الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

الجن وعلم الغيب والأطباق الطائرة

الجن وعلم الغيب والأطباق الطائرة


محتويات

المطلب الرابع الجن وعلم الغيب

شاع لدى كثير من الناس أن الجنّ يعلمون الغيب ، ومردة الجن يحاولون أن يؤكدوا هذا الفهم الخاطئ عند البشر ، وقد أبان الله للناس كذب هذه الدعوى ، عندما قبض روح نبيه سليمان ، وكان قد سخر له الجن يعملون بين يديه بأمره ، وأبقى جسده منتصباً ، واستمر الجنّ يعملون ، وهم لا يدرون بأمر وفاته ، حتى أكلت دابة الأرض عصاه المتكئ عليها ، فسقط ، فتبين للناس كذبهم في دعواهم ، أنهم يعلمون الغيب : ( فلمَّا قضينا عليه الموت ما دَلَّهُمْ على موته إلاَّ دابَّة الأرض تأكل منسأته فلمَّا خرَّ تبيَّنت الجنُّ أن لَّو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ) [ سبأ : 14 ] .
وقد سبق القول كيف أنهم كانوا يسترقون خبر السماء ، وكيف زيد في حراسة السماء بعد البعثة ، فقلما يستطيع الجن استراق السمع بعد ذلك .

العرّافون والكهان :

وبذلك يعلم عظم الخطأ الذي يقع فيه عوام الناس باعتقادهم أن بعض البشر كالعرافين والكهان يعلمون الغيب ، فتراهم يذهبون إليه يسألونهم عن أمور حدثت من سرقات وجنايات ، وأمور لم تحدث مما سيكون لهم ولأبنائهم ، ولق خاب السائل والمسؤول ، فالغيب علمه عند الله ، لا يظهر الله عليه إلا من شاء من رسله : ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً – إلاَّ من ارتضى من رَّسولٍ فإنَّه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً – ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيءٍ عددا ) [ الجن : 28 ] .
والاعتقاد بأن فلاناً يعلم الغيب اعتقد آثم ضال ، يخالف العقيدة الإسلامية الصحيحة التي تجعل علم الغيب لله وحده .

إما إذا تعدى الأمر إلى استفتاء أدعياء الغيب ، فإن الجريمة تصبح من العظم بمكان ، ففي صحيح مسلم عن بعض أزواج النبي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من أتى عرافاً فسأله عن شيءٍ ، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ) (1) .
وتصديق هؤلاء كفر ، ففي السنن ومسند أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً : ( من أتى كاهناً ، فصدقه بما يقول ، فقد برئ مما أنزل على محمد ) (2) .

قال شارح العقيدة الطحاوية : " والمنجم يدخل في اسم ( العراف ) عند بعض العلماء ، وعند بعضهم هو في معناه " ، ثم قال : فإذا كانت هذه حال السائل ، فكيف بالمسؤول ؟ " ومراده إذا كان السائل لا تقبل له صلاة أربعين يوماً ، وإذا كان الذي يصدق الكاهن والعراف يكفر بالمنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم ، فكيف يكون حكم الكاهن والعراف ؟

سؤال العرافين والكهنة على وجه الامتحان :

يرى ابن تيمية أن سؤال الكهنة ، بقصد امتحان حالهم ، واختبار باطنهم ، ليميز صدقهم من كذبهم ، جائز ، واستدل بحديث الصحيحين : أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ابن صياد ، فقال : ( ما ترى ؟ ) فقال : يأتيني صادق وكاذب ، قال : خلط الأمر عليك . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إني قد خبأت لك خبيئاً ) ، قال : هو الدخ ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اخسأ ، فلن تعدو قدرك ) (3) . فأنت ترى أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل هذا المدّعي ، ليكشف أمره ، ويبين للناس حاله .

المنجمون :

وصناعة التنجيم التي مضمونها : الأحكام والتأثير ، وهو الاستدلال على الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية ، أو التمزيج بين القوى الفلكية والقوابل الأرضية : صناعة محرمة بالكتاب والسنة ؛ بل هي محرمة على لسان جميع المرسلين ، قال تعالى : ( ولا يفلح السَّاحر حيث أتى ) [ طه : 69 ] . وقال تعالى : ( ألم تر إلى الَّذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطَّاغوت ) [ النساء : 51 ] . قال عمر بن الخطاب : الجبت السحر (4) .

تعليل صدق المنجمين والعرافين في بعض الأحيان :

قد يزعم قائل أن العرافين والكهنة والمنجمين يصدقون أحياناً ، والجواب : أن صدقهم في كثير من الأحيان يكون من باب التلبيس على الناس ، فإنهم يقولون للناس كلاماً عاماً يحتمل وجوهاً من التفسير ، فإذا حدث الأمر ، فإنه يفسره لهم تفسيراً يوافق ما قال .
وصدقهم في الأمور الجزئية إما أنه يرجع إلى الفراسة والتنبؤ ، وإما أن تكون هذه الكلمة الصادقة مما خطفه الجن من خبر السماء . ففي الصحيحين عن عائشة ، قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان ؟ فقال : ( ليسوا بشيء ) . قالوا : يا رسول الله ، إنهم يحدثوننا بالشيء فيكون حقاً ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني ، فيقذفها في أذن وليه ، فيخلطون معها مائة كذبة ) (5) .

وإذا كانت القضية التي صدق فيها من الأمور التي حدثت كمعرفته بالسارق ، أو معرفته باسم الشخص الذي يقدم عليه لأول مرة وأسماء أبنائه وأسرته ، فهذا قد يكون بحيلة ما ، كالذي يضع شخصاً ليسأل الناس ، وتكون عنده وسيلة لاستماع أقوالهم قبل أن يمثلوا بين يديه ، أو يكون هذا من فعل الشياطين ، وعلم الشياطين بالأمور التي حدثت ووقعت ليس بالأمر المستغرب .

الكهنة رسل الشياطين :

يقول ابن القيم (6) : " الكهنة رسل الشيطان ؛ لأن المشركين يهرعون إليهم ، ويفزعون إليهم في أمورهم العظام ، ويصدقونهم ، ويتحاكمون إليهم ، ويرضون بحكمهم ، كما يفعل أتباع الرسل بالرسل ، فإنهم يعتقدون أنهم يعلمون الغيب ، ويخبرون عن المغيبات التي لا يعرفها غيرهم ، فهم عند المشركين بهم بمنزلة الرسل ، فالكهنة رسل الشيطان حقيقة ، أرسلهم إلى حزبه من المشركين ، وشبههم بالرسل الصادقين ، حتى استجاب لهم حزبه ، ومثل رسل الله بهم لينفر عنهم ، ويجعل رسله هم الصادقين العالمين بالغيب ، ولما كان بين النوعين أعظم التضاد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أتى عرافاً أو كاهناً ، فصدقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمد ) (7) .
فإن الناس قسمان : أتباع الكهنة ، وأتباع الرسل ، فلا يجتمع في العبد أن يكون من هؤلاء وهؤلاء ، بل يبعد عن الرسول صلى الله عليه وسلم بقدر قربه من الكاهن ، ويُكَذّبُ الرسول بقدر تصديقه للكاهن .

أقول : ومن يدرس تواريخ الأمم يعلم أن الكهان والسحرة كانوا يقومون مقام الرسل ، ولكنهم رسل الشياطين ، فالسحرة والكهنة كانت لهم الكلمة المسموعة في أقوامهم ، يحلون ويحرّمون ، ويأخذون المال ، ويأمرون بأنواع من العبادة والطقوس ترضي الشياطين ، ويأمرون بقطيعة الأرحام ، وانتهاك الأعراض ، وقد بين العقاد شيئاً من ذلك في كتابه المسمى بـ ( إبليس ) .

واجب الأمة نحو هؤلاء :

ما يدعيه المنجمون ، والعرافون ، والسحرة ، ضلال كبير ومنكر لا يستهان به ، وعلى الذين أعطاهم الله دينه ، وعلمهم كتابه وسنة نبيه أن ينكروا هذا الضلال بالقول ، ويوضحوا هذا الباطل بالحجة والبرهان ، وعلى الذين في أيديهم السلطة أن يأخذوا على أيدي هؤلاء الذين يدّعون الغيب من العرافين والكهنة وضاربي الرمل والحصى ، والناظرين في اليد ( والفنجان ) ، وعليهم أن يمنعوا نشر خزعبلاتهم في الصحف والمجلات ، ويعاقبوا من يتظاهر ببضاعته وضلالاته في الطرقات ، وقد ذمّ الله بني إسرائيل لتركهم التناهي عن المنكر : ( كانوا لا يتناهون عن مُّنكرٍ فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ) [ المائدة : 79 ] .

وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم برواية الصديق – رضي الله عنه – أنه قال : ( إن الناس إذا رأوا منكراً فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعقابه ) . رواه ابن ماجة والترمذي وصححه (8) .

--------------------------------
(1) رواه مسلم : 4/1751 . ورقمه : 2230 .
(2) مشكاة المصابيح : 2/525 . ورقمه : 4599 .
(3) رواه البخاري : 6/172 . ورقمه : 3055 . ورواه مسلم : 4/2244 . ورقمه : 2930 .
(4) شرح العقيدة الطحاوية : 568 . وراجع في علم النجوم ، أبجد العلوم لصديق حسن القنوجي : ص 542 .
(5) جامع الأصول لابن الأثير : 5/63 .
(6) إغاثة اللهفان : 1/271 .
(7) رواه بهذا اللفظ أحمد : 2/429 والطبراني في الأوسط : (1453) ورواه أبو داود : 4/225 رقم : (3904) ، والترمذي : 1/164 رقم : (135) ، وابن ماجة : 1/209 رقم : (639) ، والدارمي : 1/207 رقم (1136) بلفظ : ( من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد ) .
(8) مشكاة المصابيح : 2/643 . ورقمه : 5412 .

المطلب الخامس الجن والأطباق الطائرة

كثر الحديث في هذه الأيام عن الأطباق الطائرة ، فلا يكاد يمر أسبوع إلا ونسمع أن شخصاً أو عدة أشخاص رأوا طبقاً طائراً ، رأوه في الجوّ محلقاً ، أو على الأرض جاثماً ، أو رأوا مخلوقات مخالفة لشكل الإنسان تخرج منه ، ووصل الأمر إلى الادعاء بأن بعض هذه المخلوقات طلبت إلى بعض الناس مصاحبتها إلى الطبق ، وأجرت فحوصاً عليه .

ولا يدعي هذه الدعوى أناس مغمورون فحسب ، بل يزعم ذلك رجال بارزون أمثال رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ، فإنه يعتقد أنّه لمح شيئاً طائراً لم يتعرف على ماهيته في سماء ولاية جورجيا عام 1973 .

وهو يبدي اهتماماً خاصاً بالمخلوقات الأخرى التي بدأت تغزو الأرض ، فقد أمضى الرئيس الأمريكي ( كما نشرت الصحف ) أمسية يناقش أحد العلماء المقتنعين بأن الإنسان ليس المخلوق الوحيد في الكون ، وكان يرافق الرئيس كارتر (فرانك برس) مستشاره للشؤون العلمية ، وبعد ذلك شاهد كارتر داخل المرصد القومي أفلاماً توجز آخر ما توصلت إليه الأبحاث حول المخلوقات التي تعيش خارج نطاق الأرض ، وقام بعرض هذه الأفلام (كارل ساجان) ، مدير معمل الدراسات الكونية بجامعة (كورنل) ، الذي ترجع إليه دائماً وكالة الفضاء الأمريكية في الأمور المتعلقة بالمخلوقات التي تعيش خارج نطاق كوكب الأرض (1) .

وينسب ملحق صحيفة الهدف الكويتية الصادر بتاريخ 23/3/78 إلى الرئيس الصيني الأسبق ( ماوتسي تنغ ) أنه كان يؤمن بوجود مخلوقات غيرنا في الكواكب الأخرى .

ويذكر كاتب المقال أن حوالي 61% من الشعب الأمريكي مقتنعون بذلك ، وتزعم الصحف الأمريكية أن قرابة نصف مليون أمريكي شاهدوا هذه الأطباق ، وبعض هؤلاء استطاعوا أن يتصلوا بهم اتصالاً مباشراً .
وقد أخرج السينمائي الأمريكي ( ستيفن سبيلبرغ ) ( فيلماً ) سينمائياً بعنوان ( مواجهة من النوع الثالث ) بلغت تكاليفه اثنين وعشرين مليوناً من الدولارات الأمريكية .

وقد وضع الفيلم بعد تجميع المعلومات من الذين شاهدوا الأطباق الطائرة ، أو اتصلوا بها .
وقد عرض الفيلم لأول مرة في البيت الأبيض ، وكان الرئيس الأمريكي أول مشاهديه .
وبعد خروج هذا الفيلم اقتنعت وكالة الفضاء الأمريكية بضرورة البحث في هذا المجال ، وخصصت مليون دولار لأبحاث عام 1979 ، وقد أطلقت على المشروع السري اسم (سيتي) . ويتلخص في إطلاق أجهزة خاصة للفضاء الخارجي ؛ للبحث عن رسائل لاسلكية قادمة من كواكب أخرى .
ويمكننا بعد هذا العرض أن نقرر ما يأتي :
1- لا مجال للتكذيب بوجود مخلوقات غريبة غير الإنسان ، إذ تواترت الرؤية من عشرات الألوف بل مئات الألوف ، وقد تابعتُ ما قيل في هذا الموضوع فترة طويلة ، فكنت أجد مقالاً كل أسبوع تقريباً أو أكثر أو أقل حول رؤية جماعة أو شخص لشيء من هذا (2) .
2- احتار الناس في تفسير حقيقة هذه الأطباق ، وحقيقة المخلوقات التي تستخدمها ، خاصة أن سرعة هذه الأطباق خيالية تفوق سرعة أي مركبة اخترعها الإنسان .
3- أكاد أجزم بأن هذه المخلوقات هي من عالم الجن الذي يسكن أرضنا هذه ، والذين تحدثنا عنهم فيما سبق ، وبينا ما لديهم من قدرات وإمكانات تفوق قدرة البشر ، ولقد أعطوا سرعة تفوق سرعة الصوت والضوء ، كما أعطوا القدرة على التشكل ، وهم يستطيعون أن يتمثلوا للإنسان في صور وأشكال مختلفة .

وبذلك يتبين لنا فضل الله علينا إذ عرفنا بهذه الحقائق ، خاصة ونحن نشعر بالحيرة والقلق لدى الذين لا يعلمون ما علمناه ، وبذلك نوفر طاقاتنا العقلية وقدراتنا العلمية وأموالنا ؛ كي نوجهها وجهة نافعة .

وقد يتساءل بعضنا عن السرّ في ظهور هذه الأطباق في أيامنا هذه ، وعدم ظهورها في العصور الخالية ، فالجواب أن الجن يلبسون لكل عصر لبوسه ، وهذا العصر عصر التقدم العلمي ، ولذلك فإنهم يضللون البشر بالطريقة التي تثير انتباههم ، وتشد نفوسهم ، والناس اليوم يتطلعون إلى معرفة شيء عن الفضاء الواسع ، وعن إمكانية وجود مخلوقات غيرهم فيه .

وقد تحدثنا في كتابنا (( عالم الملائكة )) عن تنزل الملائكة لقراءة القرآن ، وأن بعض الصحابة رأى ظلة فيها مثل المصابيح ، وتنزل الملائكة على هذا النحو ليس قصراً على عهد النبوة .
--------------------------------
(1) راجع جريدة السياسة الكويتية العدد (33999) : 5/12/77 .
(2) وآخر ذلك ما حدث في الكويت ، فقد قرر أكثر من شخص أنه رأى طبقاً طائراً ، وقد نشرت الصحف الكويتية النبأ في حينه .

أسلحة المؤمن في حربه مع الشيطان الجزء الأول

أولاً : الحذر والحيطة :

هذا العدو الخبيث الماكر حريص على إضلال بني آدم ، وقد علمنا أهدافه ووسائله في الإضلال ، فبمقدار علمك بهذا العدو : أهدافه ووسائله والسبل التي يضلنا بها تكون نجاتنا منه ، أما إذا كان الإنسان غافلاً عن هذه الأمور فإن عدوه يأسره ويوجهه الوجهة التي يريد .

وقد صور ابن الجوزي هذا الصراع بين الإنسان والشيطان تصويراً بديعاً حيث يقول : " واعلم أن القلب كالحصن ، وعلى ذلك الحصن سور ، وللسور أبواب وفيه ثلم (1) ، وساكنه العقل ، والملائكة تتردد على ذلك الحصن ، وإلى جانبه ربض (2) فيه الهوى ، والشياطين تختلف إلى ذلك الربض من غير مانع ، والحرب قائمة بين أهل الحصن وأهل الربض ، والشياطين لا تزال تدور حول الحصن تطلب غفلة الحارس والعبور من بعض الثلم .

فينبغي للحارس أن يعرف جميع أبواب الحصن الذي قد وكل بحفظه وجميع الثلم ، وألا يفتر عن الحراسة لحظة ، فإن العدو لا يفتر . قال رجل للحسن البصري : أينام إبليس ؟ قال : لو نام لوجدنا راحة .

وهذا الحصن مستنير بالذكر مشرق بالإيمان ، وفيه مرآة صقيلة يتراءى فيها صورة كل ما يمرّ به ، فأول ما يفعل الشيطان في الربض إكثار الدخان ، فتسودّ حيطان الحصن ، وتصدأ المرآة ، وكمال الفكر يرد الدخان ، وصقل الذكر يجلو المرآة ، وللعدو حملات ، فتارة يحمل فيدخل الحصن ، فيكر عليه الحارس فيخرج ، وربما دخل فعاث ، وربما أقام لغفلة الحراس ، وربما ركدت الريح الطاردة للدخان ، فتسود حيطان الحصن ، وتصدأ المرآة فيمر الشيطان ولا يدري به ، وربما جرح الحارس لغفلته ، وأسر واستخدم ، وأقيم يستنبط الحيل في موافقة الهوى ومساعدته " (3) .

ثانياً : الالتزام بالكتاب والسنّة :

أعظم سبيل للحماية من الشيطان هو الالتزام بالكتاب والسنة علماً وعملاً ، فالكتاب والسنة جاءا بالصراط المستقيم ، والشيطان يجاهد كي يخرجنا عن هذا الصراط قال تعالى : ( وأنَّ هذا صراطي مستقيماً فاتَّبعوه ولا تتَّبعوا السُّبل فتفرَّق بكم عن سبيله ذلكم وصَّاكم به لعلَّكم تتَّقون ) [ الأنعام : 153 ] .

وقد شرح الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الآية فعن عبد الله بن مسعود قال : " خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً ، ثمّ قال : ( هذا سبيل الله ) ثمّ خط خطوطاً عن يمينه وشماله وقال : ( هذه سبل ، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ) وقرأ : ( وأنَّ هذا صراطي مستقيماً فاتَّبعوه ) [ الأنعام : 153 ] . رواه الإمام أحمد والنسائي والدارمي (4) .

فاتباع ما جاءنا من عند الله من عقائد وأعمال وأقوال وعبادات وتشريعات ، وترك كل ما نهى عنه ، يجعل العبد في حرز من الشيطان ، ولذلك قال سبحانه وتعالى : ( يا أيَّها الَّذين آمنوا ادخلوا في السلم كافَّةً ولا تتَّبعوا خطوات الشَّيطان إنَّه لكم عدوٌّ مُّبينٌ ) [البقرة : 208] .

والسلم : هو الإسلام . وقيل طاعة الله ، وفسره مقاتل بأنه العمل بجميع الأعمال ووجوه البر ، وعلى ذلك فقد أمرهم بالعمل بجميع شعب الإيمان وشرائع الإسلام ما استطاعوا ، ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان ، فالذي يدخل في الإسلام مبتعد عن الشيطان وخطواته ، والذي يترك شيئاً من الإسلام فقد اتبع بعض خطوات الشيطان ، ولذلك كان تحليل ما حرم الله ، وتحريم ما أحل الله ، أو الأكل من المحرمات والخبائث ، كل ذلك من اتباع خطوات الشيطان التي نهينا عنها : ( يا أيَّها النَّاس كلوا ممَّا في الأرض حلالاً طيباً ولا تتَّبعوا خطوات الشَّيطان إنَّه لكم عدوٌّ مُّبين ) [ البقرة : 168 ] .

إن الالتزام بالكتاب والسنة قولاً وعملاً يطرد الشيطان ويغيظه أعظم إغاظة ، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا قرأ ابنُ آدم السجدة فسجد ، اعتزل الشيطان يبكي ، يقول : يا ويله ، ( وفي رواية أبي كريب : يا ويلي ) أمر ابن آدم بالسجود فسجد ، فله الجنّة وأُمرتُ بالسجود فأبيت ، في النار ) (5) .

ثالثاً : الالتجاء إلى الله والاحتماء به :

خير سبيل للاحتماء من الشيطان وجنده هو الالتجاء إلى الله والاحتماء بجنابه ، والاستعاذة به من الشيطان ، فإنه عليه قادر . فإذا أجار عبده فأنى يخلص الشيطان إليه ، قال تعالى : ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين – وإمَّا ينزغنَّك من الشَّيطان نزغٌ فاستعذ بالله إنَّه سميع عليم ) [ الأعراف : 199-200 ] .

وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة بالله من همزات الشياطين وحضورهم : ( وقل رب أعوذ بك من همزات الشَّياطين – وأعوذ بك رب أن يحضرون ) [المؤمنون : 97-98] .

وهمزات الشياطين : نزغاتهم ووساوسهم ، فالله يأمرنا بالاستعاذة به من العدو الشيطاني لا محالة ؛ إذ لا يقبل مصانعة ولا إحساناً ، ولا يبتغي غير هلاك ابن آدم ، لشدة العداوة بينه وبين آدم .

يقول ابن كثير في تفسيره : " والاستعاذة هي الالتجاء إلى الله تعالى ، والالتصاق بجنابه من شرّ كل ذي شرّ ... ، ومعنى ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) ؛ أي : أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم ، أن يضرني في ديني ودنياي ، أو يصدني عن فعل ما أمرت به ، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه ، فإن الشيطان لا يكفّه عن الإنسان إلا الله ؛ ولهذا أمر تعالى بمصانعة شيطان الإنس ومداراته بإسداء الجميل إليه ليرده طبعه عما هو فيه من الأذى ، وأمر بالاستعاذة به من شيطان الجنّ ؛ لأنه لا يقبل رشوة ، ولا يؤثر فيه جميل ؛ لأنه شرير بالطبع ، ولا يكفه عنك إلا الذي خلقه " (6) .

وقد كان صلى الله عليه وسلم يكثر من الاستعاذة بربه من الشيطان بصيغ مختلفة ، فكان يقول بعد دعاء الاستفتاح في الصلاة : ( أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، من همزه ونفخه ونفثه ) ، روى ذلك أصحاب السنن الأربعة وغيرهم عن أبي سعيد (7) .

مواضع الاستعاذة :

1- الاستعاذة عند دخول الخلاء :

وكان إذا دخل الخلاء يستعيذ من الشياطين ذكورهم وإناثهم ، كما في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء ، قال : ( اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث ) (8) .
وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن زيد بن أرقم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن هذه الحشوش محتضرة ، فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل : أعوذ بالله من الخبث والخبائث ) (9) .

2- الاستعاذة عند الغضب :

عن سليمان بن صُرَد قال : استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس ، وأحدهما يسب صاحبه مغضباً ، قد احمرّ وجهه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) . رواه البخاري ومسلم (10) .

وقد علَّم الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر إذا أصبح وإذا أمسى أن يقول : ( اللهم فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، لا إله إلا أنت ، ربّ كل شيء ومليكه ، أعوذ بك من شر نفسي ، ومن شرّ الشيطان وشركه ، وأن أقترف على نفسي سوءاً ، أو أجره إلى مسلم ) (11) . رواه الترمذي .

3- الاستعاذة عند الجماع :

وحثنا على الاستعاذة حين يأتي الرجل أهله ، فعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال : بسم الله ، اللهم جنبنا الشيطان ، وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبداً ) . متفق عليه (12) .

4- الاستعاذة عند نزول وادٍ أو منزل :

وإذا نزل المرء وادياً أو منزلاً ، فعليه أن يستعيذ بالله ، لا كما كان يفعل أهل الجاهلية يستعيذون بالجن والشياطين ، فيقول قائلهم : أعوذ بزعيم هذا الوادي من سفهاء قومه ، فكانت العاقبة أن استكبرت الجن وآذتهم ، كما حكى الله عنهم ذلك في سورة الجن : ( وأنَّه كان رجالٌ من الإنس يعوذون برجالٍ من الجن فزادوهم رهقاً ) [الجن : 6] ؛ أي الجن زادت الإنس رهقاً .
وقد علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم كيف نستعيذ بالله عندما ننزل منزلاً فعن خولة بنت حكيم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لو أن أحدكم إذا نزل منزلاً قال : أعوذ بكلمات الله التامة من شرّ ما خلق ، لم يضره في ذلك المنزل شيء ، حتى يرتحل منه ) . رواه ابن ماجة بإسناد صحيح (13) .

5- التعوذ بالله من الشيطان عند سماع نهيق الحمار :

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إذا نهق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان الرجيم ) . رواه الطبراني في معجمه الكبير بإسناد صحيح (14) ، وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الحمار إذا نهق فإنه يكون قد رأى شيطاناً (15) .

6- التعوذ حين قراءَة القرآن :

قال تعالى : ( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشَّيطان الرَّجيم – إنَّه ليس له سلطان على الَّذين آمنوا وعلى ربهم يتوكَّلون ) [ النحل : 98-99 ] .

وقد بين ابن القيم الحكمة في الاستعاذة بالله من الشيطان حين قراءَة القرآن ، فقال :

1- " إن القرآن شفاء لما في الصدور يذهب لما يلقيه الشيطان فيها من الوساوس والشهوات والإرادات الفاسدة ، فهو دواء لما أمره الشيطان فيها ، فأمر أن يطرد مادة الداء ، ويخلي منه القلب ، ليصادف الداء محلاً خالياً ، فيتمكن منه ، ويؤثر فيه ، كما قيل :
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ××× فصادف قلباً خالياً فتمكنا
فيجيء هذا الدواء الشافي إلى القلب ، وقد خلا من مزاحم ومضاد له ، فينجع فيه .

2- ومنها : أن القرآن مادة الهدى والعلم والخير في القلب ، كما أنّ الماء مادة النبات ، والشيطان نار يحرق النبات أولاً فأولاً ، فكلما أحسّ بنبات الخير من القلب ، سعى في إفساده وإحراقه ، فأمر أن يستعيذ بالله – عزّ وجلّ – منه ، لئلا يفسد عليه ما يحصل له بالقرآن .

والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله أن الاستعاذة في الوجه الأول لأجل حصول فائدة القرآن ، وفي الوجه الثاني لأجل بقائها وحفظها .

3- ومنها : أن الملائكة تدنو من قارئ القرآن ، وتستمع لقراءته ، كما في حديث أسيد بن حضير لما كان يقرأ ورأى مثل الظلة فيها المصابيح ، فقال عليه الصلاة والسلام : ( تلك الملائكة ) ، والشيطان ضد الملك وعدوه ، فأمر القارئ أن يطلب من الله تعالى مباعدة عدوه عنه ، حتى يحضره خاص ملائكته ، فهذه منزلة لا يجتمع فيها الملائكة والشياطين .

4- ومنها : أن الشيطان يجلب على القارئ بخيله ورجله ، حتى يشغله عن المقصود بالقرآن ، وهو تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به سبحانه ، فيحرص بجهده على أن يحول بين قلبه وبين مقصود القرآن ، فلا يكمل انتفاع القارئ به ، فأمر عند الشروع في القراءة أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم .

5- ومنها : أن القارئ يناجي الله تعالى بكلامه ، والله أشد أذناً للقارئ الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته ، والشيطان إنما قراءَته الشعر والغناء ، فأمر القارئ أن يطرده بالاستعاذة عند مناجاة الله تعالى واستماع الربّ قراءَته .

6- ومنها : أن الله سبحانه أخبر أنّه ما أرسل من رسول ولا نبي إلا إذا تمنّى ألقى الشيطان في أمنيته ، والسلف كلهم على أن المعنى : إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته ... ، فإذا كان هذا مع الرسل عليهم الصلاة والسلام فكيف بغيرهم . ولهذا يغلط الشيطان القارئ تارة ، ويخلط عليه القراءَة ، ويشوشها عليه ، فيخبط عليه لسانه ، أو يشوش عليه ذهنه وقلبه ، فإذا حضر عند القراءَة ، لم يعدم منه القارئ هذا أو هذا ، وربما جمعها له .

7- ومنها : أن الشيطان أحرص ما يكون على الإنسان عندما يهم بالخير ، أو يدخل فيه ، فهو يشتد عليه حينئذ ؛ ليقطعه عنه " (16) .

7- تعويذ الأبناء والأهل :

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين : ( أعيذكما بكلمات الله التامة ، من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامة ) . ويقول : ( إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق ) . رواه البخاري (17) .
قال أبو بكر ابن الأنباري : " الهامة : واحد الهوام ، ويقال : هي كل نسمة تهم بسوء ، واللامة : الملمة ، وإنما قال : لامة ليوافقه لفظ هامة ، فيكون أخف على اللسان " (18) .

خير ما يتعوذ به المتعوذون :

وخير ما يتعوذ به المتعوذون سورتا الفلق والناس ، فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله بن خبيب أن يقرأ : ( قل هو الله أحد ) ، والمعوذتين حين يمسي ، وحين يصبح ، ثلاثاً . وقال له : ( يكفيك الله كل شيء ) .
وفي رواية أخرى أمره بقراءَة المعوذتين ، ثم قال له : ( ما تعوذ الناس بأفضل منهما ) .

وفي بعض الروايات : أن هذه القصة كانت مع عقبة بن عامر . وفي رواية أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لابن عابس الجهني : ( إن أفضل ما تعوذ به المتعوذون المعوذتان ) . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض روايات حديث عقبة : ( ما سأل سائل بمثلهما ، ولا استعاذ مستعيذ بمثلهما ) (19) .

كيف تصنع بالشيطان إذ سوّل لك الخطايا ؟

حكي عن أحد علماء السلف أنه قال لتلميذه : " ما تصنع بالشيطان إذا سوّل لك الخطايا ؟ قال : أجاهده . قال : فإن عاد ؟ قال : أجاهده . قال : فإن عاد ؟ قال : أجاهده .
قال هذا يطول ، أرأيت إن مررت بغنم فنبحك كلبها ، أو منعك من العبور ما تصنع ؟ قال : أكابده جهدي وأرده . قال : هذا أمر يطول ، ولكن استعن بصاحب الغنم يكفّه عنك " (20) .

وهذا فقه عظيم من هذا العالم الجليل ، فإن الاحتماء بالله ، والالتجاء إليه ، هو السبيل القوي الذي يطرد الشيطان ويبعده ، وهذا ما فعلته أم مريم إذ قالت : ( وإني أعيذها بك وذريتها من الشَّيطان الرَّجيم ) [ آل عمران : 36 ] .

لماذا لا يذهب الشيطان عندما يستعيذ منه الإنسان ؟

يقول بعض الناس : إننا نستعيذ بالله ، ومع ذلك فإننا نحس بالشيطان يوسوس لنا ، ويحرضنا على الشر ، ويشغلنا في صلاتنا .
والجواب : أن الاستعاذة كالسيف في يد المقاتل ، فإن كانت يده قوية ، أصاب من عدوه مقتلاً ، وإلا فإنه قد لا يؤثر فيه ، ولو كان السيف صقيلاً حديداً .

وكذلك الاستعاذة إذا كانت من تقيّ ورع كانت ناراً تحرق الشيطان ، وإذا كانت من مخلط ضعيف الإيمان فلا تؤثر في العدو تأثيراً قوياً .

قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله : " واعلم أن مثل إبليس مع المتقي والمخلط ، كرجل جالس بين يديه طعام ولحم ، فمرّ به كلب ، فقال له : اخسأ ، فذهب . فمرّ بآخر بين يديه طعام ولحم فكلّما أخسأه (طرده) لم يبرح . فالأول مثل المتقي يمر به الشيطان ، فيكفيه في طرده الذكر ، والثاني مثل المخلط لا يفارقه الشيطان لمكان تخليطه ، نعوذ بالله من الشيطان " (21) .

فعلى المسلم الذي يريد النجاة من الشيطان وأحابيله أن يشتغل بتقوية إيمانه ، والاحتماء بالله ربه ، والالتجاء إليه ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

رابعاً : الاشتغال بذكر الله :

ذكر الله من أعظم ما ينجي العبد من الشيطان ، وفي الحديث : أن الله أمر نبي الله يحي أن يأمر بني إسرائيل بخمس خصال ، ومن هذه : ( وآمركم أن تذكروا الله تعالى ، فإن مثل ذلك مثل رجل خرج العدّو في أثره سراعاً ، حتى إذا أتى إلى حصن حصين ، فأحرز نفسه منهم ، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله ) .

يقول ابن القيم (22) : " فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة لكان حقيقاً بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله تعالى ، وأن لا يزال لهجاً بذكره ، فإنّه لا يحرز نفسه من عدوه إلا بالذكر ، ولا يدخل عليه العدو إلا من باب الغفلة ، فهو يرصده ، فإذا غفل ، وثب عليه وافترسه ، وإذا ذكر الله تعالى ، انخنس عدو الله وتصاغر ، وانقمع ، حتى يكون كالوَصع [ طائر أصغر من العصفور ] ، وكالذباب ، ولهذا سمي ( الوسواس الخناس ) ؛ لأنه يوسوس في صدور الناس ، فإذا ذكر الله خنس ، أي كف وانقبض . وقال ابن عباس : الشيطان جاثم على قلب ابن آدم ، فإذا سها وغفل وسوس ، فإذا ذكر الله تعالى خنس " .

ويقول ابن القيم : " الشياطين قد احتوشت العبد وهم أعداؤه ، فما ظنك برجل قد احتوشه أعداؤه المحنقون عليه غيظاً ، وأحاطوا به ، وكل منهم يناله بما يقدر عليه من الشرّ والأذى ، ولا سبيل إلى تفريق جمعهم عنه إلا بذكر الله عزّ وجلّ " .

ثم ساق – رحمه الله – حديث عبد الرحمن بن سمرة ، قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً ، وكنا في صفّةٍ بالمدينة ، فقام علينا وقال : ( إنّي رأيت البارحة عجباً : رأيت رجلاً من أمتي أتاه ملك الموت ليقبض روحه ، فجاءه برّه بوالديه ، فرد ملك الموت عنه .

ورأيت رجلاً قد بسط عليه عذاب القبر ، فجاءه وضوؤه ، فاستنقذه من ذلك .
ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته الشياطين ، فجاءه ذكر الله عزّ وجلّ ، فطرد الشياطين عنه .
ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب ، فجاءته صلاته ، فاستنقذته من أيديهم .

ورأيت رجلاً من أمتي يلتهب – وفي رواية : يلهث – عطشاً ، كلما دنا من حوض منع وطرد ، فجاءه صيام شهر رمضان ، فأسقاه وأرواه .
ورأيت رجلاًَ من أمتي ورأيت النبيين جلوساً حِلَقاً حِلَقاً ، كلما دنا إلى حلقة طرد ، فجاءه غسلُهُ من الجنابة ، فأخذ بيده ، فأقعده إلى جنبي .

ورأيتُ رجلاً من أمتي ، بين يديه ظلمة ، ومن خلفه ظلمة ، وعن يمينه ظلمة ، وعن يساره ظلمة ، ومن فوقه ظلمة ، ومن تحته ظلمة ، وهو متحيّر فيها ، فجاءه حجة وعمرته ، فاستخرجاه من الظلمة ، وأدخلاه في النور .

ورأيت رجلاً من أمتي يتقي بيده وهج النار وشرره ، فجاءته صدقته ، فصارت سترة بينه وبين النار ، وظللت على رأسه .
ورأيت رجلاً من أمتي يكلم المؤمنين ولا يكلمونه ، فجاءته صلته لرحمه فقالت : يا معشر المسلمين ، إنه كان وصولاً لرحمه فكلموه ، فكلمه المؤمنون ، وصافحوه وصافحهم .

ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته الزبانية ، فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ، فاستنقذه من أيديهم ، وأدخله في ملائكة الرحمة .

ورأيت رجلاً من أمتي جاثياً على ركبتيه ، وبينه وبين الله عزّ وجلّ حجاب ، فجاءه حُسن خلقه ، فأخذ بيده ، فأدخله على الله عزّ وجلّ .
ورأيت رجلاً من أمتي قد ذهبت صحيفته من قبل شماله ، فجاءه خوفه من الله عزّ وجلّ ، فأخذ صحيفته ، فوضعها في يمينه .
ورأيت رجلاً من أمتي خفّ ميزانه فجاء أفراطه (23) ، فثقلوا ميزانه .

ورأيت رجلاً من أمتي قائماً على شفير جهنم ، فجاءه رجاؤه في الله عزّ وجلّ ، فاستنقذه من ذلك ومضى .
ورأيت رجلاً من أمتي قد أقوى في النار ، فجاءته دمعته التي بكى من خشية الله عزّ وجلّ فاستنقذته من ذلك .
ورأيت رجلاً من أمتي قائماً على الصراط يرعد كما ترعد السّعَفة في ريح عاصف ، فجاءه حُسْنُ ظنهِ بالله عزّ وجلّ ، فسَكن رعدَتَهُ ومضى .
ورأيت رجلاً من أمتي يزحفُ على الصراط ، ويحبوا أحياناً ، ويتعلق أحياناً ، فجاءته صلاته ، فأقامته على قدميه ، وأنقذته .
ورأيت رجلاً من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة ، فغلقت الأبواب دونه ، فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله ، ففتحت له الأبواب ، وأدخلته الجنة ) .

رواه الحافظ أبو موسى المديني في كتاب ( الترغيب في الخصال المنجية ، والترهيب من الخلال المردية ) ، وبنى كتابه عليه وجعله شرحاً له ، وقال : هذا حديث حسن جداً ، رواه عن سعيد بن المسيب : عمرو بن آزر ، وعلي بن زيد بن جدعان ، وهلال أبو جبلة . وكان شيخ الإسلام ابن تيمية ، قدس الله روحه ، يعظم شأن هذا الحديث ، وبلغني عنه أنه كان يقول : شواهد الصحة عليه .

والمقصود منه قوله صلى الله عليه وسلم : ( ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته الشياطين ، فجاءه ذكر الله عزّ وجلّ ، فطرد الشيطان عنه ) فهذا مطابق لحديث الحارث الأشعري (24) .
وقوله فيه : ( وآمركم بذكر الله عزّ وجلّ ، وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو ، فانطلقوا في طلبه سِراعاً ، وانطلق حتى أتى حصناً حَصيناً ، فأحرز نفسه فيه ) .

فكذلك الشيطان لا يحرز العباد أنفسهم منه إلا بذكر الله عزّ وجلّ ، فعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا خرج من بيته فقال : بسم الله ، توكلتُ على الله ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، يقال له حينئذ : هُدِيت وكفُيتَ ووُقِيتَ ، فيتَنَحّى له الشيطان ، ويقول شيطان آخر : كيف لك برجل قد هدِي وكُفي ووُقي ؟ ) . رواه أبو داود ، وروى الترمذي إلى قوله : ( له الشيطان ) (25) .
وصح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، في يوم مائة مرة ، كانت له عدل عشر رقاب ، وكتبت له مائة حسنة ، ومحيت عنه مائة سيئة ، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك ، حتى يمسي ) . متفق عليه (26) .

وقال أبو خلاد المصري : من دخل في الإسلام ، دخل في حصن ، ومن دخل المسجد ، فقد دخل في حصنين ، ومن جلس في حلقة يذكر الله عزّ وجلّ فيها ، فقد دخل في ثلاثة حصون .

وفي صحيح البخاري ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة قال : " ولاّني رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة رمضانَ أن احتفظ بها ، فأتاني آتٍ ، فجعل يَحْثُوا الطعام ، فأخذته ، فقال : دعني فإني لا أعود .... " . فذكر الحديث ، وقال : فقال في الثالثة : " أعلمك كلمات ينفعك الله بهن ، إذا أويتَ إلى فراشك ، فاقرأ آية الكرسي من أولها إلى آخرها ، فإنه لا يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح " فخلى سبيله ، فأصبح ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ، فقال : ( صَدَقَكَ ، وهو كذوب ) .
وذكر الحافظ أبو موسى من حديث أبي الزبير عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أوى الإنسانُ إلى فراشه ، ابتدرهُ ملكٌ وشيطانٌ ، فيقول الملكُ : اختم بخير ، ويقول الشيطان : اختم بشر ، فإذا ذكر الله ، ثم نام ، بات الملك يكلؤه .

وإذا استيقظ ، قال الملك : افتح بخير ، وقال الشيطان : افتح بشر ، فإن قال : الحمد لله الذي ردَّ علي نفسي ، ولم يمتها في منامها ، الحمد لله الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا ، ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ، الحمد لله الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ، فإن وقع عن سريره فمات دخل الجنة ) .

رواه أبو يعلى ، ورجاله رجال الصحيح غير إبراهيم بن الحجاج الشامي وهو ثقة " (27) .
وفي الصحيحين عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لو أن أحدكُم إذا أراد أن يأتي أهلَهُ فقال : بسم الله ، اللهم جنبنا الشيطانَ ، وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فإنه إن يقدّر بينهما ولد في ذلك لا يضرهُ شيطانٌ أبداً ) (28) .
وقد ثبت في (( الصحيح )) أن الشيطان يهرب من الأذان .

قال سهيل بن أبي صالح : " أرسلني أبي إلى بني حارثة ومعي غلام – أو صاحب لنا – فناداه منادٍ من حائط باسمه قال : وأشرف الذي معي على الحائط ، فلم ير شيئاً ، فذكرت ذلك لأبي ، فقال : لو شعرت أنك تلقى هذا لم أرسلك ،ولكن إذا سمعت صوتاً فناد بالصلاة ، فإني سمعت أبا هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إنّ الشيطان إذا نودي بالصلاة ، ولى وله حصاص ) (29) .
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين ، فإذا قضي النداء أقبل ، حتى إذا قضي التثويب ، أقبل حتى يخطر ببين المرء ونفسه .... ) (30) .

روى الإمام أحمد أن أبا تميمة سمع أحد الصحابة يحدث أنه كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : عثر بالنبي صلى الله عليه وسلم حماره ، فقلت : تعس الشيطان ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تقل : تعس الشيطان ، فإنك إذا قلت : تعس الشيطان تعاظم ، وقال : بقوتي صرعته ، وإذا قلت : باسم الله تصاغر ، حتى يصير مثل الذباب ) . قال ابن كثير (31) : تفرد به أحمد ، وإسناده جيد .

خامساً : لزوم جماعة المسلمين :

ومما يبعد المسلم عن الوقوع في أحابيل الشيطان أن يعيش في ديار الإسلام ، ويختار لنفسه الفئة الصالحة التي تعينه على الحق ، وتحضّه عليه ، وتذكره بالخيرات ، فإن في الاتحاد والتجمع قوة وأي قوة ، عن ابن عمر قال : خطبنا عمر بالجابية ، فقال : يا أيها الناس ، إني قمت فيكم كمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا ، فكان مما قال : ( عليكم بالجماعة ، وإياكم والفرقة ، فإن الشيطان مع الواحد ، وهو من الاثنين أبعد .. ) (32) .

والجماعة جماعة المسلمين ، وإمام المسلمين ، ولا قيمة للجماعة في الإسلام ما لم تلتزم بالحق : الكتاب والسنة ، فعن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما من ثلاثة في قرية ولا بدو ، لا تقام فيهم الصلاة ، إلا قد استحوذ عليهم الشيطان ، فعليك بالجماعة ، فإنما يأكل الذئب القاصية ) (33) .

وروى أبو داود في سننه من حديث معاوية بن أبي سفيان أنه قام فقال : ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا فقال : ( ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة ، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ، ثنتان وسبعون في النار ، وواحدة في الجنة ، وهي الجماعة ) (34) .

سادساً : كشف مخططات الشيطان ومصائده (35 :

على المسلم أن يتعرف على سبله ووسائله في الإضلال ، ويكشف ذلك للناس ، وقد فعل ذلك القرآن ، وقام بهذه المهمة الرسول صلى الله عليه وسلم خير قيام ، فالقرآن عرفنا الأسلوب الذي أغوى الشيطان به آدم . والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعرف الصحابة كيف يسترق الشيطان السمع ، ويلقي بالكلمة التي سمع في أذن الكاهن أو الساحر ومعها مائة كذبة ، يبين ذلك لهم كي لا ينخدعوا بأمثال هؤلاء ، وبين لهم كيف يوسوس لهم ويشغلهم في صلاتهم وعبادتهم ، وكيف يحاول الشيطان أن يوهمهم بأن وضوءهم قد فسد ، والأمر ليس كذلك ، وكيف يفرق بين المرء وزوجه ، وكيف يوسوس للمرء ، فيقول له : من خلق كذا ؟ من خلق كذا ؟ حتى يقول : من خلق ربك ؟
--------------------------------
(1) الثلمة في السور : الموضع المتهدم منه .
(2) الربض : المكان الذي يُؤوى إليه .
(3) تلبيس إبليس : 49 .
(4) مشكاة المصابيح : 1/58 . ورقمه : 166 . وقال محقق المشكاة : وإسناده حسن .
(5) صحيح مسلم : 1/87 . ورقمه : 81 .
(6) تفسير ابن كثير : 1/28 .
(7) حديث صحيح ، انظر تخريجه ، وكلام الشيخ ناصر الدين الألباني عليه في إرواء الغليل : 2/51 . ورقمه : 341 .
(8) رواه البخاري : 1/242 . ورقمه : 142 ، ورواه مسلم : 1/283 . ورقمه : 375 .
(9) صحيح سنن أبي داود :1/4 . ورقمه :4 .
(10) مشكاة المصابيح : 1/743 . ورقمه : 2418 .
(11) صحيح سنن الترمذي : 3/172 . ورقمه : 2798 .
(12) مشكاة المصابيح : 1/732 . ورقمه : 3416 .
(13) صحيح سنن ابن ماجة : 2/273 . ورقمه : 2857 .
(14) راجع صحيح الجامع : 1/286 .
(15) الحديث رواه البخاري ومسلم . انظر : مشكاة المصابيح : 1/743 . ورقمه : 2419 .
(16) إغاثة اللهفان : 1/109 .
(17) مشكاة المصابيح : 1/488 . ورقمه : 1535 .
(18) تلبيس إبليس : 47 .
(19) انظر هذه الأحاديث في صحيح سنن النسائي : 3/1104 –1107 . وأرقامها : 5017-5029 .
(20) تلبيس إبليس : 48 .
(21) تلبيس إبليس : 48 .
(22) الوابل الصيب : ص60 .
(23) جمع فرط ، والمراد به : من مات له من الأطفال .
(24) الوابل الصيب : ص144 .
(25) مشكاة المصابيح : 1/749 . ورقمه : 1442 .
(26) مشكاة المصابيح : 1/708 . ورقمه : 2302 .
(27) مجمع الزوائد : 10/120 . أقول : وصوابه السامي بالسين .
(28) رواه البخاري : 13/379 . ورقمه : 7396 . ورواه مسلم : 2/1058 . ورقمه : 1434 .
(29) رواه مسلم : 1/290 . ورقمه : 389 .
(30) رواه البخاري : 2/48 . ورقمه : 806 . وانظره أيضاً برقم : 1222 ، 1231 ، 1232 ، 3285 . ورواه مسلم : 1/290 . ورقمه : 389 .
(31) مسند الإمام أحمد : 5/59 ، البداية والنهاية : 1/65 .
(32) صحيح سنن الترمذي : 2/232 . ورقمه : 1758 .
(33) صحيح سنن أبي داود : 1/109 . ورقمه : 541 .
(34) صحيح سنن أبي داود : 3/869 . ورقمه : 3842 .
(35) إذا رغبت في الوقوف على تفاصيل مخططات الشيطان ومكائده ومصائده ، وكيف ألبس على الناس دينهم في العقائد والعبادات والمعاملات ، وكيف تلاعب باليهود والنصارى والمجوس وعباد الأوثان – فلا غنى لك عن قراءة كتابين : الأول : تلبيس إبليس ، لابن الجوزي ، الثاني : إغاثة اللهفان ، لابن القيم .

عن الكاتب

A. Fatih Syuhud

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية