يجب على رب المال ضمانه؛ لأنه إذا دفعه إلى الإمام، سقط الفرض عنه بذلك، ولا يضمنه الإمام؛ لأنه أمين غير مفرط. وإن كان الدافع هو رب المال نفسه، فإن لم يبين عند الدفع أنه زكاة واجبة، لم يكن له أن يرجع، لأنه قد يدفع عن زكاة واجبة وعن تطوع. وإن كان قد بين أنها زكاة، رجع فيها.
(١) المهذب: ١٧٥/ ١، المغني: ٦٦٧/ ٢ ومابعدها، كشاف القناع: ٣٤٤/ ٢، الشرح الصغير: ٦٦٨/ ١، غاية المنتهى: ٣١٥/ ١ ومابعدها.
 
والخلاصة: إن الجمهور يقررون أنه لا تجزئ الزكاة إذا دفعت لغير مستحق إلا الإمام، ومثله عند المالكية نائب القاضي والوصي، فإنها تجزئ إن تعذر ردها؛ لأنهم يدفعونها بالاجتهاد. واستثنى الحنابلة حالة الدفع لغني ظنه فقيرًا، فإنها تجزئه.
وقال الحنفية (١): إذا دفع الزكاة لإنسان ثم بان أنه غني أو ذمي، أو أنه أبوه أو ابنه أو امرأته أو هاشمي، لا يعيد الدفع؛ لأنه أتى بما في وسعه، أي أتى بالتمليك الذي هو ركن الأداء على قدر وسعه، إذ ليس مكلفًا بأكثر من التحري والبحث، فلو دفع بلا تحرٍ، لم يجز؛ لأنه أخطأ.

٢ - أن يكون مستحق الزكاة مسلما ً: إلا المؤلفة قلوبهم في رأي المالكية والحنابلة: فلا يجوز صرف الزكاة إلى الكافر بلا خلاف، لحديث معاذ ﵁ المتقدم: «خذها من أغنيائهم وردها في فقرائهم» أمر بوضع الزكاة في فقراء من يؤخذ من أغنيائهم وهم المسلمون، فلا يجوز وضعها في غيرهم.
وأما ما سوى الزكاة من صدقة الفطر والكفارات والنذور، فلا شك في أن صرفها إلى فقراء المسلمين أفضل؛ لأن الصرف إليهم يقع إعانة لهم على الطاعة. وهل يجوز صرفها إلى أهل الذمة؟
قال أبو حنيفة ومحمد: يجوز، لقوله تعالى: ﴿إن تبدوا الصدقات فنعما هي، وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء، فهو خير لكم، ويكفر عنكم من سيئاتكم﴾ [البقرة:٢٧١/ ٢] من غير تفرقة بين فقير وفقير، وعموم هذا النص يقتضي جواز صرف الزكاة إليهم، إلا أنه خص منه الزكاة لحديث معاذ، وقوله تعالى في
(١) الدر المختار ورد المحتار: ٩٣/ ٢، الكتاب مع اللباب: ١٥٧/ ١.
 
الكفارات: ﴿فكفارته إطعام عشرة مساكين ..﴾ [المائدة:٨٩/ ٥] من غير تفرقة بين مسكين ومسكين، إلا أنه خص منه الحربي بدليل حتى لا يكون ذلك إعانة لهم على قتالنا، ولأن صرف الصدقة إلى أهل الذمة من باب إيصال البر إليهم، وما نهينا عن ذلك، قال تعالى: ﴿لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم ...﴾ [الممتحنة:٨/ ٦٠].
وقال أبو يوسف وزفر والشافعي والجمهور: لا يجوز صرف غير الزكاة أيضًا إلى الذميين قياسًا على الزكاة، وعلى الحربي.

٣ - ألا يكون المستحق من بني هاشم: لأن آل البيت تحرم عليهم الزكاة؛ لأنها أوساخ الناس، ولهم من خمس الخمس في البيت ما يكفيهم، بدليل قوله ﷺ: «إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد، ولا لآل محمد» (١).
وبنو هاشم الذين تحرم عليهم الصدقات عند الكرخي من الحنفية والحنابلة (٢): آل العباس، وآل علي وآل جعفر وآل عقيل بني أبي طالب، وآل الحارث بن عبد المطلب، لعموم الحديث المتقدم (٣) وكذلك قال الشافعية (٤): هم
(١) رواه مسلم في حديث طويل من رواية عبد المطلب بن ربيعة مرفوعًا، وروى الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) عن أبي رافع: «إن الصدقة لا تحل لنا» (نصب الراية: ٤٠٣/ ٢، نيل الأوطار: ١٧٤/ ٤).
(٢) البدائع: ٤٩/ ٢، كشاف القناع: ٣٣٩/ ٢.
(٣) الهاشمي: من لهاشم عليه ولادة، كأولاد العباس وحمزة وأبي طالب وأبي لهب، وأولاد فاطمة، وقد أدخل الحنابلة آل أبي لهب بن عبد المطلب؛ لأنه ثبت أنه أسلم عتبة ومعتب ابنا أبي لهب عام الفتح، وسر ﷺ بإسلامهما، ودعا لهما، وشهدا معه حنينًا والطائف ولهما عقب عند أهل النسب (نيل الأوطار: ١٧٢/ ٤) وهاشم: هو ثاني أجداد النبي ﷺ، فهو أبو عبد المطلب.
(٤) شرح المجموع: ٢٤٤/ ٦ وما بعدها.
 
بنو هاشم وبنو المطلب لقوله ﷺ: «إن بني هاشم وبني المطلب شيء واحد، وشبك بين أصابعه» (١).
وقال أبو حنيفة والمالكية (٢): هم بنو هاشم فقط، وأما بنو المطلب أخو هاشم فليسوا عندهم من آل البيت، فيعطون من الزكاة على المشهور.
هذا ... وقد نقل عن أبي حنيفة وعن المالكية وبعض الشافعية: جواز إعطاء الهاشميين من الزكاة، لأنهم حرموا من بيت المال سهم ذوي القربي، منعًا لتضييعهم ولحاجتهم، عملًا بالمصالح المرسلة. وإعطاؤهم - كما قال الدسوقي المالكي - حينئذ أفضل من إعطاء غيرهم. وتحل صدقة التطوع لهم عند الأكثرين.

٤ - ألا يكون ممن تلزم المزكي نفقته من الأقارب والزوجات ولو في العدة: لأن ذلك يمنع وقوع الأداء تمليكًا للفقير من كل وجه، بل يكون صرفًا إلى نفسه من وجه، فهو يجلب لنفسه نفعًا، وهو منع وجوب النفقة عليه. فلا تدفع الزكاة إلى الوالدين وإن علوا (أي الأجداد) والمولودين وإن سفلوا (أي الأحفاد والأسباط)، ولا إلى الزوجات (حتى ولو كانت الزوجة مبانة في العدة ولو بثلاث في مذهب الحنفية)؛ بصفة الفقر أو المسكنة؛ لأن نفقتهم واجبة على المزكي، والزكاة للحاجة،،ولا حاجة مع وجوب النفقة، ولأن أحدهم ينتفع بمال الآخر، بل ولا يجوز دفعها عند الشافعية لشخص لا تلزم المزكي نفسه نفقته، وإنما تلزم غيره؛ لأنه غير محتاج، كمكتسب كل يوم قدر كفايته. وأجاز الحنفية دفع الزكاة لامرأة فقيرة وزوجها غني؛ لأنها لا تستحق على زوجها إلا مقدار النفقة، فلا تعد بذلك القدر غنية، ولا يجوز عندهم دفع زكاة الزاني لولده من الزنا إلا إذا كان الولد من ذات زوج معروف.
(١) رواه البخاري عن جبير بن مطعم.
(٢) الشرح الصغير: ٦٥٩/ ١، الشرح الكبير: ٤٩٣/ ١.
 
لكن يجوز دفعها لمن ذكر بصفة كونهم غارمين أو غزاة مجاهدين مثلًا. وأجاز الشافعية كما في المجموع للنووي والمالكية وابن تيمية إعطاء الزكاة لولد أو والد لاتلزم المزكي نفقته، إذا كان فقيرًا؛ لأنه حينئذ كالأجنبي، وأباح المالكية للمرأة دفع زكاة فطرها - لا الزكاة الواجبة - إلى زوجها الفقير.
قال الأستاذ أبو إسحاق الشيرازي في المهذب: «ولا يجوز دفع الزكاة إلى من تلزمه نفقته من الأقارب والزوجات من سهم الفقراء؛ لأن ذلك إنما جعل للحاجة، ولا حاجة بهم مع وجوب النفقة».
وقال النووي عن الأصحاب: ويجوز أن يدفع إلى ولده ووالده من سهم العاملين والمكاتبين والغارمين والغزاة إذا كانوا بهذه الصفة. ولا يجوز أن يدفع إليه من سهم المؤلفة إن كان ممن يلزمه نفقته؛ لأن نفعه يعود إليه، وهو إسقاط النفقة، فإن كان ممن لا يلزمه نفقته، جاز رفعه إليه (١). وعلى هذا من استقل من الأولاد بكسب لا يكفيه، وليس في منزل أبيه، يجوز إعطاؤه من الزكاة عند الشافعية.
وهل يجوز دفع الزوجة إلى زوجها زكاتها؟
قال أبو حنيفة، والحنابلة على الراجح (٢): لا يجوز؛ لأن الزكاة تعود إليها بإنفاقه عليها.
وقال الصاحبان والشافعية، والمالكية على الصحيح (٣): يجوز له ولأولادها، لحديث زينب امرأة ابن مسعود:
«زوجُك وولدك أحق من تصدقت
(١) المجموع للنووي: ٢٤٧/ ٦.
(٢) الدر المختار: ٨٦/ ٢ - ٩٠، البدائع: ٤٠/ ٢، كشاف القناع: ٣٣٨/ ٢ وما بعدها، الكتاب مع اللباب: ١٥٦/ ١.
(٣) البدائع: ٤٠/ ٢، أحكام ابن العربي: ٩٦٠/ ٢، المجموع: ٢٤٧/ ٦، حاشية الصاوي: ٦٥٨/ ١.
 
عليهم به» (١)، ولأن نفقة الزوج والأولاد غير واجبة على الزوجة والأم.
ويجوز دفع الزكاة إلى بقية الأقارب الفقراء غير المذكورين كالأخ والأخت والعمة والعم والخالة والخال ونحوهم، لحديث الطبراني عن سلمان بن عامر: «الصدقة على المسكين صدقة وهي لذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة» بل إن القرابة أحق بزكاة المزكي، قال مالك: أفضل من وضعت فيه زكاتك قرابتك الذين لا تعول.
ويجوز دفع الزكاة لزوجة أبيه وابنه وزوج ابنته (الصهر). ولم يجز المالكية دفع الزكاة لمن كانت نفقته لازمة عليه أو كان له مرتب في بيت المال يكفيه. وكذلك لم يجز الحنابلة دفع الزكاة إلى عمودي النسب في حال تجب نفقتهم فيه عليه أو لا تجب نفقتهم فيه، ورثوا أو لم يرثوا، حتى ذوي الأرحام منهم، كأبي الأم وولد البنت.
أما صدقات التطوع (٢): فيجوز دفعها للأصول والفروع والزوجات والأزواج، والدفع إليهم أولى؛ لأن فيه أجرين: أجر الصدقة وأجر الصلة.
وتجوز صدقة التطوع للأغنياء والكفار، ولهم أخذها، وفيه أجر، لقوله تعالى: ﴿ويطعمون الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا﴾ [الإنسان:٨/ ٧٦] ولم يكن الأسير يومئذ إلا كافرًا، وكسى عمر خاله مشركًا حلة كان النبي ﷺ كساه إياها، وقال النبي ﷺ لأسماء بنت أبي بكر التي استفتته في صلة أمها وهي مشركة: «صلي أمك» (٣)، لكن يستحب للغني عن السؤال، مع وجود حاجتهم،
(١) رواه البخاري ومسلم.
(٢) البدائع: ٥٠/ ٢، أحكام القرآن لابن العربي: ٩٦٠/ ٢، المجموع: ٢٥٨/ ٦ ومابعدها، كشاف القناع: ٣٤٥/ ٢ ومابعدها.
(٣) رواه البخاري ومسلم وأبو داود.
 
فقال: ﴿يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف﴾ [البقرة: ٢٧٣/ ٢] فإن أخذها الغني مظهرًا للفاقة، حرم عليه ذلك، وإن كانت تطوعًا، لما فيه من الكذب والتغرير.
وإذا أخطأ المزكي كأن دفع الزكاة في ظلمة مثلًا، فأداها إلى أحد أصوله أو فروعه، من غير أن يعلم، فلا إعادة عليه عند أبي حنيفة ومحمد، وعليه الإعادة عند أبي يوسف والشافعي وأحمد.

٥ - أن يكون بالغًا عاقلًا حرًا: فلا تجزئ لعبد اتفاقًا، ولا تجزئ عند الحنفية (١) لصغير غير مراهق (ما دون السابعة) ولا مجنون إلا إذا قبض عن الصغير والمجنون لهما من يجوز له قبضه كالأب والوصي وغيرهما، وتجوز عندهم لصبيان أقاربه المميزين في مناسبة عيد أوغيره، ولا يجوز دفع الزكاة لولد الغني إذا كان صغيرًا، لأن الولد الصغير يعد غنيًا بغنى أبيه، ويجوز إعطاؤها له إذا كان كبيرًا فقيرًا؛ لأنه لايعد غنيًا بمال أبيه، فكان كالأجنبي، كما لا يعد الأب غنيًا بغنى ابنه، ولا الزوجة بغنى زوجها، ولا الطفل بغنى أمه.
واشترط الشافعية (٢) أن يكون قابض الزكاة رشيدًا: وهو البالغ العاقل حسن التصرف، فلا تجزئ لصبي أو مجنون أو سفيه ديانة كتارك الصلاة إلا أن يقبضها له وليه لسفهه أو قصوره.
واشترط المالكية (٣) أن يكون عامل الزكاة بالغًا، فلا تعطى الزكاة لقاصر.
أما الحنابلة (٤): فأجازوا دفع الزكاة إلى الكبير والصغير، سواء أكل الطعام
(١) حاشية ابن عابدين: ٨١/ ٢، ٨٥، ٩٠ ومابعدها، البدائع: ٤٧/ ٢.
(٢) مغني المحتاج: ١١٢/ ٣.
(٣) الشرح الكبير: ٤٩٤/ ١.
(٤) المغني: ٦٤٦/ ٢.
 
أو لم يأكل، والمجنون، لكن يقبضها ولي الصغير والمجنون عنهما، أو القيِّم عليهما، روى الدارقطني عن أبي جحيفة قال: «بعث رسول الله ﷺ ساعيًا، فأخذ الصدقة من أغنيائنا، فردها في فقرائنا، وكنت غلامًا يتيمًا لا مال لي، فأعطاني قَلُوصًا» أي ناقة شابة.
وبناء على هذه الشروط: لا يجوز دفع الزكاة لغني بمال أو كسب، ولا لعبد، ولا لبني هاشم، وبني المطلب عند الجمهور غير المالكية وأبي حنيفة في الأخير، ولا لكافر، ولا لمن تلزم المزكي أو غيره نفقته، ولا للصغار والمجانين بأنفسهم، ولا لمن ليس في بلد الزكاة كما سأبين في مسألة نقل الزكاة. وأضاف الحنفية: لا يجوز صرف الزكاة لأهل البدع كالمشبهة في ذات الله أو في الصفات. وأجاز الحنفية دفع الزكاة للفقراء في المواسم والأعياد، أو لمن يأتيه ببشارة ونحوها.

المطلب الثاني - أحكام متفرقة في توزيع الزكاة:
أولًا - دفع الزكاة إلى الإمام وإخراج الإنسان زكاة نفسه: دل قوله تعالى: ﴿والعاملين عليها﴾ [التوبة:٦٠/ ٩] على أن أخذ الزكوات إلى الإمام، إذ لو جاز للمالك أداء الزكاة إلى المستحقين، لما احتيج إلى عامل لجبايتها. ويؤكده قوله تعالى: ﴿خذ من أموالهم صدقة﴾ [التوبة:١٠٣/ ٩].
ويجب على الإمام (١) أن يبعث السعاة لأخذ الصدقة؛ لأن النبي ﷺ والخلفاء من بعده كانوا يبعثون السعاة، ولأن في الناس من يملك المال، ولا يعرف ما يجب عليه، وفيهم من يبخل، فوجب أن يبعث من يأخذ.
(١) المهذب: ١٦٨/ ١.
 
ولا يبعث الإمام إلا ساعيًا حرًا عدلًا ثقة؛ لأن هذا ولاية وأمانة، والعبد والفاسق ليسا من أهل الأمانة والولاية. ولا يبعث إلا فقيهًا؛ لأنه يحتاج إلى معرفة ما يؤخذ وما لا يؤخذ، ويحتاج إلى الاجتهاد فيما يعرض له من مسائل الزكاة وأحكامها.
وهناك آية تجيز لأرباب الأموال دفع الزكاة بأنفسهم إلى المستحقين وهي قوله تعالى: ﴿والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم﴾ [المعارج:٢٤/ ٧٠ - ٢٥] لأنه إذا كان ذلك الحق حقًا للسائل والمحروم، وجب أن يجوز دفعه إليهما مباشرة.
وعملًا بما دلت عليه الآيات فصل العلماء في بيان تفرقة الزكاة.
أـ فإن كان مال الزكاة خفيًا أو باطنًا: وهو الذهب والفضة وأموال التجارة في مواضعها، جاز للمالك أن يفرقها بنفسه، أو أن يدفعها إلى الإمام، لأن رسول الله ﷺ طالب بزكاته، وتبعه في ذلك أبو بكر وعمر، ثم طالب بها عثمان لمدة، ولما كثرت أموال الناس ورأى أن في تتبعها حرجًا على الأمة، فوض الأداء إلى أربابها. ودفعها إلى الإمام لأنه نائب عن الفقراء، فجاز الدفع إليه كولي اليتيم، ولأن الإمام أعلم بمصارفها، ودفعها إليه يبرئه ظاهرًا وباطنًا، لاحتمال أن يكون غير مستحق لها، ولأنه يخرج من الخلاف وتزول التهمة عنه.
ب - وإن كان مال الزكاة ظاهرًا: وهو المواشي والزروع والثمار والمال الذي يمر به التاجر على العاشر، فيجب عند الجمهور منهم الحنفية والمالكية (١) دفعها إلى الإمام، فإن فرقها بنفسه، لم يحتسب له ما أدى، لقوله تعالى: ﴿خذ من أموالهم
(١) البدائع: ٣٥/ ٢، الشرح الصغير: ٦٧٠/ ١، القوانين الفقهية: ص١١١.
 
صدقة﴾ [التوبة:١٠٣/ ٩] أمر الله نبيه بأخذ الزكاة، فدل أن للإمام المطالبة بذلك والأخذ. ودل ذكر «العاملين عليها» في المصارف على أن للإمام مطالبة أرباب الأموال بالصدقات.
وكان النبي يبعث المصدِّقين (الجباة) إلى أحياء العرب والبلدان والآفاق لأخذ الصدقات من الأنعام والمواشي في أماكنها (١).
وتابعه على ذلك الخلفاء الراشدون، وقال أبو بكر ﵁ لما امتنعت العرب عن أداء الزكاة: «والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله ﷺ، لحاربتهم عليه» (٢).
لكن المالكية قالوا: إذا كان الإمام عدلًا، وجب دفع الزكاة إليه، وإن كان غير عدل، فإن لم يتمكن المزكي صرفها عنه، دفعت إليه وأجزأت. وإن تمكن صرفها عنه دفعها صاحبها لمستحقها. ويستحب ألا يتولى دفعها بنفسه خوف الثناء.
وقال الشافعي في الجديد (٣): يجوز للمزكي أن يفرق زكاة الأموال الظاهرة بنفسه كزكاة الباطن؛ لأنها زكاة، فجاز أن يفرقها بنفسه كزكاة المال الباطن.
وقال الحنابلة (٤): يستحب للإنسان أن يلي تفرقة الزكاة بنفسه، ليكون على يقين من وصولها إلى مستحقها، سواء أكانت من الأموال الظاهرة أم الباطنة. قال أحمد: أعجب إلي أن يخرجها، وإن دفعها إلى السلطان فهو جائز. ودليلهم أن
(١) ثبت ذلك في حديث أنس عن أبي بكر عند أحمد والنسائي وأبي داود والبخاري، وعند الخمسة عن معاذ بن جبل، وعن رواة آخرين (نيل الأوطار: ١٢٤/ ٤ ومابعدها، ١٣٢ ومابعدها).
(٢) رواه الجماعة إلا ابن ماجه عن أبي هريرة (نيل الأوطار: ١١٩/ ٤).
(٣) المهذب: ١٦٨/ ١.
(٤) المغني: ٦٤١/ ٢.
 
المزكي دفع الحق إلى مستحقه الجائز تصرفه، فأجزأه، كما لو دفع الدين إلى غريمه، وكزكاة الأموال الباطنة، ولأن المال الظاهر أحد نوعي الزكاة، فأشبه النوع الآخر، ولتوفير أجر العُمالة (رزق العامل).
ولكن للإمام أخذها، وهذا لا خلاف فيه، لدلالة الآية: ﴿خذ من أموالهم صدقة﴾ [التوبة:١٠٣/ ٩]، ومطالبة أبي بكر لهم بها بكونهم لم يؤدوها إلى أهلها، ولو أدوها إلى أهلها لم يقاتلهم عليها.
وعلى كل حال فالواقع أن إخراج الزكاة أصبح منوطًا بأرباب الأموال، ويطلب اليوم سن تشريعات فريضة الزكاة، وقيام الدولة بجبايتها، بسبب تقصير الكثير عن أدائها، على أن تصرف في المصارف الشرعية، وأن يكون الحاكم عادلًا أمينًا على مصالح المسلمين.

ثانيًا - التوكيل في أداء الزكاة: اتفق الفقهاء (١) على أنه يجوز التوكيل في أداء الزكاة، بشرط النية من الموكل أو المؤدي، فلو نوى عند الأداء أو الدفع للوكيل عند الحنفية والشافعية، أو قبل الأداء بزمن يسير عند الحنابلة، أو عند العزل لدى المالكية والحنفية والشافعية، ثم أداها الوكيل إلى الفقير بلا نية جاز؛ لأن تفرقة الزكاة من حقوق المال، فجاز أن يوكل في أدائه كديون الآدميين. وللوكيل أن يوكل غيره بلا إذن ولو نوى الوكيل ولم ينو الموكل، لم يجز؛ لأن الفرض يتعلق به، والإجزاء يقع عنه، وإن دفعها إلى الإمام ناويًا ولم ينو الإمام حال دفعها إلى الفقراء، جاز.
(١) البدائع: ٤٠/ ٢ ومابعدها، الدر المحتار: ١٤/ ٢ وما بعدها، الشرح الصغير: ٦٦٦/ ١ ومابعدها، المهذب: ١٦٨/ ١، المغني: ٦٣/ ٨/‏٢ ومابعدها.
 
وبناء عليه يجوز في رأي الحنفية توكيل الذمي غير المسلم بأداء الزكاة للفقراء؛ لأن المؤدي في الحقيقة هو المسلم. ولو قال الموكل: هذا تطوع أوعن كفارتي، ثم نواه عن الزكاة قبل دفع الوكيل، صح. وللوكيل أن يدفع الزكاة لولده الفقير أو زوجته الفقيرة إذا لم يأمره بالدفع إلى شخص معين، ولا يجوز له أن يأخذ الزكاة لنفسه إلا إذا قال له الموكل: ضعها حيث شئت.
وإن أمره بالدفع إلى شخص معين، فدفعها الوكيل لغيره، فيه قولان عند الحنفية: قول بأنه لا يضمن، كمن نذر أن يتصدق على فلان معين، له أن يتصدق على غيره، وقول رجحه ابن عابدين: يضمن؛ لأن الوكيل يستمد سلطته بالتصرف من الموكل، وقد أمر بالدفع إلى فلان، فلا يملك الدفع إلى غيره، كمن أوصى لزيد بكذا، ليس للوصي الدفع إلى غيره.

ثالثًا - شرط المال المؤدى: يشترط أن يكون المؤدى مالًا متقومًا على الإطلاق، سواء أكان عند الحنفية (١) منصوصًا عليه أم لا، من جنس المال الذي وجبت فيه الزكاة أم من غير جنسه، والأصل عندهم أو القاعدة: أن كل مال يجوز التصدق به تطوعًا، يجوز أداء الزكاة منه، ومالا فلا. وعليه: لو أعطى الفقير سلعة من السلع كقماش أوخبز أوسكر أو سمن أو حذاء، ناويًا الزكاة صح. وعند غير الحنفية: يتعين أداء المنصوص عليه، وقد بحث الموضوع في إخراج القيمة في الزكاة.
رابعًا - نقل الزكاة لبلد آخر غير بلد المزكي: القاعدة العامة أن تفرَّق صدقة كل قوم فيهم، لحديث معاذ المتقدم: «خذها
(١) البدائع: ٤١/ ٢.
 
من أغنيائهم وردها في فقرائهم»، والمعتبر عند الحنفية والشافعية والحنابلة في زكاة المال: المكان الذي فيه المال، والمعتبر في صدقة الفطر: المكان الذي فيه المتصدق اعتبارًا بسبب الوجوب فيهما، وللفقهاء تفصيل في نقل الزكاة من بلد إلى آخر (١).
قال الحنفية: يكره تنزيهًا نقل الزكاة من بلد إلى بلد آخر إلا أن ينقلها إلى قرابته المحاويج ليسد حاجتهم، أو إلى قوم هم أحوج إليها أوأصلح أو أورع أو أنفع للمسلمين، أو من دار الحرب إلى دار الإسلام، أو إلى طالب علم، أو إلى الزهاد، أو كانت معجلة قبل تمام الحول، فلا يكره نقلها. ولو نقلها لغير هذه الأحوال جاز؛ لأن المصرف مطلق الفقراء.
وقال المالكية: لا يجوز نقل الزكاة لبلد لمسافة القصر، فأكثر، إلا لمن هو أحوج إليها، ويجوز نقلها لمن هو دون مسافة القصر (٨٩ كم)؛ لأنه في حكم موضع الوجوب، ويتعين تفرقتها فورًا بموضع الوجوب: وهو في الحرث (الزرع والثمر) والماشية: الموضع الذي جبيت منه، وفي النقود وعروض التجارة: موضع المالك، حيث كان، ما لم يسافر، ويوكل من يخرج عنه ببلد المال.
وقال الشافعية: الأظهر منع نقل الزكاة، ويجب صرفها إلى الأصناف في البلد الذي فيه المال، لحديث معاذ المتقدم، فإن لم توجد الأصناف في البلد الذي وجبت فيه الزكاة، أو لم يوجد بعضهم، أو فضل شيء عن بعض وجد منهم، نقلت إلى أقرب البلاد لبلد الوجوب.
وقال الحنابلة: المذهب أنه لا يجوز نقل الصدقة من بلد مال الزكاة إلى بلد
(١) الدر المختار: ٩٣/ ٢ - ٩٥، الفتاوى الهندية: ١٧٨/ ١، الكتاب مع اللباب: ١٥٨/ ١، فتح القدير: ٢٨/ ٢ ومابعدها، القوانين الفقهية: ص١١١، الشرح الصغير: ٦٦٧، أحكام القرآن لابن العربي: ٩٦٣/ ٢، المجموع: ٢٣٧/ ٦، مغني المحتاج: ١١٨/ ٣، بجيرمي الخطيب: ٣١٨/ ٢، المهذب: ١٧٣/ ١، المغني: ٦٧١/ ٢ - ٦٧٤.
 
مسافة القصر، أي يحرم نقلها إلى مسافة القصر، ولكن تجزئه. ويجوز نقلها لأقل من مسافة القصر من البلد الذي فيه المال. والمستحب تفرقة الصدقة في بلدها، ثم الأقرب فالأقرب من القرى والبلدان.

خامسًا - أخذ البغاة والخوارج الزكاة: إذا تغلبت فئة الخوارج والبغاة على بلد إسلامي، فأخذوا زكواتهم وعشور أراضيهم وخراجها، ثم استعادها الإمام منهم أو أخذ السلطان الجائر الزكاة، أجزأ المدفوع عن أصحابه ولا يثنّى عليهم، وأجزأ دفع الخراج عن المكلف به، سواء عدل الآخذ فيما أخذ أو جار، وسواء أخذها قهرًا أو دفعت إليه اختيارًا. وذلك عملًا بفعل الصحابة، ولأن المعطي دفعها إلى أهل الولاية، ولأن حق الأخذ للإمام لأجل الحفظ والحماية، ولم يوجد ذلك منه، فجاز دفعها لغيره (١). لكن قال الحنفية: إلا أن المعطين يفتون فيما بينهم وبين ربهم أن يؤدوا الزكاة والعشور ثانيًا. وقالوا أيضًا: لو أخذ السلطان الصدقات أو الجبايات أو أخذ مالًا مصادرة إن نوى المأخوذ منه الصدقة عند الدفع، جاز وبه يفتى، أو إذا دفع إلى كل جائر بنية الصدقة يجزئ، والأحوط الإعادة.
سادسًا - الحيلة لإسقاط الزكاة: يحرم التحايل لإسقاط الزكاة كأن يهب المال المزكى لفقير ثم يشتريه منه، أو يهبه لقريب قبل حولان الحول ثم يسترده منه فيما بعد.
ولو أبدل النصاب بغير جنسه كإبدال الماشية بدراهم، فرارًا من الزكاة، أو أتلف جزءًا من النصاب قصدًا للتنقيص لتسقط عنه الزكاة، أو جعل السائمة
(١) البدائع: ٣٦/ ٢، فتح القدير: ٥١٢/ ١، المغني: ٦٤٤/ ٢ ومابعدها، الدر المختار: ٣٣/ ٢.
 
علوفة، لم تسقط عنه الزكاة عند الحنابلة والمالكية (١) سدًا للذرائع، لأنه قصد إسقاط نصيب من انعقد سبب استحقاقه، ولقوله تعالى: ﴿إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة، إذ أقسموا ليصرمُنَّها مصبحين، ولا يستثنون، فطاف عليها طائف من ربك، وهم نائمون، فأصبحت كالصريم﴾ [القلم:١٧/ ٦٨ - ٢٠] فعاقبهم الله تعالى بذلك، لفرارهم من الصدقة. قال أبو يوسف: لا يحتال في إبطال الصدقة بوجه ولا سبب.
وقال أبو حنيفة والشافعي: تسقط عنه الزكاة؛ لأنه نقص قبل تمام حوله، فلم تجب فيه الزكاة، كما لو أتلف لحاجته.

سابعًا - هل تجزئ الضريبة المدفوعة للدولة عن الزكاة؟ لا تجزئ أصلًا الضريبة عن الزكاة؛ لأن الزكاة عبادة مفروضة على المسلم شكرًا لله تعالى وتقربًا إليه، والضريبة التزام مالي محض خال عن كل معنى للعبادة والقربة، ولذا شرطت النية في الزكاة ولم تشرط في الضريبة، ولأن الزكاة حق مقدر شرعًا، بخلاف الضريبة فإنها تخضع لتقدير السلطة، ولأن الزكاة حق ثابت دائم، والضريبة مؤقتة بحسب الحاجة، ولأن مصارف الزكاة هي الأصناف الثمانية: الفقراء والمساكين المسلمون إلخ، والضريبة تصرف لتغطية النفقات العامة للدولة. وللزكاة أهداف روحية وخلقية واجتماعية إنسانية، أما الضريبة فلا يقصد بها تحقيق شيء من تلك الأهداف (٢).
(١) المغني: ٦٧٦/ ٢، مغني المحتاج: ٣٧٩/ ١، حاشية ابن عابدين: ٤٥/ ٢، الخراج لأبي يوسف: ص٨٠.
(٢) فقه الزكاة للقرضاوي: ٩٩٧ - ١٠٠٣.
 
ثامنًا - حكم من مات وعليه زكاة أمواله، أو هل تسقط الزكاة بالموت؟ اختلف الفقهاء في ذلك (١)، فقال المالكية والشافعية والحنابلة: من وجبت عليه زكاة وتمكن من أدائها، فمات قبل أدائها، عصى، ووجب إخراجها من تركته، وإن لم يوص بها، ولا تسقط بموته؛ لأنها حق واجب تصح الوصية به، أو حق مال لزمه في حال الحياة، فلم يسقط بالموت كدين الآدمي. ولكن تنفذ من ثلث التركة كالوصية في مشهور مذهب المالكية، ومن رأس مال التركة كلها في رأي الشافعي وأحمد.
وإذا اجتمع في تركة الميت دين لله تعالى ودين لآدمي، مثال الأول: زكاة وكفارة ونذر وجزاء صيد حرمي وغير ذلك، فالأصح عند الشافعية تقديم دين الله تعالى.
وقال أبو حنيفة: تسقط عنه الزكاة بالموت، إلا أن يوصي بها وصية، فتخرج من الثلث، ويزاحم بها أصحاب الوصايا، وإذا لم يوص بها سقطت؛ لأنها عبادة من شرطها النية، فسقطت بموت من هي عليه كالصوم.
فتكون مسقطات الزكاة عند الحنفية ثلاثة: موت من عليه الزكاة من غير وصية، والردة، وهلاك النصاب بعد الحول قبل التمكن من الأداء وبعده، خلافًا للشافعي وغيره في الأمور الثلاثة.

تاسعًا - إسقاط الدين لا يقع عن الزكاة: يترتب على اشتراط تمليك الزكاة للفقراء ونحوهم (٢) أن المسامحة بالدين لا
(١) بداية المجتهد: ٢٤١/ ١ ومابعدها، المهذب: ١٧٥/ ١، المجموع: ٢٥٠/ ٦ وما بعدها، المغني: ٦٨٣/ ٢ ومابعدها، ٨٠/ ٣ ومابعدها، البدائع: ٥٢/ ٢ وما بعدها.
(٢) البدائع: ٣٩/ ٢، الدر المختار: ٨٥/ ٢، الفتاوى الهندية: ١٧٨/ ١، كشاف القناع: ٣٣٧/ ٢.
 
تجزئ عند الحنفية عن الزكاة، وإنما يجب إعطاء الزكاة للفقير، ويمكن استيفاء الدين منه بعد ذلك فيعطيه الزكاة، ثم بعد أن يستلمها يقول له: أعطني ديني، وكذلك أجاز الحنابلة الإعطاء للمدين ثم يستوفي منه حقه، ما لم يكن حيلة أي بأن شرط عليه أن يردها عليه من دينه. ولو اشترى بالزكاة طعامًا، فأطعم الفقراء غداء وعشاء، ولم يدفع عين المال إليهم لايجوز، لعدم التمليك، ولو دفع الزكاة للفقير لا يتم الدفع ما لم يقبضها بنفسه أو يقبضها له وليه أو وصيه.
ولو قضى دين ميت فقير بنية الزكاة، لم يصح عن الزكاة؛ لأنه لم يوجد التمليك من الفقير، لعدم قبضه، لكن لو قضى دين فقير حي بأمره، جاز عن الزكاة، لوجود التمليك من الفقير؛ لأنه لما أمره به، صار وكيلًا عنه في القبض، فصار كأن الفقير قبض الصدقة بنفسه، وملكها للغريم الدائن.

عاشرًا - الإبراء من الدين على مستحق الزكاة واحتسابه منها واعتبار ما أخرج، على ظن الوجوب، زكاة معجلة:
هذا الموضوع: «الإبراء من الدين» ليقع عن الزكاة يثار البحث حوله من قديم، وتبرز الحاجة إلى معرفة حكمه بنحو متميز في عصرنا حيث تلكأ الناس عن دفع الزكاة المفروضة، وأهملوا إخراجها، ولجأ بعضهم إلى بعض الحيل للتخلص من أدائها.
وقبل التعرف على الحكم الواجب الاتباع، يجب التذكر بأن منهج العالم وإفتائه يكون بما ترجح دليله، وظهر وجه الحق فيه، كما قرر العلماء، كما أن ما أيدته القواعد الشرعية الكثيرة، واطمأن إليه العقل وارتاحت له النفس، أو قال به أكثر العلماء، يكون مرجحًا الأخذ به.
 
ويفرح بعض الناس اليوم كلما وجد رأيًا في رحاب وزوايا الفقه الإسلامي، فيدعو للأخذ به، وإن كان شاذًا أو ضعيفًا، من غير حاجة ملحة أو ضرورة ملجئة، علمًا بأنه ما أكثر الآراء والخلافات! فلا تكاد تخلو مسألة من قولين فأكثر قد تصل إلى عشرة أقوال، وليس التجديد أو الترجيح أو الاجتهاد بإحياء الآراء الشاذة.
وهذه المسألة موضوع البحث قد يبدو فيها لأول وهلة دون مراعاة قواعد الشريعة، الميل للأخذ بما تيسر على الناس، فيؤدي الغني زكاة ماله عن طريق إبراء ما له من ديون في ذمم الآخرين المستحقين، واعتبار المدفوع زكاة معجلة على رأي جمهور الفقهاء غير الظاهرية والمالكية، الذين يجيزون تعجيل الزكاة قبل الحول، ولعام واحد لا لعامين، وبعد ملك النصاب الشرعي؛ لأنه أداء بعد سبب الوجوب.
وهبة الدين لمن هو عليه يسمى إبراء؛ لأن الهبة الحقيقية تكون لغير من عليه الدين (١).
وأبين في هذا البحث آراء العلماء وأدلتهم، وما ترجح لدي منها بعد مناقشتها.

آراء العلماء في الإبراء من الدين واحتسابه من الزكاة:
للفقهاء رأيان في هذا الموضوع، رأي بالجواز والإجزاء، ورأي بعدم الجواز والإجزاء.

أما الرأي الأول: فهو للظاهرية وبعض التابعين (الحسن البصري وعطاء) والشيعة الجعفرية.
(١) حاشية الصاوي على الشرح الصغير: ٦٤٩/ ١.
 
وأما الرأي الثاني: فهو للجمهور الأعظم: أئمة المذاهب الأربعة، والإباضية والزيدية وسفيان الثوري وأبي عبيد.
وأبدأ ببيان الرأي الأول ذاكرًا مقولة أنصاره وأدلتهم:
أـ فقال ابن حزم الظاهري: من كان له دين على بعض أهل الصدقات فتصدق عليه بدينه قبله، ونوى بذلك أنه من زكاته، أجزأه ذلك، وكذلك لو تصدق بذلك الدين على من يستحقه، وأحاله به على من هو له عنده، ونوى بذلك الزكاة، فإنه يجزئه.
برهان ذلك: أنه مأمور بالصدقة الواجبة، وبأن يتصدق على أهل الصدقات من زكاته الواجبة بما عليه منها، فإذا كان إبراؤه من الدين يسمى صدقة، فقد أجزأه. ويؤيد ذلك ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: «أصيب رجل على عهد رسول الله ﷺ في ثمار ابتاعها، فكثر دينه، فقال رسول الله ﷺ: تصدّقوا عليه ..» (١).
لكن الحديث واضح في بذل الصدقات وأداء المال بالفعل من القادرين الأغنياء لهذا الرجل المديون الذي استغرقت الديون ماله، سواء أكان المتصدق دائنًا له أم لا. ولا شك بأن دفع المال صدقة يختلف عن الإبراء من الدين الذي هو إسقاط الدين، فإن الصدقات سبيل للإغناء، وتمكين من وفاء الديون، وعون للمدين على التخلص من أزمة الدين أو الإفلاس، بسداد الديون لأصحابها مما تجمع لديه من الصدقات، والإبراء من الدين إسقاط لا تمليك عند أكثر الفقهاء كما سيأتي، وهو إن اعتبر صدقة تطوع على المدين المعسر، إلا أنه يتعذر اعتباره زكاة؛ لاشتراط كون النية عند أداء الزكاة مقارنة للأداء، كما سيأتي:
(١) المحلى لابن حزم: ١٠٥/ ٦ ومابعدها، ف/٦٩٨، ط دار الآفاق الجديدة بيروت.
 
ب - وقال بعض التابعين (الحسن البصري وعطاء): يجزئ جعل الدين عن الزكاة لمدين معسر؛ لأنه لو دفعه إليه، ثم أخذه منه، جاز، فكذا إذا لم يقبضه، كما لو كانت له عنده دراهم وديعة، ودفعها عن الزكاة، فإنه يجزئه، سواء قبضها أم لا، فمن أراد ترك الدين الذي هو عليه، وأن يحسبه من زكاة ماله الذي في يده، أجزأه عن الزكاة، بشرط أن يكون الذي عليه الدين من أهل الزكاة الذين يصح دفعها إليهم. قيل لعطاء بن أبي رباح: لي على رجل دين، وهو معسر، أفأدعه له، وأحتسب به من زكاة مالي؟ فقال: نعم.
وكان الحسن لا يرى بذلك بأسًا إذا كان ذلك من قرض، ثم قال: فأما بيوعكم هذه فلا (١)، أي إذا كان الدين ثمنًا لسلعة، فلا يراه الحسن مجزئًا، حتى لا يكون ذلك ذريعة للتجار باحتساب ما تعذر اقتضاؤه من الدين، وجعله من الزكاة.
لكن ناقش الحافظ أبو عبيد هذا الرأي قائلًا: وإنما نرى الحسن وعطاء كانا يرخصان في ذلك، أي في احتساب الدين من الزكاة، لمذهبهما الخاص في الزكاة، وذلك أن عطاء كان لا يرى في الدين زكاة، وإنْ على المليء، وإن الحسن كان ذلك رأيه في الدين الضمار، وهذا الذي على المعسر هو ضمار: وهو الغائب الذي لا يرجى وصوله، فإذا رجي فليس بضمار (٢)، وهذا الذي على المعسر هو ضمار، لايرجوه، فاستوى قولهما ههنا، فلما رأيا أنه لا يلزم ربّ المال حقّ الله في ماله هذا.
(١) المجموع للنووي: ١٥٧/ ٦، مكتبة الإرشاد - جدة، الأموال لأبي عبيد: ص ٥٣٣، ٦١١، منشورات مكتبة الكليات الأزهرية ودار الفكر بمصر.
(٢) ومن جملته: المال المفقود، والآبق: والضال، والمغضوب إذا لم يكن عليه بينة، والدين الذي جحده المدين.
 
قال علي ﵁: «لا زكاة في المال الضمار» ولأن السبب هو المال النامي، ولا نماء إلا بالقدرة على التصرف، ولا قدرة عليه. الغائب، جعلاه كزكاة قد كان أخرجها، فأنفذها إلى هذا المعسر، وبانت من ماله، فلم يبق عليه إلا أن ينوي بها الزكاة، وأن يبرئ صاحبه منها، فرأياه مجزئًا عنه إذا جاءت النية والإبراء. وهذا مذهب لا أعلم أحدًا يعمل به، ولا يذهب إليه أحد من أهل الأثر وأهل الرأي (١).
وإذا كان في هذا القول تيسير على صاحب الدين وعلى المدين جميعًا، فإن محل التيسير وحالته شرط ضروري لكل يسر، فالصلاة تقصر في حال السفر، مثلًا، والصيام لا يطلب من المسافر والمريض، لوجود ظرف السفر والمرض، فإن لم يتوافر للتيسير مجال أو محل أو حالة مقبولة شرعًا كما في هذا الإبراء عن دين المعسر، كان ذلك عبثًا في شرع الله ودينه، كما أن فيه إخلالًا بأحكام الزكاة وشروطها.
جـ - وقال الشيعة الإمامية (الجعفرية): إذا كان على إنسان دين، ولا يقدر على قضائه، وهو مستحق للزكاة، جاز له أن يقاصّه من الزكاة، وكذلك إن كان الدين على ميت، جاز له أن يقاصّه منها. سأل رجل جعفر الصادق قائلًا: لي دين على قوم قد طال حبسه عندهم، لا يقدرون على قضائه، وهم مستوجبون للزكاة: هل لي أن أدعه، فأحتسب به عليهم من الزكاة؟ قال: نعم (٢).
وهذا رأي يحتاج إلى الدليل، وقواعد الشرع تأباه؛ لأنه لا يعدو أن يكون دين المعسر مالًا ساقطًا ضائعًا يتعذر الوفاء به، فيجعل أداة لإجزائه عن الزكاة، وحيلة لإغنائه عنها، وهو في جميع الأحوال مال ميؤوس من الحصول عليه.
(١) الأموال، المرجع السابق ٥٣٣.
(٢) الفقه على المذاهب الخمسة: ص ١٧٥ ومابعدها للأستاذ محمد جواد مغنيِّة، الطبعة الخامسة، دار العلم للملايين - بيروت، فقه الإمام جعفر، للأستاذ مغنيِّة: ٨٨/ ٢، النهاية في مجرد الفقه والفتاوى لشيخ الطائفة محمد بن الحسن علي الطوسي (٣٨٥ - ٤٦٠ هـ) - دار الكتاب العربي - بيروت: ص١٨٨.
 
وأما أنصار الرأي الثاني وهم الجمهور الأعظم فيقولون: إن الإبراء من الدين عن المدين المعسر أو إسقاط الدين أو المسامحة بالدين لا يقع عن الزكاة بحال، ولا يجزئ عنها، وإنما يجب إعطاء الزكاة فعلًا للفقير، كما لو قضى دين ميت فقير بنية الزكاة، لم يصح عن الزكاة، لأنه لا يوجد التمليك من الفقير، لعدم قبضه. لكن لو قضى دين فقير حي بأمره، جاز عن الزكاة، لوجود التمليك من الفقير؛ لأنه لما أمره به، صار وكيلًا عنه في القبض، فصار كأن الفقير قبض الصدقة لنفسه، وملّكها للغريم الدائن.
وأذكر عبارة كل مذهب من هؤلاء:
أـ قال الحنفية: تتعلق الزكاة بعين المال المزكى، كتعلق حق الرهن بالمال المرهون، ولا يزول هذا الحق إلا بالدفع إلى المستحق (١). ولا يجوز أداء الزكاة إلا بنية مقارنة للأداء أو مقارنة لعزل مقدار الواجب؛ لأن الزكاة عبادة، فكان من شرطها النية، والأصل فيها الاقتران، إلا أن الدفع يتفرق، فاكتفي بوجودها - أي النية - حالة العزل تيسيرًا كتقديم النية في الصوم.
وعلى هذا لو كان لشخص دين على فقير، فأبرأه عنه، ناويًا به الأداء عن الزكاة، لم يجزئه؛ لأن الإبراء إسقاط، والساقط ليس بمال، فلا يجزئ أن يكون الساقط عن المال الواجب في الذمة، وبناء عليه قالوا: لا يجوز الأداء في صورتين، يهمنا منهما الصورة الأولى:
الأولى - أداء الدين عن العين، كجعله ما في ذمة مديونه زكاة لماله الحاضر
(١) وقال الشافعية والمالكية والإمامية: إن الزكاة تجب في عين المال، والفقير شريك حقيقي للمالك، بدليل قوله تعالى: ﴿وفي أموالهم حق للسائل والمحروم﴾ [الذاريات:١٩/ ٥١] وقد تواترت الأحاديث أن الله أشرك بين الأغنياء والفقراء في الأموال، ولكن قد أجاز الشرع رفقًا بالمالك أن يؤدي هذا الحق من الأموال الأخرى التي لا زكاة فيها.
 
بخلاف ما إذا أمر فقيرًا بقبض دين له على آخر عن زكاة دين عنده، فإنه يجوز: لأنه عند قبض الفقير يصير عينًا، فكان عينًا عن عين، أي فكان قبض الدين الذي تحول بالقبض إلى شيء معين مجزئًا عن قبض عين مال الزكاة المستحق للفقير في مال الغني.
الثانية - أداء دين عن دين سيقبض: كما لوأبرأ الفقير عن بعض النصاب ناويًا به الأداء عن الباقي؛ لأن الباقي يصير عينا بالقبض، فيصير مؤديًا بالدين عن العين (١).
ب - وكذلك قال المالكية: تجب نية الزكاة عند الدفع إلى الفقير، ويكفي عند عزلها، ولا يجب إعلام الفقير، بل يكره، لما فيه من كسر قلب الفقير، وأضافوا أنه لا يجوز إخراج الزكاة قبل الحول؛ لأنها عبادة تشبه الصلاة، فلم يجز إخراجها قبل الوقت، ولأن الحول أحد شرطي الزكاة، فلم يجز تقديم الزكاة عليه، كالنصاب، ويكره تقديم الزكاة أو تعجيلها قبل وجوبها بنحو شهر فقط، لا أكثر في عين (ذهب أو فضة) وما شية، لا ساعي لها، فتجزئ مع الكراهة، بخلاف ما لها ساع، وبخلاف الحرث، فلا تجزئ. وقالوا أيضًا: لو سرق مستحق بقدر الزكاة، فلا تكفي، لعدم النية (٢).
وجاء في المعيار المعرب للونشريسي بعنوان: لا يقتطع الدين الذي على الفقراء في الزكاة: وسئل عمن له دين على فقراء، هل يقطعه عليهم فيما وجب له عليهم من زكاته، أم لا؟ فأجاب: لا يجوز فعله، ولا يجزئ إن فعل (٣).
(١) البدائع: ٣٩/ ٢، فتح القدير: ١٦٩/ ٢ - ١٧١، ط دار الفكر - بيروت، حاشية ابن عابدين: ٢٧٠/ ٢ - ٢٧١، الطبعة الثانية، طبعة البابي الحلبي بمصر، الفتاوى الهندية: ١٧٨/ ١.
(٢) الشرح الصغير: ٦٦٦/ ١،٦٦٩،٦٧١، الشرح الكبير: ٤٣١/ ١، بداية المجتهد: ٢٦٦/ ١، القوانين الفقهية: ص ٩٩.
(٣) المعيار المعرب: ٣٨٩/ ١.
 
جـ - وقال الشافعية أيضًا: تجب النية عند الدفع إلى الفقير أو عند التفريق، ولو عزل مقدار الزكاة، ونوى عند العزل، جاز، فإن لم ينو المالك عند الدفع للسلطان، لم يجزئ على الصحيح (١).
وجاء في المجموع للنووي (٢): إذا كان لرجل على معسر دين، فأراد أن يجعله عن زكاته، وقال له: جعلته عن زكاتي، فوجهان حكاهما صاحب البيان: أصحهما: لا يجزئه، وبه قطع الصيمرى، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد: لأن الزكاة في ذمته، فلا يبرأ إلا بإقباضها. والثاني يجزئه، وهو مذهب الحسن البصري وعطاء؛ لأنه لو دفعه إليه، ثم أخذه منه جاز، فكذا إذا لم يقبضه ... الخ ما ذكر سابقًا.
أما إذا دفع الزكاة إليه بشرط أن يردها إليه عن دينه، فلا يصح الدفع، ولا تسقط الزكاة بالاتفاق، ولا يصح قضاء الدين بذلك بالاتفاق، ممن صرح بالمسأله القفّال في الفتاوى وصاحب التهذيب في باب الشرط في المهر، وصاحب البيان هنا، والرافعي وآخرون. ولو نويا ذلك، ولم يشرطاه، جاز بالاتفاق، وأجزأه عن الزكاة، وإذا رده إليه عن الدين برئ منه.
قال البغوي: ولو قال المدين: ادفع إلي عن زكاتك حتى أقضيك دينك، ففعل أجزأه عن الزكاة، وملكه القابض، ولا يلزمه دفعه إليه عن دينه، فإن دفعه أجزأه.
قال القفال: ولو قال رب المال للمدين: اقض ما عليك على أن أرده عليك عن زكاتي، فقضاه، صح القضاء، ولا يلزمه رده إليه، وهذا متفق عليه. وذكر
(١) السراج الوهاج شرح المنهاج: ص١٣٤، ط دار المعرفة - بيروت.
(٢) المجموع: ١٥٧/ ٦.
 
الرُّوياني في البحر: أنه لو أعطى مسكينًا زكاة، وواعده أن يردها إليه ببيع أو هبة أو ليصرفها المزكي في كسوة المسكين ومصالحه، ففي كونه قبضًا صحيحًا احتمالان: قلت - أي النووي - الأصح لا يجزئه، كما لو شرط أن يرد إليه عن دينه عليه. قال القفال: ولو كانت له حنطة عند فقير وديعة، فقال: كُلْ منها لنفسك كذا، ونوى ذلك عن الزكاة، ففي إجزائه عن الزكاة وجهان: وجه المنع: أن المالك لم يَكِلْه، وكَيْل الفقير لا يعتبر، ولو كان وكّله بشراء ذلك القدر، فاشتراه وقبضه، ثم قال له الموكل: خذه لنفسك، ونواه زكاة، أجزأه؛ لأنه لا يحتاج إلى كيله. والله تعالى أعلم.
د - وقال الحنابلة: تشترط النية في أداء الزكاة، ويجوز تقديمها على الأداء بالزمن اليسير كسائر العبادات فلا بد من نية مقارنة أو مقاربة، ويجب إعطاء الزكاة للفقير، لكن لو أعطى المدين، ثم استوفى منه حقه، جاز، ما لم يكن حيلة، أي بأن شرط عليه أن يردها عليه من دينه (١)، كما ذكر النووي.
قال في كشاف القناع: ولا يكفي إبراء من دينه بنية الزكاة، سواء كان المخرج عنه دينًا أو عينًا، ولا تكفي الحوالة بها؛ لأن ذلك ليس إيتاء لها، وكذا الحوالة عليها؛ لأنه لا دين له يحيل عليه، إلا أن تكون بمعنى الإذن في القبض (٢).
هـ - وقال الإباضية: إن قال الدافع أي الذي لزمته الزكاة، وكان بصدد دفعها للمدين: قضيت لك مالي عليك من دين أو تباعة، فاقبله ولا تعطه - أي الدين - لي، أو على فلان، فخذه منه في زكاة مالي أي لزكاة أو بدل زكاة مالي، لم تجزه أيضًا عند بعض؛ إذ ذلك كبيع دين بدين، وهو لا يجوز إن شاء الله تعالى، وإن
(١) المغني: ٦٣٨/ ٢ ومابعدها، كشاف القناع: ٣٣٧/ ٢ - ط مكة، الشرح الكبير مع المغني: ٥٣٣/ ٢.
(٢) كشاف القناع: ٢٦٩/ ٢، ط عالم الكتب - بيروت.
 
قضاه ثم تصدق به عليه جاز. وقيل: يجزيه إذ هي كالهبة لما في الذمة، وهبة ما في الذمة جائزة، والأول مختار «الديوان» وقيل: يجزيه إذا قال: قضيت ما لي عليك، بشرط أن يجد من أين يتخلص مما عليه، وإن لم يجد فقولان أيضًا (١).
وـ وقال الزيدية: ولا يجوز ولا يجزئ الإبراء للفقير عن دين عليه لرب المال بنية جعل الدين زكاة المبري، بل يقبضه رب المال من الفقير، ثم يصرفه فيه، أو يوكله بقبضه من نفسه، ثم يصرفه في نفسه أو يوكل الفقير رب المال بأن يقبض له زكاة من نفسه، ثم يقبضه عن دينه، ويحتاج إلى قبضين: الأول للزكاة، والثاني للقضاء. والعلة في عدم إجزاء الإبراء: أنه أخرج من غير العين، ومن شرطه أيضًا التمليك، ولأن الدين ناقص، فلا يجزئ عن الكامل، يعني لا تصير زكاة. وأما الفقير فقد برئ من الدين، ولا يقال: هو على غرض ولم يحصل، لأن الغرض من جهة نفسه لا يمنع حصوله من صحة البراءة. وقيل: هو لا يبرأ إذ هو في مقابلة الإجزاء ولم يحصل، إلا أن يبرئه عالما ًبعدم الإجزاء، فتصح البراءة.
وشرطوا في صرف رب المال ما يقبضه من الفقير المدين في الدين: أن يكون المقبوض من جنس الدين، وأما إذا كان من غير جنسه، فهو بيع، فلا يصح أن يتولى الطرفين واحد. وقيل: يصح مطلقًا، وغايته: أن يكون فاسدًا، وهو يملك بالقبض (٢).
ز - كان سفيان الثوري يكره احتساب الدين من الزكاة، ولا يراه مجزئًا، كما ذكر أبو عبيد (٣).
(١) شرح النيل وشفاء الغليل للعلامة محمد بن يوسف أطَّفَيِّش: ٢٥١/ ٣ وما بعدها.
(٢) شرح الأزهار لأبي الحسن عبد الله بن مفتاح: ٥٤١/ ١ - ٥٤٢، مطبعة حجازي بالقاهرة.
(٣) الأموال لأبي عبيد: ص ٥٣٣.
 
ح - كذلك لم ير أبو عبيد إجزاء الزكاة بجعلها عن الدين، واستدل على ذلك بأدلة ثلاثة هي:
الأول - أن سنة رسول الله ﷺ في الصدقة (الزكاة) كانت على خلاف هذا الفعل؛ لأنه إنما كان يأخذها من أعيان المال عن ظهر أيدي الأغنياء (أي مقبوضًا منهم) ثم يردها في الفقراء. وكذلك كانت الخلفاء بعده، ولم يأتنا أحد منهم أنه أذن لأحد في احتساب دين من زكاة، وقد علمنا أن الناس قد كانوا يتداينون في دهرهم.
الثاني - أن هذا مال تاو (والتوى: الهلاك والضياع والخسارة) غير موجود قد خرج من يد صاحبه على معنى القرض والدين، ثم هو يريد تحويله بعد التواء إلى غيره بالنية، فهذا ليس بجائز في معاملات الناس بينهم، حتى يقبض ذلك الدين، ثم يستأنف الوجه الآخر، فكيف يجوز فيما بين العباد وبين الله ﷿؟ أي لأن حقوق العباد مبنية على المشاحّة، وحقوق الله ﷿ مبناها على المسامحة.
الثالث - أن هذا المزكي لا يؤمن أن يكون إنما أراد أن يقي ماله بهذا الدين الذي قد يئس منه، فيجعله ردءًا لماله يقيه به، إذا كان منه يائسًا، وليس يقبل الله ﵎ إلا ما كان له خالصًا (١).

الترجيح: تبين لنا ضعف الأدلة التي اعتمد عليها أنصار الرأي الأول الذين يرون احتساب الدين من الزكاة، وأدركنا قوة أدلة الرأي الثاني الذين يرون أن إسقاط الدين أو الإبراء منه لا يقع عن الزكاة، ويمكن تلخيص أدلتهم فيما يأتي:
١ - كون الدين في الذمة غير مملوك للمزكي الدائن؛ لأن الدين لا يملك إلا بالقبض.
(١) الأموال لأبي عبيد: ص ٥٣٣ - ٥٣٤.
 
٢ - عدم توافر القبض الذي يحقق معنى إعطاء الزكاة للمستحقين.
٣ - يشترط في الزكاة وغيرها مقارنة النية للأداء دائمًا.
٤ - التمليك شرط لصحة أداء الزكاة بأن تعطى للمستحقين، فلا يكفي فيها الإباحة أو الإطعام إلا بطريق التمليك، لقوله تعالى: ﴿إنما الصدقات للفقراء﴾ [التوبة:٦٠/ ٩] والتصدق تمليك، واللام في كلمة «للفقراء» لام التمليك. والدّين لا يملك إلا بالقبض، كما قال الإمامية أنفسهم (١).
والإبراء عند الحنفية والحنابلة إسقاط لا تمليك، وإذا كان الإبراء عند المالكية نقلًا للملك، وتمليكًا للمدين ما في ذمته في الجديد عند الشافعية، فإن هذا لا ينطبق عندهم على حالة الإبراء من الدين لاحتسابه من الزكاة، كما قرروا فيما سبق؛ لأن المسامحة بالدين لا تعد تمليكًا.
٥ - إن هذا الإبراء يعد حيلة للتهرب من الزكاة، وطريقًا للتخلص من حقوق الفقراء.
٦ - يعد هذا الإبراء مثل بيع دين في دين، كما ذكر الإباضية، وهو لا يجوز.
٧ - هذا عمل مخالف للسنة النبوية ولفعل الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين.
٨ - إن المال الموجود عند المدين مال تاو، أي تالف ضائع هالك.
٩ - أراد المزكي وقاية ماله بهذا الدين الذي صار ميئوسًا منه.
(١) الفقه على المذاهب الخمسة للأستاذ محمد جواد مغنية: ص ١٦٧.
 
١٠ - قد تتحول صفة القبض كالهبة للوديع أو المستعير دون حاجة لتجديد القبض كماذكر الحنفية، لكن يتعذر القول بهذا في الزكاة لفوات وقت النية، وهو مقارنتها للأداء والإقباض. والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.

المبحث الثامن - آداب الزكاة وممنوعاتها:
قال ابن جزي المالكي (١): ممنوعات الزكاة ثلاثة:
١ - أن تبطل بالمن والأذى؛ لأن المن بالصدقة يحبطها أي يمنع ثوابها لآية: ﴿ياأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى﴾ [البقرة:٢٦٤/ ٢] كذلك لا يستعظم مقدارها؛ لأن ذلك محبط للأعمال.
٢ - وأن يشتري الرجل صدقته.
٣ - وأن يحشر المصدِّق (الساعي) الناس إليها، بل يزكيهم بمواضعهم.
ووافق الحنابلة المالكية في الممنوع الثاني قائلين (٢): ليس لمخرج الزكاة شراؤها ممن صارت إليه، لما روي عن عمر أنه قال: «حَمَلتُ على فرس في سبيل الله، فأضاعه الذي كان عنده، وظننت أنه باعه برخص، فأردت أن أشتريه» فسألت رسول الله ﷺ، فقال: «لا تبتعه، ولا تعد في صدقتك ولو أعطاكه بدرهم، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه» (٣).
وقال الشافعي وغيره: يجوز استرداد الزكاة بالشراء وغيره؛ لقول النبي ﷺ
(١) القوانين الفقهية: ص ٩٩ وما بعدها.
(٢) المغني: ٦٥١/ ٢.
(٣) متفق عليه عن زيد بن أسلم عن أبيه: ومعنى «حملت ...» أي تصدقت به ووهبته لمن يقاتل عليه في سبيل الله، فأضاعه صاحبه، أي قصر في القيام بعلفه ومؤنته (شرح مسلم: ٦٢/ ١١).
 
السابق: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: رجل ابتاعها بماله ...» (١) قال النووي (٢) عن حديث عمر: هذا نهي تنزيه لا تحريم، فيكره لمن تصدق بشيء أو أخرجه في زكاة أو كفارة أو نذر أو نحو ذلك من القربات أن يشتريه ممن دفعه هو إليه أو يهبه أو يتملكه باختياره منه، فأما إذا ورثه منه، فلا كراهة فيه.
وأضاف ابن جزي قائلًا: إن آداب الزكاة ستة:
١ - أن يخرجها طيبة بها نفسه.
٢، ٣ - وأن تكون من أطيب كسبه ومن خياره، أي أحله وأجوده وأحبه إليه، لكن يأخذ الساعي - كما بينت - أوسط المال.
٤ - أن يسترها عن أعين الناس، وهذا رأي الحنفية أيضًا، فالإسرار بإخراجها أفضل، لكونه أبعد عن الرياء، وعن إذلال الفقير، إلا إذا كان غنيًا، ليقتدي به غيره من الأغنياء.
وقال الشافعية والحنابلة (٣): الأفضل في الزكاة: إظهار إخراجها، ليراه غيره، فيعمل عمله، ولئلا يساء الظن به وذلك بالنسبة للمالك في غير الأموال الباطنة، وللإمام مطلقًا. أما صدقة التطوع فالأفضل الإسرار بها اتفاقًا، لحديث السبعة الذين يستظلون بظل العرش، والذي منهم: «من أخفى صدقته حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» (٤) وأضاف الشافعية: إنْ أظهرها مقتدى به ليقتدى به، ولم يقصد رياء ولا سمعة ولا تأذى به الآخذ، كان الإظهار أفضل.
(١) رواه أبو داود وغيره.
(٢) شرح مسلم: ٦٢/ ١١.
(٣) المجموع: ٢٥٣/ ٦، غاية المنتهى: ٣٠٢/ ١.
(٤) رواه مالك والترمذي عن أبي هريرة وأبي سعيد، ورواه أحمد والشيخان والنسائي عن أبي هريرة ورواه مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد معًا.
 
٥ - وأن يوكل في إخراجها، خوف الثناء.
٦ - وأن يدعو المزكي عند دفعها، فيقول: «اللهم اجعلها مغنمًا، ولا تجعلها مغرمًا» ويقول الآخذ والعامل: «آجَرَك الله فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت، وجعله لك طهورًا».
ويمكن إضافة آداب أخرى منها (١).
٧ - أن يختار لأداء الزكاة من اتصف بالتقوى والعلم وإخفاء الفقر والقرابة أو الرحم؛ لأن في إعطاء المال عونًا على طاعة الله، وتحصيل العلم، وتحقيق التعفف، ولأن الصدقة على الأقارب فيها أجران لكونها صدقة وصلة.
٨ - المبادرة لإخراج الزكاة، امتثالًا لأمر الله، علمًا بأنها تجب على الفور، فلو أخرها ليدفعها إلى من هو أحق بها من ذي قرابة أو ذي حاجة شديدة، قال الحنابلة: فإن كان شيئًا يسيرًا، فلا بأس، وإن كان كثيرًا، لم يجز. قال أحمد: «لا يجزي على أقاربه من الزكاة في كل شهر» يعني لا يؤخر إخراجها حتى يدفعها إليهم متفرقة في كل شهر شيئًا. فإن عجلها فدفعها إليهم أو إلى غيرهم متفرقة أو مجموعة، جاز؛ لأنه لم يؤخرها عن وقتها.
٩ - يندب عند الحنفية الدفع إلى الفقير بما يغنيه عن سؤال جميع ما يحتاجه في يومه لنفسه وعياله.
١٠ - لا حاجة لإعلام الفقير بكون المدفوع له هو زكاة، كما ذكر سابقًا.
(١) غاية المنتهى: ٣١٤/ ١، المغني: ٦٨٥/ ٢، الدر المختار: ٩٥/ ٢، فتح القدير: ٢٨/ ٢.
 
مبحثان ملحقان بمصارف الزكاة: (١)
١ ً - سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة: إن من الثمار اليانعة للصحوة الإسلامية المباركة العناية بفريضة الزكاة وترشيد صرفها إلى المستحقين المحتاجين أو الذين هم نتاج نمو الدعوة الإسلامية في أرجاء العالم، للدلالة على إسهام شريعة الله تعالى في تحقيق التكافل أو التضامن الاجتماعي، وحل مشكلات الاقتصاد العالمية والمحلية، على أساس من الوعي الديني الصحيح، والدافع الذاتي القوي المتفاعل مع تطلعات واحتياجات المجتمع، دون حاجة إلى الإجبار والإكراه، أو القسر والضغط والتهديد بعقوبات رادعة زاجرة.
وإذا كان من أصول السياسة الشرعية الحكيمة وجود قواعد الاستحسان والاستصلاح وسد الذرائع، فإن من أهم تطبيقاتها تخصيص أحد مصارف الزكاة الثمانية، وهو سهم المؤلفة قلوبهم، لعلاج ظاهرة اجتماعية وهي الحاجة إلى تثبيت الإيمان والإسلام في قلوب الذين يدخلون حديثًا في الإسلام، أو استمالة نفوس بعض المترددين في الاعتقاد الذي ينتظرون من يقدم لهم شيئًا من الأموال والمنافع والخدمات، أو تسخير طاقاتهم المادية والمعنوية في سبيل الدفاع عن حرمات الإسلام ومبادئه وقضايا الأمة المصيرية في معركتها المستمرة مع الأعداء الحاقدين، والكتاب المغرضين، وأصحاب المواقف المشبوهة.
وإني أبين هنا بكل وضوح حقيقة مصرف «المؤلفة قلوبهم» أحد مصارف الزكاة الثمانية التي نصت عليها الآية (٦٠) من سورة التوبة، وهي: ﴿إنما الصدقات للفقراء، والمساكين، والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب،
(١) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة (أبو أكرم الحلبيّ): في المجلد الأخير للكتاب، ملحق: فتاوى وتوصيات مؤتمر الزكاة الأول
 
والغارمين، وفي سبيل الله، وابن السبيل، فريضةً من الله، والله عليم حكيم﴾ [التوبة:٦٠/ ٩].
خطة البحث:
١ - معنى المؤلف قلوبهم، وهل نسخ سهمهم بعد موت الرسول ﷺ، أو مازال باقيًا لم ينسخ؟
٢ - الأحوال التي يستعمل فيها هذا السهم، ومدى حاجة الإسلام والمسلمين إليه في هذا الزمان.
٣ - تأليف قلوب الذين يؤمل إسلامهم أو تأثيرهم في توجيه المجتمع لصالح الدعوة الإسلامية.
٤ - استخدام هذا المصرف في إيجاد مؤسسات لرعاية المسلمين الجدد.
٥ - تأليف قلوب بعض الحكومات والدول غير الإسلامية، والتي تحوي جاليات إسلامية لتحقيق الأمن لها، أو بعض الدول غير الإسلامية التي تعارض إقامة مشاريع إسلامية على أرضها.
٦ - المشاركة في سهم المؤلفة قلوبهم في التبرعات التي تجمع للكوارث والنكبات التي تصيب بعض الدول غير الإسلامية كالزلازل والفيضانات.
٧ - صرف جزء من سهم المؤلفة قلوبهم في الأمور الدعائية لتحسين النظرة إلى الإسلام والمسلمين.
وأبدأ ببيان هذه العناصر تباعًا.
 
١ - معنى المؤلفة قلوبهم، وهل نسخ سهمهم بعد موت الرسول ﷺ، أو مازال باقيًا لم ينسخ؟ المؤلفة قلوبهم: هم قوم من الكفار يراد بإغراء المال استمالة قلوبهم إلى الإسلام فيرجى خيرهم، أو منع أذاهم وضررهم بسبب الخوف من شرهم، أو جماعة من المسلمين ضعفاء النية في الإسلام يعطون من الزكاة لتقوية إسلامهم وتثبيتهم على الدين، أو ترغيب نظرائهم في الإسلام، أو لجباية الصدقات من قومهم، أو لقتال من يليهم ويجاورهم من الكفار (١). أو هم كما قال الحسن وابن جريح: الذين كانوا يتألفون بالعطية، ولا حسبة لهم في الإسلام (٢).
وعرفهم الطبري بأنهم قوم كانوا يتألفون على الإسلام، ممن لم تصح نصرته، استصلاحًا به نفسه وعشيرته، كأبي سفيان بن حرب، وعيينة بن بدر، والأقرع بن حابس ونظرائهم من رؤساء القبائل، وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل (٣).
وعرفهم القرطبي بقوله: هم قوم كانوا في صدر الإسلام ممن يظهر الإسلام، يتألفون بدفع سهم من الصدقة إليهم لضعف يقينهم (٤).
وقد ورد في السنة النبوية أحاديث كثيرة تدل على جواز التأليف لمن لم يرسخ إيمانه من مال الله ﷿، منها إعطاؤه ﷺ أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وعباس بن مرداس، ومالك بن عوف
(١) المجموع للنووي: ٢٠٦/ ٦ وما بعدها.
(٢) الأموال: ص ٦٠٦.
(٣) تفسير الطبري: ١١٢/ ١٠.
(٤) تفسير القرطبي: ١٧٨/ ٨.
 
النضري وحكيم بن حزام وغيرهم، كل إنسان منهم مئة من الإبل (١) إلا عبد الرحمن بن يربوع وحويطب بن عبد العزى، فإنه أعطى كل رجل منهما خمسين. وهؤلاء جميعًا قوم من رؤساء قريش وصناديد العرب الطلقاء لهم شوكة وقوة وأتباع كثيرون، بعضهم أسلم حقيقة، وبعضهم أسلم ظاهرًا لا حقيقة وكان من المنافقين، وبعضهم كان من المسالمين.
وروي أيضًا أنه ﷺ أعطى عَلْقمة بن عُلاَثة مئة من الإبل، ثم قال للأنصار لما عتبوا عليه، «ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاء والإبل، وتذهبون برسول الله ﷺ إلى رحالكم؟» ثم قال لما بلغه أنهم قالوا: يعطي صناديد نجد ويدعنا؟ «إنما فعلت ذلك لأتألفهم» كما في صحيح مسلم (٢).
وأخرج الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أنس ﵁: «أن رسول الله ﷺ لم يكن يُسأل شيئًا على الإسلام إلا أعطاه، قال: فأتاه رجل فسأله، فأمر له بشاء كثير بين جبلين من شاء الصدقة، قال فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة».
وأخرج أحمد والبخاري عن عمرو بن تَغْلِب: «أن رسول الله ﷺ أتي بمال أو سبي، فقسمه، فأعطى رجالًا، فبلغه أن الذين ترك عتبوا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فوالله، إني لأعطي الرجل، وأدع الرجل، والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي، ولكني أعطي أقوامًا لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل أقوامًا إلى ما جعل في قلوبهم من الغنى والخير منهم عمرو بن تغلب، فوالله ما
(١) نيل الأوطار: ١٦٦/ ٤، فتح القدير: ١٤/ ٢.
(٢) المرجع السابق والمكان السابق.
 
أحب أن لي بكلمة رسول الله ﷺ حُمْر النعم». وقال الزهري حينما سئل عن المؤلفة قلوبهم: هم من أسلم من يهودي أو نصراني، وإن كان غنيًا (١).
تدل هذه الأحاديث وغيرها دلالة واضحة على أن النبي ﷺ كان يعطي بعض الكفار ومن لم يرسخ الإيمان في قلبه من الزكاة مال الله ﷿. ثم امتنع أبو بكر وعمر ﵄ من إعطاء المؤلفة قلوبهم، أما أبو بكر فامتنع من إعطاء أبي سفيان وعيينة والأقرع وعباس بن مرداس، وقال عمر: «إنا لا نعطي على الإسلام شيئًا، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر».
وفي ضوء هذا الواقع برز خلاف بين العلماء في مدى بقاء سهم المؤلفة قلوبهم، هل ما زال باقيًا لم ينسخ، أو أنه نسخ بعد وفاة الرسول ﷺ؟
انقسم العلماء في هذا الشأن فريقين: فريق يقول بالنسخ: وأنه لا سهم لأحد في الصدقة المفروضة إلا لذي حاجة إليها. وفريق آخر يقول بأن حكم المؤلفة باق لم ينسخ، فهم في كل زمان ولهم حق في الصدقات (٢).
ويحتاج الأمر إلى إيراد آراء المذاهب، كل مذهب على حدة، لوجود الخلاف أحيانًا في المذهب الواحد، ووجود تفصيل في بعض المذاهب.

ذهب الحنفية (٣) إلى سقوط سهم المؤلفة قلوبهم، وانتساخ سهمهم وذهابه بعد وفاة النبي ﷺ، إما لزوال علة الحكم وهي إعزاز الدين والحاجة إليهم في صدر الإسلام حال ضعف المسلمين، فبعد أن اعتز الإسلام زالت الحاجة، فهو من قبيل انتهاء الحكم لانتهاء علته
الغائية التي كان لأجلها الدفع أو الإعطاء، فإن الدفع
(١) تفسير الطبري: ١١٢/ ١٠.
(٢) المرجع السابق: ص ١١٣.
(٣) البدائع: ٤٤/ ٢، رد المحتار على الدر المختار: ٨٢/ ٢ - ٨٣، فتح القدير مع الهداية: ٢/ ٤١.
 
كان لإعزاز الدين، وقد أعز الله الإسلام وأغنى عنهم، كما قال ابن عابدين نقلًا عن البحر الرائق. وقال المرغيناني في الهداية: وقد سقط سهم المؤلفة قلوبهم، لأن الله تعالى أعز الإسلام، وأغنى عنهم، وعلى ذلك انعقد الإجماع.
أو سقط سهمهم، لأن الحكم نسخ بقوله ﷺ لمعاذ في آخر الأمر عن الزكاة: «خذها من أغنيائهم، وردها في فقرائهم» (١).
أو لأن الناسخ كما ذكر الكاساني هو إجماع الصحابة على ذلك، فإن أبا بكر وعمر ﵄ ما أعطيا المؤلفة قلوبهم شيئًا من الصدقات، ولم ينكر عليهما أحد من الصحابة ﵃، فإنه روي أنه لما قبض رسول الله ﷺ جاؤوا إلى أبي بكر، واستبدلوا الخط منه لسهامهم (أي إصدار كتاب رسمي بحقوقهم) فبدل لهم الخط، ثم جاؤوا إلى عمر ﵁، وأخبروه بذلك، فأخذ الخط من أيديهم ومزقه، وقال: «إن رسول الله كان يعطيكم ليؤلفكم على الإسلام، فأما اليوم، فقد أعز الله دينه، فإن ثَبَتُّم على الإسلام، وإلا فليس بيننا وبينكم إلا السيف» فانصرفوا إلى أبي بكر، فأخبروه بما صنع عمر ﵄، وقالوا: «أنت الخليفة أم هو؟ فقال: إن شاء الله هو»، ولم ينكر أبو بكر قوله وفعله، وبلغ ذلك الصحابة، فلم ينكروا، فيكون إجماعًا منهم على ذلك، ولأنه ثبت باتفاق الأمة أن النبي ﷺ إنما كان يعطيهم ليتألفهم على الإسلام، ولهذا سماهم الله «المؤلفة قلوبهم» والإسلام يومئذ في ضعف، وأهله قلة، وأولئك كثير، ذوو قوة وعدد، واليوم بحمد الله عزّ الإسلام وكثر أهله، واشتدت دعائمه، ورسخ بنيانه، وصار أهل الشرك أذلاّء. والحكم متى ثبت معقولًا بمعنى خاص ينتهي بذهاب ذلك المعنى.
(١) رواه الجماعة عن ابن عباس ﵄. ويروى أن عمر بن الخطاب حين جاءه عُيينة بن حصن قال: ﴿الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ، وَمَنْ شاءَ فَلْيكْفُرْ﴾ [الكهف:٢٩/ ١٨].
 
يعني: ليس اليوم مؤلفة.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الشعبي قال: «إنما كانت المؤلفة على عهد النبي ﷺ، فلما ولّي أبو بكر انقطعت».

ويرى بعض المالكية (القاضي عبد الوهاب وصححه ابن بشير وابن الحاجب واعتمده العلامة خليل في مختصره: «أن حكم المؤلَّف قلبه (وهو كافر يعطى من الزكاة ليسلم، وقيل: مسلم حديث عهد بإسلام ليتمكن إسلامه) باق لم ينسخ، أي أن تأليفه بالدفع إليه ما يزال معمولًا به، لأن المقصود من دفع الزكاة إليه ترغيبه في الإسلام لأجل إنقاذ مهجته من النار».
والمشهور من المذهب والراجح انقطاع سهم المؤلفة قلوبهم، بعزة الإسلام، لأن المقصود من دفع الزكاة إليهم ترغيبهم في الإسلام لأجل إعانتهم لنا.
هذا إذا كان المؤلف كافرًا يعطى ترغيبًا له في الإسلام، فإن كان حديث عهد بإسلام، فحكمه باق اتفاقًا، ليتمكن إسلامه (١).
وعليه، فإن المالكية يوافقون الحنفية في القول بنسخ سهم المؤلفة للكفار، ويخالفونهم فيما إذا كانوا حديثي العهد بالإسلام، فالحكم باق فيهم. وهو قول عمروالحسن البصري والشعبي وغيرهم، فإنهم قالوا: (نقطع هذا الصنف بعز الإسلام وظهوره) (٢)، وهو أيضًا رأي الإباضية الذين قالوا: هو عندنا سقوطه ما دام الإمام قويًا، وعنهم غنيًا، وجاز إن نزل قوم بالإسلام منزلة خيف منهم ضعفه، تألفهم لدفع شرهم عنه وجلب نفعهم له (٣).
(١) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه: ٤٩٥/ ١، الشرح الصغير: ٦٦٠/ ١.
(٢) تفسير القرطبي:١٨١/ ٨.
(٣) شرح النيل:٢٣٣/ ٣.
 
ومذهب الشافعية كالمالكية في التفصيل، فإنهم قالوا: إن المؤلفة قلوبهم من الكفار لا يعطون شيئًا من الزكاة بلا خلاف لكفرهم، والصحيح أنهم لا يعطون شيئًا البتة من خمس الخمس الآتي من الغنائم والفيء، والمرصد للمصالح العامة؛ لأن الله تعالى قد أعز الإسلام وأهله عن تألف الكفار، والنبي ﷺ إنما أعطاهم حين كان الإسلام ضعيفًا، وقد زال ذلك، والله أعلم.
وأما مؤلفة الإسلام، فصنف دخلوا في الإسلام، ونيتهم ضعيفة، فيعطون تألفًا ليثبتوا، وصنف آخر لهم شرف في قومهم نطلب بتأليفهم إسلام نظائرهم، وصنف إن أعطوا جاهدوا من يليهم أو يقبضوا الزكاة من مانعيها، والمذهب أنهم يعطون، والله أعلم (١).

وذهب الحنابلة إلى أن حكم المؤلف باق: وهو السيد المطاع في عشيرته ممن يرجى إسلامه أو يخشى شره كخوارج، أو يرجى بعطيته قوة إيمانه أو إسلام نظيره، أو جبايتها ممن لا يعطيها، أو دفع عن المسلمين، أو نصح في الجهاد، ويعطى ما يحصل به التأليف، ويقبل قوله في ضعف إسلامه، أي أنه يعطى عند الحاجة.
ودليلهم واضح وهو العمل بنص الآية في مصارف الزكاة، والنبي ﷺ قال: «إن الله تعالى حكم فيها، فجزأها ثمانية أجزاء» وكان يعطي المؤلفة كثيرًا في أخبار مشهورة، ولم يزل كذلك حتى مات، ولا يجوز ترك كتاب الله وسنة رسوله إلا بنسخ، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، كما لا يصح النسخ بعد وفاة النبي ﷺ. ويحمل ترك عمر وعثمان وعلي إعطاءهم على عدم الحاجة إلى إعطائهم في خلافتهم، لا لسقوط سهمهم، فإن الآية من آخر ما نزل، وأعطى أبو بكر عدي بن حاتم والزِّبْرِقان بن بدر، ولأن المقصود من دفعها إليهم
ترغيبهم في الإسلام لأجل
(١) كفاية الأخيار: ٣٨١/ ١، ط قطر، المهذب: ١٧٢/ ١.
 
إنقاذ مهجهم من النار، لا لإعانتهم لنا حتى يسقط بفشو الإسلام (١). قال الزهري: لا أعلم شيئًا نسخ حكم المؤلفة.

ويوافق الشيعة الجعفرية والزيدية على هذا الرأي وهو أن حكم المؤلفة باق لم ينسخ ولم يبدل (٢).
والخلاصة: أن المؤلفة الكفار يعطون من الزكاة في رأي، ولا يعطون منها في رأي آخر، وأما المؤلفة المسلمون فيعطون من الزكاة اتفاقًا إذا كانوا حديثي عهد بإسلام ليتمكن الإسلام في نفوسهم كما ذكر الدسوقي، لكن يلاحظ أن هذا الاتفاق منقوض بمخالفة الحنفية الذين قالوا بنسخ سهم المؤلفة قلوبهم مطلقًا كما تقدم.

والراجح لدي أن سهم المؤلفة باق لم ينسخ، ويعطون من الزكاة أو من سهم المصالح عند الحاجة، سواء أكانوا مسلمين أم كفارًا. قال أبو عبيد في كتاب الأموال: وأما ما قال الحسن وابن شهاب، فعلى أن الأمر ماض أبدًا، وهذا هو القول عندي، لأن الآية محكمة، لا نعلم لها ناسخًا من كتاب ولا سنة (٣).
وقال الشوكاني ﵀: والظاهر جواز التأليف عند الحاجة إليه، فإذا كان في زمن الإمام قوم لا يطيعونه إلا للدنيا، ولا يقدر على إدخالهم تحت طاعته بالقسر والغلب، فله أن يتألفهم، ولا يكون لفشو الإسلام تأثير؛ لأنه لم ينفع في خصوص هذه الواقعة، وقد عدّ ابن الجوزي أسماء المؤلفة قلوبهم في جزء مفرد، فبلغوا نحو الخمسين نَفْسًا (٤).
(١) المغني: ٦٦٦/ ٢، كشاف القناع: ٣٢٥/ ٢، غاية المنتهى: ٣١٠/ ١، نيل المآرب: ٣١٩/ ١.
(٢) المختصر النافع في فقه الإمامية: ص ٨٣، البحر الزخار: ١٧٩/ ٢ - ١٨٠.
(٣) الأموال: ص ٦٠٧.
(٤) نيل الأوطار: ١٦٦/ ٤ وما بعدها.
 
وقال الطبري بعد أن أورد الخلاف بين العلماء في بقاء أو نسخ سهم المؤلفة: والصواب من القول في ذلك عندي أن الله جعل الصدقة في معنيين:
أحدهما - سد خَلَّة المسلمين، والآخر - معونة الإسلام وتقويته، فما كان في معرفة الإسلام وتقوية أسبابه، فإنه يعطاه الغني والفقير، لأنه لا يعطاه من يعطاه بالحاجة منه إليه، وإنما يعطاه معونة للدين، وذلك كما يعطاه بالجهاد في سبيل الله، فإنه يعطى ذلك غنيًا كان أو فقيرًا للغزو - الجهاد - لا لسد خلته، وكذلك المؤلفة قلوبهم يعطون ذلك، وإن كانوا أغنياء، بإعطائهموه أمر الإسلام وطلب تقويته وتأييده، وقد أعطى النبي ﷺ من أعطى من المؤلفة قلوبهم بعد أن فتح الله عليه الفتوح وفشا الإسلام وعز أهله، فلا حجة لمحتج بأن يقول: لا يتألف اليوم على الإسلام أحد لامتناع أهله بكثرة العدد ممن أرادهم، وقد أعطى النبي ﷺ من أعطى منهم في الحال التي وصفت (١).

٢ - الأحوال التي يستعمل فيها هذا السهم، ومدى حاجة الإسلام والمسلمين إليه في هذا الزمان:
المؤلفة قلوبهم كما ذكر النووي وغيره قسمان: مسلمون وكفار (٢). أما الكفار فنوعان: نوع يرجى خيره، وآخر يخاف شره. وقد كان النبي ﷺ يعطيهم، وقد أوضحت أن الراجح دوام إعطائهم عند الحاجة بعد النبي ﷺ، إذ لم يثبت النسخ بدليل معتبر، والحاجة تتكرر في كل زمان، وتقتضيها أحوال النفوس في القوة والضعف.
(١) تفسير الطبري: ١١٣/ ١٠.
(٢) المجموع: ٢٠٦/ ٦ وما بعدها، كشاف القناع: ٣٢٥/ ٢ وما بعدها، ونقل ذلك السيد رشيد رضا في تفسير المنار: ٥٧٤/ ١٠ وما بعدها.
 
وأما المسلمون فهم أربعة أنواع:
أحدها - قوم لهم شرف وهم السادة المطاعون في عشائرهم: فيعطون ليرغب نظراؤهم في الإسلام؛ لأن النبي ﷺ أعطى الزبرقان بن بدر وعدي بن حاتم.
والثاني - قوم أسلموا، ونيتهم في الإسلام ضعيفة: فيعطون لتقوى نيتهم، لأن النبي ﷺ أعطى أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، والأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، لكل منهم مئة من الإبل، كما تقدم. ويعطون بعد النبي ﷺ؛ لأن المعنى الذي به أعطوا قد يوجد بعد النبي ﷺ.
والثالث - قوم يليهم قوم من الكفار أن أعطوا قاتلوهم.
والرابع - قوم يليهم قوم من أهل الصدقات أن أعطوا جبوا الصدقات.
والخلاصة: يكون مجموع الفريقين ستة أصناف.
يتبين من هذا أن أحوال استعمال سهم المؤلفة قلوبهم كثيرة، ويقدر ولي الأمر المسلم المصلحة في إعطائهم في كل زمان أخذًا برأي الحنابلة والشيعة مطلقًا، وعملًا باتفاق الفقهاء إذا كانوا مسلمين حديثي عهد بالإسلام، ليتمكن الإسلام في قلوبهم.
ويمكن إيراد أمثلة واقعية في عصرنا لأحوال المؤلفة:
أولًا - درء المخاطر والمفاسد عن المسلمين: إذا كان بعض غير المسلمين في موقع استراتيجي حيوي يمكن أن ينفذ منه الأعداء، ويدخلوا إلى بلاد الإسلام، فيجوز إعطاؤهم من الزكاة لدفع الأخطار وحماية البلاد ورعاية المصالح الإسلامية. فقد نص الفقهاء على إعطاء المؤلفة إذا كان يرجى بعطائهم النصح في الجهاد، أو الدفع عن المسلمين، بأن كانوا في الثغور أطراف بلاد الإسلام، أو كف شرهم كالخوارج ونحوهم.
 
ثانيًا - الاستعانة بغير المسلمين في الجهاد: إذا احتاج المسلمون إلى الاستعانة بغيرهم في الحروب، إما لضعف في المسلمين، أو لتوافر خبرة فنية عسكرية في غيرهم، أو لأغراض حربية أخرى، فيجوز صرف جزء من الزكاة في هذا المجال، للضرورة والمصلحة.
ثالثًا - جباية الصدقات ونحوها: إذا تعذرت جباية الصدقات ونحوها من ضرائب الخراج والعشور (الرسوم الجمركية) وأمكن استيفاؤها من طريق بعض الكفار، فلا مانع من إعطائهم شيئًا من الزكاة، لأن بهذا العطاء يحصل المسلمون على أموال أخرى متعذرة التحصيل أو ميئوسة الدفع. والفقهاء نصوا على إعطاء المؤلفة إذا كان لهم قوة على جباية الزكاة ممن لا يعطيها إلا بالتخويف والتهديد.
رابعًا - نشر الدعوة الإسلامية ومقاومة وسائل التبشير: إن إرساليات التبشير بالنصرانية وحملات التنصير في بعض البلاد الإسلامية كأفريقيا وأندونيسيا وغيرها، تحتاج لمزيد من المقاومة والحد منها وإيقاف أنشطتها بمختلف الوسائل، وحينئذ يمكن صرف جزء كبير من الزكاة في هذا المجال، كما يجوز إعطاء الزكاة في سبيل نشر الدعوة الإسلامية بمختلف الطرق، سواء بالمبعوثين المتخصصين، أم بطباعة الكتب الصغيرة التي تعرّف بالإسلام وترد على اتهامات ودسائس وشبهات المغرضين، لأن الهدف الأصلي من تشريع سهم المؤلفة هو الترغيب في الإسلام وتثبيت عقيدته بين الناس.
خامسًا - الإسهام في تخفيف ويلات الكوارث من زلازل وفيضانات ومجاعات على أن تكون مقرونة بالدعوة إلى الإسلام: إذا كان المبشرون وبعض الدول النصرانية يستغلون هذه الحالات، ويبادرون إلى تقديم بعض المساعدات المادية والغذائية للمحتاجين، فأولى بنا نحن المسلمين أن نسهم بأقصى ما وسعنا من
 
الدعم المادي المقرون ببيان سريع لفضائل الإسلام وبساطة عقيدته ويسر أحكامه في أوقات الشدة والرخاء، لأن المقصود من الزكاة سد حاجة المحتاجين، وإعانة المسلمين وتقوية الإسلام.
سادسًا - إغراء رؤساء الدول الفقيرة أو الأقوام المتخلفة، أو القبائل والعشائر البائسة ببعض المنح والمبالغ المالية أو الهدايا، لتأليف قلوبهم أو رجاء إسلامهم أو كف شرهم، أو تقليد رعاياهم واتِّباعهم لهم في الدخول بالإسلام، كما كان يفعل النبي ﷺ مع رؤساء قريش وصناديد العرب، كما تقدم. وقد نص الفقهاء على إعطاء المؤلفة رجاء إسلام نظرائهم، وأعطى أبو بكر عدي بن حاتم والزبرقان بن بدر، مع حسن نياتهما وإسلامهما، رجاء إسلام نظرائهما.
سابعًا - تقوية ضعاف الإيمان: نص فقهاؤنا ومنهم الحنابلة على أنه يعطى سهم المؤلفة لمسلم يرجى بعطيته قوة إيمانه، لما روى أبو بكر في كتاب التفسير عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿والمؤلفة قلوبهم﴾ [التوبة:٦٠/ ٩] قال: «هم قوم كانوا يأتون رسول الله ﷺ وكان رسول الله ﷺ يرضخ لهم من الصدقات، فإذا أعطاهم من الصدقة قالوا: هذا دين صالح، وإن كان غير ذلك عابوه» (١).

٣ - تأليف قلوب الأفراد الذين يؤمل إسلامهم أو تأثيرهم في توجيه المجتمع لصالح الدعوة الإسلامية:
إن الهدف الأصلي من تخصيص سهم المؤلفة في مصارف الزكاة هو نشر الدعوة الإسلامية بإغراءات مالية تجتذب بعض النفوس الضعيفة التي يستهويها
(١) تفسير الطبري: ١١٢/ ١٠.
 
المال وحب النفع المادي، ويكثر هذا الصنف في المجتمعات الفقيرة أو الضعيفة أو قليلة الإنتاج أو محدودة الدخل.
فإذا لوحظ وجود هذا الميل عند بعض الأفراد الذين يرجى إسلامهم، أو كان لهم شيء من النفوذ والتأثير في مجتمعاتهم لصالح الدعوة الإسلامية، لزمت المبادرة لإعطائهم شيئًا من مال الله تعالى، سواء على مستوى بعض الحكومات غير المسلمة، أو بعض الهيئات والتجمعات والقبائل، أو بعض الأفراد العاديين، أو الخطباء والكتاب ونحوهم ممن يرجى تأثيرهم في توجيه المجتمع نحو دعوة الله للحق والخير والتوحيد.
ونص فقهاؤنا كما تقدم على أن من أنواع المؤلفة: من يعطى ليقوى إيمانه، أو إسلام نظيره، أو نصحه في الجهاد، أو الدفع عن المسلمين ونحوه، وكان النبي ﷺ يعطي من الزكاة صنفًا أسلموا ونيتهم في الإسلام ضعيفة، فيتألفون لتقوى نيتهم ويثبتوا (١).

٤ - استخدام هذا المصرف في إيجاد مؤسسات لرعاية المسلمين الجدد:
يجوز للمزكي دفع الزكاة لوكيل عنه يتولى صرفها في بعض أو جميع مستحقيها أو مصارفها المنصوص عليهم في القرآن الكريم، لكن يجب دفع الزكاة على الفور باتفاق الفقهاء.
وبناء عليه يمكن تخصيص أو إيجاد مؤسسات عامة ينفق عليها من سهم العاملين، وتتولى تفقد أحوال المسلمين الجدد في أنحاء العالم، وإمدادهم بما يحتاجون، ورعايتهم ماديًا ومعنويًا، صحيًا وثقافيًا، بإعطائهم شيئًا من أموال
(١) كشاف القناع: ٣٢٦/ ٢، المجموع: ٢٠٩/ ٦، تفسير ابن كثير: ٣٦٥/ ٢.
 
الزكاة، لتثبيتهم على الدين وتشجيعهم وإشعارهم بالنصرة والعون أمام أقوامهم، لأن المهم هو رعاية من أسلم والحفاظ عليه.
قال أبو عبيد: فإذا كان قوم، هذه حالهم، لا رغبة لهم في الإسلام إلا للنيل، وكان في ردتهم ومحاربتهم إن ارتدوا ضرر على الإسلام، لما عندهم من العز والمنعة، فرأى الإمام أن يرضخ لهم من الصدقة، فعل ذلك لخلال ثلاث - إحداهن - الأخذ بالكتاب والسنة.
والثانية - البقيا على المسلمين.
والثالثة - أنه ليس بيائس أن تمادى بهم الإسلام أن يفقهوه وتحسن فيه رغبتهم (١).
وقال السيد رشيد رضا: الأولى من المرابطين في الثغور وحدود بلاد الأعداء بالتأليف في زماننا، قوم من المسلمين يتألفهم الكفار ليدخلوهم تحت حمايتهم، أو في دينهم، فإننا نجد دول الاستعمار الطامعة في استعباد جميع المسلمين وفي ردهم عن دينهم، يخصصون من أموال دولهم سهمًا للمؤلفة قلوبهم من المسلمين، فمنهم من يؤلفون لأجل تنصيره وإخراجه من حظيرة الإسلام، ومنهم من يؤلفونه لأجل الدخول في حمايتهم ومشاقة الدول الإسلامية أو الوحدة الإسلامية، ككثير من أمراء جزيرة العرب وسلاطينها!! أفليس المسلمون أولى بهذا منهم (٢).

٥ - تأليف قلوب بعض الحكومات والدول غير الإسلامية، والتي تحوي جاليات إسلامية لتحقيق الأمن لها، أو بعض الدول غير الإسلامية التي تعارض إقامة مشاريع إسلامية على أرضها:
إن أي دعم للإسلام والمسلمين أمر مطلوب شرعًا، سواء فيما يتعلق باعتناق الإسلام دينًا، أو رعاية المسلمين، والحفاظ على وجودهم وأمنهم وهويتهم
(١) الأموال: ص ٦٠٧.
(٢) تفسير المنار: ٥٧٤/ ١٠.
 
الشخصية الذاتية، أو حماية المصالح الإسلامية بنشر الدعوة إلى الله، وإقامة المساجد والمراكز الإسلامية، وتوفير مختلف الإمكانات لتعليم القرآن، ونشر التربية الإسلامية، وتوعية الشباب والفتيات، وتحذيرهم من مخاطر ذوبان الشخصية الإسلامية، والتأثر بتقاليد وعادات غير المسلمين.
لذا كان مشروعًا إنفاق المال في هذا السبيل، وإعطاء شيء من المساعدات من الزكاة وغيرها لبعض الحكومات والدول غير الإسلامية لحماية الجاليات الإسلامية وتحقيق الأمن لها وتمكينها من ممارسة شعائر الإسلام، وإبقاء الصبغة الإسلامية في الأسماء، والممارسات السلوكية، وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في قضايا الزواج والطلاق والأيمان والنذور ونحوها من الأمور الخاصة اللصيقة بالشخصية، والمميزة لأوضاع المسلمين عن غيرهم.
كما يكون مشروعًا تقديم بعض المعونات لبعض الدول غير الإسلامية للسماح للمسلمين بإقامة بعض المشاريع الإسلامية على أرضها، كبناء المساجد والمراكز والمدارس الإسلامية، ففي ذلك حماية للمسلمين أنفسهم من الضياع والانحراف وتشوه الصبغة الإسلامية النقية، وحفظ الطابع الإسلامي والعقيدة الإسلامية في نفوس أبنائها، فإن أخطر ما يهدد وجود الجاليات الإسلامية في أمريكا وأوربا وغيرهما من بلاد العالم هو ذوبان الصبغة الإسلامية من نفوس الجيل الثاني الذي ولد أو تربى في تلك البلاد غير الإسلامية. أما الآباء والأمهات الذين هاجروا إلى تلك البلاد (المغتربون) وهم الجيل الأول، فيغلب عليهم تمسكهم بشيء من الدين والأخلاق الإسلامية أو العربية، والاعتزاز باللغة العربية في كلامهم وكتاباتهم.
 
٦ - المشاركة في سهم المؤلفة قلوبهم في التبرعات التي تجمع للكوارث والنكبات التي تصيب بعض الدول غير الإسلامية كالزلازل والفيضانات:
إن تحسين العلاقات بين المسلمين وغيرهم في مختلف البلاد غير الإسلامية أمر محمود في مضمار السياسة الشرعية؛ لأن تحسن العلاقات يخدم المصالح الإسلامية، وتعكر العلاقات وتوترها يضر بمصلحة المسلمين، وعلى التخصيص في حال الضعف، وفي ظروفنا الراهنة. وإذا كان الهدف من الجهاد في الإسلام هو الوصول إلى توطيد العلاقات السلمية، وحماية الأوضاع والظروف الأمنية، وإقرار المصالح المشروعة عن طريق المعاهدات، فإن كل ما يؤدي إلى هذه الغاية يكون جائزًا شرعًا.
لكن نظرًا لكون فريضة الزكاة ذات صلة وثقى وأصيلة برعاية أحوال المسلمين المحتاجين وتحقيق التكافل الاجتماعي بين المسلمين، وكونها مصبوغة بصبغة العبادات، فإنه يقتصر بقدر الإمكان على هذه النواحي وعلى مصارف الزكاة المنصوص عليها صراحة في القرآن الكريم، ولا يصح حينئذ دفع شيء من أموال الزكاة لتخفيف كوارث الأمم الأخرى.
لكن لا مانع شرعًا من دفع شيء من أموال المسلمين العامة من غير الزكاة لغيرهم لدفع شرهم ورفع ضررهم ورجاء خيرهم، كما صرح الفقهاء، فيجوز أن ندفع شيئًا من أموالنا بصفة تبرعات في أوقات المحن والأزمات، والكوارث والنكبات كالزلازل والفيضانات، ففي ذلك نوع من الوقاية وسد الذرائع. وقد أجاز بعض الشافعية إعطاء الكفار من موارد بيت المال العامة، لتأليف قلوبهم، وهو خمس الخمس من الفيء وغيره، لأنه مرصد للمصالح العامة، وهذا منها.
وأما غير الشافعية الذين أجازوا دفع الزكاة للكفار لتأليف قلوبهم عند
 
الحاجة، فلا ينطبق قولهم على هذه الأحول، وإنما أرادوا أن يكون التأليف مؤديًا بطريق مباشر أو غير مباشر إلى الدخول في الإسلام، قال قتادة: «المؤلفة قلوبهم: هم أناس من الأعراب ومن غيرهم كان نبي الله ﷺ يتألفهم بالعطية كيما
يؤمنوا» (١). ويبعد في تصور المنكوبين وحكوماتهم المعاصرة في الغالب الاتجاه نحو الإسلام من قريب أو بعيد في مثل هذه الأحوال، كل ما في الأمر أنهم يقدرون الدوافع الإنسانية الخيِّرة في المشاركة في التبرعات من أجل تخفيف وطأة الكوارث العامة، وتوجه عادة خطابات شكر دبلوماسية على تلك المبادرات الطيبة المصحوبة بالشعور الإنساني الكريم والعاطفة الأخوية بين أبناء المجتمع الإنساني، لأن الخلْق كلهم عيال الله، وأحبهم إلى الله تعالى أنفعهم لعياله، كما ثبت في السنة النبوية، ولأن الإسلام دين الرحمة العامة للعالمين.

٧ - صرف جزء من سهم المؤلفة قلوبهم في الأمور الدعائية لتحسين النظرة إلى الإسلام والمسلمين:
نحن اليوم في العالم المعاصر نتأثر كثيرًا بأساليب الدعاية والإعلام وبما يكتبه مشاهير الكتاب، وتتصدره الصحف اليومية والمجلات المتداولة، لذا كان لزامًا علينا أن نتفاعل بمعطيات العصر، ونستفيد منها في الإيجابيات والسلبيات، فنعرض أجمل ما لدينا من أفكار ومبادئ ونظريات وقيم خلقية شخصية واجتماعية، إنسانية ومادية، ونحارب كل مايحاك ضد شريعتنا وأخلاقنا ونظمنا من مؤامرات، ويوجه إليها من مفتريات واتهامات، ويعرض في ثناياها من شبهات وتأويلات باطلة.
ونكون في الحالين إيجابًا وسلبًا في حركة جهاد يمليه علينا الواجب ويقتضيه
(١) تفسير الطبري: ١١٢/ ١٠.
 
الدين، أخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن أنس بن مالك ﵁ أن النبي ﷺ قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم».
ولا مانع بالإضافة لما تجود به نفوس المسلمين بالتبرع بالأموال في سبيل الله، من صرف جزء من أموال الزكاة من سهم «في سبيل الله» أو من سهم «المؤلفة قلوبهم» لأصحاب الأقلام والألسنة لتحسين النظرة إلى الإسلام والمسلمين، وبيان حكمة التشريع، والدفاع عن الإسلام وقضايا المسلمين الوطنية والاجتماعية في أنحاء العالم ضد الافتراءات والاتهامات، ولتفنيد الشبهات، وصد التيارات وغزوات الفكر والثقافة المشوهة، وقد تبين سابقًا أن الطبري أجاز صرف سهم المؤلفة لتقوية الإسلام.
ويفضل شرعًا أن يكون صرف شيء من أموال المسلمين في الجانب الدعائي أو الإعلامي من موارد بيت المال العامة؛ لأن تلك الموارد مرصدة للمصالح العامة.
والخلاصة: إن صرف شيء من أموال الزكاة في أي مجال يحتاج لتقدير واع من ولي الأمر العادل، واستشارة العلماء المتخصصين أهل الرأي والمشورة. وإذا أهملت الحكومات هذا الجانب، جاز للجمعيات أو المؤسسات الإسلامية العامة، لا للأفراد، القيام بهذا الواجب وتأليف غير المسلمين بالأساليب المختلفة للدفاع عن الإسلام ونشر الدعوة الإسلامية ورعاية أموال المسلمين الجدد.

٢ً - مصرف الزكاة (في الرقاب):
إن لفريضة الزكاة شأنًا كبيرًا في الإسلام، وهي تقترن دائمًا بفريضة الصلاة، لتصلح العلاقة مع الله تعالى بالصلاة، والعلاقة مع أبناء المجتمع المسلم بالزكاة، ولا يكون أداء الزكاة محقِّقًا الهدف المنشود منها ما لم يلتزم المزكي صرفها حسبما
 
أمر الله تعالى به في قوله: ﴿إنما الصدقات للفقراء، والمساكين، والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمين، وفي سبيل الله، فريضةً من الله والله عليم حكيم﴾ [التوبة:٦٠/ ٩].
ومصرف «وفي الرقاب» هو المصرف الخامس من مصارف الزكاة الثمانية التي حددتها الآية، وأبانت أوصاف مستحقي الزكاة.
وبالرغم من أن الغالب وجوده الآن في عصرنا في البلاد الإسلامية أربعة أنواع وهم الفقير والمسكين والغارم وابن السبيل، فإن هناك حاجة ماسة للتعرف على مصرف «في الرقاب» بعد إلغاء الرق من العالم في العصر الحديث، ووجود حالات تقتضي صرف الزكاة فيها مثل استعباد الشعوب الإسلامية، وإنقاذ المسلمين من أشكال الاستعمار المختلفة، ومن أهمها الاستعمار الاستيطاني، ومساعدة الأسرى على الافتداء من براثن العدو، وإطلاق سراح السجناء والمسلمين من معتقلات الأعداء الجماعية والفردية وما فيها من معاملة وحشية منافية لأبسط مبادئ الإنسانية وحقوق الإنسان، كما في فلسطين المحتلة من قبل اليهود الذين أقاموا فيها على حساب الشعب الفلسطيني دولة إسرائيل بالتعاون مع الدول الكبرى، وبالدعم المتواصل لها.
خطة البحث:
يمكن بحث مصرف «في الرقاب» في ضوء الخطة التالية:
١ - معنى: في الرقاب.
٢ - غياب الرق في العصر الحالي.
 
٣ - السوابق التاريخية في العهود الإسلامية لاستخدام هذا المصرف في غير المكاتبين.
٤ - من مصارف «في الرقاب» في هذا الزمان «فكاك الأسرى» وتفصيل المذاهب الفقهية في سهم «في الرقاب».
٥ - التطبيق الأصلي لهذا المصرف في إعانة المكاتب لتحرير نفسه من الرق.
٦ - هل تعطى الشعوب الإسلامية التي تئن تحت وطأة الحكومات الكافرة لتحرير نفسها من الاحتلال الذي تخضع له؟

١ - معنى في الرقاب:
إن ظاهر الكلمة وإطلاقها يقتضي تعميم المعنى بحيث يشمل تحرير الأنفس البشرية وعتقها وتخليصها من قيد العبودية للبشر، وفك الرقاب من الكتابة أو الرق أو الأسر، كما ذكر الزمخشري في الكشاف (١).وقال الزجاج في قوله تعالى: «وفي الرقاب»: وفيه محذوف، والتقدير: وفي فك الرقاب (٢).
وإنما عبر الله تعالى في الأصناف الأربعة الأولى باللام: ﴿إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم﴾ [التوبة:٦٠/ ٩] وفي الأصناف الأربعة الأخيرة بـ «في»: ﴿وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل﴾ [التوبة:٦٠/ ٩] للإيذان بأن الأربعة الأخيرة أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره؛ لأن «في» كما جاء في الكشاف للوعاء، فنبّه على
(١) الكشاف: ١٩٨/ ٢، طبع طهران.
(٢) تفسير الرازي: ١١٤/ ١٦، ط دار الفكر في بيروت ....
 
أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات، ويجعلوا مظنّة لها ومصبًّا (١). وكذلك في فك الغارمين من الغرم تخليص لهم وإنقاذ، وهكذا الشأن في مصرف: «في سبيل الله» إنقاذ جماعي للأمة بالجهاد، وكذا «ابن السبيل» ننقذه من أزمة وقوعه في الإفلاس، وانقطاعه في أثناء السفر إلى بلده.
وقال البجيرمي الشافعي: أضاف الله تعالى في الآية الكريمة الصدقات إلى الأصناف الأربعة بلام الملك، وإلى الأربعة الأخيرة بـ «في» الظرفية للإشعار بإطلاق الملك في الأربعة الأولى، وتقييده في الأربعة الأخيرة، حتى إذا لم يحصل الصرف في مصارفها، استرجع، بخلافه في الأولى (٢).
وقال الرازي في تفسيره: ولما ذكر الله تعالى الرقاب أبدل بحرف اللام حرف «في» فقال: «وفي الرقاب» فلا بد لهذا الفرق من فائدة، وتلك الفائدة هي أن تلك الأصناف الأربعة المتقدمة يدفع إليهم نصيبهم من الصدقات حتى يتصرفوا فيها كما شاؤوا، وأما «في الرقاب» فيوضع نصيبهم في تخليص رقبتهم عن الرق، ولا يدفع إليهم، ولا يمكنوا من التصرف في ذلك النصيب كيف شاؤوا، بل يوضع «في الرقاب» بأن يؤدى عنهم. وكذا القول في الغارمين يصرف المال في قضاء ديونهم، وفي الغزاة يصرف المال إلى إعداد ما يحتاجون إليه في الغزو، وابن السبيل كذلك. والحاصل: أن في الأصناف الأربعة الأولى يصرف المال إليهم حتى يتصرفوا فيه كما شاؤوا، وفي الأربعة الأخيرة لا يصرف المال إليهم، بل يصرف إلى جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي لأجلها استحقوا سهم الزكاة (٣) أي أنه لا يشترط التمليك.
(١) الكشاف، المرجع والمكان السابق.
(٢) بجيرمي علي الخطيب: ٣١٣/ ٢، ط دار المعرفة في بيروت.
(٣) التفسير الكبير: ١١٥/ ١٦، المجلد ٨.
 
وأكثر العلماء على أن المراد بقوله تعالى: ﴿وفي الرقاب﴾ [التوبة:٦٠/ ٩] المكاتبون (١) المسلمون الذين لا يجدون وفاء ما يؤدون، ولو مع توافر القدرة والقوة والكسب، لأنه لا يمكن الدفع إلى الشخص الذي يراد فك رقبته إلا إذا كان مكاتبًا، ولو اشتري بالسهم عبيد، لم يكن الدفع إليهم وإنما هو دفع إلى سادتهم، ولم يتحقق التمليك المطلوب في أداء الزكاة، ويؤكده تعالى: ﴿وآتوهم من مال الله الذي آتاكم﴾ [النور:٣٣/ ٢٤] وفسر ابن عباس «في الرقاب» بأنهم المكاتبون.
ويرى الإمامان مالك وأحمد وغيرهما أنه يشترى بسهم «في الرقاب» رقيق، فيتعين، لأن كل موضع ذكرت فيه الرقبة، يراد بها عتقها. والعتق والتحرير لا يتصور إلا في القن (العبد الخالص العبودية) كما في الكفارات.
وشرط إعطاء المكاتب: هو كونه مسلمًا محتاجًا، كما تقدم بيانه.
وتخصيص سهم للرقاب في الزكاة دليل واضح على تشوف وتعطش الإسلام إلى التحرير والحرية أو فك الرقاب من قيد العبودية؛ ومن حكمة الله تعالى أنه نص في القرآن على التحرير أو العتق، ولم ينص على الاسترقاق، لأن الإسلام أول من نادى بتخليص العالم من ظاهرة الرق بفتح منافذ العتق والترغيب فيه؛ لأن الإنسان خلق حرًا، فإذا طرأ في الماضي بعض الأحوال العارضة التي تقتضي المصلحة العامة فيها أن يكون الأسير رقيقًا، جاز الرق على سبيل المعاملة بالمثل مع الأعداء، إذ لا يعقل ألا يسترق المسلمون أحيانًا بعض الأسرى، والأعداء يسترقون أسرى المسلمين.
(١) المكاتب: هو العبد الذي كاتبه سيده على أقساط معينة، فإذا وفّاها صار حرًا. والكتابة مندوبة لتحرير العبيد وإعتاقهم لقوله تعالى: ﴿فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا﴾ [النور:٣٣/ ٢٤] أي من أجل تحرير الرقاب.
 
٢ - غياب الرق في العصر الحالي: كان الرق مشروعًا عند الأمم القديمة والفلاسفة وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، وكان الرومان أول من استعبد الأسرى وسخر الشعوب المغلوبة، وكانت وجوه الاسترقاق عندهم بالذات متعددة.
وكان الرق عماد الحركة التجارية والزراعية، وعدّ نظامًا أساسيًا في حياة الشعوب القديمة ودعامة في كيانها الاقتصادي والاجتماعي.
ولم ير أهل الإسلام المجتهدون - والحالة هذه - إلغاء الرق في العالم، حتى لا تصطدم دعوة الإسلام مع مألوف النفوس، ولئلا تضطرب الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، فيكثر المجادلون والمعارضون، وينتشر الفقر والعوز في المجتمع، وتتعدد حينئذ جرائم العبيد قبل تحريرهم.
وبما أن الأصل في الإنسان وفي تشريع الإسلام هو الحرية، وأن الحرية مما يحرص الإسلام على وجودها وحمايتها، فإن الإسلام عالج قضية الرق بالتدريج، وهيأ أسبابًا للقضاء على الرق، ومنع سائر مصادره ما عدا رق الأسر بسبب الحرب العادلة لدفع العدوان وحفظ التوازن مع الأمم الأخرى، ومعاملة بالمثل، وما عدا الرق بسبب الوراثة، ثم فتح منافذ عديدة لإنهاء الرق ورغَّب فيها من طريق العتق والتحرير إما قربة مجردة لله تعالى وطريق نجاة في الآخرة، وإما كفارة عن كثير من الجرائم والذنوب كالقتل واليمين التي حنث بها الحالف، والظهار من الزوجة، وجعل مصير الأسرى في الغالب إما المن (إطلاق السراح بدون مقابل) وإما الفداء أو المفاداة (تبادل الأسرى). وأوصى بمعاملة الرقيق بالحسنى، وخصص سهمًا من الصدقات التي تجبى لتنفق في سبيل تحرير الرقاب.
وأثمرت توجيهات الإسلام في تهيئة الضمير البشري للإحساس بهذه
 
الظاهرة المرضية والعمل على القضاء عليها تدريجًا، بدلًا من مفاجأة العالم بالتحريم الفوري البات.
وأدى هذا إلى إثبات حقيقة واضحة ماثلة للعيان هي أن الإسلام لا يتعارض مع إلغاء الرق من العالم، بل يحض عليه، ويرغب في استئصال موارده، علمًا بأنه لا يجوز استرقاق حر أصلًا، ويمقت ما عرف بتجارة الرقيق والنخاسة، ويحرم كل ما كان حاصلًا في أواسط أفريقيا من اصطياد الرقيق ومعاملتهم أسوأ المعاملة، ولا يقر بحالٍ استعبادَ الشعوب واستعمارها الذي حل بصفة جماعية محل الرق الفردي، كما لا يجيز بديلًا آخر لدى أمريكا وبريطانيا وهو التفرقة العنصرية بين الأبيض والأسود.
وهكذا ظل نظام الرقيق معمولًا به في العصور الوسطى وما بعدها إلى أن استنكرت الدول الأوربية الإتجار في الرقيق بصفة عامة في مؤتمر فيينا سنة ١٨١٥م، ووقعت اتفاقيات كثيرة بعد هذا التاريخ، آخرها اتفاقية جنيف الإضافية في ٧ أيلول (سبتمبر) ١٩٥٦ التي ألغت الرق وتجارة الرقيق والحالات المماثلة للرق (١).

٣ - السوابق التاريخية في العهود الإسلامية لاستخدام هذا المصرف في غير المكاتبين:
رغب الإسلام في العتق وتحرير الرقاب بصفة عامة، وجعل أساس النجاة في الآخرة فك رقبة، قال الله تعالى: ﴿فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة؟ فك رقبة﴾ [البلد:١١/ ٩٠ - ١٣]. وروى ابن عباس ﵄ عن رسول الله ﷺ
(١) راجع كتابي: آثار الحرب في الفقه الإسلامي - دراسة مقارنة: ص ٤٤١ - ٤٤٥.
 
أنه قال: «أيما مؤمن أعتق مؤمنًا في الدنيا، أعتق الله تعالى بكل عضو منه عضوًا من النار» (١).
وبادر الصحب الكرام كأبي بكر الصديق إلى إعتاق نفوس المسلمين المستضعفين الذين كانوا يعذبون من قبل زعماء قريش في صدر الإسلام، مثل بلال الحبشي وكذلك فعل عبد الله بن عمر، فإنه ما مات حتى أعتق ألف رقبة.
ولجأ بعض الخلفاء المسلمين إلى استخدام مصرف «في الرقاب» في إعتاق الرقيق غير المكاتبين، كما حدث في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز، قال يحيى بن سعيد: بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقية، فاقتضيتها، وطلبت فقراء نعطيها لهم، فلم نجد بها فقيرًا، ولم نجد من يأخذها مني، قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس، فاشتريت بها رقابًا، فأعتقتهم، وولاؤهم للمسلمين (٢).
ولا شك بأن هذا الفعل أصبح في تقديري قدوة فعلية سار على منواله أئمة المسلمين وعامتهم في العصور المختلفة.
وسيأتي بيان وقائع أخرى في هذا الموضوع في بحث أدّلة المذاهب على كيفية صرف سهم «في الرقاب».

٤ - من مصارف «في الرقاب» في هذا الزمان «فكاك الأسرى» وتفصيل المذاهب الفقهية في سهم «في الرقاب»:
يحسن في هذا الموضوع بيان آراء العلماء من الصحابة والتابعين وغيرهم بصفة عامة، ثم بيان المذاهب الفقهية وأدلتها.
(١) رواه الطبراني عن عمرو بن عَبْسة بلفظ: «.. وأيما رجل أعتق مسلمًا، فكل عضو من المعتِق بعضو من المعتَق فداء له من النار».
(٢) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم: ص ٥٩، ط مكتبة وهبة بمصر .....
 
آراء العلماء في بيان المقصود من الرقاب بصفة عامة:
للعلماء أقوال أربعة في تفسير الرقاب (١):
القول الأول: إن المراد بقوله «في الرقاب» في فك الرقاب، فهذا السهم موضوع لعتق الرقاب، يشترى به عبيد فيعتقون، وهو قول ابن عباس وابن عمر والحسن، وأبي عبيد، ومذهب مالك وأحمد وإسحاق وعبيد الله بن الحسن العنبري، فيجوز للإمام أن يشتري رقابًا من مال الصدقة، يعتقها عن المسلمين، ويكون ولاؤهم لجماعة المسلمين في رأي المالكية.
وإن اشتراهم صاحب الزكاة وأعتقهم جاز.
والقول الثاني: إن سهم الرقاب موضوع في المكاتبين ليعتقوا به، فلا يبتاع من الرقاب صاحب الزكاة نسمة يعتقها بجرّ ولاء. وهذا قول أبي موسى الأشعري ومقاتل وسعيد بن جبير والليث بن سعد وابن وهب وابن زيد، وهو مذهب الشافعي وأبي ثور، ورواية عن مالك. واحتجوا بما روي عن ابن عباس ﵂ أنه قال: قوله تعالى ﴿وفي الرقاب﴾ [التوبة:٦٠/ ٩] يريد المكاتب، وتأكد هذا بقوله تعالى: ﴿وآتوهم من مال الله الذي آتاكم﴾ [النور:٣٣/ ٢٤].
قال القرطبي: والصحيح الأول: لأن الله ﷿ قال: ﴿وفي الرقاب﴾ [التوبة:٦٠/ ٩] فإذا كان للرقاب سهم من الصدقات، كان له أن يشتري رقبة، فيعتقها، ولا خلاف بين أهل العلم أن للرجل أن يشتري الفرس فيحمل عليه في
(١) تفسير الرازي: ١١٤/ ١٦ وما بعدها، ط دار الفكر في بيروت، تفسير القرطبي: ١٨٢/ ٨ ومابعدها، طبع دار الكاتب العربي بالقاهرة، تفسير ابن كثير: ٣٦٥/ ٢. أضواء البيان للشيخ محمد الأمين الشنقيطي: ٤٧٠/ ٢ وما بعدها، ط عالم الكتب في بيروت، الأموال لأبي عبيد: ص ٧٩٧ وما بعدها، ط مكتبة الكليات الأزهرية .....
 
سبيل الله، فإذا كان له أن يشتري فرسًا بالكمال من الزكاة، جاز أن يشتري رقبة بالكمال، لا فرق بين ذلك.
والقول الثالث: قول أبي حنيفة وأصحابه وقول سعيد بن جبير والنخعي: أنه لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة، ولكن يعتق منها في رقبة، ويعان بها مكاتب، أي أنها لإعتاق العبد المبعض والمكاتب؛ لأن قوله تعالى: ﴿وفي الرقاب﴾ [التوبة:٦٠/ ٩] يقتضي أن يكون له فيه مدخل، وذلك ينافي كونه تامًا فيه. والأولى جعل القولين الثاني والثالث قولًا واحدًا.
والقول الرابع: قول الزهري، قال: سهم الرقاب نصفان: نصف للمكاتبين من المسلمين، ونصف يشترى به رقاب ممن صلوا وصاموا، وقدم إسلامهم، فيعتقون من الصلاة. وهو رأي أبي عبيد.
وأضاف الشافعية أصحاب القول الثاني إلى ما سبق قولهم: والاحتياط في سهم الرقاب دفعه إلى السيد بإذن المكاتب، والدليل عليه أنه تعالى أثبت الصدقات للأصناف الأربعة الذين تقدم ذكرهم بلام التمليك، وهو قوله: ﴿إنما الصدقات للفقراء ...﴾ [التوبة:٦٠/ ٩].
والخلاصة: إن العلماء ما عدا المالكية والحنابلة اتفقوا على صرف سهم «في الرقاب» في إعتاق العبد المكاتب، واختلفوا في أمرين: إعتاق الرقاب، وفك الأسارى. أما إعتاق الرقاب فقال الكيا الطبري: إن العتق إبطال ملك، وليس بتمليك، وما يدفع إلى المكاتب تمليك، ومن حق الصدقة ألا تجزي إلا إذا جرى فيها التمليك. وهذا رأي الحنفية والشافعية، فلا يصرف شيء من الزكاة في إعتاق العبد القن (الخالص العبودية)
ورأى المالكية والحنابلة أنه يمكن المساهمة بشيء من الزكاة في إعتاق الرقاب مطلقًا. وإليه مال البخاري وابن المنذر.
 
قال القرطبي: قد ورد حديث ينص على جواز عتق الرقبة، وإعانة المكاتب معًا، أخرجه أحمد والدارقطني عن البراء بن عازب قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ، فقال: «دلَّني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار، قال: لئن كنت أقصرت الخطبة، لقد أعرضت المسألة، أعتق النسمة وفك الرقبة: فقال: يا رسول الله، أوليستا واحدة؟ قال: لا، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة: أن تعين في ثمنها». وناقشه الحنفية بقولهم: ليس فيه ما يستلزم كون هذا هو معنى «وفي الرقاب» المذكور في الآية.
ويؤيده في المكاتب حديث آخر رواه الخمسة إلا أبا داود (١) عن أبي هريرة ﵁: أن النبي ﷺ قال: «ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف».
وأما فك الأسارى: فقال أصبغ وابن القاسم: لا يجوز صرف الزكاة في فكاك الأسرى. والمشهور عند المالكية أنه لا تجزئ الزكاة في فك أسير، وهذا قول الحنفية والشافعية. وقال ابن حبيب وابن عبد الحكم: يجوز؛ لأنها رقبة ملكت بملك الرق، فهي تخرج من رق إلى عتق، وكان ذلك أحق وأولى من فك الرقاب الذي بأيدينا؛ لأنه إذا كان فك المسلم عن رق المسلم عبادة، وجائزًا من الصدقة، فأحرى وأولى أن يكون ذلك في فك المسلم عن رق الكافر وذله. وهذا قول الحنابلة.

تفصيل المذاهب الفقهية في سهم «في الرقاب» وأدلتهم:
اتجهت المذاهب الفقهية اتجاهين في بيان سهم «في الرقاب» الاتجاه الأول المضيق للحنفية والشافعية: وهو قصر صرف هذا السهم على المكاتبين، والاتجاه الثاني الموسع - للمالكية والحنابلة: وهو صرف هذا السهم في تحرير الرقاب وإعتاق
(١) الخمسة: أحمد وأصحاب السنن الأربعة. ورواه أيضًا الحاكم.
 
العبيد مطلقًا، سواء في مذهب الحنابلة أكانوا مكاتبين أم خالصي العبودية. أما صرف شيء منه في فكاك الأسرى فأجازه الحنابلة دون المالكية في المشهور لديهم.
وأذكر خلاصة رأي كل مذهب على حدة ثم أعقبه بأدلة الاتجاهين:
١ - قال الحنفية (١): الصنف الخامس «في الرقاب» هم المكاتبون غير الهاشميين، فيعان المكاتبون من الزكاة في فك رقابهم، وإن ملك المكاتب نصابًا زائدًا على بدل الكتابة.
٢ - وقال الشافعية (٢): الصنف الخامس: الرقاب: وهم المكاتبون كتابة صحيحة لغير مزك، فيعطون، ولو بغير إذن ساداتهم، أو قبل حلول النجوم (الأقساط) ما يعينهم على العتق، إن لم يكن معهم ما يفي بنجومهم. أما مكاتب المزكي فلا يعطى من زكاته شيئًا لعود الفائدة إليه مع كونه ملكه.
٣ - وقال المالكية (٣): تصرف الزكاة لرقيق مؤمن لا كافر، يعتق منها، بأن يشترى منها رقيق فيعتق، أو يكون عنده عبد أو أمة يقوِّمه قيمة عدل ويعتقه عن زكاته، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿وفي الرقاب﴾ [التوبة:٦٠/ ٩].
ويشترط في الرقيق أن يكون خالصًا، لم تنعقد حرىة فيه كمكاتب، ومدبر، ومعتق لأجل، وأم ولد، وإلا فلا يجزئ، والمشهور أن العتق صحيح، وإن لم يجزئ عن الزكاة.
(١) أحكام القرآن للجصاص:١٢٥/ ٣، ط بيروت، فتح القدير: ٢٦٣/ ٢، ط دار الفكر في بيروت، حاشية ابن عابدين (رد المحتار على الدر المختار): ٣٤١/ ٢، ط البابي الحلبي بمصر.
(٢) شرح المجموع للنووي: ١٤٦/ ٦ وما بعدها، مطبعة المدني بالقاهرة، بجيرمي علي الخطيب:٣١٣/ ٢ وما بعدها، ط دار المعرفة في بيروت.
(٣) مواهب الجليل للحطاب: ٣٥٠/ ٢، الطبعة الثانية ١٩٧٨، الشرح الصغير للدردير وحاشية الصاوي عليه: ٦٦١/ ١.
 
ويشترط أيضًا ألا يعتق الرقيق بالملك نفسه على رب المال، كالأبوين والأولاد والحواشي القريبة: الإخوة والأخوات، لقوله ﷺ فيما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم عن سمرة - «من ملك ذا رحم محرم فهو حر». فإن اشترى رب المال من زكاته من يعتق عليه فلا يجزئه إلا أن يدفعها الإمام، فيشتري بها والد ربّ المال ولده، ويعتقه، فيجزئ حيث لا تواطؤ.
ويكون ولاء المعتق إذا عتق من الزكاة للمسلمين، سواء صرح المعتق بذلك أو سكت، بل ولو شرطه لنفسه، وأما لو قال: أنت حر عني وولاؤك للمسلمين، فلا تجزئه عن الزكاة، والعتق لازم، والولاء له؛ لأن الولاء لمن أعتق.
والمشهور عند المالكية أنه لا تجزئ الزكاة في فك الأسير، وقال ابن حبيب: هو أحق وأولى من فك الرقاب التي بأيدينا، ووافقه ابن عبد الحكم.
٤ - ومذهب الحنابلة (١) كما ذكروا في كتبهم المعتمدة: أن الصنف الخامس: الرقاب: وهم المكاتبون المسلمون الذين لا يجدون وفاء ما يؤدون، ولو مع القوة والكسب، لعموم قوله تعالى: ﴿وفي الرقاب﴾ [التوبة:٦٠/ ٩]. قال في المبدع: لا يختلف المذهب أنهم، أي المكاتبون من الرقاب، بدليل قوله: أعتقت رقابي، فإنه يشملهم؛ وفي قوله تعالى: ﴿فكاتبوهم﴾ [النور:٣٣/ ٢٤] إشعار به ولأنه يملك المال على سيده، ويصرف إليه أرش جنايته، فكان الإعطاء له إعطاء لسيده، لا في الرقاب.
وللمكاتب الأخذ قبل حلول نجم (قسط) لئلا يؤدي إلى فسخ الكتابة عند حلول النجم، ولا شيء معه.
(١) كشاف القناع للبهوتي: ٢٧٩/ ٢ وما بعدها، ط عالم الكتب في بيروت، الروض المربع بشرح زاد المستنقع للشيخ منصور بن يونس البهوتي: ص ١٥١، المغني والشرح الكبير: ٧٠٩/ ٢.
 
والأولى دفع الزكاة إلى سيد المكاتب، من دفع الزكاة إلى المكاتب.
ويجوز أن يشتري المزكي من الزكاة رقبة لا تعتق عليه. فيعتقها، لقول ابن عباس. ويجوز أن يعتق قِنّه أو مكاتَبه عنها؛ لأنه فك رقبة الأسير، فهو كفك رقبة العبد من الرق، ولأن فيه إعزازًا للدين، أشبه ما يدفع إلى الغارم لفك رقبته من الدين.
والولاء عند الحنابلة للمعتق: لما رواه الشيخان عن عائشة ﵄ أن رسول الله ﷺ قال: «إنما الولاء لمن أعتق». أما ما أعتقه الساعي من الزكاة أو الإمام منها، فولاؤه للمسلمين، لأنه نائب عنهم.

أدلة المذاهب:
أدلة الاتجاه الأول للحنفية والشافعية ومن وافقهم من السلف:
استدل هؤلاء على أن سهم «في الرقاب» يصرف في مساعدة المكاتبين على تحرير أنفسهم بما يلي:
١ - إن قوله ﷿: ﴿وفي الرقاب﴾ [التوبة:٦٠/ ٩]، كقوله تعالى: ﴿وفي سبيل الله﴾ [التوبة:٦٠/ ٩] وهناك يجب الدفع إلى المجاهدين، فكذا يجب هنا الدفع إلى الرقاب، ولا يكون دفعًا إليهم إلا على مذهبنا أي للمكاتبين.
وأما من قال: يشترى به عبيد، فليس بدفع إليهم، وإنما هو دفع إلى ساداتهم، ولأن في جميع الأصناف يسلم السهم إلى المستحق ويملكه إياه، فينبغي أن يكون كذلك هنا، ولأن ما قالوه يؤدي إلى تعطيل هذا السهم في حق كثير من الناس؛ لأن من الناس من لا يجب عليه من الزكاة لهذا السهم ما يشتري به رقبة يعتقها، وإن أعتق بعضها قوِّم عليه الباقي، ولا يلزمه صرف زكاة الأموال الباطنة
 
إلى الإمام بالإجماع، فيؤدي إلى تفويته. وأما على مذهبنا فيمكنه صرفه إليهم، ولو كان درهمًا.
وتخصص كلمة «في الرقاب» بالمكاتبين لعدم وجود قرينة لصرف الزكاة إلى القن، وقد وجدت القرينة في الكفارة بالعبد القن، وهي أن التحرير لا يكون إلا في القن، ولم توجد هذه القرينة في مسألتنا، فحملناه على المكاتبين لما ذكرناه أولًا (١).
وخلاصة هذا الدليل اشتراط التمليك لمستحق الزكاة، وهذا يتصور في المكاتب دون العبد القن (الخالص العبودية) فلا تصرف الزكاة في الإعتاق، أي إعتاق الرقبة من الزكاة، وإنما يعان المكاتبون من الزكاة على الكتابة. ويلاحظ أن اختلاف التعبير بين الأصناف الأربعة الأولى وبين الأربعة الأخيرة دليل على عدم اشتراط التمليك المطلق في الأخيرة كما ذكر الرازي.
٢ - إن عتق الرقبة لا يسمى صدقة، وما أعطي في ثمن الرقبة فليس بصدقة، لأن بائعها أخذه ثمنًا لعبد، فلم تحصل بعتق الرقبة صدقة، والله تعالى إنما جعل الصدقات في الرقاب، فما ليس بصدقة فهو غير مجزئ (٢).
وأيضًا فإن الصدقة تقتضي تمليكًا، والعبد لم يملك شيئًا بالعتق، وإنما سقط عن رقبته، وهو ملك للمولى، ولم يحصل ذلك الرق للعبد، لأنه لو حصل له، لوجب أن يقوم فيه مقام المولى، فيتصرف في رقبته، كما يتصرف المولى، فثبت أن الذي حصل للعبد إنما هو سقوط ملك المولى، وإنه لم يملك بذلك شيئًا، فلا يجوز أن يكون ذلك مجزيًا من الصدقة، إذ شرط الصدقة وقوع الملك للمتصدق عليه.
(١) شرح المجموع:١٤٦/ ٦ - ١٤٧.
(٢) أحكام القرآن للجصاص الرازي: ١٣٥/ ٣.
 
وأيضًا فإن العتق واقع في ملك المولى غير منتقل إلى الغير، ولذلك ثبت ولاؤه منه، فغير جائز وقوعه عن الصدقة. ولما قامت الحجة عن رسول الله ﷺ أن الولاء لمن أعتق،
وجب ألا يكون الولاء لغيره، فإذا انتفى أن يكون الولاء إلا لمن أعتق، ثبت أن المراد به المكاتبون (١). والجواب عن اشتراط التمليك ذكر سابقًا.
٣ - روى عبد الرحمن بن سهل بن حنيف عن أبيه أن رسول الله ﷺ قال: «من أعان مكاتبًا في رقبته أو غازيًا في عسرته، أو مجاهدًا في سبيله، أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» فثبت بذلك أن الصدقة على المكاتبين معونة لهم في رقابهم حتى يعتقوا، وذلك موافق لقوله تعالى: ﴿وفي الرقاب﴾ [التوبة:٦٠/ ٩].
فلما قال: ﴿وفي الرقاب﴾ [التوبة:٦٠/ ٩] كان الأولى أن يكون في معونتها بأن يعطى المكاتب حتى يفك العبد رقبته من الرق، وليس هو ابتياعها وعتقها؛ لأن الثمن حينئذ يأخذه البائْع، وليس في ذلك قربة (٢)، وإنما القربة في أن يعطى العبد نفسه حتى يفك به رقبته، وذلك لا يكون إلا بعد الكتابة، لأنه قبلها يحصل للمولى، وإذا كان مكاتبًا فما يأخذه لا يملكه المولى، وإنما يحصل للمكاتب، فيجزي من الزكاة (٣).
٤ - إن عتق الرقبة يسقط حق المولى عن رقبته من غير تمليك، ولا يحتاج فيه إلى إذن المولى، فيكون بمنزلة من قضى دين رجل بغير أمره، فلا يجزي من زكاته، وإن دفعه إلى الغارم، فقضى به دين نفسه، جاز، كذلك إذا دفعه إلى المكاتب،
(١) المرجع والمكان السابق.
(٢) وهذا كلام عجيب، أليس بذل المال في سبيل إعتاق الرقيق من أعظم القربات عند الله تعالى؟ قال الله تعالى: ﴿وما أدراك ما العقبة؟ فك رقبة﴾ [البلد:١٢/ ٩٠ - ١٣].
(٣) المرجع السابق ....
 
فملكه، أجزأه عن الزكاة، وإذا أعتقه لم يجزه؛ لأنه لم يملكه، وحصل العتق بغير قبوله ولا إ ذنه (١).
٥ - أخرج عن الحسن البصري والزهري وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم قالوا: في الرقاب هم المكاتبون (٢).
٦ - أخرج الطبري في تفسيره من طريق محمد بن إسحاق عن الحسن بن دينار عن الحسن البصري أن مكاتبًا قام إلى أبي موسى الأشعري، وهو يخطب يوم الجمعة، فقال له: أيها الأمير، حث الناس عليّ، فحث عليه أبو موسى، فألقى الناس عليه، هذا يلقي عمامة، وهذا يلقي ملاءة، وهذا يلقي خاتمًا حتى ألقى الناس عليه سوادًا كبيرًا، فلما رأى أبو موسى ما ألقي عليه قال: اجمعوه، ثم أمر به فبيع، فأعطى المكاتب مكاتبته، ثم أعطى الفضل في الرقاب، ولم يرد على الناس. وقال: إن هذا الذي أعطوه في الرقاب.
وهذا في تقديري لا يمنع من صرف الزكاة في إعتاق الرقبة.

أدلة الاتجاه الثاني للمالكية والحنابلة ومن وافقهم من السلف:
استدل هؤلاء على صرف سهم «في الرقاب» في إعتاق الرقيق بما يأتي:
١ - أن الرقاب أعم من أن يعطى المكاتب أو يشتري المزكي رقبة فيعتقها استقلالًا، فهو تعبير مطلق يؤخذ فيه على إطلاقه.
٢ - لو اختصت الرقاب بالمكاتب لدخل في حكم الغارمين؛ لأنه غارم.
(١) المرجع السابق.
(٢) فتح القدير: ٢٦٣/ ٢.
 
٣ - إن شراء الرقبة لتعتق أولى من إعانة المكاتب؛ لأنه قد يعان ولا يعتق، لأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، ولأن الشراء يتيسر في كل وقت، بخلاف الكتابة.

الرأي الراجح:
يتبين من مقارنة أدلة المذاهب المتقدمة رجحان رأي أصحاب الاتجاه الثاني؛ لأن قوله تعالى: ﴿وفي الرقاب﴾ [التوبة:٦٠/ ٩] مطلق، والمطلق يجري على إطلاقه. والذي أرجحه من الآراء هو قول ابن عباس وابن عمر والحسن البصري والزهري وأبي عبيد ومذهب الحنابلة: وهو جعل «في الرقاب» في معونةالمكاتبين وفي عتق الأرقاء جميعًا وفي فكاك الأسرى، عملًا بإطلاق التعبير القرآني: «في الرقاب». قال ابن عباس: الرقاب أعم من المكاتبين، فلا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة. ولا خوف من أن يصير إلى المزكي ميراث عتيقة بالولاء، لأن صاحب الولاء يتحمل دية وأرش وتعويض الجنايات التي يرتكبها المعتَق، فيكون أحدهما بالآخر، أي الغنم بالغرم. وإذا كان يجوز عود الزكاة إلى الأقارب ميراثًا للمزكي في سنة النبي ﷺ، فلا مانع من رجوع الولاء للمزكي، قال أبو عبيد: فإذا كانت السعة منه ﷺ في رجوع الصدقة بعينها ميراثًا للمزكي، فرجوع وراثة الولاء أوسع وأحرى بالجواز (١).
وهذا الاتجاه يجمع بين الآراء المختلفة، وهو الظاهر وهو الحق، لأن الآية تحتمل الأمرين (المكاتب والرقيق القن) وحديث البراء المتقدم فيه دليل على أن فك الرقاب غير عتقها، وعلى أن العتق وإعانة المكاتبين على مال الكتابة من الأعمال المقربة من الجنة، والمبعدة من النار.
(١) الأموال: ص ٧٩٩.
 
٥ - التطبيق الأصلي لهذا المصرف في إعانة المكاتب لتحرير نفسه من الرق:
رغب الله تعالى في كتابة العبد على أقساط معينة مؤجلة ليتمكن من عتق نفسه واسترداد حريته، في قوله تعالى: ﴿والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا، وآتوهم من مال الله الذي آتاكم﴾ [النور:٣٣/ ٢٤] وقد أخرج النسائي من حديث علي ﵁ مرفوعًا أنه ﷺ قال: «في الآية ربع الكتابة» (١). وقد فسر قوله تعالى: ﴿وفي الرقاب﴾ [التوبة:٦٠/ ٩] بإعانة المكاتبين. وأخرج ابن جرير وغيره عن علي ﵁ أنه قال: أمر الله السيد أن يدع الربع للمكاتب من ثمنه. وهذا تعليم من الله وليس بفريضة، ولكن فيه أجر. وقد أوردتُ أحاديث في أدلة المذاهب لعون المكاتب. وعملًا بهذا الأمر الإلهي والأحاديث الواردة في ترغيب السيد بمكاتبة عبده، بادر الناس في الماضي إلى مساعدة المكاتب من الزكاة وغيرها لتحرير رقبته من العبودية، حتى وإن ملك نصابًا زائدًا على بدل الكتابة، كما يرى الحنفية، وبشرط ألا يكون مع المكاتب ما يفي بنجومه (أقساطه) كما يرى الشافعية والحنابلة، فيعطى المكاتب وفاء دينه لعجزه عن وفاء ما عليه، ولو مع قدرته على التكسب ولو قبل حلول أجل ميعاد تسديد النجم (القسط). ويعطى من الصدقات غير الزكاة في مذهب المالكية.
والتطبيق الفعلي لسهم «في الرقاب» وصرفه في المكاتبين كان في الغالب يتم بإعطائهم من الزكاة النقدية أو العينية، كالزروع والثمار والأنعام، أو من الصدقات، كما دل عليه الحديث السابق في أدلة المذاهب عن الحسن البصري أن مكاتبًا قام إلى أبي موسى الأشعري، وهو يخطب يوم الجمعة، عارضًا حاجته،
(١) وليس في الآية تعرض لمقدار ما يعطى المكاتب، إنما فيها الأمر بالمساعدة، ولهذا قال النسائي: والصواب وقفه.
 
وطلب حث الناس على مساعدته، فاستجاب أبو موسى لطلبه، وأمر الناس بمعاونته، فبادروا إلى إلقاء بعض أمتعتهم عليه، فجمعت ثم بيعت وأعطى - أبو موسى - المكاتب مكاتبته، ثم أعطى الفضل الزائد في مكاتبين آخرين، ولم ترد الأمتعة على الناس.
والقصد من المساعدة واضح وهو تمكين المكاتب من تحرير نفسه من الرق، وتصفية آثار العبودية؛ لأن الإسلام شجع على العتق، وتخليص الأرقاء من الرق. ولا سبيل إلى التحرير إذا لم يعتقه سيده إلا بالمعاوضة، أي الكتابة على أقساط معينة، أخرج أبو داود بإسناد حسن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ قال: «المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم».

٦ - هل تعطى الشعوب الإسلامية التي تئن تحت وطأة الحكومات الكافرة لتحرير نفسها من الاحتلال الذي تخضع له؟ الاصطلاح الشرعي لكلمة «الرقاب» واضح في أن المراد بهم تحرير الأرقاء من العبودية، فردا كانوا أو جماعة. أما الاستعمار وأشكاله العنصرية البغيضة فلا ينطبق عليه مفهوم الاسترقاق أو الرق المعروف، لذا يصعب القول بأن الاستعمار كالاسترقاق، أو أن تعطى الشعوب المستعمرة من سهم «الرقاب» لتحرير نفسها من الاستعمار. ولكن رأينا السيد الشيخ رشيد رضا يجيز إعطاء الشعوب المستعمرة من الزكاة للتحرر من الاستعباد وإعادة مجد الإسلام، بل لإعادة ما سلبه الأجانب من دار الإسلام، إذا لم يكن مصرف «في الرقاب» مستعملًا في تحرير الأفراد بسبب إلغاء الرق من العالم (١). وتابعه على ذلك أستاذنا المرحوم الشيخ محمود شلتوت في كتابه: «الإسلام عقيدة وشريعة» وسبب هذا الاتجاه أن الصرف حينئذ
(١) تفسير المنار: ٥١٥/ ١٠، ط دار المعرفة في بيروت.
 
يعد إنقاذًا للمسلمين من رق الكفار، وما الزكاة المعطاة إلا بذل العشر أو ربع العشر مما فضل عن حاجة الأغنياء.
وهذا توسع في فهم مدلول «الرقاب» ومجاز في توجيه الكلمة نحو نظام مستحدث يختلف شرعًا وعملًا عن الرق المألوف، وإن أشبهه في عيوبه ومثالبه، فليس للمستعمرين أي حكم شرعي من أحكام الرق يمكن تطبيقه ما عدا وجوب جهادهم وطردهم من البلاد.
ويمكن مساعدة الشعوب المضطهدة أو المستعمرة أو التي احتلت أراضيها بالقوة والظلم والاغتصاب من مصرف «في سبيل الله» أي مصرف الجهاد، ولكن بقدر محدود ومن الصدقات الأخرى الحرة، ومن موارد الدولة العامة التي تنفق على المصالح العامة وتجبى على أساس آخر غير الزكاة.

خاتمة البحث
تبين من البحث أن مصرف «في الرقاب» أحد مصارف الزكاة يشمل بإطلاقه تحرير الأرقاء من الرق، ومعونة المكاتبين على تحرير أنفسهم، وفكاك الأسرى المسلمين من قيد الأسر وأغلال الحبس في بلاد الكفار.
وبما أن الرق انتهى ولله الحمد من العالم، فيمكن تخصيص جزء من الزكاة لفك الأسرى المسلمين أخذًا بمذهب الإمام أحمد ﵁؛ لأنه فيه فك رقبة من الأسر.
كما يمكن إعانة الشعوب المستعمرة من مصرف الجهاد: «في سبيل الله» لتتمكن من طرد المستعمرين وتحرير البلاد من رجسهم، وتخليصهم من ويلات الاستعمار.

عن الكاتب

Tanya Ustadz

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية