الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

استلحاق ولد الزنا

الفصل الثاني استلحاق ولد الزنا

الفهرس



الفصل الثاني استلحاق ولد الزنا


تمهيد:

قد يزني رجل بامرأة مطاوعة له، وقد يغتصبها فتحمل من الزنا، ويقام عليه أو عليهما حد الزاني غير المحصن، وقد يزني رجل بامرأة فيستر الله عليهما، وتحمل المرأة من الزنا، فيتزوجها الزاني بها حال حملها منه على القول بجواز هذا النكاح وصحته، وقد يتزوجها بعد ولادتها، فإذا استلحق هذا الولد الذي خلق من مائه الحرام فهل يلحق به كما يلحق به ولده من النكاح، فينسب إليه، ويلزم بالإنفاق عليه، ويرثه، ويكون وليًا عليه، ويكون محرمًا لنسائه، أم لا؟ هذا ما سأبيّنه في المبحثين الآتيين:


المبحث الأول استلحاق الزاني ولده من الزنا إذا كانت أمه فراشًا لزوج أو سيد

أجمع العلماء على أن الزانية إذا كانت فراشًا لزوج أو سيد، وجاءت بولد، ولم ينفه صاحب الفراش، فإنه لا يلحق بالزاني ولو استلحقه، ولا ينسب إليه، إنما ينسب لصاحب الفراش، قال ابن عبد البر: «وأجمعت الأمة على ذلك نقلاً عن نبيها ×، وجعل رسول الله × كل ولد يولد على فراش لرجل لاحقًا به على كل حال، إلا أن ينفيه بلعان على حكم اللعان... وأجمعت الجماعة من العلماء أن الحرة فراش بالعقد عليها مع إمكان الوطء وإمكان الحمل، فإذا كان عقد النكاح يمكن معه الوطء والحمل فالولد لصاحب الفراش، لا ينتفي عنه أبدًا بدعوى غيره، ولا بوجه من الوجوه إلا باللعان»(1 )، وقال ابن قدامة: «وأجمعوا على أنه إذا ولد على فراش رجل فادعاه آخر أنه لا يلحقه، وإنما الخلاف فيما إذا ولد على غير فراش»( 2).

مستند الإجماع:

وقد استند هذا الإجماع على أحاديث صحيحة صريحة منها:

1 – ما روته عائشة رضي الله عنها قالت: «كان عتبة ابن أبي وقاص عَهِد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص: إن ابن وليدة زمعة مني، فاقبضه إليك، فلما كان عام الفتح أخذه سعد فقال: ابن أخي قد كان عَهِد إليّ فيه، فقام عبد بن زمعة فقال: أخي وابن أمة أبي، ولد على فراشه، فتساوقا إلى رسول الله ×، فقال سعد: يا رسول الله! ابن أخي كان عَهِدَ إليّ فيه، فقال عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي، وقال رسول الله ×: هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر، ثم قال لسودة بنت زمعة: احتجبي منه، لما رأى من شبهه بعتبة، فما رآها حتى لقي الله»(3 ).

2 – ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله × قال: «الولد للفراش وللعاهر الحجر»( 4).

3 – ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «قام رجل فقال: يا رسول الله، إن فلانًا ابني، عَاهَرْتُ بأمه في الجاهلية، فقال رسول الله ×: لا دعوة في الإسلام، ذهب أمر الجاهلية، الولد للفراش، وللعاهر الحجر»( 5).

وجه الاستشهاد من هذه الأحاديث: أنها صريحة في أن من ولد على فراش رجل فإنه يلحق به، ولا يلحق بالزاني الذي يدعيه، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يقتنون الإماء، ويقررون عليهن الضرائب، فيكتسبن بالفجور، فمن ادعاه من الزناة، واعترفت الأم بأنه له ألحقوه به، فأبطل النبي × حكم الجاهلية، وألحق الولد بالفراش، وجعل للعاهر الحجر(6 ).

قال ابن حجر: «نقل عن الشافعي أنه قال: لقوله «الولد للفراش» معنيان: أحدهما: هو له مالم ينفه، فإذا نفاه بما شُرع له كاللعان انتفى عنه، والثاني: إذا تنازع رب الفراش والعاهر فالولد لرب الفراش» ثم قال: «وقوله: «وللعاهر الحجر»، أي: للزاني الخيبة والحرمان، والعَهَر بفتحتين: الزنا، وقيل: يختص بالليل، ومعنى الخيبة هنا: حرمان الولد الذي يدعيه، وجرت عادة العرب أن تقول لمن خاب: له الحجر وبفيه الحجر والتراب، ونحو ذلك، وقيل: المراد بالحجر هنا أنه يرجم. قال النووي: وهو ضعيف، لأن الرجم مختصّ بالمحصن، ولأنه لا يلزم من رجمه نفي الولد، والخبر إنما سيق لنفي الولد، وقال السبكي: والأول أشبه بمساق الحديث، لتعم الخيبة كل زان»( 7).


المبحث الثاني استلحاق الزاني ولده من الزنا إذا لم تكن أمه فراشًا لزوج أو سيد

اختلف العلماء في استلحاق ولد الزنا إذا لم تكن أمه فراشًا على قولين:

القول الأول: أن ولد الزنا يلحق بالزاني إذا استلحقه، ولم تكن أمه فراشًا لزوج أو سيد، وهذا مذهب عروة بن الزبير، وسليمان بن يسار( 8) ذكر عنهما أنهما قالا: «أيما رجل أتى إلى غلام يزعم أنه ابن له، وأنه زنا بأمه، ولم يَدَّعِ ذلك الغلامَ أحدٌ فهو ابنه»( 9)، وهو قول لأبي حنيفة، فقد روى علي بن عاصم عن أبي حنيفة أنه قال: «لا أرى بأسًا إذا زنا الرجل بالمرأة فحملت منه أن يتزوجها مع حملها، ويستر عليها، والولد ولد له»( 10)، وهو قول الحسن البصري، وابن سيرين، والنخعي، وإسحاق ابن راهويه( 11)، وابن تيمية( 12)، وابن القيم13 ).

أدلتهم:

استدلوا بالأدلة الآتية:

1 – حديث جريج العابد في الصحيحين وغيرهما في القصة المشهورة، وفيه:«أن بغيًّا راودته عن نفسه فامتنع، فأتت راعيًا فأمكنته من نفسها، فولدت غلامًا، فقالت: هو من جريج، فأتوه فكسروا صومعته، وأنزلوه، وسبوه، فتوضأ، وصلى، فدعا بالغلام، فغمز بإصبعه في بطنه وقال له: يا غلام، من أبوك؟ فقال الغلام: فلان الراعي» الحديث(14 ).

ووجه الاستشهاد منه: أن النبي × قد حكى عن جريج أنه نسب ابن الزنا للزاني، وصدَّق الله نسبته بما خرق له من العادة في نطق الصبي، بالشهادة له بذلك، وأخبر بها النبي × عن جريج في معرض المدح له، وإظهار كرامته، فكانت تلك النسبة صحيحة بتصديق الله تعالى، وبإخبار النبي × عن ذلك، فثبتت البنوة وأحكامها( 15)، قال ابن القيم: «وهذا إنطاق من الله لا يمكن فيه الكذب»( 16)، فإذا استلحق الزاني ولده من الزنا لحق به، وصار كالولد من النسب.

2 – حديث الملاعنة بين هلال بن أمية وامرأته، وفيه قول النبي ×: «إن جاءت به على صفة كذا وكذا فهو للذي رُمِيَتْ به، أو على صفة كذا وكذا فهو لزوجها، وفي رواية: فهو لهلال بن أمية، فجاءت به على الوصف المكروه، فقال رسول الله ×: لولا الأيمان لكان لي ولها شأن»(17 ).

وجه الاستشهاد: أن قوله: «فهو للذي رُمِيَتْ به»، وفي رواية: «فهو لفلان» يدل على أنها إن جاءت به على الصفة المكروهة فهو ابن للزاني، لأنه خلق من مائه، ولكن الأيمان التي صدرت من أمه بإنكار الزنا منعت من إلحاقه بأبيه من الزنا لو استلحقه، فنسب إلى أمه حين انتفى منه زوجها باللعان( 18)، فدل ذلك على أن الرجل إذا استلحق ولده من الزنا وليست أمه فراشًا لغيره فإنه يلحق به، لأنه خلق من مائه، فهو له.

3 - «أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يُليط( 19) أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام»( 20).

وجه الاستدلال: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يلحق أولاد الجاهلية بآبائهم من الزنا.

قال ابن القاسم: «سمعت مالكًا يقول: كان عمر بن الخطاب يليط أولاد أهل الجاهلية بآبائهم في الزنا، قال: ولقد سمعت مالكًا يقول ذلك غير مرة... قيل: أرأيت كل من دعا عمر لأولادهم القافة في الذي ذكرت عن عمر أنه كان يليط أولاد الجاهلية بمن ادعاهم إنما كانوا أولاد زنا كلهم؟ قال: لا أدري أكلهم كذلك أم لا؟ إلا أن مالكًا ذكر لي ما أخبرتك أن عمر كان يليط أولاد أهل الجاهلية بالآباء في الزنا. قلت: فلو أن قومًا من أهل الحرب أسلموا أكنت تليط أولادهم بهم من الزنا وتدعو لهم القافة؟ قال: ألم أسمع من مالك فيه شيئًا، ولكن وجه ما جاء عن عمر بن الخطاب أن لو أسلم أهل دار من أهل الحرب كان ينبغي أن يصنع بهم ذلك لأن عمر قد فعله، وهو رأيي»(21 ).

واعترض عليه: بأن هذا في أولاد الجاهلية، لأن أكثر أهل الجاهلية كانوا كذلك، أما اليوم بعد أن أحكم الله شريعته وحرم الزنا تحريمًا قاطعًا فلا يلحق ولد الزنا بمدعيه(22 ).

ويجاب عن هذا الاعتراض من وجهين:

الوجه الأول: أن عمر رضي الله عنه إنما ألحقهم بآبائهم من الزنا في الإسلام بعد أن أحكم الله شريعته وحرم الزنا، ولو كان إلحاق ولد الزنا بأبيه لا يصح لما فعله عمر رضي الله عنه.

الوجه الثاني: أن ما ذكر قد يفيد أن أهل الجاهلية لا يأثمون بما فعلوا من الزنا، لأنهم كانوا من أهل الفترة، ولم تقم عليهم الحجة، فيعذرون لجهلهم بحرمة الزنا، بخلاف من فعل الزنا بعد الإسلام وقيام الحجة عليه، ولكن هذا خارج عن محل النـزاع الذي نحن بصدده، فإن الكلام عن إلحاق ولد الزنا بأبيه إذا استلحقه، وهذا حكم لا يختلف في جاهلية ولا إسلام، ولا فرق فيه بين معذور وغيره...
4 – قياس الأب من الزنا على الأم الزانية، فإن الولد ناتج من زناهما معًا، والأب أحد الزانيين، فإذا كان يلحق بأمه عند جميع العلماء، لأنه هي التي ولدته، فلمَ لا يلحق بأبيه إذا استلحقه وأقر بأنه خلق من مائه؟

قال ابن القيم: «وهذا المذهب كما تراه قوةً ووضوحًا... والقياس الصحيح يقتضيه، فإن الأب أحد الزانيين، وهو إذا كان يلحق بأمه، وينسب إليها، وترثه ويرثها، ويثبت النسب بينه وبين أقارب أمه مع كونها زنت به، وقد وجد الولد من ماء الزانيين، وقد اشتركا فيه، واتفقا على أنه ابنهما، فما المانع من لحوقه بالأب إذا لم يدعه غيره؟ فهذا محض القياس»(23 ).

5 – قياس الزاني على الملاعن، فإن الملاعن إذا لاعن زوجته، ثم أكذب نفسه، واستلحق ولده منها، فإنه يلحق به، بل لو انتفى منه بعد استلحاقه له لم يقبل منه انتفاؤه، فكذلك الزاني إذا استلحق ولده من الزنا(24 ).

واعترض عليه: بأن هذا قياس مع الفارق، لان الملاعن كان زوجًا وصاحب فراش، بخلاف الزاني(25 ).

6 – أن الشارع يتشوف لحفظ الأنساب ورعاية الأولاد، والقيام عليهم بحسن التربية والإعداد، وحمايتهم من التشرد والضياع، وفي نسبة ولد الزنا إلى أبيه تحقيق لهذه المصلحة، خصوصًا أن الولد لا ذنب له، ولا جناية حصلت منه، ولو نشأ من دون أب ينسب إليه ويعني بتربيته والإنفاق عليه لأدى ذلك في الغالب إلى تشرده وضياعه وانحرافه وفساده، وربما نشأ حاقدًا على مجتمعه، مؤذيًا له بأنواع الإجرام والعدوان(26 ).

القول الثاني: أن ولد الزنا لا يلحق بالزاني إذا استلحقه، وإنما ينسب إلى أمه، وهو مذهب الأئمة الأربعة( 27)، والظاهرية(28 ).

أدلتهم:

استدلوا بالأدلة الآتية:

1 – قول النبي ×: «الولد للفراش، وللعاهر الحجر»(29 ).

وجه الاستشهاد: أن الرسول × جعل الولد لصاحب الفراش، ولم يلحقه بالزاني، فدل ذلك على أن الزاني إذا استلحلق ولده من الزنا لم يلحق به(30 ).

قال ابن عبد البر: «فكانت دعوى سعد سبب البيان من الله عز وجل على لسان رسوله × في أن العاهر لا يلحق به في الإسلام ولد يدعيه من الزنا، وأن الولد للفراش على كل حال»(31 ).

وقال أبو بكر الجصاص: «وقوله: « الولد للفراش» قد اقتضى معنيين: أحدهما: إثبات النسب لصاحب الفراش، والثاني: أن من لا فراش له فلا نسب له، لأن قوله «الولد» اسم للجنس، وكذلك قوله «الفراش» للجنس، لدخول الألف واللام عليه، فلم يبق ولد إلا وهو مراد بهذا الخبر، فكأنه قال لا ولد إلا للفراشي»(32 ).

واعترض عليه: بأن هذا في استلحاق الزاني ولده من الزنا إذا ولدته أمه في فراش زوج أو سيد، وهذا محل إجماع كما سبق، وإنما الخلاف فيما إذا لم تكن أمه فراشًا لزوج أو سيد(33 ).

2 – ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ×: «لا مساعاة في الإسلام، من ساعي في الجاهلية فقد لحق بعصبته، ومن ادعى ولدًا من غير رشدة(34) فلا يرث ولا يورث»(35 ).

ووجه الاستشهاد: أن الشارع أبطل المساعاة – وهي الزنا – ولم يلحق النسب بها، وعفا عما كان منها في الجاهلية ممن ألحق بها، قال في «النهاية في غريب الأثر»: «وكان الأصمعي يجعلها في الإماء دون الحرائر، لأنهن كن يسعين لمواليهن، فيكسبن لهم بضرائب كانت عليهن، يقال: ساعت الأمة إذا فجرت، وساعاها فلان: إذا فجر بها، وهو مفاعلة من السعي، كأن كل وحد منهما يسعى لصاحبه في حصول غرضه، فأبطل الإسلام ذلك، ولم يلحق النسب بها، وعفا عما كان منها في الجاهلية ممن ألحق بها»(36 ).

واعترض عليه من وجهين:

الوجه الأول: أن الحديث ضعيف، فلا تقوم به حجة(37 ).

الوجه الثاني: لو فرضنا صحته فيحمل على من ولد في فراش زوج أو سيد، فيكون خارجًا عن محل النـزاع.

الوجه الثالث: أن هذا خاص بالإماء دون الحرائر، لأن المساعاة معروفة فيهن دون الحرائر، كما سبق.

3 – ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «إن النبي × قضى أن كل مستلحق إن كان من أمة لم يملكها أو من حرة عاهر بها فإنه لا يلحق به، ولا يرث، وإن كان الذي يدعى له هو ادعاه فهو ولد زنية من حرة كان أو أمة»، وفي رواية: «من ادعى ولدًا من أمة لا يملكها أو من حرة عاهر بها، فإنه لا يلحق به ولا يرث، وهو ولد زنا لأهل أمه من كانوا»(38 ).

وجه الاستشهاد: أن الحديث صريح في أن الزاني إذا استلحق ولد الزنا من حرة أو أمة، فإنه لا يلحق به ولا يرثه، وإنما ينسب لأمه( 39).

واعترض على هذا الاستدلال من وجهين:

الوجه الأول: أن في سنده مقالاً، فلا حجة فيه.

ويجاب عن هذا الاعتراض: بأن الحديث حسنه بعض العلماء، فيكون صالحًا للاحتجاج به.

الوجه الثاني: يحتمل أن المراد به أن تكون الزانية فراشًا لزوج أو سيد، فيكون خارجًا عن محل النـزاع، ومؤكدًا للأحاديث التي استند عليها ما سبق من الإجماع.

4 – أن إثبات النسب بالزنا فيه تسهيل لأمر الزنا، وإشاعة للفاحشة بين المؤمنين( 40). قال السرخسي: «لأن قطع النسب شرعًا لمعنى الزجر عن الزنا، فإنه إذا علم أن ماءه يضيع بالزنا يتحرز عن فعل الزنا»( 41).

ويمكن أن يعترض عليه:

بأن عدم إثبات النسب بالزنا في حال انعدام الفراش، فيه إضرار ظاهر بولد الزنا، حيث يبقى لا أب له ينتسب إليه، ويعنى به ويقوم عليه.

5 – أنه لا يلحق به إذا لم يستلحقه، فلم يلحق به بحال(42 ).

ويمكن أن يعترض عليه: بأن هذا قياس مع الفارق، لأنه إذا لم يستلحقه فإنه لا يقر بأنه ولده المخلوق من مائه، فلا يلحق به، بخلاف ما لو استلحقه، وأقر بأنه نتج من مائه.

6 – أنه يلزم على القول باستلحاق ولد الزنا أن الشخص إذا اعترف بزناه مع امرأة وولدت ولدًا أن هذا الولد يلحق بالزاني ولو لم يستلحقه، وهذا لم يقل به أحد(43 ).

ويمكن أن يعترض عليه: بأن هذا لازم لا يلزم، لأن اعترافه بالزنا معها لا يلزم منه إقراره بأن هذا الولد نتيجة زناه وأنه مخلوق من مائه، فقد يكون من زان غيره، ولهذا لم يقل بهذا اللازم أحد، قال السرخسي: «لأن الزانية يأتيها غير واحد، ولو أثبتنا النسب بالزنا ربما يؤدي إلى نسبة ولد إلى غير أبيه، وذلك حرام بالنص»(44 ).

الترجيح:

وبعد هذا العرض المفصل لأدلة الفريقين، وما ورد على بعضها من اعتراضات وإجابات يتبين لي – والعلم عند الله تعالى – رجحان القول الأول، وهو لحوق ولد الزنا بالزاني إذا استلحقه، ولم تكن أمه فراشًا لزوج أو سيد، وذلك للأسباب الآتية:

1 – قوة أدلته، وضعف الاعتراضات الواردة عليها.

2 – أن أدلة المخالفين لا تخلو من ضعف، إما في ثبوتها، وإما في دلالتها، وأقوى ما استدلوا بها حديث عمرو بن شعيب، وفي إسناده محمد بن راشد المكحولي، وسليمان بن موسى الدمشقي، وقد علمت ما قيل فيهما، ولو قُدِّر ثبوت الحديث فإنه يحتمل أن يكون المراد به استلحاق ولد الزنا في حال كون أمه فراشًا لزوج أو سيد.

3 – أن الأب أحد الزانيين، فإذا كان يلحق بأمه عند جميع العلماء فلمَ لا يلحق بأبيه إذا استلحقه وأقر بأنه خلق من مائه؟
4 – أن في إلحاق ولد الزنا بأبيه من الزنا عند انعدام الفراش حفظًا لنسب هذا الولد، وحماية له من التشرد والانحراف، خصوصًا أنه لا ذنب له، فلا ينبغي أن يعاقب بجريرة غيره.

5 – أن في هذا القول سترًا للزانيين، وتشجيعًا لهما على التوبة والاستقامة، وحثًا للزاني على نكاح من زنا بها وإعفافها، وستر أهلها وولدها، وفيه حل لمشكلة هؤلاء الأولاد الناتجين من الزنا، فلا يشعرون بأنهم ولدوا في الحرام والظلام، ولا يحسون بالقهر والظلم إثر ما وقع عليهم، فينشأون مع إخوانهم من النكاح الصحيح نشأة صالحة، وينتسبون إلى أسرة يهمهم سمعتها، والمحافظة على شرفها وكرامتها.

6 – أن هذه المشكلة موجودة بكثرة بين المسلمين الجدد، فيسلم أحدهم مع خليلته وهي حامل منه من الزنا، وهو يرغب نكاحها واستلحاق ولده منها، وقد يكون له علاقة محرمة بزوجته قبل أن يتزوجها، وله أولاد منها من الزنا، وأولاد آخرون بعد نكاحها، فيقع في ورطة لا يحلها إلا الستر عليه، وإلحاق أولاده من الزنا به.

كما إن في هذا القول ترغيبًا لمن يريد الدخول في الإسلام ممن ابتلي بهذه البلية، ولو قيل لأحدهم: إن أولادك من الزنا الذين يعيشون في كنفك وينتسبون إليك لا يلحقون بك شرعًا – لربما صده ذلك عن الدخول في الإسلام، والله المستعان.


خاتمة البحث

وبعد هذا التطواف في هذا البحث أصل إلى ختامه بفضل الله ومنته، ولقد كان من أبرز النتائج التي توصلت إليها:

1 – أهمية هذا البحث، وقيمته العلمية، وبخاصة للأقليات المسلمة في الدول غير الإسلامية، فإنه يكثر السؤال عن أحكامه، ويتحرج كثير من طلاب العلم من الخوض فيه بسبب كثرة الخلاف بين العلماء قديمًا وحديثًا في مسائله، وقوة أدلة كل فريق، وهذا ينشأ عنه إشكالات كثيرة، وحرج شديد لدى من ابتلوا بشيء من ذلك، لأنه يمسهم في صميم حياتهم الأسرية وعلاقاتهم الاجتماعية من حيث صحة نكاح أحدهم أو عدم صحته، وما يلزمه لجواز نكاح من لها معه أو مع غيره علاقة غير شرعية، ومن حيث لحوق أولاده من الزنا به أو عدمه.
2 – أن الاستبراء في الاصطلاح: طلب براءة الرحم من الحمل بالتربص مدة معينة، حفظًا للنسب، والاستلحاق هو: الإقرار بالنسب.

3 – أن الزنا – وهو: الوطء في قُبُل خال عن ملك وشبهة – محرم في جميع الشرائع السماوية، وقد كرر الله تعالى ذكره في القرآن محذرًا منه ومنذرًا، بأساليب كثيرة، وصور شتى، وذلك لكثرة مفاسده وأضراره على الأفراد والمجتمعات.

4 – أنه يجب استبراء الزانية قبل نكاحها إن كان الناكح لها غير الزاني بها، وذلك لقوة أدلته النقلية والعقلية، وسلامتها من الاعتراضات المعتبرة.

5 – أنه لا يجب استبراء الزانية قبل نكاحها إن كان الناكح لها هو الزاني بها، لأن الماء ماؤه في الحالين، ولو قدر حملها من ماء الزنى، فإن الولد يلحق به على الصحيح إذا استلحقه، ولم تكن أمه حين الزنا فراشًا لزوج أو سيد، وقياسًا على الموطوءة بشبهة، أو في نكاح فاسد، فإنه يحل لمن وطئها نكاحها في عدتها منه عند جماهير العلماء، ولأن هذا هو المنقول عن جماعة الصحابة رضي الله عنهم.

كما أن الحاجة تدعو لذلك في حق ضعيف الإيمان، ومع ذلك فالأولى بلا ريب أن يستبرئها قبل أن ينكحها خروجًا من الخلاف، ومنعًا لاختلاط مائه الطاهر بمائه النجس.

6 – أن استبراء الزانية إن كانت حاملاً فبوضع الحمل، وإن كانت تحيض فيكفي في استبرائها حيضة واحدة، وإن كانت آيسة أو صغيرة، فتستبرأ بشهر واحد.

7 – أنه قد أجمع العلماء على أن الزانية إذا كانت فراشًا لزوج أو سيد، وجاءت بولد، ولم ينفه صاحب الفراش – فإنه لا يلحق بالزاني ولو استلحقه، ولا ينسب إليه، إنما ينسب لصاحب الفراش.

8 – أن ولد الزنا يلحق بالزاني بشرطين:

الشرط الأول: ألا تكون أمه حين حملت به فراشًا لزوج أو سيد.

الشرط الثاني: أن يستلحقه الزاني، ويقر بأنه ولده.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


تعليق ختامي

( 1 ) التمهيد 8/183.
( 2 ) المغني 9/123، وانظر: نحوه في الاستذكار 7/171، والحاوي الكبير 8/162، ومجموع فتاوى ابن تيمية 32/112 – 113، وزاد المعاد 5/425.
( 3 ) أخرجه البخاري في كتاب الوصايا، باب قول الموصي لوصيه: تعاهد ولدي... حديث رقم: 2594، 3/1007، ومسلم في كتاب الرضاع، باب الولد للفراش وتوفي الشبهات، حديث رقم 1457، 2/1080.
( 4 ) أخرجه مسلم في كتاب الرضاع، باب الولد للفراش وتوقي الشبهات، حديث رقم 1458، 2/1081، وقد ورد الحديث من طريق جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، قال الترمذي في سننه 3/463 – بعد روايته لهذا الحديث -: «وفي الباب عن عمر، وعثمان، وعائشة، وأبي أمامة، وعمرو بن خارجة، وعبد الله بن عمرو، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم... والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي ×» وقال المباركفوري في «تحفة الأحوذي» 4/270، تعليقًا عليه: «وروي من طريق بضعة وعشرين نفسًا من الصحابة كما أشار إليه الحافظ».
( 5 ) أخرجه أبو داود في كتاب الطلاق، باب الولد للفراش، حديث رقم 2274، 2/283، وحسن إسناده ابن حجر في فتح الباري 12/34، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/430 حسن صحيح.
( 6 ) انظر: أحكام القرآن للجصاص 5/159، وشرح النووي على صحيح مسلم 10/39، وفتح الباري 12/33.
( 7 ) فتح الباري 12/35، 36، وانظر: نحوه في التمهيد 8/196، وشرح النووي على صحيح مسلم 10/37، وتحفة الأحوذي 6/259.
( 8 ) انظر: المغني 9/123، وزاد المعاد 5/425.
( 9 ) روى الدارمي بسنده عن بكير عن سليمان بن يسار قال: «أيما رجل أتى إلى غلام فزعم أنه ابن له، وأنه زنى بأمه، ولم يدع ذلك الغلام أحدٌ، فهو يرثه، قال بكير: وسألت عروة عن ذلك؟ فقال مثل قول سليمان بن يسار» سنن الدارمي، كتاب الفرائض، باب في ميراث ولد الزنا، رقم 3106، 4822، وذكره ابن القيم في «زاد المعاد» 5/425.
( 10 ) المغني 9/123.
( 11 ) انظر: مراتب الإجماع، ص57، والمغني 9/123، والفتاوى الكبرى 4/585، وزاد المعاد 5/425، والفروع 5/526.
( 12 ) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 32/113، 32/139، وقال في «الفتاوى الكبرى» 4/585: «وإن استلحق ولده من الزنا ولا فراش لحقه، وهو مذهب الحسن، وابن سيرين، والنخعي وإسحاق»، ونقله عنه ابن مفلح في «الفروع» 5/526، والمرداوي في «الإنصاف» 9/269، قال: «واختار الشيخ تقي الدين رحمه الله: إن استلحق ولده من الزنى ولا فراش لحقه... وقال في «الانتصار» في نكاح الزانية: يسوغ الاجتهاد فيه، وقال في الانتصار أيضًا: يلحقه بحكم حاكم، وذكر أبو يعلى الصغير وغيره مثل ذلك».
( 13 ) انظر: زاد المعاد 5/425.
( 14 ) أخرجه البخاري في «كتاب الصلاة، باب إذا دعت الأم ولدها في الصلاة، حديث رقم 1148، 1/404، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تقديم بر الوالدين على التطوع بالصلاة وغيرها، حديث رقم 2250، 4/1976م.
( 15 ) انظر: الجامع لأحكام القرآن 5/115، وفتح الباري 6/384.
( 16 ) زاد المعاد 5/426.
( 17 ) أخرجه البخاري في كتاب الطلاف، باب اللعـان ومن طلق بعد اللعان، حديث رقم 5003، 5/2033، وأبو داود في كتاب الطلاب، باب في اللعان، حديث رقم 2256، 2/177، واللفظ له.
( 18 ) انظر: سبل السلام 4/137.
( 19 ) بضم الياء وكسر اللام: يُلْحِق. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 4/285، ولسان العرب 7/396، وشرح الزرقاني 4/31.
( 20 ) أخرجه مالك في «الموطأ» كتاب الأقضية، باب القضاء بإلحاق الولد بأبيه، حديث رقم: 1420، 2/740، والبيهقي في «السنن الكبرى» كتاب الدعوى والبينات، باب القافة ودعوى الولد حديث رقم 21052، 10/263.
( 21 ) المدونة الكبرى 8/339، 340.
( 22 ) انظر: الحاوي الكبير 8/162، والتمهيد 8/183، ومواهب الجليل 5/240، وشرح الزرقاني 4/31.
( 23 ) زاد المعاد 5/425 – 426.
( 24 ) انظر: الحاوي الكبير 8/162.
( 25 ) انظر: المصدر السابق، والمبسوط 29/199.
( 26 ) انظر: فقه الأسرة عند ابن تيمية في الزواج وآثاره 2/759، والموسوعة الفقهية 3/71.
( 27 ) انظر للحنفية: المبسوط 17/154، وبدائع الصنائع 6/242، وتبيين الحقائق 6/241، والدر المختار 6/776، وحاشية ابن عابدين 8/184، وللمالكية: التمهيد 15/47 – 48، والاستذكار 7/164، وبداية المجتهد 2/358، والقوانين الفقهية ص259، ومواهب الجليل 2/216، وشرح الخرشي 6/101، وللشافعية: الحاوي الكبير 8/162، وروضة الطالبين 5/44، وأسنى المطالب 3/20، وحاشية البجيرمي 3/92.
( 28 ) انظر: المحلى 8/335.
( 29 ) سبق تخريجه.
( 30 ) انظر: المبسوط 17/154، وبدائع الصنائع 6/242، والحاوي الكبير 8/162، والمغني 9/123، والفروع 5/526.
( 31 ) الاستذكار 7/163 -164.
( 32 ) أحكام القرآن للجصاص 5/159.
( 33 ) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 32/112 – 113، وزاد المعاد 5/425.
( 34 ) الرشدة: النكاح الصحيح، يقال: ولد رشدة، إذا كان من نكاح صحيح، كما يقال في ضده، ولد زنية – بكسر الراء والزاي فيهما، ويقال بالفتح، وهو أفصح -. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 2/225، ولسان العرب 3/176.
( 35 ) أخرجه أحمد في «المسند» حديث رقم 3416، 1/362، وأبو داود في كتاب الطلاق، باب من ادعاء ولد الزنا، حديث رقم 2264، 2/279، والبيقهي في السنن الكبرى كتاب الفرائض، باب لا يرث ولد الزنا من الزاني ولا يرثه الزاني، حديث رقم 12283، 6/259، والحاكم في كتاب الفرائض، حديث رقم 7992، 4/380، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، وتعقبه الذهبي بقوله: لعله موضوع، فإن ابن الحصين تركوه، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/227: «وفيه عمرو بن الحصين العقيلي، وهو متروك» وقال المنذري في مختصر سنن أبي داود 3/173: «في إسناده رجل مجهول»، وكذلك قال ابن القيم في «زاد المعاد» 5/427.
( 36 ) النهاية في غريب الأثر 2/369، وانظر: نحوه في لسان العرب 14/378، ومعالم السنن 3/235، وزاد المعاد 5/426 – 427، وعون المعبود 6/252.
( 37 ) انظر: معالم السنن 3/235، وزاد المعاد 5/426 – 427، ونيل الأوطار 6/184، والفتح الرباني 15/203.
( 38 ) أخرجه أبو داود في كتاب الطلاق، باب من ادعاء ولد الزنا، حديث رقم 2265، 2/279، وابن ماجه في كتاب الفرائض، باب في ادعاء الولد، حديث رقم 2746، 2/917، والحاكم في كتاب الفرائض، حديث رق 7993، 4/380، وفي سنده محمد بن راشد المكحولي، اختلف فيه، فوثقه بعضهم، وضعفه آخرون، قال الذهبي في «التلخيص: «وثقه أحمد، وقال النسائي: ليس بالقوي، وانظر: ما ذكره عنه في سير أعلام النبلاء 7/343، ونقل ابن حجر في «تهذيب التهذيب 9/159، عن ابن حبان قوله: «كان محمد بن راشد المكحولي من أهل الورع والنسك، ولم يكن الحديث من صنعته، فكثر المناكير في روايته، فاستحق الترك»، وقال ابن القيم في زاد المعاد 5/427: «لأهل الحديث في إسناده مقال، لأنه من رواية محمد بن راشد المكحولي»، وكذلك قال الشوكاني في «نيل الأوطار» 6/184، وفيه أيضًا: «سليمان بن موسى الدمشقي، قال عنه البخاري: عنده مناكير، وقال النسائي: أحد الفقهاء، وليس بالقوي في الحديث، وقال أيضًا: في حديثه شيء، وقال أبو حاتم: في حديثه بعض الاضطراب، وقال ابن حجر: صدوق في حديثه بعض لين، وخولط قبل موته بقليل»، انظر: تهذيب الكمال 2556، وتقريب التهذيب 2/78، وقد حسنه ابن مفلح في «الفروع» 5/528، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/427، وكذلك شعيب وعبد القادر الأرنؤوط في تعليقهما على زاد المعاد 5/427.
( 39 ) انظر: زاد المعاد 5/428.
( 40 ) انظر: الغرة المنيفة في تحقيق بعض مسائل الإمام أبي حنيفة، ص141.
( 41 ) المبسوط 4/207.
( 42 ) انظر: المغني 9/123.
( 43 ) انظر: الحاوي الكبير 8/162.
( 44 ) المبسوط 4/207.

عن الكاتب

A. Fatih Syuhud

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية