الكتب الإسلامية

مجموعة الكتب والمقالات الإسلاية والفقه علي المذاهب الأربعة

recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

المطلب الثاني ما يجوز وقفه وما لا يجوز وجهاته المشروعة

المطلب الثاني ما يجوز وقفه وما لا يجوز ، وجهاته المشروعة

المحتويات



المطلب الثاني ما يجوز وقفه وما لا يجوز ، وجهاته المشروعة


أولاً: ما يجوز وقفه وما لا يجوز .

افترقت أقوال أهل العلم حول ما يجوز وقفه من الأشياء وما لا يجوز :
القول الأول : يجوز وقف كل ما جاز بيعه ، وجاز الانتفاع به مع بقاء عينه ، وكان أصلاً يبقى بقاءً متصلاً . كالعقار ، والحيوان ، والسلاح ، والأثاث ، وأشباه ذلك .

وهذا مذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة( ) .

القول الثاني : لا يجوز وقف ما ينقل ويحول مما لا لم يجر التعامل بوقفه ؛ كالثياب والحيوان والرقيق ، أما إذا كان مما يجري فيه التعامل فيجوز التعامل فيه كالقدّوم والفأس والسلاح والكراع والدراهم والدنانير ، أو كان المنقول تبعاً للعقار ؛ كوقف ضيعة ببقرها وأكرتها – أي عبيده – . وهذا مذهب الحنفية ( ) .
وأجازوا حبس الخيل في سبيل الله ، استحساناً .

الأدلـــة :

استدل القائلون بالجواز بما يأتي :

1 - ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أما خالد فإنكم تظلمون خالداً ، قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله » ( ) .

2 – عن ابن عباس رضي الله عنه قال : أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج فقالت امرأة لزوجها: أحجني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على جملك. فقال : ما عندي ما أحجك عليه . قالت : أحجني على جملك فلان . قال : ذاك حبيس في سبيل الله عز وجل . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن امرأتي تقرأ عليك السلام ورحمة الله وإنها سألتني الحج معك قالت : أحجني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقلت : ما عندي ما أحجك عليه . فقالت : أحجني على جملك فلان . فقلت : ذاك حبيس في سبيل الله . فقال : « أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله ... »( ) .
فقوله : « ذاك حبيس في سبيل الله »، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم له، دليل على أنه يجوز وقف المنقول كالحيوان وغيره .

3 – عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً واحتساباً فإن شبعه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة حسنات »( ) .
يقول الإمام الشوكاني: «فيه دليل على أنه يجوز وقف الحيوان»( ). والحيوان من المملوك المنقول الذي تبقى عينه بعد الانتفاع به غالباً ، ولو لم يجز وقفه لما رتب عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الأجر العظيم .

4 – ولأنه يحصل فيه تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، فصح وقفه كالعقار، والفرس الحبيس .

5 – ولأنه يصح وقفه تبعاً لغيره ، فصح وقفه منفرداً كالعقار( ) .
واستدل الحنفية على قولهم : بأن من شرط الوقف التأبيد ، والتأبيد لا يتحقق في المنقول ، أما تجويز وقف الكراع – وهي الخيل والسلاح – في سبيل الله فمبناه الاستحسان ، ووجهه الآثار المشهورة التي استند إليها الجمهور( ) .

وأجابوا عن حديث احتباس خالد : أنه يحتمل أنه حبسه بمعنى أمسكه للجهاد لا للتجارة( ) .
ويرد عليه بأن لفظ الاحتباس يفيد معنى الوقف ؛ إذ قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمر : « حبس الأصل » ، أفاد لفظه فيه أن الحبس بمعنى الوقف ، فيشترك اللفظ في الدلالة على معنى واحد، ما لم تدل قرينة على خلافه، والقرينة في الحديث تؤيد معنى الوقف؛ لكونه جعلها في سبيل الله ، وهو الغاية من الوقف ، والله أعلم .

ويقال أيضاً : إن النبي صلى الله عليه وسلم لما تحدث عن ظلمهم لخالد ، كان السياق في أمر زكاة هذه الأحباس ، فالنبي صلى الله عليه وسلم أسقط وجوب الزكاة عليه باعتبار كونها موقوفة ومحبوسة في سبيل الله ، ولو كان معناه ما ذكروا من إمساكها للجهاد لا للتجارة ، لوجبت فيها الزكاة باعتبار أنه مالكها ، فلما أسقط عنه زكاتها علمنا أنه لا يملكها ، وأنه صارت ملكاً لله تعالى( ) .

الترجيــح :

الذي يظهر لي من هذه الأقوال ما ذهب إليه الجمهور من إطلاق جواز الوقف في كل ما ينتفع به مع بقاء أصله ، ويجوز بيعه ، سواء كان في العقارات أو المنقولات أو الحيوان ، للنصوص الصحيحة الثابتة في ذلك ، التي لا وجه لمعارضة المخالف لها بما استدل به من أدلة عقلية . بل إنه لا وجه للاستحسان هنا ، لأن ثبوت الدليل في موضع الخلاف يعدّ أصلاً وليس استثناء من الأصل ، والله أعلم .


ثانياً : الجهات التي يصح الوقف عليها

اتفق العلماء على أنه يصح الوقف على الأولاد والأقارب ، والفقراء والمساكين ، وعلى سبل البرّ من بناء المساجد والقناطر ، وعلى كتب العلم والفقه والقرآن ، والمقابر والسقايات ، وسبيل الله . وغيرها ( ).

ولعلنا نعرض لشيء من التوضيح فيما يتعلق بهذه الجهات .

1 - المساجد : تعد المساجد في الزمن السابق منارة للعلم بالإضافة إلى دورها كأماكن للعبادة وأداء شعيرة الصلاة . ولم يقتصر الوقف على المسجد كبناء فقط ، بل كان يشمل جميع من يرتاده ويعمل فيه من مصلين وطلبة علم وخدام ، حيث خصصت أوقاف كبيرة يستغل ريعها في توفير هيئة تعليمية تتولى التدريس في المساجد، الأمر الذي أبرز دور المسجد كمنارة وصرح من صروح طلب العلم .
ففي مصر مثلاً شهدت أوقاف المساجد عناية كبيرة من قبل الأمراء والسلاطين، ومن ذلك أن الملك المنصور لاجين جعل إلى الأمير علم الدين سنجر الدواداري شراء الأوقاف على الجامع الطولوني ، فقام بإزالة كل ما فيه من تخريب ، وبلّطه وبيّضه ورتب فيه دروساً لإلقاء الفقه على المذاهب الأربعة ، وغير ذلك من مختلف العلوم والفنون .

كما أوقف الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير عدة أوقاف في الجيزة والصعيد والاسكندرية على جامع الحاكم الذي أسسه الفاطمي العزيز بالله نزار( ) .

وفي دمشق بلغت العناية بأوقاف المساجد مبلغاً كبيراً ، حتى إنه لا يكاد يوجد فيها مسجد إلا وله أوقاف يعود عليه بالنفقة( ) .
وقد حكى النعيمي أن المولى الصاحب بهاء الدين علي بن محمد حين دخل دمشق مع السلطان خلد الله ملكه سنة (699هـ) نظر في الأوقاف التي جعلت على المسجد الأموي ، فنظمها بعد أن نال العبث والتلف منها نصيباً ، وتطلّب كتب الوقف فأجرى الوقوف على شروطها من واقفيها( ) .

ولعل من الشواهد المعاصرة على مثل هذه الأوقاف ، تلك الأوقاف التي أنشئت على المسجد الحرام والمسجد النبوي( ) .

2 - المدارس : كان للإقبال الواسع لطلبة العلم على حلقات المساجد بعد اتساع رقعة دولة الإسلام دورٌ في إيجاد مدارس علمية تعنى بتدريس العلوم الشرعية ، وهذا بدوره فتح باباً لأهل الفضل والخير للاستفادة من مشروعية الوقف في بناء المدارس وإيقافها على طلب العلم والدرس ، بل تسارع الأمراء والسلاطين إلى إنشاء هذه المدارس ؛ فمثلاً نجد أن السلطان صلاح الدين الأيوبي عمل على إنشاء مدارس في جميع المدن التي كانت تقع تحت سلطانه ، وكذا فعل نور الدين الشهيد( ) .

ولم تقتصر المدارس التي أوقف عليها المحسنون أموالهم على المدارس التي تعنى بالعلم الشرعي ، بل شملت أيضاً المدارس الأخرى التي عنى بعلوم الدنيا من طب وصيدلة وفلك وغيرها( ) .

وكما أن الوقف في المساجد كان يشمل البناء والعاملين ، فكذلك الحال بالنسبة للمدارس ، حيث شملت أوقافها كل من يلتحق بها من الطلبة على اختلاف أوطانهم وأجناسهم، بل وأديانهم ، وشملت كذلك إشباع حاجات الطعام والسكن والعلاج ، وغيرها من متطلبات الحياة( ) .

هذا بالإضافة إلى أوقاف المكتبات التي كانت تلحق بتلك المدارس خدمة للعلم وأهله( ).
3 - المستشفيات : لم تكن المستشفيات مجرد أماكن للعلاج ، بل كانت أيضاً مراكز للعلم والبحث في الشؤون الطبية والصيدلية . بل تعدى الوقف في المستشفيات علاج الإنسان إلى العناية بعلوم البيطرة ، والوقف على بنائها والعاملين فيها ( ) .

بل امتدت أموال الوقف إلى إنشاء مستشفيات تعليمية متخصصة ؛ ففي المدرسة المستنصرية ألحقت مدرسة للطب ، واشترطت الوقفية التي أنشأت هذه الكلية أن يتردد الأطباء الأساتذة مع طلبتهم على مرضى المدرسة صباح كل يوم لغايات العلاج . كما اشترطت وجود أقسام داخلية للطلبة مع مخصصات شهرية تدفع لدارسي الطب ، ناهيك عن المواد العينية( ) .

ويذكر ابن جبير في رحلته : أنه لما ورد بغداد ، وجد حيًّا من أحيائها كان يسمى بسوق المارستان ، كل ما تحويه من مرافق ومبان أوقاف لعلاج المرضى ، فكان بمثابة حيٍّ طبيٍّ ، وكان هذا الحي قبلة كل مريض ، حيث يجد فيه طلبة الطب والأطباء والصيادلة الذين أخذوا على عاتقهم تقديم خدماته لقاء ما كان يجري عليهم من الخدمات والنفقات من أموال الوقف( ) .
4 - البنية الأساسية : وبالإضافة إلى المرافق العامة ، كانت هناك أنواع أخرى من الوقف تتم ، مثل الوقف على الطرق والجسور ، والآبار ، والمقابر ، مما يعدّ من البنية الأساسية للدولة والمجتمع ( ) .

ولعل في شراء عثمان رضي الله عنه لبئر رومة ، وجعلها سبيلاً ووقفاً للمسلمين على أن له أن يشرب منها كما يشربون ، ما يدل على مشروعية وقف مثل هذه الخدمات والبُنى الأساسية لمصلحة عموم المسلمين ، وهذا ما فهمه الإمام البخاري رحمه الله حيث بوب على هذا : « باب إذا وقف أرضاً أو بئراً أو اشترط لنفسه مثل دلاء المسلمين »( ) ، ثم ذكر حديثاً عن أبي عبد الرحمن أن عثمان رضي الله عنه حيث حوصر، أشرف عليهم وقال: أنشدكم الله، ولا أنشد إلا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

« من حفر بئر رومة فله الجنة » فحفرتها، ألستم تعلمون أنه قال: « من جهز جيش العسرة فله الجنة » فجهزته ، قال : فصدَّقوه بما قال( ) . وقد جاء في بعض رواياته التصريح بأنه جعلها سبيلاً للمسلمين( ) .

ويقول الإمام العيني : « المقابر وقف من أوقاف المسلمين لدفن موتاهم لا يجوز لأحد أن يملكها ... »( ) .
5 - المصانع والمؤسسات الإنتاجية: كالوقف على معامل الورق، والمراصد الفلكية ، وأحواض المياه ( ) .

وهكذا نلحظ أن جميع الأشياء الموقوفة أو الموقوف عليها ، إنما هي من سبيل الطاعات والبر، أو مما يعدّ من المقومات الأساسية التي تبنى عليها المجتمعات المتحضرة ، ومما له تأثير بالغ في تطور اقتصاد الدولة .

أما الوقف على جهة فاسدة كالوقف على المشرك الحربي والمرتد فإنه لا يصلح ولا ينعقد ، وكذا إذا كان وقفه على وجه المعصية فإنه لا يجوز أيضاً ، كالوقف على بيوت الأوثان وعبادتها ، والكنائس ، والمعابد الشركية ، وكتب التوراة والإنجيل ، فإنه يُعدُّ وقفاً فاسداً ( ) .

تعليق ختامي

( ) انظر : الباجي : المنتقى شرح الموطأ 6/122 ، النووي : المنهاج 2/377 ، ابن قدامة : المغني 8/231 .
( ) انظر : ابن الهمام : شرح فتح القدير 6/216 ، الكاساني : بدائع الصنائع 6/220 ، ابن عابدين : رد المحتار 6/552 .
وقد خالف أبو يوسف مذهب الحنفية في جواز وقف المنقول إذا كان مما يجري فيه التعامل ، فقال بعدم جواز وقفه أيضاً والحالة هذه . انظر : ابن عابدين : رد المحتار 6/555 .
( ) رواه البخاري في صحيحه ، كتاب الزكاة – باب قول الله تعالى (وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله)، 2/534- رقم 1399 ، ومسلم في صحيحه ، كتاب الزكاة – باب في تقديم الزكاة ومنعها 2/676- رقم 983 .
( ) رواه أبوداود في سننه ، كتاب المناسك ، رقم 1990 ، وابن خزيمة في صحيحه 4/361- رقم 3077 ، والضياء في المختارة 6/415، والطبراني في المعجم الكبير 12/207، قال ابن حجر: «إسناده صحيح» الدراية في تخريج أحاديث الهداية 1/266 . وقد صحح إسناده أيضاً الشيخ الألباني ، كما في هامش صحيح ابن خزيمة .
وأصله في الصحيحين مختصراً دون قوله : « أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله » . انظر : صحيح البخاري ، أبواب العمرة – باب عمرة رمضان 2/631- رقم 1690، وكتاب الإحصار وجزاء الصيد – باب حج النساء 2/659- رقم 1764 ، صحيح مسلم ، كتاب الحج - باب فضل العمرة في رمضان 2/917– رقم 1256.
( ) رواه البخاري ، كتاب الجهاد والسير . باب من احتبس فرساً 3/1048- رقم 2698.
( ) الشوكاني : نيل الأوطار 6/25 .
( ) انظر : ابن قدامة : المغني 8/231-232 .
( ) انظر : ابن الهمام : شرح فتح القدير 6/216 ، ابن عابدين : رد المحتار 6/555 .
( ) انظر : الكاساني : بدائع الصنائع 6/220 .
( ) انظر : العيني : عمدة القاري 9/48 .
( ) انظر : الدردير: الشرح الكبير 5/459 ، الغزالي: الوسيط في المذهب 4/241 ، ابن قدامة: المغني 8/234 .
( ) انظر : المقريزي : المواعظ والاعتبار 2/250-251، 278 .
( ) انظر : النعيمي : الدارس في تاريخ المدارس 2/233 وما بعدها .
( ) انظر : المصدر السابق 2/314، 315 .
( ) انظر : شوقي دنيا : أثر الوقف في إنجاز التنمية الشاملة ص126، السيد : الدور الاجتماعي للوقف ص231.
( ) انظر : المشيقح : الأوقاف في العصر الحديث ص17 .
( ) انظر : النعيمي : الدارس في تاريخ المدارس 2/100 وما بعدها ، السيد : الدور الاجتماعي للوقف ص286، 287، 288، 290 .
( ) انظر : شوقي دنيا : أثر الوقف في إنجاز التنمية الشاملة ص126 .
( ) للتوسع في ما يتعلق بوقف المكتبات انظر : بو ركبة : دور الوقف في الحياة الثقافية بالمغرب في عهد الدولة العلويّة ، ساعاتي : الوقف وبنية المكتبة العربية .
( ) انظر : شوقي دنيا : أثر الوقف في إنجاز التنمية الشاملة ص128 ، السيد : الدور الاجتماعي للوقف ص280 .
( ) انظر : ناجي معروف : تاريخ علماء المستنصرية ص387 .
( ) انظر : ابن جبير : رحلة ابن جبير ص285 .
( ) انظر : شوقي دنيا : أثر الوقف في إنجاز التنمية الشاملة ص128، الرحماني : الوقف في العصر الحديث ص81
( ) صحيح البخاري ، كتاب الوصايا 3/1021، ومثله صنيع الإمام ابن خزيمة في صحيحه 4/119. وانظر: المباركفوري : تحفة الأحوذي 4/409 .
( ) حديث رقم 2626 .
( ) انظر : صحيح ابن خزيمة 4/119-120 ، سنن الدارقطني 4/195 ، ابن حجر : فتح الباري 5/478 .
( ) العيني : عمدة القاري 10/152 .
( ) انظر : شوقي دنيا : أثر الوقف في إنجاز التنمية الشاملة ص129 .
( ) انظر : الدردير : الشرح الكبير 5/459، الغزالي: الوسيط في المذهب 4/241، ابن قدامة : المغني 8/234.

عن الكاتب

A. Fatih Syuhud

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

الكتب الإسلامية