الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

أنواع الواجب المؤقت الأداء والإعـــادة والقضـــاء

أنواع الواجب المؤقت الأداء والإعـــادة والقضـــاء

المحتويات



شرح التعاريف وبيان محترزاتـها:


التعريف الأول:

فعل العبادات: يشمل الواجب والمندوب والمباح دون تخصيص، لأن العبادة تطلق عليها جميعا، ويدخل في هذا العموم ما كان من العبادة مؤقتا أو غير مؤقت، كما يدخل فيه ما كان وقته مقدرا من الشارع أو لا، كما يدخل في ذلك ما كان فعله في الوقت أو لاً أو ثانيا، ولما لم تكن هذه من المعرف أخرجت بالقيود الآتية.

في وقته: قيد أول يخرج به ما لم يكن له وقت من المأمورات، كالنوافل المطلقة، والكفَّارات والنذور المطلقة، فإنها لا تدخل في هذا التقسيم على هذا التعريف، لأنها غير مؤقتة.

المقدر له شرعا: قيد ثان يخرج به ما كان تقديره من المكلف نفسه، كالزكاة إذا عين لها الإمام شهرا، فإنها غير مؤقتة في الأصل من قبل الشارع، وتأقيت الإمام لا يجعل تأخره عند خروجه عن الأداء إليه قضاء، لأنه ليس تقديرا من الشارع.

أولا: قيد ثالث يخرج به ما كان فعله في وقته المقدر له شرعا ولكن ليس أولاً، بل ثانيا، جبرا لما وقع في الأداء الأول نفسه، كإعادة الظهر في وقتها لخلل أصابها من تأخير ركن أو ترك واجب، فإنه داخل في قسم الإعادة لا الأداء على ما يأتي.

هذا إذا كان فعلها أولا صحيحا ناقصا كترك الفاتحة في الصلاة عند الحنفية، فإذا كان باطلا كان فعلها ثانيا أداء، لعدم الاعتداد بالفعل الأول، فإن الباطل وجوده وعدمه في اعتبار الشرع سواء، وكالصلاة بلا قراءة مطلقا لغير المؤتم، فإنها باطلة، فإذا أعادها كان الفعل الثاني أداء لا إعادة، لعدم الاعتداد بالفعل الأول مطلقا(1).

هذا ولا بد من فعل العبادة أو الواجب كله في الوقت حتى يسمى أداء، أما فعل بعض العبادة في الوقت وبعضها خارجه فلا يكون أداء على هذا التعريف، ولكن جمهور الفقهاء على أن فعل أول العبادة في الوقت كاف لاعتبارها أداء، ولو كان بعضها الآخر خارج الوقت، فمن أدرك أول صلاة العصر في الوقت ثم غربت الشمس وهو في صلاته فإن عصره يعتبر أداء، ولذلك أدخل الفقهاء في التعريف قولهم: (فعل ابتداء العبادة)(2)، ليدخل ما نصوا عليه، ولكنهم مع ذلك اختلفوا في الجزء الذي يعتبر إيقاعه في الوقت كاف لاعتبار الصلاة أداء، فذهب الحنفية إلى أنه التحريمية فقط، وذهب الشافعية إلى أنه ركعة على الأقل، فلو أحرم بالعصر ثم غربت الشمس كان فعله أداء عند الحنفية قضاء عند الشافعية، لعدم وقوع ركعة كاملة في الوقت.


التعريف الثاني:

التعريف الثاني كالأول تماما، ولا يفترق عنه إلا في تخصيص التعريف بالواجب دون غيره، فهو يخص هذا التقسيم بالواجب فقط، وهو ما طلب الشارع من المكلف فعله على سبيل الإلزام، فيخرج عن هذا التعريف جميع المندوبات والمباحات والمكروهات، أما المحرمات فإنها داخلة فيه، لما فيها من معنى الواجب وهو الإلزام بالترك.


التعريف الثالث:

هذا التعريف جامع شامل لكل المأمورات، سواء أكان الأمر فيها على سبيل الوجوب أو على سبيل الندب أو على سبيل الإباحة، وهو يشمل المأمورات المؤقتة وغير المؤقتة على حد سواء، كما يدخل فيه ما كان من حقوق الله تعالى وما كان من حقوق العباد، لذلك كان التعريف المرجح لدى جماهير الأصوليين، لشموله وصدقه على كل أفراده.

والمقصود بعين الثابت بالأمر، الإتيان بالمأمور به – أي المطلوب فعله – على الوجه الذي طلبه الشارع تماما، من غير مخالفة، مثل رد المغصوب عينا، فإنه هو الذي طلبه الشارع، أما رد القيمة عند هلاك العين فذلك ليس عين المطلوب من الشارع رده، بل هو بدل عن رد العين، يصار إليه عند الضرورة، وكذلك أداء الصلاة في وقتها، فهو عين المطلوب من الشارع، أما أداؤها بعد الوقت فذلك بدل للمطلوب، يصار إليه عند الأعذار والضرورات، فكان مثل المطلوب فعله لا عين المطلوب فعله.


2- الإعـــادة:

الإعادة تعريفها تعريف الأداء نفسه تقريبا وقد جرى فيها من الخلاف مثلما جرى في تعريف الأداء، فلا حاجة لنا إلى تكراره هنا.
والفارق الوحيد الذي تفترق به الإعادة عن الأداء هو أن الإعادة لا تكون إلا بعد سبق أداء الواجب ناقصا، أما الأداء فلا يكون إلا أولاً، وقد تم تفصيل ذلك في تعريف الأداء.

وينبغي الإشارة هنا إلى أن الحنفية اختلفوا في الإعادة أيكون الفعل الأول فيها مسقطا للواجب ويكون الثاني جابرا لنقص الأول، أم يكون الثاني هو المسقط للواجب.

فذهب إلى الأول جمهور الحنفية، بدليل أنه لو لم يعده لكان الفرض ساقطا عنه بالاتفاق، وهذا دليل وقوع الفرض بالأول، لأن الإعادة لم ترد عليه بالنقص بل بالتكميل فقط.

وذهب أبو اليسر من الحنفية، إلى أن الفعل الثاني هو المسقط للواجب بعد الإتيان به، لأنه يستجمع كل أوصاف الواجب، فلم يعد هنالك حاجة إلى الالتفات للفعل الأول والاعتداد به(1).
والأرجح في نظري القول الأول، لما تقدم من الدليل الناهض.


3 - القضـــاء:

اختلف الفقهاء في تعريفه كاختلافهم في تعريف الأداء، لأنه نقيضه، فأصحاب التعريف الأول للأداء عرفوا القضاء بأنه: (ما فعل بعد وقته المقدر له شرعا أولا استدراكا لما سبق له وجوب)(2) فشمل ذلك تأخير الواجب عن وقته عمدا أو سهوا، كما شمل التأخير عن الوقت مع التمكن من الأداء، كالمسافر مثلا، أو مع عدم التمكن منه كالمريض والحائض والنائم.

وقد قيد بعض الفقهاء هذا التعريف بكلمة عليه، فقال: (.. استدراكا لما سبق له وجوب عليه) ليخرج به النائم والحائض والمجنون عن حد القضاء، لعدم تأكد الواجب في ذمتهم أثناء العذر، فإن الخطاب متجه عليهم في الجملة، ولكنه لم يتأكد في حقهم، فعلى التعريف الأول يدخل فعلهم الواجب بعد الوقت في حد القضاء، لتوجه الواجب عليهم بالجملة، وعلى التعريف الثاني ليس بقضاء، لعدم تأكد الوجوب في حقهم، للمانع الشرعي المبيح للتأخير.

وأصحاب التعريف الثاني مثل أصحاب التعريف الأول تماما، إلا أنهم قصروا التعريف على الواجب دون غيره، فلا يعتبرون من القضاء فعل النوافل خارج وقتها.

أما أصحاب التعريف الثالث فقد عمموا هذا التقسيم – كما تقدم – على كل مأمور به، سواء كان حقا لله تعالى أو حقا للعباد، مؤقتا أو غير مؤقت، فعرفوا القضاء بأنه: (تسليم مثل الثابت بالأمر)(1) والمراد بكلمة مثل هنا هو تسليم المأمور به ناقصا بعض أوصافه الشرعية، كأداء الصلاة خارج وقتها، فإنها ناقصة الوقت المرتبطة به، وتسليم قيمة المغصوب عند هلاك عينه، فإنه ناقص تسليم ذات العين الثابت بحكم الغصب، وقد تقدم تفصيل ذلك في تعريف الأداء.


دليل قضاء الواجب وحكمه:

اتفق الفقهاء على أن الواجب إذا لم يؤد في وقته وجب أداؤه بعد الوقت قضاء، كالصلاة والصوم إذا لم يؤدهما المكلف في وقتهما المحدد لهما شرعا وجب قضاؤهما بعد الوقت، سواء أكان التأخير لعذر كالمرض والسفر والسهو، أو لغير عذر كالعمد.
ولكنهم اختلفوا في الدليل الموجب للقضاء، أهو الخطاب الذي وجب به الأداء نفسه، أم هو خطاب جديد غيره.
فذهب الجمهور وفيهم الشافعية والمالكية وبعض الحنفية إلى أن القضاء إنما يثبت بسبب جديد غير سبب الأداء.
وذهب جمهور الحنفية والحنبلية وأهل الحديث إلى أن القضاء يجب بما يجب به الأداء، ولا حاجة إلى دليل جديد له.

وذهب جماعة إلى أن القضاء بمثل معقول لا يحتاج إلى دليل جديد، أما القضاء بمثل غير معقول فهو الذي لا بد له من دليل جديد، حتى إن صاحب التلويح ادعى على ذلك الإجماع، فقال: (لا خلاف في أن القضاء بمثل غير معقول يكون بسبب جديد، واختلفوا في القضاء بمثل معقول..)(2) إلا أن صاحب فواتح الرحموت رد على ذلك، وأثبت أن الخلاف في المثل المعقول وغير المعقول على حد سواء، وأنه لا فرق بينهما، فقال: (وقد بان لك أن الفرق بين القضاء بمثل معقول وبمثل غير معقول ليس في موضعه، فإن الأداء كما كان مفرغا للذمة عن اشتغالها بأصل الفعل، كذلك الإتيان بمثل غير معقول أو بمثل معقول ..)(3).


الأدلة:

استدل الجمهور لمذهبهم بأدلة منها(1):
1- بأن الأمر بالأداء لم يتضمن أمرا بالقضاء، ولا يمكن أن ينتظم لفظ الأمر كليهما معا على وجه يحصل به المطلوب بفعل أي منهما، إذ إن ذلك معناه التسوية بين الأداء والقضاء من كل وجه، وهذا باطل، لما في القضاء من إثم التأخير، مثل ذلك مثل من قال لغيره: صم يوم الخميس، فإن ذلك الأمر لا يعني صوم يوم الجمعة اقتضاء عدم الجمع بينهما، وهذا كذلك.

2- بأن الأمر بالأداء يستوجب أمرين هما: أداء الفعل، وكونه في وقته المقرر له شرعا، وليس مطلق الإتيان بالفعل فقط، أي إن الأمر اقتضى واجبا متصفا بقيد، فإذا تعذر حصول القيد لم يعد التفريغ على الوجه المطلوب ممكنا، فاحتيج إلى دليل جديد للقضاء.

واستدل الحنفية لمذهبهم(2):

1- بأن الأمر فيه شغل الذمة بالواجب بقصد التفريغ بالأداء، وكون ذلك في الوقت قيد تكميلي، فإذا تم التفريغ في الوقت فقد تم التفريغ على الكمال، وإذا أخرج عن الوقت بقي الواجب في الذمة، ولزم أداؤه ما دام الكمال متعذرا، وهذا النقص هو محل المسؤولية والإثم، ثم إن لفظ القضاء يدل على ذلك أيضا، لأنه لو كان ثابتا بدليل جديد لسمي أداء ولم يسم قضاء، فإن لفظ القضاء يدل على انشغال الذمة بالأمر السابق.

2- بأن فوات الأصل (الأداء) يستلزم أحد أمور ثلاثة لا رابع لها، هي:
أ - العفو عن الواجب بالكلية، وتفريغ الذمة منه بتاتا، وبالتالي عدم المطالبة بالواجب خارج الوقت قضاء.
ب - بقاء الواجب في الذمة كما كان رغم خروج الوقت.
ج - ثبوت المعصية ثبوتا لا رافع له دون مطالبة بالفعل.
فأما الاستلزام الأول فلا سبيل إليه، لأن القضاء واجب باتفاق الفقهاء، سواء أكان ذلك بسبب جديد أو بالسبب السابق، وهو ينافي العفو.

وأما الاستلزام الثالث فلا سبيل إليه أيضا، وذلك لأن المعصية المترتبة على إخراج الواجب عن الوقت معصيتان، الأولى بسبب تأخير الواجب عن وقته، وهذا لا رافع له إلا كرم الله تعالى وجوده، والثانية بسبب ترك نفس الواجب، وهذه تجبر بالقضاء باتفاق الفقهاء.
فلم يبق إلا الوجه الثاني، وهو انشغال الذمة بالواجب على وجه لا تفرغ فيه إلا بالتنفيذ فعلا.

3- لو كان القضاء لا يثبت إلا بخطاب جديد، لما وجب قضاء الصلاة على تاركها عمدا، لأن قول النبي  (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها) لا يشمل التارك للصلاة عمدا، ولا دليل غيره يوجب القضاء عليه مع أن الفقهاء كنفقون على وجوب القضاء عليه، فلزم منه ثبوته بالدليل الأول.
وقد نقض الحنفية والحنبلية مذهب الجمهور من عدة وجوه:
فردوا على الوجه الأول بأنه لو كان مرادنا شمول دليل الأداء للقضاء لفظا لكان دليلهم صحيحا، ولكن قصدنا ليس كذلك، بل هو أن المطالبة بشيء تتضمن المطالبة بمثله عند فوته تضمنا، فكان دليل وجوب الأداء شاملا لوجوب القضاء ضمنا لا لفظا، وكان إيجاب الأداء موجبا للقضاء، إذ هو مثل الأداء، فيصار إليه عند فوت الأصل ضرورة تفريغ الذمة.

كما أنهم ردوا على الوجه الثاني بأن الوقت مكمل للواجب لا أصل مثله، فليس الثابت بالأمر شيئين هما الواجب وكونه في الوقت، بل إن الثابت به هو فعل الواجب فقط، وأما كونه في الوقت فذلك وصف مكمل له، بدليل أنه لو أخرج الواجب عن وقته ثم فعله صح الواجب وسقط عن ذمته، وأما الإثم فهو نتيجة الإخلال والكمال وهو كونه في الوقت، ولو كان الوقت مقصودا بالأمر الأول كالواجب سواء بسواء لما سقط الواجب به قضاء، ولكن يسقط الواجب باتفاق الفقهاء بالقضاء، فكان مكملا له لا أصلا لذلك.

فإن قيل إن المكمل لا يوجب فواته الإثم لأنه بمثابة المندوبات، والقضاء يثبت فيه الإثم بالإجماع، أجيب بأن المكمل نوعان: نوع يكون واجبا، كقراءة الفاتحة في الصلاة عند الحنفية، ونوع يكون مندوبا كعقد اليدين في القيام، وتفويت الواجب يوجب الإثم بالاتفاق، فكان اعتبار الوقت مكملا للواجب إنما هو من النوع الأول، فلم يعد هنالك اعتراض على استحقاق الإثم بتفويته(1).

وقد رد الجمهور على الحنفية والحنبلية في دليلهم الرابع، بأن قضاء الصلاة على التارك لها عمدا إنما وجب بالحديث المتقدم نفسه بطريق دلالة النص، فإن حالة الترك عمدا أولى بالقضاء من حالة الترك سهوا أو النوم، ودلالة النص حجة عند الحنفية والحنبلية.
ثم إن القضاء على التارك عمدا ثبت بإجماع الفقهاء عليه من غير نكير، والإجماع حجة قطعية بالاتفاق، فصلح ذلك أن يكون دليلا جديدا لوجوب القضاء.

هذا وقد مال كثير من الفقهاء إلى ترجيح مذهب الجمهور، ولكنني مع ذلك أرى ترجيح رأي الحنفية والحنبلية من اعتبار الخطاب الأول الموجب للأداء موجبا للقضاء ضمنا لا لفظا، ما لم يقم دليل صريح على خلاف ذلك، أي إن الأصل هو الشمول ما لم يعارض بدليل آخر لما تقدم من الأدلة.


أنواع الأداء والقضاء(1):


أ‌- أنواع الأداء:

ينقسم الأداء سواء كان ذلك في حقوق الله تعالى أوحقوق العباد إلى ثلاثة أقسام، هي:
ا- أداء كامل: وهو فعل عين الثابت بالأمر في وقته بالوصف الذي شرع عليه، أي كاملا مستجمعا كل شروطه وأركانه وسننه على الوجه الذي جاء به الخطاب، كصلاة الجماعة في وقتها فيما شرعت فيه الجماعة من الصلوات، فإنها أداء كامل، لاحتوائها على الجماعة، وهي من سنن الصلاة أو واجباتها، وكرد عين المال المغصوب سليما، فإنه أداء كامل أيضا.

2- أداء ناقص: هو فعل عين الثابت بالأمر في وقته ناقصا بعض الأوصاف التي شرع عليها، كصلاة المنفرد فيما شرعت فيه الجماعة من الصلوات، فإنها ناقصة صفة الجماعة، كرد عين المغصوب مشغولا بجناية أو دين.

3- أداء شبيه بالقضاء: وهو فعل عين الثابت بالأمر في وقته بعد فوات محله من وجه، كصلاة اللاحق للإمام فيما يصليه وحده بعد الإمام، فإنه أداء لفعله في وقته، وفيه معنى القضاء، لما فيه من فعله بعد محله، إذ محله خلف الأمام، وكذلك إذا تزوج امرأة على عبد لغيره، ثم اشتراه ودفعه لها، فإنه أداء من حيث إن فيه دفع العبد نفسه، ولكنه يشبه القضاء من حيث إن تبدل الملك كتبدل العين.


ب - أنواع القضــاء:

ينقسم القضاء إلى ثلاثة أقسام أيضا:

1- قضاء بمثل معقول: وهو ما كان وجه المشابهة والمماثلة فيه بين القضاء والأداء مما يدركه العقل، كقضاء الصلاة بالصلاة، والصوم بالصوم، وضمان المغصوب بالمثل بعد هلاك العين.

2- قضاء بمثل غير معقول: وهو ما كان وجه المشابهة والمماثلة فيه بين القضاء والأداء مما لا يدركه العقل ولكن ثبت بالشرع، كالفدية في الصوم، فإن العقل لا يستطيع إدراك المماثلة بين الإنفاق في الفدية بدلا عن الصوم وبين الصوم، وكذلك ضمان النفس بالمال المتقوِّم في القتل، والإرش عن الأطراف، وغيرها.

3- قضاء يشبه الأداء: كإدراك المقتدي الإمام في صلاة العيد وهو راكع، فإن عليه أن يكبر تكبيرات الزوائد في حالة الركوع، وهذه تعتبر قضاء لزوالها عن وقتها، إذ هو القيام، لكنها شبيهة بالأداء، لما في الركوع من شبه بالقيام من حيث انتصاب الساقين في كل، فكان فعلها في الركوع له شبهة بفعلها في القيام، وكذلك لو تزوج امرأة على عبد غير معين ثم دفع إليها قيمة عبد وسط، فإنه قضاء من حيث أن الثابت عليه عبد وسط لا قيمته، وهو شبيه بالأداء، لأن العبد الثابت عبد وسط، والوسطية لا تعرف إلا بالقيمة، فكأن القيمة هنا أصبحت شبيهة بالأداء، لما فيها من معنى الأصلية في تعيين الواجب.


التقسيم الثاني للواجب: من حيث تقديره من الشارع بحد معين أو عدم تقديره به

التقسيم الثاني للواجب: من حيث تقديره من الشارع بحد معين أو عدم تقديره به، فإنه ينقسم من هذه الحيثية إلى واجب محدد، وواجب غير محدد:

1- الواجب المحدد: وهو الواجب الذي حدد الشارع له مقدارا معينا، كالزكاة، فإن الشارع بيَّن أنصبتها والواجب في كل نصاب، والصلاة، فإن الشارع بيَّن عددها وأوقاتها، ولم يترك شيئا من ذلك لتحديد البشر.

ومن ذلك أيضا كل الحدود والكفارات، ومقدار الفروض في المواريث، فإنها لا دخل لإنسان في أمر تحديدها زيادة أو نقصانا.

2- الواجب غير المحدد: وهو الواجب الذي أمر الله تعالى بفعله ولم يحدد المقدار الواجب فيه، بل ترك أمر التحديد للسلطة البشرية وقرائن الأحوال يتحدد بموجبها، كنفقة الأقارب، والتعزيرات، والإنفاق في سبيل الله سبحانه وتعالى، وغير ذلك مما لم يحدد الله سبحانه وتعالى مقداره مسبقا.


الحكمة في التحديد وعدمه:

لقد قضت حكمة الله تعالى وإرادته أن يأمر بني البشر بواجبات كثيرة تلبية لمصالحهم وتحقيقا للعدالة بينهم، ولمَّا كانت مصالح البشر منها ما هو ثابت لا يتبدل بتبدل العصور والأزمان، ولا بتغير الأشخاص والبلدان، ولا يتأثر بالأعراف والعادات، أو أن المصلحة التي سبق تعلق إرادة الله تعالى بها تستلزم هذا الثبات، وتمنع التغير والتبدل، كما في جريمة السرقة، فإنها مستنكرة بدرجة واحدة في كل العصور وفي كل البيئات وعند جميع الأمم على حد سواء، وكجريمة الزنا، فإنها مكروهة لكل عاقل منبوذة مجرَّمة في كل تشريع يُعنى بالمصلحة العامة، فإذا حدث أن استبيحت في بعض البيئات أو أحلت في بعض العصور لبعض الناس عدَّ ذلك انحرافا وخروجا عن جادة الصواب، لأن جريمة الزنا جريمة يجب أن تكون ثابتة الجرمية في كل عصر، فإذا انحرف قوم عن تجريمها عد ذلك منهم انحرافا، لا تغييرا سليما ينبغي بناء الأحكام عليه وتغيرها وفقا له.

ومنها ما هو قابل للتبدل بطبيعته، وهو ما يرتبط بالعادة والعرف، بحيث إنه يتكيف بها كثرة وقلة شدة وضعفا، حتى إذا ما لجأنا إلى تحديده مسبقا في نطاق محدد لا يقبل التغيير والتبديل عطلنا المصلحة التي شرع من أجلها، والغاية التي أوجب لها، مثل النفقة على الأقارب، فإن العرف والعادة والأسعار هي التي تحدده، ولو حددت مسبقا من الشارع لكان في ذلك كل المجافاة للعدالة، ومنها الجرائم التعزيرية، فإنها متأثرة بالعرف والعادة كمَّا وكيفا، ثم هي غير منضبطة تختلف باختلاف الأحوال والظروف والقرائن المحيطة بها، فإن شتيمة العالم غير شتيمة آحاد الناس في جرميتها.

فلذلك كله وتحقيقا للعدالة المطلقة التي هي مناط الواجبات الشرعية قسم الشارع الواجب إلى القسمين المذكورين، فجعل بعض الواجبات محددة لا دخل للسلطان البشري في تحديدها زيادة وقلة كمَّا وكيفا، وهذا هو القسم الأكثر من الواجبات الشرعية، وجعل بعض الواجبات الأخرى غير محددة مسبقا، وأوكل إلى السلطان البشري أمر تحديدها بقواعد وأسس معينة بينها لنا سبحانه.


حكم الواجب المحدد وغير المحدد:

لهذا التفريق بين الواجب المحدد وغير المحدد ثمرة هي: أن الواجب المحدد يثبت في الذمة إذا لم يؤَدَّ في وقته، أما الواجب غير المحدد فلا يثبت في الذمة بفوات وقته.

ودليل ذلك أن شغل الذمة بالواجب الغاية منه القدرة على تفريغها بأدائه ضرورة عدم التكليف بمتعذر، ولما كان الواجب هنا غير محدد لم يكن إخراجه من الذمة، فلزم من ذلك عدم شغل الذمة به.

هذا إذا لم يكن حدد ممن له سلطة التحديد من البشر، فإذا حدد بالقضاء أو الرضا فإنه يلحق بالواجب المحدد باتفاق الفقهاء، ويثبت في الذمة، ولكن الشافعية اختلفوا مع الحنفية في إسناد هذا الترتيب إلى تاريخ مبدأ الوجوب أو قصره على وقت التقدير، فذهب الحنفية إلى أن الواجب غير المحدد إذا حدد ممن له السلطة في تحديده، كنفقة الزوجة يحددها القاضي، فإنها تثبت في الذمة من تاريخ التحديد لا من تاريخ الوجوب، لالتحاقها بالواجب المحدد من تاريخه فقط، وذهب الشافعية إلى أن الواجب غير المحدد إذا حدد ممن له تحديده يلحق بالواجب المحدد منذ تاريخ نشوء الواجب، فتجب نفقة الزوجة بعد تحديدها في ذمة الزوج وجوبا مستندا إلى تاريخ نشوئها، أي تجب في ذمته النفقة الجديدة والنفقة الماضية السابقة على التحديد.


الأدلــــة:

استدل الحنفية لمذهبهم بأن الواجب غير المحدد غير قابل للثبوت في الذمة في أصله لعدم تحديده، فيسقط، فإذا حدد بعد ذلك كان التحديد بمثابة إيجاب جديد له، فلا يرجع على ما وقع ساقطا من الأصل.

واستدل الشافعية لمذهبهم بأن عدم الثبوت في الذمة إنما كان لعدم التحديد، فلما تم التحديد زال المانع من الإثبات في الذمة، فرجع إليها متعلقا بها(1).


ENDNOTE

(1) انظر فواتح الرحموت 1/85-86،والعضد 1/232.
(1) العضد: 1/232، وفواتح الرحموت 1/85.
(2) فواتح الرحموت 1/85.
(1) فواتح الرحموت 1/85.
(2) العضد: 1/233.
(1) فواتح الرحموت 1/86.
(2) التلويح: 1/162، وانظر كشفالأسرار 1/138، فإنه تابعه على ما ذهب إليه.
(3) فواتح الرحموت 1/90.
(1) فواتح الرحموت 1/90-91، والتوضيح 1/162 وما بعدها، وكشف الأسرار 1/138 وما بعدها.
(2) فواتح الرحموت 1/90-91، والتوضيح 1/1992 وما بعدها.
(1) فواتح الرحموت 1/90-91، والتوضيح 1/162 وما بعدها.
(1) انظر التوضيح 1/166-172، وكشف الأسرار مفصلا: 1/146-183.
(1) يرجع في بحث الواجب المحدد وغير المحدد إلى: أبي زهرة ص34-35 والخضري.
(2) حاشية السيد على شرح العضد: 1/234.
(1) فواتح الرحموت 1/63.

عن الكاتب

A. Fatih Syuhud

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية