الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

مقاصد الوقف وأقسامه وفقه تحبيس الكتب

مقاصد الوقف وأقسامه وفقه تحبيس الكتب

المحتويات



مقاصد الوقف وأقسامه

مقاصد الشريعة في الفروع الفقهية محطّ نظر الفقيه النابه ، واهتمام المجتهد الواعي .
المراد بمقصود الشرع : " ما دلت الدلائل الشرعية على وجوب تحصيله والسعي في رعايته ، والاعتناء بحفظه ، ….، وذلك كمصلحة حفظ النفوس ، والعقول ، والفروج ، والأموال ، والأعراض…
ينطلق الفقهاء في المقاصد الشرعية من قاعدة أساسية هي : أن الأصل في الأحكام المعقولية لا التعبد ؛ لأنه أقرب إلى القبول ، وأبعد عن الحرج ، وفصل في هذا بعضهم فقال : إن الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد، دون التفات إلى المعاني ، وأصل العادات الالتفات إلى المعاني …"( ).

من المُسَلَّم به أن " مقاصد الشريعة قِبَلة المجتهدين ، من توجه إلى جهة منها أصاب الحق " كما قال هذا حجة الله الإمام الغزالي رحمه الله تعالى( ) . اختلفت المذاهب الفقهية في المقصد الشرعي من ( الوقف ) : هل هو القربة والصدقة ، أو الهبة والعطية ؟ أو القربة والهبة مجموعة ، بمعنى أنه يصح أن يكون قربة ، كما يصح أن يكون عطية ، فهو صحيح في كل حالة منها مجموعة ؟


أولاً : القربة والصدقة:

في المذهب الحنبلي : المقصد من الوقف القربة :
فهم يشترطون : " أن يكون الوقف ( على بر ) ، وهو اسم جامع للخير ، وأصله الطاعة لله تعالى ، فلا بد من وجودها فيما لأجله الوقف ؛ إذ هو المقصود ، سواء كان الوقف ( من مسلم ، أو ذمي ) … "( ) ، كما " ( يصح ) الوقف (على ذمي) معين ( غير قريبه ) ولو من مسلم لجواز صلته …"( ) .
في ضوء هذا الشرط أخرج الحنابلة صراحة ضمن من لا يصح الوقف عليهم : "طائفة الأغنياء "( ).


ثانياً : العطية والهبة .

مذهب المالكية :

يعد الوقف عند المالكية من العطايا والهبات ، لا من باب الصدقات ، ولا يتنافى هذا من اعتبار بعضه من القربات ، بل من أحسن القربات ، كما تقدم هذا آنفاً ؛ لذا فإنه لا يشترط لديهم لصحة الوقف القربة ، فيصح الوقف عندهم على الغني، والذمي :
يذكر العلامة عبد الباقي الزرقاني هذا صراحة في شرحه على متن سيدي خليل قائلاً:
" (و) صح وقف من مسلم على( ذمي) أي تحت ذمتنا ، وإن لم يكن له كتاب … ( وإن لم تظهر قربة ) كعلى أغنيائهم ، ؛ لأن الوقف من باب العطايا والهبات ، لا من باب الصدقات .
وجاز أيضاً لصلة رحم ، وإلا كره .
فالوقف على أغنياء المسلمين دون فقرائهم ، أو على ذي حاجة دون مضطر صحيح ، وهو من فعل الخير في الجملة …"( ) .
" وفي نوازل ابن الحاج :
من حبس على مساكين اليهود والنصارى جاز لقوله تعالى ( ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً ، وأسيراً ) ( سورة الإنسان ، آية رقم 8 ) ولايكون الأسير إلا مشركاً …"( )


ثالثاً: القربة والعطية جميعاً.

ذهب إلى هذا الحنفية والشافعية وأنه يجمع بين الأمرين : القربة ، والعطية.
فقد ورد في التعريف السابق للوقف عند الحنفية العبارة التالية :
" التصدق بمنفعة العين ، أو صرف منفعتها إلى من أحب " بما يفيد التوسع في أغراض الوقف ليصح ما يكون منه قربة ، أو مجاملة وتودداً ، وهو ما ورد التصريح به في العبارة التالية :
" وإنما قلنا : ( أو صرف منفعتها …) ؛ لأن الوقف يصح لمن يحب من الأغنياء بلا قصد القربة ، وهو وإن كان لابد في آخره من القربة بشرط التأبيد ، وهو كذلك ، كالفقراء ، ومصالح المساجد ، لكنه يكون وقفاً قبل انقراض الأغنياء بلا قصد …"( )

وكذلك المذهب عند الشافعية في الأصح فقد ورد ذكر التالي :
" وإن وقف على مسلم ، أو ذمي ( على جهة معصية كعمارة ) نحو الكنائس المقصودة للتعبد ، وترميمها …( فباطل ) ، ( أو ) على ( جهة قربة كالفقراء ، والعلماء صح ، أو على جهة لاتظهر فيها القربة كالأغنياء صح في الأصح ) كما يجوز بل تسن الصدقة عليهم .

فالمراعى انتفاء المعصية عن الجهة فقط ؛ نظراً إلى أن الوقف تمليك كالوصية ، فمن ثم استحسنا بطلانه على أهل الذمة والفساق ؛ لأنه إعانة على معصية …"( )
أثمر هذا الاختلاف في المقصد الشرعي الأساس بين المذاهب صوراً إيجابية في التوسع في أغراض الأوقاف( ) ؛ إذ ليس بالضرورة لصحته أن يتعين قصد القربة ، ولكن يكفي في صحته خلوه من المخالفات الشرعية ، فتوسعت في الماضي توسعاً عظيماً ، فمن ثم أدى الوقف بجميع أقسامه الخيري ، والذري ، والمشترك بينهما خدمات جليلة كانت مصدر خير للأفراد والمجتمع عبر عصور الازدهار والانحطاط على السواء ، وتحقق من خلاله للمجتمع الإسلامي المقاصد الشرعية الكلية الثلاثة :
الضرورية - والحاجية - والتحسينية
في مختلف الأزمنة والأمكنة على مستوى العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه ، ولجميع طبقات أفراد المجتمع.

هذا الشمول في المقاصد قد لا يتوافر في قربة أخرى .
حقق الوقف في الماضي الكثير من المقاصد الضرورية، متمثلة في إقامة المصحات ، والمستشفيات، وإقامة سبل الماء في المدن ، والقرى ، ونشرها على طرق المسافرين ، ولا أدلَّ على هذا من الآثار الباقية من البرك والسبل المنتشرة على الطرق المؤدية إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج .
ومما يحقق مقصداً ضرورياً مُلِحاً في الوقت الحاضر إنشاء مراكز البحوث والإنفاق عليها لتقوم بالدراسات التي تعين على حفظ ضرورة من الضرورات الخمس :

العقل: بمثل بناء المصحات النفسية ، أو تمويل البحوث التي تقضي على بعض الأخطار من الأمراض الجسمية كالإيدز ، أو تمويل البحوث والدراسات الشرعية والإنسانية، وتنشيط حركة التأليف فيها ، وكإقامة المشاريع ، أو المصانع التي تهيئ لشباب الأمة الرزق الحلال في يسر واطمئنان ، وغيرها من الأمور التي تلبي مطلباً ضرورياً ، وتوفر للأمة حياة رخية سعيدة آمنة يتحقق بها عَمَار الدنيا وصلاحِها .

الوقف الخيري في جميع أشكاله وضروبه يتحسس ضروريات المجتمع وحاجاته، يحقق آماله ، ويكفكف آلامه سواء في هذا المسلمون وغيرهم ممن يستظل بظله ، فإنه يسمح أن يكون للذميين نصيب من الاستفادة منه ، لا يمنع المتبرع به منهم سواء لبني ملتـه ، أو لأحد من المسلمين دون تمييز في الأخذ ، أو العطاء لتحقيق ما فيه مصلحة دنيوية ؛فقد ورد النص بأنه لا مانع من :
قبول الهبات والعطايا من الكفار " لبناء الطرق ، وإصلاح الأنهار ، وبناء المستشفيات ، وعلاج المرضى ، وتسبيل الماء "( )
وكما يصح تبرع الذمي فإنه يصح الوقف " من مسلم على ذمي معين متحد ، أو متعدد ، كما يجوز التصدق عليه ، ما لم يظهر في تعيينه قصد معصية "( )
كما حقق الوقف في الماضي المقاصد الحاجية للمجتمع الإسلامي بما يخفف به العبء والمشقة عن فئة من فئاته ،كبناء دور للعجزة والمحتاجين ، ، أو بناء دور للأيتام ، والأرامل ، وغير ذلك مما يخفف عن طبقة منهم عناء الحياة وتكاليفها: كإنشاء وقف يخصص دخله منحاً لطلاب العلم الفقراء لإكمال دراساتهم ، وقضاء حوائجهم ، كانت المدارس في الماضي تبنى ويبنى معها سكن الطلاب وتقديم ما يحتاجون إليه في دراساتهم وأمور معاشهم .

مقاصد الوقف في تاريخ الأمة الإسلامية لم تتوقف ، ولا تتوقف عند هذين المقصدين فقد يكون الوقف محققاً مقصداً تحسينياً تكميلياً كتحسين مرفق من المرافق العامة ، أو صيانتها للحفاظ عليها، أو إيجاد وسائل من شأنها أن تظهر الأمة بالمظهر اللائق بها أمام غيرها من الأمم .
هذا التقسيم للوقف من حيث مقاصده ، قسمه الفقهاء تقسيماً آخر باعتبار الجهة الموقوف عليها بحيث يمكن أن يتضمن كل قسم مقصداً أو أكثر من تلك المقاصد :


أقسام الوقف باعتبار الجهة الموقوف عليها


القسم الأول : الخيري :

" وهو الوقف على جهات البرّ ، كالفقراء ، والمساكين ، والمساجد ، وما إلى ذلك "( )
وهو بالأصالة " … يستهدف تحقيق مصلحة عامة ، كالوقف على المساجد، ودور العلم ، وعلى العلماء ، والفقراء ، والمستشفيات ، ويسمى هذا النوع من الوقف أيضاً بالوقف المؤبد ، أو المطلق ؛ لكون مصرفه دائماً في جميع أدواره عائداً على الجهة التي سماها الوقف في حدود الجواز الشرعي .
وقيل إن الوقف الخيري هو : ما جُعل ابتداءً على جهة من جهات البرّ ، ولو لمدة معينة يكون بعدها على شخص ، أو أشخاص معينين فإذا وقف إنسان داره لينفق غلتها على المحتاجين من أهل بلده كان الوقف خيرياً "( ) .

هذا القسم من الأوقاف يوفر للأمة المرافق الضرورية ، والحاجية ،والتحسينية تبعاً لقصد الواقف ومقدار حاجة المجتمع للمرفق الموقوف عليه .


القسم الثاني : الأهلي:

" وهو ماجعل أول الأمر على معين سواء كان واحداً ، أو أكثر .
وهو يستهدف تحقيق مصلحة خاصة كالوقف على الذرية ، والأقارب .
ويسمى هذا النوع من الوقف بالوقف : المؤقت ، والتوقيت هنا وصف حقيقي للوقف ، يعني أنه إذا انتهى الأجـل المضروب للوقف ، أو مات الموقوف عليه ، أو عليهم انتهى الوقف بذلك، وعاد الموقوف ملكاً للواقف إن كان حياً ، أو لوارثه وقت وفاته إن كان ميتاً "( ) حيث يحافظ على كيان الأسرة ، ويحقق لأجيالها القادمة ما يعينها على نوائب الدهر ، وأزماته .


االأوقاف في الحرمين الشريفين

حقق المسلمون في كافة الأزمنة والأمكنة هذه المقاصد بوعي تام فاستقامت أمور حياتهم ،ولنأخذ مثالاً قريباً من الواقع الأوقاف في بلاد الحرمين الشريفين .
كان للحرمين الشريفين النصيب الأكبر من عناية المسلمين بعامة ، ومن الخلفاء والسلاطين ، والأمراء ، وأغنياء المسلمين من الأهالي والمقيمين وغيرهم من أبناء الأمة الإسلامية على مدار التاريخ الإسلامي ، فتحقق لبلاد الحرمين الشريفين من المؤسسات العلمية ، والخيرية ما لم يتحقق في بلاد الواقفين ؛ ذلك أن الحسنات فيهما تتضاعف ، وأنهما يجب أن يكون الأكمل والأرقى في بلاد الإسلام، وأن أي أثر حسن فيهما يُخَلَّد به ذكر صاحبه مدى الدهر .

سجل التاريخ في هذا المجال أياد بيضاء لكثير من المسلمين القادرين أفراداً وحكاماً ؛ براً منهم بأهل الحرمين الشريفين، تذكر لهم فتشكر ، ويثنى عليها بالدعاء والرحمة للواقفين لإسهامهم في إسعادهم ، ونشر العلوم والمعارف بين أهلهما والمقيمين فيهما ، ومن يقصدهما للحج ، أو العمرة ، أسسوا فيهما المدارس ، ودور العلم ، والمكتبات ، ومساكن للعلماء ، وطلاب العلم ، والفقراء ، والمحتاجين، والمستشفيات ، والمصحات ، حبسوا لها العقارات ، والأطيان داخل الحرمين وخارجهما ، تدرّ عليها النفقة ؛ لتكفل لها البقاء والاستمرار فتؤدي وظيفتها على الوجه الأكمل .، برغم اندثار الكثير منها ، ولكن الأثر الطيب يبقى ذكرى حسنة لصاحبه لا ينساها التاريخ
يذكر الأديب المؤرخ المكي الشيخ محمد عمر رفيع في هذا الصدد قائلاً :
" …ولنعد الآن نذكر ما وفق الله إليه المسلمين ، وملوكهم ، وأولي الثراء منهم من بناء المدارس ، والمساكن لطلبة العلم ، والمجاورين بمكة ، بل ولمن يفد من ممالكهم ليسكنوها زمن أدائهم للفريضة مجاناً .

ولو أردنا استيعاب ذلك كله لطال بنا القول ، ولكن سأذكر بعض ما شهدته قائماً من دور شُيدّتَ لطلبة العلم ، وُنُزلاً للحجاج ، والوافدين ، والمجاورين ، وغير ذلك من أعمال البرّ والرعاية ، وإني لأعتقد جازماً أن جميع ما كان ملتفاً حول المسجد من مبان ، ودور كانت كلها ، أو جُلَّها من الأوقاف التي خصصت للعناية بالعلم وطلبته ، وما كان منشأ إطلاق المكيين عليها كلمة ( مدارس ) إلا بهذا السبب، ولكن لكثرة الفتن ، وما حاق بالمسلمين من كوارث في معظم أقطارهم أضاع الكثير مما كان موقوفاً ، ومخصصاً ريعه للإنفاق عليها ، وتحقيق الغاية التي أنشئت لأجلها ، كما أبان الأمير شكيب أرسلان عن ذلك … فاستولى على المدارس من كان يسكنها ، أو أحفادهم من طلبة العلم ، واستولى على بعضها أولوا النفوذ والحكم ، أو أصبحت تستعمل لغير ما بنيت له . .." .
ثم يستمر رحمه الله تعالى في تعداد بعض الأوقاف بمكة المكرمة ، المعروفة على عهده الذي لا يبعد عن حاضرنا بأكثر من نصف قرن من الزمان تقريباً قائلاً:

" فمدرسة قايتباي وهي أكبر ما أنشئ للدراسة بجوار المسجد الحرام ، أنشأها أحد سلاطين المماليك المدعو ( محمد قايتباي المحمودي ) في القرن التاسع ، وكانت هذه البناية تشغل حيزاً يبدأ مما كان يعرف قبل التوسعة ( بباب السلام الصغير ) إلى الباب المسمى ( بباب النبي ) من أبواب المسجد الحرام، وكان مما يلي المسجد منها ، ويسمى بالمدارس نحو ست مدارس ، وكان مما يلي المسعى نحو ستة دور مخصصة لسكن الطلبة ، وكان للمدرسين والطلبة جرايات ونفقات من أوقاف أقامها السلطان المشار إليه بمصر ، ذكرها ( الإسحاقي ) في تاريخه ، وذكر أنها خصصت لطلبة العلم الشوافع ، والأحناف .

وقد كان فيما بين باب ( الزيادة ) وباب ( دريبة ) بيمارستان ، ( مستشفى ) أنشأه أحد خواص الخليفة المستنصر العباسي ، فلما سقطت الدولة العباسية وانقطع ما كان يرد لإقامة المستشفى فيما أسس له … خرب المستشفى ، وأصبح أنقاضاً فلما آلت البلاد إلى الحكومة العثمانية ، وبعد عدة سنوات ، وتولى السلطة السلطان سليمان القانوني بن السلطان سليم المعروف بياوز سليم ، وهو الذي استولى على مصر وتبعها الحجاز ، فإنه أول من حكم من العثمانيين مكة .

وفي حدود عام 973 هـ أمر السلطان المشار إليه ببناء أربع مدارس، يدرس فيها الفقه على المذاهب الأربعة ، فبنيت في مكان المستشفى بعد أن ضم إليه منازل من أوقاف بعض سلاطين المماليك الجراكسة كانت بجواره ، وداراً لأمير مكة وقتئذ تبرع بها للمشروع ،كما بنى خلف المدارس مساكن للطلبة عرفت مؤخراً برباط السليمانية ، وخصص للمدرسين والطلبة نفقة شهرية ويومية ، وأوقف لذلك بعض أوقاف الشام ، والأناضول ، ومصر تجبى من دخولها وغلالها النفقة المذكورة ،

وكان للمدارس والمساكن مدخل من باب الدريبة ، ومدخل خاص من شارع على المسجد عرف بباب (السليمانية) نسبة لمدارس السلطان سليمان المنوه عنه ، وقد ظلت المدارس المذكورة تقوم بواجباتها إلى نهاية القرن الحادي عشر الهجري ، وممن تولى التدريس فيها في العقد الربع من القرن المذكور في المدرسة المخصصة لفقهاء الحنفية الشيخ عبد الرحمن المرشدي ، ولاه التدريس فيها أمير مكة الشريف إدريس ، كما ولي المشار إليه قبل ذلك التدريس في مدرسة محمد باشا التي كانت في أول المدخل إلى باب الزيادة من جهة سويقة .. . فإنها من المدارس التي ظلت قائمة إلى عهد مشروع توسعة المسجد الحرام وكانت تعرف برباط محمد باشا…

كانت هذه المدرسة في مدخل باب الزيادة مما يلي سويقة، بنى المشار إليه المدرسة مستوفية بكل حاجات الطلبة ، والمدرسين ، فقد كان بها مطبخ واسع ، وبئر لسقي الماء منه ، ورحى لطحن الحب ، وحجرة واسعة لسكن الطلبة ، كما بنى بجوارها وعلى التصاق بها مساكن للنساء يسكنها منهن من لا عائل لها ، ولا مسعفاً ، … وكان الطابق الأرضي من المدرسة معمولاً على شكل غرف يسكنها فقراء الحجاج زمن موسم الحج ، … وعند مدخل باب ( العتيق ) وباب (الباسطية) وفيما بينهما أنشأ ( الزمامي ) أحد المماليك مدرسة عرفت مؤخراً ( برباط الزمامية) ، هذه المدرسة ليست كسابقتها في الضخامة والكبِرَ ، بل الذي فضل منها بضع غرف كان يسكنها الطلاب ، وغُرفَتان كبيرتان للتدريس ، وكان لها باب شارع على المسجد … وقد زال كل ذلك وهدم في توسعة المسجد ولم يعد له أثر .
وإذا انتقلنا إلى ما بين ( باب إبراهيم ) و( باب العمرة ) وجدنا المدرسة الداودية ؛ نسبة إلى منشئها داود …

هذه المدرسة كانت مساكن الطلبة فيها من طابقين ، في كل طابق حجر تدور على ردهة مكشوفة ، وفي الردهة صنابير أو ( بزابيز ) … وبيوت للخلاء ، ومما يلي المسجد بناية لازقة بمقر الطلبة تحتوي على إيوان كبير شارع على المسجد بشبابيك وطبق، وباب على المسجد ينزل إليه بعدة درجات … وظلت بناية الطلبة إلى عهد توسعة المسجد يسكنها بعض المجاورين بمكة لطلب العلم في المسجد الحرام من مختلف الأجناس ، يتيسر سكناهم فيها بترخيص من مديرية الأوقاف، على أن بعض أحفاد طلبة العلم من المكيين كانوا يتوارثون الانتفاع بها .

ولقد سرد صاحب العقد الثمين : أنه كان على عهده بمكة نحو خمسين رباطاً كلها مخصصة لسكن طلبة العلم بالمسجد الحرام ، ولسكن الأرامل والضعفاء من الرجال والنساء ، والمنقطعين للعبادة ، ولم تنقطع هذه المبرة . بل ظل العمل فيها مستمراً، وقد شارك فيه الكثير من المكيين ، والحجازيين ، وسلاطين بعض أقاليم المسلمين وحكامهم .

[يقول الأستاذ محمد عمر رفيع رحمه الله تعالى ]: فإنني أعرف لسلاطين بخارى ، وبعض أمرائها عدة دور موقوفة ليسكنها حجاج تلك الجهات عند قدومهم لأداء فريضة الحج ، وكذلك لنواب حيدر أباد عدة دور لهذه الغاية ، ولبعض أمراء الهند الآخرين مثل ذلك .

وللمكيين، والحجازيين عدة أربطة موقوفة لغاية نبيلة مثل : رباط آل باناجة، ورباط الشحومي للنساء الأرامل ، وأعرف رباطين كانا بالشامية لآل سلطان ، أحدها للفقراء من الرجال ، والآخر للنساء ، ورباطان في حارة الباب للشريف جنيدة .

هذا في العهد القريب أما في العهد الأبعد فقد سبق ماذكره العلامة الفاسي في العقد الثمين ، وحكيناه عنه "( )
ومما أذكره شخصياً رباطاً بداخل حي أجياد يقال له رباط ( الملك سعود ) يسكنه طلاب العلم المغتربين ، كان ناظره الشيخ عوض سرور الصبان ، أحد كبار وجهاء مكة المكرمة وعلمائها .
وقد ذكر الفاسي في كتابه المسمى بـ (العقد الثمين أسماء إحدى عشرة مدرسة بمكة المكرمة ، محدداً مواقعها من المسجد الحرام بأسمائها، وأسماء واقفيها، وتاريخ وقفيتها. ( )
غلب على المسلمين عبر القرون الإسلامية الماضية الاهتمام بالنواحي العلمية والثقافية ، فكانت سلسلة متصلة الحلقات ، كان لمكة المكرمة من عطف الأمة الإسلامية النصيب الأوفر ، لا يزال بعض هذه المكرمات من الأوقاف قائماً لها الأثر الكبير على العالم الإسلامي بعامة ،والبلاد العربية السعودية بخاصة في ماضيها وحاضرها أمثال المدارس :

المدرسة الصولتية التي لا تزال - بحمد الله وفضله - تزود العالم الإسلامي بالعلماء، والقضاة ، والأدباء ، والمفكرين - مثالاً شاهداً قائماً في الوقت الحاضر على هذه العناية والاهتمام ، قام بتشييدها العلامة الشيخ رحمة الله الهندي مؤلف كتاب ( إظهار الحق في الرد على المسيحيين والمبشرين ) بعد أن استقر به المقام بمكة المكرمة فأنشأ هذا الصرح العلمي المكين ، وإلى جانبها مسجد ، ومكتبة ، وسكن للمنقطعين للدراسة في محلة ( حارة الباب ) بالخندريسة ، ساعده على بنائها إحدى فضليات النساء الهنديات ، فما كان من الشيخ رحمه الله إلا أن سمى المدرسة باسمها ، فقد كانت تدعى ( صولت النساء ) ، فدعا المدرسة بـ( الصولتيه) .

مدرسة الفلاح بمكة المكرمة : أسسها الشيخ محمد على زينل رحمه الله تعالى بعد أن أسس سابقتها بجدة ، فمنذ عام تأسيسها عام 1330 هـ وهي تخرج للبلاد كبار العلماء والأدباء ، والقضاة ، والمدرسين الذين قامت على أكتافهم النهضة الحديثة في المملكة العربية السعودية والعهد السابق ، ولازالت تؤدي دورها مواكبة النهضة الحديثة في مناهجها ، ومرافقها العلمية .

لا يزال للمتخرجين من هاتين المدرستين الدور الفاعل في عموم البلاد العربية والإسلامية ، يقول العلامة المؤرخ الشيخ محمد عمر رفيع موثقاً هذه الحقائق التاريخية :
"قد كان لكلا المدرستين أطيب الأثر في تخريج ناشئة متعلمة كانت الدعامة الأولى للدوائر الحكومية عندما مست الحاجة . كما أن سابقتها المدرسة الصولتية أنجبت من العلماء والفضلاء من عينوا قضاة في المحاكم سواء في العهد الهاشمي ، أو في العهد السعودي "( )
كان إلى جانب هاتين المدرستين بمكة المكرمة إلى العهد القريب مدارس أخرى وقفية أمدَّت بلادنا العربية السعودية ، والأمة الإسلامية على مختلف أقطارها، وأجناس أهلها بالمتعلمين ، والمثقفين ، والأدباء ، والعلماء ، في المجالات المختلفة من هذه المدارس :

المدرسة الرشيدية ، ومدرسة دار الفائزين ، والمدرسة الفخرية كما يذكر الأستاذ محمد عمر رفيع أنه :
" في عام 1327 هـ قدم الشيخ عبد الكريم الطرابلسي الشامي ، وأنشأ مدرسة في دار كانت تعرف ب ( دار العنتيلي ) في الطريق ما بين حمام باب العمرة وباب الباسطية ، وهي أول مدرسة استعملت إلقاء الدرس على السبورة ، وإجلاس الطلبة على مقاعد على الطريقة القائمة الآن .." ( )
خرجت هذه المدارس الأعداد الكبيرة من المثقفين الذين قامت على أكتافهم نهضة البلاد هنا وفي كثير من البلاد العربية والإسلامية .

أما المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام فقد حَظِيَت بالكثير من إنشاء المدارس التي خرجت للمجتمع الكثير من العلماء ، والقضاة ، والمدرسين ، والأدباء من أهمها :
دار العلوم الشرعية، التي كان للمتخرجين فيها أثر كبير في النهضة العلمية والأدبية الحاضرة في المملكة العربية السعودية .

كان المسجد النبوي الشريف مُحَاطاً بالمدارس ، والرباطات التي تأوي العلماء وطلاب العلم .
ومما يلفت الانتباه تقلص الأوقاف و انحسارها حول المسجد الحرام و المسجد النبوي الشريف بعد توسعة الحرمين الشريفين ، هذا بالنسبة للأوقاف القديمة ، أما بالنسبة لإنشاء أوقاف جديدة فلم تبق رغبة وتوجه نحو هذا لدى عامة الناس ، و إن وجد فلدى أفراد لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة ، والملاحظ في الوقت الحاضر التركيز على أهمية الوقف الإسلامي في المؤسسات العلمية ، ومراكز البحوث الاقتصادية لاستعادة دوره في تنمية المجتمع ، وتحقيق الرخاء فيه لاستعادة دوره السابق في سدّ حاجات المجتمع العلمية ، والمعيشية ، والاقتصادية ، والأمل أن يكون لهذه الدراسات نتائج فعلية على توجيه المجتمع الإسلامي لاستعادة الأوقاف الإسلامية دورها في سد العجز المالي الذي تعانيه بعض مجتمعاتنا الإسلامية ، وحافزاً للنهوض بالمؤسسات العلمية البحثية ، والاجتماعية .


فقه تحبيس الكتب

إشاعة العلم والمعرفة مقصد من أهم مقاصد الشريعة الإسلامية ، إن لم يكن من الضروريات فهو من الحاجيات في التقدير الأدنى ، والكتاب أحد أهم أوعية المعرفة ، وهو الوسيلة الناجحة لإحراز التقدم والحضارة والوسائل تأخذ حكم المقاصد فقهاً .

الأمة الإسلامية هي أمة الكتاب بالمعنى الخاص ، والمعنى العام، اهتمت به منذ بزوغ فجر النبوة ، وإشراق الرسالة المحمدية ، فشاع بينها وذاع ، وأبدعت في سبل تيسير اقتنائه ، والحصول عليه ، فاصبح تحبيس الكتب ووقفها في المساجد ، والمدارس ، والمكتبات العامة مصدراً من مصادر إشاعته ، بل إن شعيرة الحج كانت واحدة من أهم الوسائل لتحقيق هذا المقصد الشرعي ، فانتشرت الكتب بين الأقطار والشعوب الإسلامية ، وعمَّ نفعها عن طريق إقامة هذه الشعيرة .

الكتاب الأندلسي ، والمغربي ، والمصري ، والشامي ، والعراقي ، واليمني ، ومؤلفات علماء ما وراء النهرين تجد طريقها إلى بلاد الحرمين الشريفين: مكة المكرمة ، والمدينة المنورة فيتلقاها علماؤهما، يتبادلون مع علماء تلك البلاد مؤلفاتهم فينتشر الكتاب الإسلامي بين علماء الشرق والغرب ، والشمال ، والجنوب للبلاد الإسلامية دون حَجْر أو تضييق ، يوقف هؤلاء وأولئك على المؤسسات العلمية بالحرمين الشريفين ، فأثرت مكتباتهما بنوادر المخطوطات تحدثت عنها كتب التاريخ

أدت هذه الحركة للكتاب ، واتساع الوقف فيه في كل قطر إلى فقه خاص بتحبيس الكتب ، ومن ثم إعارتها ، والتعامل مع طلابها بما امتلأت به كتب الفتاوى، وفيما يلي نماذج مختارة من هذا الفقه :
" قال البرزلي رحمه الله تعالى في مسائل الحبس :
سئل القابسي عمن حبس كتباً وشرط في تحبيسه أنه لا يعطى إلا كتاب بعد كتاب ، فإذا احتاج الطالب إلى كتابين ، أو تكون كتباً شتى فهل يعطى كتابين منها أم لا يأخذ منها إلا كتاباً بعد كتاب ؟
فأجاب :

إن كان الطالب مأموناً ، واحتاج إلى أكثر من كتاب أخذه ؛ لأن غرض المحبس أن لا يضيع ، فإذا كان الطالب مأموناً أمن هذا، وإن كان غير معروف فلا يدفع إلا كتاب واحد ، وإن كان من أنواع العلوم خشية الوقوع في ضياع أكثر من واحد "( ) .

ومثال آخر يتعلق بتثبيت وقفية الكتاب من كتابة الوقفية على بعض صفحاته دون معرفة أصل وقفيته ما ذكره العلامة الحطاب تحت عنوان :
" مسألة : ما تقولون في كتب العلم توجد على ظهورها وهوامشها كتابة الوقف هل للحاكم أن يحكم بكونها وقفاً بذلك ؟
قيل : هذا يختلف باختلاف قرائن الأحوال .

فإن رأينا كتباً مودعة في خزانة مدرسة وعليها كتابة الوقف ، وقد مضى عليها مدة طويلة كذلك ، وقد اشتهرت بذلك لم يشك في كونها وقفاً ، وحكمها حكم المدرسة في الوقفية .
فإن انقطعت كتبها ، أو فقدت ، ثم وجدت وعليها تلك الوقفية وشهرة كتب المدرسة في الوقفية معلومة فيكفي في ذلك الاستفاضة ، ويثبت مصرفه بالاستفاضة، وأما إذا رأينا كتباً لانعلم مقرها ، ولانعلم من كتب عليها الوقفية فهذه يجب التوقف في أمرها حتى يتبين حالها ، وهوعيب يثبت للمشتري به الرد .

فإذا تقرر هذا فينبغي الاعتماد على ما يوجد على أبواب الربط ، والمدارس ، والأحجار المكتوبة عليها الوقفية ، وتخليص شروطها إذا كانت تلك الأحجار قديمة، واشتهر ذلك ، ويقبل قول المتولي لذلك الوقف في مصرفه إذا لم يوجد كتاب الوقف"( ) .
من هذه النماذج الكثيرة المتعددة في مجال وقفية الكتب مسألة( ) وقعت بتونس : حَبَسَ الأمير أبو الحسن كتباً لمدرسة ابتدأها بالقيروان ، وأخرى بتونس ، وجعل مقرها بيتاً بجامع الزيتونة ، فلما أيس من تمامها قُسمَّت الكتب على مدارس تونس ، إلى غير ذلك من النوازل ، والفتاوي الجمّة الكثيرة التي امتلأت بها كتب الفقه والفتاوى ، مما يستحق أن يستقل به مؤلف متعدد الأجزاء .

تعليق ختامي

( ) أبو سليمان ، عبد الوهاب ، منهج البحث في الفقه الإسلامي خصائصه ونقائصه ، الطبعة الأولى ، ( مكة المكرمة : المكتبة المكية ، عام 1416 / 1996) ص91 . ؛ وانظر : فخر الدين الرازي ، الكاشف عن أصول الدلائل وفصول العلل ، ص53 . ؛ المقري ، أبو عبدالله محمد بن أجمد ، تحقيق : أحمد بن حميد ، القواعد ، ج 1 ، ص 296 .
( ) السيوطي ، جلال الدين عبد الرحمن ، الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض ، الطبعة الأولى تحقيق فؤاد عبد المنعم أحمد ، ( الاسكندرية : مؤسسة شباب الجامعة للطباعة والنشر والتوزيع ، عام 1405 / 1985 ) ص 182 .
( ) البهوتي ، كشاف القناع ، ج 4 ، ص 247 .
( ) البهوتي ، كشاف القناع ، ج 4 ، ص246 .
( ) كشاف القناع ، ج 4 ، ص 247 .
( ) شرح الزرقاني على مختصر خليل ، ج 7 ، ص 76 .
( ) المواق ، أبو عبد الله محمد بن يوسف ، التاج والإكليل لمختصر خليل ، ( بيروت : المكتبة العلمية ، عام 1416 / 1995 ) ، ج 7 ، ص 633 .
( ) الشلبي ، شهاب الدين أحمد ، حاشية على تبيين الحقائق ، ج 3 ، ص 324 .
( ) الرملي ، شمس الدين محمد بن أبي العباس أحمد بن حمزة ، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج ، الطبعة الأخيرة ( مصر : شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، عام 1386 / 1967 ) ، ج 5 ، ص 368 .
( ) كما أثمر هذا الاختلاف في المقصد الشرعي الأساس من الوقف بين المذاهب الفقهية اختلافاً في الأحكام الفقهية ليس هذا المكان المناسب لعرضها.
( ) انظر : الزرقاني ، شرح الزرقاني على مختصر خليل ، ج 1 ، ص 77 .
( ) الهيتمي ، ابن حجر المكي ، تحفة المحتاج بشرح المنهاج ، ج6 ، ص244.
( ) بيان من العلماء ، حكم الشريعة الإسلامية في الوقف الخيري والأهلي ،( مكة المكرمة : المطبعة السلفية ومكتبتها ، عام 1346هـ ) ، ص 5 .
( ) الخالد ، محمد عبد الرحيم ، أحكام الوقف على الذرية في الشريعة الإسلامية ،دراسة مقارنة مع التطبيق القضائي في المملكة العربية السعودية ، ( مكة المكرمة : مطابع الصفا عام 1416 / 1996 ) ، ج1 ،ص232 .
( ) الخالد ، محمد عبد الرحيم ، أحكام الوقف على الذرية ، ج 1 ، ص233 . ؛ وانظر : بافقيه، طلال عمر ، الوقف الأهلي ، الطبعة الأولى ، دار الثقافة الإسلامية ، عام 1419/ 1998 ) ص 59 .
( ) رفيع ، محمد عمر ، مكة في القرن الرابع عشر الهجري ، ص 199 ،200 .
( ) انظر : رفيع ، محمد عمر ، مكة في القرن الرابع عشر الهجري ، ص 201 ـ202 .
( ) مكة في القرن الرابع عشر الهجري ، 203 .
( ) مكة في القرن الراب25/11/19ع عشر الهجري ، ص 203 .
( ) الحطاب ، مواهب الجليل ، ج 7 ، ص 653 .
( ) الحطاب ، مواهب الجليل لشرخ مختصر خليل ، ج7 ، ص 643 .
( ) انظر : الحطاب ، مواهب الجليل لشرح خليل ، ج7 ، ص 648 .

عن الكاتب

A. Fatih Syuhud

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية