الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

جواز القبلة عند حزب التحرير

جواز القبلة عند حزب التحرير

جواز القبلة عند حزب التحرير

وأما حكم القبلة والتقبيل لغير المحارم وغير المقيمين والقادمين من سفر، إذا استثنينا هاتين الحالتين اللتين يحرم فيهما القبلة والتقبيل مطلقاً فهو الكراهة.

اننا إذا استثنينا هاتين الحالتين من غرض التقبيل فماذا يكون الغرض من تقبيل الواحد للآخر إذا كان المقبِّل لا يريد الزنا بالمقبَّل ولا التمتع ولا التلذذ الجنسي؟ فما غرضه من التقبيل إذاً؟ قد يكون الغرض من التقبيل الشفقة على المقبل كما لو فقد شاب أهله في حادثة محزنة فعزاه أهله وجيرانه رجالاً ونساء، فاحتضنوه وقبلوه بدافع الشفقة والعطف عليه، وقد يكون الغرض من التقبيل الفرح والسرور،

اسم الكتاب: التبصرة
اسم المؤلف: يوسف سباتين
التصنيف: رأي حزب التحرير
الفهرست


ثانياً القُبْلــــــة

كل مسألة اجتهادية يمكن أن يحصل فيها خلاف بين المجتهدين، ولا يرى الواعون على الاجتهاد حرجا في ذلك، ولا ينكرونه، ولكن الذين يجهلون الاجتهاد والمتعصبين لغير الحق يتخذون من الاختلاف هذا ذريعة للنيل من المجتهدين.

كثيراً ما يتبنى المجتهدون قواعد أصولية تختلف القاعدة عند أحدهم عنها عند غيره، ولكن غالباً ما تكون الأحكام المستنبطة عند الاثنين متوافقة وقد تختلف قليلاً في بعض فروع الأحكام.

تبنى بعض المجتهدين القاعدة الشرعية (كل أمر للوجوب) فاعتبروا كل شيء مأمور به أي ـ بفعله ـ في النصوص التشريعية واجباً، ما لم ترد قرينة تصرف الأمر عن الوجوب إلى الندب أو الإباحة وتبنوا القاعدة (كل نهي للتحريم) ما لم ترد قرينة تصرفه عن التحريم إلى الكراهة. وتبنى غيرهم القاعدة (كل أمر للطلب) ما لم ترد قرينة تعين الشيء المطلوب في النصوص التشريعية للوجوب أو للندب أو للإباحة، وتبنوا القاعدة (كل نهي للترك) ما لم توجد قرينة تعين كونه للتحريم أو الكراهة، والأمثلة على ذلك كثيرة.

يقول الله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة)[1] فهذه الآية عند الفريق الأول تفيد وجوب إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لمجرد الأمر: وأقيموا وآتوا، وعند الفريق الثاني لا تفيد إلا مجرد الطلب ولكن هناك أكثر من قرينة تعين كونها للوجوب منها قوله تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم)[2] ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: (ولا تتداووا بحرام) فالنهي في الحديث يفيد عند الفريق الأول تحريم التداوي بما هو محرم، وعند الفريق الثاني لا يفيد إلا مجرد طلب الترك حتى ترد قرينة تعين كونه للتحريم أو الكراهة، وهناك قرينة وهي ما روى عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام في الحرير لحكة كانت به، فصرف التحريم عند الفريق الأول إلى الكراهة، وعينت طلب الترك عند الفريق الثاني للكراهة.

وأحياناً يختلف المجتهدون في تحقيق مناط الشيء الذي يراد إعطاؤه حكماً شرعياً، فبعضهم يدرجه تحت حكم مستنبط من دليل عام، وبعضهم يدرجه تحت حكم مستنبط من دليل عام آخر، يختلف حكم الأول عن حكم الثاني، فيظهر التناقض لاختلاف أفهام المجتهدين، وهذا أمر عادي أيضاً، وذلك كتحريم الدخان عند فريق وإباحته عند فريق آخر، فالفريق الذي يحرم الدخان يعطيه حكم الخبائث، لأنه يرى أن الدخان من الخبائث، ومعيار هذا الفريق للخبائث معيار عقلي، أي ما يعتبره العقل خبيثاً فهو خبيث وما يعتبره طيباً فهو طيب، ولذلك يعتبرونه حراماً لقول الله تعالى: (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث)[3]. أما الفريق الثاني الذي يبيح الدخان فيعطيه حكم الإباحة استنادا إلى القاعدة (الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم) ولا يعطيه حكماً خاصاً به لعدم ورود نص خاص به، ولا يقيسه على شيء من المطعومات لأنها لا تعلل، والقياس لا يكون إلا فيما يلتمس له علة، ولا يلحقه بالخبائث لأن معياره للخبائث معيار شرعي، والشرع لا يعتبر الشيء خبيثاً إلا إذا كان محرماً بنص خاص به، ويستدلون برأيهم في إباحة الدخان بقول الله تعالى: (ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض) ومعنى تسخير الله جميع ما في الأرض للإنسان، هو إباحته لكل ما في الأرض من حيوان وشجر وحجر، كشجرة الزيتون وشجرة الدخان وحجر الرخام والحجر الناري والبقر والخنزير وغير ذلك فكل هذه الأفراد كانت تندرج تحت حكم الإباحة، ولا يصبح واحدها حراماً إلا إذا ورد نص خاص به يحرمه أو نص عام يشمله ويحرمه، ثم نزل قوله تعالى:(حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) فصارت هذه الأشياء الثلاثة مستثناة من حكم الإباحة واكتسبت حكم التحريم بالنص على تحريمها، ثم سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن تحريم الجاهلين للبحيرة والسائبة والوصيلة والحام، فتلى عليهم قول الله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحى إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير)[4]فظل التحريم مقتصراً على هذه الأشياء الثلاثة.

وأما ما سألوا عنه فليس بحرام لأن الأصل فيه الإباحة ولم يرد فيه نص يحرمه، وإنما الذين حرموه هم الجاهليون، فرد الله عليهم بقوله تعالى: (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حامٍ ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون)[5]، ولما انتقل المسلمون إلى المدينة وتتالى نزول الوحي نزلت الآيات تستثني أفراداً أخرى من حكم الإباحة، فتخرجها من الطيبات وتلحقها بالخبائث المحرمة، حيث يقول الله تعالى: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير، وما أهلّ لغير الله به، والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبُع إلا ما ذكّيتم، وما ذبح على النُصُب، وأن تستقسموا بالأزلام)[6]، ثم حرم الرسول كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وحرم لحوم الحمر الأهلية، ولم يرد ذكر نوع من النباتات يندرج تحتها شجرة الدخان، فظل الدخان على أصل الإباحة، وعلى هذه الآية بني الشافعي تحليل كل مسكوت عنه أخذاً من حصرها تحريم هذه الأشياء إلا ما دلّ عليه الدليل. وأما اعتبار الدخان من الخبائث فغير وارد عندهم، لأن معنى الطيبات ومعنى الخبائث في الآيتين: (لا يستوي الخبيث والطيب)[7]، و (يحلّ لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث)[8] معناها الحلال والحرام، وفسّر الإمام الحسنُ الخبيث والطيب بالحلال والحرام، وقال الإمام أبو حنيفة في مغتصب الأرض إذا بنى في البقعة المغصوبة أو غرس فإنه يلزم خلع ذلك البناء والغرس لأنه خبيث، ولا معنى لخبث الغرس والبناء إلا الحرام، وقال الإمام مالك: معنى الطيبات المحللات، فوصف المحللات بالطيب لأنها صفة تتضمن مدحاً وتشريفاً. وقال الإمام الشافعي: اللفظة التي هي (الطيبات) مختصة فيما حلله الشرع، وترى لفظة (الخبائث) لفظاً عاماً فيما حرمه [في الأصل حلله] الشرع، في المحرمات بالشرع، ولذلك فالدخان حتى نعطيه وصف الخبيث لا بد وأن يكون تحريمه سابقاً لوصفه، ولا يكون الشيء حراماً إلا إذا ورد نص بتحريمه، ولذلك لا يوصف بأنه خبيث، ولا يجوز إلحاقه بالخبائث بل يظل على حكم الأصل وهو الإباحة، ولا يخرج عن هذا الأصل إلا إذا أوصل شربه إلى ضرر، فحينئذ يصبح شربه حراماً لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار"، وعملاً بالقاعدة الشرعية التي تنص على أن (الفرد من أفراد المباح إذا أوصل إلى ضرر يمنع).

وبعض المجتهدين يتبنون قاعدة (مآلات الأفعال)، ويبنون عليها قواعد كثيرة وأحكاماً جمة، ويعتبرونها أصلاً من أصول الأحكام والاستدلال فيقولون: إن النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً. ويقولون بأن المجتهد لا يحكم على فعل من أفعال المكلفين بالإقدام أو الإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فبنوا على هذه القاعدة قاعدة (سدّ الذرائع)، وقاعدة (رفع الحرج)، وقاعدة (الحيل)، وقاعدة (المصالح المرسلة)، وقاعدة (الضرورات تبيح المحظورات). وانتشرت نتيجة لقاعدة سد الذرائع فكرة المظنة.

وبعض المجتهدين لم يأخذوا بقاعدة مآلات الأفعال إلا الأفعال التي ورد فيها نص خاص بها يخبر أنه سينشأ عنها أمر محرم، فيحرمون الفعل وإن كان في أصله مباحاً. ويبنون عليه قاعدة (الوسيلة إلى الحرام حرام)، ويعتبرون ما عدا ذلك من القواعد خطأ ينشأ عنها تحليل الحرام وتحريم الحلال، لأنها مبنية على ظنّ فاسد.
ومن الأمثلة على القاعدة الأولى قاعدة مآلات الأفعال هو أن المتعصبين لحجاب المرأة بستر وجهها يقولون: إن وجه المرأة وإن أجاز الشرع كشفه وإخراجه من العورة بقوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها)[9]، وبقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الجارية إذا حاضت لم يصلح أي يُرى منها إلا وجهها ويداها إلا المفصل"[10]، قالوا: إن كشف الوجه يؤول إلى خوف الفتنة، فخوف الفتنة هو ما يؤول إليه كشف الوجه، فحرم كشف الوجه وإن كانت الأدلة تُحلّ كشفه، وذلك من باب سدّ الذرائع، أو من باب المظنة، أي مظنة أن يؤول كشف الوجه إلى خوف الفتنة.

ومن الأمثلة أيضاً تحريم النظر إلى الصورة، أي صورة المرأة العارية عند من يحرمه، لأن النظر إلى صورة المرأة يؤول إلى خوف الفتنة، فخوف الفتنة هو ما يؤول إليه النظر إلى صورة المرأة، فحرم النظر إلى صورة المرأة وإن كان النظر في أصله مباحاً خوفاً من الافتتان بصاحبة الصورة أو بأي امرأة أخرى.

والذين لا يأخذون بقاعدة مآلات الأفعال إلا فيما ورد فيه نص ينكرون هذا الاستدلال، ويقولون: إن المظنة أو قاعدة سد الذرائع لا تصلح دليلاً على الأحكام، وإنما الدليل هو ما جاء به الوحي، والذي جاء به الوحي هو إباحة النظر مطلقاً، ثم قيّده بأن منعه من النظر إلى عورة المرأة وهو ماعدا وجهها وكفيها، ثم منعه من النظر بشهوة إلى وجه المرأة وإن لم يكن من العورة، ولم يمنعه من النظر إلى صورة المرأة إلا إذا كانت صورة لامرأة معروفة، فتضر حينئذ بها لأنها تصفها، قياساً على منع الرسول صلى الله عليه وسلم أن تصف المرأة جارتها لزوجها لأن ذلك يغريه به، وذلك لما أخرجه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها)، ولم يرد المنع معللاً بعلة حتى يُقاس النظر إلى الصورة على النظر إلى المرأة إلا إذا كانت المرأة معروفة.

وأما الفعل الذي يندرج تحت قاعدة مآلات الأفعال ويكون حراماً لأنه يؤول إلى الحرام فهو الفعل الذي ورد به الوحي كقوله تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم)[11] فسب الكفار يؤدي إلى سب الله، وسب الله حرام فيكون سب الكفار المؤدي إلى سب الله حراماً، فالذي أخبر أن نتيجة هذا الفعل تؤدي إلى الحرام هو الوحي فأي فعل يرد به الوحي ويخبر أنه يوصل إلى الحرام يحرم ذلك الفعل. أما إذا كان الفعل أصله مباحاً ولم يخبرنا الوحي بأنه سيؤدي إلى الحرام فلا يحرم ذلك الفعل، ولو غلب على ظننا أنه سيؤدي إلى الحرام لأن تحريمنا له يكون بغير دليل.

يعلق من سمى نفسه الدكتور صادق أمين على ما جاء في نشرة جواب سؤال لأحد شباب حزب التحرير يقول في سؤاله:

ما حكم القبلة بشهوة مع الدليل؟ فقد فهم من مجموع الأجوبة المذكورة أن القبلة بشهوة مباحة وليست حراماً، فكيف يتصور أن أحداً يقبل شخصاً آخر رجلاً أو امرأة بشهوة؟ ثم كيف يعرف ان رجلاً إذا قبل امرأة أن هذه القبلة بشهوة حتى يترتب على ذلك عقوبة من قبل الدولة؟ وهل تعتبر القبلة بشهوة من العمال الجبلية التي ورد في أصلها حكم الإباحة.

هذه هي صيغ الأسئلة كما وردت، ولكن الدكتور لم يكتب الأسئلة كما وردت، وإنما كتب واحداً منها وجملاً قليلة من الجواب ونسق بينها بحيث تعطى صورة مشوهة ومثيرة، ولذلك سأنقل الجواب كاملاً مع شرح ما يحتاج إلى شرح وضرب أمثلة ليستبين الحق لدى المهتمين به، ولكن قبل الإجابة على هذه الأسئلة سأبحث ما يلي:

عموم الأدلة، أي الأدلة العامة التي يندرج تحتها حكم القبلة، تلك الأدلة التي تمنى الدكتور لو أن حزب التحرير أورد ولو واحداً منها.
لفت النظر إلى أمرين: الأول إباحة التقبيل في التحية، من حيث هي تحية، والثاني تحريم التقبيل المعين.
الحض على إدراك أمرين أيضاً: الأول كون الدليل هو ما جاء به الوحي، والثاني كون الشيء مظنة ليس بدليل.

البحــــث

هناك ما يسمى بعموم الأدلة التي تبيح مطلق النظر ومطلق السمع، ومطلق المشي، ومطلق الجلوس، وتحريك الأعضاء وغير ذلك من الأفعال. يقول الله تعالى: (وهو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون) ويقول تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل) ويقول تعالى: (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإيه النشور)ويقول تعالى: (ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين) فهو ينظر بعينه إلى كل شيء إلا ما ورد الدليل على منعه من النظر إليه، ويسمع كل ما يمكن أن يسمعه إلا ما منع من سماعه، ويمشي في الأرض أينما تيسر له المشي، ويحرك شفتيه ولسانه كيفما يريد ما لم يرد دليل يمنعه، لأن الله تعالى لما حباه هذه النعمة أباح له أن يتصرف بها كما يشاء.

هذه الأعمال كان الناس يعملونها قبل نزول الوحي، وكانوا يعملون أعمالاً كثيرة وغيرها ما لم يرد دليل يدل عليها بعينها لأنهيا ولا أمراً، بل سكت عنها وما سكت الوحي عنه والناس يعملونه فهو من المباحات لما روى ثعلبه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدوداً فلا تعتدوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها). وما روى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئاً) وتلا (وما كان ربك نسيًا)[1] فجلوس الإنسان متوركاً الأرض، أو محتبياً أو مضطجعا على أحد جنبيه أو مسرعاً في مشيه أو متباطئا، أو يمشي قفزاً على رجل واحدة أو على اثنتين، أو يحرث الأرض على دوابه أو بآلاته، أو يحصد زرعه بآلة أو بمنجل، أو يأكل طعامه بيده أو بالملعقة، أو يطهيه على نار حطب أو نار غاز أو كاز، أو يخاطب الناس بالشعر أو النثر كل ذلك لم ترد فيه نصوص معينة، ولو كان كل فعل يحتاج إلى نص لاحتجنا إلى ملايين الصفحات من القرآن والحديث، ولكن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وما سكت عنه فهو مما عفا لكم) أغنانا عن ذلك فما لك يكن فيه نص خاص به فهو مما عفا الله لنا، أي جعل لنا الخيار في استعماله، أي جعله في حكم المباح، فاندرج تحت عموم الأدلة بدلالة السكوت عنه، فمطلق النظر مباح لقوله تعالى: (قل انظروا) ومطلق السير من مباحات لقوله (قل سيروا)[2] ومطلق السمع من المباحات لقوله تعالى (وجعل لكم السمع)[3] وكل مسكوت عنه مباح لقوله عليه الصلاة والسلام: (وما سكت عنه فهو عفو) وهكذا.

ولقد بعث الرسول والناس في المجتمع الجاهلي يقومون بأعمال كثيرة لا عد لها ولا حصر، منها طرح التحية وردها، ومنها المشي والنظر والغمز، وتحريك الشفتين والأنف والجلوس مع الاتكاء على أحد الجانبين والنوم على البطن أو الظهر، ومنها التقبيل بين الناس، صغاراً وكباراً، ذكوراً وإناثاً، وكتقبيل الرجل لولده أو أخته أو صديقه، وكتقبيل المرأة لولدها أو جارتها، أو معانقة المرأة لابن أخيها أو لحماها أو طفلها، وكمعانقة الكبار للصغار وتقبيلهم ذكوراً وإناثاً، ثم أخذ الوحي بالنزول بالأحكام المتعلقة بأعمال الناس، فمنع بعض الأعمال وأباح بعضها وأوجب بعضها الآخر، فمنها ما ورد النص فيها بعينها ومنها ما ورد النص في نوعها أو جنسها، ومنها ما لم يرد فيها نص، بل سكت عنها فأخذت حكم المعفو عنه أي حكم الإباحة.

ولما كان بحثنا في القبلة من حيث هي تحية لأن الجواب الوارد على أسئلة السائل هو كون السائل كانت أسئلته استمراراً لأسئلة سبقتها عن القبلة في موضوع التحية، تلك التحية التي ورد النص فيها مطلقاً فقال تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها)[4] فلفظ تحية في الآية مطلق يشمل كل تحية سواء أكانت باللفظ كقول من يطرح التحية السلام عليكم، أو الله يعطيهم العافية، أو مساكم الله بالخير، أو مرحبا، أم كانت بالإشارة، كرفع اليد بحذاء الرأس في السلام العسكري، أو الإشارة بأحد الأصابع أو بالعينين، أم بعمل من الأعمال كالمعانقة أو الانحناء أو المصافحة أو القبلة أو غير ذلك.

والقاعدة الشرعية تنص على أن (المطلق يجري على إطلاقه ما لم يرد دليل التقييد، والعام يجري على عمومه ما لم يرد دليل التخصيص).

ولكن قد يقول قائل كانت التحية في عهد الجاهلية بلفظ (عم صباحاً وعم مساءً) فأبدلنا الله خيراً منها تحية الإسلام (السلام عليكم) فتكون التحية قد قيدت بلفظ السلام عليكم وحددت به، لا يقال ذلك لأنه لو جاز هذا التقييد لكان هذا في التحية باللفظ فقط وبخاصة في ألفاظ عم صباحاً وعم مساءً، أما التحية بالإشارة أو التحية بالفعل فتبقى على إطلاقها ما لم يرد دليل التقييد.

وبالرجوع إلى الأدلة التفصيلية يتبين أن حكم القبلة في التحية هو الإباحة حال المجيء من سفر ولكن الإباحة هذه ليست مطلقة، ولذلك ما أخرج الدار قطني وابن أبي شيبة عن أنس رضي الله عنه قال: قلنا: يا رسول الله؛ أينحني بعضنا لبعض؟ قال: (لا) قلنا فيعانق بعضنا بعضا؟ قال: (لا) قلنا فيصافح بعضنا بعضا؟ قال: (نعم) كذا في كنز العمال (45: 5). ولما روى عن الترمذي (97: 2) عن انس رضي الله عنه قال: قال رجل يا رسول الله الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: (لا) قال فيلتزمه ويقبله؟ قال: (لا) قال فيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: (نعم) قال الترمذي هذا حديث حسن، وزاد رزين بعد قوله ويقبله قال: (لا إلا أن يأتي من سفر) كما في جمع الفرائد (142: 2) ولما روى من أنه قيل لأبي ذر هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصافحكم إذا لقيتموه؟ قال ما لقيته قط إلا صافحني وبعث إلي ذات يوم ولم أكن في أهلي، فلما جئت أخبرت أنه أرسل إلى فأتيته وهو على سريره فالتزمني فكانت تلك أجود وأجود. أخرجه أبو داوود وأحمد بسند صالح. ففي الحديثين الأولين ينهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التقبيل والالتزام، وفي الحديث الثالث المروى عن أبي ذر يبيح التقبيل والالتزام، وبالجمع بين الأحاديث يحمل النهي في الحديثين الأولين على الكراهة، ولكن الزيادة التي رواها رزين وهي قول الرسول (لا إلا أن يأتي من سفر) استثنت حالة واحدة من كراهة الالتزام والتقبيل هي حالة المجيء من سفر فيباح فيها الالتزام والتقبيل في التحية. الزيادة في الحديث تقبل من الثقة. وهذه الزيادة عن رزين يعضدها ما روى عن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم زيد بن حارثة رضي الله عنه المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي فأتاه فقرع الباب، فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرياناً ـ لم يستر سوى ما بين السرة والركبة ـ والله ما رأيته عرياناً، قبله ولا بعده فاعتنقه فقبله، قال الترمذي(2/97) هذا حديث حسن غريب. وكان زيد قادماً من سفر ويعضد هذه الزيادة أيضاً ما أخرجه ابن سعد (4/34) عن الشعبي قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر تلقاه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فالتزمه رسول الله وقبل ما بين عينيه وقال ما أدرى أنا بأيهما أفرح بقدوم جعفر أو بفتح خيبر، وزاد في رواية عنه، وضمه إليه واعتنقه، وكان جعفر قادماً من الحبشة.

ويعضده أيضاً ما أخرج الطبراني عن أنس رضي الله عنه قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا تلاقوا تصافحوا وإذا قدموا من سفر تعانقوا، قال الهيثمي(8/21) رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح. وزيادة على ذلك فإن لفظ "إلا" إذا سبقت بأداة نفي أو نهي أفادت قصر ما قبلها على ما بعدها فصار الالتزام والتقبيل مقتصراً على حالة المجيء من سفر، وهي أيضاً حكم استثناء وحكم ما بعدها يخالف حكم ما قبلها، فلو لم يكن حكم الالتزام والتقبيل بعد الاستثناء مخالفاً لحكمه قبل الاستثناء لما كان ثمة فائدة للاستثناء.

والسؤال الذي يرد الآن هو: ما حكم التقبيل والالتزام بين المحارم؟

التقبيل والالتزام بين المحارم مباح ذكوراً كانوا أو إناثاً، كباراً كانوا أو صغاراً ومن غير كراهة للدليلين التاليين:
أخرج الطبراني عن السائب بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل حسناً رضي الله عنه فقال له الأقرع بن حابس، لقد ولد لي عشرة ما قبلت واحداً منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يرحم الله من لا يرحم الناس) قال الهيثمي (8/56) رجاله ثقات وأخرجه البخاري(2/887) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وأخرج البخاري في الأدب ص(138) عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت أحداً من الناس كان أشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم كلاماً ولا حديثاً ولا جلسة من فاطمة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآها قد أقبلت رحب بها ثم قام إليها فقبلها ثم أخذ بيدها فجاء بها حتى يجلسها في مكانه.... الحديث.

إن تقبيل الرسول لابنته فاطمة ولابنها الحسن بن علي في الحضر، يخالف نهيه عن التقبيل إلا حال المجيء من سفر، ولكن القاعدة الأصولية (إن القول أعم من الفعل) فينصرف فعل الرسول هنا إلى إباحة تقبيل المحارم لأن الفعل بمنزلة الاستثناء من القول والسؤال الذي يرد الآن هو: هل القبلة والتقبيل والمعانقة بين المحارم، وكذلك القبلة والتقبيل بين المقيمين والقادمين من سفر مباح في كل الحالات؟ أو أنه مباح في بعضها وغير مباح في بعضها الآخر؟

لقد تبين بعد الدراسة والبحث أن التقبيل والمعانقة بين المحارم من جهة، وبين المقيمين والقادمين من سفر من جهة أخرى، إنه وإن كان مباحاً إلا أنه يحرم في حالتين:

الأولى: ـ حالة كون القبلة أو التقبيل أو المعانقة مقدمة من مقدمات الزنا أو اللواط، ودليله حديث ماعز حيث إنه جاء يعترف بارتكاب جريمة الزنا، والرسول صلى الله عليه وسلم يرده ويراجعه ويسأله لعلك قبلت؟ لعلك غمزت؟ لعلك لامست؟ ليتحقق من أنه زنا بالفعل أو أنه اقتصر على مقدمات الزنا، فيكون التقبيل أو القبلة التي هي مقدمة من مقدمات الزنا حراماً، فتدخل تحت أدلة تحريم الزنا، أي أن دليل تحريم الزنا هو نفسه دليل تحريمها.

الثانية: ـ كون القبلة أو التقبيل للتمتع والتلذذ الجنسي، أي حالة كون المقبل أو المقبل أو كلاهما يريد الآخر، ولو لم يحصل الزنا. فقد جاء في أسباب نزول قوله تعالى (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين)[5] أنها نزلت في رجل من الأنصار قيل هو أبو اليسر بن عمرو وقيل اسمه عباد خلا بامرأة فقبلها وتلذذ بها فيما دون الفرج.

وروى الترمذي عن عبد الله قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني عالجت امرأة بأقصى المدينة وأني أصبت منها ما دون أن أمسها وأنا هذا فاقض في ما شئت، فقال له عمر لقد سترك الله لو سترت على نفسك، فلم يرد عليه رسول الله شيئاً، فانطلق فاتبعه رسول الله رجلاً فدعاه فتلا عليه(وأقم الصلاة طرفي النهار... الآية) فقال رجل من القوم هذا له خاصة؟ فقال: (بل للناس كافة) قال الترمذي حديث حسن صحيح.

وخرج أيضاً عن ابن مسعود أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة حرام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن كفارتها فنزلت (وأقم الصلاة... الآية) فقال إلي هذا يا رسول الله؟ فقال: له ولمن عمل بها من أمتي قال الترمذي حديث حسن صحيح. وخرج أيضاً عن ابن مسعود. ولهذا فحكم القبلة أو التقبيل بين المحارم وبين المقيمين والقادمين من سفر هو الإباحة إلا في حالتين حالة كون القبلة أو التقبيل مقدمة من مقدمات الزنا وحالة كون المقبِّل أو المقبَّل أو كلاهما يريد الآخر أي يريد التمتع والتلذذ به جنسياً.

وأما حكم القبلة والتقبيل لغير المحارم وغير المقيمين والقادمين من سفر، إذا استثنينا هاتين الحالتين اللتين يحرم فيهما القبلة والتقبيل مطلقاً فهو الكراهة.

اننا إذا استثنينا هاتين الحالتين من غرض التقبيل فماذا يكون الغرض من تقبيل الواحد للآخر إذا كان المقبِّل لا يريد الزنا بالمقبَّل ولا التمتع ولا التلذذ الجنسي؟ فما غرضه من التقبيل إذاً؟ قد يكون الغرض من التقبيل الشفقة على المقبل كما لو فقد شاب أهله في حادثة محزنة فعزاه أهله وجيرانه رجالاً ونساء، فاحتضنوه وقبلوه بدافع الشفقة والعطف عليه، وقد يكون الغرض من التقبيل الفرح والسرور، كما لو تعرض شخص للخطر فنجا من كارثة محققة فاستقبله أهله رجالاً ونساء فاحتضنوه وقبلوه فرحاً بنجاته، وقد يكون الغرض من التقبيل الإعجاب والتقدير كما لو أشرف طفل على الغرق فأنقذته شابة، فقبلها أبو الطفل وأمه تقديراً لها على معروفها، فالقبلة هنا على البراءة الأصلية التي لا يراد منها أي غرض سيء، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتبر إقامة الصلاة كافية لتكفير عمل الرجل الذي قبل المرأة الأجنبية وتلذذ بها وفعل بها ما يفعل الرجل بزوجته إلا الوطء فماذا تظنه يقول في رجل قبل ابنة عمه تقبيل تحية فرحا بقدومها من سفر بعيد، أو امرأة قبّلت ابن خالها القادم من سفر أيضاً.

هذه هي القبلة التي قال الحزب إنها مباحة، وهي قبلة التحية الخالية من غرض التمتع والتلذذ، والتي لا تكون من مقدمات الزنا.

وأما الأحاديث التي أوردها الدكتور دليلاً على أن القبلة حرام فهي ما يلي:

1- أخرج ابن جرير الطبري عن ابن مسعود قال: (زنا العينين النظر وزنا الشفتين التقبيل).
2- قال صلى الله عليه وسلم في وراية لأبي داود ومسلم : (والفم يزني وزناه القبل).
3- قال صلى الله عليه وسلم: (لأن يُطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمسّ امرأة لا تحلّ إليه).
الحديثان الأولان معناهما واحد، وهو النهي عن التقبيل والنهي عن النظر. والنهي عن التقبيل الذي نحن بصدده هو التقبل الحرام، وليس نهياً عن كل تقبيل وإلا لكان تقبيل المرأة لابنها حراماً.

وأما الحديث الثالث الذي حرم الدكتور بموجبه لمس المرأة وبالتالي تحريم القبلة؛ فليس فيه ما يدل على تحريم لمس المرأة، لأن كلمة (يمسّ) في الحديث معناها (يطأ)، يشهد لذلك ما رواه الترمذي عن عبد الله قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني عالجت امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبت منها ما دون أن أمسّها... الحديث. فقوله في الحديث: (أمسّها) معناه (أطؤها)، ولو كان معنى (أمسّها) : (ألمسها) كما فهم الدكتور لما كان لقول الرجل في الحديث (عالجت امرأة وأصبت منها ما دون أن أمسها) معنى، ولما جاء إلى الرسول ليقتص منه، ويشهد له ما جاء في قوله تعالى: (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسّوهنّ وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم)[1]، فمعنى (تمسّوهن) في الآية: (تطؤوهنّ)، وفي الحديث نفسه لو كان معنى يمسّ يلمس لحرم على الإنسان أن يلمس أمه أو أخته أو ابنته، لأن كل واحدة منهن لا تحلّ له، وبذلك يسقط قول الدكتور في الاستدلال.

والآن نبدأ الإجابة على الأسئلة كما وردت لا كما صاغها الدكتور.

السؤال الأول: ـ ما حكم القبلة بشهوة مع الدليل ؟

الجواب: ـ أن ما جاء في حديث ماعز، ومن قول الرسول له: لعلك قبلت لعلك لامست لعلك غمزت، يجعل القبلة والتقبيل من مقدمات الزنا، وقد أشرنا فيما سبق أن القبلة إن فعلت على هذا الوجه أي أن أحدهما يريد الآخر كانت حراماً، فالتحريم للقبلة ليس لأنها بشهوة أو بغير شهوة، ولا لأن المقبِّل أو المقبَّل محرماً أو أجنبياً، وإنما التحريم في التقبيل لأنه فعل على وجه التمتع والتلذذ الجنسي أو لأنه مقدمة من مقدمات الزنا ولو لم يحصل الزنا، لذلك فإن تقبيل الرجل لامرأة يريدها حتى لو لم يكن بشهوة فهو حرام، فتقبيل رجل لامرأة سواء أكانت محرماً أو أجنبية، أو تقبيل رجل لرجل، فإن كان على وجه أنه يريدها أو يريده فإن هذا التقبيل يكون حراماً.

السؤال الثاني: ـ كيف يعرف أن رجلاً يقبل امرأة أن هذه القبلة بشهوة حتى يترتب على ذلك عقوبة من قبل الدولة؟

الجواب: ـ أن تحريم القبلة ليس لكونها بشهوة أو بغير شهوة، وإنما يأتي التحريم من كون أن أحد المتبادلين بالقبلة كليهما يريد الآخر، ولما كان غرضها غير واضح لذلك تمنع الدولة التقبيل في الأماكن العامة لأنه ليس لها إلا الظاهر من الأمور.

السؤال الثالث: ـ كيف يتصور أن أحداً يقبل شخصاً آخر رجلاً كان أو امرأة بشهوة؟

الجواب: ـ يصعب أن يتصور المرء أن أحدا يقبل امرأة بشهوة وهولا يريد التمتع والتلذذ الجنسي بها فلا يقبل احد أحداً بشهوة إلا إذا كان يريده، وهنا يكون التقبيل حراماً، ولذلك فالتحريم جاء من كون المقبِّل يريد المقبَّل، لا من كون التقبيل بشهوة أو بغير شهوة.

السؤال الرابع: ـ هل تعتبر القبلة بشهوة من الأفعال الجبلية التي ورد في أصلها الإباحة ؟

الجواب: ـ الشهوة شيء، والعمل بشهوة شيء، والتقبيل شيء آخر.

أولاً: ـ الشهوة : هي تحرك الذكر سواء انتصب أو لم ينتصب, بل مجرد التحرك يعتبر شهوة وهي من المباحات, وذلك لدخولها تحت عموم الأدلة من اشتهاء الأكل واشتهاء النساء وغير ذلك ولدخولها تحت آية (ما تشتهيه الأنفس)[2] ولدخولها تحت قول الصحابة للرسول "شكونا الغربة" أي تحركت شهواتهم وقد أقرهم الرسول على ذلك، فالشهوة أي تحرك غريزة الجنس على وجه يحرك الذكر مباح من المباحات

ثانياً: ـ العمل بشهوة: هو العمل الذي يتحرك به الذكر وليس العمل الذي يشتهيه، والعمل بشهوة يكون الحكم للعمل لا للشهوة أو له مع الشهوة، أي له مطلقاً، أي له في حالة الشهوة، فالعمل بشهوة لا يحرم بوجودها بل يحرم لوجود الدليل، لأن الشهوة من حيث هي ليس حراماً، وليست علة للتحريم أي لم يرد دليل يحرمها، ولم يرد دليل على جعلها علة للتحريم، ولذلك لا تحرم العمل، فالعمل لا يحرم إلا لدليل يحرمه، والعمل بشهوة لا يحرم إلا إذا جاء الدليل يحرمه، فالرسول صلى الله عليه وسلم نظر إلى الخثعمية ولم يمنع الفضل من النظر إليها، ولكنه حين رأى نظرة الفضل أنها صارت بشهوة لوى عنقه، أي منعه وظل ينظر إليها فكان ذلك دليلاً على أن النظرة بشهوة حرام، ولو لغير عورة النساء، لأن الفضل كان ينظر إلى وجهها، والنظر إلى غير عورة النساء بغير شهوة ليس حراماً، فهذا دليل على أن النظرة بشهوة لغير عورة المرأة حرام، وهذا الدليل ليس عاماً، بل هو خاص بالنظر، لأنه لم يأت على وجه التعليل ولا تظهر فيه العلية، لذلك كان النظر بشهوة حراماً لوجود الدليل، ولم يكن التفكير بشهوة حراماً لعدم وجود الدليل، وعلى ذلك فكون الأعمال بشهوة ليس هو الذي يجعلها حراماً، بل تحرم إذا وجد دليل يحرمها، وتباح إذا وجد دليل يبيحها، فمن الرجال من يلمس ثوب المرأة منفصلاً عنها بشهوة، ومنهم من يرى ثوبها منشوراً على ظهر السطح بشهوة، أي يتحرك ذكره من مجرد رؤية حذائها أو ثوبها أو قميصها أو من سماع صوتها مباشرة أو من الراديو من مجرد الحديث أو الغناء أو غير ذلك، فهذه أفعال بشهوة، وكلها تتعلق بالمرأة، وهي مباحة لدخولها تحت أدلة الإباحة ولعدم وجود دليل خاص بها يحرمها، ولأنها لا تدخل تحت تحريم النظر بشهوة.

والعمل بشهوة ليس خاصا ًبالأعمال التي تتعلق بالمرآة بل قد تتحرك من الجمادات فقد يلمس حجراً أملس بشهوة أو قطعة خشب ناعمة بشهوة، فهذا كله ليس بحرام ولو فعل بشهوة لأن الشهوة من حيث هي ليست حراماً، ولا علة للتحريم، وهكذا جميع الأعمال ما عدا الأعمال التي تعتبر مقدمة من مقدمات الزنا.

ثالثاً: ـ التقبيل : التقبيل غير العمل بشهوة فهو موضوع أعمال معينة، وهي التي تعتبر من مقدمات الزنا، وهذه لا تحتاج إلى دليل يحرمها، بل يكفي القيام بها على وجه التمتع أو القيام بالفعل أي الزنا لأن يجعلها حراماً، ولأن يجعلها حراماً داخلة تحت أدلة تحريم الزنا، لأنها بالفعل داخلة تحتها كما أشار إلى ذلك حديث ماعز وكما هو الواقع مما لم يرد في حديث ماعز، فهذه ألأفعال وحدها لا يبحث في تحريمها عن دليل يدل على التحريم، ولا يبحث في تحريمها هل قام بها بشهوة أم لا ؟ بل يبحث فيها هل قام بها على وجه إنه يريدها أي إنه يريد التمتع، يريد الفعل، يريد الزنا أم لا ؟ سواء حصل فعل الزنا أم لم يحصل. فإن قام بها على هذا الوجه كان حراما، لأنه يكون قد فعل مقدمة الزنا، فلا يكون حراماً.

إننا نتقيد بالدليل الشرعي ونعتبر الحكم بالدليل الشرعي لا بالعقل، أما كون الناس في هذا الموضوع بالذات يعتبرون المظنة دليلاً على الحكم فلا ننزل عند رأيهم طمعا في تأييدهم، فالمسالة بيننا وبنهم هي مسالة اعتبار الدليل، فنحن لا نرضى بأي دليل إلا ما جاء به الوحي، والمظنة ليست دليلاً من الأدلة، فخروج المرأة الجميلة إلى الشارع مظنة أن يفتتن الناس بها لا يجعل خروجها حراماً، والرجل يقبل امرأة مظنة أنه يريدها لا يجعلها حراماً، لأن المظنة هذه ليست دليلاً ولا تصلح أن تكون دليلاً لأنها ليست وحياً، والدليل الشرعي هو ما جاء به الوحي. أما كون التقبيل الذي ليس من مقدمة الزنا حال المجيء من سفر مباحاً، فلا نفعله ولا نأمر به، بل نبين الحكم الشرعي فيه، ثم إنه ليس كل مباح يفعله المسلم, فإن المسلم ولا سيما الورع يتجنب الشبهات، ما يظنه الناس أنه منكر، فالسير في الأمكنة المشبوهة بالفجور كالشوارع التي فيها الساقطات واتخاذ الشاب الجميل صاحباً ملازماً، والسير مع امرأة في الليل في مكان خالٍ من الناس ولو كانت محرماً أو زوجة، والجلوس في خمارة ليس فيها إلا الخمر، كل ذلك وما أشبهه وإن كان مباحاً ولكن المسلم لا يفعله وخاصةً المسلم الورع، فأمكنة الشبهات قد طلب الشارع تجنبها، فتقبيل الرجل لأجنبية منه محل شبهة عند الناس أنه يريدها، لذلك يتجنبها من باب (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه).

ونحن بهذا نكون قد استكملنا البحث في موضوع القبلة، واحترزنا في إباحتها عن محاذير كثيرة حينما قيدناها بشرطين:
الأول: ـ أن لا تكون القبلة والتقبيل مقدمة من مقدمات الزنا. فهذا الشرط يمنع المحارم من أن يقبل بعضهم بعضاً كمقدمة من مقدمات الزنا، ويمنع الكبار من تقبيل الصغار لنفس الغرض، أما الذي يبيح القبلة بين المحارم ولا يقيدها بهذا الشرط فيترك لهم مجالاً واسعاً في القبلة والتقبيل الذي هو مقدمة من مقدمات الزنا، بحجة أن القبلة بين المحارم جائزة وكذلك الحال مع من يرى جواز تقبيل الصغار ولم يحترز بهذا الشرط.

الثاني: ـ أن لا يكون أحد المتبادلين القبلة أو كلاهما يريد التمتع والتلذذ الجنسي. وهذا الشرط، احتراز من أن يقبل الرجل أخته أو عمته مثلا بقصد التمتع والتلذذ، أما الذي لا يحترز بهذا الشرط فيترك المجال واسعاً بين المحارم أو بين الكبار والصغار أن يتلذذ بعضهم ببعض، وهو احتراز عما ينتج عن رأي من يقول بأن الشهوة هي علة تحريم القبلة، لأن من يقول بذلك يبيح أصله الذي يبني عليه قبلة التلذذ والتمتع بغير شهوة، وهو احتراز أيضاً عما ينتج عن رأي من يقول بأن المظنة هي دليل التحريم، ولا مظنة عندهم بين المحارم أو بين الكبار والصغار.

عن الكاتب

Tanya Ustadz

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية