الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

كِتَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ روضة الطالبين وعمدة المفتين للنووي

كِتَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِروضة الطالبين وعمدة المفتين للنووي
الكتاب: روضة الطالبين وعمدة المفتين
المؤلف: أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (المتوفى: 676هـ)
تحقيق: زهير الشاويش الناشر: المكتب الإسلامي، بيروت- دمشق- عمان الطبعة: الثالثة، 1412هـ / 1991م
عدد الأجزاء: 12 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
موضوع: الفقه علي مذهب الشافعي

فهرس كِتَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ
  1. فَصْلٌ فِي انْتِهَاءِ السَّفَرِ الَّذِي يَقْطَعُ التَّرَخُّصَ
  2. فَصْلٌ وَأَمَّا كَوْنُ السَّفَرِ مُبَاحًا فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ
  3. فَصْلٌ الْقَصْرُ جَائِزٌ فِي كُلِّ صَلَاةٍ رُبَاعِيَّةٍ مُؤَدَّاةٍ فِي السَّفَرِ أَدْرَكَ وَقْتَهَا فِيهِ
  4. فَصْلٌ لِلْقَصْرِ أَرْبَعُ شُرُوطٍ
  5. بَابُ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ
  6. فَصْلٌ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، بِعُذْرِ الْمَطَرِ
  7. فَصْلٌ الرُّخَصُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالسَّفَرِ الطَّوِيلِ أَرْبَعٌ
  8. فَصْلٌ الْقَصْرُ أَفْضَلُ مِنَ الْإِتْمَامِ عَلَى الْأَظْهَرِ
  9. العودة الي كتاب روضة الطالبين وعمدة المفتين
كِتَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ

صَلَاةُ الْمُسَافِرِ كَغَيْرِهِ، إِلَّا أَنَّ لَهُ التَّرَخُّصَ بِالْقَصْرِ وَالْجَمْعِ، فَالْقَصْرُ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَالسَّبَبُ الْمُجَوِّزُ لَهُ السَّفَرُ الطَّوِيلُ الْمُبَاحُ. فَأَمَّا السَّفَرُ الْقَصِيرُ، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ رَبْطِ الْقَصْدِ بِمَقْصِدٍ مَعْلُومٍ، فَلَا رُخْصَةَ لِهَائِمٍ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَتَوَجَّهُ، وَإِنْ طَالَ سَفَرُهُ. وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّ الْهَائِمَ إِذَا بَلَغَ مَسَافَةَ الْقَصْرِ لَهُ الْقَصْرُ، وَهُوَ شَاذٌّ مُنْكَرٌ.
أَمَّا ابْتِدَاءُ السَّفَرِ، فَيُعْرَفُ بِتَفْصِيلِ الْمَوْضِعِ الَّذِي مِنْهُ الِارْتِحَالُ. فَإِنِ ارْتَحَلَ مِنْ بَلْدَةٍ لَهَا سُورٌ مُخْتَصٌّ بِهَا، فَلَا بُدَّ مِنْ مُجَاوَزَتِهِ وَإِنْ كَانَ دَاخِلَ السُّورِ مَزَارِعُ، أَوْ مَوَاضِعُ خَرِبَةٌ، لِأَنَّ جَمِيعَ دَاخِلِ السُّورِ مَعْدُودٌ مِنْ نَفْسِ الْبَلَدِ، مَحْسُوبٌ مِنْ مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ، فَإِذَا فَارَقَ السُّورَ تَرَخَّصَ إِنْ لَمْ يَكُنْ خَارِجَهُ دُورٌ مُتَلَاصِقَةٌ أَوْ مَقَابِرُ، فَإِنْ كَانَتْ فَوَجْهَانِ. الْأَصَحُّ: أَنَّهُ يَتَرَخَّصُ بِمُفَارَقَةِ السُّورِ، وَلَا يُشْتَرَطُ مُفَارَقَةُ الدُّورِ وَالْمَقَابِرِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْغَزَالِيُّ وَكَثِيرُونَ. وَالثَّانِي: يُشْتَرَطُ مُفَارَقَتُهَا، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ نَصِّ الشَّافِعِيِّ. وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْبَلَدِ سُورٌ، أَوْ كَانَ فِي غَيْرِ صَوْبِ مَقْصِدِهِ، فَابْتِدَاءُ سَفَرِهِ بِمُفَارَقَةِ الْعُمْرَانِ حَتَّى لَا يَبْقَى بَيْتٌ مُتَّصِلٌ وَلَا مُنْفَصِلٌ. وَالْخَرَابُ الَّذِي يَتَخَلَّلُ الْعِمَارَاتِ مَعْدُودٌ مِنَ الْبَلَدِ، كَالنَّهْرِ الْحَائِلِ بَيْنَ جَانِبَيِ الْبَلَدِ، فَلَا يَتَرَخَّصُ بِالْعُبُورِ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ. فَإِنْ كَانَتْ أَطْرَافُ الْبَلْدَةِ خَرِبَةً، وَلَا عِمَارَةَ وَرَاءَهَا، فَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ، وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: لَا بُدَّ مِنْ

(1/380)


مُجَاوَزَتِهَا. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ وَصَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) : لَا يُشْتَرَطُ مُجَاوَزَتُهَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَوْضِعَ إِقَامَةٍ. وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا كَانَتْ بَقَايَا الْحِيطَانِ قَائِمَةً، وَلَمْ يَتَّخِذُوا الْخَرَابَ مَزَارِعَ الْعُمْرَانِ، وَلَا هَجَرُوهُ بِالتَّحْوِيطِ عَلَى الْعَامِرِ وَالْخَرَابِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لَمْ يُشْتَرَطْ مُجَاوَزَتُهَا بِلَا خِلَافٍ. وَلَا يُشْتَرَطُ مُجَاوَزَةُ الْبَسَاتِينِ وَالْمَزَارِعِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْبَلَدِ، وَإِنْ كَانَتْ مُحَوَّطَةً، إِلَّا إِذَا كَانَ فِيهَا قُصُورٌ أَوْ دُورٌ يَسْكُنُهَا مُلَّاكُهَا بَعْضَ فُصُولِ السَّنَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مُجَاوَزَتِهَا حِينَئِذٍ. وَلَنَا وَجْهٌ فِي (التَّتِمَّةِ) : أَنَّهُ يُشْتَرَطُ مُجَاوَزَةُ الْبَسَاتِينِ وَالْمَزَارِعِ الْمُضَافَةِ إِلَى الْبَلْدَةِ مُطْلَقًا، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. هَذَا حُكْمُ الْبَلْدَةِ. وَأَمَّا الْقَرْيَةُ فَلَهَا حُكْمُ الْبَلْدَةِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا مُجَاوَزَةُ الْبَسَاتِينِ وَلَا الْمَزَارِعِ الْمُحَوَّطَةِ، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي قَالَهُ الْعِرَاقِيُّونَ. وَشَذَّ الْغَزَالِيُّ عَنِ الْأَصْحَابِ فَقَالَ: إِنْ كَانَتِ الْمَزَارِعُ، أَوِ الْبَسَاتِينُ مُحَوَّطَةً، اشْتُرِطَ مُجَاوَزَتُهَا. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَا يُشْتَرَطُ مُجَاوَزَةُ الْمَزَارِعِ الْمُحَوَّطَةِ، وَلَا الْبَسَاتِينِ غَيْرِ الْمُحَوَّطَةِ، وَيُشْتَرَطُ مُجَاوَزَةُ الْبَسَاتِينِ الْمُحَوَّطَةِ. وَلَوْ كَانَ قَرْيَتَانِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا انْفِصَالٌ فَهُمَا كَمَحَلَّتَيْنِ فَيَجِبُ مُجَاوَزَتُهُمَا جَمِيعًا. قَالَ الْإِمَامُ: وَفِيهِ احْتِمَالٌ، فَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا انْفِصَالٌ فَجَاوَزَ قَرْيَتَهُ، كَفَى وَإِنْ كَانَتَا فِي غَايَةِ التَّقَارُبِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: إِذَا تَقَارَبَتَا اشْتُرِطَ مُفَارَقَتُهُمَا. وَلَوْ جَمَعَ سُورٌ قُرًى مُتَفَاصِلَةً لَمْ يُشْتَرَطْ مُجَاوَزَةُ السُّورِ. وَكَذَا لَوْ قُدِّرَ ذَلِكَ فِي بَلْدَتَيْنِ مُتَقَارِبَتَيْنِ. وَلِهَذَا قُلْنَا أَوَّلًا: إِنِ ارْتَحَلَ مِنْ بَلْدَةٍ لَهَا سُورٌ مُخْتَصٌّ بِهَا. وَأَمَّا الْمُقِيمُ فِي الصَّحَارَى، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُفَارَقَةِ الْبُقْعَةِ الَّتِي فِيهَا رَحْلُهُ وَيُنْسَبُ إِلَيْهِ. فَإِنْ سَكَنَ وَادِيًا وَسَافَرَ فِي عُرْضِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ مُجَاوَزَةِ عُرْضِ الْوَادِي، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ. قَالَ الْأَصْحَابُ: وَهَذَا عَلَى الْغَالِبِ فِي اتِّسَاعِ الْوَادِي. فَإِنْ أَفْرَطَتِ السِّعَةُ لَمْ يُشْتَرَطْ إِلَّا مُجَاوَزَةُ الْقَدْرِ الَّذِي يُعَدُّ مَوْضِعَ نُزُولِهِ، أَوْ مَوْضِعَ الْحُلَّةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا. كَمَا لَوْ سَافَرَ فِي طُولِ الْوَادِي. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: كَلَامُ الشَّافِعِيِّ مُجْرًى عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَجَانِبَا الْوَادِي كَسُورِ الْبَلَدِ. وَلَوْ كَانَ نَازِلًا فِي رَبْوَةٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَهْبِطَ، وَإِنْ

(1/381)


كَانَ فِي وَهْدَةٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَصْعَدَ، وَهَذَا عِنْدَ الِاعْتِدَالِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْوَادِي. وَلَا فَرْقَ فِي اعْتِبَارِ مُجَاوَزَةِ عُرْضِ الْوَادِي وَالصُّعُودِ وَالْهُبُوطِ بَيْنَ الْمُنْفَرِدِ فِي خَيْمَةٍ وَمَنْ فِي أَهْلِ خِيَامٍ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ. أَمَّا إِذَا كَانَ فِي أَهْلِ خِيَامٍ كَالْأَعْرَابِ وَالْأَكْرَادِ، فَإِنَّمَا يَتَرَخَّصُ إِذَا فَارَقَ الْخِيَامَ، مُجْتَمِعَةً كَانَتْ أَوْ مُتَفَرِّقَةً إِذَا كَانَتْ حُلَّةً وَاحِدَةً وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ أَبْنِيَةِ الْبَلَدِ. وَلَا يُشْتَرَطُ مُفَارَقَتُهُ لِحُلَّةٍ أُخْرَى، بَلِ الْحُلَّتَانِ كَالْقَرْيَتَيْنِ. وَضَبَطَ الصَّيْدَلَانِيُّ التَّفَرُّقَ الَّذِي لَا يُؤَثِّرُ، بِأَنْ يَكُونُوا بِحَيْثُ يَجْتَمِعُونَ لِلسَّمَرِ فِي نَادٍ وَاحِدٍ، وَيَسْتَعِينُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. فَإِنْ كَانُوا بِهَذِهِ الْحَالَةِ فَهِيَ حُلَّةٌ وَاحِدَةٌ. وَيُعْتَبَرُ مَعَ مُجَاوَزَةِ الْخِيَامِ مَرَافِقُهَا، كَمَطْرَحِ الرَّمَادِ وَمَلْعَبِ الصِّبْيَانِ وَالنَّادِي وَمَعَاطِنِ الْإِبِلِ، فَإِنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ مَوَاضِعِ إِقَامَتِهِمْ. وَلَنَا وَجْهٌ شَاذٌّ: أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ مُفَارَقَةُ الْخِيَامِ، بَلْ يَكْفِي مُفَارَقَةُ خَيْمَتِهِ.
فَرْعٌ
إِذَا فَارَقَ الْمُسَافِرُ بُنْيَانَ الْبَلْدَةِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهَا لِحَاجَةٍ، فَلَهُ أَحْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ بِتِلْكَ الْبَلْدَةِ إِقَامَةٌ أَصْلًا، فَلَا يَصِيرُ مُقِيمًا بِالرُّجُوعِ وَلَا بِالْحُصُولِ فِيهَا.
الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ وَطَنَهُ، فَلَيْسَ لَهُ التَّرَخُّصُ فِي رُجُوعِهِ، وَإِنَّمَا يَتَرَخَّصُ إِذَا فَارَقَهَا ثَانِيًا. وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّهُ يَتَرَخَّصُ ذَاهِبًا، وَهُوَ شَاذٌّ مُنْكَرٌ.
الثَّالِثُ: أَنْ لَا تَكُونَ وَطَنَهُ، لَكِنَّهُ أَقَامَ بِهَا مُدَّةً، فَهَلْ لَهُ التَّرَخُّصُ فِي رُجُوعِهِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، صَحَّحَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ، وَقَطَعَ بِهِ فِي (التَّتِمَّةِ) . وَالثَّانِي: لَا، وَقَطَعَ بِهِ فِي (التَّهْذِيبِ) وَحَيْثُ حَكَمْنَا بِأَنَّهُ لَا يَتَرَخَّصُ إِذَا عَادَ، فَلَوْ نَوَى الْعَوْدَ وَلَمْ يَعُدْ بَعْدُ لَمْ يَتَرَخَّصْ وَصَارَ بِالنِّيَّةِ مُقِيمًا، وَلَا فَرْقَ

(1/382)


بَيْنَ حَالَتَيِ الرُّجُوعِ وَالْحُصُولِ فِي الْبَلْدَةِ فِي التَّرَخُّصِ وَعَدَمِهِ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ مَوْضِعِ الرُّجُوعِ إِلَى الْوَطَنِ مَسَافَةُ الْقَصْرِ. فَإِنْ كَانَتْ فَهُوَ مُسَافِرٌ مُسْتَأْنِفٌ فَيَتَرَخَّصُ.

فَصْلٌ فِي انْتِهَاءِ السَّفَرِ الَّذِي يَقْطَعُ التَّرَخُّصَ

وَيَحْصُلُ بِأُمُورٍ: الْأَوَّلُ: الْعَوْدُ إِلَى الْوَطَنِ، وَالضَّبْطُ فِيهِ: أَنْ يَعُودَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي شَرَطْنَا مُفَارَقَتَهُ فِي إِنْشَاءِ السَّفَرِ مِنْهُ. وَفِي مَعْنَى الْوَطَنِ: الْوُصُولُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُسَافِرُ إِلَيْهِ إِذَا عَزَمَ عَلَى الْإِقَامَةِ فِيهِ الْقَدْرَ الْمَانِعَ مِنَ التَّرَخُّصِ، فَلَوْ لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ بِهِ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَمْ يَنْتَهِ سَفَرُهُ بِالْوُصُولِ إِلَيْهِ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَلَوْ حَصَلَ فِي طَرِيقِهِ فِي قَرْيَةٍ أَوْ بَلْدَةٍ لَهُ بِهَا أَهْلٌ وَعَشِيرَةٌ، فَهَلْ يَنْتَهِي سَفَرُهُ بِدُخُولِهَا؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا. وَلَوْ مَرَّ فِي طَرِيقِ سَفَرِهِ بِوَطَنِهِ، بِأَنْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَنَوَى أَنَّهُ إِذَا رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ خَرَجَ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ إِقَامَةٍ، فَالْمَذْهَبُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ يَصِيرُ مُقِيمًا بِدُخُولِهَا. وَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ وَغَيْرُهُ: فِيهِ الْقَوْلَانِ كَبَلَدِ أَهْلِهِ. فَعَلَى أَحَدِهِمَا: الْعَوْدُ إِلَى الْوَطَنِ لَا يُوجِبُ انْتِهَاءَ السَّفَرِ، إِلَّا إِذَا كَانَ عَازِمًا عَلَى الْإِقَامَةِ.
الْأَمْرُ الثَّانِي: نِيَّةُ الْإِقَامَةِ. فَإِذَا نَوَى فِي طَرِيقِهِ الْإِقَامَةَ مُطْلَقًا انْقَطَعَ سَفَرُهُ فَلَا يَقْصُرُ. فَلَوْ أَنْشَأَ السَّيْرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ سَفَرٌ جَدِيدٌ فَلَا يَقْصُرُ إِلَّا إِذَا تَوَجَّهَ إِلَى مَرْحَلَتَيْنِ. هَذَا إِذَا نَوَى الْإِقَامَةَ فِي مَوْضِعٍ يَصْلُحُ لَهَا مِنْ بَلْدَةٍ

(1/383)


أَوْ قَرْيَةٍ أَوْ وَادٍ يُمْكِنُ الْبَدَوِيُّ النُّزُولَ فِيهِ لِلْإِقَامَةِ. فَأَمَّا الْمَفَازَةُ وَنَحْوُهَا، فَفِي انْقِطَاعِ السَّفَرِ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ فِيهَا قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: انْقِطَاعُهُ. وَلَوْ نَوَى إِقَامَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَأَقَلَّ، لَمْ يَصِرْ مُقِيمًا قَطْعًا وَإِنْ نَوَى أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ الْأَصْحَابِ: إِنْ نَوَى إِقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، صَارَ مُقِيمًا. وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ نِيَّةً دُونَ الْأَرْبَعَةِ لَا تَقْطَعُ السَّفَرَ وَإِنْ زَادَ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ كَثِيرُونَ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْأَرْبَعَةَ كَيْفَ تُحْسَبُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ فِي (التَّهْذِيبِ) وَغَيْرِهِ، أَحَدُهُمَا: يُحْسَبُ مِنْهَا يَوْمَا الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ كَمَا يُحْسَبُ يَوْمُ الْحَدَثِ وَيَوْمُ نَزْعِ الْخُفِّ مِنْ مُدَّةِ الْمَسْحِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يُحْسَبَانِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ دَخَلَ يَوْمَ السَّبْتِ وَقْتَ الزَّوَالِ بِنِيَّةِ الْخُرُوجِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَقْتَ الزَّوَالِ صَارَ مُقِيمًا. وَعَلَى الثَّانِي: لَا يَصِيرُ (مُقِيمًا) ، وَإِنْ دَخَلَ ضَحْوَةَ السَّبْتِ وَخَرَجَ عَشِيَّةَ الْأَرْبِعَاءِ. وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ: مَتَى نَوَى إِقَامَةً زَائِدَةً عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ صَارَ مُقِيمًا. وَهَذَا الَّذِي قَالَاهُ مُوَافِقٌ لِمَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ زِيَادَةٌ عَلَى الثَّلَاثَةِ غَيْرَ يَوْمَيِ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ بِحَيْثُ لَا يَبْلُغُ الْأَرْبَعَةَ، ثُمَّ الْأَيَّامُ الْمُحْتَمَلَةُ مَعْدُودَةٌ مَعَ لَيَالِيهَا. وَإِذَا نَوَى مَا لَا يُحْتَمَلُ صَارَ مُقِيمًا فِي الْحَالِ. وَلَوْ دَخَلَ لَيْلًا لَمْ يَحْسِبْ بَقِيَّةَ اللَّيْلَةِ وَيَحْسِبِ الْغَدَ. وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِ الْمُحَارِبِ، أَمَّا الْمُحَارِبُ إِذَا نَوَى إِقَامَةَ قَدْرٍ يَصِيرُ غَيْرُهُ بِهِ مُقِيمًا، فَفِيهِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: أَنَّهُ كَغَيْرِهِ. وَالثَّانِي: يَقْصُرُ أَبَدًا.
قُلْتُ: وَلَوْ نَوَى الْعَبْدُ إِقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أَوِ الزَّوْجَةُ أَوِ الْجَيْشُ وَلَمْ يَنْوِ السَّيِّدُ وَلَا الزَّوْجُ وَلَا الْأَمِيرُ، فَفِي لُزُومِ الْإِتْمَامِ فِي حَقِّهِمْ وَجْهَانِ. الْأَقْوَى: أَنَّ لَهُمُ الْقَصْرَ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَقِلُّونَ، فَنِّيَّتُهُمْ كَالْعَدَمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْأَمْرُ الثَّالِثُ: صُورَةُ الْإِقَامَةِ، فَإِذَا عَرَضَ لَهُ شُغْلٌ فِي بَلْدَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ فَأَقَامَ لَهُ، فَلَهُ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرْجُوَ فَرَاغَ شُغْلِهِ سَاعَةً فَسَاعَةً، وَهُوَ عَلَى نِيَّةِ الِارْتِحَالِ عِنْدَ فَرَاغِهِ. وَالثَّانِي: يَعْلَمُ أَنَّ شُغْلَهُ لَا يَنْقَضِي فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، غَيْرَ

(1/384)


يَوْمَيِ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، كَالتَّفَقُّهِ وَالتِّجَارَةِ الْكَثِيرَةِ وَنَحْوِهِمَا، فَالْأَوَّلُ: لَهُ الْقَصْرُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ عَلَى مَا سَبَقَ تَفْصِيلُهُ. وَفِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ طَرِيقَانِ. الصَّحِيحُ مِنْهُمَا: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. أَحَدُهَا: يَجُوزُ الْقَصْرُ أَبَدًا سَوَاءً فِيهِ الْمُقِيمُ عَلَى الْقِتَالِ أَوِ الْخَوْفِ مِنَ الْقِتَالِ وَالْمُقِيمُ لِتِجَارَةٍ وَغَيْرِهِمَا. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ الْقَصْرُ أَصْلًا. وَالثَّالِثُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ: يَجُوزُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَقَطْ، وَقِيلَ: سَبْعَةَ عَشَرَ، وَقِيلَ: تِسْعَةَ عَشَرَ، وَقِيلَ: عِشْرِينَ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ فِي (الْمُحَارِبِ) وَيَقْطَعُ بِالْمَنْعِ فِي غَيْرِهِ. وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِي: فَإِنْ كَانَ مُحَارِبًا وَقُلْنَا فِي الْحَالِ الْأَوَّلِ: لَا يَقْصُرُ، فَهُنَا أَوْلَى. وَإِلَّا فَقَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: يَتَرَخَّصُ أَبَدًا. وَالثَّانِي: ثَمَانِيَةَ عَشَرَ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحَارِبٍ، كَالْمُتَفَقِّهِ وَالتَّاجِرِ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَتَرَخَّصُ أَصْلًا. وَقِيلَ: هُوَ كَالْمُحَارِبِ، وَهُوَ غَلَطٌ.
فَرْعٌ
وَأَمَّا كَوْنُ السَّفَرِ طَوِيلًا فَلَا بُدَّ مِنْهُ. وَالطَّوِيلُ: ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا بِالْهَاشِمِيِّ، وَهِيَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، وَهِيَ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ، وَهِيَ مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ مُعْتَدِلَيْنِ. فَالْمِيلُ: أَرْبَعَةُ آلَافِ خُطْوَةٍ، وَالْخُطْوَةُ: ثَلَاثَةُ أَقْدَامٍ. وَهَلْ هَذَا الضَّبْطُ تَحْدِيدٌ، أَمْ تَقْرِيبٌ؟ وَجْهَانِ. الْأَصَحُّ: تَحْدِيدٌ. وَحُكِيَ قَوْلٌ شَاذٌّ: أَنَّ الْقَصْرَ يَجُوزُ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ، بِشَرْطِ الْخَوْفِ. وَالْمَعْرُوفُ الْأَوَّلُ. وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْ لَا يَقْصُرَ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، لِلْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ضَبْطِهِ بِهِ. وَالْمَسَافَةُ فِي الْبَحْرِ مِثْلُ الْمَسَافَةِ فِي الْبَرِّ وَإِنْ قَطَعَهَا فِي لَحْظَةٍ. فَإِنْ شَكَّ فِيهَا اجْتَهَدَ.
قُلْتُ: وَلَوْ حَبَسَتْهُمُ الرِّيحُ فِيهِ، قَالَ الدَّارِمِيُّ: هُوَ كَالْإِقَامَةِ فِي الْبَرِّ بِغَيْرِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(1/385)


وَاعْلَمْ أَنَّ مَسَافَةَ الرُّجُوعِ لَا تُحْسَبُ، فَلَوْ قَصَدَ مَوْضِعًا عَلَى مَرْحَلَةٍ بِنِيَّةِ أَنْ لَا يُقِيمَ فِيهِ فَلَيْسَ لَهُ الْقَصْرُ لَا ذَاهِبًا وَلَا رَاجِعًا، وَإِنْ كَانَ يَنَالُهُ مَشَقَّةُ مَرْحَلَتَيْنِ مُتَوَالِيَتَيْنِ، لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى سَفَرًا طَوِيلًا. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا: أَنَّهُ يَقْصُرُ إِذَا كَانَ الذَّهَابُ وَالرُّجُوعُ مَرْحَلَتَيْنِ، وَهُوَ شَاذٌّ مُنْكَرٌ. وَيُشْتَرَطُ عَزْمُهُ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى قَطْعِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَلَوْ خَرَجَ لِطَلَبِ آبِقٍ أَوْ غَرِيمٍ وَيَنْصَرِفُ مَتَى لَقِيَهُ وَلَا يَعْرِفُ مَوْضِعَهُ لَمْ يَتَرَخَّصْ وَإِنْ طَالَ سَفَرُهُ كَمَا قُلْنَا فِي الْهَائِمِ: فَإِذَا وَجَدَهُ وَعَزَمَ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى بَلَدِهِ وَبَيْنَهُمَا مَسَافَةُ الْقَصْرِ، يُرَخَّصُ إِذَا ارْتَحَلَ عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. فَلَوْ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ السَّفَرِ يَعْلَمُ مَوْضِعَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَلْقَاهُ قَبْلَ مَرْحَلَتَيْنِ تَرَخَّصَ، فَلَوْ نَوَى مَسَافَةَ الْقَصْرِ ثُمَّ نَوَى أَنَّهُ إِنْ وَجَدَ الْغَرِيمَ رَجَعَ نَظَرَ: إِنْ نَوَى ذَلِكَ قَبْلَ مُفَارَقَةِ عُمْرَانِ الْبَلَدِ لَمْ يَتَرَخَّصْ، وَبَعْدَ مُفَارَقَةِ الْعُمْرَانِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَتَرَخَّصُ مَا لَمْ يَجِدْهُ فَإِذَا وَجَدَهُ صَارَ مُقِيمًا. وَكَذَا لَوْ نَوَى قَصْدَ مَوْضِعٍ فِي مَسَافَةِ الْقَصْرِ ثُمَّ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي بَلَدٍ وَسَطَ الطَّرِيقِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ مَخْرَجِهِ إِلَى الْمَقْصِدِ الثَّانِي مَسَافَةُ الْقَصْرِ يَتَرَخَّصُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ تَرَخَّصَ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ مَا لَمْ يَدْخُلْهُ.
قُلْتُ: هَذَا إِذَا نَوَى الْإِقَامَةَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ نَوَى دُونَهَا فَهُوَ سَفَرٌ وَاحِدٌ فَلَهُ الْقَصْرُ فِي جَمِيعِ طَرِيقِهِ، وَفِي الْبَلَدِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ
إِذَا سَافَرَ الْعَبْدُ بِسَيْرِ الْمَوْلَى، وَالْمَرْأَةُ بِسَيْرِ الزَّوْجِ، وَالْجُنْدِيُّ بِسَيْرِ الْأَمِيرِ وَلَا يَعْرِفُونَ مَقْصِدَهُمْ لَمْ يَجُزْ لَهُمُ التَّرَخُّصُ. فَلَوْ نَوَوْا مَسَافَةَ الْقَصْرِ فَلَا عِبْرَةَ بِنِيَّةِ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ، وَتُعْتَبَرُ نِيَّةُ الْجُنْدِيِّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ تَحْتَ يَدِ الْأَمِيرِ وَقَهْرِهِ، فَإِنْ عَرَفُوا مَقْصِدَهُمْ فَنَوَوْا فَلَهُمُ الْقَصْرُ.

(1/386)


قُلْتُ: وَإِذَا أَسَرَ الْكُفَّارُ رَجُلًا فَسَارُوا بِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهِ لَمْ يَقْصُرْ. وَإِنْ سَارَ مَعَهُمْ يَوْمَيْنِ قَصَرَ بَعْدَ ذَلِكَ. نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فَلَوْ عَلِمَ الْبَلَدَ الَّذِي يَذْهَبُونَ بِهِ إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ نِيَّتُهُ أَنَّهُ إِنْ تَمَكَّنَ مِنَ الْهَرَبِ هَرَبَ لَمْ يَقْصُرْ قَبْلَ مَرْحَلَتَيْنِ. وَإِنْ نَوَى قَصْدَ ذَلِكَ الْبَلَدِ أَوْ غَيْرَهُ - وَلَا مَعْصِيَةَ فِي قَصْدِهِ - قَصَرَ فِي الْحَالِ إِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مَرْحَلَتَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَرْعٌ
لَوْ كَانَ لِمَقْصِدِهِ طَرِيقَانِ يَبْلُغُ أَحَدُهُمَا مَسَافَةَ الْقَصْرِ دُونَ الْآخَرِ فَسَلَكَ الْأَبْعَدَ، نَظَرَ؛ إِنْ كَانَ لِغَرَضٍ كَالْأَمْنِ أَوِ السُّهُولَةِ أَوْ زِيَارَةٍ أَوْ عِيَادَةٍ تَرَخَّصَ. وَكَذَا لَوْ قَصَدَ التَّنَزُّهَ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَتَرَدَّدَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي اعْتِبَارِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَرَضٌ سِوَى التَّرَخُّصِ فَطَرِيقَانِ. أَصَحُّهُمَا: عَلَى قَوْلَيْنِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا يَتَرَخَّصُ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: لَا يَتَرَخَّصُ قَطْعًا. وَلَوْ بَلَغَ بِكُلِّ وَاحِدٍ الْمَسَافَةَ فَسَلَكَ الْأَبْعَدَ لِغَيْرِ غَرَضٍ تَرَخَّصَ فِي جَمِيعِهِ قَطْعًا.
فَرْعٌ
إِذَا خَرَجَ إِلَى بَلَدٍ وَالْمَسَافَةُ طَوِيلَةٌ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فِي أَثْنَاءِ السَّفَرِ أَنْ يَرْجِعَ انْقَطَعَ سَفَرُهُ فَلَا يَجُوزُ الْقَصْرُ مَا دَامَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. فَإِذَا فَارَقَهُ فَهُوَ سَفَرٌ جَدِيدٌ. فَإِنَّمَا يَقْصُرُ إِذَا تَوَجَّهَ مِنْهُ إِلَى مَرْحَلَتَيْنِ، سَوَاءً رَجَعَ إِلَى وَطَنِهِ أَوِ اسْتَمَرَّ إِلَى مَقْصِدِهِ الْأَوَّلِ أَوْ غَيْرِهِمَا. وَلَوْ خَرَجَ إِلَى بَلَدٍ لَا يُقْصَرُ إِلَيْهِ الصَّلَاةُ ثُمَّ نَوَى

(1/387)


مُجَاوَزَتَهُ إِلَى مَا يُقْصَرُ إِلَيْهِ الصَّلَاةُ، فَابْتِدَاءُ سَفَرِهِ مِنْ حِينِ غَيَّرَ النِّيَّةَ، فَإِنَّمَا يَتَرَخَّصُ إِذَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إِلَى الْمَقْصِدِ الثَّانِي مَرْحَلَتَانِ. وَلَوْ خَرَجَ إِلَى سَفَرٍ طَوِيلٍ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ فِي كُلِّ مَرْحَلَةٍ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ لَمْ يَتَرَخَّصْ.

فَصْلٌ وَأَمَّا كَوْنُ السَّفَرِ مُبَاحًا فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْصِيَ

وَأَمَّا كَوْنُ السَّفَرِ مُبَاحًا فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ، سَوَاءً كَانَ طَاعَةً أَوْ تِجَارَةً، وَلَا يَتَرَخَّصُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ، كَهَرَبِ الْعَبْدِ مِنْ مَوْلَاهُ، وَالْمَرْأَةِ مِنَ الزَّوْجِ، وَالْغَرِيمِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَدَاءِ، وَالْمُسَافِرِ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ أَوْ لِلزِّنَى أَوْ قَتْلِ الْبَرِيءِ. وَأَمَّا الْعَاصِي فِي سَفَرِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ مُبَاحًا وَيَرْتَكِبُ الْمَعَاصِيَ فِي طَرِيقِهِ فَلَهُ التَّرَخُّصُ. وَلَوْ أَنْشَأَ سَفَرًا مُبَاحًا ثُمَّ جَعَلَهُ مَعْصِيَةً فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَتَرَخَّصُ. وَلَوْ أَنْشَأَ سَفَرَ مَعْصِيَةٍ ثُمَّ تَابَ وَغَيَّرَ قَصْدَهُ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرِ صَوْبِ السَّفَرِ، قَالَ الْأَكْثَرُونَ: ابْتِدَاءُ سَفَرِهِ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. إِنْ كَانَ مِنْهُ إِلَى مَقْصِدِهِ مَسَافَةُ الْقَصْرِ - تَرَخَّصَ، وَإِلَّا فَلَا. وَقِيلَ: فِي التَّرَخُّصِ وَجْهَانِ، كَمَا لَوْ نَوَى مُبَاحًا ثُمَّ جَعَلَهُ مَعْصِيَةً. ثُمَّ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ لَا يَقْصُرُ، وَلَا يُفْطِرُ، وَلَا يَتَنَفَّلُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، وَلَا يَمْسَحُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَهُ أَنْ يَمْسَحَ يَوْمًا وَلَيْلَةً، عَلَى الصَّحِيحِ. وَالثَّانِي: لَا يَمْسَحُ أَصْلًا. وَلَيْسَ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجَمَاهِيرُ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَجُوزُ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى اسْتِبَاحَتِهَا بِالتَّوْبَةِ. وَالثَّانِي: الْجَوَازُ. كَمَا يَجُوزُ لِلْمُقِيمِ الْعَاصِي عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: لَا يَجُوزُ لِلْمُقِيمِ الْعَاصِي لِقُدْرَتِهِ عَلَى التَّوْبَةِ.
قُلْتُ: وَلَا تَسْقُطُ الْجُمُعَةُ عَنِ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ، وَفِي تَيَمُّمِهِ خِلَافٌ تَقَدَّمَ فِي بَابِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(1/388)


وَمِمَّا أُلْحِقُ بِسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ، أَنْ يُتْعِبَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ وَيُعَذِّبَ دَابَّتَهُ بِالرَّكْضِ مِنْ غَيْرِ غَرَضٍ. ذَكَرَ الصَّيْدَلَانِيُّ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ يَتَنَقَّلُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ مِنْ غَيْرِ غَرَضٍ صَحِيحٍ لَمْ يَتَرَخَّصْ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: السَّفَرُ لِمُجَرَّدِ رُؤْيَةِ الْبِلَادِ وَالنَّظَرِ إِلَيْهَا لَيْسَ مِنَ الْأَغْرَاضِ الصَّحِيحَةِ.

فَصْلٌ الْقَصْرُ جَائِزٌ فِي كُلِّ صَلَاةٍ رُبَاعِيَّةٍ مُؤَدَّاةٍ فِي السَّفَرِ أَدْرَكَ وَقْتَهَا فِيهِ.

فَأَمَّا الْمَغْرِبُ وَالصُّبْحُ فَلَا قَصْرَ فِيهِمَا بِالْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا الْمَقْضِيَّةُ فَإِنْ فَاتَتْ فِي الْحَضَرِ وَقَضَاهَا فِي السَّفَرِ لَمْ يَقْصُرْ، خِلَافًا لِلْمُزَنِي. وَإِنْ شَكَّ هَلْ فَاتَتْ فِي السَّفَرِ أَوِ الْحَضَرِ؟ لَمْ يَقْصُرْ أَيْضًا. وَإِنْ فَاتَتْ فِي السَّفَرِ فَقَضَاهَا فِيهِ أَوْ فِي الْحَضَرِ، فَأَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ. أَظْهَرُهَا: إِنْ قَضَى فِي السَّفَرِ قَصَرَ، وَإِلَّا فَلَا. وَالثَّانِي: يُتِمُّ فِيهِمَا، وَالثَّالِثُ: يَقْصُرُ فِيهِمَا. وَالرَّابِعُ: إِنْ قَضَى ذَلِكَ فِي السَّفَرِ قَصَرَ، وَإِنْ قَضَى فِي الْحَضَرِ أَوْ سَفَرٍ آخَرَ أَتَمَّ. فَإِنْ قُلْنَا: يُتِمُّ فِيهِمَا، فَشَرَعَ فِي الصَّلَاةِ بِنِيَّةِ الْقَصْرِ فَخَرَجَ الْوَقْتُ فِي أَثْنَائِهَا فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ الَّتِي يَقَعُ بَعْضُهَا فِي الْوَقْتِ أَدَاءً أَمْ قَضَاءً. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ إِنْ وَقَعَ فِي الْوَقْتِ رَكْعَةٌ فَأَدَاءٌ، وَإِنْ كَانَ دُونَهَا فَقَضَاءٌ. فَإِنْ قُلْنَا: قَضَاءٌ لَمْ يَقْصُرْ. وَإِنْ قُلْنَا: أَدَاءٌ قَصَرَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ صَاحِبُ (التَّلْخِيصِ) : يُتِمُّ.
فَرْعٌ

(1/389)


إِذَا سَافَرَ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ وَقَدْ مَضَى مِنْهُ مَا يُمْكِنُ فِعْلُ الصَّلَاةِ فِيهِ، فَالنَّصُّ أَنَّ لَهُ الْقَصْرَ. وَنَصَّ فِيمَا إِذَا أَدْرَكَتْ مِنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ قَدْرَ الْإِمْكَانِ ثُمَّ حَاضَتْ أَنَّهُ يَلْزَمُهَا الْقَضَاءُ، وَكَذَا سَائِرُ أَصْحَابِ الْعُذْرِ. فَقَالَ الْأَصْحَابُ: فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْمَذْهَبُ: الْعَمَلُ بِظَاهِرِ النَّصَّيْنِ، وَالثَّانِي: فِيهِمَا قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُ الْحَائِضَ الصَّلَاةُ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ الْإِتْمَامُ. وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُهَا الصَّلَاةُ وَيَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ. وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ: إِنْ سَافَرَ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ لَمْ يَقْصُرْ. وَإِنْ بَقِيَ أَكْثَرُ قَصَرَ. وَالْجُمْهُورُ: عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ. أَمَّا إِذَا سَافَرَ وَقَدْ بَقِيَ أَقَلُّ مِنْ قَدْرِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ قُلْنَا: كُلُّهَا أَدَاءٌ قَصَرَ، وَإِلَّا فَلَا. وَإِنْ مَضَى مِنَ الْوَقْتِ دُونَ مَا يَسَعُ الصَّلَاةَ وَسَافَرَ، قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: يَنْبَغِي أَنْ يَمْتَنِعَ الْقَصْرُ إِنْ قُلْنَا: تَمْتَنِعُ لَوْ مَضَى مَا يَسَعُ الصَّلَاةَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَاضَتْ بَعْدَ مُضِيِّ الْقَدْرِ النَّاقِصِ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهَا الصَّلَاةُ عَلَى الْمَذْهَبِ، لِأَنَّ عُرُوضَ السَّفَرِ لَا يُنَافِي إِتْمَامَ الصَّلَاةِ، وَعُرُوضَ الْحَيْضِ يُنَافِيهِ.
قُلْتُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ شَاذٌّ مَرْدُودٌ، فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ يَقْصُرُ هُنَا بِلَا خِلَافٍ. وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ: أَنَّهُ يَقْصُرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(1/390)

فَصْلٌ لِلْقَصْرِ أَرْبَعُ شُرُوطٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَقْتَدِيَ بِمُتِمٍّ، فَإِنْ فَعَلَهُ وَلَوْ فِي لَحْظَةٍ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ. وَالِاقْتِدَاءُ فِي لَحْظَةٍ يُتَصَوَّرُ مِنْ وُجُوهٍ. مِنْهَا أَنْ يُدْرِكَ الْإِمَامَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ، أَوْ يُحْدِثَ الْإِمَامُ عَقِبَ اقْتِدَائِهِ وَيَنْصَرِفَ. وَلَوْ صَلَّى الظُّهْرَ خَلْفَ مَنْ يَقْضِي الصُّبْحَ، مُسَافِرًا كَانَ أَوْ مُقِيمًا، لَمْ يَجُزِ الْقَصْرُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ صَلَّى الظُّهْرَ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَصْرُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: إِنْ قُلْنَا: الْجُمُعَةُ ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ قَصَرَ، وَإِلَّا فَهِيَ كَالصُّبْحِ.
قُلْتُ: وَسَوَاءً كَانَ إِمَامُ الْجُمُعَةِ مُسَافِرًا أَوْ مُقِيمًا، فَهَذَا حُكْمُهُ. وَلَوْ نَوَى الظُّهْرَ مَقْصُورَةً خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الْعَصْرَ مَقْصُورَةً جَازَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ الْمُقْتَدِي تَارَةً يَعْلَمُ حَالَ إِمَامِهِ وَتَارَةً يَجْهَلُهَا. فَإِنْ عَلِمَ، نَظَرَ: إِنْ عَلِمَهُ مُقِيمًا أَوْ ظَنَّهُ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ. فَلَوِ اقْتَدَى بِهِ وَنَوَى الْقَصْرَ انْعَقَدَتْ صَلَاتُهُ، وَلَغَتْ نِيَّةُ الْقَصْرِ. بِخِلَافِ الْمُقِيمِ يَنْوِي الْقَصْرَ، لَا تَنْعَقِدُ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقَصْرِ، وَالْمُسَافِرُ مِنْ أَهْلِهِ، فَلَمْ يَضُرَّهُ نِيَّةُ الْقَصْرِ. كَمَا لَوْ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ بِنِيَّةِ الْقَصْرِ ثُمَّ نَوَى الْإِتْمَامَ أَوْ صَارَ مُقِيمًا. وَإِنْ عَلِمَهُ أَوْ ظَنَّهُ مُسَافِرًا أَوْ عَلِمَ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ نَوَى الْقَصْرَ فَلَهُ أَنْ يَقْصُرَ خَلْفَهُ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَدْرِ أَنَّهُ نَوَى الْقَصْرَ، وَلَا يَلْزَمُ الْإِتْمَامُ بِهَذَا التَّرَدُّدِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْمُسَافِرِ الْقَصْرُ. وَلَوْ عَرَضَ هَذَا التَّرَدُّدُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ لَمْ يَلْزَمِ الْإِتْمَامُ. وَلَوْ لَمْ يَعْرِفْ نِيَّتَهُ فَعَلَّقَ عَلَيْهَا فَنَوَى إِنْ قَصَرَ قَصَرْتُ، وَإِنْ أَتَمَّ أَتْمَمْتُ، فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: جَوَازُ التَّعْلِيقِ، فَإِنْ أَتَمَّ الْإِمَامُ أَتَمَّ، وَإِنْ قَصَرَ قَصَرَ. فَلَوْ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ أَوْ أَفْسَدَهَا

(1/391)


ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ نَوَيْتُ الْقَصْرَ، فَلِلْمَأْمُومِ الْقَصْرُ. وَإِنْ قَالَ: كُنْتُ نَوَيْتُ الْإِتْمَامَ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ. وَإِنِ انْصَرَفَ وَلَمْ يَظْهَرْ لِلْمَأْمُومِ مَا نَوَاهُ، فَالْأَصَحُّ: لُزُومُ الْإِتْمَامِ. قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ. وَالثَّانِي: جَوَازُ الْقَصْرِ، قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ وَلَمْ يَظُنَّ أَنَّهُ مُسَافِرٌ أَوْ مُقِيمٌ، بَلْ شَكَّ فَيَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ وَإِنْ بَانَ الْإِمَامُ مُسَافِرًا قَاصِرًا. وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّهُ إِذَا بَانَ قَاصِرًا جَازَ الْقَصْرُ وَهُوَ شَاذٌّ.
فَرْعٌ
إِذَا اقْتَدَى بِمُقِيمٍ أَوْ مُسَافِرٍ مُتِمٍّ ثُمَّ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ أَوْ بَانَ مُحْدِثًا أَوْ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ فَاسْتَأْنَفَهَا لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ. وَلَوِ اقْتَدَى بِمَنْ ظَنَّهُ مُسَافِرًا فَبَانَ مُقِيمًا لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ لِتَقْصِيرِهِ، فَإِنَّ شِعَارَ الْمُسَافِرِ ظَاهِرٌ. وَإِنْ بَانَ أَنَّهُ مُقِيمٌ مُحْدِثٌ، نَظَرَ: إِنْ بَانَ كَوْنُهُ مُقِيمًا أَوَّلًا لَزِمَ الْإِتْمَامُ. وَإِنْ بَانَ كَوْنُهُ مُحْدِثًا أَوَّلًا أَوْ بَانَا مَعًا، فَطَرِيقَانِ. أَشْهَرُهُمَا: عَلَى وَجْهَيْنِ. أَصَحُّهُمَا: لَهُ الْقَصْرُ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: لَهُ الْقَصْرُ قَطْعًا، إِذْ لَا قُدْوَةَ. وَلَوْ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ مُقِيمًا ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ مُحْدِثٌ ثُمَّ سَافَرَ وَالْوَقْتُ بَاقٍ فَلَهُ الْقَصْرُ، لِعَدَمِ الشُّرُوعِ الصَّحِيحِ. بِخِلَافِ مَا لَوْ شَرَعَ فِيهَا مُقِيمًا ثُمَّ عَرَضَ سَبَبٌ مُفْسِدٌ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ، لِالْتِزَامِهِ ذَلِكَ بِالشُّرُوعِ الصَّحِيحِ. وَلَوِ اقْتَدَى بِمُقِيمٍ ثُمَّ بَانَ حَدَثُ الْمَأْمُومِ فَلَهُ الْقَصْرُ. وَكَذَا لَوِ اقْتَدَى بِمَنْ يَعْرِفُهُ مُحْدِثًا وَيَظُنُّهُ مُقِيمًا فَلَهُ الْقَصْرُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ شُرُوعُهُ.

(1/392)


فَرْعٌ
الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْجَدِيدُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ الْإِمَامُ إِذَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ بِحَدَثٍ أَوْ غَيْرِهِ مَنْ يُتِمُّ بِالْمَأْمُومِينَ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا فِي بَابِ الْجُمُعَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِذَا أَمَّ مُسَافِرٌ مُسَافِرِينَ وَمُقِيمِينَ فَفَسَدَتْ صَلَاتُهُ بِرُعَافٍ أَوْ سَبْقِ حَدَثٍ فَاسْتَخْلَفَ مُقِيمًا لَزِمَ الْمُسَافِرِينَ الْمُقْتَدِينَ الْإِتْمَامُ. كَذَا قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ. وَيَجِيءُ فِيهِ وَجْهٌ، لِأَنَّا سَنَذْكُرُ وَجْهًا فِي مَسَائِلِ الِاسْتِخْلَافِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ نِيَّةُ الِاقْتِدَاءِ بِالْخَلِيفَةِ. فَعَلَى هَذَا إِنَّمَا يَلْزَمُ الْإِتْمَامُ إِذَا نَوَوُا الِاقْتِدَاءَ. وَإِنَّمَا فَرَّعَ الْأَصْحَابُ عَلَى الصَّحِيحِ أَنَّ نِيَّةَ الِاقْتِدَاءِ بِالْخَلِيفَةِ لَا تَجِبُ. وَأَمَّا الْإِمَامُ الَّذِي سَبَقَهُ الْحَدَثُ وَالرُّعَافُ فَظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقْتَضِي وُجُوبَ إِتْمَامِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ، فَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَالْأَكْثَرُونَ: أَنَّ مُرَادَهُ أَنْ يَعُودَ بَعْدَ غَسْلِ الدَّمِ، وَيَقْتَدِيَ بِالْخَلِيفَةِ، إِمَّا بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ الْقَدِيمِ، وَإِمَّا اسْتِئْنَافًا عَلَى الْجَدِيدِ فَيَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ، لِأَنَّهُ اقْتَدَى بِمُقِيمٍ فِي بَعْضِ صَلَاتِهِ. فَإِنْ لَمْ يَقْتَدِ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِتْمَامُ. وَقِيلَ: يَجِبُ الْإِتْمَامُ عَادَ أَوْ لَمْ يَعُدْ عَمَلًا بِظَاهِرِ النَّصِّ، لِأَنَّ فَرْعَهُ مُتِمٌّ فَهُوَ أَوْلَى، وَغَلَّطَهُ الْأَصْحَابُ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى الْقَدِيمِ، إِنْ سَبَقَ الْحَدَثُ لَا يُبْطِلُهَا، فَيَكُونُ الرَّاعِفُ فِي انْصِرَافِهِ فِي حُكْمِ الْمُؤْتَمِّ بِخَلِيفَتِهِ الْمُقِيمِ. وَضَعَّفَهُ الْأَصْحَابُ أَيْضًا، فَإِنَّ الْبِنَاءَ إِنَّمَا يَجُوزُ عَلَى الْقَدِيمِ، وَالِاسْتِخْلَافَ لَا يَجُوزُ عَلَى الْقَدِيمِ. وَقِيلَ: مُرَادُهُ أَنْ يُحِسَّ الْإِمَامُ بِالرُّعَافِ قَبْلَ خُرُوجِ الدَّمِ فَيَسْتَخْلِفَ ثُمَّ يَخْرُجَ فَيَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ، لِأَنَّهُ صَارَ مُقْتَدِيًا بِمُقِيمٍ فِي جُزْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ. وَضَعَّفَهُ الْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُ، لِأَنَّهُ اسْتِخْلَافٌ قَبْلَ الْعُذْرِ وَلَيْسَ بِجَائِزٍ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: الْإِحْسَاسُ بِهِ عُذْرٌ. وَمَتَى حَضَرَ إِمَامٌ حَالُهُ أَكْمَلُ جَازَ اسْتِخْلَافُهُ.

(1/393)


قُلْتُ: هَذَا كُلُّهُ إِذَا اسْتَخْلَفَ الْإِمَامُ مُقِيمًا. فَلَوْ لَمْ يَسْتَخْلِفْ وَلَا اسْتَخْلَفَ الْمَأْمُومُونَ بَنَوْا عَلَى صَلَاتِهِمْ فُرَادَى. وَجَازَ لِلْمُسَافِرِينَ مِنْهُمْ وَالرَّاعِفِ الْقَصْرُ قَطْعًا. وَكَذَا لَوِ اسْتَخْلَفَ الْإِمَامُ مُسَافِرًا أَوِ اسْتَخْلَفَهُ الْقَوْمُ قَصَرَ الْمُسَافِرُونَ وَالرَّاعِفُ. فَلَوْ لَمْ يَسْتَخْلِفِ الْإِمَامُ الرَّاعِفُ وَاسْتَخْلَفَ الْقَوْمُ مُقِيمًا، فَوَجْهَانِ. حَكَاهُمَا صَاحِبُ (الْحَاوِي) أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَاسْتِخْلَافِ الرَّاعِفِ عَلَى مَا مَضَى. وَأَصَحُّهُمَا: يَجُوزُ لِلرَّاعِفِ هُنَا الْقَصْرُ بِلَا خِلَافٍ إِذَا لَمْ يَقْتَدِ بِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فَرْعًا لَهُ. وَلَوِ اسْتَخْلَفَ الْمُقِيمُونَ مُقِيمًا وَالْمُسَافِرُونَ مُسَافِرًا جَازَ. وَلِلْمُسَافِرِينَ الْقَصْرُ خَلْفَ إِمَامِهِمْ، وَكَذَا لَوْ تَفَرَّقُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ أَوْ أَكْثَرَ وَأَمَّ كُلَّ فِرْقَةٍ إِمَامٌ. نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: نِيَّةُ الْقَصْرِ. فَلَا بُدَّ مِنْهَا عِنْدَ ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ. وَلَا يَجِبُ اسْتِدَامَةُ ذِكْرِهَا، لَكِنْ يُشْتَرَطُ الِانْفِكَاكُ عَمَّا يُخَالِفُ الْجَزْمَ بِهَا. فَلَوْ نَوَى الْقَصْرَ أَوَّلًا، ثُمَّ نَوَى الْإِتْمَامَ، أَوْ تَرَدَّدَ بَيْنَ الْقَصْرِ وَالْإِتْمَامِ، أَوْ شَكَّ هَلْ نَوَى الْقَصْرَ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْحَالِ أَنَّهُ نَوَاهُ، لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ. وَلَوِ اقْتَدَى بِمُسَافِرٍ عَلِمَ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ نَوَى الْقَصْرَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَامَ الْإِمَامُ إِلَى ثَالِثَةٍ، نَظَرَ: إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ نَوَى الْإِتْمَامَ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ سَاهٍ، بِأَنْ كَانَ حَنَفِيًّا لَا يَرَى الْإِتْمَامَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِتْمَامُ، وَيَتَخَيَّرُ إِنْ شَاءَ خَرَجَ عَنْ مُتَابَعَتِهِ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَهُ حَتَّى يَعُودَ. فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ أَتَمَّ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِالْإِمَامِ فِي سَهْوِهِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَحْسُوبٍ لَهُ. وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِمَنْ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَا هُوَ فِيهِ غَيْرُ مَحْسُوبٍ لَهُ، كَالْمَسْبُوقِ إِذَا أَدْرَكَ مِنْ آخِرِ الصَّلَاةِ رَكْعَةً، فَقَامَ الْإِمَامُ سَهْوًا إِلَى رَكْعَةٍ زَائِدَةٍ، لَمْ يَكُنْ لِلْمَسْبُوقِ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ فِي تَدَارُكِ مَا عَلَيْهِ. فَلَوْ شَكَّ هَلْ قَامَ سَاهِيًا أَمْ مُتِمًّا لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ. وَلَوْ نَوَى الْقَصْرَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَامَ إِلَى ثَالِثَةٍ نَظَرَ: إِنْ حَدَثَ مَا يُوجِبُ الْإِتْمَامَ كَنِيَّةِ الْإِتْمَامِ أَوِ الْإِقَامَةِ أَوْ حُصُولِهِ بِدَارِ الْإِقَامَةِ فِي السَّفِينَةِ، فَقَامَ لِذَلِكَ فَقَدْ فَعَلَ وَاجِبَهُ. فَإِنْ لَمْ يَحْدُثْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَقَامَ

(1/394)


عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. كَمَا لَوْ قَامَ الْمُقِيمُ الْمَذْكُورُ إِلَى رَكْعَةٍ خَامِسَةٍ، أَوْ قَامَ الْمُتَنَفِّلُ إِلَى رَكْعَةٍ زَائِدَةٍ قَبْلَ تَغْيِيرِ النِّيَّةِ. وَإِنْ قَامَ سَهْوًا ثُمَّ ذَكَرَ لَزِمَهُ أَنْ يَعُودَ، وَيَسْجُدَ لِلسَّهْوِ وَيُسَلِّمَ. فَلَوْ بَدَا لَهُ بَعْدَ التَّذَكُّرِ أَنْ يُتِمَّ عَادَ إِلَى الْقُعُودِ ثُمَّ نَهَضَ مُتِمًّا. وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ: لَهُ أَنْ يَمْضِيَ فِي قِيَامِهِ. فَلَوْ صَلَّى ثَالِثَةً وَرَابِعَةً سَهْوًا وَجَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ فَتَذَكَّرَ سَجَدَ لِلسَّهْوِ وَهُوَ قَاصِرٌ، وَرَكْعَتَاهُ الزَّائِدَتَانِ غَيْرُ مَحْسُوبَتَيْنِ. فَلَوْ نَوَى الْإِتْمَامَ، لَزِمَهُ أَنْ يَقُومَ وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، وَيَسْجُدَ لِلسَّهْوِ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا مِنْ أَوَّلِ الصَّلَاةِ إِلَى آخِرِهَا. فَلَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي أَثْنَائِهَا، أَوِ انْتَهَتْ بِهِ السَّفِينَةُ إِلَى دَارِ الْإِقَامَةِ، أَوْ سَارَتْ بِهِ مَنْ دَارِ الْإِقَامَةِ فِي أَثْنَائِهَا، أَوْ شَكَّ هَلْ نَوَى الْإِقَامَةَ أَمْ لَا؟ أَوْ دَخَلَ بَلَدًا وَشَكَّ هَلْ هُوَ مَقْصُودُهُ أَمْ لَا؟ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الْعِلْمُ بِجَوَازِ الْقَصْرِ. فَلَوْ جَهِلَ جَوَازَهُ فَقَصَرَ لَمْ يَصِحَّ لِتَلَاعُبِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي (الْأُمِّ) .
قُلْتُ: وَيَلْزَمُهُ إِعَادَةُ هَذِهِ الصَّلَاةِ أَرْبَعًا، لِإِلْزَامِهِ الْإِتْمَامَ. وَالصُّورَةُ فِيمَنْ نَوَى الظُّهْرَ مُطْلَقًا ثُمَّ سَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ عَمْدًا. أَمَّا لَوْ نَوَى جَاهِلَ الْقَصْرِ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ مُتَلَاعِبًا، فَيُعِيدُهَا مَقْصُورَةً إِذَا عَلِمَ الْقَصْرَ بَعْدَ شُرُوعِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ

يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، تَقْدِيمًا فِي وَقْتِ الْأُولَى، أَوْ تَأْخِيرًا فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ، فِي السَّفَرِ الطَّوِيلِ. وَلَا يَجُوزُ فِي الْقَصِيرِ عَلَى

(1/395)


الْأَظْهَرِ. وَالْأَفْضَلُ لِلسَّائِرِ فِي وَقْتِ الْأُولَى أَنْ يُؤَخِّرَهَا إِلَى الثَّانِيَةِ، وَلِلنَّازِلِ فِي وَقْتِهَا تَقْدِيمُ الثَّانِيَةِ. وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ، وَلَا جَمْعُ الصُّبْحِ إِلَى غَيْرِهَا، وَلَا الْعَصْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ. وَأَمَّا الْحُجَّاجُ مِنْ أَهْلِ الْآفَاقِ فَيَجْمَعُونَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ، وَذَلِكَ الْجَمْعُ بِسَبَبِ السَّفَرِ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: بِسَبَبِ النُّسُكِ. فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَفِي جَمْعِ الْمَكِّيِّ الْقَوْلَانِ، لِأَنَّ سَفَرَهُ قَصِيرٌ، وَلَا يَجْمَعُ الْعَرَفِيُّ بِعَرَفَةَ، وَلَا الْمُزْدَلِفِيُّ بِمُزْدَلِفَةَ، لِأَنَّهُ وَطَنُهُ. وَهَلْ يَجْمَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْبُقْعَةِ الْأُخْرَى، فِيهِ الْقَوْلَانِ كَالْمَكِّيِّ. وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، جَازَ الْجَمْعُ لِجَمِيعِهِمْ. وَمِنَ الْأَصْحَابِ يَقُولُ: فِي جَمْعِ الْمَكِّيِّ قَوْلَانِ. الْجَدِيدُ: مَنْعُهُ. وَالْقَدِيمُ: جَوَازُهُ. وَعَلَى الْقَدِيمِ فِي الْعَرَفِيِّ وَالْمُزْدَلِفِيِّ وَجْهَانِ. وَالْمَذْهَبُ: مَنْعُ جَمِيعِهِمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَحُكْمُ الْجَمْعِ فِي الْبُقْعَتَيْنِ حُكْمُهُ فِي سَائِرِ الْأَسْفَارِ. وَيَتَخَيَّرُ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَالِاخْتِيَارُ: التَّقْدِيمُ بِعَرَفَةَ وَالتَّأْخِيرُ بِمُزْدَلِفَةَ.
فَرْعٌ
إِذَا جَمَعَ الْمُسَافِرُ فِي وَقْتِ الْأُولَى، اشْتُرِطَ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ. أَحَدُهَا: التَّرْتِيبُ فَيَبْدَأُ بِالْأُولَى. فَلَوْ بَدَأَ بِالثَّانِيَةِ لَمْ يَصِحَّ. وَتَجِبُ إِعَادَتُهَا بَعْدَ الْأُولَى. وَلَوْ بَدَأَ بِالْأُولَى ثُمَّ صَلَّى الثَّانِيَةَ فَبَانَ فَسَادُ الْأُولَى، فَالثَّانِيَةُ فَاسِدَةٌ أَيْضًا.
الْأَمْرُ الثَّانِي: نِيَّةُ الْجَمْعِ. وَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا تُشْتَرَطُ. وَيَكْفِي حُصُولُهَا عِنْدَ الْإِحْرَامِ بِالْأُولَى أَوْ فِي أَثْنَائِهَا أَوْ مَعَ التَّحَلُّلِ مِنْهَا، وَلَا يَكْفِي بَعْدَ التَّحَلُّلِ. وَلَنَا قَوْلٌ شَاذٌّ: أَنَّهَا تُشْتَرَطُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ بِالْأُولَى، وَوَجْهٌ: أَنَّهَا تَجُوزُ فِي أَثْنَائِهَا وَلَا

(1/396)


تَجُوزُ مَعَ التَّحَلُّلِ، وَوَجْهٌ: أَنَّهَا تَجُوزُ بَعْدَ التَّحَلُّلِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالثَّانِيَةِ. وَهُوَ قَوْلٌ خَرَّجَهَ الْمُزَنِيُّ لِلشَّافِعِيِّ. وَوَجْهٌ آخَرُ لِأَصْحَابِنَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ: أَنَّ نِيَّةَ الْجَمْعِ لَا تُشْتَرَطُ أَصْلًا.
قُلْتُ: قَالَ الدَّارِمِيُّ: لَوْ نَوَى الْجَمْعَ، ثُمَّ نَوَى تَرْكَهُ فِي أَثْنَاءِ الْأُولَى، ثُمَّ نَوَى الْجَمْعَ ثَانِيًا، فَفِيهِ الْقَوْلَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْأَمْرُ الثَّالِثُ: الْمُوَالَاةُ. وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ اشْتِرَاطُهَا. وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ وَأَبُو عَلِيٍّ الثَّقَفِيُّ: يَجُوزُ الْجَمْعُ وَإِنْ طَالَ الْفَصْلُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مَا لَمْ يَخْرُجْ وَقْتُ الْأُولَى. وَحَكَى عَنْ نَصِّهِ فِي (الْأُمِّ) : أَنَّهُ إِذَا صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي بَيْتِهِ بِنِيَّةِ الْجَمْعِ، وَأَتَى الْمَسْجِدَ فَصَلَّى الْعِشَاءَ جَازَ. وَالْمَعْرُوفُ: اشْتِرَاطُ الْمُوَالَاةِ، فَلَا يَجُوزُ الْفَصْلُ الطَّوِيلُ وَلَا يَضُرُّ الْيَسِيرُ. قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ: حَدَّ أَصْحَابُنَا الْيَسِيرَ بِقَدْرِ الْإِقَامَةِ. وَالْأَصَحُّ مَا قَالَهُ الْعِرَاقِيُّونَ: أَنَّ الرُّجُوعَ فِي الْفَصْلِ إِلَى الْعَادَةِ. وَقَدْ تَقْتَضِي الْعَادَةُ احْتِمَالَ زِيَادَةٍ عَلَى قَدْرِ الْإِقَامَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ جُمْهُورَ الْأَصْحَابِ، جَوَّزُوا الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِالتَّيَمُّمِ، وَقَالُوا: لَا يَضُرُّ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِالطَّلَبِ وَالتَّيَمُّمِ لَكِنْ يُخَفَّفُ الطَّلَبُ. وَمَنَعَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ جَمْعَ الْمُتَيَمِّمِ لِلْفَصْلِ بِالطَّلَبِ. وَمَتَى طَالَ الْفَصْلُ امْتَنَعَ ضَمُّ الثَّانِيَةِ إِلَى الْأُولَى، وَيَتَعَيَّنُ تَأْخِيرُهَا إِلَى وَقْتِهَا، سَوَاءً طَالَ بِعُذْرٍ كَالسَّهْوِ وَالْإِغْمَاءِ أَوْ بِغَيْرِهِ. وَلَوْ جَمَعَ فَتَذَكَّرَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهُمَا أَنَّهُ تَرَكَ رُكْنًا مِنَ الْأُولَى، بَطَلَتَا جَمِيعًا، وَلَهُ إِعَادَتُهُمَا جَامِعًا. وَلَوْ تَذَكَّرَ تَرْكَهُ مِنَ الثَّانِيَةِ، فَإِنْ قَرُبَ الْفَصْلُ تَدَارَكَ وَمَضَتِ الصَّلَاتَانِ عَلَى الصِّحَّةِ. وَإِنْ طَالَ بَطَلَتِ الثَّانِيَةُ وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ لِطُولِ الْفَصْلِ بِالثَّانِيَةِ الْبَاطِلَةِ، فَيُعِيدُهَا فِي وَقْتِهَا. فَلَوْ لَمْ يَدْرِ أَنَّهُ تَرَكَ مِنَ الْأُولَى أَمْ مِنَ الثَّانِيَةِ لَزِمَهُ إِعَادَتُهُمَا لِاحْتِمَالِ التَّرْكِ مِنَ الْأُولَى. وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَفِي قَوْلٍ شَاذٍّ: يَجُوزُ كَمَا لَوْ أُقِيمَتْ جُمُعَتَانِ فِي بَلَدٍ، وَلَمْ يَعْلَمِ السَّابِقَةَ مِنْهُمَا، يَجُوزُ إِعَادَةُ الْجُمُعَةِ فِي قَوْلٍ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا جَمَعَ فِي وَقْتِ الْأُولَى، فَلَوْ جَمَعَ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ لَمْ يُشْتَرَطِ التَّرْتِيبُ وَلَا الْمُوَالَاةُ وَلَا نِيَّةُ الْجَمْعِ حَالَ الصَّلَاةِ عَلَى الصَّحِيحِ. وَتُشْتَرَطُ

(1/397)


الثَّلَاثَةُ عَلَى الثَّانِي، فَعَلَى الِاشْتِرَاطِ لَوْ أَخَلَّ بِوَاحِدٍ مِنْهَا صَارَتِ الْأُولَى قَضَاءً، فَلَا يَجُوزُ قَصْرُهَا إِنْ لَمْ نُجَوِّزْ قَصْرَ الْقَضَاءِ. قَالَ الْأَصْحَابُ: وَيَجِبُ أَنْ يَنْوِيَ فِي وَقْتِ الْأُولَى كَوْنَ التَّأْخِيرِ بِنِيَّةِ الْجَمْعِ. فَلَوْ أَخَّرَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ، أَوْ ضَاقَ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ مَا تَكُونُ الصَّلَاةُ فِيهِ أَدَاءً عَصَى وَصَارَتِ الْأُولَى قَضَاءً.
فَرْعٌ
إِذَا جَمَعَ تَقْدِيمًا، فَصَارَ فِي أَثْنَاءِ الْأُولَى أَوْ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الثَّانِيَةِ مُقِيمًا بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ أَوْ وَصُولِ السَّفِينَةِ دَارَ الْإِقَامَةِ - بَطَلَ الْجَمْعُ، فَيَتَعَيَّنُ تَأْخِيرُ الثَّانِيَةِ إِلَى وَقْتِهَا، وَأَمَّا الْأُولَى فَصَحِيحَةٌ. فَلَوْ صَارَ مُقِيمًا فِي أَثْنَاءِ الثَّانِيَةِ، فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَبْطُلُ الْجَمْعُ، كَمَا يَمْتَنِعُ الْقَصْرُ بِالْإِقَامَةِ فِي أَثْنَائِهَا. فَعَلَى هَذَا، هَلْ تَكُونُ الثَّانِيَةُ نَفْلًا أَمْ تَبْطُلُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ كَنَظَائِرِهِ. وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَبْطُلُ الْجَمْعُ صِيَانَةً لَهَا عَنِ الْبُطْلَانِ بَعْدَ الِانْعِقَادِ، بِخِلَافِ الْقَصْرِ، فَإِنَّ وُجُوبَ الْإِتْمَامِ لَا يُبْطِلُ فَرْضِيَّةَ مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ. أَمَّا إِذَا صَارَ مُقِيمًا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الثَّانِيَةِ، فَإِنْ قُلْنَا: الْإِقَامَةُ فِي أَثْنَائِهَا لَا تُؤَثِّرُ فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. الْأَصَحُّ: لَا يَبْطُلُ الْجَمْعُ، كَمَا لَوْ قَصَرَ ثُمَّ أَقَامَ. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) وَآخَرُونَ: الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا أَقَامَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاتَيْنِ، إِمَّا فِي وَقْتِ الْأُولَى، وَإِمَّا فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ قَبْلَ مُضِيِّ إِمْكَانِ فِعْلِهَا. فَإِنْ كَانَ بَعْدَ إِمْكَانِ فِعْلِهَا لَمْ تَجِبْ إِعَادَتُهَا بِلَا خِلَافٍ. وَصَرَّحَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِجَرَيَانِ الْخِلَافِ مَهْمَا بَقِيَ مِنْ وَقْتِ الثَّانِيَةِ شَيْءٌ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا جَمَعَ تَقْدِيمًا. فَلَوْ جَمَعَ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ فَصَارَ مُقِيمًا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهُمَا لَمْ يَضُرَّ. وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْفَرَاغِ صَارَتِ الْأُولَى قَضَاءً.

(1/398)


فَصْلٌ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، بِعُذْرِ الْمَطَرِ.

وَلَنَا قَوْلٌ شَاذٌّ ضَعِيفٌ حَكَاهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي وَقْتِ الْمَغْرِبِ دُونَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا، وَسَوَاءً عِنْدَنَا قَوِيُّ الْمَطَرِ وَضَعِيفُهُ إِذَا بَلَّ الثَّوْبَ، وَالشَّفَّانُ مَطَرٌ وَزِيَادَةٌ.
قُلْتُ: الشَّفَّانُ - بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ، وَآخِرُهُ نُونٌ - وَهُوَ بَرْدُ رِيحٍ فِيهِ نَدْوَةٌ، وَكَذَا قَالَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ. وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَطَرٍ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مَطَرًا وَزِيَادَةً، فَكَأَنَّ الرَّافِعِيَّ قَلَّدَ صَاحِبَ (التَّهْذِيبِ) فِي إِطْلَاقِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ الْمُنْكَرَةِ. وَصَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ: الشَّفَّانُ لَهُ حُكْمُ الْمَطَرِ لِتَضَمُّنِهِ الْقَدْرَ الْمُبِيحَ مِنَ الْمَطَرِ وَهُوَ مَا يَبُلُّ الثَّوْبَ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الشَّفَّانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالثَّلْجُ وَالْبَرَدُ إِنْ كَانَا يَذُوبَانِ فَكَالْمَطَرِ، وَإِلَّا فَلَا. وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ: لَا يُرَخِّصَانِ بِحَالٍ. ثُمَّ هَذِهِ الرُّخْصَةُ لِمَنْ يُصَلِّي جَمَاعَةً فِي مَسْجِدٍ يَأْتِيهِ مِنْ بُعْدٍ وَيَتَأَذَّى بِالْمَطَرِ فِي إِتْيَانِهِ. فَأَمَّا مَنْ يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ مُنْفَرِدًا أَوْ فِي جَمَاعَةٍ، أَوْ مَشَى إِلَى الْمَسْجِدِ فِي كِنٍّ، أَوْ كَانَ الْمَسْجِدُ فِي بَابِ دَارِهِ، أَوْ صَلَّى النِّسَاءُ فِي بُيُوتِهِنَّ جَمَاعَةً، أَوْ حَضَرَ جَمِيعُ الرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ وَصَلُّوا أَفْرَادًا، فَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: عَلَى الْأَظْهَرِ. ثُمَّ إِنْ أَرَادَ الْجَمْعَ فِي وَقْتِ الْأُولَى، فَشُرُوطُهُ كَمَا تَقَدَّمَتْ فِي جَمْعِ السَّفَرِ. وَإِنْ أَرَادَ تَأْخِيرَ الْأُولَى إِلَى الثَّانِيَةِ كَالسَّفَرِ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْأَظْهَرِ الْجَدِيدِ، وَيَجُوزُ عَلَى الْقَدِيمِ. فَإِذَا جَوَّزْنَاهُ، قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: يُصَلِّي الْأُولَى مَعَ الثَّانِيَةِ، سَوَاءً اتَّصَلَ الْمَطَرُ أَوِ انْقَطَعَ. وَقَالَ فِي (التَّهْذِيبِ) :

(1/399)


إِذَا انْقَطَعَ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الثَّانِيَةِ لَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ، وَيُصَلِّي الْأُولَى فِي آخِرِ وَقْتِهَا كَالْمُسَافِرِ إِذَا أَخَّرَ بِنِيَّةِ الْجَمْعِ ثُمَّ أَقَامَ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الثَّانِيَةِ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ يُقَالَ: لَوِ انْقَطَعَ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ قَبْلَ فِعْلِهَا امْتَنَعَ الْجَمْعُ وَصَارَتِ الْأُولَى قَضَاءً كَمَا لَوْ صَارَ مُقِيمًا. وَعَكَسَ صَاحِبُ (الْإِبَانَةِ) مَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ. وَفِي جَوَازِهِ فِي وَقْتِ الْأُولَى، وَجْهَانِ. وَهَذَا نَقْلٌ مُنْكَرٌ. وَأَمَّا إِذَا جَمَعَ فِي وَقْتِ الْأُولَى فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْمَطَرِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاتَيْنِ، وَيُشْتَرَطُ وُجُودُهُ أَيْضًا عِنْدَ التَّحَلُّلِ مِنَ الْأُولَى عَلَى الْأَصَحِّ الَّذِي قَالَهُ أَبُو زَيْدٍ وَقَطَعَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ وَصَاحِبُ (التَّهْذِيبِ) وَغَيْرُهُمْ. وَالثَّانِي: لَا يُشْتَرَطُ. وَنَقَلَهُ فِي (النِّهَايَةِ) عَنْ مُعْظَمِ الْأَصْحَابِ. وَلَا يَضُرُّ انْقِطَاعُهُ فِيمَا سِوَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ. هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَقَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ فِي طُرُقِهِمْ. وَنَقَلَ فِي (النِّهَايَةِ) عَنْ بَعْضِ الْمُصَنِّفِينَ أَنَّهُ قَالَ: فِي انْقِطَاعِهِ فِي أَثْنَاءِ الثَّانِيَةِ أَوْ بَعْدَهَا مَعَ بَقَاءِ الْوَقْتِ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ فِي طَرَيَانِ الْإِقَامَةِ فِي جَمْعِ السَّفَرِ. وَضَعَّفَهُ وَأَنْكَرَهُ، وَقَالَ: إِذَا لَمْ يُشْتَرَطُ دَوَامُ الْمَطَرِ فِي الْأُولَى فَأَوْلَى أَنْ لَا يُشْتَرَطَ فِي الثَّانِيَةِ وَمَا بَعْدَهَا. وَذَكَرَ الْقَاضِي ابْنُ كَجٍّ عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ: أَنَّهُ لَوِ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ الْأُولَى وَلَا مَطَرَ ثُمَّ مَطَرَتْ فِي أَثْنَائِهَا فَفِي جَوَازِ الْجَمْعِ الْقَوْلَانِ فِي نِيَّةِ الْجَمْعِ فِي أَثْنَاءِ الْأُولَى. وَاخْتَارَ ابْنُ الصَّبَّاغِ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ، وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ مَا قَدَّمْنَاهُ.
فَرْعٌ
يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعَصْرِ لِلْمَطَرِ، فَإِذَا قُدِّمَ الْعَصْرُ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْمَطَرِ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ صَاحِبُ (الْبَيَانِ) : وَلَا يُشْتَرَطُ

(1/400)


وُجُودُهُ فِي الْخُطْبَتَيْنِ، وَقَدْ يُنَازَعُ فِيهِ ذَهَابًا إِلَى جَعْلِهِمَا بَدَلَ الرَّكْعَتَيْنِ. قَالَ: وَإِنْ أَرَادَ تَأْخِيرَ الْجُمُعَةِ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ جَازَ إِذَا جَوَّزْنَا تَأْخِيرَ الظُّهْرِ، فَيَخْطُبُ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ وَيُصَلِّي.
فَرْعٌ
الْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بِالْمَرَضِ وَلَا الْخَوْفِ وَلَا الْوَحْلِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: يَجُوزُ بِالْمَرَضِ وَالْوَحْلِ. مِمَّنْ قَالَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا: أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَاسْتَحْسَنَهُ الرُّويَانِيُّ. فَعَلَى هَذَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُرَاعِيَ الْأَرْفَقَ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ يُحَمُّ مَثَلًا فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ قَدَّمَهَا إِلَى الْأُولَى بِالشَّرَائِطِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَإِنْ كَانَ يُحَمُّ فِي وَقْتِ الْأُولَى أَخَّرَهَا إِلَى الثَّانِيَةِ.
قُلْتُ: الْقَوْلُ بِجَوَازِ الْجَمْعِ بِالْمَرَضِ ظَاهِرٌ مُخْتَارٌ. فَقَدْ ثَبَتَ فِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (جَمَعَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ) . وَقَدْ حَكَى الْخَطَّابِيُّ عَنِ الْقَفَّالِ الْكَبِيرِ الشَّاشِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ جَوَازَ الْجَمْعِ فِي الْحَضَرِ لِلْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ الْخَوْفِ، وَالْمَطَرِ، وَالْمَرَضِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(1/401)


فَرْعٌ
إِذَا جَمَعَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ صَلَّى سُنَّةَ الظُّهْرِ ثُمَّ سُنَّةَ الْعَصْرِ ثُمَّ يَأْتِي بِالْفَرِيضَتَيْنِ. وَفِي جَمْعِ الْعِشَاءِ وَالْمَغْرِبِ يُصَلِّي الْفَرِيضَتَيْنِ ثُمَّ سُنَّةَ الْمَغْرِبِ ثُمَّ سُنَّةَ الْعِشَاءِ ثُمَّ الْوِتْرَ.
قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ صَحِيحٌ، وَأَمَّا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فَشَاذٌّ ضَعِيفٌ، وَالصَّوَابُ الَّذِي قَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ: أَنَّهُ يُصَلِّي سُنَّةَ الظُّهْرِ الَّتِي قَبْلَهَا، ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْرَ، ثُمَّ الْعَصْرَ، ثُمَّ سُنَّةَ الظُّهْرِ الَّتِي بَعْدَهَا، ثُمَّ سُنَّةَ الْعَصْرِ. وَكَيْفَ يَصِحُّ سُنَّةُ الظُّهْرِ الَّتِي بَعْدَهَا، قَبْلَ فِعْلِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ وَقْتَهَا يَدْخُلُ بِفِعْلِ الظُّهْرِ؟ ! وَكَذَا سُنَّةُ الْعَصْرِ لَا يَدْخُلُ وَقْتُهَا إِلَّا بِدُخُولِ وَقْتِ الْعَصْرِ، وَلَا يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ الْمَجْمُوعَةِ إِلَى الظُّهْرِ إِلَّا بِفِعْلِ الظُّهْرِ الصَّحِيحَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ الرُّخَصُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالسَّفَرِ الطَّوِيلِ أَرْبَعٌ: الْقَصْرُ،

وَالْفِطْرُ، وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفِّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ، وَالْجَمْعُ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَالَّتِي تَجُوزُ فِي الْقَصْرِ أَيْضًا أَرْبَعٌ: تَرْكُ الْجُمُعَةِ، وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ - وَلَيْسَ مُخْتَصًّا بِالسَّفَرِ - وَالتَّنَفُّلُ عَلَى الرَّاحِلَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَالتَّيَمُّمُ، وَإِسْقَاطُ الْفَرْضِ بِهِ عَلَى الصَّحِيحِ فِيهِمَا.

(1/402)


فَصْلٌ الْقَصْرُ أَفْضَلُ مِنَ الْإِتْمَامِ عَلَى الْأَظْهَرِ.

وَعَلَى الثَّانِي: الْإِتْمَامُ. وَفِي وَجْهٍ: هُمَا سَوَاءٌ. وَاسْتَثْنَى الْأَصْحَابُ صُوَرًا مِنَ الْخِلَافِ.
مِنْهَا: إِذَا كَانَ السَّفَرُ دُونَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَالْإِتْمَامُ أَفْضَلُ قَطْعًا. نَصَّ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَجِدَ مِنْ نَفْسِهِ كَرَاهَةَ الْقَصْرِ، فَيَكَادُ يَكُونُ رَغْبَةً عَنِ السُّنَّةِ، فَالْقَصْرُ لِهَذَا أَفْضَلُ قَطْعًا، بَلْ يُكْرَهُ لَهُ الْإِتْمَامُ إِلَى أَنْ تَزُولَ تِلْكَ الْكَرَاهَةُ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ الرُّخَصِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
وَمِنْهَا: الْمَلَّاحُ الَّذِي يُسَافِرُ فِي الْبَحْرِ، وَمَعَهُ أَهْلُهُ وَأَوْلَادُهُ فِي سَفِينَةٍ، فَإِنَّ الْأَفْضَلَ لَهُ الْإِتْمَامُ. نَصَّ عَلَيْهِ فِي (الْأُمِّ) . وَفِيهِ خُرُوجٌ مِنَ الْخِلَافِ، فَإِنَّ أَحْمَدَ، لَا يُجَوِّزُ لَهُ الْقَصْرُ.
قُلْتُ: وَمِنْهَا مَا حَكَاهُ صَاحِبُ (الْبَيَانِ) عَنْ صَاحِبِ (الْفُرُوعِ) : أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ لَا وَطَنَ لَهُ، وَعَادَتُهُ السَّيْرُ أَبَدًا فَلَهُ الْقَصْرُ، وَلَكِنَّ الْإِتْمَامَ أَفْضَلُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ: أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ لِمَنْ أَطَاقَهُ أَفْضَلُ مِنَ الْإِفْطَارِ عَلَى الْمَذْهَبِ.
قُلْتُ: وَتَرْكُ الْجَمْعِ أَفْضَلُ بِلَا خِلَافٍ، فَيُصَلِّي كُلَّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا، لِلْخُرُوجِ مِنَ الْخِلَافِ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةً مِنَ التَّابِعِينَ لَا يُجَوِّزُونَهُ. وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى أَنَّ تَرْكَهُ أَفْضَلُ: الْغَزَالِيُّ وَصَاحِبُ (التَّتِمَّةِ) . قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي (الْبَسِيطِ) :

(1/403)


لَا خِلَافَ أَنَّ تَرْكَ الْجَمْعِ أَفْضَلُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا جَمَعَ كَانَتِ الصَّلَاتَانِ أَدَاءً، سَوَاءً جَمَعَ فِي وَقْتِ الْأُولَى أَوِ الثَّانِيَةِ. وَلَنَا وَجْهٌ شَاذٌّ فِي (الْوَسِيطِ) وَغَيْرِهِ: أَنَّ الْمُؤَخَّرَةَ تَكُونُ قَضَاءً.
وَغَسْلُ الرِّجْلِ أَفْضَلُ مِنْ مَسْحِ الْخُفِّ، إِلَّا إِذَا تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنِ السُّنَّةِ، أَوْ شَكَّ فِي جَوَازِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْكِتَابِ، لَوْ نَوَى الْكَافِرُ أَوِ الصَّبِيُّ السَّفَرَ إِلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ، ثُمَّ أَسْلَمَ، وَبَلَغَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، فَلَهُمَا الْقَصْرُ فِي بَقِيَّتِهِ. وَلَوْ نَوَى مُسَافِرَانِ إِقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَأَحَدُهُمَا يَعْتَقِدُ انْقِطَاعَ الْقَصْرِ بِهَا، كَالشَّافِعِيِّ، وَالْآخَرُ لَا يَعْتَقِدُهُ كَالْحَنَفِيِّ، كُرِهَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَقْتَدِيَ بِالثَّانِي. فَإِنِ اقْتَدَى صَحَّ. فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ مِنْ رَكْعَتَيْنِ قَامَ الْمَأْمُومُ لِإِتْمَامِ صَلَاتِهِ. وَلَا يَجُوزُ الْقَصْرُ فِي الْبَلَدِ لِلْخَوْفِ وَلَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِي الْخَوْفِ إِلَى رَكْعَةٍ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي (مُسْلِمٍ) : (فُرِضَتِ الصَّلَاةُ فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً) مَعْنَاهُ: رَكْعَةً مَعَ الْإِمَامِ، وَيَنْفَرِدُ الْمَأْمُومُ بِأُخْرَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(1/404)

عن الكاتب

Tanya Ustadz

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية