الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

فصل فى الجد والمواظبة والهمة للزرنوجي

فصل فى الجد والمواظبة والهمة للزرنوجي

فصل فى الجد والمواظبة والهمة
كتاب تعليم المتعلم طريق التعلم للزرنوجي

محتويات

فصل فى الجد والمواظبة والهمة

ثم لا بد من الجد والمواظبة والملازمة لطالب العلم، وإليه الإشارة فى القرآن بقوله تعالى: يا يحيى خذ الكتاب بقوة. وقوله تعالى: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا. قيل:

بجـد لا بجــد كــل مـجــد*** فهل جد بلا جد بمجدى
فكم من عبد يقوم مقام حر *** وكم حر يقوم مقام عبد

وقيل: من طلب شيئا وجد وجد، ومن قرع الباب ولج ولج. وقيل: بقدرما تتعنى تنال ما تتمنى. وقيل: يحتاج فى التعلم والتفقه إلى جد ثلاثة: المتعلم، والأستاذ، والأب، إن كان فى الأحياء. أنشدنى الشيخ الإمام الأجل الأستاذ سديد الدين الشيرازى للشافعى رحمهما الله:

الجـــد يــدنـى كــل أمـر شـاسـع *** والـجــد يفــتـح كــل باب مــغـلـق
وأحق خلق الله تعالى بالهم امرؤ *** ذو هــمـة يــبلـى بـعــيـش ضـيـق
ومن الدليل على القضاء وحكمه *** بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
لكن من رزق الحجا حرم الغنى *** ضـدان يــفـــتـرقــان أى تــفــرق

وأنشدت لغيره:

تمـنيت أن تمسى فـقيها مناظـرا *** بغـير عناء والجـنون فنون
وليس اكتساب المال دون مشقة *** تحملها فالعلم كـيف يكون؟]

قال أبو الطيب المتنبى:

ولم أرى فـى عيوب الناس عيبا *** كنقص القادرين على التمام

ولا بد لطالب العلم من سهر الليالى كما قال الشاعر:

بقـدر الـكــد تكــتـسـب المـعالى *** ومـن طـلـب الـعـلى سـهـر اللـيالى
تــروم الــــعــز ثـم تنــام لــــيلا *** يغوص فى البحر مـن طلب اللآلى
علـو الـكــعـب بالهـمـم الـعـوالى *** وعـن الـــمـرء فـى ســهـر اللـيالى
تركــت الــنوم ربى فى اللــيالى *** لأجــل رضـاك يامــولـى الـمـوالى
ومــن رام الــعـلى مـن غـير كد *** أضاع الـعـمـر فى طـلب المـحــال
فــوفـقـنى إلـى تحــصــيل عـلـم *** وبلـغــنـى إلـى أقــصـى الـمـعــالى

قيل: اتخذ الليل جملا تدرك به أملا]. قال المصنف وقد اتفق لى نظم فى هذا المعنى شعر:

مـن شاء أن يحـتوى آماله جـملا *** فلـيتـخـذ لــيله فـى دركــها جــمـلا
إقلل طعامك كى تحظى به سهرا *** إن شئت يا صاحبى أن تبلغ الكملا

وقيل: من أسهر نفسه بالليل، فقد فرح قلبه بالنهار.

ولا بد لطالب العلم من المواظبة على الدرس والتكرار فى أول الليل وآخره، فإن ما بين العشائين، ووقت السحر، وقت مبارك.

قيل فى هذا المعنى:

يا طالب العـلم باشـر الورعا *** وجـانب الـنوم واترك الشبعـا
وداوم على الدرس لا تفارقه *** فإن العلم بالدرس قام وارتفعا

فيغتنم أيام الحداثة وعنفوان الشباب، كما قيل:

بقـدر الـكــد تعــطى ما تروم *** فـمــن رام المـنى لــيلا يقـوم
وأيام الـحــداثـة فـاغـتـنـمـهـا *** ألا إن الــحــــــداثــة لاتــدوم

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغض نفسك فى عبادة الله تعالى فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى. وقال عليه السلام: نفسك مطيتك فارفق بها. فلا بد لطالب العلم من الهمة العالية فى العمل، فإن المرء يطير بهمته كالطير يطير بجناحيه. وقال أبو الطيب رحمه الله:

على قدر أهل العزم تأتى العـزائم*** وتأتى على قـدر الكـرام المكارم
وتعظم فى عين الصغير صغارها *** وتصغر فى عين العظيم العظائم

والركن فى تحصيل الأشياء الجد والهمة العالية، فمن كانت همته حفظ جميع كتب محمد بن الحسن، واقترن بذلك الجد والمواظبة، فالظاهر أنه يحفظ أكثرها أو نصفها، فأما إذا كانت له همة عالية ولم يكن له جد، أو كان له جد ولم تكن له همة عالية لا يحصل له العلم إلا قليلا.

وذكر الشيخ الامام الأجل الأستاذ رضى الدين النيسابورى فى كتاب مكارم الأخلاق[18] أن ذا القرنين[19] لما أراد أن يسافر ليستولى على المشرق والمغرب، شاور الحكماء وقال: كيف أسافر بهذا القدر من الملك، فإن الدنيا قليلة فانية، وملك الدنيا أمر حقير، فليس هذا من علو الهمة.

فقال الحكماء: سافر ليحصل لك ملك الدين والآخرة. فقال: هذا أحسن. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب معالى الأمور ويكره سفسافها. وقيل: فلا تعجل بأمرك واستدمه فما صلى عصاك كمستديم قيل: قال أبو حنيفة رضى الله لأبى يوسف: كنت بليدا أخرجتك المواظبة، وإياك والكسل فإنه شؤم وآفة عظيمة. قال الشيخ الإمام أبو نصر الصفار الأنصارى:

يا نفس يا نفس لا ترخى عن العمل *** فى البر والعدل والإحسان فى مهل
فـكـل ذى عـمـل فى الخـير مـغـتبط *** وفـى بـلاء وشــؤم كــل ذى كــسـل

قال المصنف: وقد اتفق لى فى هذا المعنى شعر:

دعى نـفـسى الـتكــاسـل والـتـوانـى *** وإلا فـاثـــبــتـى فـى ذا الـــهـــوان
فلم أر للـكــسـالـى اـلحـظ يعطى *** ســوى نــدم وحــــرمــان الأمــانـى

وقيل:

كـم مـن حـياء وكم عـجـز وكـم نـدم *** جــم تــولـــد للإنـسـان مــن كـــسـل
إياك عن كسل فى البحث عن شبه *** فـمــا علـمـت وما قـد شذ عنك سل

وقد قيل: الكسل من قلة التأمل فى مناقب العلم وفضائله، فينبغى أن يتعب نفسه على التحصيل والجد والمواظبة بالتأمل فى فضائل العلم، فإن العلم يبقى [ببقاء المعلومات] والمال يفنى، كما قال أمير المؤمنين على بن أبى طالب كرم الله وجهه:

رضـينا قسمة الجـبار فينا لـنا علم وللأعـداء مال

فإن المال يفنى عن قريب *** وإن العلم يبقى لا يزال

والعلم النافع يحصل به حسن الذكر ويبقى ذلك بعد وفاته فغنه حياة أبدية. وأنشدنا الشيخ الإمام الأجل ظهير الدين مفتى الأئمة الحسن بن على المعروف بالمرغينانى:

الجـــاهـلـون مـوتـى قـبل مـوتـهــم *** والعـالمـون وإن ماتوا فأحياء

وأنشدنى الشيخ الإمام الأجل برهان الدين رحمه الله:

وفى الجهل قبل الموت موت لأهله *** فـأجــسامهـم قبل القبور قبور
وإن امــرؤ لم يحـــيى بالعلم مــيت *** فـليس له حــين النشور نشور

وقال غيره:

أخـو الـعـلم حـي خــالـد بـعـد مــــــوتـه *** وأوصـاله تحـت التراب رمـيم
وذو الجهل ميت وهو يمشى على الثرى *** يظهر مـــن الأحياء وهوعديم

وقال آخر:

حـياة الـقـلب عـلـم فاغـتـنمـه *** ومـوت القلب جهـل فاجتنبه

وأنشدنى أستاذنا شيخ الإسلام برهان الدين رحمة الله عليه شعرا:

ذا العلم أعلى رتبة فى المــــــــراتب *** ومن دونه عز العلى فـى المواكــب
فذو العلم يبقــى عزه متضــاعفـــــــا *** وذو الجهل بعد الموت فـى الترائب
فـهــيات لا يرجــو مـداه مـن ارتـقى *** رقى ولى الملك والـى الكــــــــتائب
سأملى عليكــم بعض ما فيه فاسمعوا *** فبى حصر عن ذكر كـل المــــناقب
هو النور كل النور يهدى عن العمى *** وذو الجهل مر الدهر بين الغــياهب؛
هو الـذر الشماء تحمى مـــن التجا *** إليها ويمشى آمـــــنا فـى الـــنـوائب
به ينتجــــى والناس فى غفلاتـــــهـم *** به يرتجـــــى والـروح بين الترائب
به يشفع الإنسان مــن راح عاصـــيا *** إلى درك النيران شـر العـــــــواقب
فمن رامه رام المآرب كلــــــــــــــها *** ومـــــن حازه قد حاز كـل المطالب
هو المنصب العالى يا صاحب الحجا *** إذا نلته هون بفــــــــوت المـناصب
فإن فاتك الدنيا وطيب نعيمـــــــــــها *** فغمض فإن العلم خير المواهب

وقيل فى هذا المعنى:

إذا مـــــــا اعتز ذو علم بعــــــــــلم *** فعلم الفقــــــــه أولـــــــــى باعتزاز
فكـــــــــــم طيب يفوح ولا كــمسك *** وكــــــــــــم طير يطير ولا كبازى

وأنشدت أيضا لبعضهم:

الفقه أنفس كل شيئ أنت ذا خـــــره *** مــن يدرس العلم لم تدرس مفاخره
فاكسب لنفسك ما أصبحت تجهــــله *** فأول العلم إقبال وآخـــــــــــــــــره

وكفى بلذة العلم والفقه والفهم داعيا وباعثا للعاقل على تحصيل العلم. وقد يتولد الكسل من كثرة البلغم والرطوبات، وطريق تقليله، تقليل الطعام. قيل: اتفق سبعون طبيبا على أن النسيان من كثرة البلغم، وكثرة البلغم من كثرة شرب الماء، وكثرة شرب الماء من كثرة الأكل، والخبز اليابس يقطع البلغم، وكذلك أكل الزبيب على الريق، ولا يكثر منه، حتى لايحتاج إلى شرب الماء فيزيد البلغم.

والسواك يقلل البلغم، ويزيد الحفظ والفصاحة، فإنه سنة سنية، تزيد فى ثواب الصلاة، وقراءة القرآن، وكذا القيء يقلل البلغم والرطوبات، وطريق تقليل الأكل التأمل فى منافع قلة الأكل هى: الصحة والعفة والإيثار. وقيل فيه شعر:

فعار ثم عار ثم عار *** شقاء المرء من أجل الطعام

وعن النبى عليه السلم أنه قال: ثلاثة يبغضهم الله من غير جرم: الأكول والبخيل والمتكبر. وتأمل فى مضار كثرة الأكل وهى: الأمراض وكلالة الطبع، وقيل: البطنة تذهب الفطنة. حكى عن جالينوس أنه قال: الرمان نفع كله، والسمك ضرر كله، وقليل السمك خير من كثرة الرمان.

وفيه أيضا: إتلاف المال، والأكل فوق الشبع ضرر محض ويستحق به العقاب ودار الآخرة، والأكول بغيض فى القلوب. وطريق تقلييل الأكل: أن يأكل الأطعمة الدسمة ويقدم فى الأكل الألطف والأشهى، ولايأكل مع الجائع إلا إذا كان له غرض صحيح، بأن يتقوى به على الصيام والصلاة والأعمال الشاقة فله ذلك.

فصل فى بداية السبق وقدره وترتيبه

كان أستاذنا شيخ الإسلام برهان الدين رحمه الله يوقف بداية السبق على يوم الأربعاء، وكان يروى فى ذلك حديثا ويستدل به ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من شيئ بدئ يوم الأربعاء إلا وقد تم[1]؛ وهكذا كان يفعل أبى[2]. وكان[3] يروى هذا الحديث[4] عن أستاذه الشيخ الإمام الأجل قوام الدين أحمد بن عبد الرشيد رحمه الله[5]. وسمعت ممن أثق به، أن الشيخ يوسف الهمذانى[6] رحمه الله، كان يوقف كل عمل من الخير على يوم الأربعاء. وهذا لأن يوم الأربعاء يوم خلق فيه النور[7]، وهو يوم نحس فى حق الكفار[8] فيكون مباركا للمؤمنين.

وأما قدر السبق فى الإبتداء: كان أبو حنيفة رحمه الله يحكى عن الشيخ القاضى الإمام عمر بن أبى بكر الزرنجرى[9] قدر ما يمكن ضبطه بالإعادة مرتين بالرفق ويزيد كل يوم كلمة حتى أنه وإن طال وكثر يمكن ضبطه بالإعادة مرتين، ويزيد بالرفق والتدريج، وأما إذا طال السبق فى الإبتداء واحتاج إلى الإعادة عشر مرات فهو فى الإنتهاء أيضا يكون كذلك، لأنه يعتاد ذلك، ولا يترك تلك الإعادة إلا بجهد كثير[10] وقد قيل: السبق حرف، والتكرار ألف[11]. رحمه الله أنه قال: قال مشايخنا رحمهم الله: ينبغى أن يكون قدر السبق للمبتدئ

وينبغى أن يبتدئ بشيئ يكون أقرب إلى فهمه، وكان الشيخ الإمام الأستاذ شرف الدين العقيلى[12] رحمه الله يقول: الصواب عندى فى هذا ما فعله مشايخنا رحمهم الله، فإنهم كانوا يختارون للمبتدئ صغارات المبسوط[13] لأنه أقرب إلى الفهم والضبط، وأبعد من الملالة، وأكثر وقوعا بين الناس.

وينبغى أن يعلق السبق بعد الضبط والإعادة كثيرا، فإنه نافع جدا[14]. ولا يكتب المتعلم شيئا لا يفهمه، فإنه يورث كلالة الطبع ويذهب الفطنة ويضيع أوقاته. وينبغى أن يجتهد فى الفهم عن الأستاذ بالتأمل وبالتفكر وكثرة التكرار، فإنه إذا قل السبق وكثرة التكرار والتأمل يدرك ويفهم. قيل: حفظ حرفين، خير من سماع وقرين[15]، وفهم حرفين خير من حفظ سطرين[16]. وإذا تهاون فى الفهم ولم يجتهد مرة أو مرتين يعتاد ذلك فلا يفهم الكلام اليسير، فينبغى أن لا يتهاون فى الفهم بل يجتهد ويدعو الله ويتضرع إليه فإنه يجيب من دعاه، ولا يخيب من رجاه.

وأنشدنا الشيخ الأجل قوام الدين حماد بن إبراهيم بن إسماعيل الصفار الأنصارى إملاء للقاضى الخليل بن أحمد الشجرى[17] فى ذلك شعرا:

أخدم العلم خدمـــــــة المستفيد *** وأدم درسه بفعل حـــــــميد
وإذا مـــــــا حفظت شيئا أعده ثم أكده غاية التأكــــــــــــيد
كى لا يزول ثم علقه كى تعود إليه وإلى درسه على التأبيد
فإذا ما أمنت مــــــــــــنه فواتا فانتدب بعده لشيئ جــــــديد
مع تكرار ما تقدم مــــــــــــنه واقتناء لشأن هـــــذا المـزيد
ذاكــــــــر الناس بالعلوم لتحيا لا تكن من أولى النهى ببعيد
إذا كتمت العلوم أنسيت حــتى لا ترى غير جـــــاهل وبليد
ثم ألجمت فـــــــى القيامة نارا وتلهبت بالعـــــــذاب الشديد[18]

ولا بد لطالب العلم من المذاكرة، والمناظرة، والمطارحة، فينبغى أن يكون كل منها بالإنصاف والتأنى والتأمل، ويتحرز عن الشغب [والغضب]، فإن المناظرة والمذاكرة مشاورة، والمشاورة إنما تكون لاستخراج الصواب وذلك إنما يحصل بالتأمل والتأنى والإنصاف، ولا يحصل بالغضب والشغب.

فإن كانت نيته من المباحثة إلزام الخصم وقهره، فلا تحل، وإنما يحل ذلك لإظهار الحق. والتمويه والحيلة لا يجوز فيها، إلا إذا كان الخصم متعنتا، لا طالبا للحق. وكان محمد بن يحيى[19] إذا توجه عليه الإشكال ولم يحضره الجواب يقول: ما ألزمته لازم، وأنا فيه ناظر، وفوق كل ذى علم عليم. وفائدة المطارحة والمناظرة أقوى من فائدة مجرد التكرار لأن فيه تكرارا وزيادة.

وقيل: مطارحة ساعة، خير من تكرار شهر. لكن إذا كان [مع] منصف سليم الطبيعة. وإياك والمذاكرة مع متعنت غير مستقيم الطبع، فإن الطبيعة متسرية، والأخلاق متعدية، والمجاورة مؤثرة. وفى الشعر الذى ذكره الخليل بن أحمد[20] فوائد كثيرة، قيل[21]:

العلم من شرطه لمن خـــــدمه أن يجعل الناس كلهم خـــدمه

وينبغى لطالب العلم أن يكون متأملا فى جميع الأوقات فى دقائق العلوم ويعتاد ذلك، فإنما يدرك الدقائق بالتأمل، فلهذا قيل: تأمل تدرك.

ولا بد من التأمل قبل الكلام حتى يكون صوابا، فإن الكلام كالسهم، فلا بد من تقويمه قبل الكلام حتى يكون مصيبا. وقال فى أصول الفقه: هذا أصل كبير وهوأن يكون كلام الفقيه المناظر بالتأمل. قيل: رأس العقل أن يكون الكلام بالتثبت والتأمل.

قال قائل شعرا:

أوصيك فى نظم الكلام بخمسة إن كنت للموصى الشفيق مطيعا
لا تغفلن سبب الكـــــلام ووقته والكيف والكــــم والمكان جميعا

ويكون مستفيدا فى جميع الأوقات والأحوال من جميع الأشخاص قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها اخذها[22].
وقيل: خذ ما صفا، ودع ما كدر. وسمعت الشيخ الإمام الأجل الأستاذ فخر الدين الكاشانى[23] يقول: كانت جارية أبى يوسف أمانة عند محمد [ بن الحسن] فقال لها: هل تحفظين أنت فى هذا الوقت عن أبى يوسف فى الفقه شيئا؟ فقالت: لا، إلا أنه كان يكرر ويقول: سهم الدور ساقط، فحفظ ذلك منها، وكانت تلك المسألة مشكلة على محمد فارتفع أشكاله بهذه الكلمة. فعلم أن الإستفادة ممكنة من كل أحد.

ولهذا قال ابو يوسف حين قيل: بم أدركت العلم؟ قال: ما استنكفت من الإستفادة من كل أحد وما بخلت من الإفادة. وقيل لابن عباس رحمه الله: بم أدركت العلم؟ قال: بلسان سؤول، وقلب عقول. وإنما سمي طالب العلم: ما تقول، لكثرة ما كانوا يقولون فى الزمان الأول. ما تقول فى هذه المسألة؟. وإنما تفقه أبو حنيفة رحمه الله بكثرة المطارحة والمذاكرة فى دكانه حين كان بزازا[24].

فبهذا يعلم أن تحصيل العلم والفقه يجتمع مع الكسب. وكان أبو حفص الكبير يكتسب ويكرر العلوم، فإن كان لا بد لطالب العلم من الكسب لنفقة العيال وغيره فليكتسب وليكرر وليذاكر ولا يكسل. وليس لصحيح العقل والبدن عذر فى ترك التعلم والتفقه، فإنه لا يكون أفقر من أبى يوسف، ولم يمنعه ذلك من التفقه. فمن كان له مال كثير فنعم المال الصالح للرجل الصالح، المنصرف فى طريق العلم[25].

قيل لعالم: بم أدركت العلم؟ قال: بأب غني. لأنه كان ينتفع به أهل العلم والفضل، فإنه سبب زيادة العلم لأنه شكر على نعمة العقل والعلم، وإنه سبب الزيادة. قيل: قال أبو حنيفة رحمه الله: إنما أدركت العلم بالحمد والشكر، فكلما فهمت ووفقت على فقه وحكمة قلت: الحمد لله، فازداد علمى. وهكذا ينبغى لطالب العلم أن يشتغل بالشكر باللسان والجنان والأركان والحال ويرى الفهم والعلم والتوفيق من الله تعالى ويطلب الهداية من الله تعالى بالدعاء له والتضرع إليه، فإن الله تعالى هاد من استهداه. فأهل الحق ـ وهم أهل السنة والجماعة ـ طلبوا الحق من الله تعالى، الحق المبين الهادى العاصم، فهداهم الله وعصمهم عن الضلالة.

وأهل الضلالة أعجبوا برأيهم وعقلهم وطلبوا الحق من المخلوق العاجز وهو العقل، لأن العقل لا يدرك جميع الأشياء كالبصر، فإنه لا يبصر جميع الأشياء فحجبوا وعجزوا عن معرفته، وضلوا وأضلوا.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الغافل من عمل بغفلته والعاقل من عمل بعقله[26]. فالعمل بالعقل أولا: أن يعرف عجزنفسه, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من عرف نفسه فقد عرف ربه[27], فإذا عرف عجز نفسه عرف قدرة الله عزوجل, ولا يعتمد على نفسه وعقله بل يتوكل على الله, ويطلب الحق منه. ومن يتوكل على الله فهو حسبه ويهد يه إلى صراط مستقيم.

ومن كان له مال كثير فلا يبخل, وينبغى أن يتعوذ بالله من البخل[28]. قال النبى عليه السلام: أي دواء أدوأ من البخل[29]. وكان أبو الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلوانى, رحمه الله فقيرا يبيع الحلواء, وكان يعطى الفقهاء من الحلواء ويقول: أدعوا لابنى, فببركة جوده واعتقاده وشفقته وتضرعه إلى الله تعالى نال ابنه ما نال[30].

ويشترى بالمال الكتب ويستكتب فيكون عونا على التعلم والتفقه. وقد كان لمحمد بن الحسن مال كثير حتى كان له ثلاثمائة من الوكلاء على ماله وأنفقه كله فى العلم والفقه, ولم يبق له ثوب نفيس فرآه أبو يوسف فى ثوب خلق فأرسل إليه ثيابا نفيسة فلم يقبلها فقال: عجل لكم, وأجل لنا, ولعله إنما لم يقبله وإن كان قبول الهدية سنة, لما رأى فى ذلك مذلة لنفسه[31].

قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: ليس للمؤمن أن يذل نفسه[32]. وحكي أن الشيخ فخر الإسلام الأرسابندى رحمه الله جمع قشور البطيخ الملقاة فى مكان خال فأكلها فرأته جارية فاخبرت بذلك مولاها فاتخذ له دعوة فدعاه إليها فلم يقبل لهذا[33]. وهكذا ينبغى لطالب العلم أن يكون ذا همة عالية لا يطمع فى أموال الناس.

قال النبى صلى الله عليه وسلم: إياك والطمع فإنه فقر حاضر[34]. ولا يبخل بما عنده من المال بل ينفق على نفسه وعلى غيره.
قال النبى عليه الصلاة والسلام: الناس كلهم فى الفقر مخافة الفقر وكانوا فى الزمان الأول يتعلمون الحرفة ثم يتعلمون العلم حتى لايطمعوا فى أموال الناس. وفى الحكمة من استغنى بمال الناس افتقر والعالم إذا كان طماعا لا يبقى له حرمة العلم ولا يقول بالحق ولهذا كان يتعوذ صاحب الشرح عليه السلام ويقول أعوذ بالله من طمع يدنى إلى طبع.

وينبغى أن لا يرجو الأمن الله تعالى ولا يخاف إلا منه ويظهر ذلك بمجاوزة حد الشرع وعدمها فمن عصى الله تعالى خوفا من المخلوق فقد خاف غير الله تعالى، فإذا لم يعص الله تعالى لخوف المخلوق وراقب حدود الشرع فلم يخف غير الله تعالى بل خاف الله تعالى وكذا فى جانب الرجاء.

وينبغى لطالب العلم أن يعد ويقدر لنفسه تقديرا فى التكرار فإنه لا يستقر قلبه حتى يبلغ ذلك المبلغ.
وينبغى لطالب العلم أن يكرر سبق الأمس خمس مرات وسبق اليوم الذى قبل الأمس أربع مرات والسبق الذى قبله ثلاثا والذى قبله اثنين والذى قبله واحدا فهذا أدعى إلى الحفظ. وينبغى أن لا يعتاد المخافة فى التكرار لأن الدرس والتكرار ينبغى أن يكون بقوة ونشاط، ولا يجهر جهرا يجهد نفسه كيلا ينقطع عن التكرار، فخير الأمور أوسطها[35].

وحكى أن أبا يوسف رحمه الله كان يذاكر الفقه مع الفقهاء بقوة ونشاط، وكان صهره عنده يتعجب فى أمره ويقول: أنا أعلم أنه جائع منذ خمسة أيام، ومع ذلك يناظر بقوة ونشاط. وينبغى أن لا يكون لطالب العلم فترة[36] فإنها آفة، وكان أستاذنا شيخ الإسلام برهان الدين رحمه الله يقول: إنما غلبت شركائى بأنى لا تقع لى الفترة فى التحصيل.

وكان يحكى عن الشيخ الأسبيجابى[37] أنه وقع فى زمان تحصيله وتعلمه فترة اثنتى عشرة سنة بانقلاب الملك، فخرج مع شريكه فى المناظرة [إلى حيث يمكنهما الإستمرار فى طلب العلم وظلا يدرسانه معا] ولم يتركا الجلوس للمناظرة اثنتى عشرة سنة. فصار شريكه شيخ الإسلام للشافعيين وكان هو شافعيا.

وكان أستاذنا الشيخ القاضى الإمام فخر الإسلام قاضى خان يقول: ينبغى للمتفقه أن يحفظ [كتابا] واحدا من [كتب[38]] الفقه دائما فيتيسر له بعد ذلك حفظ ما سمع من الفقه.

فصل فى التوكل

ثم لا بد لطالب العلم من التوكل فى طالب العلم ولا يهتم لأمر الرزق ولا يشغل قلبه بذلك.

روى أبو حنيفة رحمه الله عن عبد الله بن الحارث الزبيدى[1] صاحب رسل الله صلى الله عليه و سلم: من تفقه فى دين الله كفى همه الله تعالى ورزقه من حيث لا يحتسب[2]. فإن من اشتغل قلبه بأمر الرزق من القوت والكسوة قل ما يتفرغ لتحصيل مكارم الأخلاق ومعالى الأمور.

قيل[3]:

دع المكـــــارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك انت الطاعم الكاسى

قال رجل [لابن][4] منصور الحلاج[5] : أوصنى, فقال [ابن] المنصور : هي نفسك, إن لم تشغلها شغلتك.
فينبغى لكل أحد أن يشغل نفسه بأعمال الخير حتى لا يشغل نفسه بهواها, ولا يهتم العاقل لأمر الدنيا لأن الهم والحزن لا يرد المصيبة, ولا ينفع بل يضر بالقلب والعقل, ويخل بأعمال الخير, ويهتم لأمر الآخرة لأنه ينفع. وأما قوله عليه الصلاة والسلام : إن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها إلا هم المعيشة[6] فالمراد منه قدر هم لا يخل بأعمال الخير ولا يشغل القلب شغلا يخل بإحضار القلب فى الصلاة, فإن ذالك القدر من الهم والقصد من أعمال الآخرة.

ولا بد لطالب العلم من تقليل العلائق الدنيوية بقدر الوسع فلهذا اختاروا الغربة. ولا بد من تحمل النصب والمشقة فى سفر التعلم, كما قال موسى صلوات الله على نبينا وعليه فى سفر التعلم ولم ينقل عنه ذلك فى غيره من الأسافر [ لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا][7].
ليعلم أن سفر العلم لا يخلو عن التعب، لأن طلب العلم أمر عظيم وهو أفضل من الغزاة[8] عند أكثر العلماء، والأجر على قدر التعب والنصب، فمن صبر على ذلك التعب وجد لذة العلم تفوق [لذات الدنيا]. ولهذا كان محمد بن الحسن إذا سهر الليالى وانحلت له المشكلات يقول: أين أبناء الملوك من هذه اللذات؟.

وينبغى [لطالب العلم] ألا يشتغل بشيئ [أخر غير العلم] ولا يعرض عن الفقه. قال محمد بن الحسن رحمه الله: صناعتنا هذه من المهد إلى اللحد فمن أراد أن يترك علمنا هذا ساعة فليتركه الساعة[9]. ودخل فقيه، وهو إبراهيم بن الجراح[10]، على أبى يوسف يعوده فى مرض موته وهو يجود بنفسه، فقال أبو يوسف: رمي الجمار راكبا أفضل أم راجلا؟ فلم يعرف الجواب، فأجاب بنفسه[11].

وهكذا ينبغى للفقيه أن يشتغل به فى جميع أوقاته [فحينئذ] يجد لذة عظيمة فى ذلك. وقيل: رؤي محمد [بن الحسن] فى المنام بعد وفاته فقيل له: كيف كنت فى حال النزع؟ فقال: كنت متأملا فى مسألة من مسائل المكاتب[12]، فلم أشعر بخروج روحى .
وقيل إنه قال فى آخر عمره: شغلتنى مسائل المكاتب عن الإستعداد لهذا اليوم، وإنما قال ذلك تواضعا.

فصل فى وقت التحصيل

قيل: وقت التعلم من المهد إلى اللحد. دخل حسن بن زياد فى التفقه وهو ابن ثمانين سنة، ولم يبت على الفراش أربعين سنة فأفتى بعد ذلك أربعين سنة[1]. وأفضل الأوقات شرخ[2] الشباب، ووقت السحر، وما بين العشائين[3]. وينبغى أن يستغرق جميع أوقاته، فإذا مل من علم يشتغل بعلم آخر.

وكان ابن عباس[4] رضى الله عنه إذا مل من الكلام يقول: هاتوا ديوان الشعراء. وكان محمد بن الحسن لا ينام الليل، وكان يضع عنده الدفاتر، وكان إذا مل من نوع ينظر فى نوع آخر، (وكان يضع عنده الماء، ويزيل نومه بالماء، وكان يقول: إن النوم من الحرارة

فصل فى الشفقة والنصيحة

ينبغى أن يكون صاحب العلم مشفقا ناصحا غير حاسد، فالحسد يضر ولا ينفع. وكان أستاذنا شيخ الإسلام برهان الدين رحمه الله يقول: قالوا إن ابن المعلم يكون عالما لأن المعلم يريد أن يكون تلميذه فى القرآن عالما فببركة اعتقاده وشفقته يكون ابنه عالما[1].

وكان أبو الحسن[2] يحكى أن الصدر الأجل برهان الأئمة[3] جعل وقت السبق لابنيه الصدر الشهيد حسام الدين[4] [ والصدر] السعيد تاج الدين وقت الضحوة الكبرى بعد جميع الاسباق، وكانا يقولان: إن طبيعتنا تكل وتمل فى ذلك الوقت، فقال أبوهما رحمه الله: إن الغرباء وأولاد الكبراء يأتوننى من أقطار الأرض فلا بد من أن أقدم أسباقهم. فببركة شفقته فاق ابناه أكثر فقهاء الأمصار، وأهل الأرض فى ذلك العصر.

وينبغى أن لا ينازع أحدا ولا يخاصمه لأنه يضيع أوقاته. قيل: المحسن سيجزى بإحسانه والمسيئ ستكفيه مساويه. أنشدنى الشيخ الإمام الزاهد العارف ركن الإسلام محمد بن أبى بكر المعروف بإمام خواهر زاده مفتى الفريقين رحمه الله[5] قال: أنشدنى سلطان الشريعة والطريقة يوسف الهمذانى:

لا تجز [إنسانا] على سوء فعله سيكفيه مــا فيه وما هو فاعله[6]

قيل: من أراد أن يرغم أنف عدوه فليكرر وأنشدت هذا الشعر:

إذا شئت أن تلقى عدوك راغمـا وتقتله غما وتحرقــــــــــه هما
فرم[7] للعلى وازدد من العلم إنه من ازداد علما زاد حاسده غما

قيل: عليك أن تشتغل بمصالح نفسك لا بقهر عدوك، فإذا أقمت مصالح نفسك تضمن ذلك قهر عدوك. إياك والمعاداة فإنها تفضحك وتضيع أوقاتك، وعليك بالتحمل [لا] سيما[8] من السفهاء. قال عيسى بن مريم صلوات الله عليه: احتملوا من السفيه واحدة كى تربحوا[9] عشرا[10]. وأنشدت لبعضهم شعرا:

بلوت الناس قرنا بعـــــد قرن ولــــــم أر غير ختال وقالى[11]
ولم أر فى الخطوب أشد وقعا وأصعب من معاداة الرجال
وذقت مرارة الأشياء طـــــرا وما ذقت أمر مــــن السؤال

وإياك أن تظن بالمؤمن سوءا فإنه منشأ العداوة ولا يحل ذلك، لقوله عليه الصلاة والسلام: ظنوا بالمؤمنين خيرا[12]. وإنما ينشأ ذلك من خبث النية وسوء السريرة، كما قال أبو الطيب[13]:

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده مــــــن توهم[14]
وعادى محبيه بقول عداتــــــــــه وأصبح فى ليل من الشك مظلم[15]

وأنشدت لبعضهم:

تنح عن القبيح ولا تـــرده ومن أوليته حسنا فزده
ستكفى من عدوك كل كيد إذا كــاد العدو فلا تكده

وأنشدت للشيخ العميد أبى الفتح البستى[16]:

ذو العقل لا يسلم مـــــــن جاهل يسومـــــــــــــه ظلما وإعناتا[17]
فليختر السلم على حربـــــــــــه ولـــــــيلزم الإنصات إنصات

عن الكاتب

A. Fatih Syuhud

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية