الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

العــرف

العــرف

المحتويات



العــرف:


تعريفــه:

العرف في اللغة: المعرفة، ويطلق على الشيء المعروف المألوف الذي استحسنته العقول واستطابته الأمزجة، ومنه قول تعالى: (خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين).

وهو في اصطلاح الأصوليين: مرادف لمعنى العادة، وهي مأخوذة من العود، وهو التكرار، وقد عرفه الغزالي رحمه الله تعالى بقوله: (العادة والعرف ما استقر في النفوس من جهة العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول).


أنواعــه:

العرف على نوعين: قولي وعملــي ..
فالقولـي: هو تعارف قوم على النطق بلفظ من الألفاظ على معنى معين، بحيث لا يتبادر إلى الذهن عند سماعه غيره، فهو في هذا يساوي الاصطلاح.

والعملـي: هو تعارف قوم القيام بعمل معين، كأكلهم لحم الضأن دون غيره، وشربهم ماء النهر دون غيره، وأكلهم خبز بر دون غيره…


حجِّيَّتــه:

الفقهاء على شبه الاتفاق على الاحتجاج بالعرف، وإن كانوا اختلفوا في شروط الأخذ به، وفي مرتبته بين المصادر التشريعية الأخرى إذا ما وقع التعارض بينه وبينها، واستدلوا لحجيته بأدلة منها:

أ‌- قوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف:199)، فهذه الآية الكريمة على التسليم بأن المراد بالعرف فيها المعنى اللغوي له لا المعنى الشرعي، حيث المراد بالعرف فيها الشيء المعروف المستحسن، إلا أن فيها استئناسا إلى اعتبار العرف الشرعي، حيث إن العرف الشرعي ما هو إلا ما تعارفه الناس وألفوه واستحسنوه غالبا.

ب- الحديث الموقوف على ابن مسعود  وهو قوله: (فَمَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ وَمَا رَأَوْا سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ سَيِّئٌما) رواه أحمد، فهو وإن لم يصح رفعه إلى النبي  من طريق صحيح، لكنه صح وقفه على ابن مسعود، وهو مما لا يعرف بالرأي، فكان في حكم المرفوع.

وقد أوضح الفقهاء مدى احتجاجهم بالعرف وتمسكهم به في عبارات كثيرة، منها ما ذكر في شرح الأشباه للبيري قوله: (الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي)، وفي المبسوط للسرخسي: (الثابت بالعرف كالثابت بالنص).
وقد بنى الفقهاء قواعد فقهية عديدة على أساس الاحتجاج بالعرف، منها: (العادة محكمة) و(الحقيقة تترك بدلالة العادة) و(استعمال الناس حجة يجب العمل بها) و(المعروف عرفا كالمشروط شرطا) وغيرها.


شروط العمل بالعرف:

للعمل بالعرف شرط واحد، هو أن لا يكون في مقابلة النص، قرآنا كان أو سنة، ولا في مقابلة الإجماع، فإن ورد العرف على خلاف ما جاء به النص كان باطلا لا حجة فيه ، كأن يتعارف الناس على شرب الخمرة، أو فعل الزنا، أو أكل الربا … لأن هذه الأمور محرمة بنص الشارع، فيكون العرف على خلافها فاسدا لا حجة فيه، وإلا ألغيت كل أحكام الشريعة.

فإذا كان العرف معارضا للنص من وجه دون وجه، بأن كان النص عاما والعرف خاصا، أو كان العرف مخالفا له في بعض أفراده فقط، فإن العرف هنا يعتبر صحيحا لا فاسدا لعدم مصادمته النص من كل وجه، وفي تقديمه على النص أو تقديم النص عليه في هذه الحال وجوه سوف نعرض لها.


العرف الصحيح ومرتبته بين مصادر التشريع الأخرى:

إذا كان العرف فاسدا، بأن كان في مقابلة النص من كل وجه، فإنه ساقط لا عبرة به ولا حجية فيه، فإن كان صحيحا، بأن لم يكن كذلك، وجاءت بعض النصوص أو الأدلة تخالفه، فإنه ينظر، فإن كان الدليل نصا عاما وخالفه العرف الصحيح في بعض أفراده، أو كان الدليل قياسا، فإن العرف هنا يخصص العام ويلغي القياس، لأنه مقدم عليه، إن كان عرفا عاما، فإن كان عرفا خاصا، كان عموم النص والقياس مقدمان عليه، فيبقى النص على عمومه، ويبقى القياس صحيحا، ويلغى حكم العرف.

وعلى ذلك فالعرف العام أقوى من القياس، والعرف الخاص أدنى منه، والعرف العام هو العرف المنتشر بين جميع المسلمين في كل أقطارهم دون استثناء، والعرف الخاص هو العرف المحصور في بلدة معينة أو في أصحاب حرفة معينة دون غيرهم، مثال ذلك الشراء بشرط الحمل إلى البيت، فإن العرف قد ورد به في كثير من أنواع المشتريات، كالخضار واللحوم وغيرها، وانتشر بين الناس حتى عد عرفا عاما، ولذلك أفتى العلماء بصحة اشتراطه عند البيع رغم معارضته لعموم الحديث الشريف: (نهى رسول الله  عن بيع وشرط)، لأن الحديث هنا عام يشمل كل شرط، والعرف العام هنا جاء خاصا بشرط معين، فجاز تخصيص النص به، وهكذا كل الشروط العقدية التي جاء العرف العام بها مما لا يخالف نصا خاصا.


مذهب الصحابــي:

الصحابي عند الأصوليين: هو من لقي النبي  مؤمنا به ولازمه مدة طويلة بحيث يجوز إطلاق لفظ الصاحب عليه عرفا ولغة، وهو عند علماء الحديث: من لقي النبي  مؤمنا به ومات على الإيمان، ولو كانت مدة التقائه به دقيقة واحدة.

وقد اختلف الفقهاء في الاحتجاج بمذهب الصحابي وما صدر عنه من أقوال وأعمال وفتاوى، على أقوال متعددة، فمنهم من ذهب إلى الاحتجاج بأقوال الصحابة وأعمالهم مطلقا، ومنهم من احتج بها في مواطن دون أخرى، ولذلك فإننا سوف نفصل أحوال مذاهب الصحابة وأنواعها، ونبين مدى الاحتجاج بكل نوع منها، ومذاهب العلماء فيه.


أنواع مذاهب الصحابة:

1- أن يذهب الصحابي إلى قول لا مجال للرأي فيه، لأنه حكم غير معقول المعنى، كأن يفتي الصحابي بأن مكان سورة كذا قبل سورة كذا أو بعده، فإن ذلك أمر تعبدي توقيفي لا مجال للرأي فيه، وهذا النوع حجة عند جميع الفقهاء دون خلاف، لأنه في حكم الحديث المرفوع إلى النبي ، والحديث المرفوع حجة بالإجماع، فكذلك هذا.

2- أن يذهب الصحابي إلى قول معقول المعنى داخل في حدود الاجتهاد، فيوافقه عليه الصحابة جميعا دون خلاف، قولا أو سكوتا، فإن هذا النوع حجة عند جمهور المسلمين، لأنه داخل في حد الإجماع القولي أو السكوتي، والإجماع القولي حجة كما تقدم بالإجماع، وكذلك الإجماع السكوتي عند الجمهور، فيكون قول الصحابي هذا حجة لذلك.

3- أن يذهب الصحابي إلى قول معقول المعنى يصلح للاجتهاد والنظر فيه ويخالفه فيه غيره من الصحابة وينازعه فيه، فإن هذا النوع ليس بحجة على صحابي آخر غير قائله بإجماع المسلمين، وإلا لما جاز اختلاف الصحابة فيما بينهم، ولما وقع منهم ذلك، لكنه وقع اختلاف في كثير من المسائل بينهم، فدل ذلك على عدم الزامه لهم، أما بالنسبة للتابعين ومن بعدهم فقد اختلف الأئمة على الاحتجاج به على قولين:

أ - مذهب الجمهور، ومنهم الحنفية والمالكية والحنبلية وهو الاحتجاج به وتقديمه على القياس إذا عارضه.
ب - مذهب الشافعي، وهو عدم الاحتجاج بقول الصحابي، إلا للاستئناس به فإنه معتبر عنده من غير إلزام.


أدلة الجمهور في الاحتجاج بمذهب الصحابي:

- قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران:110)، فإن هذا الآية الكريمة خطاب للصحابة، ومن توابع الأمر بالمعروف قبول قولهم.
- ما ثبت عن النبي  في امتداح الصحابة والشهادة لهم بالخيرية والعدالة، مما يشير إلى الأخذ بقولهم والاحتجاج به، من ذلك: قوله : (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)، وقوله : (اقتدوا بالذين من بعدي، أبي بكر وعمر).

- المعقول، فإن احتمال كون قول الصحابي وفعله مستندين إلى دليل كبير، لقربه من رسول الله ، وعلمه بأحواله، وحبه له، فإذا كان قوله مخالفا للقياس غلب على الظن استناده إلى دليل أقوى من القياس، تنزيها للصحابة من الوقوع في الإثم والقول بغير دليل.


أدلة النافين للاحتجاج بمذهب الصحابي:

- قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) (الحشر:2)، فإن فيها أمرا بالقياس والاجتهاد، وإتباع مذهب الصحابي ينافي هذا الأمر، فكان ممنوعا منه لذلك.
- الإجماع من الصحابة على جواز مخالفة بعضهم بعضا، وغيرهم يقاس عليهم لعدم الفارق المؤثر.
- المعقول، وهو أن الصحابة جلهم من أهل الاجتهاد، فكان احتمال قولهم ذلك من اجتهاد كبير، بل هو الراجح، وإذا كان كذلك لم يكن حجة لعدم ارتقائه إلى مرتبة الرفع إلى النبي .
- كان التابعون يخالفون الصحابة في بعض أقوالهم، وكان الصحابة يقرونهم عليه، فكان ذلك دليلا على جواز المخالفة لهم فيما ذهبوا إليه.

من ذلك أن عليا  احتكم إلى شريح مع يهودي، وشهد له ابنه الحسن، فرد شريح شهادته، لأن شهادة الابن لأبيه لا تقبل عنده، وكانت مقبولة في رأي علي ، فلم يخالفه في رأيه، وانصاع لحكمه، ومثل هذه الحادثة كثير.


الترجيــح:

من استعراض هذه المذاهب نرى أن الاحتجاج بمذهب الصحابي فيما هو محل الاجتهاد ولم يجتمع عليه الصحابة لم يقم دليل ناهض عليه مقطوع به أو مظنون، ولذلك فإن المرجح هو عدم اعتباره حجة، جرياً على ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله، وإن كان يحسن الاستئناس به دون أن يكون في ذلك نوع من الإلزام.


شرع من قبلنا:

شرع من قبلنا نعني به شرائع الأنبياء السابقين على سيدنا محمد  كإبراهيم ونوح وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء والرسل الذين قص علينا القرآن الكريم أخبارهم، وهو خاص بالتشريعات السماوية دون التشريعات الوضعية التي سبقت رسالة الإسلام، كالتشريع الروماني وتشريعات قدامى المصريين وشريعة حمورابي وغيرها، فإنها ليست شرائع معتبرة في نظر المتدينين في العالم من غير خلاف، لأن حق التشريع إنما هو لله وحده ولا يحق لأحد غيره في التشريع مطلقاً، قال تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (يوسف:67) .

وقد اختلف الفقهاء في حكم شرع من قبلنا، أيعتبر شرعا ملزما لنا، كإلزام شرعنا لنا، أم لا يعتبر تشريعاً ملزماً لنا؟ وذلك على أقوال ومذاهب متعددة. وقبل أن نتعرض لخلافاتهم ومذاهبهم نريد أن نشير إلى مواطن الاختلاف في هذه المسألة، ونصرف النظر عن مواطن الاتفاق فيه، لعدم الفائدة من بحثها.

فإن شريعة من قبلنا لابد أن تعتريها الحالات التالية:
1- أن يقصها الله تعالى علينا ويأمرنا باتباعها، مثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183)، فهذا ملزم لنا بالإجماع، لا لأنه شرع من قبلنا ولكن لأنه شرعنا.

2- أن يقصها الله تعالى علينا ويقوم الدليل الشرعي على نسخها، مثل حكم الغنائم، فإن الرسول  أخبرنا أن الغنائم كانت محرمة على من قبلنا ثم أبيحت لنا، وذلك ثابت بقوله  في حديث الخصوصية، عن جابر : (وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي)، فهذا منسوخ في حقنا باتفاق الفقهاء أيضاً، لقيام الدليل الشرعي على نسخه.

3- أن لا يقصها الله تعالى علينا مطلقاً، فإنها لا حجة فيها علينا بالاتفاق، لعدم ثبوتها بالطرق التي نقبلها، ولا يؤثر في ذلك أنها ثابتة عندهم، لأنهم بكفرهم سقطت عدالتهم وأهملت روايتهم، فلم يبق فيها نوع حجة علينا لذلك.

4- أن يقصها الله علينا من غير إلزام لنا بها أو نسخ لها، مثل قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة:45) وهذا هو موضع الخلاف بين الفقهاء.

فقد ذهب جمهور الحنفية وبعض الشافعية والمالكية والحنبلية في رواية، إلى أن شرع من قبلنا الذي قصه الكتاب علينا دون بيان لنسخه شرع لنا.

وذهب بعض الشافعية والحنبلية في رواية، والأشاعرة والمعتزلة والشيعة إلى أن شرع من قبلنا الذي قصه الله علينا دون أن يأمرنا به ليس شرعاً لنا، وهو ما اختاره الغزالي والآمدي والرازي وابن حزم الظاهري.


الأدلـــة:

استدل كل من المحتجين والنافين للاحتجاج بشرح من قبلنا فيما قصه الله تعالى علينا دون بيان لنسخه أو أمرنا به بأدلة عدة، أهمها:


أدلة المحتجين:

أ‌- أن الله تعالى أمرنا في كثير من آياته القرآنية بالسير على منوال الأمم السابقة فيما لا يخالف شريعتنا، من ذلك قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)(الأنعام:90)، ومنه قوله تعالى: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل:123) .

ب‌- قال الله تعالى (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة:45)، فقد استدل العلماء بها على وجوب القصاص، ولو لم يكن شرع من قبلنا شرعا لنا لما احتجوا بها.
ج- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب موافقة أهل الكتاب في بعض الأحيان، ولو لا أن شرعهم حجة علينا لما أحب موافقتهم.


أدلة النافين للاحتجاج:

أ‌- أن الرسول  عندما بعث معاذا إلى اليمن قاضيا وسأله بم تقضي، وأجابه بأنه سوف يقضي بالقرآن والسنة والاجتهاد، أقره الرسول  على ذلك، ولو كان شرع من قبلنا دليلا وحجة لأرشده رسول الله  إلى ذلك، ولكنه سكت ولم يرشده إليه، فدل على أنه لا حجة علينا فيه.

ب‌- قال تعالى: (وأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (المائدة:48)، فهذا يدل على أن شريعة كل أمة من الأمم السابقة خاصة بها لا حجية فيها على غيرها.

ج‌- لو كان شرعا لنا لاهتم رسول الله  وأصحابه بتعلمه، ولو اهتموا به لنقل ذلك إلينا لتوافر الدواعي، ولكن لم ينقل إلينا شيء من ذلك، فدل ذلك على أنه لا حجة فيه.

د- أن الشرائع السابقة خاصة بالأقوام التي نزلت فيهم، والعموم هو من خصائص شريعتنا فقط، لما جاء في حديث جابر أن النبي  قال: (جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة)، فدل ذلك على أن الإلزام في الشرائع السابقة ليس إلا للأقوام الذين أنزلت فيهم، فلا يكون فيها إلزام علينا.


المناقشــة والترجيح:

الحق أن كل الأدلة السابقة المثبتة والنافية للاحتجاج تحتمل المناقشة، وإن كانت تختلف بينها قوة وضعفا، والذي أراه هو أن شرع من قبلنا في هذه الصورة الأخيرة محل الخلاف ليس شرعا لنا بحال، وذلك لما يلي:

1- أن شرائع من قبلنا تختلف فيما بينها في كثير من الأحكام، ولو كانت حجة علينا لوقعنا في الحيرة، لأنه لا مرجح لواحد منها على الأخر مادامت كلها سابقة على شرعنا، ولم يرد فيها في شريعتنا ما يدل على النسخ أو الاعتبار، ولذلك لا تعتبر شريعة لنا لذلك.
2- أن الشرائع إنما جاءت لتيسير مصالح الدين والدنيا معا، ومصالح الدين والدنيا متغيرة متجددة بتجدد العصور والأزمان، فما كان شريعة صالحة في الأزمنة الغابرة لا يمكن الجزم بأنه شريعة صالحة في زماننا، وإذا كان ذلك كذلك امتنع تكليفنا بها، ولا يمكن أن يرد على هذا أن ذلك يقتضي نسخ شريعتنا أيضا بعدما تقادم عليها الزمن، وذلك أن شريعتنا جاء الدليل القاطع على عمومها ووجوب العمل بها في كل زمان بخلاف تلك، ولأن الشارع عندما أمر بعموميتها أودع في نصوصها من المرونة ما يكفي لتلبيتها حاجات كل العصور، واختلاف الفقهاء في بعض الأحكام أكبر شاهد على هذه المرونة وهذه الصلاحية.

3- أن الله تعالى قال في كتابه العزيز: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً)(المائدة:3)، وكمال الدين يقتضي عدم الحاجة إلى دليل آخر.

ولا يمكن أن يقال إن كمال الدين معناه من حيث أصول الأحكام فقط، وإلا فما معنى حجية الإجماع والقياس وغيرها، إذ الجواب على ذلك واضح، هو أن الدين نفسه وجه إلى هذه المصادر بأدلة قاطعة فكانت منه، ولكنه لم يوجه إلى الأخذ بشرائع من قبلنا بأدلة قاطعة أو مظنونة فلم تكن منه، فكان اعتبارها والاحتجاج بها مناقضاً لكمال الدين، إذ إن كل ما أورده المثبتون للاحتجاج بها من نصوص هو نصوص دون مرتبة الظن، فلا تصلح دليلا على اعتبار شرائع من قبلنا والاحتجاج بها علينا.

هذا ولابد من الإشارة إلى أن البحث والاختلاف في هذا كله اختلاف غير ذي موضوع، لأنه غير حاصل من الناحية العلمية، فان الله تعالى لم يقص علينا من شرائع من قبلنا شيئاً إلا وبين نسخه أو اعتباره، فكان المدار على ذلك النسخ أو الاعتبار، وما جاء به المثبتون من شواهد، فانه مردود، ذلك أن أهم الشواهد التي أتوا بها هو قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة:45)، وادعوا أنه لم يثبت عن الشارع ما يعتبرها أو ينسخها مع أن الشارع ثبت عنه اعتبارها، وهو ما جاء في قول النبي : (النفس بالنفس إن هلكت)، فكان تشريع القصاص حجته حديث النبي  هذا الذي شهد للآية بالاعتبار في حقنا.

وهكذا يمكن تخريج كل الأمثلة والشواهد التي أتوا بها دون حاجة إلى الخوض في ذلك الاختلاف، ولكن على التسليم بقيام موطن الخلاف، فان الرأي المرجح عندي عدم الاحتجاج بها لما قدمت من الأدلة والترجيح، والله تعالى أعلم.

عن الكاتب

A. Fatih Syuhud

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية