الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

أهم المراحل التي عرفها الغزالي

أهم المراحل التي عرفها الغزالي


محتويات

المطلب الثالث: أهم المراحل التي عرفها الغزالي

1. الغزالي مفكرا:

يبدو أن فكر الغزالي مزيج من علوم شتى صقلها التفكير و أصفتها تجاربه العلمية. فقد كان الغزالي رجلا متعطشا إلى معرفة كل شيء، فكان دائرة معارف عصره، ونال لقب حجة الإسلام ومجدد المئة الخامسة.
لكن أهمية الغزالي ليست في معرفته الموسوعية، فكم من موسوعيين في التاريخ لم يتبؤوا مكانة الغزالي في عقول المسلمين ومشاعرهم، ولم يفوزوا بلقب حجة الإسلام58.

و الغزالي-كما يبدو لدارسه بشكل عام- واحد من أكبر مفكري الإسلام، ولعله أقربهم إلى الإبتكار. فآراءه في التربية و التعليم وحدها يمكن أن تعتبر تجديدا مهما في وضع قواعد سلوكية للمريدين وطلبة العلم فهو من القائلين بأن التربية يجب أن تتناول العناصر الثلاث: الروح و العقل و الجسم في عملها و أن إهمال واحد من هذا العناصر ينتج عنه نقصا في التربية، وقد ينتقل أثره إلى العنصرين الآخرين.

ويرى "كولد تسيهر" أن الغزالي قد استطاع بقدرة المفكر أن يشيع الفكرة الدينية العامة التي رفع بها معه شأن آراء الصوفية وجعلها من العوامل الفعالة في الحياة الدينية في الإسلام.
ومهما تكن الآراء التي قيلت عن الغزالي مختلفة فإن الجميع متفقون على مكانته في شؤون المعرفة ورسوخ قدمه فيها.

و من الملامح الفكرية عن الغزالي أن الشك عرض له في وقت مبكر، وكان شكه صاحب فضل عليه، لانه هو الذي دفعه إلى البحث وطلب الحقيقة وتلمس الإيمان، فدرس كل العلوم الدينية و المذهبية الموجودة في عصره59.

ونستطيع أن نستعرض المراحل الفكرية التي مر بها الغزالي في حياته، فنجد أولا المرحلة التي سبقت شكه، وفيها كان يطلب العلم، ويكون شخصيته الفكرية ثم المرحلة التي ظهر فيها الشك، وقد جاءه الشك خفيفا، ثم اشتد وقوي بعد ذلك، وتلك المرحلة طالت وامتدت، ثم المرحلة التي أعقبت الشك، وهي مرحلة الهدوء و الإطمئنان و الوقوف على الحقيقة عن طريق التصوف، ثم مرحلة التأمل و التدبر على انفراد في أثناء عزلته بدمشق وبطوس، ثم مرحلة العودة إلى عرض ما يعلم ويرى عن طريق التدريس و التوجيه الديني، ثم مرحلة الممارسة للتصوف، و الزهد في أواخر أيامه بطوس60.

2. الغزالي فيلسوفا:

إن الغزالي يهدمه الفلسفة قد غدا فيلسوفا، ولكن بمعيار آخر ومن منطلق آخر. لم يعد تابعا، بل أصيلا مستقلا، وأنه فيلسوف و إن لم يرد أن يكون فيلسوفا.ولعله لو سئل –كما قال الأستاذ العقاد- أأنت فيلسوف؟ لأنكر ذلك.

وهذا أمر اعترف به كثيرون في الشرق و الغرب، حتى قال الفيلسوف الشهير"رينان":"لم تنتج الفلسفة العربية فكرا مبتكرا كالغزالي"، و يبين أن الفلاسفة الإسلاميين قبله وبعده كانوا أتباعا للفلسفة الأرسطية أو الأفلاطونية الحديثة، و ان الغزالي وحده هو الذي ثار عليها واتخذ له نهجا خاصا.
وقد رأى كثير من علماء المسلمين قديما أن الغزالي رغم حربه للفلسفة لم يزل متأترا بها، وحسبنا أن أحد دعائم الفلسفة وهو المنطق، قد تبناه الغزالي ودافع عنه، و أضفى عليه من ثقافته الإسلامية، وكتب فيه عدة كتب (معيار العلم) و (محك النظر) و(القسطاس المستقيم)، وقد أعلن أن تعلمه فرض كفاية، كما جعله مقياسا لصحة العلوم كلها، حتى علوم الدين نفسها، وذهب إلى أن من فقد هذا المعيار لا ثقة بعلمه، حتى جلب عليه سخط كثر من علماء المسلمين في مختلف المدارس و العقليات، من ابن الصلاح إلى ابن تيمية الناقد المنهجي الموضوعي للمنطق الأرسطي.

ويتمكن الغزالي من دخول عالم الفلسفة لأنه يملك ملكة التجريد. ويرى العقاد أن تصوف الغزالي قد منحه قدرة على التفكير الفلسفي الحر، و التأمل العقلي العميق الذي لا يتاح مثله لمن يفكر وهو رهن محابس الماديات و الشهوات.

3. الغزالي فقيها:

لقد تعلم الغزالي طرفا من الفقه في صباه بطوس على يد الإمام أحمد الراذاكاني كما عرفنا. وازداد اشتغاله بالفقه في شبابه قبل أن يتصوف، ولم يترك البحث فيه بعد تصوفه،بل لقد مزج الفقه بالتصوف مزجا عجيبا، فبث في الأحكام الفقهية حياة التصوف وروحـــانيته، و أيد التصوف بأحكام الفقه وتشريعاته، فخدم الشريعة بالحقيقة، كما أيد الحقيقة بالشريعة، فكان متصوفا فقيها، وفقيها متصوفا.

و ألف الغزالي في الفقه كتبا كثيرة ما بين مسهب ومتوسط ومختصر، و كأنه أراد أن يدل على تفننه في التأليف و تنوع طريقته بين و التطويل و الإعتدال و الإختصار و التركيز فألف في الفقه كتبا أربعة تتدرج تدرجا تنازليا من فسحة الإسهاب إلى ضيق الإيجاز، وسماها بأسماء تدل على ذلك. وهذه الكتب الأربعة هي: البسيط و الوسيط و الوجيز و الخلاصة61.
ولم يكتف بهذه الكتب، بل ألف أيضا: المأخذ في الخلافيات، وشفاء العليل في بيان مسائل التعليل، وبيان القولين للشافعي، وغير ذلك...

ومن جهود الغزالي في الفقه فتاويه المشهورة، و في هذه الفتاوى كان يصول ويجول، و يحلل و يفصل ويلمح صورا كثيرة محتملة في موضوع الإستفتاء فيوردها و يذكر حكمها، مما يدل على عقل واسع وذكاء عجيب وملكة فقهية نادرة62.

وكذلك كانت جهود الغزالي الفقهية تدور حول ثلاثة مواضيع: أصول الفقه، وفروع الفقهية، وحكمة التشريع. و إذا كان الشافعي قد سبق فوضع علم الأصول وحدد فيه المنــاهج و الموازين و الضوابط، فقد جاء الغزالي بعده بنحو ثلاثة قرون، فسار على طريقه في الأصول، ولكن مع البسط و الشرح و التحليل والتدليل63.

4. الغزالي متصوفا:

عاش الغزالي في بيئة كثر فيها المتصوفة و هو يسمعهم و يتصل بهم،وكان لذكر البالغ في نفسه دون شك، كما أنه درس ما كان في عصره من علوم وثقافات، يكون منها علم التصوف ومبادئه.
و الجو الذي أحاط بالغزالي منذ صباه كان مفعما بعبير التصوف، فأبوه و أخـــوه وعمــــه و الوصي عليه و أستاذه الفارمدي و الجويني كلهم متصوفة، و الوزير نظام الملك محب للصوفية ثم هناك التدين الدافع إلى التصوف، وهناك عاطفة الغزالي المتدفقة ونفسه المشرقة.

ولعل شواغل من الهوى او الشهرة او الطموح شغلت الغزالي عن العناية البارزة بالجانب الصوفي في صدر حياته، ولكنه حين حاسب نفسه وراجعها غلبت عليه الدوافع القديمة فساقته بكليته إلى رحاب التصوف. تصوف الغزالي بعد فترة الشك فأصابه تحول عنيف مجرى حياته، فإذا به يزهد بالحياة كلها وينغمس في حالات من السمو الروحي في استقصاء نهايات الأفكار على الطريقة الصوفية.
و إعلان الغزالي-حقيقة- عن تصوفه لم يكن عندما ترك بغداد "488"هـ بل على إثر عودته منها حوالي "498" هـ حيث قطع كل صلاته مع العالم الخارجي الذي غلبت عليه النفعية التي تبعده عن الآخرة بشكل حقيقي فقد وعظ بمادة "إحياء علوم الدين" في نظامية بغداد الذي ألفه خلال رحلته و في دمشق بالذات.

يرى" كولد تسيهر" أن أصل تصوف الغزالي كان زهدا بل إنه قوة نظر في حمــاسة و إعجاب إلى الحياة القلبية الصادقة المفعمة بالإيمان التي كان يحياها المسلمون في عصور الإسلام الأولى، غير أن هذا التطلع لم يصرفه عن العقل ومكانته في العلوم64.

ومما لا ريب فيه أن أبرز ما أخذ على الغزالي، اندماجه في طريق الصوفية اندماجا يكاد يكون كاملا، و إذعائه لما عند القوم من معارف و أحوال و أعمال، دون أن يحكمها إلى منطق الفقه و أصوله. وسر هذا أنه تعامل مع التصوف بقلبه دون عقله وبذوقه قل فقهه.
من أجل هذا أنكر عليه ابن الجوزي وغيره من الناقدين، قبوله لكثير من أفكار الصوفية و أعمالهم و أحوالهم، و هي مخالفة لقانون الشرع منحرفة عن الكتاب و السنة.

ومع هذا لا ينكر منصف ودارس للغزالي و لإحيائه خاصة، أنه لم يقبل التصوف بعجزه، بل رفض في حزم تصوف أهل الحلول و الإتحاد كالحلاج و أشباهه، ولم يقبل إلا التصوف المعتدل القريب من الكتاب و السنة، واجتهد أن يرد كل فكرة أو سلوك مما يقول به المتصوفة إلى أصول إسلامية، و أن يستدل عليها بالقرآن و الحديث و الأثر.

ومما يسجل له انه نبه على ضرورة العلم الشرعي لسالك طريق الآخرة، خلافا لما كان شائعا بين كثير من الصوفية أن العلم حجاب. وقد جعل أول كتاب من كتب الإحياء الأربعين "كتاب العلم" ،و أول عقبة يجب أن يجتازها العابد هي العلم، كما في "منهاج العابدين"، و أكد في مواضع لا تحصر ان السعادة لا تنال إلا بالعلم و العمل.

و من أهـــم ما أبرزه الغزالي في التصـــــوف: أنه نقله من مجرد الذوق و التحليـــل و الشطح و التهويل، إلى علم اخلاقي عملي يعالج أمراض القلوب و آفات النفوس و يزكيها بمكارم الأخلاق.
ومن عرف كيف كان التصوف قبل الغزالي، ثم كيف صار بعده، عرف فضل الغزالي على التصوف و أهله، وما ترك فيه من أثر واضح يشهد به المتخصصون في علم هذا الجانب من جوانب الثقافة و الحياة الإسلامية.

المطلب الرابع: حقيقة منهج الغزالي الذي وصل إليه

يعتبر الشك نقطة الإنطلاق في منهج الغزالي، إذ يرى أن " من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقى في العمى و الضلال65".

وقد بدأ الشك عنده بالتخلي عن التقليد الذي انتقل منه إلى الحس،إلا أنه سرعان ما فقد ثقته فيه، ليلجأ إلى العقل، قبل أن ينتهي إلى الذوق و الكشف المؤديين إلى المعرفة القلبية، باعتبار القلب مناط الإيمان ومصدر كل فعل و انفعال.

و الحقيقة أنه في منهجه كان يعتمد مقاييس متكاملة، فهو إذا كان يرى إمكان اعتماد الحواس في مجال معين للمعرفة، واعتماد العقل في مجال محدد آخر، فإنه لم يكن يرى فيهما –أي في الحس و العقل- مقاييس كافية لطرق ميادين أخرى كالدين.

ويشرح الغزالي حالة الشك عنده فيوضح أنها لازمته منذ فترة صباه حين بدأ يثور على التقليد الذي كان يشاهد ممارساته في مجال العقائد، مما دفعه إلى أن يبحث عن الحقيقة، أي حقيقة العلم أو العلم بحقائق الأمور، وهو اليقين الذي لا يبقى معه أدنى شك. يقول:" وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان عمري غريزة وفطرة من الله وضعتا في جبلتي، لا باختياري و حيلتي، حتى انجلت عني رابطة التقليد وانكسرت على العقائد الموروثة على قرب عهد شرة الصبا، إذا رأيت صبيان النصارى لا يكون لهم نشوء إلا على التنصر، وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على التهود، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم إلا على الإسلام. وسمعت الحديث المروي عن رسول الله (ص) يقول:"كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"، فتحرك باطني إلى حقيقة الفطرة الأصلية وحقيقة العقائد العارضة بتقليد الوالدين و الأستاذين، و التمييز بين هذه التقليدات، و أوائلها تلقينات، و في تمييز الحق منها عن الباطل اختلافات، فقلت في نفسي: إنما مطلوبي العلم بحقائق الامور، فلابد من طلب حقيقة العلم ما هي؟ وظهر لي ان العلم اليقيني هو الذي ينكشف منه المعلوم انكشافا لا يبقى معه ريب و لا يقارنه إمكان الغلط و الوهم66".

وقد قاده، هذا التطلع إلى ان يتعامل مع الحس، انطلاقا من التجربة و المشاهدة،و في ذلك يقول:" فأقبلت بجد بليغ أتأمل في المحسوسات و الضروريات، وانظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها، فانتهى بي طول التشكيك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الامان في المحسوسات أيضا، وأخذ يتسع هذا الشك فيها و يقول: من أين الثقة بالمحسوسات و أقواها حاسة البصر،... وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيرا في مقدار الدينار، ثم الأدلة الهندسية تدل على انه أكبر من الأرض في المقدار67".

و أسلم الغزالي رفض المحسوسات إلى العقل الذي احتل عنده مكانة شريفة مرموقة،"إذ رآه منبع العلم ومطلعه و أساسه، و العلم يجري منه مجرى الثمرة من الشجرة، و النور من الشمس، و الرؤية من العين، فكيف لا يشرف ما هو وسيلة السعـــــادة في الدنيا و الآخرة68".

و لعلنا لا نستغرب إذا وجدنا الغزالي يحاول تطويع منهجه –وخاصة في ما كتب عن المنطق و أدواته- للدراسات الفقهية، بل إنا نجده يستمد امثلته من الفقه في كتاب (معيار العلم). و فيه يرى ان المنهج صالح للمسائل الفقهية مثلما هو صالح للامور العقلية، و إن كان يميز بين الإستدلالات ذات طابع الظني و الإستدلالات ذات الطابع اليقيني. بل هو كثيرا ما يلجأ في مناقشته لآراء الفلسفة إلى الطعن في أدلتهم العقلية، على حد قوله في إحدى القضايا:"و اما ما ذكرتموه من الدليل العقلي اولا فمبني على مقدمات كثيرة لسنا نطول بإبطالها ولكنا ننازع في ثلاث مقدمات منها".

ويبدو أن رفضه المحسوسات لم يلبث أن أفضى به إلى الظن في العقليات التي شك فيها بدورها، لما قد تتعرض له من تفنيد إذ قال:" لعل وراء إدراك العقل حاكما آخر إذا تجلى كذب العقل في حكمه، كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه69".

و إذا كان الشك عند الغزالي سبيلا للوصول إلى حقيقة الأمور، فقد كان طبيعيا –وهو يشك في العقل كما يشك في الحس- ألا يجد يقينه فيه، أي في العقل و لكنه وجده في شيء آخر أتاحت له أن يخرج من معاناة الشك و الإضطراب، حيث عبر عن ذلك بقوله:" ولم يكن ذلك بنظم دليل و ترتيب كلام بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف،70 وهو الذي جعله يضع العقل في مكانه الحق، فإذا كان حكم العقل صحيحا في العلوم المنطقية و الرياضية و في كل مجالات المعرفة التي تعتمد التجربة، فإنه بالنسبة للآلهيات لا يكون فيها إلا على مقدور الإمكان.

وقد دلت هذه المعاناة على ان الشك الذي اجتازه الغزالي في مراحل مختلفة منه ومتعددة، كان شكا منهجيا توسل به للوصول إلى اليقين.

و إنتهى به المطاف إلى تجربة التصوف التي عاشها وعان فيها، حيث قال "أن الصوفية هم السابقون لطريق الله تعالى، خاصة و أن سيرتهم أحسن السير و طريقهم أصوب الطرق و أخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جمع عقل العقلاء وحكمة الحكماء وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء ليغيروا شيئا من سيرهم و اخلاقهم و يبدولوه بما هو خير منه لم يجدوا إليه سبيلا، فإن جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة و ليس وراء النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به71."

خاتمة

يمكن أن نستنتج من مجموع ما أسلفناه ان حيــاة الغزالي ابتدأت بروحانية التصـــوف و "الزهد"، إذا أردنا التعبير الصحيح عن حقيقة الحالة التي قدرت له، في هذا الحين أخذت تتسرب –روحانية التصوف- إلى نفسه منذ نشأته الأولى في جو أسرته.

ومن هنا كانت تجربة الغزالي الصوفية، تتسلل في نسق من تقليدية بيئية أسرية إلى عقلية فلسفية فكرية ومن عقلية فلسفية فكرية إلى أذواق ومكاشفات وصلاح...

وهكذا وجد الغزالي في الإسلام منهج البحث المؤدي للحقيقة، وهذا ما ساعده على صياغة نظرياته. وهو بذلك يبحث عن الحقيقة بين المناهج الفلسفية و الذوق الباطني و النهج الإسلامي القرآني، و عانى الغزالي في حقبة من حياته اضطرابا في معرفة الحقيقة وسلامتها، وقد أدان التقليد ثم أنهى به الشك و الحس و العقل في المعارف التي حصل عليها، لينتهي إلى الكشف الذي قاده إلى مرفأ اليقين. ولم يكن شكه شكا نقديا استمراريا لإثبات الوجود وصدق المعرفة، و إنما كان شكه مؤقتا فاصلا بين عهدين، عهد سابق للشك اضطربت فيه نفسه وقلقت روحه وهو يدرس الحكمة و الفلسفة، وعهد لاحق بشكه وهو يجد الإطمئنان و المعرفة في الدين الإسلامي.

نعم، أعطى الغزالي لكل علم مكانته، فهو بذلك كان متوازنا بين مختلف الآراء و المذاهب، وجنب نفسه الحيرة و الضلال وفكر فكرة الفيلسوف المتواضع، وتصوف بتصوف صفاء الروح.
وكان طبيعيا أن ينسجم منهج الغزالي مع الفكر الإسلامي الشمولي انسجاما كاملا، مادام هذا المفكر الكبير يركز تركيزا أساسيا في كل آرائه وجدله على الإنطلاق من المنطق القرآني أولا وقبل كل شيء، مؤكدا أن :"أول ما يستضــاء به من الأبـــواب،ويسلك من طريق النظر و الإعتبار ما أرشد إليه القرآن فليس بعد بيان الله بيان".

لعل أحسن ما نختتم به هذا البحث قولنا إن الغزالي كان مفكرا متنوع الجوانب شمل نشاطه حقولا مختلفة من منطق وجدل وفقه وكلام و فلسفة وتصوف، ومع أنه لم يكن فيلسوفا كالفارابي وابن سينا و لا متكلما كالأشعري ولا فقيها كالشافعي و لا متصوفا كالحارث المحاسبي و أبي طالب المكي إلا أنه إقتبس من هؤلاء جميعا كثيرا من العناصر، وحاول أن يعطي كل شيء حقه.

وهكذا أكون قد أنهيت هذا البحث المتواضع بالدعاء الذي ختم به الغزالي كتابه" المنتقذ من الضلال" بقوله:"ونسأل الله العظيم أن يجعلنا ممن آثره واجتباه و أرشده للحق وهداه و ألهمه ذكره حتى لا ينساه وعصمه عن شر نفسه حتى لم يؤثر عليه سواه و استخلصه لنفسه حتى لا يبعد إلا إياه".
و أرجو من الله تعالى أن أكون قد وفقت في إنجاز بحثي هذا، الذي تم فيه إبراز تجربة أبي حامد الغزالي الصوفية من خلال كتابه المنقذ من الضلال.
_______________________

[58] أحمد الشرباصي- المصدر السابق، ص:98.
[59] أحمد الشرباصي- المصدر السابق، ص:73.
[60] أحمد الشرباصي- المصدر السابق، ص:75.
[61] أحمد الشرباصي- المصدر السابق، ص:56.
[62] أحمد الشرباصي- المصدر السابق، ص:57.
[63] أحمد الشرباصي- المصدر السابق، ص:61.
[64] تسيمر أجناس كلود، العقيدة و الشريعة في الإسلام ترجمة يوسف مرسي محمد وجماعته ط2، القاهرة
[65] الإمام أبي حامد الغزالي-ميزان العمل- ط مكتبة الجندي بالحسين، القاهرة،دون تاريخ،ص:159.
[66] الإمام أبي حامد الغزالي-المنقذ من الضلال-المصدر السابق،ص:5-6.
[67] الإمام أبي حامد الغزالي-المنقذ من الضلال-المصدر السابق،ص:7-8-9.
[68] الغمام أبي حامد الغزالي-إحجياء علوم الدين-ج1، نشر مكتبة عيسى البابي الحلبي، مصر، ص:73.
[69] المنقذ من الضلال-نفس المصدر،ص:9.
[70] الغزالي –المنقد من الضلال-نفس المصدر السابق، ص:11.
[71] نفس المصدر،ص:50.
_______________________

المراجع المعتمدة في البحث

1. د.أبو العلا عفيفي، التصوف: الثورة الروحية في الإسلام، ط1 سنة: 1963.
2. د. عاطف تامر، الغزالي بين الفلسفة و الدين، رياض ريس للكتب، بيروت، لبنان.
3. د. عبد الحليم محمود، المجموعة الكاملة لمؤلفات –المنقذ من الضلال- دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط:2، سنة 1985.
4. د. زكي مبارك، التصوف الإسلامي في الأدب و الأخلاق، ج1.
5. د. الزبيدي، محمد بن محمد الحسيني، اتحاف السادة المتقين شرح إحياء علوم الدين، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، بدون تاريخ.
6. السبكي. تاج الدين أبو بكر نصر عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي، تحقيق محمود محمد الطناحي، عين الباب الحلبي، ط:1،ج6 –الطبقات الشافعية الكبرى.
7. بنيعيش محمد، الموضوعية و الذاتية بين الغزالي وابن تيمية، الخليج العربي، ط:1، سنة 1421 هـ /2000م.
8. ندوات أكاديمية المملكة المغربية، حلقة وصل بين الشرق و الغرب: أبو حامد الغزالي وموسى بن ميمون –أكادير:1986، السفر الثاني عشر، من مطبوعات الأكاديمية.
9. د. جميل صليبا، تاريخ الفلسفة العربية، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط:I ،1970 وط:II ،1973.
10. تسيهر أجناس كلود، العقيدة و الشريعة في الإسلام، ترجمة يوسف مرسي محمد، وجماعته،ط2، القاهرة مصر، بدون تاريخ.
11. د.أحمد الشرباصي، الغزالي و التصوف الإسلامي، طبع بمطابع مؤسسة دار الهلال.
12. الإمام أبو حامد الغزالي المنقذ من الضلال، ومعه كمياء السعادة و القواعد العشـــرة و الأدب في الدين، تعليق وتصحيح، محمد محمد جابر.
13. الإمام أبو حامد الغزالي، المقصد الأسى، شرح أسماء الله الحسنى، القاهرة ط:2، بدون تاريخ، مطبعة السعادة.
14. الإمام أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان،ط:1 ،ج1.
15. الإمام أبو حامد الغزالي، ميزان العمل، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان،ط1، سنة 1409 هـ /1989 م .
16. الإمام أبو حامد الغزالي،فضائح الباطنية، تحقيق محمد على قطب المكتبة العصرية، بيروت، لبنان، ط:1،سنة 1421هـ/2000م.
17. د. عبد الرحمن بدوي، تاريخ التصوف الإسلامي، من البداية حتى نهاية القرن الثاني،ط1،سنة1975
18. د. عاطف الزين، الصوفية في نظر الإسلام، بدون تاريخ.

عن الكاتب

A. Fatih Syuhud

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية