الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

التفسير بالمأثور

التفسير بالمأثور

 الكتاب: فصول في أصول التفسير
المؤلف: د مساعد بن سليمان بن ناصر الطيار
تقديم: د. محمد بن صالح الفوزان
الناشر: دار ابن الجوزي
الطبعة: الثانية، ١٤٢٣هـ
عدد الصفحات: ١٧٦
الكتاب إهداء من مؤلفه - جزاه الله خيرا - للمكتبة الشاملة
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
صفحة المؤلف: [مساعد الطيار]
 

فهرس الموضوعات

  1.  التفسير بالمأثور
  2.     -المشهور عن مصطلح التفسير بالمأثور
  3.     -نقد هذا المصطلح
  4.     -بيان ما يمكن أن يطلق عليه التفسير بالمأثور
  5. اختلاف السلف في التفسير
  6. أنواع الاختلاف
  7.     -ما ذكره العلماء عن أنواع الاختلاف
  8.     -ما رواه محمد بن نصر عن إسحاق، وسفيان، والحسن
  9.     -شيخ الإسلام في «مقدمة في أصول التفسير»
  10.     -الشاطبي في «الموافقات»
  11.     -ابن عثيمين في «أصول في التفسير»
  12.     -تعريف اختلاف التنوع واختلاف التضاد
  13.     أنواع اختلاف التنوع
  14.         -١ ـ أن يعبر كل واحد من المفسرين عن المعنى المراد بعبارة غير عبارة صاحبه تدل على معنى في المراد غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى
  15.         -٢ ـ أن يذكر كل مفسر من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل المثال
  16.         -٣ ـ أن يكون اللفظ محتملا لأمرين: الاشتراك والتواطؤ
  17.         -٤ ـ أن يعبروا عن المعنى بألفاظ متقاربة
  18. أسباب الاختلاف في تفسير السلف
  19.     -سبب الاختلاف
  20.     -ما كتب في أسباب الاختلاف
  21.     من أسباب الاختلاف بين مفسري السلف
  22.         -١ ـ الاشتراك
  23.         -٢ ـ الاختلاف في مفسر الضمير
  24.         -٣ ـ أن يكون في الجملة حذف
  25.         -٤ ـ أن تحتمل اللفظة أكثر من تصريف
  26.         -٥ ـ تنوع الاستعمال العربي للفظة
  27.         -٦ ـ أن يدور حكم الآية بين الإحكام والنسخ
  28.         -٧ ـ أن يدور حكم الآية بين العموم والخصوص
  29.         -٨ ـ أن يذكر الوصف المحتمل لأكثر من موصوف
  30.         -٩ ـ أن يكون في الآية حرف له قراءتان
  31. اختلاف السلف في التفسير
  32. أنواعه
  33.     -١ - اختلاف التنوع
  34.     -٢ - اختلاف التضاد
  35. -أسبابه
  36. العودة إلي كتاب  فصول في أصول التفسير
 
التفسير بالمأثور
 
 المشهور عن مصطلح التفسير بالمأثور
يعد بعض من كتب في علوم القرآن التفسير بالمأثور أنه تفسير القرآن بالقرآن، ثم بالسنة، ثم بأقوال الصحابة، ثم بأقوال التابعين، مع حكاية الخلاف في إدخال التابعين في التفسير المأثور، وهذا التقسيم للتفسير بالمأثور فيه نظر، ويحتاج إلى تحرير (١).
 
نقد هذا المصطلح
ومن الإشكالات الواردة على هذا المصطلح أن هؤلاء يذكرون قول العلماء في حكم تفسير التابعي وأنه لا يكون حجة، ثم يقولون في نهاية بحث التفسير بالمأثور: إنه يجب الأخذ به.
والمراد هنا أن لفظة مأثور غير دقيقة في إعطاء الوصف، فلو سألت: لم سمي تفسيرًا بالمأثور؟
هل هو مجرد اصطلاح لا معنى له؟
أم يراد به ما أثر عمَّن سلف بدءًا بالرسول ﷺ وختمًا بالتابعين؟
أما الاستفسار الأول، فالذي يظهر أنه غير وارد؛ لأنه لا بد أنه اصْطُلح عليه لمعنى.
أما الثاني، وهو الظاهر من اللفظة، فعليه اعتراضان:
الأول: أن تفسير القرآن بالقرآن لا نقل فيه، بل هو داخل ضمن تفسير من فسر به، فإن كان المفسِّر هو الرسول ﷺ، فهو من التفسير النبوي.
وإن كان المفسر هو الصحابي، فهو من تفسير الصحابي.
(١) ناقشتُ هذا في كتابي «مفهوم التفسير والتأويل والاستنباط والتدبر والمفسر» (ص١٩ - ٥٠)؛ وكذا أشرتُ إليه في كتابي «مقالات في علوم القرآن وأصول التفسير» (ص٢٢٧ - ٢٢٩).
 
٧٣
 
وإن كان المفسر هو التابعي، فهو من تفسير التابعي.
 
بيان ما يمكن أن يطلق عليه التفسير بالمأثور
ثم لاحظ أن تفسير الصحابي أو التابعي القرآن بالقرآن هو من التفسير بالرأي، وذلك لأن طريق الوصول إلى تفسير هذه الآية هو الرأي والاجتهاد.
ولا يلزم أن كل من فسر آية بآية أن تفسيره هذا يقبل، بل قد يكون مرجوحًا وبناء عليه فحكمه حكم تفسير الصحابي والتابعي، ولو كان يلزم قَبول قول كل من [٥٣] فسر آية بآية لما رُدَّ شيء من هذه الأقوال، وهذا مجاهد فسر قوله تعالى: ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾ [عبس: ٢٠] بقوله تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ﴾ [الإنسان: ٣] ومع ذلك رجح الطبري القول الآخر بأنه خروجه من بطن أمه (١)، ولو كان تفسير الآية بالآية من التابعي مُلزِمًا لما عدل عنه الطبري، وهذا واضح عند أدنى تأمل.
الثاني: لم توقف النقل عند التابعين ولم يذكر من بعدهم، مع أن فيهم من الأئمة في التفسير مَنْ فيهم، وأقوالهم مدونة ومحفوظة، والطريق إليهم هو بالأثر؛ كالتابعين؟.
والذي يظهر لي أن ما يمكن أن يطلق عليه تفسير بالمأثور، ويجب الأخذ به، ثلاث أنواع:
الأول: ما روي عن رسول الله ﷺ من تفسيره القرآن.
الثاني: ما روي عن الصحابة مما له حكم المرفوع؛ كأسباب النزول والمغيبات.
الثالث: ما أجمع عليه الصحابة أو التابعون، وهذا يلحق بالمأثور، لوجوب الأخذ به؛ لأن الإجماع حجة.
وأما تفسير الصحابة فإن كان مجمعًا عليه، أو كان سبب نزول، أو إخبارًا عن أمر غيبي فهو في حكم المرفوع - كما مرَّ ـ.
(١) انظر: «تفسير الطبري» (٣٠/ ٥٥).
 
٧٤
 
وإن كان غير ذلك، فهو من باب الاجتهاد والرأي، سواءً كان معتمده اللغة، أو غيرها من أدوات الاجتهاد في التفسير.
وتفسير التابعي يُلحقُ بالمأثور إذا كان مما أجمع عليه التابعون، وما عداه فهو تفسير بالرأي.
وقد سبق تفصيل لتفسير الصحابي والتابعي، فراجعه. [٥٤]
* * *
 
٧٥
 
اختلاف السلف في التفسير
الاختلاف سنة في البشر، وكل شخص ينظر إلى المسألة من زاوية ويحكم عليها حسب نظره واجتهاده، 
 
ويمكن تقسيم الاختلاف الواقع في التفسير إلى قسمين (١):
الأول: اختلاف التنوع.
الثاني: اختلاف التضاد.
وقد وقع هذان القسمان في تفسير السلف، إلا أن الثاني قليل.

قال شيخ الإسلام 
مشيرًا إلى اختلاف التضاد - بعد أن ساق اختلاف التنوع ـ: ومع هذا فلا بد من اختلاف محقق بينهم، كما يوجد مثل ذلك في الأحكام (٢).
وقد أشار إلى وجود اختلاف التنوع عند السلف: إسحاق، وسفيان بن عيينة، والحسن، نقل ذلك عنهم الإمام محمد بن نصر المروزي (ت:٢٩٤هـ).

قال الإمام محمد بن نصر: 
«وسمعت إسحاق يقول في قوله: ﴿وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: ٥٩] قد يمكن أن يكون تفسير الآية على أولي العلم، وعلى أمراء السرايا؛ لأن الآية الواحدة يفسرها العلماء على أوجه، وليس ذلك باختلاف.
(١) ظهرت - بحمد الله - رسائل علمية في هذا الموضوع، وقد طبع بعضها - كرسالة الأخ محمد صالح محمد سليمان - «اختلاف السلف في التفسير بين النظرية والتطبيق».
(٢) «مقدمة في أصول التفسير» (ص٥٤).
 
٧٦
 
وقد قال سفيان بن عيينة: ليس في تفسير القرآن اختلاف إذا صح القول في ذلك (١).
وقال: أيكون شيء أظهر خلافًا في الظاهر من الخُنَّس؟
قال عبد الله بن مسعود: هي بقر الوحش.
وقال علي: هي النجوم.
قال سفيان: وكلاهما واحد؛ لأن النجوم تخنس بالنهار، وتظهر بالليل، والوحشية [٥٥] إذا رأت إِنسيًّا خنست في الغيطان وغيرها، وإذا لم تر إِنسيًّا ظهرت.
قال سفيان: فكل خنس.
قال إسحاق: وتصديق ذلك ما جاء عن أصحاب رسول الله ﷺ في الماعون يعني أن بعضهم قال: الزكاة، وقال بعضهم: عارية المتاع.
قال: وقال عكرمة: الماعون أعلاه الزكاة، وعارية المتاع منه.
قال إسحاق: وجَهِل قوم هذه المعاني؛ فإذا لم توافق الكلمةُ الكلمةَ قالوا: هذا اختلاف.
وقد قال الحسن - وذكر عنده الاختلاف في نحو ما وصفنا - فقال: إنما أُتِيَ القوم من قبل العجمة» (٢).
وفصَّل شيخ الإسلام (ت:٧٢٨هـ) هذه المسألة أتم تفصيل في كتابه «مقدمة في أصول التفسير» (٣).
(١) انظر كلام سفيان: «فتح القدير» (١/ ١٢)، فقد ذكر أن هذا القول أخرجه سعيد بن منصور في سننه، والبيهقي في كتاب «الرؤية» وابن المنذر في تفسيره، وينظر في تفسير سعيد بن منصور المطبوع بتحقيق الدكتور سعد الحميد برقم (١٠٦١).
(٢) «السنة» (ص٧، ٨).
(٣) انظر: (ص٣٨، ٥٥) وعليه اعتمدت في هذا المبحث، وانظر: «اقتضاء الصراط المستقيم» (١/ ١٢٨ - ١٣٠)، كان لابن جزي تقسيم نفيس لأنواع الاختلاف في التفسير، وهو قائم على اللفظ والمعنى، ولا أدري كيف غفلة عن إثباته ههنا.
قال ابن جزي (ت: ٧٤١): «واعلم أنّ التفسير منه متفق عليه ومختلف فيه، ثم إنّ المختلف فيه على ثلاثة أنواع: =
 
٧٧
 
وذكر الشاطبي (ت:٧٩٠هـ) في «الموافقات» مبحثًا كاملًا في اختلاف التنوع، وجعله من قسم الخلاف الذي لا يعتد به (١).
قال الشاطبي: «من الخلاف ما لا يعتد به وهو ضربان:
أحدهما: ما كان من الأقوال خطأ مخالفًا لمقطوع به في الشريعة، وقد تقدم التنبيه عليه.
والثاني: ما كان ظاهره الخلاف وليس في الحقيقة كذلك، وأكثر ما يقع ذلك في [٥٦] تفسير الكتاب والسنة، فتجد المفسرين ينقلون عن السلف في معاني ألفاظ الكتاب أقوالًا مختلفة في الظاهر، فإذا اعتبرتها وجدتها تتلاقى على العبارة كالمعنى الواحد، والأقوال إذا أمكن اجتماعها والقول بجميعها من غير إخلال بمقصد القائل فلا يصح نقل الخلاف فيها عنه ..» (٢).
وللشيخ محمد بن صالح العثيمين تقسيم لاختلاف التنوع والتضاد، اعتمد فيه على اللفظ والمعنى، وهو ثلاثة أقسام:
= الأوّل: اختلاف في العبارة، مع اتفاق في المعنى: فهذا عدّه كثير من المؤلفين خلافًا، وليس في الحقيقة بخلاف لاتفاق معناه، وجعلناه نحن قولًا واحدًا، وعبّرنا عنه بأحد عبارات المتقدّمين، أو بما يقرب منها، أو بما يجمع معانيها.
الثاني: اختلاف في التمثيل لكثرة الأمثلة الداخلة تحت معنى واحد، وليس مثال منها على خصوصه هو المراد، وإنما المراد المعنى العامّ التي تندرج تلك الأمثلة تحت عمومه، فهذا عدّه أيضا كثير من المؤلفين خلافًا، وليس في الحقيقة بخلاف لأنّ كل قول منها مثال، وليس بكل المراد، ولم نعدّه نحن خلافا: بل عبّرنا عنه بعبارة عامّة تدخل تلك تحتها، وربما ذكرنا بعض تلك الأقوال على وجه التمثيل، مع التنبيه على العموم المقصود.
الثالث: اختلاف المعنى فهذا هو الذي عددناه خلافا، ورجحنا فيه بين أقوال الناس حسبما ذكرناه في خطبة الكتاب». التسهيل لعلوم التنزيل، تحقيق: أ. د محمد بن سيدي محمد مولاي (١/ ٦٢ - ٦٣).
(١) انظر: «الموافقات» تحقيق محيي الدين عبد الحميد (٤/ ١٤٠ - ١٤٤)، وينظر: تحقيق مشهور بن حسن آل سلمان (٥/ ٢١٠ - ٢١٨).
(٢) «الموافقات» تحقيق: محيي الدين عبد الحميد (٤/ ١٤٠)، وينظر: تحقيق مشهور آل سلمان (٥/ ٢١٠).
 
٧٨
 
الأول: اختلاف في اللفظ دون المعنى.
الثاني: اختلاف في اللفظ والمعنى، والآية تحتمل المعنيين لعدم التضاد بينهما، فتحمل الآية عليهما، وتفسر بهما.
الثالث: اختلاف في اللفظ والمعنى، والآية لا تحتمل المعنيين معًا للتضاد بينهما، فتحمل الآية على الأرجح منهما بدلالة السياق أو غيره (١).
* * *
(١) «أصول في التفسير» (ص٣٠، ٣١).
 
٧٩
 
تعريف اختلاف التنوع واختلاف التضاد
اختلاف التنوع: هو أن تحمل الآية على جميع ما قيل فيها إذا كانت معان صحيحة غير متعارضة.
ومنه ما يكون كل من القولين هو في معنى القول الآخر، ولكن العبارتين مختلفتان.
ومنه ما يكون المعنيان متغايرين، لكن لا يتنافيان، فهذا قول صحيح وهذا قول صحيح وإن لم يكن معنى أحدهما هو معنى الآخر (١).
واختلاف التضاد: «هما القولان المتنافيان بحيث لا يمكن القول بهما معًا، فإذا قيل بأحدهما لزم منه عدم القول بالآخر» (٢). [٥٧]

أنواع اختلاف التنوع:
ويظهر من تقسيم شيخ الإسلام الاختلاف في التنوع أنه أربعة أنواع:
١ - أن يعبر كل واحد من المفسرين عن المعنى المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل على معنى في المسمَّى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمَّى.

٢ - أن يذكر كل مفسر من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل المثال (٣).
٣ - أن يكون اللفظ محتملًا لأمرين، إما لأنه مشترك في اللغة، وإما لأنه متواطئ.
(١) و(٢) انظر: «اقتضاء الصراط المستقيم» (١/ ١٢٩، ١٣٠)، وقد شرحت هذين النوعين في كتابي: «شرح مقدمة في أصول التفسير» لابن تيمية (ص٧٥ - ١٢٥).
(٣) انظر: مقدمة «جامع التفاسير» للراغب الأصفهاني (ص٦١)، وانظر أمثلته لهذا النوع عنده (١٣٧، ١٤٧/ ١٥٥).
 
٨٠
 
٤ - أن يعبروا عن المعنى بألفاظ متقاربة.
وقد أشار الشاطبي إلى ثلاث منها، وضرب لها أمثلة.
توضيح هذه الأنواع بالأمثلة:
النوع الأول:
قال شيخ الإسلام: «أن يعبر كل واحد من المفسرين عن المعنى المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى».
وقال الشاطبي: «أن يذكر في النقل أشياء تتفق في المعنى، بحيث ترجع إلى معنى واحد، فيكون التفسير فيها على قول واحد، ويوهم نقلها على اختلاف اللفظ أنه خلاف محقق».اهـ.
ويأتي هذا فيما يكون له أكثر من وصف دال عليه، وهذا وارد في اللغة؛ كالسيف، فهو المهند، والصارم ... إلخ.
فمن عبر عنه بالمهند نظر إلى وصفه بالهندية، ومن عبر عنه بالصارم نظر إلى عدم انثنائه وقوته، فالتعبيران وإن اختلفا فإنهما يدلان على ذات واحدة.
ومثّل له شيخ الإسلام باختلاف عبارة المفسرين في قوله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: ٦] فقال بعضهم: القرآن؛ أي: اتباعه، وقال بعضهم: هو الإسلام. [٥٨]
قال شيخ الإسلام: «فهذان القولان متفقان؛ لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن، ولكن كل منهما نبَّه على وصف غير وصف الآخر، كما أن لفظ «صراط» يشعر بوصف ثالث، وكذلك قول من قال: هو السنة والجماعة، وقول من قال: هو طريق العبودية، وقول من قال: هو طاعة الله ورسوله ﷺ، وأمثال ذلك.
 
٨١
 
فهؤلاء كلهم أشاروا إلى ذات واحدة، لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها» (١).اهـ.
ومثّل له الشاطبي بتفسيرهم للسلوى فقال: «كما قالوا في السلوى: إنه طائر يشبه السُّمَانَى، وقيل: طير حمر صفته كذا، وقيل: طير بالهند أكبر من العصفور».اهـ.
أقول: ومن هذا الباب توسع السلف في التفسير لشيء ذُكِر أحد أوصافه أو أحواله في الآية، فيتوسعون بذكر الأوصاف الأخرى المذكورة في آيات أخرى، وإن لم يدل عليها اللفظ مباشرة.
ومثال ذلك قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا﴾ [الطور: ٩]، فالمور يدل على تردُّد (٢) ويكون بذهاب ومجيء سريع على جهة الاضطراب (٣).
وجاء في تفسير السلف: تدور السماء دورًا، مورها: تحريكها.
ومورها: استدارتها وتحريكها لأمر الله، ومورها: موج بعضها في بعض، ومورها: تشققها (٤).
قال ابن عطية: «وهذه كلها تفاسير بالمعنى؛ لأن السماء العالية يعتريها هذا كله» (٥).
ولعلك لاحظت أن في هذه الأقوال ما لا يدل عليه اللفظ مباشرة، لكن المفسر عبر [٥٩] عن شيء سيقع للسماء، وإن لم تدل عليه هذه اللفظة، كمن فسر المور بالتشقق.
ومنه قوله تعالى: ﴿وَكَاسًا دِهَاقًا﴾ [النبأ: ٣٤]، فقد قيل في الدهاق: ثلاث عبارات:
(١) «مقدمة في أصول التفسير» (ص٤٢، ٤٣)، وانظر: مقدمة «جامع التفاسير» (ص١٣٤).
(٢) انظر: «مقاييس اللغة» (٥/ ٢٨٤).
(٣) انظر هذه المعاني في: «القاموس المحيط» مادة (مور).
(٤) انظر: «تفسير الطبري» (٢٧/ ٢١).
(٥) «تفسير ابن عطية» (١٤/ ٥٣).
 
٨٢
 
الأولى: ممتلئة.
الثانية: متتابعة.
الثالثة: صافية (١)، والعبارة الأولى هي التي يدل عليها اللفظ مباشرة، وما بعدها أوصاف تابعة، لكن لا يدل عليها اللفظ مباشرة (٢).
النوع الثاني:
قال شيخ الإسلام: «أن يذكر كل مفسر من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل المثال» (٣).
وقال الشاطبي: «أن يُذكَر في التفسير عن النبي ﷺ في ذلك شيء، أو عن أحد من أصحابه أو غيرهم، ويكون ذلك المنقول بعض ما يشمله اللفظ، ثم يذكر غير ذلك القائل أشياء أخر مما يشمله اللفظ أيضًا، فينصُّهما المفسرون على نصهما، فيظن أنه خلاف. اهـ.
ومثاله قوله تعالى: ﴿لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ [التكاثر: ٨].
قيل في النعيم أقوال: منها الأمن والصحة والأكل والشرب.
وقيل: تخفيف الشرائع.
وقيل: الإدراك بحواس السمع والبصر (٤)، فهذا المذكور كله أمثلة للنعيم.
ومثّل له الشاطبي بالمنِّ فقال: «كما نقلوا في المنِّ أنه خبز رقاق، وقيل: زنجبيل [٦٠] وقيل: الترنجبين، وقيل: شراب مزجوه بالماء، فهذا كله
(١) انظر: «تفسير الطبري» (٣٠/ ١٨ - ٢٠).
(٢) ينظر كتابي «تفسير جزء عم» عند هذه الآية ففيه تفصيل على ما ذكرته هنا.
(٣) وقد ورد العكس، فيفسرون اللفظ بلفظ أعم منه، كما جاء في تفسير (البنان) في قوله تعالى: ﴿وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ [الأنفال: ١٢] قال عطية والضحاك: كل مفصل، (رواه ابن جرير ٩/ ١٩٩) والبنان: جزء من المفاصل.
وراجع: مقدمة «جامع التفاسير» ففيها بيان جواز تفسير الخالص بالعام (ص٦٣).
(٤) انظر: «الدر المنثور» (٨/ ٦١٢) وما بعدها.
 
٨٣
 
يشمله اللفظ، لأن الله منَّ به عليهم، ولذلك جاء في الحديث: «الكمأة من المنِّ الذي أنزل الله على بني إسرائيل»، فيكون المنُّ جملةَ نعمٍ ذكر الناس منها آحادًا».
ويدخل ضمن هذا النوع ما يذكره المفسرون من أسباب النزول، فهي كالمثال، فإذا قيل نزلت هذه الآية في كذا، وقيل غير ذلك من أسباب فإنها كالأمثلة تدخل في حكم الآية.
وهذان النوعان السابقان هما الغالبان على تفسير سلف الأمة، كما قال شيخ الإسلام (١).
النوع الثالث:
أن يكون اللفظ محتملًا لأمرين، إما لأنه مشترك في اللغة (٢)، أو لأنه متواطئ (٣).
ومن أمثلة المشترك اللغوي في القرآن: لفظ «قسورة» في قوله تعالى: ﴿فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ﴾ [المدثر: ٥١]. قيل: هو الرامي، وقيل: الأسد، وقيل: النبل.
(١) «مقدمة في أصول التفسير» (ص٤٩).
(٢) المشترك: هو ما اتحد فيه اللفظ واختلف فيه المعنى.
كالعين، تطلق على العين الباصرة وعين الماء، والجاسوس، ويدخل في المشترك اللغوي: أحرف التضاد، وهي: الألفاظ التي استعملها العرب للمعنى وضده؛ كالظن، يأتي بمعنى الشك ويأتي بمعنى اليقين.
(٣) المتواطئ لفظ منطقي يراد به: نسبة وجود معنى كلي في أفراده وجودًا متوافقًا غير متفاوت؛ كالإنسانية لزيد وعمرو، فهو يدل على أعيان متعددة بمعنى واحد مشترك بينها اشتراكًا متساويًا، فإن لم يكن متساويًا فهو مشكك؛ كالبياض بالنسبة للبن والثلج، فهما متساويان في البياض، ولكن أحدهما أشد من الآخر في البياض.
والفرق بين المشترك والمتواطئ:
• أن المشترك لا بدّ أن يكون واردًا عن العرب محكيًّا عنهم، أما المتواطئ فلا يلزم منه ذلك.
• أن المتواطئ يلزم في أفراده نسبة التساوي، أما المشترك فلا يلزم فيه ذلك.
 
٨٤
 
ومن أحرفه الواردة في القرآن لفظ ﴿عَسْعَسَ﴾ في قوله تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ﴾ [التكوير: ١٧]. قيل: ﴿عَسْعَسَ﴾ بمعنى أدبر، وقيل: أقبل.
أمثلة المتواطئ:
يشمل المتواطئ: الضمير الذي يحتمل عوده إلى شيئين، وأسماء الأجناس؛ كالفجر [٦١] والعصر، والأوصاف التي يشترك فيها أكثر من واحد؛ كالخنس والنازعات.
ومن أمثلة الضمير، قوله ﷾: ﴿يَاأَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ﴾ [الانشقاق: ٦]، فالضمير في قوله: ﴿فَمُلاَقِيهِ﴾ يحتمل عوده إلى الكدح وإلى الرب.
ومن أمثلة أسماء الأجناس الخلاف الواقع في تفسير الفجر في قوله تعالى: ﴿وَالْفَجْرِ﴾ [الفجر: ١] قيل: عام في كل فجر، وقيل: أول فجر في ذي الحجة، وقيل: أول فجر من أيام السنة.
ومن أمثلة الأوصاف، لفظ الخنس: فقيل: هو بقر الوحش والظباء، وقيل: هو الكواكب والنجوم (١).
وفي هذا النوع يمكن أن تكون هذه الأقوال داخلة ضمن معاني الآية، فتحمل عليها جميعًا (٢)، ويمكن أن يكون أحدها راجحًا، فيكون هو المختار وما عداه فهو مرجوح.
النوع الرابع:
أن يعبِّر المفسرون عن المعنى بألفاظ متقاربة.
(١) بالنظر إلى تعريف المتواطئ فإن نسبة عود الضمير إلى أحد المذكورين لا تختلف عن نسبته إلى الآخر، فكلاهما متوافقان في صحة عود الضمير إليهما من جهة اللغة، وبهذا فهما متواطئان.
وكذا بالنسبة إلى الأوصاف، فنسبة الوصف بالخنوس لا تختلف عن بقر الوحش والظباء ولا عن النجوم والكواكب، وإن كان قد يقع الاختلاف في نوعية الخنوس، وهذا يسميه المناطقة مشككًا، وهو نوع من المتواطئ.
(٢) انظر: «مقدمة في أصول التفسير» (ص٥٠)؛ ومقدمة «جامع التفاسير» (ص٩٨).
 
٨٥
 
مثل قوله تعالى: ﴿أَنْ تُبْسَلَ﴾ [الأنعام: ٧٠] قيل: تحبس، وقيل: ترتهن.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ [ق: ٣٨].
قال ابن عباس ومجاهد: نصب.
وقال ابن زيد: عناء.
وقال سفيان: سآمة. [٦٢]
* * *
 
٨٦
 
أسباب الاختلاف في تفسير السلف
وجود الاختلاف من طبائع البشر التي لا تنفك عنهم، وهو من قدر الله فيهم.
ففي ألسنتهم اختلاف، وفي ألوانهم، وفي عقائدهم، وفي أفكارهم ... إلخ، والمقصود أن وقوع الاختلاف بين علماء الأمة ليس ذمًّا عليهم، إذ لا أحد من المجتمعات يسلم منه.
وقد وقع الاختلاف في التفسير كما وقع في الأحكام، ولهذا الاختلاف أسباب أوجبته، وعلل أوجدته، والأمر في الاختلاف في النص إذا كان معلومًا للمجتهدين يرجع إلى أحد شيئين:
الأول: اختلاف فهوم المجتهدين من العلماء.
الثاني: أن يكون النص محتملًا لأكثر من معنى.
إذًا فالخلاف منه ما يرجع إلى المجتهد، ومنه ما يرجع إلى النص.
والمؤلفات في أسباب الاختلاف في التفسير نادرة، وقد سرد بعض هذه الأسباب ابن جزي في مقدمة تفسيره، وقد أُلف في أسباب الاختلاف رسالة علمية بعنوان: «اختلاف المفسرين: أسبابه وآثاره» (١).
ويمكن الاستفادة في هذا الموضوع ممّا كتب في أسباب اختلاف العلماء من حيث العموم، ومن أهمها رسالة ابن السيد البطليوسي، التي سمَّاها: «الإنصاف في التنبيه على المعاني والأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين في آرائهم».
(١) رسالة علمية لنيل درجة الدكتوراه، قدمها الشيخ سعود بن عبد الله الفنيسان، وقد طبعت مؤخَّرًا، وهي مذكورة في ثبت أصول التفسير التي طُبعت (ص٩).
 
٨٧
 
وترجع أهميتها إلى أنه ذكر في بعض الأسباب آيات اختلف المفسرون فيها، وبين سبب اختلافهم.

ومن أسباب الاختلاف بين مفسري السلف (١): [٦٣]
١ - الاشتراك:
وهو اللفظ الدال على أكثر من معنى في لغة العرب.
والمشترك قد يكون من أحرف التضاد، وقد لا يكون.
وإذا كان من أحرف التضاد فقد يجوز حمل الآية على المعنيين المتضادين، ويكونان بمثابة التفسيرين للآية، ويكون هذا إذا اختلف المحل.
وقد يمتنع حمل الآية عليهما معًا: ويلزم من القول بأحدهما نفي الآخر.
وإليك الأمثلة:
أـ من المشترك المتضاد الذي يجوز حمل الآية على معنييه المتضادين، ويكونان بمثابة التفسيرين للآية لفظ ﴿عَسْعَسَ﴾ في قوله تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ﴾ [التكوير: ١٧]، فقد فسر لفظ (عسعس) بأنه أقبل، وفسر بأنه أدبر، وبالأول قال ابن عباس، وقتادة، وابن جبير؛ وبالثاني قال ابن عباس، وابن زيد (٢).
ومثل هذا يجوز حمل الآية على هذين المعنيين المتضادين، فيكون لفظ ﴿عَسْعَسَ﴾ دالًاّ على أن الإقسام مراد به أول الليل وآخره، فدل على هذين المعنيين بلفظة واحدة، ولو جاء بهما بلفظيهما لكان: (والليل إذا أقبل وأدبر).
(١) الفرق بين أسباب الاختلاف واختلاف التنوع والتضاد:
في أسباب الاختلاف يكون البحث عن السبب الموجب لوقوع الاختلاف بين المفسرين، أما في اختلاف التنوع والتضاد، فيكون البحث عن نوع هذا الاختلاف من حيث تنوعه أو تضاده، وإمكانية القول بالجميع على أنه تنوع، أو بأحدها بعد الترجيح على أنه تضاد.
وسبب هذا التنبيه على الفرق أنك قد تجد تكرر مسألة في المبحثين (كالمشترك).
(٢) انظر أقوالهم في: «تفسير الطبري» (٣٠/ ٧٨).
 
٨٨
 
ب - ومن المشترك المتضاد الذي يمتنع حمل الآية على معنييه، بل يلزم من القول بأحدهما نفي الآخر لفظة (قرء) في قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: ٢٢٨]، فقد ورد في لغة العرب بمعنى: الطهر، وبمعنى: الحيض.
روي المعنى الأول عن زيد بن ثابت وابن عمر وعائشة والزهري. [٦٤]
وروي المعنى الثاني عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وأبي موسى، وعبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، وعكرمة، والضحاك، وسفيان الثوري، والسدي (١).
وفي هذا المثال يمتنع حمل الآية على المعنيين معًا؛ لأن القول بأحدهما يستلزم نفي الآخر، فالمطلوب من المرأة أن تتربص؛ إما ثلاثة أطهار، وإمَّا ثلاث حيض.
جـ ومن المشترك الذي ليس من أحرف التضاد - وهو كثير - لفظ (العتيق) من قوله تعالى: ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: ٢٩]، فقيل: العتيق بمعنى: القديم، وهو قول الحسن، وابن زيد.
وقيل: العتيق المعتق من الجبابرة، بمعنى: أنه محرر لا يملكه أحد، وبه قال مجاهد، وقتادة، وابن الزبير (٢)، وهذا مما يجوز حمل الآية على معنييه.
والاشتراك قد يكون في الأسماء؛ كقسورة: للأسد والرامي. والصريم: للنهار والليل. وقد يكون في الأفعال؛ كظن: للشك واليقين.

٢ - الاختلاف في مفسر الضمير، وهو أنواع:
الأول: أن يكون في الآية ضمير يحتمل عوده إلى أكثر من مذكور.
ومثاله قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ﴾ [الانشقاق: ٦].
(١) انظر أقوالهم في: «تفسير الطبري» (٢/ ٤٣٩) وما بعدها.
(٢) انظر: «تفسير الطبري» (١٧/ ١٥١).
 
٨٩
 
قيل: تلاقي ربك.
وقيل: تلاقي عملك (١).
وكلاهما صحيح محتمل؛ لأن الإنسان سيلاقي ربه، وعمله.
ومثله قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ﴾ [العاديات: ٧] ففي مرجع هاء الكناية قولان:
القول الأول: أن مرجعها إلى الله، وبه قال ابن عباس، وابن جريج.
القول الثاني: أن مرجعها إلى الإنسان الكنود، روي هذا عن ابن عباس (٢). [٦٥]

الثاني: أن يكون في الآية ضميران، وكل واحد منهما يرجع إلى مرجع لا يرجع إليه الآخر، فيكون للآية أكثر من معنى، فينص كل واحد من المفسرين على أحد هذه المعاني.
مثاله: قوله تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: ١٠].
ففي قوله: «يرفعه» ضميران، وكل واحد منهما يرجع إلى مرجع لا يرجع إليه الآخر:
الأول: الضمير الظاهر، وهو الهاء، وهو في محل نصب مفعول به، ويعود على الكلم الطيب، ويكون المعنى: والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب.
الثاني: الضمير المستتر، وهو في محل رفع فاعل، يعود على الله سبحانه، ويكون المعنى: والعمل الصالح يرفعه الله، وبه قال قتادة، والسدي.
(١) انظر: «معاني القرآن» للزجاج (٥/ ٣٠٤).
(٢) انظر: «تفسير الماوردي» (٤/ ٥٠٢)؛ و«زاد المسير» (٨/ ٢٧٩).
 
٩٠
 
ويحتمل عوده كذلك إلى الكلم الطيب، ويكون المعنى: والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب، وبهذا يكون معاكسًا للقول الأول، وبه قال الحسن، ويحيى بن سلام (١).

٣ - أن يكون في الجملة حذف:
ويحتمل في تقديره أكثر من معنى، فيذكر كل واحد أحد المعاني المحتملة.
ومثاله: قوله تعالى: ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ [النساء: ١٢٧].
ففي متعلق «ترغبون» تقديران:
الأول: ترغبون في نكاحهن، وهذا قول عائشة وعبيدة. [٦٦]
الثاني: ترغبون عن نكاحهن، وهذا قول الحسن (٢).
ففي الأول: صارت الرغبة في زواجهن، وفي الثاني: صِرْنَ غير مرغوب فيهن.
ومثله: قوله تعالى: ﴿وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ [الجاثية: ٢٣] قيل في مرجع علم قولان:
الأول: على علم من العبد بضلاله، وهذا قول مقاتل.
الثاني: على علم من الله بضلاله، وهذا قول ابن عباس (٣).

٤ - أن تحتمل اللفظة أكثر من تصريف في اللغة:
ويحمل كل واحد من المفسرين الآية على أحد التصريفات.
ومثاله: لفظة ﴿يُضَآرَّ﴾ في قوله تعالى: ﴿وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ﴾ [البقرة: ٢٨٢].
(١) انظر: «تفسير الماوردي» (٣/ ٣٧٠)؛ و«الإنصاف» للبطليوسي (ص٥٨).
(٢) انظر: «تفسير الطبري» (٥/ ٣٠٣).
(٣) انظر: «تفسير الماوردي» (٤/ ٢٢).
 
٩١
 
فتصريف لفظة ﴿يُضَآرَّ﴾ تحتمل أن تكون (يُضارَر)، وتحتمل أن تكون (يضارِر) فعلى الاحتمال الأول يكون النهي واقعًا على أن يُضر بالكاتب أو الشهيد؛ أي: أن الضرر يقع على الكاتب والشهيد، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، والضحاك، والسدي، والربيع.
وعلى الاحتمال الثاني: يكون النهي واقعًا على أن يَضرَّ الكاتب والشهيد؛ أي: أن الضرر يقع من الكاتب والشهيد، وهذا قول طاوس، والحسن، وقتادة (١).
ومثله: قوله تعالى: ﴿لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ [البقرة: ٢٣٣].

٥ - تنوع الاستعمال العربي للفظة في إرادة المعاني القريبة والمعاني البعيدة:
فيحمل بعضهم اللفظة على المعنى القريب الظاهر، ويحمله آخرون على المعنى البعيد، وهذا النوع قريب من المشترك.
ومثاله: قوله تعالى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر: ٤].
من المفسرين من فسر الثياب بالمعروف المتبادر، وروي هذا عن ابن عباس، وطاوس، [٦٧] وابن سيرين، وابن زيد.
ومنهم من فسر الثياب بالنفس، وهذا المعنى بعيد غير متبادر، وهو مروي عن مجاهد وقتادة (٢).
مثال آخر:
في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ﴾ [هود: ٩١] في قصة شعيب، قيل في المراد بالرجم قولان:
(١) انظر: «تفسير الطبري» (٣/ ١٣٤) وما بعدها.
(٢) انظر جملة أقوالهم في «تفسير الطبري» (٢٩/ ١٤٤ - ١٤٧).
 
٩٢
 
الأول: لرجمناك بالحجارة.
الثاني: لرجمناك بالسب، والشتم.
والأول هو المعنى القريب المتبادر للذهن، قال ابن عطية: وهو الظاهر (١).
والثاني، وإن كان محتملًا إلا أنه أبعد من الأول.

٦ - أن يدور حكم الآية بين الإحكام والنسخ (٢):
فيحكم بعضهم بالنسخ، ويحكم الآخر بالإحكام.
ومثاله: قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ [البقرة: ٢٢١].
قيل: هي منسوخة بقوله تعالى: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ [المائدة: ٥].
وهذا مروي عن الحسن، وعكرمة، والزهري.
وقيل: هي محكمة لا نسخ فيها (٣).
ومثله: قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾ [البقرة: ٢١٩].
قيل: هي منسوخة بآية الزكاة، وهذا مروي عن السدي؛ لأنه يرى أنه فرض نزل قبل الزكاة، فنسخ بالزكاة. [٦٨]
وقيل: هي محكمة، وهي في الصدقة العامة المندوب إليها، وهذا مروي عن ابن عباس، ومقاتل بن حيان (٤).
(١) «تفسير ابن عطية» (٧/ ٣٨٥).
(٢) استدراك: مما يحسن لفت النظر إليه في هذا المقام أن الاختلاف هنا - غالبًا - ليس في المعنى، وإنما في الحكم، فالمعنى لا يختلف حال كون الآية محكمة أو منسوخة، وإنما يختلف الحكم المترتِّب على القول بالنَّسخ أو الإحكام
(٣) انظر: «نواسخ القرآن» لابن الجوزي (ص٢٠٢ - ٢٠٤)؛ و«الناسخ والمنسوخ» لابن العربي (٢/ ٧٩ - ٨٣).
(٤) انظر: «الناسخ والمنسوخ» لابن العربي (٢/ ٧٥، ٧٦).
 
٩٣
 
٧ - أن يدور حكم الآية بين العموم والخصوص (١):
ومثاله: قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾ [البقرة: ٢٢١].
قيل: هذه الآية حكمها عام، ثم خصَّصها قوله تعالى: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ [المائدة: ٥]، هذا مروي عن عثمان، وحذيفة، وجابر، وابن عباس، وقتادة، وابن جبير.
وقيل: إنها ليست مخصَّصة، بل المشركات هنَّ عابدات الأوثان من العرب وغيرهم ممن ليس لهم كتاب، وهذا مروي عن قتادة، وسعيد بن جبير (٢).

٨ - أن يذكر الوصف المحتمل لأكثر من موصوف:
ولا يحدد موصوفه في الآية، فيحمل كل مفسر هذا الوصف على ما يحتمله من الموصوفات.
(١) مبحث العام والخاص من المباحث المهمة جدًا، والدراسات التفسيرية فيه قليلة جدًا، ويلاحظ أن مباحث العموم والخصوص قد تكن في الأحكام وفي الأخبار:
• ففي بيان الحكم المترتب على اللفظة، فيكون من باب الأحكام لا من باب بيان المعاني، مثل الأمثلة المذكورة في المتن.
• ومن الأخبار خلافهم في (الكوثر) من قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ [الكَوثَر: ١]، فذهب بعضهم إلى أن المراد به النهر الذي أعطاه الله نبيه ﷺ، وهذا تفسير على الخاصِّ، وذهب آخرون إلى أنه فوعل من الكثرة، وهذا تفسير على العامِّ، أي: الخير الكثير، وعلى قولهم يكون النهر الذي ذكره الأولون مثالًا للخير، وليس هو كل الخير.
وبناءً على هذين التفسيرين يختلف المعنى عند حمل اللفظ على العموم (الخير الكثير)، أو حمله على الخصوص (النهر).
قال الطبري: حَدَّثَني يعقوب، قَالَ: ثني هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ، وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْكَوْثَرِ: «هُوَ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ».
قَالَ أبُو بِشْرٍ: فَقُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: فَإِنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: فَقَالَ سَعِيدٌ: النَّهْرُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ، مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ».
(٢) انظر: «نواسخ القرآن» (٢٠٢/ ٢٠٤)؛ و«الناسخ والمنسوخ» لابن العربي (٢/ ٧٩ - ٨٣).
 
٩٤
 
وهذا النوع قريب من الذي قبله، بل هو باب منه (١)، ومن أمثلته:
قوله تعالى: ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا *وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا﴾ [النازعات: ١، ٢].
قيل في هذه الأوصاف: هي للملائكة، وقيل: للأنجم، وقيل: للموت ... إلخ.
ومثله: ﴿وَالذَّارِيَاتِ﴾ [الذاريات: ١]، ومثله: ﴿... بِالْخُنَّسِ﴾ [التكوير: ١٥].

٩ - أن يكون في الآية حرف له قراءتان (٢):
فيفسر أحدهم إحدى القراءتين؛ ويفسر الآخر الأخرى، فيختلف التأويل.
ومثاله: قوله تعالى: ﴿وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ﴾ [التكوير: ٢٤]، ففي قوله تعالى: (ضَنِينٍ) قراءتان:
الأولى: بالضاد، ويكون المعنى: «ما هو ببخيل».
الثانية: بالظاء، ويكون المعنى: «وما هم بمتهم».
(١) إذا نظرت إلى أن الوصف المذكور يحتمل أكثر من موصوف، وكان سبب الاحتمال النظر إلى صحة انطباق الموصوفات على هذا الوصف = كان الأمر في ترجيح كل هذه المحتملات من باب العموم والتمثيل، فالوصف عام يشمل عددًا من الموصوفات التي يحتملها اللفظ في الآية، ويشير إلى ذلك الطبري في ترجيحه العموم في تفسير قوله تعالى: ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا﴾ [النَّازعَات: ١].
قال الطبري: «وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الله تَعَالَى ذِكْرُهُ أَقْسَمَ بِالنَّازِعَاتِ غَرْقًا، وَلَمْ يُخَصِّصْ نَازِعَةً دُونَ نَازِعَةٍ، فَكُلُّ نَازِعَةٍ غَرْقًا، فَدَاخِلَةٌ فِي قَسَمِهِ، مَلَكًا كَانَ أَوْ مَوْتًا، أَوْ نَجْمًا، أَوْ قَوْسًا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. وَالْمَعْنَى: وَالنَّازِعَاتِ إِغْرَاقًا، كَمَا يَغْرَقَ النَّازِعُ فِي الْقَوْسِ».
(٢) ظهر لي أن هذا لا يدخل في اختلاف المفسرين؛ لأنه لم يقع بينهم اختلاف في تفسير اللفظة القرآنية الواحدة، بل الاختلاف كان في لفظين قرآنيين، لكل واحدٍ منهما معنى مستقلٌّ، وهذا ليس هو سبب الاختلاف، بل هو أحد أسباب تعدد معاني الآيات القرآنية.
 
٩٥
 
هذه بعض أسباب الاختلاف التي ظهرت لي، ويمكن باستقراء اختلافاتهم في التفسير أن تظهر هناك أسباب أخرى (١). [٦٩]
* * *
(١) ظهر أخيرًا كتاب «أسباب اختلاف المفسرين» للدكتور محمد الشايع.
 
٩٦
 
اختلاف السلف في التفسير
أنواعه:
١ - اختلاف التنوع:
أنواعه:
١ - أن يعبر كل واحد من المفسرين بعبارة غير عبارة صاحبه تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى.
٢ - أن يذكر المفسر من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل.
٣ - أن يكون اللفظ محتملًا لأمرين، إما بسبب الاشتراك وإما بسبب التواطؤ.
٤ - أن يعبروا عن المعنى بألفاظ متقاربة.

٢ - اختلاف التضاد
أسبابه:
١ - الاشتراك.
٢ - الاختلاف في مفسر الضمير.
٣ - أن يكون في الجملة حذف، ويحتمل في تقديره أكثر من معنى.
٤ - أن تحتمل اللفظة أكثر من تصريف في اللغة.
٥ - تنوع الاستعمال العربي للفظة.
٦ - أن يدور حكم الآية بين الأحكام والنسخ.
٧ - أن يدور حكم الآية بين العموم والخصوص.
٨ - أن يذكر الوصف المحتمل لأكثر من موصوف، ولا يحدد موصوفه في الآية.
٩ - أن يكون في الآية حرف له قراءتان لكل منهما تفسير مختلف.
 
٩٧
 
 

عن الكاتب

Ustadz Online

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية