الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

العلم ومجاهدة النفس وتزكيتها

العلم ومجاهدة النفس وتزكيتها


محتويات

العلم

لم نتطرق لبحث العلم في الطبعة الأولى لأن كتابنا يعالج بشكل خاص توضيح معالم التصوف وبيانَ حقائقه ورد الشبهات عنه، ولذلك لم نبحث في موضوعات العقائد والعبادات والمعاملات.. ومن ناحية أخرى فإن المسلم حين يعمل على تزكية نفسه وتطهير قلبه وتصحيح ظاهره وباطنه لا بد قبل ذلك أن يكون قد صحح إيمانه، وقام بجميع عباداته المفروضة واستقام في معاملاته، ولا يتحقق ذلك إلا بالعلم الصحيح. وهذا أمر بدهي واضح لأن فضل العلم أمر ظاهر، واشتراطه في تصحيح الأعمال أمر متفق عليه. وإننا نثبت بحث العلم في هذه الطبعة تأكيداً لبيان منزلته وشرفه ورداً على كثير من المتسرعين الذين يتوهمون أن رجال التصوف يقللون من شأن العلم ولا يعطونه ما يستحق من الاهتمام والعناية أساس الأعمال وإمامها ومصححها، فكما أنه لا فائدة للعلم بلا عمل، كذلك لا ينفع عمل بلا علم...

وعالمٍ بعلمه لم يعملنْ *** معذب من قبل عُبَّاد الوثن
إذ كل من بغير علم يعمل *** أعماله مردودة لا تُقبل

فالعلم والعمل توأمان لا ينفكان عن بعضهما، والسالك في طريق الإيمان والتعرف على الله تعالى والوصول إلى رضاه لا يستغني عن العلم في أية مرحلة من مراحل سلوكه.
ففي ابتداء سيره لا بد له من علم العقائد وتصحيح العبادات واستقامة المعاملات، وفي أثناء سلوكه لا يستغني عن علم أحوال القلب وحسن الأخلاق وتزكية النفس...

ولهذا اعتُبِرَ اكتساب العلم الضروري من أهم النقاط الأساسية في المنهج العملي للتصوف، إذ ليس التصوف إلا التطبيق العملي للإسلام كاملاً غير منقوص في جميع جوانبه الظاهرة والباطنة.
ولأهمية العلم وفضله نذكر نبذة من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي تشير إلى علو منزلته وعظم شأنه.
فضل العلم في القرآن الكريم:

قال الله تعالى: {إنَّما يخشى اللـهَ مِنْ عِبادِهِ العلماءُ} [فاطر: 28].
و قال أيضاً: {هل يستوي الذين يعلمونَ والذين لا يعلمونَ} [الزمر: 9].
وقال تعالى: {يَرفعِ اللهُ الذين آمنوا مِنكم والذينَ أوتوا العلمَ درجاتٍ} [المجادلة: 11].

فضل العلم في السنة الشريفة:

عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لَتَضَعُ أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن العالم ليستغفر لَهُ مَنْ في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماءَ ورثةُ الأنبياء، وإن الأنبياء لم يُوَرِّثُوا ديناراً ولا درهماً، وإنما وَرَّثُوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر" [رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه في كتاب العلم].
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر لأَنْ تغدو فتَعَلَّمَ آية من كتاب الله خير لك من أن تصلي مائة ركعة، ولأن تغدو فتَعَلَّمَ بابا من العلم عُمِلَ به أو لم يُعْمَلْ به خير لك من أن تصلي ألف ركعة" [رواه ابن ماجه بإسناد حسن في أبواب السنة وله شاهدان أخرجهما الترمذي].

وعن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء" [رواه ابن ماجه في كتاب الزهد].

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله بعبد خيراً فقهه في الدين وألهمه رشده" [رواه البزار والطبراني في "الكبير" ورجاله موثوقون].
وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أُغْدُ عالماً أو متعلماً أو مستمعاً أو محباً ولا تكن الخامسة فتهلك"، قال عطاء: قال لي ابن مسعود: زدتنا خامسة لم تكن عندنا، والخامسة: أن تبغض العلم وأهله [رواه الطبراني في الثلاثة والبزار ورجاله موثوقون، كذا في "مجمع الزوائد" ج1/ص122].

حكم تعلم العلم:

ينقسم العلم من حيث حكمه الشرعي إلى ثلاثة أقسام:
1 - مأمور به. 2 - منهي عنه. 3 - مندوب إليه.
أ - العلوم المأمور بها، وهي صنفان:

الصنف الأول:

فرض عين، وهو ما لا يسقط عن المكلف إلا بقيامه به بنفسه.
لا بد قبل تعداد العلوم المفروضة على المكلف فرض عين من أن نثبت بعض القواعد الأساسية في هذا الموضوع منها قاعدة: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)

ومنها قاعدة: (العلم تابع للمعلوم). فالعلم الذي يُتوصل به إلى إقامة الفرض يكون فرضاً والعلم الذي يتوصل به إلى إقامة الواجب يكون واجباً، والعلم الذي يُتوصل به إلى إقامة السنة يكون سنة.

وبناء على هذه القواعد نعدد بعض العلوم المفروضة فرض عين على كل مكلف:
1 - تعلم عقيدة أهل السنة والجماعة مع الاستدلال الإجمالي على كل مسألة من مسائل الإيمانيات، للخروج من ربقة التقليد، وللحفاظ على إيمانه أمام تشكيك الملحدين ومغالطات الضالين.
2 - تعلم ما يستطيع به المكلف أداء المفروض عليه من العبادات كالصلاة والزكاة والحج والصوم...
3 - مَنْ تعاطى شيئاً من المعاملات كالبيوع والإجارة والنكاح والطلاق... يفترض عليه تعلم ما يتمكن معه من تجنب الحرام والتزام حدود الشرع.
4 - تعلم أحوال القلب من التوكل والخشية والرضا لأن المسلم واقع طيلة عمره في جميع الأحوال القلبية.
5 - تعلم جميع الأخلاق الحسنة والسيئة كي يطبق الحسنة كالتوكل على الله والرضا عنه والتسليم له والتواضع والحلم... إلخ، ويجتنب السيئة كالكبر والغرور والبخل والحسد والحقد والرياء... إلخ [انظر بحث أهمية التصوف ص28] ومن ثَمَّ يجاهد نفسه على تركها، إذ إن المجاهدة فرض على كل مكلف ولا يمكن حصولها إلا بمعرفة الأخلاق المذمومة والممدوحة، ومعرفة طرق المجاهدات التي اشتغل بها السادة الصوفية، ولهذا قال أبو الحسن الشاذلي: (من مات ولم يتغلغل في علمنا هذا مات مصراً على الكبائر وهو لا يشعر) مع العلم أن الكبائر والفواحش منها ظاهرة كالزنا وشرب الخمر، ومنها باطنة قلبية كالكبر والنفاق... ولهذا نهانا الله عنهما جميعاً بقوله: {ولا تقربوا الفواحِشَ ما ظَهَرَ منها وما بَطَنَ} [الأنعام: 151] ويتوب مرتكب الفواحش الظاهرة لاطلاعه على ضررها، وأما الفواحش الباطنة فقد يعيش دهراً طويلاً ولا يفكر بالتوبة منها لجهله بحكمها أو لعدم شعوره بها.

الصنف الثاني:

فرض كفاية، وهو ما إذا قام به البعض سقط التكليف عن الباقين، وإذا لم يقم به أحد فالكل آثمون.
والعلوم المفروضة كفائياً هي ما يتوقف عليها صلاح الأمة، كالتعمق في علم الفقه زيادة على مقدار الحاجة [ولذلك لا بد في كل بلد من مُفْتٍ يكون مرجعاً للناس في أمور دينهم يقوم بهذا الفرض الكفائي ويسقط الإثم عن الناس]، وكذلك علم التفسير والحديث، وأصول الفقه، وأصول الاعتقاد. وكذلك علم الحساب والطب والصناعة وعلم السلاح لإعداد العدة.. إلخ.
ب - العلوم المنهي عنها:

1 - فمنها الخوض في دراسة المذاهب الضالة والأفكار المشككة والعقائد الزائغة لا بنية الرد عليها ودفع خطرها. أما تعلمها لبيان زيغها ورد شبهاتها تصحيحاً للعقائد وذوداً عن الدين فهو فرض كفاية.
2 - علم التنجيم لمعرفة مكان المسروق ومواضع الكنوز ومكان الضالة ونحو ذلك مما يزعمونه، وهو من الكهانة، وقد كذبهم الشرع وحرم تصديقهم. أما تعلم علم النجوم للدراسات العلمية ولمعرفة مواقيت الصلاة والقِبلة فلا بأس به.
3 - علم السحر، إذا تعلمه للاحتراز عنه فيجوز ذلك كما قيل:

عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه *** ومن لم يعرف الشر فإنه يقع فيه

جـ - العلوم المندوب إليها:

ومنها معرفة فضائل الأعمال البدنية والقلبية، ومعرفة النوافل والسنن والمكروهات، ومعرفة فروض الكفاية، والتعمق في علوم الفقه وفروعها والعقائد وأدلتها التفصيلية... إلخ [انظر تفصيل هذا الموضوع في كتاب "الطريقة المحمدية" للإمام البركوي، وكتاب "إحياء علوم الدين" لحجة الإسلام الإمام الغزالي وغيرهما].

خاتمة:

تبين مما سبق حكم العلم وأهميته في دين الله تعالى، وأن موقف السادة الصوفية من العلم أمر واضح لا يحتاج إلى تدليل، فهم أهل العلوم والمعارف وأرباب القلوب المشرقة والأرواح المنطلقة، وأهل التحقق بالإيمان والإسلام والإحسان. فبعد أن حصلوا العلوم العينية عمدوا إلى تطبيق العلم على العمل، وقاموا بإصلاح القلب وتزكية النفس وصدق التوجه إلى الله تعالى، ولهذا أكرمهم الله تعالى بالرضا والرضوان والمعرفة والغفران.

مجاهدة النفس وتزكيتها

تمهيد:
سبق أن بينا في بحث أهمية التصوف أن للنفس صفات خبيثة وأخلاقاً مذمومة، وأن إزالتها فرض عين - كما نص على ذلك عامة الفقهاء - ولكن صفات النفس الناقصة لا تزول بالأماني ولا بمجرد الإطلاع على حكم تزكيتها أو قراءة كتب الأخلاق والتصوف، بل لا بد لها بالإضافة إلى ذلك من مجاهدة وتزكية عملية، وفطم لنزواتها الجامحة وشهواتها العارمة.

والنفس كالطفل إن تهمله شب على *** حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

تعريف المجاهدة:

قال الراغب الأصفهاني في "مفردات غريب القرآن":
(الجهاد والمجاهدة: استفراغ الوسع في مدافعة العدو، والجهاد ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس، وتدخل ثلاثتها في قوله تعالى: {وجاهدوا في الله حقَّ جِهادِهِ} [الحج: 78] وقوله: {وجاهدوا بأموالِكُم وأنفُسِكم في سبيل الله} [التوبة: 41] وقال صلى الله عليه وسلم: "جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم") ["المفردات في غريب القرآن" مادة جهد ص101]. فمجاهدة النفس فطمها وحملها على خلاف هواها المذموم، وإلزامها تطبيق شرع الله تعالى أمراً ونهياً.

دليلها من الكتاب والسنة:

قال الله تعالى: {والذينَ جاهَدوا فينا لنَهديَنَّهم سُبُلَنا} [العنكبوت: 69] [وهي آية مكية، ومن المعلوم أن جهاد الكافرين قد شرع في المدينة المنورة، وهذا يدل على أن المراد من الجهاد هنا جهاد النفس. وقال العلامة المفسر ابن جزي في تفسير هذه الآية: (يعني جهاد النفس). وقال العلامة المفسر القرطبي في تفسيره لهذه الآية: (قال السدي وغيره: إن هذه الآية نزلت قبل فرض القتال)].
وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المجاهدُ مَنْ جاهد نفسَهُ في الله" [أخرجه الترمذي في كتاب فضائل الجهاد وقال: حديث حسن صحيح، وزاد البيهقي في "شعب الإيمان" برواية فضالة: "والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب". "مشكاة المصابيح للتبريزي" كتاب الإيمان رقم 34]. وفي رواية: لله.

حكمها:

تزكية النفس فرض عين كما سبق أن بينا ذلك [انظر بحث أهمية التصوف ص28] ولا تتم إلا بالمجاهدة ومن هنا كانت المجاهدة فرض عين من باب: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).
قال الشيخ عبد الغني النابلسي رحمه الله: (المجاهدة في النفس عبادة ولا تحصل لأحد إلا بالعلم، وهي فرض عين على كل مكلف) ["شرح الطريقة المحمدية" للنابلسي ج1/ص323].
قابلية صفات النفس للتغيير:

لا شك أن النفس الإنسانية قابلة لتغيير صفاتها الناقصة وتبديل عاداتها المذمومة، وإلا لم يكن هناك فائدة من بعثة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام ؛ ولا ضرورة لمن بعده من ورثته العلماء العاملين والمرشدين المصلحين.
وإذا كان كثير من سباع الطيور والبهائم قد أمكن ترويضها وتبديل كثير من صفاتها، فالإنسان الذي كرمه الله تعالى وخلقه في أحسن تقويم، من باب أولى.

وليس المراد من مجاهدة النفس استئصال صفاتها ؛ بل المراد تصعيدها من سيء إلى حسن، وتسييرها على مراد الله تعالى وابتغاء مرضاته.

فصفة الغضب مذمومة حين يغضب المرء لنفسه، أما إذا غضب لله تعالى فعندها يصبح الغضب ممدوحاً كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغضب إذا انتُهكت حرمات الله أو عُطِّل حد من حدوده، ولكنه حين أُوذي في الله وضُرب وأُدمي عقبه يوم الطائف لم يغضب لنفسه ؛ بل دعا لمن آذَوْه بالهداية والتمس لهم العذر فقال: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون" [رواه البخاري في صحيحه في كتاب أحاديث الأنبياء].

وكذلك صفة الكبر فهي مذمومة حين يتكبر المسلم على إخوته المسلمين، أما حين يتكبر على المتكبرين الكافرين فتصبح هذه الصفة محمودة لأنها في سبيل الله وضمن حدود شرعه.
وهكذا معظم الصفات المذمومة تحوَّل بالمجاهدة وتُصَعَّد إلى صفات ممدوحة.

طريقة المجاهدة:

وأول مرحلة في المجاهدة عدم رضى المرء عن نفسه، وإيمانُه بوصفها الذي أخبر عنه خالقها ومبدعها: {إنَّ النفس لأمَّارةٌ بالسوء}
[يوسف: 53].

وعلمه أن النفس أكبر قاطع عن الله تعالى [والقواطع عن الله تعالى أربعة: النفس، والدنيا، والشيطان، والخلق. أما عداوة النفس والشيطان فظاهرة، وأما الخلق فملاحظة مدحهم وذمهم تعرقل سير السالك إلى ربه، وأما الدنيا فالاهتمام بها وانشغال القلب بتقلباتها قاطع كبير عن الله تعالى، ففي حالة الفقر تكثر هموم المرء فتشغله عن الله، وفي حال الغنى ينشغل بزينتها وزخرفها عن الله تعالى: {إنَّ الإنسانَ ليطغَى . أنْ رآهُ استغنَى} [العلق: 6 -7]. أما إذا أخرج حبها من قلبه فإنها لا تضره، كما قال شيخ الصوفية سيدي عبد القادر الجيلاني رحمه الله: (أخرج الدنيا من قلبك، وضعها في جيبك أو في يدك فإنها لا تضرك) وراجع بحث الزهد في هذا الكتاب]. كما أنها أعظم موصل إليه وذلك أن النفس حينما تكون أمَّارة بالسوء لا تتلذذ إلا بالمعاصي والمخالفات، ولكنها بعد مجاهدتها وتزكيتها تصبح راضية مرضية لا تُسَرُّ إلا بالطاعات والموافقات والاستئناس بالله تعالى.

وإذا اكتشف المسلم عيوب نفسه وصدق في طلب تهذيبها لم يعد عنده متسع من الوقت للانشغال بعيوب الناس وإضاعة العمر في تعداد أخطائهم، وإذا رأيت أحداً من الناس قد صرف وقته في إحصاء أخطاء الآخرين غافلاً عن عيوب نفسه فاعلم أنه أحمق جاهل. قال أبو مدين:

ولا تر العيب إلا فيك معتقداً عيباً بدا بَيِّناً لكنه استترا

وقال بعضهم:
لا تلم المرء على فعله وأنت منسوب إلى مثله
من ذم شيئاً أتى مثلَه فإنما دل على جهله

ولذا قالوا: (لا ترَ عَيْبَ غيرك ما دام فيك عيب، والعبد لا يخلو من عيب أبداً).

فإذا عرف المسلم ذلك أقبل على نفسه يفطمها عن شهواتها المنحرفة وعاداتها الناقصة، ويلزمها بتطبيق الطاعات والقربات.
ويتدرج في المجاهدة على حسب سيره، فهو في بادىء الأمر يتخلى عن المعاصي التي تتعلق بجوارحه السبعة، وهي:

اللسان والأذنان والعينان واليدان والرجلان والبطن والفرج. لكل جارحة من الجوارح السبعة معاصٍ تتعلق بها، فمن معاصي اللسان: الغيبةُ والنميمة والكذب والفحش. ومن معاصي الأذنين: سماعُ الغيبة والنميمة والأغاني الفاحشة وآلات اللهو. ومن معاصي العينين: النظرُ للنساء الأجنبيات وعورات الرجال. ومن معاصي اليدين: إيذاءُ المسلمين وقتلهم، وأخذ أموالهم بالباطل، ومصافحة النساء الأجنبيات. ومن معاصي الرجلين: المشيُ إلى محلات المنكرات والفجور. ومن معاصي البطن: أكل المال الحرام، وأكل لحم الخنزير، وشرب الخمور. ومن معاصي الفرج: الزنا واللواطة...، ثم يحلي هذه الجوارح السبعة بالطاعات المناسبة لكل منها. فمن طاعات اللسان: قراءة القرآن الكريم، وذكر الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن طاعات الأذنين: سماع القرآن الكريم والأحاديث نبوية والنصائح والمواعظ. ومن طاعات العينين: النظر إلى وجوه العلماء والصالحين، والنظر إلى الكعبة المشرفة، والنظر التأملي لآيات الله في الكون. ومن طاعات اليدين: مصافحة المؤمنين، وإعطاء الصدقات. ومن طاعات الرجلين: المشي إلى المساجد وإلى مجالس العلم، وعيادة المريض، والإصلاح بين الناس. ومن طاعات البطن: تناول الطعام الحلال بنية التقوِّي على طاعة الله تعالى. ومن طاعات الفرج: النكاح المشروع بغية الإحصان وتكثير النسل.. فهذه الجوارح السبعة منافذ على القلب إما أن تصب عليه ظلمات المعاصي فتكدره وتمرضه، وإما أن تُدخل عليه أنوار الطاعات فتشفيه وتنوره.

ثم ينتقل في المجاهدة إلى الصفات الباطنة فيبدل صفاته الناقصة كالكبر والرياء والغضب... بصفات كاملة كالتواضع والإخلاص والحِلم.
وبما أن طريق المجاهدة وعر المسالك متشعب الجوانب، يصعب على السالك أن يَلِجَهُ منفرداً كان من المفيد عملياً صحبة مرشد خبير بعيوبها، عالم بطرق معالجتها ومجاهدتها، يستمد المريد من صحبته خبرة عملية بأساليب تزكية نفسه، كما يكتسب من روحانيته نفحات قدسية تدفع المريد إلى تكميل نفسه وشخصيته، وترفعه فوق مستوى النقائص والمنكرات. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم المرشد الأول والمزكي الأعظم الذي ربَّى أصحابه الكرام وزكَّى نفوسهم بقاله وحاله، كما وصفه الله تعالى بقوله: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً مِنْهُم يتلو عليهم آياتِه ويُزكِّيهم ويُعلِّمُهم الكِتاب والحِكمَةَ وإن كانوا من قَبْلُ لَفي ضلالٍ مُبينٍ} [الجمعة: 2]. من هنا نجد أن التزكية شيء وتعليم الكتاب والحكمة شيء آخر، لذا قال الله تعالى: {ويزكيِّهمْ ويعلِّمهمُ الكتابَ والحكمةَ} ففرقٌ كبير بين علم التزكية وحالة التزكية، كما يلاحظ الفرق الواضح بين علم الصحة وحالة الصحة، إذ قد يكون الطبيب الماهر الذي عنده علم الصحة فاقداً حالة الصحة ومصاباً بالأمراض والعلل الكثيرة. وكذلك الفرق ظاهر بين علم الزهد وحالة الزهد، كالمسلم الذي عنده علم واسع بالآيات والأحاديث والشواهد المتعلقة بالزهد ولكنه يفقد حالة الزهد ويتصف بالطمع والشره والتكالب على الدنيا الفانية.

والذي يحقق النفع للمريد هو استقامته على صحبة مرشده واستسلامه له كاستسلام المريض للطبيب، فإذا ما أدخل الشيطان على قلب المريد داء الغرور والاكتفاء الذاتي فأُعجب بنفسه واستغنى عن ملازمة شيخه باء بالفشل ووقف وهو يظن أنه سائر، وقُطِعَ وهو يظن أنه موصول.

قال الشيخ إسماعيل حقي رحمه الله في تفسيره: (فإن كثيراً من متوسطي هذه الطائفة "الصوفية" تعتريهم الآفات في أثناء السلوك عند سآمة النفس من المجاهدات وملالتها من كثرة الرياضات، فيوسوس لهم الشيطان، وتسول لهم أنفسهم أنهم قد بلغوا في السلوك رتبة قد استغنوا بها عن صحبة الشيخ وتسليم تصرفاته، فيخرجون من عنده، ويشرعون في الطلب على وفق أنفسهم، فيقعون في ورطة الخذلان وسخرة الشيطان) ["تفسير روح البيان" للشيخ إسماعيل حقي ج2/ص149].
أقوال العارفين والمربين المرشدين في المجاهدة:

قال أبو عثمان المغربي رحمه الله: (من ظن أنه يُفتح له بهده الطريقة أو يكشف له عن شيء منها لا بلزوم المجاهدة فهو في غلط) ["الرسالة القشيرية" ص48 - 50].

وقال الإمام الجنيد رحمه الله تعالى: (سمعت السري السقطي يقول: يا معشر الشباب جِدُّوا قبل أن تبلغوا مبلغي فتضعفوا وتُقصِّروا كما ضعفتُ وقَصَّرْتُ. وكان في ذلك الوقت لا يلحقه الشباب في العبادة) ["الرسالة القشيرية" ص48 - 50].

وقال أبو عثمان المغربي رحمه الله: (لا يرى أحد عيب نفسه وهو مستحسن من نفسه شيئاً، وإنما يرى عيوب نفسه من يتهمها في جميع الأحوال) ["الرسالة القشيرية" ص48 - 50].

وقال أبو علي الدقاق رحمه الله تعالى: (من زين ظاهره بالمجاهدة حسَّنَ الله سرائره بالمشاهدة، قال الله تعالى: {والذين جاهدوا فينا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنا} [العنكبوت: 69]. واعلم أنه من لم يكن في بدايته صاحب مجاهدة لم يجد من هذه الطريقة شمة) ["الرسالة القشيرية" ص48 -50].

وقال الإمام البركوي رحمه الله تعالى: (ما أسرع هلاك من لا يعرف عيبَه، فإن المعاصي بريد الكفر) ["الرسالة القشيرية" ص48 -50].
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري رحمه الله تعالى: (إنَّ نجاة النفس أنْ يخالف العبدُ هواها، ويحملَها على ما طلب منها ربُّها) ["تعليقات على الرسالة القشيرية" للشيخ زكريا الأنصاري]

وقال الإمام البركوي رحمه الله تعالى: (المجاهدة: وهي فطم النفس وحملها على خلاف هواها في عموم الأوقات، فهي بضاعة العُبَّاد ورأس مال الزهاد، ومدار صلاح النفوس وتذليلها، وملاك تقوية الأرواح وتصفيتها ووصولها إلى حضرة ذي الجلال والإكرام. فعليك أيها السالك بالتشمير في منع النفس عن الهوى وحملها على المجاهدة إن شئـت من الله الهدى، قـال الله تعالى: {والذين جاهدوا فينا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنا} [العنكبوت: 69]. وقال أيضاً:

{ومَنْ جاهَدَ فإنَّما يُجاهد لنفسِهِ} [العنكبوت: 6])["الحديقة الندية شرح الطريقة المحمدية" ج1/ص455].

وقال ابن عجيبة رحمه الله تعالى: (لا بد للمريد في أول دخوله الطريق من مجاهدة ومكابدة وصدق وتصديق، وهي مُظهِر ومجلاة للنهايات، فمن أشرقت بدايته أشرقت نهايته، فمن رأيناه جادَّاً في طلب الحق باذلاً نفسه وفلسه وروحه وعزه وجاهه ابتغاء الوصول إلى التحقق بالعبودية والقيام بوظائف الربوبية ؛ علمنا إشراق نهايته بالوصول إلى محبوبه، وإذا رأيناه مقصِّراً علمنا قصوره عما هنالك) ["إيقاظ الهمم في شرح الحكم" ج2/ص370].

قال محي الدين بن عربي رحمه الله (من كتاب "الفتوحات المكية" الرياضات والخلوات والمجاهدات وأثرها):
"ولما رأت عقول أهل الإيمان بالله تعالى أن الله تعالى قد طلب منها أن تعرفه بعد أن عرفتْه بأدلتها النظرية، علمت أن ثَمَّ علماً آخر بالله لا تصل إليه من طريق الفكر، فاستعملت الرياضات والخلوات والمجاهدات وقطع العلائق، والانفراد والجلوس مع الله بتفريغ المحل، وتقديس القلب عن شوائب الأفكار ؛ إذ كان متعلَّق الأفكار الأكوان، واتخذت هذه الطريقة من الأنبياء والرسل، وسمعت أن الحق جل جلاله [حديث "ينزل الله إلى السماء الدنيا... الخ". رواه الدارمي في باب الصلاة] ينزل إلى عباده ويستعطفهم فعلمت أن الطريق إليه من جهته أقرب إليه من الطريق من فكرها

ولا بد لأهل الإيمان وقد عرفوا قوله تعالى [حديث "إذا تقرب إلي العبد شبراً تقربت إليه ذراعاً..." رواه البخاري عن أنس وأبي هريرة وأبي عوان والطبري عن سليمان] "مَنْ أتاني يسعى أتيته هرولة" وأن قلبه (أي قلب المؤمن) وسع جلاله وعظمته.
فتوجه العقل إليه تعالى بكله وانقطع من كل ما يأخذ عنه من هذه القوى، فعند هذا التوجه (أفاض الله عليه من نوره علماً إلهياً عرَّفه بأن الله تعالى من طريق المشاهدة والتجلي، لا يقبله كون ولا يردُّه كون) ولذلك قال الله تعالى: {إنَّ في ذلك} [ق: 37] يشير إلى العلم بالله من حيث المشاهدة {لذكرى لِمَنْ كان لهُ قلبٌ} [ق: 37] ولم يقل غير ذلك القوة كقوة وراء طور العقل تصل العبد بالرب.
فإن القلب معلوم بالتقلب في الأحوال دائماً فهو لا يبقى على حالة واحدة فكذلك التجليات الإلهية، فمن لم يشهد التجليات بقلبه ينكرها بعقله، فإن العقل يقيِّد غيره من القوى إلا القلب فإنه لا يتقيد وهو سريع التقلب في كل حال ولذا قال الشارع: "إن القلب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء".

فهو يتقلب بتقلب التجليات، والعقل ليس كذلك، فالقلب هو القوة التي وراء طور العقل، فلو أراد الحق في هذه الآية بالقلب أنه العقل ما قال {لِمَنْ كان لهُ قلبٌ} [ق: 37]، فإن كل إنسان له عقل وما كلُّ إنسان يُعطى هذه القوى التي وراء طور العقل، المسماة قلباً في هذه الآية، فلذلك قال: {لِمَنْ كان لهُ قلبٌ} [ق: 37] ["الفتوحات المكية" ص443].

رد الشبهات حول المجاهدة:

إن قال قائل: إن رجال التصوف يُحَرِّمون ما أحل الله من أنواع اللذائذ والمتع، وقد قال الله تعالى: {قٌلْ مَنْ حرَّمَ زينة الله التي أخرجَ لعبادِهِ والطيبات من الرزق...} [الأعراف: 32].

وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا ما أحلَّ الله لكم ولا تعتدوا إنَّ الله لا يحب المعتدين} [المائدة: 87].
فنقول: إن رجال التصوف لم يجعلوا الحلالَ حراماً، إذْ أسمى مقاصدهم هو التقيد بشرع الله، ولكنهم حين عرفوا أن تزكية النفس فرضُ عين، وأن للنفس أخلاقاً سيئة وتعلقات شهوانية، توصِل صاحبها إلى الردى، وتعيقه عن الترقي في مدراج الكمال، وجدوا لزاماً عليهم أن يهذبوا نفوسهم ويحرروها من سجن الهوى.

وبهذا المعنى يقول الصوفي الكبير الحكيم الترمذي رحمه الله رداً على هذه الشبهة، وجواباً لمن احتج بالآية الكريمة: {قُلْ مَنْ حرَّمَ زينة الله....} [الأعراف: 32]: فهذا الاحتجاج تعنيف، ومن القول تحريف لأنَّا لم نُرِدْ بهذا، التحريمَ، ولكنا أردنا تأديب النفس حتى تأخذ الأدب وتعلم كيف ينبغي أن تعمل في ذلك، ألا ترى إلى قوله جل وعلا: {إنّما حرّم ربيَ الفواحشَ ما ظهر منها وما بطنَ والإثمَ والبَغيَ بغيرِ الحقِّ} [الأعراف: 33]. فالبغيُ في الشيء الحلال حرامٌ، والفخرُ حرام، والمباهاةُ حرام، والرياء حرام، والسرف حرام، فإنما أُوتِيَتِ النفسُ هذا المنعَ من أجل أنها مالت إلى هذه الأشياء بقلبها، حتى فسد القلب. فلما رأيتُ النفس تتناول زينة الله والطيبات من الرزق تريد بذلك تغنياً أو مباهاة أو رياء علمتُ أنها خلطت حراماً بحلال فضيَّعَتِ الشكرَ، وإنما رُزِقَتْ لتشكُرَ لا لِتكْفرَ، فلما رأيتُ سوء أدبها منعتُها، حتى إذا ذلَّت وانقمعت، ورآني ربي مجاهداً في ذاته حق جهاده، هداني سبيله كما وعد الله تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينَّهم سُبُلَنا وإنَّ اللهَ لَمَعَ المحسنين} [العنكبوت: 69] فصرتُ عنده بالمجاهدة محسناً فكان الله معي، ومن كان مع الله فمعه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل، وقذفَ في القلب من النور نوراً عاجلاً في دار الدنيا حتى يوصله إلى ثواب الآجل. ألا ترى إلى ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا قُذِفَ النورُ في قلب عبدٍ انفسح وانشرح". قيل: يا رسول الله فهل لذلك من علامة؟ قال: "نعم، التجافي عن دار الغرور، والإنابةُ إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله" وإنما تجافى عن دار الغرور بما قُذفَ في قلبه من النور فأبصر به عيوب الدنيا ودواهيها وآفاتها وخداعها وخرابها، فغاب عن قلبه البغيُ والرياء والسمعة والمباهاة والفخر والخيلاء والحسد، لأن ذلك إنما كان أصله من تعظيم الدنيا وحلاوتها في قلبه، وحبه لها، وكان سببَ نجاته من هذه الآفات - برحمة الله - رياضتُه هذه النفس بمنع الشهوات منها) [كتاب "الرياضة وأدب النفس" للحكيم الترمذي ص124].

وقد تسرع بعض الناس فزعموا جهلاً أن التصوف في مجاهداته ينحدر من أصل بوذي أو بَراهيمي، ويلتقي مع الانحرافات الدينية في النصرانية وغيرها التي تعتبر تعذيب الجسد طريقاً إلى إشراق الروح وانطلاقها، ومنهم من جعل التصوف امتداداً لنزعة الرهبنة التي ظهرت في ثلاثة رهط سألوا عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أُخبروا عنها كأنهم تقالُّوها، فقال أحدهم: أما أنا فأصوم الدهر ولا أُفطر، وقال الثاني: أما أنا فأقوم الليل ولا أنام، وقال الثالث: أما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج. ولما عُرض أمرهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم صحح لهم أفكارهم، وردهم إلى الصراط المستقيم والنهج القويم.
والجواب على ذلك: أن التصوف لم يكن في يوم من الأيام شرعة مستقلة ولا ديناً جديداً، ولكنه تطبيق عملي لدين الله تعالى، واقتداء كامل برسوله عليه الصلاة والسلام.

وإنما سرت الشبهة على هؤلاء المتسرعين لأنهم وجدوا في التصوف اهتماماً بتزكية النفس وتربيتها وتصعيدها، ومجاهدتها على أُسس شرعية وضمن نطاق الدين الحنيف، فقاسوا تلك الانحرافات الدينية على التصوف قياساً أعمى دون تمحيص أو تمييز.

ففرقٌ كبير إذاً بين المجاهدة المشروعة المقيدة بدين الله تعالى، وبين المغالاة والانحراف وتحريم الحلال وتعذيب الجسد كما عليه البوذيون الكافرون

ومن الظلم والبهتان أن يُحْكَمَ على كل من جاهد نفسه وزكاها أنه ينحدر من أصل بوذي أو بَراهيمي كما يزعم المستشرقون ومَنْ خُدِعَ بهم، أو أنه يقتدي بهؤلاء الرهط الذي تقالُّوا عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يقوله المتسرعون السطحيون، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحح لهم خطأهم فرجعوا إلى هديه وسُنَّتِهِ.

وإذا وُجد في تاريخ التصوف من حرَّم الحلال أو قام بتعذيب الجسد على غرار الانحرافات الدينية السابقة فهو مبتدع ومبتعد عن طريق التصوف لذا ينبغي التفريق بين التصوف والصوفي. فليس الصوفي بانحرافه ممثلاً للتصوف، كما أن المسلم بانحرافه لا يمثل الإسلام.
والمعترضون لم يفرقوا بين الصوفي والتصوف وبين المسلم والإسلام فجعلوا تلازماً بينهما فوقعوا في الكاملين قياساً على المنحرفين.
وبعد، فإن منتهى آمال السالكين ترقيةُ نفوسهم، فإن ظفروا بها وصلوا إلى مطلوبهم، والنفس تترقى بالمجاهدة والرياضة من كونها أمَّارة إلى كونها لوَّامة ومُلْهَمة وراضية ومَرْضيّة ومطمئنة... إلخ، فالمجاهدة ضرورية للسالك في جميع مراحل سيره إلى الله تعالى، ولا تنتهي إلا بالوصول إلى درجة العصمة ؛ وهذه لا تكون إلا للأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام.

وبهذا ندرك خطأ بعض السالكين الذي لم يُحكموا شرط سيرهم - وهو مجاهدة النفس - ثم يَدَّعون لأنفسهم المحبة، ويترنمون بكلام المحبين، وينشدون قول ابن الفارض تأييداً لمذهبهم:

وعن مذهبي في الحب ما ليَ مذهب وإن مِلْتُ يوماً عنه فارقتُ مِلَّتي

وما علموا كيف كانت بداية ابن الفارض من حيث مجاهدته لنفسه، وإليك بعض كلامه يصف مجاهداته في سيره مما يدل على أهمية المجاهدة مع العلم أنه ابتدأ سيره إلى الله تعالى من نفس لوامة لا أمارة بالسوء، ويبين أن السالك الذي لا مجاهدة له لا سير له ولا محبة له:
فنفسيَ كانت قبلُ لوَّامةً متى أُطع ها عصتْ أو أعْصِ كانت مطيعتي
فأوردتها ما الموتُ أيسرُ بَعْضِهِ وأتعبتُها كيما تكون مريحتي
فعادت ومهما حُمِّلتْهُ تحملته مني وإنْ خفَّفتُ عنها تَأذَّتِ
وأذهبتُ في تهذيبها كلَّ لذةٍ بإبعادها عن عادِها فاطمأنتِ
ولم يبقَ هولٌ دونها ما ركبتُه وأشهدُ نفسيَ فيه غيرَ زكيَّة

ولهذا كان ابن الفارض يعرِّض بمدَّعي المحبة الذين لم يتركوا حظوظهم ولم يجاهدوا نفوسهم فيقول:

تعرَّض قوم للغرام وأعرضوا بجانبهم عن صحَّتي فيه واعْتَلُّوا
رَضُوا بالأماني وابْتُلوا بحظوظهم وخاضوا بحارَ الحُبِّ دعوى فما ابتَلُّوا
فهم في السُّرى لم يبرحوا من مكانهم وما ظعنوا في السيرِ عنه وقد كلُّوا

فالمجاهدة إذاً شرط أساسي لكل سالك في جميع مراحل سيره، ولكنها تتغير بحسب ترقي المريد في مدارج السمو، ومثاله في ذلك الطالب، يكون في مرحلة الابتدائي، ثم الإعدادي ثم الثانوي ثم الجامعي... وفي كل هذه المراحل يعتبر طالباً، ولكن هناك فرق كبير بين الطالب الابتدائي والطالب الجامعي. وكذلك الفرق شاسع بين كون نفسه أمارة بالسوء تميل إلى الفواحش، وبين كونها مطمئنةً راجعة إلى ربها راضية مرضية.

والخلاصة:

إن المجاهدة أصل من أُصول طريق الصوفية، وقد قالوا: من حقق الأصول نال الوصول، ومن ترك الأصول حُرم الوصول.
وقالوا أيضاً: مَنْ لم تكن له بداية محرقة "بالمجاهدات" لم تكن له نهاية مشرقة. والبدايات تدل على النهايات.

عن الكاتب

A. Fatih Syuhud

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية