الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

المطلب السادس ـ الضوابط الشرعية للأخذ بأيسر المذاهب

المطلب السادس ـ الضوابط الشرعية للأخذ بأيسر المذاهب

أسم الكتاب الفِقْهُ الإسلاميُّ وأدلَّتُهُ الشَّامل للأدلّة الشَّرعيَّة والآراء المذهبيَّة وأهمّ النَّظريَّات الفقهيَّة وتحقيق الأحاديث النَّبويَّة وتخريجها
اسم المؤلف: د. وَهْبَة بن مصطفى الزُّحَيْلِيّ
المهنة:أستاذ ورئيس قسم الفقه الإسلاميّ وأصوله بجامعة دمشق - كلّيَّة الشَّريعة
الوفاة     8 أغسطس 2015 الموافق 23 شوال 1436 هـ
عدد الأجزاء: 10
التصنيف: الفقه المقارن

 المحتويات 

  1. المطلب السادس ـ الضوابط الشرعية للأخذ بأيسر المذاهب
  2. تمهيد
  3. خطة البحث
  4. الفرع الأول ـ المذاهب أو الآراء التي يمكن الأخذ بها
  5. الفرع الثاني ـ هل التزام مذهب معين أمر مطلوب أصوليا؟
  6. الفرع الثالث ـ هل يجب سؤال الأفضل والأرجح في العلم، أو يصح سؤال من تيسر؟
  7. الفرع الرابع ـ آراء الأصوليين في مسألة اختيار الأيسر (أو تتبع الرخص)، وفي التلفيق بين المذاهب.
    1. ١ - قال الحنابلة، والمالكية في الأصح عندهم، والغزالي
    2. ٢ - قال القرافي المالكي، وأكثر أصحاب الشافعي، والراجح عند الحنفية منهم ابن الهمام وصاحب مسلم الثبوت
    3. ٣ - رأي الشاطبي
  8. التلفيق
    1. التلفيق
    2. مجال التلفيق
    3. جواز التلفيق
    4. أقوال علماء المذاهب في إباحة التلفيق
      1. ١ - الحنفية
      2. ٢ ـ المالكية
      3. ٣ ـ الشافعية
      4. ٤ ـ الحنابلة
    5. التلفيق الممنوع
      1.  أولها ـ تتبع الرخص عمدا
      2. الثاني ـ التلفيق الذي يستلزم نقض حكم الحاكم
      3. الثالث ـ التلفيق الذي يستلزم الرجوع عما عمل به تقليدا أو عن أمر مجمع عليه لازم لأمر قلده.
    6. بطلان التلفيق بعد العمل
    7. حكم التلفيق في التكاليف الشرعية
    8. ضابط جواز التلفيق وعدم جوازه
    9. اختيار الأيسر في التقنين
  9. الفرع الخامس ـ أنواع الضوابط الشرعية للأخذ بأيسر المذاهب
    1. الضابط الأول: أن يتقيد الأخذ بالأيسر في مسائل الفروع الشرعية الاجتهادية الظنية
    2. الضابط الثاني ـ ألا يترتب على الأخذ بالأيسر معارضة مصادر الشريعة القطعية، أو أصولها ومبادئها العامة
    3. الضابط الثالث ـ ألا يؤد ي الأخذ بالأيسر إلى التلفيق الممنوع
    4. الضابط الرابع ـ أن تكون هناك ضرورة أو حاجة للأخذ بالأيسر
    5. الضابط الخامس ـ أن يتقيد الأخذ بالأيسر بمبدأ الترجيح
    6. يمكن اختصار هذه الضوابط في أمرين
    7. شروط التقليد
  10. المطلب السابع ـ المصيب في الاجتهاد
    1. منشأ الخلاف
  11. المطلب الثامن ـ طريقة الاجتهاد
  12. المطلب التاسع ـ نقض الاجتهاد وتغييره وتغير الأحكام بتغير الأزمان
    1. أولا ـ تغير الاجتهاد
    2. ثانيا ـ نقض الاجتهاد
    3. ثالثا ـ تغير الأحكام بتغير الأزمان
  13. المطلب العاشر ـ خطة البحث
  14.  المطلب الحادي عشر ـ جدول المقاييس
    1. ١ - وحدات الأطوال
    2. ٢ - وحدات المكاييل
    3. ٣ ـ وحدات الأوزان والنقود  ملاحظة
  15.  ملاحظة
  16. العودة الي كتاب الفِقْهُ الإسلاميُّ وأدلَّتُهُ


المطلب السادس - الضوابط الشرعية للأخذ بأيسر المذاهب:

 
تمهيد:
إن عملية (التخير أو الانتقاء من آراء المذاهب الإسلامية) كانت هي الضوء الأخضر الذي أضاء الطريق أمام العاملين في العصر الحاضر لإنهاض الفكر الإسلامي، والقائمين فعلًا بوضع التشريعات أو التقنينات المستمدة من معين الفقه الإسلامي، تمشيًا مع متطلبات التطور، وضغط الحاجات، ومراعاة مصالح الناس في كل زمان ومكان.
وقد استجاب المصلحون المخلصون من العلماء - غير المتشائمين والمتزمتين - من رجال الأزهر وجامعة الزيتونة في مصر وتونس وغيرهما من البلاد الإسلامية، إلى دواعي النهضة أوالحركة المطلوبة، فقاموا باختيار الحق أو الأفضل والأصلح من الآراء الفقهية المتعددة في المسألة الواحدة، لجعل (الفقه المختار) يتفق مع المصلحة العامة في هذا العصر، ذلك عملًا بالمبادئ أو الأسس التالية:
١ - الحق واحد لايتعدد، ودين الله واحد مستمد من معين واحد: هو الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح، وبما أننا لانعرف الحق من آراء المجتهدين فنحن في حل من العمل ببعضها بحسب تقدير المصلحة.
٢ - الإخلاص للشريعة والحفاظ على أحكامها وخلودها وبقائها عقيدة كل مسلم.
 
٣ - مبدأ دفع الحرج أو خاصية اليسر والسماحة التي قامت عليها الشريعة من أبرز مقومات شرع الله الخالد.
٤ - مراعاة مصالح الناس وحاجاتهم المتجددة أمر يتفق مع روح الشريعة التي قامت - بالاستقراء والتتبع - على المصالح، فالمصلحة عماد التشريع، وحيثما وجدت المصلحة فثمة شرع الله ودينه، ولاينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان.
٥ - لا إلزام في الشريعة بأحد اجتهادات أو أقوال الفقهاء، إذ لاواجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولم يوجب الله ولا رسوله على أحد من الناس أن يعمل في دين الله ﷿ بغير كتاب الله وسنة رسوله ومايرجع إليهما.
٦ - لايجب - في الأصح الراجح - التزام مذهب فقهي معين، لأن ذلك مجرد تقليد (أي أخذ بقول الغير من غير معرفة دليله) وإيجاب التقليد تشريع شرع جديد، كما قال شارح مسلم الثبوت.
فلا مانع شرعًا من تقليد أئمة المذاهب والمجتهدين المشهورين والمغمورين، كما لامحذور في الشرع من التلفيق بين أقوال المذاهب عملًا بمبدأ اليسر في الدين لقوله تعالى: ﴿يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر﴾ [البقرة:١٨٥/ ٢]، ومن المعلوم أن أغلب الناس لامذهب لهم، وإنما مذهبهم مذهب مفتيهم، وهم حريصون على أن يكون عملهم شرعيًا.
لكن في خضم هذا الاتجاه بالانتقاء من المذاهب، لابد من معرفة (الضوابط الشرعية للأخذ بأيسر المذاهب) وهو موضوع بحثنا، حتى لاينقلب الأمر فوضى، أو يصبح مجرد عمل بالرغبة المحضة والهوى الشخصي، بدون دليل شرعي، أو مسوغ مقبول، ولأن اختيار الأيسر نوع من الاجتهاد في تقديري.
 
خطة البحث:
بحث هذا الموضوع يقتضي مايلي:
الفرع الأول - ما المذاهب أو الآراء التي يمكن الأخذ بها؟
الفرع الثاني - هل التزام مذهب معين أمر مطلوب أصوليًا؟
الفرع الثالث - هل يجب على السائل المستفتي الترجيح بين العلماء وسؤال الراجح في نظره، أم له الاختيار وسؤال من شاء من المفتين؟
الفرع الرابع - ما آراء الأصوليين في مسألة اختيار الأيسر (أو تتبع الرخص) وفي التلفيق بين المذاهب الإسلامية؟.
الفرع الخامس - ما الضوابط الشرعية للأخذ بأيسر المذاهب المستنبطة من جملة أقوال الأصوليين؟
ويلاحظ أن الكلام عن المطالب الأربعة السابقة تقديم ضروري لبحث المطلب الأخير، لاعتماده على القواعد التي ذكرها الأصوليون فيها. ولايخفى مالهذا الموضوع من أهمية وفائدة ملموسة، سواء فيما يخص أكثرية المسلمين المستفتين فيما يحتاجونه بالفعل في نطاق العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية، أو يهم رجال القانون والقضاء الذين يضعون القوانين المستمدة من الفقه الإسلامي، أو يحتاج إليه علماء التدريس العام والخاص لاستئصال العصبية المذهبية التي تقوم على التقليد الأعمى، من دون مراعاة لما يوجبه رجحان دليل بعض الأقوال الفقهية من ضرورة الإسراع في اتباعها، وترك القول الآخر المرجوح، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
 
الفرع الأول - المذاهب أو الآراء التي يمكن الأخذ بها:
إن الثروة الفقهية الضخمة التي تنتظم كل الأحكام الكفيلة بحل مشكلات الناس، والتي خلفها لنا سلفنا الصالح، لاتقتصر على المذاهب الفقهية الأربعة (المالكية، والحنفية، والشافعية، والحنبلية) وإنما تشمل كل المذاهب المعروفة، مااشتهر منها وماانقرض كمذهب الليث بن سعد، والأوزاعي وابن جرير الطبري وداود الظاهري والثوري، ومذاهب أهل السنة والشيعة الإمامية والزيدية، والإباضية والظاهرية، وآراء الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، فقد نجد فيها مايؤدي لنا فائدة كبرى في نهضتنا المرجوة، لأن ذلك أولى من أخذ أحكام غير شرعية ذات مصدر غربي أو شرقي، ودين الله يسر لاعسر، ولاحرج في دين الله. وتحقيق المصالح والحاجات أمر مطلوب شرعًا. وعلى هذا فإن المشرع واضع القوانين لاحرج عليه في الاختيار من كل هذه الآراء والمذاهب الاجتهادية. وأما القاضي فأرى أن يتقيد بما هو مقرر في المذاهب الأربعة عملًا بالعرف العام الشائع، ومن المعلوم أن هذا العرف يخصص النص. وأكاد أجزم أن المشرع حينما أحال إلى المشهور من أيسر المذاهب قصد المذاهب المعمول بها غالبًا في الدول الإسلامية. والمذاهب: هي آراء المجتهدين.
ومما يدل على سلامة اتجاه المشرع القانوني أن جمهور المسلمين يرون ترجيح نظرية (المخطئة) القائلين بأن الحق واحد لايتعدد، وأن المجتهد المصيب في اجتهاده هو واحد، وغيره هو المخطئ، ولكن لاإثم عليه في الخطأ، لأنه مكلف بالعمل بما أداه إليه اجتهاده، وبما غلب على ظنه،
فقالوا: «الصواب الذي لاصواب غيره أن دين الله واحد، وهو ماأنزل الله به كتابه، وأرسل به رسوله، وارتضاه لعباده، كما أن نبيه واحد، وقبلته واحدة، فمن وافقه فهو المصيب وله أجران، ومن أخطأه فله
 
أجر واحد على اجتهاده، لا على خطئه» (١) وهذا هو الصحيح عند الأئمة الأربعة (٢).
فالواجب أولًا طلب مافيه الحق والصواب أو المصلحة من الأقوال الفقهية الثابتة النسبة لأصحابها، ويترك منها ماهو شاذ مخالف للمصادر والأصول الشرعية، فقد أمر الله مثلًا باتباع الصحابة والتابعين (٣)، فقال الله تعالى: ﴿والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم جناتٍ تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا، ذلك الفوز العظيم﴾ [التوبة:١٠٠/ ٩]، وقد قال الشافعي في الصحابة: «رأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا» (٤) وقال العز بن عبد السلام: إن المدار على ثبوت المذهب عند المقلِّد (٥)، وغلبة الظن على صحته، فحيث ثبت عنده مذهب من المذاهب صح له أن يقلده، ولو كان صاحب المذهب من غير الأئمة الأربعة. وقال العراقي: انعقد الإجماع على أن من أسلم، فله أن يقلد من شاء من العلماء من غير حجر. وأجمع الصحابة ﵃ على أن من استفتى أبا بكر وعمر وقلدهما، فله أن يستفتي أبا هريرة ومعاذ بن جبل وغيرهما، ويعمل بقولهم من غير نكير، فمن ادعى رفع هذين الإجماعين فعليه الدليل (٦).
وبهذا يتبين أن لادليل على إلزام الناس بمذاهب الأئمة الأربعة رضي الله
(١) أعلام الموقعين: ٢١١/ ٢، ط عبد الحميد.
(٢) مسلم الثبوت: ٣٣٠/ ٢، ط الكردي بمصر.
(٣) أعلام الموقعين: ١٢٣/ ٤.
(٤) أعلام الموقعين: ١٨٦/ ٢.
(٥) المقلد: هو من يأخذ بقول الغير من غير معرفة دليله.
(٦) مسلم الثبوت: ٣٥٧/ ٢ حاشية، ط الكردي.
 
عنهم، فهم وغيرهم سواء، ويصح تقليد غير الأربعة إذا صحت نسبته لصاحبه، كما أبان العز بن عبد السلام.

الفرع الثاني - هل التزام مذهب معين أمر مطلوب أصوليًا؟ انقسم الأصوليون في هذه المسألة على آراء ثلاثة:
١ - فقال بعضهم: يجب التزام مذهب إمام معين، لأنه اعتقد أنه حق، فيجب عليه العمل بمقتضى اعتقاده.
٢ - وقال أكثر العلماء: لايجب تقليد إمام معين في كل المسائل والحوادث التي تعرض، بل يجوز أن يقلد أي مجتهد شاء، فلو التزم مذهبًا معينًا كمذهب أبي حنيفة أو الشافعي أو غيرهما، لايلزمه الاستمرار عليه، بل يجوز له الانتقال منه إلى مذهب آخر، إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولم يوجب الله تعالى ولا رسوله على أحد أن يتمذهب بمذهب رجل من الأئمة، وإنما أوجب الله تعالى اتباع العلماء من غير تخصيص بواحد دون آخر، فقال ﷿: ﴿فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون﴾ [الأنبياء:٧/ ٢١]، ولأن المستفتين في عصر الصحابة والتابعين، لم يكونوا ملتزمين بمذهب معين، بل كانوا يسألون من تهيأ لهم دون تقيد بواحد دون آخر، فكان هذا إجماعًا منهم على عدم وجوب تقليد إمام، أو اتباع مذهب معين في كل المسائل.
ثم إن القول بالتزام مذهب ما، يؤدي إلى الحرج والضيق، مع أن المذاهب نعمة وفضيلة ورحمة للأمة.
وهذا القول هو الراجح عند علماء الأصول.
 
٣ - وفصل الآمدي والكمال بن الهمام في المسألة فقال: إن عمل الشخص بما التزمه في بعض المسائل بمذهب معين، فلا يجوز له تقليد الغير فيها، وإن لم يعمل في بعضها الآخر جاز له اتباع غيره فيها، إذ إنه لم يوجد في الشرع مايوجب عليه اتباع ماالتزمه، وإنما أوجب الشرع عليه اتباع العلماء دون تخصيص عالم دون آخر (١).
يتلخص من هذا أن القول الأصح الراجح عند علماء الأصول (٢): هو عدم ضرورة الالتزام بمذهب معين، وجواز مخالفة إمام المذهب، والأخذ بقول غيره، لأن التزام المذهب غير ملزم، كما بينا. وبناء عليه فلا مانع إطلاقًا من حيث المبدأ في العصر الحاضر من اختيار بعض الأحكام الشرعية المقررة لدى علماء المذاهب، دون تقيد بجملة المذهب أو بتفصيلاته.
ويضاف لذلك أن الفقهاء قرروا جواز العمل بالقول الضعيف في المذهب عند الضرورة أو الحاجة، وهذه هي نصوصهم:
١ - للقاضي أن يلجأ إلى غير مذهبه للضرورة (فتوى عطاء بن حمزة).
(١) راجع فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت لابن عبد الشكور:٤٠٢/ ٢، مسلم الثبوت: ٣٥٥/ ٢، شرح المحلي على جمع الجوامع: ٣٢٨/ ٢، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي: ٣١٧٤، التقرير والتحبير: ٣٤٤/ ٣، شرح الإسنوي: ٢٦٦/ ٣، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد: ص ١٩٣، ارشاد الفحول: ص ٢٤٠، فتاوى الشيخ عليش: ٦٠/ ١
(٢) قال الشافعية: الأصح من كلام المتأخرين كالشيخ ابن حجر وغيره أنه يجوز الانتقال من مذهب إلى مذهب من المذاهب المدونة، ولو بمجرد التشهي، سواء انتقل دوامًا أو في بعض الحادثة، وإن أفتى أو حكم أو عمل بخلافه مالم يلزم منه التلفيق (الفوائد المكية فيما يحتاجه طلبة الشافعية من المسائل والضوابط والقواعد الكلية للسيد علوي بن أحمد السقّاف: ص٥١، ط البابي الحلبي).
 
٢ - للقاضي أن يعمل بغير المشهور من مذهبه إذا نص السلطان على ذلك (نص الدر المختار للحصكفي).
٣ - للقاضي أن يقضي بالقول المنصوص على فساده، ولا ينقض قضاؤه، لأنه مجتهد فيه، إلا إذا كان في مقابلة أخذ المال، أو للهوى والغرض (عبارة جامع الفصولين وتعليلها).
٤ - جواز العمل والإفتاء بالقول الضعيف في مواضع الضرورة (عبارة المعراج عن فخر الأئمة).
٥ - جواز العمل بالضعيف للشخص في خاصة نفسه، وللفتوى إذا تحقق المفتي الضرورة (عبارة الدسوقي المالكي).
٦ - منع التخيير إذا كان الغرض من الالتجاء إلى القول الضعيف الشهوة والغرض، اتباعًا للهوى وابتغاء حطام الدنيا (١).
٧ - إن خروج المقلد من العمل بالمشهور إلى العمل بالشاذ الذي فيه رخصة من غير تتبع للرخص صحيح عند كل من قال بعدم لزوم تقليد الأرجح، وهو قول الأكثر من الأصوليين. ويباح للمقلد أن يقلد من شاء من أقوال المجتهدين. وإن نقل الإجماع على منع ذلك غير صحيح (فتاوى الشيخ عليش: ٦١/ ١).
٨ - وكذا يجوز الأخذ والعمل لنفسه بالأقوال والطرق والوجوه الضعيفة، إلا بمقابل الصحيح، فإن الغالب فيه أنه فاسد، ويجوز الإفتاء به للغير بمعنى الإرشاد (الفوائد المكية فيما يحتاجه طلبة الشافعية للسقاف: ص٥١).
(١) الاجتهاد في الإسلام للشيخ الأستاذ محمد مصطفى المراغي: ص ٣٦ - ٣٩ نقلًا عن هذه الكتب، رسم المفتي لابن عابدين في حاشيته: ٦٩/ ١.
 
الفرع الثالث - هل يجب سؤال الأفضل والأرجح في العلم، أو يصح سؤال من تيسر؟ عبارة الأصوليين المشهورة في هذه المسألة هي: هل يجوز تقليد المفضول مع وجود الأفضل؟
للعلماء رأيان في ذلك (١).
١ - قال جماعة (وهو مذهب أحمد في رواية عنه وابن سريج والقفال الشافعيين، وأبي إسحاق الإسفراييني الملقب بالأستاذ، وأبي الحسن الطبري الملقب بالكِيَا، واختاره الغزالي، وهو المذهب المشهور عند الشيعة): يجب استفتاء (٢) الأفضل في العلم والورع والدين، ويجب على السائل النظر في الأرجح، ثم اتباعه، ويكفيه الاعتماد على الشهرة. قال الغزَّالي في المستصفى (٣):
«والأولى عندي أنه يلزمه اتباع الأفضل، فمن اعتقد أن الشافعي ﵀ أعلم، والصواب على مذهبه أغلب، فليس له أن يأخذ بمذهب مخالفه بالتشهي».
ودليل هؤلاء: هو أن أقوال المجتهدين بالنسبة للناس كالأدلة والأمارات المتعارضة بالنسبة للمجتهد، فيجب على السائل الترجيح، ولاترجيح إلا بالفضل
(١) انظر التقرير والتحبير: ٣٤٥/ ٣ومابعدها، فواتح الرحموت: ٤٠٣/ ٢ ومابعدها، مسلم الثبوت: ٣٥٤/ ٢، اللمع في أصول الفقه للشيرازي: ص٦٨، الإحكام للآمدي: ١٧٣/ ٣، المدخل إلى مذهب أحمد: ص ١٩٤، فتاوى الشيخ عليش: ٦١/ ١، ٧١، حاشية ابن عابدين: ٤٥/ ١، ط الأميرية، رسالة في أصول الفقه لابن عربي: ص٣٢، المستصفى: ١٢٥/ ٢، إرشاد الفحول: ص٢٣٩.
(٢) الاستفتاء: هو السؤال عن الحكم عند المجتهد لأجل العمل بقوله، سواء أكان المسؤول هو المجتهد نفسه، أو من نقل عنه نقلًا صحيحًا ولو بواسطة (تحفة الرأي السديد لأحمد الحسيني: ص ٢٣٩).
(٣) المستصفى: ١٢٥/ ٢.
 
والعلم، لأن الأعلم أقوى، وطريق معرفة الأعلم إما بالاختبار والتجربة، أو بالشهرة والتسامع ورجوع الناس إليه.
٢ - وقال القاضي أبو بكر بن العربي وأكثرية الفقهاء والأصوليين (١): يخير السائل في سؤال من شاء من العلماء سواء أتساووا أم تفاضلوا، أي أنه يجوز تقليد المفضول مع وجود الأفضل في العلم لعموم قوله تعالى: ﴿فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون﴾ [الأنبياء:٧/ ٢١]، ولإجماع الصحابة: وهو أن الصحابة كان فيهم الفاضل والمفضول من المجتهدين، وكان فيهم العوام، ولم ينقل عن أحد من الصحابة تكليف العوام بالاجتهاد في أعيان المجتهدين، ولو كان التخيير غير جائز لما تطابق الصحابة على عدم إنكاره. قال الآمدي حاكيًا هذا الإجماع (٢):
إن الصحابة كان فيهم الفاضل والمفضول من المجتهدين، فإن الخلفاء الأربعة كانوا أعرف بطريق الاجتهاد من غيرهم، ولهذا قال ﵇: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ» وقال ﵇: «أقضاكم علي، وأفرضكم زيد، وأعرفكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل» وكان فيهم العوام ومن فرضه الاتباع للمجتهدين والأخذ بقولهم لاغير. ومع ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة والسلف تكليف العوام الاجتهاد في أعيان المجتهدين، ولا أنكر أحد منهم اتباع المفضول، والاستفتاء له، مع وجود الأفضل.
ولو كان ذلك غير جائز، لما جاز من الصحابة التطابق على عدم إنكاره والمنع منه.
ولولا
(١) قال ابن عابدين في حاشيته نقلًا عن التحرير وشرحه: وبه قال الحنفية والمالكية وأكثر الحنابلة والشافعية. وفي آخر فتاوى ابن حجر: الأصح لدى أئمة الشافعية إن المقلد يتخير في تقليد أي شاء من العلماء ولو مفضولا ً وإن اعتقده كذلك. وحينئذ فلا يمكن أن يقطع أو يظن أنه - أي المجتهد - على الصواب، بل على المقلد أن يعتقد أن ما ذهب إليه إمامه يحتمل أنه الحق (حاشية ابن عابدين: ٤٥/ ١).
(٢) الإحكام للآمدي: ١٧٣/ ٣ومابعدها.
 
إجماع الصحابة على ذلك لكان القول بمذهب الخصوم - أي أصحاب الرأي الأول - أولى (١).
يتبين من هذا أن القول الثاني هو الأرجح بإجماع الصحابة على جواز التخير بين الأقوال، وسؤال السائل من شاء من العلماء (٢).

الفرع الرابع - آراء الأصوليين في مسألة اختيار الأيسر (أو تتبع الرخص)، وفي التلفيق بين المذاهب. يتفرع على مابيناه من أنه لم يوجد في الشرع مايوجب على الإنسان اتباع ماالتزمه من المذاهب: القول بجواز تتبع الرخص والتلفيق. أما تتبع الرخص أو اختيار الأيسر: فهو أن يأخذ الشخص من كل مذهب ماهو أهون عليه وأيسر فيما يطرأ عليه من المسائل.
وقد حكى الأصوليون في هذه المسألة ثمانية أقوال (٣) أذكرها بإجمال ثم أبين أقوى النظريات المقولة فيها.
١ - قال أكثر أصحاب الشافعي وصححه الشيرازي والخطيب البغدادي وابن الصباغ والباقلاني والآمدي: يخير الإنسان بأخذ ماشاء من الأقوال، لإجماع الصحابة على عدم إنكار العمل بقول المفضول مع وجود الأفضل.
٢ - أهل الظاهر والحنابلة: يأخذ بالأشد الأغلظ.
(١) قال الإمام الرازي هذه العبارة أيضًا.
(٢) قال ابن بدران الحنبلي في المدخل: ص ١٩٤: الحق أن المقلد لايلزمه استفتاء أفضل المجتهدين مطلقًا فإن هذا يسد باب التقليد، أما إذا قيدنا ذلك بمجتهدي البلد فإنه يلزمه حينئذ تحري الأفضل، لأن الأفضل في كل بلد معروف مشهور.
(٣) إرشاد الفحول للشوكاني: ص ٢٤٠، فتاوى الشيخ عليش: ٧١/ ١ ومابعدها. ٣ - يأخذ بالأخف.
 
٤ - يبحث عن الأعم من المجتهدين، فيأخذ بقوله.
٥ - يأخذ بقول الأول، حكاه الرُّوياني.
٦ - يأخذ بقول من يعمل على الرواية دون الرأي، حكاه الرافعي.
٧ - يجب عليه أن يجتهد فيما يأخذ مما اختلفوا فيه، حكاه ابن السَّمعاني، ومشى عليه الشاطبي في الموافقات.،وهذا القول قريب من رأي الكعبي.
٨ - إن كان الأمر في حق الله أخذ بالأخف، وإن كان في حق العباد أخذ بالأغلظ، حكاه الأستاذ أبو منصور الماتريدي.
ويمكن القول بوجود آراء ثلاثة في الموضوع هي الأشهر وهي التي نعتمدها بحثًا.

١ - قال الحنابلة (١)، والمالكية في الأصح عندهم (٢)، والغزالي (٣): يمتنع تتبع الرخص في المذاهب، لأنه ميل مع أهواء النفوس، والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى، قال تعالى: ﴿فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول﴾ [النساء:٥٩/ ٤]، فلا يصح رد المتنازع فيه إلى أهواء النفوس، وإنما يرد إلى الشريعة.
ونقل عن ابن عبد البر: أنه لايجوز للعامي تتبع الرخص إجماعًا. وعبارة
(١) المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل لابن بدران الدمشقي: ص ١٩٥.
(٢) فتاوى الشيخ عليش مع التبصرة لابن فرحون المالكي: ٥٨/ ١ - ٦٠، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي: ص ٧٩.
(٣) المستصفى: ١٢٥/ ٢.
 
الحنابلة في ذلك (١): إن استوى المجتهدان عند المستفتي في الفضيلة واختلفا عليه في الجواب اختار الأشد منهما، لما روى الترمذي من حديث عائشة قالت: «قال رسول الله ﷺ: ماخير عمار بين أمرين إلا اختار أشدهما» وفي لفظ «أرشدهما» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. ورواه أيضًا النسائي وابن ماجه. فثبت بهذين اللفظين للحديث أن الرشد في الأخذ بالأشد، والأولى أن يعتبر - أي المستفتي - القولين ساقطين، لتعارضهما، ويرجع إلى استفتاء آخر.
وعبارة المالكية (٢): الأصح أنه يمتنع تتبع الرخص في المذاهب، بأن يأخذ منها ماهو الأهون فيما يقع من المسائل. وقيل: لايمتنع. وصرح بعضهم بتفسيق متتبع الرخص. والأولى الاحتياط بالخروج من الخلاف بالتزام الأشد الأقوى، فإن من عز عليه دينه تورع، ومن هان عليه دينه تبدع.
وعبارة الغزالي (٣): ليس للعامي (٤) أن ينتقي من المذاهب في كل مسألة أطيبها عنده، فيتوسع، بل هذا الترجيح عنده كترجيح الدليلين المتعارضين عند المفتي، فإنه يتبع ظنه في الترجيح، فكذلك ههنا.

٢ - قال القرافي المالكي، وأكثر أصحاب الشافعي، والراجح عند الحنفية منهم ابن الهمام وصاحب مسلم الثبوت (٥): يجوز تتبع رخص المذاهب، لأنه
(١) المدخل إلى مذهب أحمد، المرجع والمكان السابق.
(٢) فتاوى الشيخ عليش، المرجع السابق، وصفحة ٧٦.
(٣) المستصفى، المرجع السابق.
(٤) العامي في اصطلاح الأصوليين: هو كل من ليس أهلًا للاجتهاد، وإن كان عالمًا بفن غير فن استنباط الأحكام من أدلتها.
(٥) مسلم الثبوت: ٣٥٦/ ٢، إرشاد الفحول: ص ٢٤٠، شرح المحلي على جمع الجوامع ٣٢٨/ ٢، شرح الإسنوي: ٢٦٦/ ٣، رسم المفتي في حاشية ابن عابدين: ٦٩/ ١ ومابعدها، الفوائد المكية للسقاف: ص٥٢.
 
لم يوجد في الشرع مايمنع من ذلك، إذ للإنسان أن يسلك الأخف عليه إذا كان له إليه سبيل، بأن لم يكن عمل بآخر، بدليل أن سنة الرسول ﷺ الفعلية والقولية تقتضي جوازه، فإنه ﵊ «ماخير بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما مالم يكن مأثمًا» (١) وفي صحيح البخاري عن عائشة ﵂ «أن النبي ﷺ كان يحب ماخفف عن أمته».
وقال ﷺ: «بعثت بالحنيفية السمحة» (٢) وقال أيضًا: «إن هذا الدين يسر، ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه» (٣). وقال ﵇ أيضًا: «إن الله قد فرض فرائض وسن سننًا وحد حدودًا وأحل حرامًا وحرم حلالًا، وشرع الدين فجعله سهلًا سمحًا واسعًا ولم يجعله ضيقًا» (٤).
وقال الشعبي: «ماخير رجل بين أمرين، فاختار أيسرهما إلا كان ذلك أحبهما إلى الله تعالى».
وقال القرافي في هذه المسألة: يجوز تتبع الرخص بشرط ألا يترتب عليه العمل بما هو باطل عند جميع من قلدهم، أي أن شرط جواز تقليد مذهب الغير ألا يؤدي إلى التلفيق (٥) أي ألا يكون موقعًا في أمر يجتمع على إبطاله الإمام الذي كان على مذهبه، والإمام الذي انتقل إليه، كما إذا قلد الإمام مالك في عدم نقض الوضوء بلمس المرأة بغير شهوة، وقلد الإمام الشافعي في عدم وجوب ذلك
(١) أخرجه البخاري ومالك والترمذي.
(٢) أخرجه أحمد في مسنده، والخطيب البغدادي، ورواه الديلمي في مسند الفردوس، وفي آخره عند الخطيب: «ومن خالف سنتي فليس مني».
(٣) أخرجه البخاري والنسائي.
(٤) رواه الطبراني في الكبير عن ابن عباس ﵄.
(٥) التلفيق: هو الإتيان بكيفية لايقول بها المجتهد. كما سأبيِّن. الأعضاء في الوضوء، أو عدم وجوب مسح جميع الرأس، فإن صلاته تكون باطلة عند الإمامين، لعدم صحة الوضوء عند كل منهما.
 
ويلاحظ أن هذا القيد الذي ذكره القرافي وهو: (ألا يترتب على تتبع الرخص العمل بما هو باطل لدى جميع من قلدهم) لادليل عليه من نص أو إجماع، وإنما هو قيد متأخر، كما قرر الكمال بن الهمام في (التحرير). فإذا جاز للشخص مخالفة بعض المجتهدين في كل ماذهب إليه، كما بينا، جازت مخالفته في بعض ماذهب إليه من باب أولى، كما قال صاحب تيسير التحرير. ثم قال: وليس هناك دليل من نص أو إجماع يدل على أن الفعل إذا كانت له شروط، فإنه يجب على المقلد أن يتبع مجتهدًا واحدًا في هذه الشروط التي يتوقف عليها هذا الفعل، ومن ادعى دليلًا على ذلك فعليه الإتيان به.
وأما مانقل عن ابن عبد البر، من أنه «لايجوز للعامي تتبع الرخص إجماعًا، فلا نسلم صحة هذا النقل عنه، ولو سلم فلا يسلم صحة الإجماع، إذ في تفسيق متتبع الرخص عن أحمد روايتان. وحمل القاضي أبو يعلى الرواية المفسقة على غير متأول ولامقلد. وقال ابن أمير الحاج في التقرير على التحرير: وذكر بعض الحنابلة: أنه إنْ قوي الدليل، أو كان عاميًا، لايفسق. وفي روضة النووي حكاية عن ابن أبي هريرة: لايفسق. والخلاصة: أن مبدأ الأخذ بالرخص أمر محبوب، ودين الله يسر، وماجعل عليكم في الدين من حرج، والمفروض أن المقلد لم يقصد تتبع الرخص في كل الوقائع وإنما في بعض المسائل، وكثيرًا ماقال العلماء: «من قلد عالمًا فقد برئ مع الله» «اختلاف العلماء رحمة» وربما قال بعضهم: «حجَّرت واسعًا» إذا التزم العمل بالقول المشهور في جميع تصرفاته.
 
٣ - رأي الشاطبي :
يرى الشاطبي رأي ابن السمعاني (١): وهو أنه يجب على المقلد الترجيح بين أقوال المذاهب بالأعلمية وغيرها، واتباع الدليل الأقوى، لأن أقوال المجتهدين بالنسبة للمقلدين كالأدلة المتعارضة بالنسبة إلى المجتهد، فكما يجب على المجتهد الترجيح أو التوقف عند تعادل الأدلة، كذلك المقلد. ولأن الشريعة ترجع في الواقع إلى قول واحد، فليس للمقلد أن يتخير بين الأقوال. وإلا كان متبعًا غرضه وشهوته، والله تعالى يمنع اتباع الهوى جملة وهو قوله تعالى: ﴿فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول﴾ [النساء:٥٩/ ٤].
ثم أبان الشاطبي في كلام مسهب مايترتب على مبدأ الأخذ بالأيسر من مفاسد:
أولها - الضلال في الفتوى بمحاباة القريب أو الصديق في تتبع رخص المذاهب اتباعًا للغرض والشهوة.
ثانيها - الادعاء بأن الاختلاف حجة على الجواز أو الإباحة، حتى شاع بين الناس الاعتماد في جواز الفعل على كونه مختلفًا فيه بين أهل العلم.
ثالثها - اتباع رخص المذاهب اعتمادًا على مبدأ جواز الانتقال الكلي من مذهب إلى مذهب، وأخذًا بمبدأ اليسر الذي قامت عليه الشريعة مع (أن الحنيفية السمحة أتى فيها السماح مقيدًا بما هو جار على أصولها، وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها). ثم ذكر بعض مفاسد اتباع رخص المذاهب كالانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع الخلاف، وكالاستهانة
(١) الموافقات: ١٣٢/ ٤ - ١٥٥.
 
بالدين إذ يصير سيَّالًا لاينضبط، وكترك ماهو معلوم إلى ماليس بمعلوم، للجهل بأحكام المذاهب الأخرى، وكانخرام قانون السياسة الشرعية (١) بترك انضباط معيار العدالة بين الناس وشيوع الفوضى والمظالم وضياع الحقوق وتعطيل الحدود واجتراء أهل الفساد، وكإفضاء ذلك إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماعهم، وغير ذلك من المفاسد التي يكثر تعدادها.
رابعها - التخلص من الأحكام الشرعية وإسقاطها جملة، عملًا بمبدأ الأخذ بأخف القولين، لابأثقلهما، مع أن التكاليف كلها شاقة ثقيلة.
ثم رد الشاطبي على القائل بجواز تتبع الرخص في حالات للضرورة أو الحاجة عملًا بالقاعدة الشرعية (الضرورات تبيح المحظورات) بأن حاصل فعله هو الأخذ بما يوافق الهوى، أو تجاوز حدود الضرورة أو الحاجة المقررة في الشرع. كما أنه رد على المتمسك بمبدأ (مراعاة الخلاف بين الأقوال) لتسويغ الأخذ بالأيسر بأن مراعاة الخلاف لايترتب عليه الجمع بين قولين متنافيين أو القول بهما معًا، وإنما هما لمسألتين مختلفتين. وفي تقديري أن السبب الذي حمل الشاطبي على منع تتبع الرخص والتلفيق هو غيرته على نظام الأحكام الشرعية حتى لايتخطاها أحد عملًا بمبدأ التيسير على الناس،،ولكنه - كما يلاحظ من كلامه - متأثر بالعصبية المذهبية، ويخشى - رغم تحرره الفكري - مخالفة مذهب الإمام مالك، ويحرص على التقليد ومنع الاجتهاد.
ونحن معه في هذه الغيرة على أحكام الشريعة، لكن التقليد أو التلفيق الجائز مجاله محصور فيما لم يتضمن الإعراض عما أنزل الله، أو الذي لم يتضح فيه
(١) وهي الطرق العادلة التي تخرج الحق من الظالم وتدفع كثيرًا من المظالم. وإهمالها يضيع الحقوق، ويعطل الحدود، ويجرِّئ أهل الفساد. ويندرج فيها كل ماشرع لسياسة الناس وزجر المعتدين.
 
رجحان الحق والدليل على صحة قول المجتهد المقلَّد (١)، وحينئذ ينهدم رأي الشاطبي من أساسه، لأنه يطالب بضرورة العمل بالدليل الراجح، والتزام أصول الشريعة، وهذا أمر مفترض في كل تقليد محمود أو أخذ بأيسر المذاهب.

التلفيق:
هو الإتيان بكيفية لا يقول بها المجتهد. ومعناه أن يترتب على العمل بتقليد المذاهب، والأخذ في مسألة واحدة بقولين أو أكثر: الوصول إلى حقيقة مركبة لايقرها أحد، سواء الإمام الذي كان على مذهبه، والإمام الذي انتقل إليه، فكل واحد منهم يقرر بطلان تلك الحقيقة الملفقة. ويتحقق ذلك إذا عمل المقلد في قضية واحدة بالقولين معًا، أو بأحدهما مع بقاء أثر الثاني.


فالتلفيق إذًا: هو الجمع بين تقليد إمامين أو أكثر في فعل له أركان أو جزئيات لها ارتباط ببعضها، لكل منها حكم خاص، كان موضع اجتهادهم وتباين آرائهم، فيقلد أحدهم في حكم، ويقلد آخر في حكم آخر، فيتم الفعل ملفقًا من مذهبين أو أكثر.
مثل أن يقلد شخص في الوضوء مذهب الشافعي في الاكتفاء بمسح بعض الرأس، ثم يقلد أبا حنيفة أو مالكًا في عدم نقض الوضوء بلمس المرأة خاليًا عن قصد الشهوة ووجودها، ثم يصلي، فإن هذا الوضوء الذي صلى به لم يقل به كل واحد من هؤلاء الأئمة، فالشافعي يعتبره باطلًا لنقضه باللمس، وأبو حنيفة لايجيزه لعدم مسح ربع الرأس، ومالك لايقره لعدم مسح جميع الرأس أو لعدم
(١) راجع أعلام الموقعين في بيان نوعي التقليد المحمود والمذموم: ١٦٨/ ٢، تحفة الرأي السديد للحسيني: ص٣٩.
 
دلك أعضاء الوضوء ونحو ذلك. أو أن يقلد مالكًا في عدم نقض الوضوء بالقهقهة في الصلاة، وأبا حنيفة في عدم النقض بمس الذكر، وصلى. فهذه صلاة مجمع منهما على فسادها.
ومثل أن يستأجر شخص مكانًا موقوفًا تسعين سنة فأكثر، من غير أن يراه، مقلدًا في المدة الطويلة للشافعي وأحمد، وفي عدم الرؤية لأبي حنيفة، فيجوز (١).

ومجال التلفيق كمجال التقليد محصور في المسائل الاجتهادية الظنية. أما كل ما علم من الدين بالضرورة - أي بالبداهة - من متعلَّقات الحكم الشرعي، وهو ماأجمع عليه المسلمون ويكفر جاحده، فلا يصح فيه التقليد والتلفيق، وعلى هذا فلا يجوز التلفيق المؤدي إلى إباحة المحرمات كالنبيذ والزنا مثلًا. هذا وإن قضية التلفيق بين المذاهب اشترط عدمها لجواز تقليد مذاهب الغير أكثر المتأخرين من العلماء بعد انتهاء القرن العاشر الهجري، ولم يتكلم فيها قبل القرن السابع.


وجواز التلفيق مبني على ما قررناه من أنه لا يجب التزام مذهب معين في جميع المسائل، فمن لم يكن ملتزمًا مذهبًا معينًا، جاز له التلفيق، وإلا أدى الأمر إلى بطلان عبادات العوام، لأن العامي لا مذهب له ولو تمذهب به، ومذهبه في كل قضية هو مذهب من أفتاه بها. كما أن القول بجواز التلفيق يعتبر من باب التيسير على الناس.
وتقليد إمام في جزئية أو مسألة لايمنع من تقليد إمام آخر في مسألة أخرى، ولايقال: إن المقلد وصل إلى حقيقة لم يقل بها كلا الإمامين، وإنما يعد ذلك من قبيل تداخل أقوال المفتين (أي المجتهدين) بعضها في بعض في عمل المستفتي
(١) شرح الإسنوي على منهاج البيضاوي: ٢٦٦/ ٣، عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق للشيخ محمد سعيد الباني: ص٩١
 
تداخلًا غير مقصود، كتداخل اللغات بعضها ببعض في لسان العرب. فالمقلد لم يقلد كل إمام في مجموع عمله، وإنما قلد كلا من الإمامين في مسألة معينة غير التي قلد فيها غيره، ومجموع العمل لم يوجب أحد النظر إليه لا في اجتهاد ولا في تقليد.
وأما اشتراط بعض العلماء لجواز التلفيق ضرورة مراعاة الخلاف بين المذاهب، فهو أمر عسير، سواء في العبادات أو في المعاملات، وذلك يتنافى مع سماحة الشريعة ويسرها ومسايرتها لمصالح الناس.
وأما ادعاء وجود الإجماع (من قِبَل ابن حجر وغيره من بعض علماء الحنفية) على عدم جواز التلفيق، فيحتاج إلى دليل، وليس أدل على عدم قيام مثل هذا الإجماع من وجود اختلاف واضح بين العلماء في مسألة التلفيق. قال الشفشاوني في تركيب مسألة من مذهبين أو أكثر: «إن الأصوليين اختلفوا في هذه المسألة، والصحيح من جهة النظر جوازه» وحكى الثقات الخلاف أيضًا كالفهامة الأمير والفاضل البيجوري. هذا وإن مثل هذا الإجماع المدعى المنقول بطريق الآحاد لايوجب العمل عند جمهور العلماء، ولعل المراد بهذا الإجماع هو اتفاق الأكثر أو أهل مذهب ما.

وسأذكر هنا بإيجاز أقوال علماء المذاهب في إباحة التلفيق (١):

 
١ - الحنفية: قال الكمال بن الهمام وتلميذه ابن أمير الحاج في التحرير
(١) رسم المفتي:٦٩/ ١، التحرير وشرحه: ٣٥٠/ ٣ ومابعدها، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي: ص٢٥٠ ومابعدها، عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق للباني: ص١٠٦ ومابعدها، المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامي، بحث الأستاذ الشيخ السنهوري: ص٨٣ ومابعدها، وبحث الشيخ عبد الرحمن القلهود: ص ٩٥ ومابعدها.
 
وشرحه: إن المقلد له أن يقلد من شاء، وإن أخذ العامي في كل مسألة بقول مجتهد أخف عليه لا أدري ما يمنعه من النقل أو العقل، وكون الإنسان يتتبع ما هو الأخف عليه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد، ما علمت من الشرائع ذمه عليه، وكان ﷺ يحب ما خفف عن أمته.
وجاء في تنقيح الفتاوى الحامدية لابن عابدين ما يفيد أن في منية المفتي ما يفيد جواز الحكم المركب، وأن القاضي الطرسوسي (المتوفى سنة ٧٥٨ هـ) مشى على الجواز. وأفتى مفتي الروم أبو السعود العمادي (المتوفى سنة ٩٨٣ هـ) في فتاويه بالجواز. وجزم ابن نجيم المصري (المتوفى سنة ٩٧٠ هـ) في رسالته (في بيع الوقف بغبن فاحش) بأن المذهب جواز التلفيق، ونقل الجواز عن الفتاوى البزازية. وذهب أمير باد شاه (المتوفى سنة ٩٧٢ هـ) إلى جواز التلفيق بكل قوته. وألف مفتي نابلس منيب أفندي الهاشمي رسالة في التقليد عام (١٣٠٧ هـ) أيد فيها التقليد مطلقًا، وقال عنها فقيه عصره الشيخ عبد الرحمن البحراوي: «أن المؤلف قد بين الحق على الوجه الصحيح». والخلاصة: أن الشائع المشهور أن التلفيق باطل، لكن العلماء خلاف ذلك وأنه جائز بأدلة كثيرة ناطقة على صحته.

٢ - المالكية

الأصح والمرجح عند المتأخرين من فقهاء المالكية هو جواز التلفيق، فقد صحح الجواز ابن عرفة المالكي في حاشيته على الشرح الكبير للدردير، وأفتى العلامة العدوي بالجواز، ورجح الدسوقي الجواز، ونقل الأمير الكبير عن شيوخه أن الصحيح جواز التلفيق وهو فسحة.


٣ - الشافعية:

 منع بعضهم كل صور التلفيق، واقتصر بعضهم الآخر على حظر حالات التلفيق الممنوع الآتي بيانها، وأجاز آخرون التلفيق إذا جمعت في المسألة شروط المذاهب المقلدة.
 
٤ - الحنابلة :

  نقل الطرسوسي أن القضاة الحنابلة نفذوا الأحكام الصادرة بالتلفيق.
هذا ولم أذكر أقوال المخالفين من علماء هذه المذاهب، سواء في قضية الأخذ بأيسر المذاهب أو في تتبع الرخص، ولأن أقوال المخالفين لا تلزمنا، لعدم وجود دليل شرعي راجح لها.

التلفيق الممنوع:
ليس القول بجواز التلفيق مطلقًا، وإنما هو مقيد في حدود معينة، فمنه ما هو باطل لذاته، كما إذا أدى إلى إحلال المحرمات كالخمر والزنا ونحوهما. ومنه ما هو محظور لا لذاته، بل لما يعرض له من العوارض، وهو ثلاثة أنواع (١):

أولها - تتبع الرخص عمدا 

 ً: بأن يأخذ الإنسان من كل مذهب ما هو الأخف عليه بدون ضرورة ولاعذر. وهذا محظور سدًا لذرائع الفساد بالانحلال من التكاليف الشرعية.

 
الثاني - التلفيق الذي يستلزم نقض حكم الحاكم، لأن حكمه يرفع الخلاف درءًا للفوضى.


الثالث - التلفيق الذي يستلزم الرجوع عما عمل به تقليدًا أو عن أمر مجمع عليه لازم لأمر قلده. وهذا الشرط في غير العبادات، أما فيها فيجوز التلفيق ولو استلزم الرجوع عما عمل به أو عن أمر لازم لآخر إجماعًا، مالم يفض إلى الانحلال من ربقة التكاليف الشرعية أو إلى الذهاب بالحكمة الشرعية باقتراف الحيل المغايرة للشريعة أو المضيعة لمقاصدها.
(١) عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق، المرجع السابق: ص١٢١، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي: ص٧٩، فتاوى الشيخ عليش: ٦٨/ ١،٧١.
 
مثال الأول أي الرجوع عن العمل: ما نقل عن الفتاوى الهندية: لو أن فقيهًا قال لامرأته: (أنت طالق البتة) وهو يرى أن الطلاق يقع ثلاثًا، فأمضى فيما بينه وبينها، وعزم على أنها حرمت عليه. ثم رأى بعدئذ أنها تطليقة رجعية، أمضى رأيه الأول الذي كان عزم عليه، ولايردها إلى أن تكون زوجته برأي حدث من بعد.

وكذلك لوكان في الابتداء يراها تطليقة رجعية، فعزم على أنها امرأته، ثم رأى بعد أنها ثلاث، لم تحرم عليه. هذا ويلاحظ أن

بطلان التلفيق بعد العمل مقيد بقيدين:
أولهما - أن يبقى من آثار الفعل السابق أثر يؤدي إلى تلفيق العمل بشيء لايقول به كل من المذهبين كتقليد الشافعي في مسح بعض الرأس، ومالك في طهارة الكلب في صلاة واحدة. وكما لو أفتى مفت ببينونة زوجته بطلاقها مكرهًا، ثم نكح أختها مقلدًا للحنفي بوقوع طلاق المكره. ثم أفتاه شافعي بعدم الحنث، فيمتنع عليه أن يطأ الأولى، مقلدًا للشافعي والثانية مقلدًا للحنفي، لأن إمضاء الفعل كإمضاء القاضي لا ينقض.
ثانيهما - أن يكون ذلك في حادثة واحدة بعينها لا في مثلها، كما لو صلى ظهرًا بمسح ربع الرأس مقلدًا للحنفي، فليس له إبطال طهارته باعتقاده لزوم مسح الكل مقلدًا للمالكي. وأما لوصلى يومًا على مذهب، وأراد أن يصلي يومًا آخر فلا يمنع منه (١).
مثال الثاني أي الرجوع عن أمر مجمع عليه: لو قلد رجل أبا حنيفة في عقد النكاح بلا ولي، فيستلزم العقد صحة إيقاع الطلاق، لأنها أمر لازم لصحة النكاح إجماعا، فلو طلقها ثلاثا، ثم أراد تقليد الشافعي في عدم وقوع الطلاق لكون النكاح
(١) رسم المفتي في حاشية ابن عابدين: ٦٩/ ١ وما بعدها.
 
إجماعًا، فلو طلقها ثلاثًا، ثم أراد تقليد الشافعي في عدم وقوع الطلاق لكون النكاح بلا ولي، فليس له ذلك لكونه رجوعًا عن التقليد في أمر لازم إجماعًا. وهذا أمر معقول حتى لا تصبح العلاقة الزوجية السابقة علاقة محرمة، وأن الأولاد أولاد زنا. فيمنع ذلك كما يمنع كل ما يؤدي إلى العبث بالدين أو الإضرار بالبشر أو الفساد في الأرض.
ومن صور التلفيق الممنوع لمخالفته الإجماع: أن يتزوج رجل امرأة بغير صداق ولا ولي ولا شهود، مقلدًا كل مذهب فيما لا يقول به الآخر، فهذا من التلفيق المؤدي إلى محظور، لأنه يخالف الإجماع، فلم يقل به أحد (١).
ومن صور التلفيق الممنوع أيضًا: أن يطلق شخص زوجته ثلاثًا، ثم تتزوج بابن تسع سنين بقصد التحليل، مقلدا ً زوجها في صحة الزواج للشافعي، فأصابها، ثم طلقها مقلدًا في صحة الطلاق، وعدم الحاجة إلى العدة للإمام أحمد، فيجوز لزوجها الأول العقد عليها فورًا. فهذا التلفيق ممنوع لأنه يؤدي إلى التلاعب بقضايا الزواج، لذا قال الشيخ الاجهوري من الشافعية: هذا ممنوع في زماننا ولا يجوز ولايصح العمل بهذه المسألة، لأنه يشترط عند الشافعي أن يكون المزوج للصبي أبًا له، أو جدًا، وأن يكون عدلًا، وأن يكون في تزويجه مصلحة للصبي، وأن يكون المزوج للمرأة وليها العدل بحضرة عدلين، فإذا اختل شرط لم يصح التحليل لفساد النكاح.
(١) شرح التنقيح للقرافي: ص ٣٨٦.
 
حكم التلفيق (١) في التكاليف الشرعية: تنقسم الفروع الشرعية إلى ثلاثة أنواع (٢):
الأول - ما بني في الشريعة على اليسر والتسامح مع اختلافه باختلاف أحوال المكلفين.
الثاني - ما بني على الورع والاحتياط.
الثالث - ما يكون مناطه مصلحة العباد وسعادتهم.
أما النوع الأول - فهو العبادات المحضة، وهذه يجوز فيها التلفيق، لأن مناطها امتثال أمر الله تعالى والخضوع له مع عدم الحرج، فينبغي عدم الغلو بها؛ لأن التنطع يؤدي إلى الهلاك.
أما العبادات المالية: فإنها مما يجب التشديد بها احتياطًا خشية ضياع حقوق الفقراء، فلا يؤخذ بالقول الضعيف أو يلفق من كل مذهب ماهو أقرب لمصلحة المزكي لإضاعة حق الفقير، وإنما يجب الإفتاء بالأحوط والأنسب لمصلحة الفقراء.
وأما النوع الثاني - فهو المحظورات: وهي مبنية على مراعاة الاحتياط والأخذ بالورع مهما أمكن (٣)، لأن الله تعالى لا ينهى عن شيء إلا لمضرته، فلا يجوز فيها التسامح أو التلفيق إلا عند الضرورات الشرعية، لأن (الضرورات تبيح المحظورات).
(١) إن التلفيق في التقليد للمذاهب هو تخير أو انتقاء من أحكام المذاهب الفقهية تقليدًا لها.
(٢) عمدة التحقيق للباني: ص ١٢٧ ومابعدها.
(٣) والدليل على أنها مبنية على الورع والاحتياط أحاديث نبوية منها: «دع مايريبك إلى مالا يريبك» ومنها «مااجتمع الحرام والحلال إلا غلب الحرام الحلال».
 
وعليه لايجوز التلفيق في المحظورات المتعلقة بحقوق الله (أو حقوق المجتمع) حفاظًا على النظام العام في الشريعة، واهتمامًا برعاية المصالح العامة. كما لا يجوز التلفيق في المحظورات المتعلقة بحقوق العباد (حقوق الأشخاص الخاصة) منعًا من الاحتيال على حقوق الناس وإلحاق الضرر بهم والاعتداء عليهم.
وأما النوع الثالث - فهو المعاملات المدنية: والعقوبات الشرعية (الحدود والتعزيرات)، وأداء الأموال الواجبة شرعًا من عشر المزروعات، وخراج الأراضي، وخمس المعادن المكتشفة، والمناكحات (أو الأحوال الشخصية). فعقود الزواج (المناكحات) وما يتبعها من أنواع الفرقة الزوجية: مبناها سعادة الزوجين وأولادهما. ويتحقق ذلك بالحفاظ على الرابطة الزوجية، وتوفر الحياة الطيبة فيها، كما قرر القرآن الكريم: ﴿فإمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان﴾ [البقرة:٢٢٩/ ٢]. فكل ما يؤيد هذا الأصل يعمل به، ولو أدى في بعض الوقائع إلى التلفيق الجائز، أما إذا اتخذ التلفيق ذريعة لتلاعب الناس بأقضية الزواج والطلاق، فيكون تلفيقًا قادحًا ممنوعًا، مراعاة للقاعدة الشرعية: وهي (أن الأصل في الأبضاع (١) التحريم) صيانة لحقوق النساء والأنساب.
وأما المعاملات، وأداء الأموال، والعقوبات المقررة في الشرع والقصاص لصيانة الدماء ونحوها من التكاليف المراعى فيها مصالح البشرية والمرافق الحيوية، فيجب الأخذ فيها من كل مذهب ما هو أقرب لمصلحة الناس وسعادتهم، ولو لزم منه التلفيق، لما فيه من السعي وراء تأييد المصلحة التي يقصدها الشرع، ولأن مصالح الناس تتغير بتغير الزمان والعرف وتطور الحضارة والعمران. ومعيار المصلحة أو تحديد المراد منها: هو كل ما يضمن صيانة الأصول الكلية الخمسة:
(١) الأبضاع جمع بضع بضم الباء: يطلق على الفرج والجماع، ويطلق أيضًا على التزويج (المصباح المنير).
 
وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. وصيانة كل مصلحة مقصودة شرعًا من الكتاب أو السنة أو الإجماع. وهي المصالح المرسلة المقبولة.
قال الشرنبلالي الحنفي في العقد الفريد بعد أن ذكر فروعًا من أصل المذهب صريحة بجواز التلفيق: فتحصل مما ذكرناه أنه ليس على الإنسان التزام مذهب معين، وأنه يجوز له العمل بما يخالف ما عمله على مذهبه، مقلدًا فيه غير إمامه، مستجمعًا شروطه، ويعمل بأمرين متضادين في حادثتين لا تعلق لواحدة منهما بالأخرى. وليس له إبطال عين ما فعله بتقليد إمام آخر، لأن إمضاء الفعل كإمضاء القاضي لا ينقض. وقال أيضًا: إن له التقليد بعد العمل، كما إذا صلى ظانًا صحة الصلاة على مذهبه، ثم تبين بطلانها في مذهبه، وصحتها على مذهب غيره فله تقليده، ويجتزئ بتلك الصلاة، على ما قال في البزازية: أنه روي عن أبي يوسف: أنه صلى الجمعة مغتسلًا من الحمام، ثم أخبر بفأرة ميتة في بئر الحمام، فقال: نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثًا (١).

والخلاصة: إن ضابط جواز التلفيق وعدم جوازه: هو أن كل ما أفضى إلى تقويض دعائم الشريعة والقضاء على سياستها وحكمتها، فهو محظور، وخصوصًا الحيل الشرعية الممنوعة (٢).وأن كل ما يؤيد دعائم الشريعة، وما ترمي إليه حكمتها وسياستها لإسعاد الناس في الدارين بتيسير العبادات عليهم، وصيانة مصالحهم في المعاملات، فهو جائز مطلوب.

اختيار الأيسر في التقنين:
لا مانع شرعًا من اختيار الحاكم ولي الأمر أيسر الأقوال في المذاهب الشرعية
(١) رسم المفتي في حاشية ابن عابدين: ٧٠/ ١.
(٢) انظر أمثلة على الحيل المحرمة التي يكفر من أفتى بها في أعلام الموقعين: ٢٥٥/ ٣ ومابعدها.
 
المختلفة، إذ إن ذلك ليس من قبيل التلفيق الممنوع، لأن الأحكام المختارة من المذاهب هي أحكام كلية لأمور متغايرة لا تجمع بينها رابطة، كما بينا. وإذا حدث فيها تلفيق أثناء التطبيق الفعلي فهو غير مقصود، فلا حرج فيه، كالقول بصحة الزواج بغير ولي وبعبارة النساء، والتفريع عليه بجواز استدامة الزوجية بعد مراجعتها إثر صدور طلاق ثلاث بلفظة واحد اكتفاء بإيقاعه طلقة واحدة رجعية. فهو تلفيق غير ممنوع لأنه لم يقصد إليه.
والقول بجواز التلفيق في الجملة أقوى دليلًا من القول بمنعه، فضلًا عما فيه من تحقيق مصالح الأفراد والجماعات، ولا يترتب عليه أي مفسدة من مفاسد التلفيق المحظور. ولو افترضنا أن التلفيق كله غير جائز فإن تخير الحاكم لرأي وجعله قانونًا نافذًا: يقوي الحكم ولو كان قولًا ضعيفًا، كما قرر العلماء، بل ويوجب الطاعة إذا لم يكن أمرًا بمعصية متيقنة شرعًا. وقد بدأ التخير من أحكام المذاهب في مجال التقنين فعلًا منذ أكثر من خمسين عامًا في مطلع هذا القرن، وذلك حينما شعرت الحكومة العثمانية بالحاجة إلى التوسع في حرية التعاقد، والشروط العقدية، وقابلية المحل المعقود عليه، بسبب ازدياد حاجة التعامل التجاري والصناعي، وتطور أساليب التجارة الداخلية والخارجية وظهور أنواع جديدة من الحقوق هي الحقوق الأدبية كحق المؤلف والمخترع، والاحتياج إلى عقود التأمين على البضائع المستوردة، واتساع مجال عقود الاستصناع مع المصانع الكبرى، وعقود التوريد لتقديم اللوازم والمواد الأولية إلى المؤسسات الحكومية والشركات والمعامل والمدارس.
فاستبدلت السلطة العثمانية بالمادةو (٦٤ سنة ١٣٣٢ هـ/١٩١٤م) من قانون أصول المحاكمات مادة أخذت مبادئها من غير المذهب الحنفي كالمذهب
 
الحنبلي ومذهب ابن شبرمة اللذين يوسعان من دائرة حرية الشروط العقدية ويقتربان من مبدأ سلطان الإرادة القانوني أي أن (العقد شريعة المتعاقدين) ويجيزان هذه المبادئ الثلاثة التي تضمنتها المادة الجديدة وهي:
١ - توسيع قابلية المحل للتعاقد عليه ليشمل كل ما جرى به العرف، أو سيوجد بعد.
٢ - جواز كل اتفاق أو اشتراط لا يخالف النظام العام والآداب والقوانين الخاصة، وقوانين العقارات والأحوال الشخصية والأوقاف. وبذلك تقلصت نظرية الفساد عند الحنفية، وأصبح جائزًا ما يعرف بالشرط الجزائي أي التعهد بالضمان المالي جزاء النكول أو التأخر عن تنفيذ الالتزام، عملًا بمذهب القاضي شريح.
٣ - اعتبار العقد تامًا بمجرد الاتفاق على النواحي الأساسية فيه، ولو لم تذكر الأمور الفرعية. وبه أصبحت الجهالة غير ضارة في تكوين العقد، فيصح العقد بسعر السوق أو بما سيستقر عليه في يوم ما (١). هذا وقد أصدرت الحكومة العثمانية سنة (١٣٣٦ هـ) قرار حقوق العائلة المعمول به اليوم، أخذت فيه بطائفة من أحكام المذاهب الثلاثة غير الحنفية واختارت بعض أقوال ضعيفة في المذهب الحنفي، وصدرت في مصر قوانين متخيرة من أحكام المذاهب بدءًا من سنة (١٩٢٠ م) إلى سنة (١٩٢٩) ثم سنة (١٩٣٦ م) وحتى الآن اتبعت فيها أسلوب قانون العائلة العثماني، وذلك بحضور صفوة مختارة من كبار العلماء ورجال القضاء الشرعي من مختلف المذاهب، مراعاة لتغير الزمان، وتطور الحياة الاجتماعية، وتجدد المصالح والحاجات، وتبدل الأوضاع والتنظيمات.
ومن أبرز
(١) المدخل الفقهي العام للأستاذ مصطفى الزرقا: ف ٣٨٨ - ٣٩٢.
 
الأمثلة على القوانين الملفقة: قانون الوصية الواجبة رقم (٧١) في المواد (٧٦ - ٧٩) من قانون الأحوال الشخصية المصري الصادر عام (١٩٤٦)، لمعالجة مشكلة (أولاد المحروم) أي أولاد الابن المتوفى في حال حياة أبيه، وتابعه القانون السوري الصادر عام (١٩٥٣م) مع وجود فارق بينهما، وهو أن القانون المصري لم يميز بين أولاد الابن وأولاد البنت، وأما القانون السوري فقد اقتصر على أولاد الابن، وأما أولاد البنت فهم من ذوي الأرحام الوارثين. وقد أخذ هذا القانون من مجموع آراء فقهية كرأي ابن حزم الظاهري وأقوال بعض فقهاء التابعين ورواية في مذهب أحمد ومذهب الإباضية، ولم يستند ذلك إلى رأي فقهي معين.
ومن الأمثلة الشهيرة على تخطي المذاهب الأربعة أو التلفيق بينها وبين غيرها لحاجة الناس إليها: جواز الوصية لوارث بدون توقف على إجازة الورثة في المادة (٣٧) من قانون الوصية المصري رقم (٧١) لعام (١٩٤٦ م)، أخذا بقول فريق من المفسرين ومنهم أبو مسلم الأصفهاني، وفريق من الفقهاء من غير المذاهب الأربعة كبعض أئمة الشيعة الزيدية، وبعض الشيعةالإمامية الاثني عشرية، والإسماعيلية.
ومن الأمثلة القضائية للتخير: تقييد قبول الشهادات بأن تصحب بدليل قوي كالكتابة والخبرة والتسجيل الرسمي لنفي الشبهة بسبب تغير الزمان وضعف الوازع الديني. والنهي عن سماع الدعوى بعد مضي خمس عشرة سنة إلا في الوقف والإرث فبعد ثلاث وثلاثين سنة في لائحة المحاكم الشرعية المصرية سنة (١٨٨٠م). والمنع من سماع دعوى الزوجية والطلاق والإقرار بهما بعد وفاة أحد الزوجين إلا إذا كانت الدعوى مؤيدة بأوراق خالية من شبهة تدل على صحتها في المادة (٣١) من لائحة سنة (١٨٩٧ م) المصرية.
 
الفرع الخامس - أنواع الضوابط الشرعية للأخذ بأيسر المذاهب:
لم أجد فيما اطلعت عليه من كتب علماء الأصول والفقه بحثًا مستقلا ًبهذا الموضوع، ويمكن وضع ضوابط شرعية للأخذ بأيسر المذاهب من طريق الاسنتباط أوالاستخلاص مما كتبه الأصوليون والفقهاء في بحث التلفيق وتتبع الرخص والتقليد عمومًا.
وهذه الضوابط (١) هي ما يأتي:

الضابط الأول: أن يتقيد الأخذ بالأيسر في مسائل الفروع الشرعية الاجتهادية الظنية
أي القضايا العملية التي ثبتت أحكامها بطريق ظني أغلبي كأحكام العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية والجنايات التي ليس فيها نص قطعي أو إجماع أو قياس جلي (٢).
وهذا - كما بينا - هو مجال التقليد والتلفيق. أما غير ذلك فلا يصح الأخذ فيه بالأيسر مثل مسائل العقائد وأصول الإيمان والأخلاق كمعرفة الله تعالى وصفاته وإثبات وجود الله ووحدانيته ودلائل النبوة، ومثل كل ماعلم من الدين بالضرورة ـأي بالبداهة ــ وهو ما أجمع عليه المسلمون ويكفر جاحده أو منكره، في جميع التكاليف الشرعية: عبادات أو معاملات أو عقوبات أو محرمات، كأركان الإسلام الخمسة وحرمة الربا (الفائدة)، والزنا، وحل البيع والزواج والقرض ونحوها مما هو ثابت قطعًا بالإجماع، لا يجوز فيها التقليد والتلفيق أو الأخذ بالأيسر. فلا يباح التلفيق المؤدي إلى إباحة المحرمات كالنبيذ المسكر والزنا مثلًا.
(١) الضابط: معناه القاعدة الكلية وجمعه ضوابط ويراد بها هنا القيود التي تحدد نطاق الموضوع.
(٢) القياس الجلي: هو ماكانت العلة فيه منصوصة، أو غير منصوصة، ولكن قطع فيه بنفي تأثير الفارق بين الأصل والفرع، كقياس الضرب على التأفيف في الحرمة.
 
كما لا يباح التلفيق المؤدي إلى إهدار حقوق الناس أو إلحاق الأذى والضرر بهم والعدوان عليهم، إذ لاضرر ولا ضرار في الإسلام.
قال القرافي (١): إن ضابط المذاهب التي يقلد فيها خمسة أشياء لا سادس لها عملًا بالاستقراء:
١ - الأحكام الشرعية الفروعية الاجتهادية.
٢ - وأسبابها.
٣ - وشروطها.
٤ - وموانعها.
٥ - والحِجاج (٢) المثبتة للأسباب والشروط والموانع.
احترز بـ (الشرعية) عن العقلية كالحساب والهندسة وعن الحسيات وغيرها. واحترز بالفروعية عن أصول الدين وأصول الفقه. وبالاجتهادية عن الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة.
وأسباب الأحكام مثل الإتلاف المسبب للضمان. والشروط كاشتراط الولي والشهود في عقد الزواج. والموانع كالجنون والإغماء المانعين من التكليف الشرعي، والدَّين المانع من إيجاب الزكاة.
والحجاج المثبتة للأسباب والشروط والموانع هي ما يعتمد عليه القضاء من البينات والأقارير ونحو ذلك. وهي نوعان:
(١) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام للقرافي: ص١٩٥ وما بعدها، طبعة حلب الفروق: ٥/ ٤
(٢) أي طرق الإثبات أو أدلته مثل الإقرار والشهادة.
 
١ - مجمع عليه كالشاهدين في الأموال والأربعة الشهود في الزنى، والإقرار في جميع ذلك إذا صدر من أهله في محله.
٢ - ومختلف فيه: نحو الشاهد واليمين وشهادة الصبيان في القتل والجراح، والإقرار إذا أعقبه رجوع. ونحن كما نقلد العلماء في الأحكام وأسبابها وشروطها وموانعها، فكذلك نقلدهم في الحجاج المثبتة لذلك.
فاختيار الأيسر من المذاهب مقيد إذن في هذا النطاق وهو الأحكام الفرعية الثابتة بغلبة الظن لدى المجتهد مثل وجوب الوتر والنية في الوضوء، وكون الدَّين مانعًا من الزكاة، وإباحة المعاطاة (١)، وقبول شهادة الصبيان في القتل والجراح، والشاهد واليمين، وشهادة النساء فيما يختص بهن الاطلاع عليه كعيوب الفروج واستهلال المولود، وجواز البيع بشرط فيه منفعة لأحد المتعاقدين. والتطليق بسبب الغيبة أو الإعسار أو الإضرار، وتقويم منافع العقارات، وتضمين الأجراء والصناع، ومنع هدية المديان، ونحو ذلك.

الضابط الثاني - ألا يترتب على الأخذ بالأيسر معارضة مصادر الشريعة القطعية، أو أصولها ومبادئها العامة. يفهم هذا الشرط مما ذكره فقهاء المالكية - حتى الشاطبي - من ضرورة نقض حكم الحاكم أو قضاء القاضي في أمور أربعة ينقض فيها قضاؤه، مما يدل على أنه عند الأخذ بالأيسر لا يجوز الوقوع فيما يخالف هذه الأمور وهي ما يأتي (٢):
الأول - أن يحكم القاضي بما يخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع، فينقض هو حكم نفسه بذلك،،وينقضه القاضي الوالي بعده. ويلحق بذلك الحكم بالقول الشاذ.
(١) المعاطاة: المبادلة من غير إيجاب ولا قبول، كدفع الثمن وأخذ المبيع فعلًا من غير كلام صادر من العاقدين أو من أحدهما.
(٢) القوانين الفقهية لابن جزي: ٢٩٤، ط فاس.
 
الثاني - أن يحكم بالظن والتخمين من غير معرفة ولا اجتهاد، فينقضه هو ومن يلي بعده.
الثالث - أن يحكم بعد الاجتهاد، ثم يتبين له الصواب في خلاف ما حكم به، فلا ينقضه من ولي بعده. واختلف هل ينقضه هو أم لا؟.
الرابع - أن يقصد الحكم بمذهب، فيذهل ويحكم بغيره من المذاهب، فيفسخه هو، ولا يفسخه غيره. ويهمنا في بحث الأخذ بالأيسر من هذه الأمور الأمر الأول، فقد عدد القرافي (١) صورًا أربعة ينقض فيها الحكم هي: مخالفة الإجماع، والقواعد، والقياس الجلي، والنص. ومثل لكل حالة وبين سبب النقض، ثم قال: فإن مثل هذا لايقر في الشرع لضعفه، وكما لا يتقرر إذا صدر عن الحكام، كذلك لا يصح التقليد فيه إذا صدر عن المفتي، ويحرم اتباعه فيه (٢). أما سبب نقض الحكم المخالف للإجماع: فهو أن الإجماع معصوم من الخطأ ولا يحكم إلا بحق، فخلافه يكون باطلًا قطعًا.
وأما سبب نقض الحكم لمخالفة القواعد والقياس الجلي والنص إذا لم يكن لها معارض راجح عليها فهو أنها واجبة الاتباع شرعًا ويحرم مخالفتها ولا يقر شرعًا ما يعارضها باجتهاد خطأ، لقوله تعالى: ﴿فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول﴾ [النساء:٥٩/ ٤].
فمخالفة النص: مثل لو حكم القاضي بإبطال وقف المنقول، فإنه ينقض حكمه، لمخالفته نصوص الأحاديث الصحيحة بصحة وقف المنقول، منها أن
(١) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص١٢٨، تبصرة الحكام: ٧٠/ ١،٧١، ط الحلبي البابي.
(٢) ويؤيده أن عز الدين بن عبد السلام (المتوفى سنة ٦٦٠هـ) اشترط لجواز التلفيق ألا يكون ما قلد فيه مما ينقض فيه الحكم أي أن تكون المسألة اجتهادية.
 
رسول الله ﷺ قال في حق خالد بن الوليد: «قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله» (١). ومثل جواز الوصية للوارث، فإنه مخالف للحديث المتواتر: «ألا لاوصية لوارث». ومثل إقرار الربا القليل أو الفائدة في حدود (٧ %) فإنه مخالف للآيات القرآنية الدالة دلالة قطعية على تحريم الربا: ﴿وأحل الله البيع وحرم الربا﴾ [البقرة:٢٧٥/ ٢]، ومثل تسوية المرأة بالرجل في الميراث فإنه معارض صراحة للنص القرآني: ﴿للذكر مثل حظ الأنثيين﴾ [النساء:١١/ ٤].
ومخالفة الإجماع: مثل الحكم بحرمان الجد من الميراث إذا اجتمع مع الإخوة مع أن الصحابة أجمعوا ضمنًا على ضرورة إرث الجد، وإنما اختلفوا في أنه: هل يرث جميع المال ويحجب الإخوة، أم أنه يرث مع الإخوة. ومثل الحكم بعدم ضرورة القسمة بين الزوجات في بعض الأحوال، فإنه مخالف للإجماع على أن العدل في القسمة واجب. ومثل الحكم بالقرائن في إثبات جريمة الزنا، فإنه مخالف للإجماع والنص القرآني القاطع.
ومخالفة القواعد: مثل لها القرافي بالمسألة السُّريجية (نسبة لأحمد بن سريج الشافعي المتوفى سنة ٣٠٦هـ) وهي أن يقول الزوج: «إن طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثًا» فلا يقع الطلاق عند ابن سريج، وتابعه فيه ابن تيمية وابن القيم (٢)، لأن الطلاق الصادر منه لم يصادف محلًا له. فلو حكم حاكم بإقرار الزواج عملًا بهذا الرأي فينقض حكمه - عند المالكية - لمخالفته القواعد، لأن من قواعد الشرع صحة اجتماع الشرط مع المشروط، فإذا لم يجتمع الشرط مع المشروط لايصح أن يكون في الشرع شرطًا (٣).
هذا والوصية لوارث مخالفة للقواعد أيضًا مثل قاعدة
(١) نيل الأوطار: ٢٥/ ٦.
(٢) أعلام الموقعين: ٢٦٣/ ٣ وما بعدها.
(٣) ومن أمثلة مخالفة قواعد الشريعة عند الشافعية: بيع المعاطاة أو المراضاة، فهو مصادم لأصل شرعي ــ في رأيهم ــ وهو كون الرضا المشروط في البيوع والتجارات معبرًا عنه بالإيجاب والقبول اللفظيين.
 
(درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) وقاعدة (الحكم يتبع المصلحة الراجحة) والمصلحة الراجحة في الإبقاء على روابط الأسرة على أساس من المحبة والتعاون وصلة الرحم.
ومخالفة القياس الجلي: مثل قبول شهادة النصراني، فإن الحكم بشهادته ينقض، لأن الفاسق لا تقبل شهادته، والكافر أشد منه فسوقًا وأبعد عن المناصب الشرعية في مقتضى القياس، فينقض الحكم لذلك، ولقوله تعالى: ﴿وأشهدوا ذوي عدلٍ منكم﴾ [الطلاق:٢/ ٦٥]، وهو رأي المذاهب الأربعة، إلا الحنابلة فقد أجازوا شهادة أهل الكتاب في الوصية في السفر إذا لم يكن غيرهم، عملًا بقوله تعالى: ﴿أو آخران من غيركم﴾ [المائدة:١٠٦/ ٥].
لكني أرى أن الأسباب المعنوية والاجتماعية والظروف الخاصة والتعصب الذي كان موجودًا في التاريخ بين المسلمين وغيرهم هو الذي أدى إلى رفض قبول شهادة غير المسلمين، أما الآن وقد عاش المسلمون مع غيرهم في صعيد واحد، واتصلوا اتصالًا وثيقًا مع بعضهم، فلا مانع من قبول شهادتهم على المسلمين للضرورة. وقد جرى العمل على ذلك في البلاد الإسلامية.

الضابط الثالث - ألا يؤد ي الأخذ بالأيسر إلى التلفيق الممنوع:
قد بينا دائرة التلفيق الممنوع سواء الباطل لذاته كإحلال المحرمات كالخمر والزنا ونحوهما أو الباطل لا لذاته، وإنما لعارض ويشمل أنواعًا ثلاثة:
الأول - تتبع الرخص عمدًا أي الأخذ بالأيسر بدون ضرورة ولا عذر.
الثاني - التلفيق الذي يستلزم نقض حكم القاضي.
الثالث - التلفيق الذي يستلزم الرجوع عما عمل به تقليدًا، أو عن أمر مجمع
 
عليه لازم لأمر قلده وذلك في غير العبادات المحضة. فلا يؤخذ بالأيسر إذا أدى الأمر إلى الانحلال من مسؤولية التكاليف الشرعية أو العبث بالدين وقضايا الزواج، أو الإضرار بالبشر، أو الفساد في الأرض، أو الإضرار بالمصلحة الاجتماعية.
فلا يجوز مثلًا التلفيق أو الأخذ بالأيسر للتخلص من فريضة الزكاة، باستخدام الحيل (١) قبيل مضي العام بإعطاء الشخص مدينا ً له من الزكاة بقدر ماعليه، ثم يطالبه بالوفاء، فإذا وفاه برىء وسقطت الزكاة عن الدافع. أو يلجأ المزكي لتصرف صوري بيعًا أو هبة ثم يسترد المال إليه، فهذه حيلة محرمة باطلة لاتسقط فرض الزكاة (٢) لأن في ذلك إضرارًا بمصلحة الفقراء، وتآمرًا على حقوقهم الثابتة شرعًا في أموال الأغنياء. كما لا يصح الإفتاء بأيسر المذاهب في أحكام الزكاة دفعًا لحاجة الفقير، وإنما يفتى بما يحقق المصلحة، فيفتي مثلًا بمذهب مالك والشافعي وجمهور العلماء بإيجاب الزكاة في مال الصبي والمجنون، وبإخراج زكاة الأرض الخراجية (التي فتحت عنوة) مع الخراج، فيكون الواجب في تلك الأرض الخراج والعشر معًا، لأن العشر واجب ديني على المسلمين، والخراج واجب اجتهادي ليكون موردًا للجماعة ممثلة بالدولة لسد حاجاتها ونفقاتها العامة.
ومن الواجب أن تكون الغاية من الأخذ بالأيسر الحفاظ على مقاصد الشريعة، والتزام سياستها وحكمتها التشريعية، ورعاية مصلحة الناس كافة في المعاملات والعقوبات وأداء الأموال والعلاقات الزوجية لا المصلحة الخاصة، وعدم إهدار مصلحة أهم مما دونها، واتقاء المفسدة الكبرى بالدنيا عند الضرورة،
(١) قال ابن القيم: لايجوز للمفتي تتبع الحيل المحرمة والمكروهة (أعلام الموقعين: ٢٢٢/ ٤).
(٢) أعلام الموقعين: ٢٥٨/ ٣،٣٢٠.
 
وأن يكون الشرع هو معيار تحقيق المصلحة ودرء المفسدة. ومقاصد الشريعة هي: حفظ الدين (من عقائد وعبادات)، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، وينبغي التدرج في الحفاظ عليها بحسب مراتبها وهي الضروريات أولًا، ثم الحاجيات، ثم التحسينيات.
أما الضروريات: فهي التي يتوقف عليها حياة الناس الدينية والدنيوية بحيث إذا فقدت اختلت الحياة في الدنيا، وضاع النعيم وحل العقاب في الآخرة. أي أنها كل مالا بد منه لحفظ المقاصد الخمسة الأصلية.
وأما الحاجيات: فهي التي يحتاج الناس إليها لرفع الحرج عنهم فقط، بحيث إذا فقدت وقع الناس في الضيق والحرج دون أن تختل الحياة. فقد تتحقق بدونها المقاصد الخمسة، ولكن مع المشقة والضيق.
وأما التحسينيات: فهي المصالح التي يقصد بها الأخذ بمحاسن العبادات ومكارم الأخلاق، كالطهارات وستر العورات. فهي بمثابة السور للحفاظ على المقاصد الخمسة الضرورية.

الضابط الرابع - أن تكون هناك ضرورة أو حاجة للأخذ بالأيسر.
الأخذ بالأيسر ينبغي ألا يكون متخذًا للعبث في الدين أو مجاراة أهواء النفوس أو للتشهي وموافقة الأغراض، لأن الشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى، قال الله تعالى: ﴿ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن﴾ [المؤمنون:٧١/ ٢٣]، ﴿فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول﴾ [النساء:٥٩/ ٤]، فلا يصح رد المتنازع فيه إلى أهواء النفوس. وهناك آيات كثيرة في هذا المعنى منها قوله سبحانه: ﴿فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم، ومن
 
أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، إن الله لا يهدي القوم الظالمين﴾ [القصص:٢٨/ ٥٠]، ﴿وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم﴾ [المائدة:٥/ ٤٩]، ﴿ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض، فاحكم بين الناس بالحق، ولا تتبع الهوى، فيضلك عن سبيل الله﴾ [ص:٣٨/ ٢٦].
وبناءً عليه ألزم العلماء المفتي في إفتائه ألا يتبع أهواء الناس (١) بل يتبع المصلحة والدليل الراجح، والمصلحة المعتبرة هي مصلحة الكافة كما بينا. قال تعالى لنبيه: ﴿ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولاتتبع أهواء الذين لايعلمون، إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئًا﴾ [الجاثية:٤٥/ ١٨ - ١٩]، قال القرافي في الإحكام والشيخ عليش في فتاويه (٢): «أما اتباع الهوى في الحكم والفتيا فحرام إجماعًا».
وقال ابن القيم: لايجوز للمفتي تتبع الرخص لمن أراد نفعه، فإن تتبع ذلك فسق، وحرم استفتاؤه (٣) وهذا المعنى هو الذي حمل الشاطبي - كما بينت سابقًا - على منع تتبع الرخص، فقد قال: وقد أدى إغفال هذا الأصل (أي اتباع أحد الدليلين أو القولين من غير ترجيح) إلى أن صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتي قريبه أو صديقه بمالايفتي به غيره من الأقوال، اتباعا ً لغرضه، وشهوته، أو لغرض ذلك القريب وذلك الصديق (٤).
وهذا يدلنا على أن مراعاة المصلحة الخاصة في الأخذ بالأيسر أمر غير مرغوب فقهًا وشرعًا، وإنما ينبغي مراعاة المصلحة العامة أو مصلحة الكافة.
(١) أعلام الموقعين: ٧٤/ ١، الموافقات: ١٤٢/ ٤ ومابعدها، الاعتصام: ١٧٦/ ٢.
(٢) فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب مالك: ٦٨/ ١، الإحكام للقرافي: ص٧٩.
(٣) أعلام الموقعين: ٢٢٢/ ٤.
(٤) الموافقات: ١٣٥/ ٤.
 
وإذا كان اتباع الأهواء محرما ً لزم تقييد الأخذ بأيسر المذاهب بوجود حالة الضرورة أو الحاجة، لأن (الضرورات تبيح المحظورات) و(الحاجة تنزل منزلة الضرورة، عامة كانت أو خاصة) والضرورة: مايترتب على عصيانها خطر. أما الحاجة: فهي مايترتب على عدم الاستجابة إليها عسر وصعوبة. والمراد بكون الحاجة عامة: أن تكون شاملة جميع الأمة، والمراد بكونها خاصة أن يكون الاحتياج لطائفة متخصصة من الأمة كأهل بلد أو حرفة، لا أن تكون فردية (١).
ولست مع الشاطبي في أن العمل بالضرورة أو الحاجة أخذ بما يوافق الهوى (٢)، لأن الضرورات والحاجات تتجدد بحسب التطور. ولابد من مراعاة ضوابط الضرورة الشرعية والحاجة (وهي أن تكون قائمة لامتوقعة، ويقينية أو غالبة الظن، وملجئة أو محرجة ... إلخ) (٣).

الضابط الخامس - أن يتقيد الأخذ بالأيسر بمبدأ الترجيح.
أي أن يكون الهدف العام أولًا هو العمل بالرأي الأقوى أو الأرجح بحسب رجحان دليله، لأن الأخذ بالأيسر نوع من الاجتهاد، والمجتهد ملزم باتباع الدليل الراجح المؤدي إلى الصواب، بحسب غلبة ظنه. لذا أوجب الأصوليون على المفتي (أي المجتهد) أن يتبع القول لدليله، فلايختار من المذاهب أضعفها دليلًا، بل يختار أقواها دليلًا؛ لأن الصحابة أجمعوا في اجتهاداتهم على وجوب العمل بالراجح من الظنين دون أضعفهما، ولأن العقل يوجب العمل بالراجح في الحوادث، والأصل اتفاق الشرع مع العقل. قال القرافي: إن الحاكم إن كان
(١) المدخل الفقهي للأستاذ مصطفى الزرقاء: ف ٦٠٣.
(٢) الموافقات: ١٤٥/ ٤.
(٣) راجع نظرية الضرورة الشرعية للدكتور وهبة الزحيلي: ص ٦٦ ومابعدها.
 
مجتهدًا فلا يجوز له أن يحكم أو يفتي إلا بالراجح عنده، وإن كان مقلدًا جاز له أن يفتي بالمشهور في مذهبه، وأن يحكم به، وإن لم يكن راجحًا عنده، مقلدًا في رجحان القول المحكوم به إمامه الذي يقلده، كما يقلده في الفتيا.
وقال أيضًا: أما الحكم أو الفتيا بما هو مرجوح فخلاف الإجماع (١). لكن ناقش الشيخ عليش هذا الإجماع فقال: ولعل هذا الإجماع - على تقدير ثبوته - إنما يكون حيث تبع القاضي أو المفتي في تقليد الشاذ هواه، فإن أبغض شخصًا أو كان من ذوي الخمول، شدد عليه، فقضى عليه وأفتاه بالمشهور، وإن أحبه أو كان له عليه منة، وكان من أصدقائه أو أقاربه واستحيا منه، لكونه من ذوي الوجاهة أو أبناء الدنيا، أفتاه، أو قضى له بالشاذ الذي فيه رخصة (٢).
ثم ذكر الشيخ عليش في فتاويه عند الكلام على موضوع التخير بين الأقوال: الصحيح إن كان المقلد أهلًا للنظر في طرق الترجيح وإدراك مدارك التقديم والتصحيح، فإنما الواجب عليه في القولين أو الأقوال إن كانت لشخص واحد ألا يعمل أو يفتي أو يحكم إلا بالراجح عنده (٣).
ثم تعقب الشيخ عليش (٤) عبارة القرافي في أنه منع المجتهد من الحكم والفتيا إلا بالراجح عنده، وأجاز للمقلد أن يفتي بمشهور مذهب من قلده حتى ولو كان شاذًا مرجوحًا في نظره. ثم قال عليش: لا دليل فيه على جواز العمل بغير الراجح، لأنه لا يلزم من العمل بالمرجوح عنده الراجح في نظر إمامه أو عكسه العمل بالمرجوح في نظرهما معًا.
(١) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص ٧٩، ٨٠، تبصرة الحكام: ٦٦/ ١، فتاوى الشيخ عليش: ٦٤/ ١،٦٨.
(٢) فتح العلي المالك: ٦٢/ ١.
(٣) فتاوى الشيخ عليش: ٦٥/ ١.
(٤) المرجع السابق: ٦٨/ ١.
 
وخلاصة الكلام المفهوم من كلام القرافي والشيخ عليش: إن المقلد إذا كان أهلًا للترجيح، وكان هناك قولان: راجح ومرجوح، فعليه النظر والترجيح. وإن كان القولان متكافئين لا راجح فيهما في نظره، جاز له الحكم بأحد القولين أو الترجيح بالأعلم أو بالأكثر أو بالأشد والأثقل (١).
هذا هو الأصل العام عند العلماء في أنه يجب العمل بالراجح في الفتوى والقضاء والعمل إلا لعارض معتبر شرعًا، فإذا وجدت ضرورة أو حاجة أومصلحة عامة للعمل بالقول المرجوح (الضعيف أو الشاذ) (٢) أو اعتمد الحاكم قولًا مرجوحًا، جاز الأخذ به، كما بينت سابقًا، ولا إجماع في الحقيقة على منع الأخذ بالمرجوح بدليل وجود الاختلاف بين العلماء فيما يأخذ به المقلد من أقوال العلماء.
قيل: يأخذ بقول أعلمهم. وقيل: يأخذ بقول أكثرهم، وقيل: يأخذ بقول من شاء منهم، يعني وإن لم يكن قائله أعلم ولا أكثر، بل يكون مماثلًا أو أقل عددًا أو أدنى علمًا، وهذا هو عين القول الشاذ. وقد قال بعض المفسرين في سر قوله تعالى لداود ﵇: ﴿ولا تتبع الهوى﴾ [ص:٢٦/ ٣٨]، بعد أمره له أن يحكم بالحق: إن فيه إشارة إلى أن الامتثال لايكون بمجرد الحكم بالحق، حتى يكون الباعث على الحكم به حقيته، لا اتباع الهوى، فيكون معبود من اتصف بهذا هواه، لا مولاه جل وعلا، حتى إذا لم يجد هواه في الحق تركه، واتبع غير الله.
أما من قلد القول الشاذ لأنه حق في حق من قال به، وفي حق من قلده، ولم يحمله عليه مجرد الهوى، بل الحاجة والاستعانة على دفع ضرر ديني أو دنيوي،
(١) الإحكام للقرافي: ص٣٠، ٨٠، فتاوى عليش: ٦٥/ ١،٦٩، ٧٩
(٢) القول الشاذ: هو الذي ضعف مُدْرَكه جدًا.
 
فهذا ترجى له السلامة في تقييده ذلك (١).
وقال الشيخ عليش: أما التقليد في الرخصة من غير تتبع، بل عند الحاجة إليها في بعض الأحوال خوف فتنة ونحوها، فله ذلك (٢).
هذه هي ضوابط الأخذ بأيسر المذاهب - قي تقديرنا - فإذا ماالتزمناها نكون قد أخذنا بمبدأ الاعتدال والتوسط الذي قامت عليه شريعة الإسلام، والذي يتفق مع المنهج الذي ارتآه الخليفة أبو جعفر المنصور، حينما لقي الإمام مالك في الحج، فقال له: إنه لم يبق عالم غيري وغيرك. أما أنا فقد اشتغلت بالسياسة. فأما أنت فضع للناس كتابًا في السنة والفقه، تجنب فيه رخص ابن عباس، وتشديدات ابن عمر، وشواذ ابن مسعود، ووطئه توطيئًا. قال مالك: فعلمني كيفية التأليف. يعني دله على طريقة الاعتدال.

ويمكن اختصار هذه الضوابط في أمرين:
أولهما - أن تكون المسألة اجتهادية ليس فيها دليل راجح.
ثانيهما - أن تكون هناك ضرورة أو حاجة أو مصلحة أو عذر.

هذا وقد أبان ابن حجر وغيره من الشافعية (٣) شروط التقليد، وبالتالي تصلح هذه الشروط لبحثنا وهو الأخذ بأيسر المذاهب، من باب أولى فيحسن ذكرها، فقال:


وشروط التقليد ستة:
(١) فتاوى الشيخ عليش: ٦٢/ ١.
(٢) المرجع السابق: ٦٠/ ١.
(٣) راجع الفوائد المكية فيما يحتاجه طلبة الشافعية من المسائل والضوابط والقواعد الكلية، ضمن (مجموعة سبعة كتب مفيدة) للسيد علوي بن أحمد السقاف، طبعة البابي الحلبي: ص٥١.
 
الأول - أن يكون مذهب المقلَّد مدونًا لتتمكن فيه عواقب الأنظار ويتحصل له العلم اليقيني بكون المسألة المقلد بها من هذه المذاهب.
الثاني - حفظ المقلِّد شروط إمام المذهب في تلك المسألة.
الثالث - أن لايكون التقليد فيما ينقض فيه قضاء القاضي، بأن لايكون خلاف نص الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس الجلي.
الرابع - أن لايتبع الرخص بأن يأخذ من كل مذهب بالأسهل لتنحل رتبة التكليف من عنقه.
قال ابن حجر: ومن ثم كان الأوجه أن يفسق به. وقال الرملي: الأوجه أنه لايفسق وإن أثم به.
وهذا الشرط - كما صرح المتأخرون - ليس شرطًا لصحة التقليد بل هو شرط لدرء الإثم كالنهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة.
الخامس - أن لايعمل بقول في مسألة ثم بضده في عينها.
وهذا الشرط فيه نظر، لأنه مبني على امتناع التقليد بعد العمل، والأصح جوازه - كما قال الشافعية.
السادس - أن لايلفق بين قولين تتولد منهما حقيقة واحدة مركبة، لايقول كل من الإمامين بها، كتقليد الشافعي في مسح بعض الرأس، ومالك في طهارة الكلب في صلاة واحدة. قال البلقيني: إن التركيب القادح في التقليد إنما يؤخذ إذا كان في قضية واحدة، كتقليد إمامين في طهارة الحدث. أما إذا كان التركيب من حيث القضيتين كطهارة الحدث وطهارة الخبث، فذلك غير قادح، لأن الإمامين لم يتفقا على بطلان طهارته.
 
وزاد بعض الشافعية شرطًا سابعًا: وهو أنه يلزم المقلِّد اعتقاد أرجحية أو مساواة مقلِّده للغير، لكن المشهور الذي رجحه النووي والرافعي جواز تقليد المفضول مع وجود الفاضل. قال ابن عابدين في رد المحتار: ذكر في التحرير وشرحه أنه يجوز تقليد المفضول مع وجود الأفضل. وبه قال الحنفية والمالكية وأكثر الحنابلة والشافعية.
وزاد بعضهم شرطًا ثامنًا: وهو أنه لابد من صحة التقليد أن يكون صاحب المذهب حيًا وقت التقليد. لكن هذا مردود عند العلماء، لأن الشيخين النووي والرافعي اتفقا على جواز تقليد الميت، وقالا: هو الصحيح.
يتبين من نقاش هذه الشروط خلال ماكتبناه أن الشرطين الأولين مفترض تحققهما في كل تقليد أو أخذ بالأيسر. وأن الشرط السابع والثامن لاداعي لهما، وأوافق على الشرط الثالث وأعتمده في بحثي، وأمنع الأخذ بالتلفيق الممنوع فقط وبه يستغنى عن الشرط الخامس. وآخذ بما يخالف الشرط الرابع عند الحاجة.
ويحسن وضع مشاريع قوانين مدنية وتجارية وجزائية مستمدة من الفقه الإسلامي كله (فقه الصحابة والتابعين وفقه المذاهب الأربعة وغيرها من فقه أئمة الاجتهاد الآخرين وعلماء العصر الحديث).
والاجتهاد ممكن كل الإمكان اليوم، ولاصعوبة فيه، بشرط أن ندفن تلك الأوهام والخيالات، ونمزق ذلك الران الذي خيم على عقولنا وقلوبنا من رواسب الماضي وآفات الخمول، والظن الآثم بعدم إمكان الوصول إلى ماوصل إليه الأولون، حتى عد ذلك كأنه ضرب من المستحيل، وهل هناك مستحيل بعد غزو الفضاء واختراع أنواع الآلات الحديثة العجيبة الصنع؟!.
 
إن استكمال شرائط الاجتهاد ليس من العسير في شيء بعد تدوين العلوم المختلفة، وتعدد المصنفات فيها، وتصفية كل دخيل عليها.
وهاهم العلماء في كل عصر يجتهدون، ويرجحون بين أقوال الفقهاء السابقين، حتى انضبطت المذاهب، وحررت الأحكام.
قال ابن عبد السلام من أئمة المالكية في كتابه (شرح مختصر ابن الحاجب) في باب القضاء: «إن رتبة الاجتهاد مقدور على تحصيلها، وهي شرط في الفتوى والقضاء، وهي موجودة إلى الزمان الذي أخبر عنه ﵊ بانقطاع العلم، ولم نصل إليه إلى الآن، وإلا كانت الأمة مجتمعة على الخطأ، وذلك باطل».
قال السيوطي معلقًا على هذه العبارة: «فانظر كيف صرح بأن رتبة الاجتهاد غير متعذرة، وأنها باقية إلى زمانه، وبأنه يلزم من فقدها اجتماع الأمة على الباطل، وهو محال» (١).
قال الشيخ المراغي في بحثه عن الاجتهاد في الإسلام: وإني مع احترامي لرأي القائلين باستحالة الاجتهاد أخالفهم في رأيهم، وأقول: إن في علماء المعاهد الدينية في مصر من توافرت فيهم شروط الاجتهاد ويحرم عليهم التقليد.

المطلب السابع - المصيب في الاجتهاد اتفق الأصوليون على أن الناظر في القضايا العقلية المحضة (٢) والمسائل
(١) الرد على من أخلد إلى الأرض: ص٢٤.
(٢) القضايا العقلية: هي التي يصح للناظر درك حقيقتها بنظر العقل قبل ورود الشرع كإثبات الإله الصانع وصفاته وبعثة الرسل وتصديقهم بالمعجزات، وحدوث العالم، وجواز رؤية الله تعالى، وخلق القرآن والأعمال، وخروج الموحدين من النار.
 
الأصولية (١): يجب أن يهتدي إلى الحق والصواب فيها، لأن الحق فيها واحد، لايتعدد، والمصيب فيها واحد بعينه، وإلا اجتمع النقيضان. فمن أصاب الحق فقد أصاب، ومن أخطأ فهو آثم، ونوع الإثم يختلف: فإن كان الخطأ فيما يرجع إلى الإيمان بالله ورسوله فالمخطئ كافر، وإلا فهو مبتدع فاسق، لأنه عدل عن الحق، وضل، كالقول بعدم رؤية الله تعالى، وخلق القرآن (٢).
ويلحق بذلك المسائل القطعية المعلومة من الدين بالضرورة (أي البداهة)، كوجوب الصلوات الخمس والزكاة والحج وصوم رمضان وتحريم الزنا والقتل والسرقة وشرب الخمر ونحوها مما علم قطعًا من دين الله، فليس كل مجتهد فيها مصيبًا، بل الحق فيها واحد لايتعدد، وهو المعلوم لنا، فالموافق له مصيب، والمخالف له مخطئ آثم.
أما المسائل الفقهية الظنية أي الأحكام التي ليس فيها دليل قاطع، فهي محل الاجتهاد، ولا إثم على المجتهد فيها، لكن اختلف الأصوليون فيها، هل كل مجتهد فيها مصيب أو أن المصيب واحد؟.

ومنشأ الخلاف في هذا: هل لله تعالى في كل مسألة حكم معين في الأمر نفسه قبل اجتهاد المجتهد، أو ليس له حكم معين، وإنما الحكم فيها هو ماوصل إليه المجتهد باجتهاده؟.
(١) المسائل الأصولية: مثل كون الإجماع والقياس وخبر الواحد حجة، لأن أدلتها قطعية، فيعتبر المخالف فيها آثمًا مخطئًا.
(٢) المستصفى: ١٠٥/ ٢، الإحكام للآمدي: ١٤٦/ ٣، شرح المحلي على جمع الجوامع: ٣١٨/ ٢، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب: ٢٩٣/ ٢، مسلم الثبوت: ٣٢٨/ ٢، كشف الأسرار: ١١٣٧/ ٤، التلويح: ١١٨/ ٢، الملل والنحل: ٢٠١/ ١، إرشاد الفحول: ص٢٢٨.
 
فقال الأشعري والغزالي والقاضي الباقلاني: لاحكم لله قبل اجتهاد المجتهد، وحكم الله ما أدى إليه اجتهاد المجتهد، فالحكم يتبع الظن، وما غلب على ظن المجتهد هو حكم الله، أي أن كل مجتهد مصيب، لأنه أدى ماكلف به.
وقال جمهور العلماء والشيعة: إن لله في كل واقعة حكمًا معينًا قبل الاجتهاد، فمن صادفه فهو المصيب، ومن لم يصادفه كان مخطئًا. فالمصيب واحد، له أجران، والمخطئ غيره وله أجر واحد (١).
ثم اختلف هؤلاء، فقالت طائفة من الفقهاء والمتكلمين: هذا الحكم لادليل ولا أمارة عليه، بل هو كدفين يعثر عليه الطالب مصادفة. وهو رأي غير معقول لامعنى له، إذ كيف يكلف الله العباد بحكم لا دليل عليه؟.
وقال الأكثرون: قد نصب الله على هذا الحكم أمارة ظنية، والمجتهد ليس مكلفًا بإصابة الدليل لخفائه وغموضه، فمن لم يصبه كان معذورًا مأجورًا، وهذا هو القول الصحيح، بدليل قوله ﷺ: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر».

 

المطلب الثامن - طريقة الاجتهاد:
إذا وقعت حادثة جديدة، أو أراد إنسان استخلاص رأي راجح من بين آراء الأئمة، استجمع العالم المجتهد كل ما يتصل بنواحي الموضوع من لغة وآيات قرآنية
(١) اللمع للشيرازي: ص ٧١، المستصفى: ١٠٦/ ٢ ومابعدها، الإحكام للآمدي: ١٤٨/ ٣ ومابعدها، شرح الإسنوي: ٢٥١/ ٣، شرح المحلي على جمع الجوامع: ٣١٨/ ٢، شرح العضد على مختصر المنتهى: ٢٩٣/ ٢، التقرير والتحبير: ٣٠٦/ ٣، فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت: ٣٧٦/ ٢ ومابعدها، كشف الأسرار: ١١٣٨/ ٤، التلويح على التوضيح:١١٨/ ٢، إرشاد الفحول: ص ٢٣٠، الملل والنحل للشهرستاني:٢٠٣/ ٢.
 
وأحاديث نبوية وأقاويل السلف وأوجه القياس الممكنة، أي لا بد من توافر شروط الاجتهاد في تلك الحادثة، ثم ينظر فيها بدون تعصب لمذهب معين على النحو التالي:
ينظر أولًا في نصوص كتاب الله تعالى، فإن وجد فيه نصًا أو ظاهرًا، تمسك به، وحكم في الحادثة بمقتضاه. فإن لم يجد فيه ذلك، نظر في السنة، فإن وجد فيها خبرًا أو سنة عملية أو تقريرية، أخذ بها، ثم ينظر في إجماع العلماء، ثم في القياس (١)، ثم في الرأي الموافق لروح التشريع الإسلامي (٢). وهكذا تتحدد طريقة الاجتهاد إما بالأخذ من ظواهر النصوص إذا انطبقت على الواقعة، أو بأخذ الحكم من معقول النص أي بالقياس، أو بتنزيل الوقائع على القواعد العامة المستنبطة من الأدلة المتفرقة في القرآن والسنة كالاستحسان والمصالح المرسلة والعرف وسد الذرائع إلخ (٣).

المطلب التاسع - نقض الاجتهاد وتغييره وتغير الأحكام بتغير الأزمان:


أولًا - تغير الاجتهاد: يجوز للمجتهد تغيير اجتهاده، فيرجع عن قول قاله سابقًا، لأن مناط الاجتهاد هو الدليل، فمتى ظفر المجتهد به، وجب عليه الأخذ بموجبه لظهور ماهو أولى بالأخذ به، مما كان قد أخذ به، ولأنه أقرب إلى الحق والصواب (٤).
جاء في كتاب عمر ﵁ لأبي موسى الأشعري قاضيه على الكوفة:
(١) الرسالة للشافعي: ص ٥٠٨، الملل والنحل للشهرستاني: ١٩٨/ ٢، المنخول للغزالي: ص٤٦٦.
(٢) أعلام الموقعين: ٦٦/ ١، إرشاد الفحول: ص٢٢٧.
(٣) تاريخ الفقه الإسلامي للسايس: ص ٣١.
(٤) إرشاد الفحول: ص٢٣٢.
 
«ولايمنعنك قضاء قضيته اليوم، فراجعت فيه نفسك، وهديت فيه لرشدك، أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل».

ثانيًا - نقض الاجتهاد: إذا أفتى مجتهد في حادثة ما، أو حكم الحاكم في نزاع بين متخاصمين، ثم تغير اجتهاد كل منهما، فرأى المجتهد أو الحاكم حكمًا بخلاف مارآه أولًا، فما الذي يعمل به من الاجتهادين: السابق أم اللاحق، وهل ينقض الاجتهاد السابق؟ وقبل الإجابة يلاحظ أن هناك فرقًا بين نقض الاجتهاد وتغير الاجتهاد. وهو أن التغير أمر نظري لتقرير مبدأ العدول عن الاجتهاد السابق، وأما نقض الاجتهاد فمجاله الحياة العملية والإفتاء وفض المنازعات والخصومات بين الناس.
وقد ميز الأصوليون في مسألة نقض الاجتهاد بين المجتهد والحاكم (١).
أما المجتهد لنفسه إذا رأى حكمًا معينًا، ثم تغير ظنه، لزمه أن ينقض اجتهاده وما ترتب عليه. مثاله: إذا رأى المجتهد أن الخلع فسخ، فنكح امرأة كان قد خالعها ثلاثًا، ثم رأى بعدئذ أن الخلع طلاق، لزمه مفارقة تلك المرأة، ولايجوز له إمساكها، عملًا بمقتضى الاجتهاد الثاني، لأنه تبين أن الاجتهاد الأول خطأ، والثاني صواب، والعمل بالظن واجب.
وأما الحاكم: إذا قضى في واقعة معينة باجتهاد، ثم تغير اجتهاده في واقعة مماثلة، فإن كان حكمه مخالفًا لدليل قاطع، من نص، أو إجماع، أو قياس جلي (٢) نقض باتفاق العلماء، سواء من قبل الحاكم نفسه أو من أي مجتهد آخر، لمخالفته الدليل.
(١) المستصفى: ١٢٠/ ٢، الإحكام للآمدي: ١٥٨/ ٣، مسلَّم الثبوت:٣٤٥/ ٢، فواتح الرحموت: ٣٩٥/ ٢، التقرير والتحبير: ٣٣٥/ ٣، شرح المحلي على جمع الجوامع: ٣٢٠/ ٢، المدخل إلى مذهب أحمد: ص١٩٠، إرشاد الفحول: ص ٢٣٢.
(٢) وهو ماكانت العلة فيه منصوصة، أو كان قد قطع بنفي تأثير الفارق بين الأصل والفرع.
 
وأما إذا كان حكمه في مجال الاجتهاديات، أو الأدلة الظنية، فإنه لاينقض الحكم السابق، لأن نقضه يؤدي إلى اضطراب الأحكام الشرعية وعدم استقرارها، وعدم الوثوق بحكم الحاكم، وهذا مخالف للمصلحة التي نصب الحاكم لها، وهو فصل المنازعات. فلو أجيز نقض حكم الحاكم، لما استقرت للأحكام قاعدة، ولبقيت الخصومات على حالها بعد الحكم، وذلك يوجب دوام التشاجر والتنازع وانتشار الفساد ودوام العناد، وهو مناف للحكمة التي لأجلها نصب الحكام، كما قال القرافي (١). والرائد في ذلك قول عمر حينما قضى في مسألة إرثية بحكمين: «تلك على ماقضينا وهذا على مانقضي» وقول الفقهاء في الفروع: «لاينقض الاجتهاد بالاجتهاد».

ثالثًا - تغير الأحكام بتغير الأزمان: لاينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان، كما هو معروف مشهور، وذلك بسبب تغير العرف، أو تغير مصالح الناس، أو مراعاة الضرورة، أو لفساد الأخلاق، وضعف الوازع الديني، أو لتطور الزمن وتنظيماته المستحدثة. فيجب تغير الحكم الشرعي لتحقيق المصلحة ودفع المفسدة، وإحقاق الحق والخير. وهذا يجعل مبدأ تغير الأحكام أقرب إلى نظرية المصالح المرسلة منها إلى نظرية العرف.
ومما ينبغي ملاحظته أن الأحكام القابلة للتغير أو التطور هي المستنبطة بطريق القياس أو المصلحة المرسلة، وذلك في نطاق المعاملات أو الأحكام الدستورية والإدارية والعقوبات التعزيرية، مما يدور مع مبدأ إحقاق الحق وجلب المصالح ودرء المفاسد.
(١) الفروق: ١٠٤/ ٢.
 
أما ما عدا ذلك من الأحكام الأساسية المقررة لغاية تشريعية أو مبدأ تنظيمي عام، فهي أمور ثابتة لا تقبل التطور، مثل أصول العقيدة والعبادات والأخلاق وأصول التعامل كحرمة محارم الإنسان، ومبدأ الرضائية في العقود، ووفاء العاقد بعقده أو عهده، وضمان الضرر اللاحق بالغير، وتحقيق الأمن والاستقرار، وقمع الإجرام، وحماية الحقوق الإنسانية العامة، ومبدأ المسؤولية الشخصية، واحترام مبدأ العدالة والشورى.

المطلب العاشر - خطة البحث:
طريقتي في بحث أبواب الفقه هي تقسيم الفقه إلى أقسام ستة:
١ - العبادات، وما له صلة بها كالنذور والأيمان والأضاحي والذبائح (صلة الإنسان بالله تعالى).
٢ - أهم النظريات الفقهية.
٣ - المعاملات - العقود المدنية وتوابعها (علاقة الإنسان بغيره).
٤ - الملكية وما يتبعها من بحث أحكام الأراضي، وإحياء الموات، وحقوق الارتفاق، وعقود استثمار الأرض، وأحكام المعادن والنفط، والقسمة، والغصب واللقطة والسبق والمفقود والشفعة.
٥ - ما له صلة بالدولة (الفقه العام): الحدود والجنايات والجهاد والمعاهدات والقضاء وطرق الإثبات وأحكام الإمامة الكبرى أو نظام الحكم. وقد يسمى ذلك بالأحكام السلطانية.
٦ - الأحوال الشخصية من زواج وطلاق وتوابعهما، وميراث ووصية،
 
ووقف، وأما الأهلية والولاية فقد أوضحتهما في بحث النظريات الفقهية، ويتكرر تفصيلهما أحيانًا في بعض مباحث الأحوال الشخصية، وعقد البيع وغيره.


المطلب الحادي عشر - جدول المقاييس (١)

 
١ - وحدات الأطوال: القَصَبة: (٦ أذرع أو ٦٩٦،٣ م) (مترًا) (٢).
الجريب: (١٠٠ قصبة أو ٣٦٠٠) ذراعًا هاشميًا أو قدمًا مربعًا أو ياردة مربعة، (أو٠٤١٦،١٣٦٦ م٢) (متر مربع)، والقدم: (٤،٣٠ سم)، واليارد الحالي: (٤٣،٩١سم).
الذراع الهاشمي: (٣٢) إصبعًا أو قيراطًا، والإصبع: (٩٢٥،١) سم (سنتيمتر).
الذراع المصري العتيق (٣): (٢،٤٦) سم.
الذراع المقصود فقهًا هو الهاشمي: (٢،٦١) سم.
الباع: (٤) أذرع، والمرحلة: (١٢) ساعة.
(١) انظر الخراج في الدولة الإسلامية للدكتور ضياء الدين الريس، ط أولى: ص٢٦١ - ٣٥٣، النظم الإسلامية للدكتور صبحي الصالح: ص٤٠٩ - ٤٢٩، الإيضاح والتبيان في معرفة المكيال والميزان لابن الرفعة الأنصاري.
(٢) القصبة الحالية: ٢٣.٧٥م٢، قد يختلف التقدير بالغرام أو المتربين الحنفية والشافعية وغيرهم، بسبب الاختلاف في تقدير الأوسق والمرحلة.
(٣) والمؤلفون يسمونه بأسماء مختلفة، فيقولون: الذراع الصغير، أو ذراع العامة، أو ذراع القياس، أو ذراع اليد، أو ذراع الآدمي، أو الذراع الصحيح.
 
القفيز (في الأطوال): (١٠/ ١) الجريب أو (٦،١٣٦م٢).
الغَلْوة (غلوة سهم): (٤٠٠) ذراع أو (٨،١٨٤م).
الميل: (٤٠٠٠) ذراع أو (١٨٤٨م) أو (٢/ ١) ساعة أو (١٠٠٠) باع.
والميل البحري الحديث: (٣٢،١٨٤٨) م.
الفرسخ: (٣) أميال أو (٥٥٤٤) م أو (١٢٠٠٠) خطوة، حوالي (٢/ ١) ١ساعة، واحد ونصف.
البريد العربي: (٤) فراسخ أو (٢٢١٧٦م) أو (١٧٦،٢٢) كم أو حوالي (٦) ساعات (١).
مسافة القصرللمسافر أربعة برد وهي ستة عشر فرسخًا، وتساوي: (٧٠٤،٨٨) كم (كيلومتر)، وعند الحنيفة حوالي ٨٦ كم. وقدرها بعضهم بـ ٨٣كم.
الفدان المصري: (٥/ ٦) (٤٢٠٠) م٢ أو (٣/ ١) (٣٣٣) قصبة مربعة.
والفدان القديم: (٥٩٢٩م٢).
الدونم: (١٠٠٠م٢).

٢ - وحدات المكاييل:
الصاع الشرعي أو البغدادي: (٤) أمدادأو (٥ و٣/ ١) رطل، أي أربع حَفَنات كبار، ووزنه: (٧،٦٨٥) درهمًا أو (٧٥،٢) لترًا أو (٢١٧٦) غم وهو رأي الشافعي
(١) قدر بعضهم الفرسخ بـ (٥٧٦٠م) فتكون الثمانية فراسخ ٤٦.٨٠ كم.
 
وفقهاء الحجاز والصاحبين باعتبارأن المد: رطل وثلث بالعراقي، وعند أبي حنيفة وفقهاء العراق: ثمانية أرطال باعتبار أن المد رطلان، فيكون (٣٨٠٠غم).وفي تقدير آخر هو الشائع أن الصاع (٢٧٥١غم). قال النووي: الأصح أن الصاع ست مئة وخمسة وثمانون درهمًا وخمسة أسباع درهم. والرطل مئة وثمانية وعشرون درهمًا وأربعة أسباع درهم. والعبرة بالصاع النبوي إن وجد أومعياره، فإن فقد أخرج مزكي الفطرة قدرًا يتيقن أنه لا ينقص عن صاع. والصاع بالكيل المصري: قَدَحان.
المد: (٣/ ١) ١ رطلًا أو (٦٧٥) غم (غرام) أو (٦٨٨،٠) لترًا.
الرطل الشرعي أو البغدادي: (٧/ ٤) (١٢٨) درهمًا، وقيل: (١٣٠) درهمًا، والرطل البغدادي: (٤٠٨) غم، والرطل المصري: (١٤٤) درهمًا أي (٤٥٠) غم تقريبًا.
الدرهم العراقي (١٧،٣) غم، والدرهم الحالي المصري: (١٢،٣) غم، والدرهم العربي (٩٧٥،٢غم).
القفيز: (١٢) صاعًا أو ثمانية مكاكيك، والمكُّوك: صاع ونصف. ويساوي القفيز أيضًا (٣٣) لترًا أو (١٢٨) رطلًا بغداديًا، كما يساوي ثلاث كيلجات، والكيلجة: نصف صاع.
المنا: رطلان.
الفَرْق: إناء من نحاس يسع (١٦) رطلًا، أي ما يعادل (١٠) كغ أو (٦) أقساط، والقِسْط نصف صاع.
الْمُدْي (مكيال للشام ومصر وهو غير الْمُدّ): (٥،٢٢) صاعًا.
 
الجريب: (٤٨) صاعًا أو (١٩٢) مدًا.
الوَسْق: (٦٠) صاعًا، والخمسة أوسق نصاب الزكاة: (٣٠٠) صاعًا أو (٦٥٣) كغ على رأي الجمهور غير أبي حنيفة بتقدير الصاع (٢١٧٥) غم أو (١٢٠٠) مدًا أو (٤) أرادب وكيلتين من الكيل الحالي المصري أو (٥٠) كيلة مصرية. والكيلة: (٢٤) مدًا. والإردب المصري الحالي: (٩٦) قدحًا أو (٢٨٨) مدًا أو (١٩٨) لترًا (١)، أو (١٥٦) كغ أو (١٩٢) رطلًا أو (٧٢) صاعًا. والكيلة المصرية: (٦) آصع أو (٣٢) رطلًا.
الإرْدَب المصري أو العربي: (٢٤) صاعًا أو (٦٤) مَنَا أو (١٢٨) رطلًا أو (٦) وَيْبات أو (٦٦) لترًا.
الوَيْبة: (٢٤) مدًا أو (٦) آصع، فهي الكيلة المصرية الحالية.
الكُرّ (أكبر مقاييس الكيل العربي): (٧٢٠) صاعًا أو (٦٠) قفيزًا أو (١٠) أرادب أو (٣٨٤٠) رطل عراقي أو (١٥٦٠) كغ (كيلو غرام).

٣ - وحدات الأوزان والنقود:
الدينار: المثقا ل من الذهب أو (٢٥،٤) غم (٢) أو حبة من الشعير المتوسط.
حبة الشعير (أي المعتدل): (٠٥٩،٠) غم من الذهب.
المثقال أو الدينار: (٢٠) قيراطًا، والمثقال العجمي: (٨٠،٤) غم، والمثقال
(١) قدرت دائرة المعارف الإسلامية الصاع بثلاثة ألتار، فيكون الوسق على هذا (١٨٠ لترًا) والأدق ماذكرناه أن الصاع (٢.٧٥ لترًا).
(٢) حدده بنك فيصل الإسلامي في السودان بـ (٤.٤٥٧) غم.
 
العراقي: (٥) غم (١).
القيراط: (٢١٢٥،٠) غم فضة إذا اعتبرنا المثقال مقسمًا إلى عشرين قيراطًا وهو ما أراد معاوية أن يزيده على مصر، أو (٢٤٧٥،٠) غم فضة إذا اعتبرنا المثقال مقسمًا إلى اثنين وعشرين قيراطًا.
الدرهم العربي: (١٠/ ٧) من المثقال (الدينار) أو (٩٧٥،٢) غم أو (٦) دوانق أو (٥/ ٢) (٥٠ حبة) شعير متوسط، والعشرة دراهم: (٧) مثاقيل ذهبًا أو (١٤٠) قيراطًا وأوقية الذهب: (٤٠) درهمًا.
الدانق: قيراطان أو (٥/ ٢) ٨ حبة شعير متوسط أو (٦/ ١) الدرهم أو (٤٩٥،٠) غم من الفضة.
الطّسوج: حبتان أو نصف قيراط أو (١٢٣٧،٠) غم، والقيراط: طسوجان.
الحبة: (٦٨١،٠) غم فضة أو (٠٦،٠) غم أو فلسين.
النواة: (٥) دراهم.
الفَلْس: (٠٣،٠) غم فضة.
القنطار الشرعي: (١٢٠٠) أوقية أو (٨٤٠٠) (٢) دينار أو (٠٠٠،٨٠) درهم،
(١) بناء عليه يكون العشرون مثقالًا، وهو نصاب الذهب في الزكاة مساويًا ٩٦ غم بالمثقال العجمي، و١٠٠غم بالمثقال العراقي.
ويجب اتخاذ العملة الذهبية أو مايقوم مقامها أساسًا للتقدير. ويلاحظ أنه يجب تقدير نصاب الزكاة بحسب سعر الصرف لكل من الذهب والفضة القائم في السوق، لأنه تجب ملاحظة القوة الشرائية للنقد المعاصر، علمًا بأن الشرع حدد مبلغين متعادلين للزكاة وهما عشرون دينارًا، ومائتا درهم فضة، وكانا شيئًا وسعرًا واحدًا.
(٢) وجاء في لسان العرب: والمعمول عليه عند العرب أنه أي القنطار أربعة آلاف دينار. والأوقية سبعة مثاقيل: (١١٩) غم فضة.
 
القنطار الحالي: (١٠٠) رطل شامي، والرطل الشامي: (٥٦٤،٢) كغ، ونصاب العنب والتمر (الخمسة أوسق): (٥،٢) قنطارًا زبيبًاأو (٦٥٣) كغ أو (٥٠) كيلة مصرية.

ملاحظة:
إن التقدير الذي اعتمدته هنا على الأصح: هو أن الدينار (٢٥،٤غم) والدرهم (٩٧٥،٢ غم) ونصاب الفضة في الزكاة (٥٩٥غم) ونصاب الذهب (٨٥غم) والصاع عند الشافعية (٢١٧٦غم) فتكون الخمسة أوسق.
(٣٠٠صاع×٢١٧٦غم) = ٨،٦٥٢ كغ أي (٦٥٣) كغ تقريبًا.
واعتمدت أيضًا في خلاصة التقديرات على ماهو الأشهر، وإن كانت إلا حالات أحيانًا على تقدير مذهبي آخر.

عن الكاتب

Tanya Ustadz

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية